3

الكتاب ( 53 ) و من كتاب له عليه السّلام كتبه للأشتر النخعي لمّا ولاّه على مصر و أعمالها حين اضطرب أمر محمد بن أبي بكر ، و هو أطول عهد و أجمع كتبه للمحاسن :

بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اَللَّهِ ؟ عَلِيٌّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ ؟

مَالِكَ بْنَ اَلْحَارِثِ اَلْأَشْتَرَ ؟ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلاَّهُ ؟ مِصْرَ ؟ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اِسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلاَدِهَا أَمَرَهُ بِتَقْوَى اَللَّهِ

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 5 : 274 دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) كشف المحجة : 173 ، و تحف العقول : 88 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 16 ، و في تحف العقول : 88 « و أسأله خير القضاء لك في الدنيا و الآخرة . و السّلام » .

[ 473 ]

وَ إِيْثَارِ طَاعَتِهِ وَ اِتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَ سُنَنِهِ اَلَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا وَ لاَ يَشْقَى إِلاَّ مِنْ جُحُودِهَا وَ إِضَاعَتِهَا وَ أَنْ يَنْصُرَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ بِقَلْبِهِ وَ يَدِهِ وَ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ جَلَّ اِسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَ إِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَ أَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ مِنْ نَفْسِهِ مِنَ اَلشَّهَوَاتِ وَ يَزَعَهَا عِنْدَ اَلْجَمَحَاتِ فَإِنَّ اَلنَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ اَللَّهُ أقول : رواه ابن شعبة في ( تحفه ) مرسلا 1 و الشيخ و النجاشي في ( فهرستيهما ) مسندا . قال الشيخ في عنوان الأصبغ روى عهد مالك الأشتر ،

أخبرنا ابن أبي جيد عن محمد بن الحسن عن الحميري عن هارون بن مسلم و الحسن بن طريف جميعا عن الحسين بن علوان عن سعد بن طريف عن الأصبغ 2 .

و قال النجاشي في الأصبغ روى عهد مالك الأشتر ، أخبرنا ابن الجندي ، عن علي بن همام ، عن الحميري ، عن هارون بن مسلم ، عن الحسين بن علوان ، عن سعد بن طريف ، عن الأصبغ بالعهد 3 .

قول المصنف ( و من كتاب له عليه السّلام ) هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

( و من عهد له ) كما في الخطية و ابن أبي الحديد و ابن ميثم 4 .

( كتبه للاشتر النخعي ) المذحجي ، قال ابن ميثم روي أنّ الطّرمّاح لمّا دخل على معاوية قال له : قل لابن أبي طالب إنّي جمعت من العساكر بعدد حب جاورس الكوفة و ها أنا قاصده . فقال له الطّرمّاح : إنّ لعليّ ديكا أشتر يلتقط جميع ذلك ، فانكسر معاوية .

-----------
( 1 ) تحف العقول : 126 .

-----------
( 2 ) فهرست الطوسي : 38 .

-----------
( 3 ) النجاشي : 6 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 30 .

[ 474 ]

قلت : خبر الطّرمّاح خبر رواه الاختصاص لكنه خبر منكر 1 .

( لمّا ولاّه ) هكذا في ( المصرية ) و الكلمتان زائدتان فليستا في ( الخطية و ابن أبي الحديد 2 و ابن ميثم ) « على مصر و أعمالها » أي : توابعها ( حين اضطرب أمر محمد ابن أبي بكر ) هكذا في ( المصرى ) ه و الصواب : ( أمر أميرها محمد بن أبي بكر ) ، و زاد ( ابن ميثم ) و الخطية « رحمه اللّه » .

« و هو أطول عهد و أجمع كتبه للمحاسن » و الصواب : « و هو أطول عهد كتبه و أجمعه للمحاسن » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 3 .

قوله عليه السّلام « بسم اللّه الرحمن الرحيم » حيث إن هذا العهد كان ككتاب مستقل افتتحه بالبسملة و إلاّ فليس في باقي كتبه و وصاياه و عهوده بسملة .

« هذا ما أمر به عبد اللّه عليّ أمير المؤمنين مالك بن الحرث » بن عبد يغوث ابن مسلمة بن ربيعة بن الحارث بن جذيمة بن سعد بن مالك بن النخع من مذحج كما في ( ذيل الطبري ) 4 .

« في عهده إليه » و ايصائه إليه « حين ولاّه مصر جباية » هكذا في ( المصرية و ابن أبي الحديد 5 و لكن في ابن ميثم و الخطية ( جبوة ) و كلاهما صحيح ،

فالجباية مصدر جبيت الخراج ، و الجبوة مصدر ، جبوت الخراج .

« و جهاد عدوها » العثمانيّة .

« و استصلاح أهلها » بالرفق مع المخالفين .

« و عمارة بلادها » بإفشاء الزرع و الغرس .

-----------
( 1 ) اختصاص : 138 141 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 30 .

-----------
( 3 ) نفس المصدر .

-----------
( 4 ) ذيل المذيل : 148 .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 30 .

[ 475 ]

« أمره بتقوى اللّه » قال تعالى : و اتّقون يا اولي الألباب 1 .

هذا ، و في ( كامل الجزري ) : كان عبد الملك أوّل من نهى عن الأمر بالمعروف ، فقال بعد قتل ابن الزبير : و لا يأمرني أحد بتقوى اللّه بعد مقامي هذا إلاّ ضربت عنقه 2 .

« و ايثار » أي : اختيار .

« طاعته » على طاعة الناس لأنّهم عبيده و تحت يده .

« و اتّباع ما أمر به في كتابه من فرائضه و سننه » الفريضة و السنة تأتيان بمعان :

أحدها الفريضة ما علم وجوبه من القرآن ، و السنة ما علم وجوبه من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال الصدوق في الفقيه : و قد يجزي الغسل من الجنابة عن الوضوء لأنّهما فرضان اجتمعا فأكبرهما يجزي عن أصغرهما ، و من اغتسل لغير الجنابة فليبدأ بالوضوء ثم يغتسل و لا يجزيه الغسل عن الوضوء لأن الغسل سنّة و الوضوء فرض و لا تجزي سنّة عن فرض 3 و هما بهذا المعنى في معنى الكتاب و السنة .

و ثانيها الفرض الواجب و السنة المسنونة ، و هما بهذا المعنى في معنى الواجب و المستحب .

و ثالثها ، الفرض : الواجبات العظيمة كتابا و سنة ، و السنن : الواجبات التي ليست بتلك الدرجة كتابا و سنة ، و لعلّهما بهذا المعنى وردا في كلامه عليه السّلام .

-----------
( 1 ) البقرة : 197 .

-----------
( 2 ) الكامل في التاريخ 4 : 522 ح 86 .

-----------
( 3 ) فقيه من لا يحضره الفقيه 1 : 46 .

[ 476 ]

« التي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها » و من يطع اللّه و الرسول فأولئك مع الذين أنعم اللّه عليهم من النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا . ذلك الفضل من اللّه و كفى باللّه عليما 1 ، و من يطع اللّه و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و ذلك الفوز العظيم 2 .

« و لا يشقى إلاّ مع جحودها و إضاعتها » و من يعص اللّه و رسوله فقد ضل ضلالا مبينا 3 ، و من يعص اللّه و رسوله و يتعدّ حدوده يدخله نارا خالدا فيها و له عذاب مهين 4 ، فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة و اتّبعوا الشهوات فسوف يلقون غيّا 5 .

« و أن ينصر اللّه سبحانه بقلبه و يده » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( بيده و قلبه ) كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية 6 .

« و لسانه » حتى يكون نصره كاملا بإنكار قلبه للمنكر و مقال لسانه في النهي عن المنكر و جهاد يده لرفعه ، قال تعالى : و جاهدوا في اللّه حقّ جهاده 7 .

« فإنّه جلّ اسمه قد تكفّل بنصر من نصره و إعزاز من أعزّه » إنّ تنصروا اللّه ينصركم و يثبّت أقدامكم 8 .

« و أمره أن يكسر نفسه من الشهوات » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( من

-----------
( 1 ) النساء : 69 70 .

-----------
( 2 ) النساء : 13 .

-----------
( 3 ) الاحزاب : 36 .

-----------
( 4 ) النساء : 14 .

-----------
( 5 ) مريم : 59 .

-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 30 .

-----------
( 7 ) الحج : 78 .

-----------
( 8 ) محمّد : 7 .

[ 477 ]

نفسه عند الشهوات ) كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية 1 عنهم عليهم السّلام : اذكروا انقطاع اللذّات و بقاء التبعات 2 .

« و يزعها » أي : يكفّها .

« عند الجمحات » من جمح الفرس براكبه : ذهب يجري حربا غالبا و اعتزّ فارسه و غلبه ، يقال : « دابة ما بها رمحة و لا جمحة » قال الشاعر :

خلعت عذاري جامحا لا يردّني
عن البيض أمثال الدّمى زجر زاجر 3

قال تعالى و أمّا من خاف مقام ربّه و نهى النفس عن الهوى . فإنّ الجنّة هي المأوى 4 .

« فإنّ النّفس أمّارة بالسّوء إلاّ ما رحم اللّه » زاد في رواية ( التحف ) : « إنّ ربّي غفور رحيم » و أن يعتمد كتاب اللّه عند الشّبهات فإنّ فيه تبيان كلّ شي‏ء و هدى و رحمة لقوم يؤمنون ، و أن يتحرّى رضا اللّه و لا يتعرّض لسخطه و لا يصرّ على معصيته فإنّه لا ملجأ من اللّه إلاّ إليه 5 .

« ثمّ اعلم يا مالك أنّي قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور » في ( المروج ) : الذي اتفقت عليه التواريخ مع تباين ما فيها أنّ عدّة ملوك مصر من الفراعنة و غيرها اثنان و ثلاثون فرعونا ، و من ملوك بابل ممّن تملّك على مصر خمسة ، و من العماليق الذين ظهروا إليها من بلاد الشام أربعة ، و من الروم سبعة ، و من اليونانيين عشرة ، و ذلك قبل المسيح عليه السّلام ،

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 30 .

-----------
( 2 ) البحار 73 : 364 ، رواية 96 ، باب 137 .

-----------
( 3 ) أورده أساس : 63 جمح ، و لسان العرب 2 : 426 ، جمح .

-----------
( 4 ) النازعات : 40 41 .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 126 .

[ 478 ]

و ملكها من الفرس من قبل الأكاسرة ، و كانت مدّة من ملك مصر من الفراعنة و الروم و العماليق و اليونانيين ألف سنة و ثلاثمائة 1 .

هذا ، و في ( الأنوار ) أن الخضر عليه السّلام سئل عن أعجب شي‏ء رآه فقال : إنّي مررت على مدينة و لم أر على وجه الأرض أحسن منها فسألت بعضهم متى بنيت هذه المدينة فقالوا : سبحان اللّه ما تذكر آباؤنا و لا أجدادنا متى بنيت ، ثم غبت عنها نحوا من خمسمائة سنة و عبرت عليها بعد ذلك فإذا هي خاوية على عروشها و لم أر أحدا أسأله ، و إذا رعاة غنم فسألتهم عنها فقالوا : لا نعلم ، فغبت نحوا من خمسمائة سنة ثم انتهيت إليها فإذا موضع تلك المدينة بحر و إذا غوّاصون يخرجون منها اللؤلؤ ، فقلت لبعضهم : منذ كم هذا البحر هاهنا ؟ فقالوا : سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و لا أجدادنا إلاّ أنّ هذا البحر هاهنا ، ثم غبت عنه نحوا من خمسمائة سنة ثم انتهيت إليه فإذا ذلك البحر قد غاض و إذا مكانه أجمة ملتفة بالقصب و البردي و بالسباع ، و إذا صيّادون يصيدون السمك في زوارق صغار ، فقلت لبعضهم : أين البحر الذي كان هاهنا . فقالوا :

سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و لا أجدادنا أنّه كان بحر هاهنا قطّ ، فغبت عنه نحوا من خمسمائة سنة ثم انتهيت إليه فإذا هو مدينة على حالته الاولى و الحصون و القصور و الأسواق قائمة فقلت لبعضهم أين الأجمة التي كانت ، فقال ،

سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و لا أجدادنا إلاّ أنّ هذه على حالها ، فغبت عنها نحوا من خمسمائة سنة فإذا هي عاليها سافلها و هي تدخن بدخان شديد و لم أر أحدا إلاّ راعيا ، فسألته أين المدينة التي كانت هاهنا و متى حدث هذا الدخان ؟

فقال : سبحان اللّه ما يذكر آباؤنا و لا أجدادنا إلاّ أنّ هذا الموضع كان هكذا 2 .

-----------
( 1 ) مروج الذهب 1 : 406 .

-----------
( 2 ) الأنوار النعمانية 3 : 308 .

[ 479 ]

« و أنّ الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك » من حسن و قبيح .

« و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم » من خير و شر .

و لأبي عبيدة كتاب في « من شكر من العمال و حمد » ، و في ( ميزان الذهبي ) قال أبو حاتم : كان عنبسة بن خالد الايلي على خراج مصر و كان يعلق النساء بثديهن 1 .

و في ( السير ) انّ الفضل بن مروان وزير المعتصم جلس يوما لأشغال الناس ، فرفعت إليه قصص العامة مكتوبا فيها هذه الأبيات :

تفرعنت يا فضل بن مروان فاعتبر
فقبلك كان الفضل و الفضل و الفضل

ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم
أبادتهم الأقياد و الحبس و القتل

و انّك قد أصبحت في الناس ظالما
ستودي كما أودى الثلاثة من قبل

أراد بقوله « فقبلك كان الفضل و الفضل و الفضل بن يحيى البرمكي و الفضل بن الربيع و الفضل بن سهل ، و ذكروا أن الفضل بن مروان هذا هو الذي أخذ البيعة للمعتصم و المعتصم بالروم فاستوزره لذلك و غلب عليه ، فكان المعتصم يأمر بإعطاء المغنّي و النديم فلا ينفّذ الفضل ذلك ، فحقد المعتصم عليه لذلك و نكبه و أهل بيته و جعل مكانه ابن الزيّات ، فشمت به الناس لرداءة أفعاله فقالوا :

لتبك على الفضل بن مروان نفسه
فليس له باك من الناس يعرف

و قال المعتصم : عصى اللّه في طاعتي فسلّطني عليه 2 .

و في ( كامل الجزري ) : و في سنة ( 413 ) قتل المعز بن باديس صاحب

-----------
( 1 ) ميزان الاعتدال 3 : 298 6499 دار المعرفة بيروت .

-----------
( 2 ) وفيات الأعيان 4 : 45 دار صادر بيروت ، شذرات الذهب : 2 : 122 دار الآفاق الجديدة بيروت .

[ 480 ]

افريقية وزيره و صاحب جيشه أبا عبد اللّه محمد بن الحسن ، و يحكى عن وزيره قال : سهرت ليلة افكّر في شي‏ء أحدثه في الناس و اخرجه عليهم من التي التزمتها ، فنمت فرأيت عبد اللّه بن محمد الكاتب و كان وزير والد المعز و كان عظيم القدر و هو يقول لي : اتق اللّه في الناس كافة و في نفسك خاصة فقد أسهرت عينيك و أبرمت حافظيك ، و قد بدا لي منك ما خفي عليك ، و عن قليل ترد ما وردنا و تقدم على ما قدمنا ، فاكتب عنّي ما أقول و لا أقول إلاّ حقّا فأملى عليّ :

وليت و قد رأيت مصير قوم
هم كانوا السماء و كنت أرضا

سموا درج العلا حتى اطمأنّوا
و مدّ بهم فعاد الرفع خفضا

و أعظم اسوة لك بي لأنّي
ملكت و لم أعش طولا و عرضا

فلا تغترّ بالدنيا و أقصر
فان أوان أمرك قد تقضّى

فانتبهت مرعوبا و رسخت الأبيات في حفظي و لم يبق بعد هذا المقام غير شهرين حتى قتل 1 .

« و إنّما يستدل على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده » يقال « ألسنة الخلق أقلام الحق » ، و امّا ما يتّفق من ثناء الناس لبعض امراء الباطل و العلماء المرائين المتصنّعين فإنّما هو على لسان العوام و من في قلبه مرض ،

و أمّا العارفون المستقيمون فحاشا و كلاّ .

« فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح » قال تعالى : المال و البنون زينة الحياة الدنيا و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير أملا 2 .

-----------
( 1 ) الكامل في التاريخ 9 : 327 413 .

-----------
( 2 ) الكهف : 46 .

[ 481 ]

« فاملك هواك » قال تعالى : و أمّا من خاف مقام ربّه و نهى النفس عن الهوى . فإنّ الجنّة هي المأوى 1 .

« و شحّ نفسك عمّا لا يحلّ لك » و في رواية ( التحف ) ( و لتسخ نفسك عمّا لا يحلّ لك ) 2 .

« فإنّ الشحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( و كرهت ) كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية 3 .

روى ( الخصال ) أنّ عمر بن عبد العزيز دخل المدينة فأمر مناديا ينادي من كانت له ظلامة فليأت الباب ، فدخل عليه الباقر عليه السّلام فقال له : إنّما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج قوم بما ينفعهم و منها خرج قوم بما يضرّهم ،

و كم من قوم قد ضرّهم بمثل الذي أصبحنا فيه حتى أتاهم الموت فخرجوا من الدنيا ملومين لمّا لم يأخذوا لمّا أحبّوا من الآخرة عدّة و لا ممّا كرهوا منه جنة ،

قسم ما جمعوا من لا يحمدهم و صاروا إلى من لا يعذرهم ، و نحن و اللّه محقوقون ان ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نغبطهم بها فنوافقهم فيها و ننظر إلى تلك الأعمال التي كنّا نتخوّف عليهم منها فنكفّ عنها ، فاتّق اللّه و اجعل في قلبك اثنتين : تنظر الذي تحب أن يكون معك إذا قدمت على ربّك فقدّمه بين يديك ، و تنظر الذي تكره أن يكون معك ، إذا قدمت على ربّك فابتغ فيه البدل ، و لا تذهبنّ إلى سلعة قد بارت على من كان قبلك ترجو أن تجوز عنك ، و اتّق اللّه و افتح الأبواب و سهّل الحجاب و انصر المظلوم و ردّ الظالم . ثم قال : ثلاث من كنّ فيه استكمل الإيمان باللّه ، فجثا عمر على ركبتيه ثم قال : إيه يا أهل بيت

-----------
( 1 ) النازعات : 40 و 41 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 126 في طبعتنا « و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك » .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 31 .

[ 482 ]

النبوّة . فقال : نعم من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل و إذا غضب لم يخرجه غضبه من الحق ، و من إذا قدر لم يتناول ما ليس له . فدعا عمر بدواة و قرطاس و كتب : بسم اللّه الرحمن الرّحيم ، هذا ما رد عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي فدك . . . 1 .

« و أشعر قلبك الرحمة للرّعيّة و المحبّة لهم و اللّطف بهم » روى ( الفقيه ) خبرا عن السجّاد عليه السّلام في الحقوق إلى أن قال و أمّا حقّ رعيّتك فأنّ تعلم أنّهم صاروا رعيتك لضعفهم و قوّتك ، فيجب أن تعدل فيهم و تكون لهم كالوالد الرحيم و تغفر لهم جهلهم و لا تعاجلهم بالعقوبة و تشكر اللّه عزّ و جلّ على ما آتاك من القوّة عليهم 2 .

« و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا » معتادا للصيد .

« تغتنم أكلهم » قال ( ابن قتيبة في عيونه ) : دخل مالك بن دينار على بلال بن أبي بردة و هو أمير البصرة فقال له : أيّها الأمير إنّي قرأت في بعض الكتب من أحمق من السلطان و من أجهل ممّن عصاني و من أغرّ ممّن أغرّني أيا راعي السوء دفعت إليك غنما سمانا سحاحا فأكلت اللّحم و شربت اللّبن ،

و ائتدمت بالسّمن و لبست الصوف ، و تركتها عظاما تتقعقع 3 .

« فإنّهم صنفان إمّا أخ لك في الدّين » إذا كان مؤمنا قال تعالى : إنّما المؤمنون إخوة 4 .

« أو » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « و إمّا » كما في ابن أبي الحديد

-----------
( 1 ) الخصال : 104 ح 64 .

-----------
( 2 ) من لا يحضره الفقيه 2 : 377 .

-----------
( 3 ) عيون الاخبار 1 : 117 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 4 ) الحجرات : 10 .

[ 483 ]

و ابن ميثم و الخطية 1 .

« نظير لك في الخلق » إن لم يكن بمؤمن ، و السباع لا تؤذي نوعها فكيف يسوغ لبني آدم أن يؤذوا نوعهم .

« يفرط » أي : يصدر .

« منهم الزّلل و تعرض لهم العلل » أي : العوارض .

« و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ » أي : يحصل خبط من أيديهم إمّا عمدا و إمّا خطأ لعدم كمال عقولهم .

و قال ابن أبي الحديد : قوله عليه السّلام « يؤتي على أيديهم » مثل قولك « و يؤخذ على أيديهم » أي يهذّبون و يثقّفون ، يقال أخذ الحاكم على يده . . . 2 . و هو كما ترى ضدّ المراد ، فانّه عليه السّلام ذكر ذلك علّة لقوله : « و أشعر قلبك الرّحمة للرّعيّة و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا » و ذكره في رديف « يفرط منهم الزلل و تعرض لهم العلل » فكيف يكون المعنى ما قال ؟ « فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الّذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه ،

فإنّك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك و اللّه فوق من ولاّك ، و قد استكفاك أمرهم و ابتلاك بهم » في ( عيون ابن قتيبة ) : أسر معاوية في صفّين رجلا من أصحاب علي عليه السّلام فلمّا اقيم بين يديه قال : الحمد للّه الّذي أمكنني منك . قال : لا تقل ذلك فإنّها مصيبة . قال معاوية : و أيّة نعمة أعظم من أن يكون اللّه أظفرني برجل قتل في ساعة واحدة جماعة من أصحابي . إضربا عنقه . فقال الرجل : اللّهم اشهد أنّ معاوية لم يقتلني فيك ، و لا لأنّك ترضى قتلي ، و لكن قتلني في الغلبة على حطام هذه الدنيا ، فإن فعل فافعل به ما هو أهله ، و إن لم يفعل فافعل به ما أنت أهله .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 32 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 33 .

[ 484 ]

فقال : قاتلك اللّه لقد سببت فأوجعت في السبّ ، و دعوت فأبلغت في الدعاء . خلّيا سبيله 1 .

« و لا » هكذا في ( المصرية و ابن أبي الحديد ) ، و في ( ابن ميثم ) و الخطية ( لا ) 2 « تنصبنّ نفسك لحرب اللّه » بظلم عباده . في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : لمّا اسري بي و أوحى تعالى إليّ من وراء الحجاب ما أوحى و شافهني إلى أن قال لي يا محمّد من أذلّ لي وليّا فقد أرصدني بالمحاربة ،

و من حاربني حاربته . قلت : يا ربّ و من وليّك هذا ؟ قال : من أخذت ميثاقه لك و لوصيك و ذرّيّتكما بالولاية 3 .

« فإنّه لا يدى لك » أي : لا طاقة لك ، يحذفون النون من اليدين في مثله تخفيفا ، و من أمثالهم « لا يدي لواحد بعشرة » .

« بنقمته » و لا يدي للسماء و الأرض بنقمته فكيف لإنسان ضعيف .

« و لا غنى بك عن عفوه و رحمته » فلا بدّ أن يعفو عن عباد اللّه الذين تحت يده و يرحمهم حتى يعفو اللّه تعالى عنه و يرحمه .

« و لا تندمنّ على عفو » فالعفو أقرب للتقوى .

« و لا تبجّحنّ » بتقديم الجيم أي : تباهينّ و لا تفاخرنّ .

« بعقوبة » فإنّه كالافتخار بنقص ، و الافتخار إنّما يكون بالكمال .

« و لا تسرعنّ إلى بادرة » أي : حدة ، و المراد ما توجبه الحدّة من العقوبة « وجدت منها » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( عنها ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 4 ، و لأن المندوحة انما تستعمل مع عن .

-----------
( 1 ) عيون الاخبار 1 : 174 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 32 .

-----------
( 3 ) الكافي 2 : 263 10 المكتبة الإسلامية طهران .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 32 .

[ 485 ]

« مندوحة » يقال : لي عن هذا الأمر مندوحة أي : سعة ، و إنّما نهى عليه السّلام عن الإسراع إلى بادرة لأنّه يؤدي غالبا إلى كشف الخلاف فيتبعه الندم و الانفعال .

« و لا تقولنّ إنّي مؤمّر آمر فاطاع فإنّ ذلك » الخيال .

« ادغال » أي : فساد في القلب و منهكة » من « نهكته الحمى » إذا أضنته و نقصت لحمه .

« للدين و تقرّب من الغير » أي : التغيّرات و الحوادث .

في ( العقد ) قال الاصمعي : لمّا ولي بلال بن أبي برده البصرة بلغ ذلك خالد بن صفوان فقال :

سحابة صيف عن قليل تقشّع

فبلغ ذلك بلالا فقال : أنت القائل « سحابة صيف عن قليل تقشع » ؟ أما و اللّه لا تقشع حتى يصيبك منها شؤبوب برد ، فضربه مائة سوط و كان خالد يقول : ما في قلب بلال من الإيمان إلاّ ما في بيت أبي الزرد الحنفي من الجوهر و أبو الزرد رجل مفلّس 1 .

« و إذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك ابّهة » أي : عظمة .

« أو مخيلة » أي : كبرا ، يقال فلان ذو خال و ذو مخيلة ، قال العجاج :

« و الخال ثوب من ثياب الجهّال »

2 .

« فانظر إلى عظم ملك اللّه فوقك » .

في ( الكافي ) : دخل جعفر بن أبي طالب في الحبشة على النجاشي و هو في بيت له جالس على التراب و عليه خلقان الثياب ، فقال له جعفر : أيّها الملك إنّي أراك جالسا على التراب و عليك هذه الخلقان ، فقال : يا جعفر إنّا نجد فيما

-----------
( 1 ) العقد الفريد 4 : 122 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) لسان العرب 11 : 228 خيل ، و عجز البيت : و الدهر فيه غفلة للغفّال .

[ 486 ]

انزل اللّه تعالى على عيسى عليه السّلام أنّ من حق اللّه على عباده أن يحدثوا له تواضعا عند ما يحدث لهم نعمة ، فلمّا أحدث اللّه لي نعمة . . . 1 .

و في ( المروج ) : أخرج المنصور محمد بن مروان من حبسه و سأله عن قصته مع ملك نوبة لمّا كان هرب مع عدّة من بني امية إليه فقال : أتاني ملكها فقعد على الأرض و قد أعددت له فراشا ، فقلت له : ما منعك من القعود على فراشنا ؟ فقال : لأنّي ملك و حقّ لكل ملك أن يتواضع لعظمة اللّه تعالى إذا رفعه اللّه . . . 2 .

( و فيه ) : انّه سأله لم تشربون الخمر و تلبسون الحرير و تفسدون في الأرض و كلّ ذلك حرام عليكم في دينكم 3 ؟

« و قدرته منك على ما لا تقدر عليه من نفسك » في سنن أبي داود عن أبي مسعود الأنصاري : كنت أضرب غلاما لي ، فسمعت من خلفي صوتا مرّتين « اللّه أقدر عليك منك عليه » ، فالتفتّ فإذا هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقلت : هو حرّ لوجه اللّه .

فقال : أما لو لم تفعل للفقتك النار .

و في ( كتابة أبي هلال ) قال بعض الولاة لأعرابي : قل الحق و إلاّ أوجعتك ضربا .

فقال الأعرابي : و أنت أيضا فاعمل بالحق فو اللّه لمّا أوعدك اللّه به منه أعظم ممّا أوعدتني به منك .

و في ( عيون القتيبي ) : كان أردشير الملك دفع إلى رجل كان يقوم على رأسه كتابا و قال له : إذا رأيتني قد اشتدّ غضبي فأدفعه إليّ ، و في الكتاب « أمسك فلست بإله إنّما أنت جسد يوشك أن يأكل بعضه بعضا و يصير عن

-----------
( 1 ) الكافي 2 : 121 1 بتلخيص .

-----------
( 2 ) مروج الذهب 3 : 284 .

-----------
( 3 ) مروج الذهب 3 : 284 .

[ 487 ]

قريب للدود و التراب » .

( و فيه ) : و كان للسندي و الي الجسر غلام صغير قد أمره بأن يقوم إليه إذا ضرب الناس بالسياط فيقول له : ويلك يا سندي اذكر القصاص 1 .

و في ( تاريخ بغداد ) : كان شريك القاضي لا يجلس للقضاء حتى يخرج رقعة من قمطره فينظر فيها ثم يدعو بالخصوم ، و إنّما كان يقدّمهم الأوّل فالأوّل ، فقيل لابن شريك : نحبّ أن نعلم ما في هذه الرقعة ، فأخرجها إليها فإذا فيها « يا شريك ابن عبد اللّه أذكر الصّراط و حدّته ، يا شريك بن عبد اللّه اذكر الموقف بين يدي اللّه تعالى » 2 .

« فإن ذلك يطامن إليك » أي : يسكن إليك .

« من طماحك » أي : ارتفاعك و ابعادك ، من « طمح بصره إلى الشي‏ء » .

« و يكفّ عنك من غربك » أي : حدّتك . في ( الكافي ) عن أبي جعفر عليه السّلام :

مكتوب في التوراة فيما ناجى اللّه تعالى به موسى : يا موسى أمسك غضبك عمّن ملّكتك عليه أكفّ عنك غضبي 3 .

و في ( تاريخ بغداد ) عن مبارك بن فضالة قال : دخل ابن سوار في وفد من أهل البصرة على المنصور ذات يوم و أنا عنده إذ اتي برجل فأمر بقتله ،

فقلت في نفسي : يقتل رجل من المسلمين و أنا حاضر . فقلت : ألا احدّثك بحديث . قال : و ما هو ؟ قلت : قال الحسن البصري قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : إذا كان يوم القيامة جمع اللّه تعالى الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الدّاعي و ينفذهم البصر ، فيقوم مناد من عند اللّه فيقول : ليقومنّ من له على اللّه يد ، فلا يقومن إلاّ

-----------
( 1 ) عيون الاخبار 1 : 385 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 9 : 293 دار الكتاب العربي بيروت .

-----------
( 3 ) الكافي 2 : 303 7 .

[ 488 ]

من عفا ، فأقبل المنصور عليّ فقال : اللّه سمعته من الحسن ؟ قلت : اللّه سمعته من الحسن . قال : خلّيا عنه 1 .

« و يفى‏ء » من فاء أي : يرجع ، و قال ابن أبي الحديد : من أفاء 2 ، و لا وجه له بعد تعديته بالباء .

« بما عزب » أي : خفي و بعد .

« عنك من عقلك » و إلاّ فكيف يحصل له مخيلة ، و هو إنسان ضعيف مكتوم الأجل مكنون العلل محفوظ العمل ، تقتله الشرقة و تنتنه العرقة و تؤلمه البقة ،

و لو كان سلطان كلّ وجه الأرض .

« إيّاك و مساماة اللّه » أي : مقابلته في العلو .

« في عظمته و التشبّه به في جبروته » قاهريته التي لا تنال .

« فإنّ اللّه يذلّ كلّ جبار ) أي : متطاول .

« و يهين كلّ مختال » أي : متكبّر يخال أنّه عظيم .

و في الخبر : الكبر رداء اللّه فمن نازع اللّه رداءه لم يزده اللّه تعالى إلاّ سفالا ، إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مرّ في بعض طريق المدينة و سوداء تلقط السرقين ، فقيل لها تنحّي عن طريق النبيّ ، فقالت : إنّ الطريق لمعرض ، فهمّ بعض القوم أن يتناولها فقال صلّى اللّه عليه و آله دعوها فإنّها جبّارة .

و في خبر آخر : العزّ رداء اللّه و الكبر إزاره ، فمن تناول شيئا منهما أكبّه اللّه في جهنم .

و في آخر : إنّ المتكبّرين يجعلهم اللّه في صور الذر يتوطّأهم النّاس حتى يفرغ اللّه من الحساب .

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 13 : 212 دار الكتاب العربي بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 34 .

[ 489 ]

و في آخر : ما من عبد إلاّ و في رأسه حكمة و ملك يمسكها فإذا تكبّر قيل له اتّضع وضعك اللّه ، فلا يزال أعظم الناس في نفسه و هو أصغر الناس في أعين الناس ، فإذا تواضع رفعه اللّه ، ثم قال : إنتعش نعشك اللّه فلا يزال أصغر الناس في نفسه و أرفع الناس في أعينهم .

و في آخر : الكبر أدنى الإلحاد 1 .

« أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك ) في ( الأغاني ) : جلس ابن الزيّات يوما للمظالم ، فلمّا انقضى المجلس رأى جالسا فقال له : أ لك حاجة ؟ قال : نعم .

تدنيني إليك ، فأدناه فقال : إنّي مظلوم و قد أعوزني الإنصاف . قال : و من ظلمك ؟

قال : أنت ، و لست أصل إليك فأذكر حاجتي . قال : و من يحجبك عنّي و قد ترى مجلسي مبذولا . قال : يحجبني عنك هيبتي لك و طول لسانك و اطّراد حجبك .

قال : فيم ظلمتك ؟ قال : ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك غصبا بغير ثمن ، فإذا وجب عليها خراج أدّيته باسمي لئلا يثبت لك اسم في ملكها فيبطل ملكي ،

فوكيلك يأخذ غلّتها و أنا أؤدّي خراجها و هذا ممّا لم يسمع في الظلم مثله . فقال له : هذا قول تحتاج عليه إلى بيّنة و شهود و أشياء . فقال الرجل : أ يؤمنني الوزير من غضبه حتى أجيب . قال : نعم . قال : البينة هم الشهود و إذا شهدوا فليس يحتاج معهم إلى شي‏ء فما معنى قولك بيّنة و شهود و أشياء ، أيش هذه الأشياء إلاّ الغيّ و التغطرس . فضحك ابن الزيّات و قال : صدقت ثم وقّع له بردّ ضيعته 2 .

« من خاصة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك فإنّك إلاّ تفعل تظلم ، و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده » في ( المروج ) : قال أنوشروان لبزرجمهر : من

-----------
( 1 ) الكافي 2 : 309 312 ح 1 و 2 و 3 و 11 و 16 .

-----------
( 2 ) الأغاني 23 : 47 دار احياء التراث العربي .

[ 490 ]

يصلح من ولدي للملك فأظهر ترشحه . فقال : لا أعرف ذلك ، و لكنّي أصف لك من يصلح للملك ، أسماهم للمعالي و أطلبهم للأدب ، و أجزعهم من العامة و أرأفهم بالرعية ، و أوصلهم للرحم و أبعدهم من الظلم ، فمن كانت هذه صفته فهو حقيق بالملك 1 .

و في ( تاريخ بغداد ) : وجّهت الخيزران رجلا نصرانيا على الطراز ، فخرج يوما عليه جبّة خزّ و طيلسان على برذون فاره و معه جماعة من أصحابه و بين يديه مكتوف و هو يقول : وا غوثاه باللّه ثم بالقاضي . و إذا آثار سياط في ظهره ، فسلّم على شريك و جلس إلى جانبه و قال : أنا رجل أعمل هذا الوشي و كراء مثلي مائة في الشهر أخذني هذا مذ أربعة أشهر فاحتبسني في طراز يجري علي القوت و لي عيال قد ضاعوا فأفلتّ منه اليوم فلحقني ففعل بظهري ما ترى . فقال شريك للنصراني : قم يا نصراني فاجلس مع خصمك . فقال :

أصلحك اللّه هذا من خدم السيدة ، مر به إلى الحبس . قال : قم ويلك فاجلس معه كما يقال لك ، فجلس معه فقال : ما هذه الآثار التي بظهر هذا الرجل . قال : إنّما ضربته بيدي أسواطا و هو يستحق أكثر من هذا ، مر به إلى الحبس فألقى شريك كساءه و دخل داره فأخرج سوطا ربذيّا ثم ضرب بيده إلى مجامع ثوب النصراني و قال للرجل : رح إلى أهلك ، ثم رفع السوط فجعل يضرب به النصراني ، فهمّ أعوانه أن يخلّصوه فقال هاهنا : خذوا هؤلاء إلى الحبس ،

فهربوا و أفردوه ، فضربه أسواطا فجعل النصرانيّ يبكي و يقول : ستعلم ، و قام إلى البرذون يركبه فاستعصى عليه و لم يكن له من يأخذ بركابه ، فقال له شريك : إرفق به ويلك فإنّه أطوع للّه منك ، فمضى إلى موسى بن عيسى فقال :

-----------
( 1 ) مروج الذهب 1 : 296 .

[ 491 ]

من فعل بك هذا ؟ فقال : شريك . قال : لا و اللّه لا أتعرض لشريك 1 .

( و فيه ) أيضا : أتت شريك يوما امرأة من ولد جرير البجلي فقالت : أنا باللّه ثم بالقاضي : امرأة من ولد جرير صاحب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و رددت الكلام فقال : ايها عنك الآن ، من ظلمك ؟ قالت : الأمير موسى بن عيسى ، كان لي بستان على شاطى‏ء الفرات لي فيه نخل ورثته عن آبائي و قاسمت إخوتي و بنيت بيني و بينهم حائطا و جعلت فيه فارسيا يحفظ النخل و يقوم ببستاني ، فاشترى الأمير موسى ابن عيسى من جميع إخوتي و ساومني و أرغبني فلم أبعه ، فلمّا كان في هذه الليلة بعث بخمسمائة فاعل فاقتلعوا الحائط فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئا و اختلط بنخل إخوتي . فقال : يا غلام طيّنه . فختم ، ثم قال لها :

امضي إلى بابه حتى يحضر معك ، فذهبت إلى بابه فدخل الحاجب على موسى و قال : اعدى شريك عليك ، فدعا بصاحب الشرط و قال : امض إلى شريك و قل له : ما رأيت أعجب من أمرك امرأة ادّعت دعوى لم تصب أعديتها علي فقال صاحب الشرط : ان رأى الأمير أن يعفيني . قال : ويلك امض ، فخرج ، و أمر غلمانه أن يتقدّموا إلى الحبس بفراش و غيره من آلة الحبس ، ثم ذهب إلى شريك فأدّى الرسالة فأمر أن يحبس ، فقال : قد عرفت أنّك تفعل بي هذا فقدّمت ما يصلحني إلى الحبس . و بلغ الخبر موسى بن عيسى فوجّه الحاجب إلى شريك و قال له : قل له هذا من ذاك رسول ، أيّ شي‏ء عليه ؟ فلمّا أدّى الرسالة قال : الحقوه بصاحبه ، فحبس أيضا . فبعث موسى إلى جماعة من أصدقاء شريك فقال : امضوا إليه و أبلغوه السّلام و أعلموه أنّه استخف بي و أنّي لست كالعامّة ، فلمّا أدّوا الرسالة قال : ما لي لا أراكم جئتم في غيره من الناس كلمتموني من هاهنا ؟ فيأخذ كلّ واحد بيد رجل فيذهب به إلى الحبس لا ينم

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 9 : 289 291 دار الكتاب العربي بيروت .

[ 492 ]

و اللّه إلاّ فيه و كان بعد العصر قالوا أجادّ أنت ؟ قال : حقا حتى لا تعودوا برسالة ظالم ، فحبسهم .

و ركب موسى بن عيسى في اللّيل إلى باب الحبس ففتح الباب و أخرجهم جميعا ، فلمّا كان الغدو و جلس شريك للقضاء جاء السجّان فأخبره ،

فدعا باقمطر فختمها و وجّه بها إلى منزله و قال لغلامه : إلحقني بثقلي إلى بغداد ، و اللّه ما طلبنا هذا الأمر منهم و لكن أكرهونا عليه و لقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه ، و مضى نحو قنطرة الكوفة إلى بغداد و بلغ الخبر موسى بن عيسى فركب في موكبه فلحقه و جعل يناشده اللّه و يقول : تثبّت انظر اخوانك تحبسهم ؟ دع اعواني . قال : نعم لأنّهم مشوا لك في أمر لم يجب عليهم المشي فيه و لست ببارح أو يردوا جميعا إلى الحبس و إلاّ مضيت إلى الخليفة فاستعفيت منه ، فأمر موسى بردّهم جميعا إلى الحبس و شريك واقف مكانه حتى جاءه السجّان و قال : قد رجعوا إلى الحبس . فقال شريك لأعوانه : خذوا بلجامه و قودوه بين يدي جميعا إلى مجلس الحكم ، فمرّوا به بين يديه حتى ادخل المسجد و جلس مجلس القضاء قال : أين الجويريرة المتظلّمة من هذا ،

فجاءت فقال : هذا خصمك قد حضر و هو جالس معها بين يديه . فقال موسى :

أولئك يخرجون من الحبس قبل كلّ شي‏ء . فقال شريك : أمّا الآن فنعم أخرجوهم ، ثم قال : ما تقول فيما تدّعيه هذه ؟ قال : صدقت . قال : فردّ جميع ما أخذت منها و ابن حائطها سريعا . قال : أفعل . قال : بقي لك شي‏ء ؟ قال : تقول المرأة بيت الفارسي و متاعه . قال : و يردّ ذلك . بقي لك شي‏ء تدعينه ؟ قال : تقول المرأة : لا . قال لها شريك : فقومي ، ثم وثب شريك من مجلسه فأخذ بيد موسى بن عيسى فأجلسه مجلسه ثم قال : السّلام عليك أيّها الأمير تأمر بشي‏ء ؟ قال :

[ 493 ]

أيّ شي‏ء آمر ؟ و ضحك 1 .

( و فيه ) : تقدّم إلى شريك وكيل لمؤنسة مع خصم له ، فجعل يستطيل خصمه إدلالا بموضعه من مؤنسة ، فقال له شريك : كفّ لا أبا لك . قال : أ تقول هذا و أنا وكيل مؤنسة ، فأمر شريك به فصفع عشر صفعات 2 .

« و من خاصمه اللّه أدحض حجّته » أي : أبطلها « و كان للّه حربا حتى ينزع و يتوب » .

في ( الكافي ) : صعد أمير المؤمنين عليه السّلام المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال : أيها الناس إنّ الذنوب ثلاثة ثم أمسك فقال له حبة العرني : قلت : الذنوب ثلاثة ثم أمسكت . فقال عليه السّلام : ما ذكرتها إلاّ و أنا أريد أن افسرها ، و لكن عرض لي بهر حال بيني و بين الكلام ، نعم . الذنوب ثلاثة : فذنب مغفور ، و ذنب غير مغفور ، و ذنب يرجى لصاحبه و يخاف عليه . قال حبة : فبيّنها لنا . قال : نعم . أمّا الذنب المغفور فعبد عاقبة اللّه تعالى على ذنبه في الدنيا و اللّه تعالى أحلم و أكرم من أن يعاقب عبده مرّتين ، و أمّا الذنب الذي لا يغفر فظلم العباد بعضهم لبعض ، إنّ اللّه تعالى إذا برز للخليقة أقسم قسما على نفسه فقال : و عزتي و جلالي لا يجوزني ظلم ظالم و لو كفّا بكف و لو مسحة بكف و لو نطحة ما بين القرناء إلى الجمّاء ، فيقتصّ للعباد بعضهم من بعض حتى لا يبقى لأحد على أحد مظلمة ثم يبعثهم اللّه للحساب ، و أمّا الذنب الثالث فذنب ستره اللّه تعالى على خلقه و رزقه التوبة منه فأصبح خائفا من ذنبه راجيا لربّه فنحن له كما هو لنفسه نرجو له الرحمة و نخاف عليه العقاب 3 .

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 9 : 289 دار الكتاب العربي بيروت .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 9 : 292 دار الكتاب العربي بيروت .

-----------
( 3 ) الكافي للكليني 2 : 443 الباب 195 ، ح 1 .

[ 494 ]

« و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم ، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( المظلومين ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) 1 .

في ( كامل الجزري ) بعد ذكر قتل المقتدر لابن الفرات لم يكن في ابن الفرات عيب إلاّ أنّ أصحابه كانوا يفعلون ما يريدون و يظلمون فلا يمنعهم ،

فمن ذلك أنّ بعضهم ظلم امرأة في ملك لها ، فكتبت إليه تشكو منه غير مرّة و هو لا يردّ لها جوابا ، فلقيته يوما و قالت له : أسألك باللّه أن تسمع منّي كلمة ،

فوقف لها فقالت : قد كتبت إليك في ظلامتي غير مرّة و لم تجبني فتركتك و كتبتها إلى اللّه تعالى . فلمّا كان بعد أيام و رأى تغيّر حاله قال لمن معه من أصحابه : ما أظن إلاّ جواب رقعة تلك المرأة المظلومة قد خرج ، فكان كما قال 2 .

و في ( الطبري ) : لمّا رأى وجوه الفرس و أشرافهم أن يزدجرد الأثيم أبى إلاّ تتابعا في الجور ، اجتمعوا فشكوا ما نزل بهم من ظلمه و تضرّعوا إلى ربّهم و ابتهلوا إليه بتعجيل إنقاذهم منه ، فزعموا أنّه كان بجرجان فرأى ذات يوم في قصره فرسا عائرا لم ير مثله في الخيل في حسن صورة و تمام خلق أقبل حتى وقف على بابه ، فتعجّب الناس منه لأنّه كان متجاوز الحال ، فاخبر يزدجرد خبره فأمر به أن يسرج و يلجم و يدخل عليه ، فحاول صاحب مراكبه ذلك فلم يمكن أحدا منهم من ذلك ، فانهي إليه امتناع الفرس عليهم ، فخرج بنفسه فألجمه بيده و ألقى لبدا على ظهره و وضع فوقه سرجا و شدّ حزامه و لبد ، فلم يتحرّك الفرس بشي‏ء من ذلك حتى إذا رفع ذنبه لينفره ، إستدبره

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 34 .

-----------
( 2 ) الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري 8 : 155 س 312 .

[ 495 ]

الفرس فرمحه على فؤاده رمحة هلك منها مكانه ، ثم لم يعاين ذلك الفرس .

و يقال : إنّ الفرس ملأ فروجه جريا فلم يدرك و لم يوقف على السبب فيه ،

و خاضت الرعية بينها و قالت : هذا من صنع اللّه لنا و رأفته بنا 1 .

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : أوحى اللّه تعالى إلى نبيّ من الأنبياء في مملكة جبّار من الجبابرة أن ائت هذا الجبّار و قل له : إنّي لم أستعملك على سفك الدماء و اتّخاذ الأموال ، و إنّما استعملتك لتكفّ عنّي أصوات المظلومين ، و إنّي لم ادع ظلامتهم و ان كانوا كفارا 2 .

و في ( تاريخ بغداد ) عن بعض ولد يحيى البرمكي قال لأبيه و هم في القيود و الحبس : يا أبة بعد الأمر و النهي و الأموال العظيمة أصارنا الدهر إلى القيود و لبس الصوف و الحبس . فقال له أبوه : يا بنيّ دعوة مظلوم سرت بليل غفلنا عنها و لم يغفل اللّه عنها ، ثم أنشأ يقول :

ربّ قوم قد غدوا في نعمة
زمنا و الدهر ريّان غدق

سكت الدهر زمانا عنهم
ثم أبكاهم دما حين نطق 3

و في ( الكافي ) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : ان أعجل الشر عقوبة البغي 4 .

و عن الصادق عليه السّلام : يقول إبليس لجنوده : ألقوا بينهم الحسد و البغي فإنّهما يعدلان عند اللّه تعالى الشرك 5 .

« و ليكن أحبّ الامور إليك أوسطها » ) أي : أعدلها .

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 64 دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) الكافي 2 : 333 الباب 136 ، ح 14 .

-----------
( 3 ) تاريخ بغداد 14 : 132 دار الكتاب العربي بيروت .

-----------
( 4 ) الكافي 2 : 246 1 المكتبة الإسلامية طهران .

-----------
( 5 ) الكافي 2 : 327 1 و 2 .

[ 496 ]

« في الحقّ و أعمّها في العدل » اعدلوا هو أقرب للتقوى 1 .

« و أجمعها لرضى الرعيّة » فحيث لا يمكن جلب رضا الجميع ينتخب الاوفق برضا أكثرهم .

« فإنّ سخط العامّة » و عدم رضاهم بأمر .

« يجحف » من أجحف به : ذهب « برضى الخاصة » لأقلّيّتهم .

« و إنّ سخط الخاصّة يغتفر » و لا يضرّ .

« مع رضى العامّة » لأنّهم الأكثرون ، و الأقلّ يترك للأكثر .

« و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء ، و أكره للإنصاف و أسأل بالإلحاف ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء و أبطأ عذرا عند المنع ، و أضعف صبرا عن ملمات الدهر » أي : نوازله .

« من أهل الخاصة » و كلّ ذلك يوجب عدم الاكتراث بهم .

أمّا ثقل مؤونتهم في الرّخاء فمثله مثل مؤونة أبي دلامة عند السفّاح ،

ففي ( الأغاني ) أن السفاح قال له يوما : سلني حاجتك . قال : كلب أ تصيّد به . قال :

أعطوه إيّاه . قال : و دابّة أ تصيّد عليها . قال : أعطوه . قال : و غلام يصيد بالكلب و يقوده . قال : أعطوه غلاما . قال : و جارية تصلح لنا الصّيد و تطعمنا منه . قال :

أعطوه جارية . قال : هؤلاء عبيدك و إماؤك فلا بدّ لهم من دار يسكنونها . قال :

أعطوه دارا تجمعهم . قال : فإن لم تكن ضيعة فمن أين يعيشون ؟ قال : قد أعطيتك مائة جريب عامرة و مائة جريب غامرة . قال : و ما الغامرة ؟ قال : ما لا نبات فيه . فقال للسفاح : قد أقطعتك أنا خمسمائة ألف جريب غامرة من فيافي بني أسد . فضحك و قال : إجعلوها كلّها عامرة 2 .

-----------
( 1 ) المائدة : 8 .

-----------
( 2 ) الأغاني 10 : 236 دار احياء التراث العربي .

[ 497 ]

و أما قلّة معونتهم في البلاء فمثلهم ما فيه أيضا عن أبي دلامة قال : اتي بي المنصور أو المهدي و أنا سكران ، فحلف ليخرجني في بعث حرب ،

فأخرجني مع روح بن حاتم المهلّبي لقتال الشراة ، فلمّا التقى الجمعان قلت لروح : أما و اللّه لو أن تحتي فرسك و معي سلاحك لأثّرت في عدوّك اليوم أثرا ترتضيه ، فضحك و قال : و اللّه العظيم لأدفعنّ ذلك إليك و لآخذنك بالوفاء بشرطك . و نزل عن فرسه و نزع سلاحه و دفعهما إليّ و دعا بغيرهما فاستبدل بهما ، فلمّا حصل ذلك في يدي و زال عنّي حلاوة الطمع قلت : أيّها الأمير هذا مقام العائذ بك ، و قلت :

إنّي استجرتك أن اقدّم في الوغى
لتطاعن و تنازل و ضراب

فهب السيوف رأيتها مشهورة
فتركتها و مضيت في الهرّاب

ما ذا تقول لمّا يجي‏ء و ما يرى
من واردات الموت في النشّاب

فقال : دع عنك هذا . و برز رجل من الخوارج فقال : اخرج إليه . فقلت :

أنشدك اللّه أيها الأمير في دمي . قال : و اللّه لتخرجنّ . فقلت : أيّها الأمير فإنّه أوّل يوم من الآخرة و آخر يوم من الدنيا و أنا و اللّه جائع ما شبعت منّي جارحة من الجوع . فأمر لي بشي‏ء آكله ثم أخرج ، فأمر لي برغيفين و دجاجة ، فأخذت ذلك و برزت عن الصف ، فلمّا رآني الشاري أقبل نحوي و أسرع ، فقلت له : على رسلك يا هذا كما أنت . فوقف فقلت : أ تقتل من لا يقاتلك ؟ قال : لا . قلت : أ تقتل رجلا على دينك ؟ قال : لا . قلت : أ فتستحل ذلك قبل أن تدعو من تقتله إلى دينك ؟

قال : لا فاذهب عني إلى لعنة اللّه . قلت : لا أفعل أو تسمع منّي . قال : قل . قلت : هل كانت بيننا عداوة قطّ أو ترة ، أو تعرفني بحال تحفظك عليّ أو تعلم بين أهلي و أهلك وترا . قال : لا و اللّه . قلت : و لا أنا و اللّه لك إلاّ جميل الرأي ، و إنّي لأهواك و أنتحل مذهبك و ادين دينك و اريد السوء لمن أراده لك . قال : يا هذا جزاك اللّه

[ 498 ]

خيرا فانصرف . قلت : إنّ معي زادا احبّ أن آكله معك و أحب مؤاكلتك لتتأكد المودة بيننا و يرى أهل العسكر هوانهم علينا . قال : فافعل . فتقدّمت إليه حتى اختلف أعناق دوابنا و جمعنا أرجلنا على معارفها و الناس قد غلبوا ضحكا ،

فلمّا استوفينا و دّعني ثم انصرف و انصرفت ، فقلت لروح : أما و قد كفيتك قرني فقل لغيري أن يكفيك قرنه كما كفيتك . . . 1 .

( و فيه ) انّ عبد اللّه بن علي عمّ المنصور لمّا أظهر الخلاف عليه بناحية الشام أمر المنصور أبا دلامة أن يخرج إليه في الجند ، فقال له : إنّي اعيذك باللّه أن أخرج معهم ، فو اللّه اني المشؤوم . فقال : إمض فإنّ يمني يغلب شؤمك .

فقلت : و اللّه ما أحبّ لك أن تجرب ذلك منّي على مثل هذا العسكر ، فإنّي لا أدري أيّهما يغلب أيمنك أم شؤمي إلاّ أنّي بنفسي أوثق و أعرف و أطول تجربة . قال :

دعني من هذا فمالك في الخروج بدّ . فقلت : الآن اصدقك ، أنا شهدت و اللّه تسعة عشر عسكرا كلّها هزمت و كنت سببها فإن شئت الآن أن يكون عسكرك العشرين فافعل فاستغرق ضحكا و أعفاه 2 .

و أما مثل أكرهيّتهم للإنصاف ( ففيه أيضا ) قال المدائني : شهد أبو دلامة بشهادة لجارة له عند ابن أبي ليلى على أتان نازعها فيها رجل ، فلمّا فرغ من الشهادة قال : إسمع ما قلت قبل أن آتيك ثم اقض ما شئت . قال : هات فأنشده :

إن الناس غطّوني تغطّيت عنهم
و ان بحثوا عني ففيهم مباحث

و ان حفروا بئري حفرت بئارهم
ليعلم يوما كيف تلك النبائث

فقال ابن أبي ليلى للمرأة : اتبيعيني الاتان . قالت : نعم . قال : بكم . قالت بمائة درهم . قال : إدفعوها إليها ، ففعلوا و أقبل على الرجل فقال : قد وهبت الأتان

-----------
( 1 ) الأغاني 10 : 243 دار احياء التراث العربي .

-----------
( 2 ) الأغاني 10 : 241 دار احياء التراث العربي .

[ 499 ]

لك ، و قال لأبي دلامة : قد أمضيت شهادتك و لم أبحث عنك ، و ابتعت ممّن شهدت له و وهبت ملكي لمن رأيت ، أرضيت ؟ قال : نعم . و انصرف 1 .

و لمّا طولب البحتري بمال التقسيط قال :

و ما أنا و التقسيط إذ تكتبونني
و تكتب قبلي جلة القوم أو بعدي

سبيلي أن أعطى الذي تطلبونه
و شرطي أن يجدى عليّ و لا أجدي

صحبت اناسا أطلب المال عندهم
فكيف يكون المال مطّلبا عندي

و أما أسأليّتهم بالإلحاف فمثله ما ( فيه أيضا ) ان مروان بن أبي حفصة أنشد الهادي :

تشابه يوما بأسه و نواله
فما أحد يدري لأيّهم الفضل

فقال له : أيّهما أحبّ إليك : أ ثلاثون ألفا معجّلة أم مائة ألف تدوّن في الدواوين فقال له : أنت تحسن ما هو خير من هذا و لكنك نسيته ، أ فتأذن لي أن اذكّرك . قال : نعم . قال : تعجّل لي الثلاثين ألفا و تدوّن لي المائة ألف في الدواوين . فضحك و قال : بل يعجّلان جميعا . فحمل المال إليه أجمع .

و أما أقلّيّة شكرهم عن الإعطاء فمثله مثل قلّة شكر الحطيئة عطاء عتيبة بن النّهاس العجلي ، ففي ( شعراء ابن قتيبة ) : دخل الحطيئة على عتيبة فسأله فقال : ما أنا في عمل فأعطيك من مدده ، و ما في مالي فضل عن قومي فأعطيك من فضله ، فخرج من عنده فقال له رجل من قومه : أ تعرفه ؟ قال : لا . قال هذا الحطيئة ، فأمر بردّه . فلمّا رجع قال : إنّك لم تسلم تسليم السّلام ، و لا استأنست استيناس الجار ، و لا رحّبت ترحيب ابن العم . قال : هو ذلك . قال : إجلس فلك عندنا ما تحبّ ، و قال لغلامه : اذهب به إلى السوق فلا يشيرنّ إلى شي‏ء إلاّ اشتريته له ، فانطلق به الغلام فجعل يعرض عليه الحبرة و اليمنة و بياض

-----------
( 1 ) الأغاني 10 : 238 دار احياء التراث العربي .

[ 500 ]

مصر و هو يشير إلى الكرابيس و الأكسية الغلاظ ، فاشترى له بمائتي درهم و أوقر راحلته برّا و تمرا ، فقال له الغلام : هل من حاجة غير هذا . قال : لا حسبي .

قال : إنّه قد أمرني ألاّ أجعل لك علّة فيما تريد . قال : حسبك . لا حاجة لي أن يكون لهذا يد على قومي أعظم من هذه ، ثم ذهب فقال :

سئلت فلم تبخل و لم تعط طائلا
فسيّان لا ذمّ عليك و لا حمد

و أنت امرؤ لا الجود منك سجيّة
فتعطي و قد يعدو على النائل الوجد 1

و أمّا أضعفيّة صبرهم عند الملمات فمثله فعل حسان بن ثابت في خيبر ،

ففي ( الطبري ) كانت صفيّة بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان و كان حسان فيه مع النساء و الصبيان . قالت صفية : فمرّ بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن و قد حاربت بنو قريظة و قطعت ما بينها و بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليس بيننا و بينهم أحد يدفع عنّا و النبيّ و المسلمون في نحور عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إن أتانا آت ، فقلت : يا حسّان إنّ هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، و إنّي و اللّه ما آمنه أن يدلّ على عوراتنا من وراءنا من يهود و قد شغل عنّا النبيّ و أصحابه فانزل إليه فاقتله . فقال : يغفر اللّه لك يا بنت عبد المطلب ، و اللّه لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا . قالت : فلمّا قال ذلك و لم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته ، فلمّا فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت : يا حسّان انزل إليه فاسلبه فإنّه لم يمنعني من سلبه إلاّ أنّه رجل . قال : يا بنت

-----------
( 1 ) الشعر و الشعراء : 200 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 501 ]

عبد المطلب ما لي بسلبه حاجة 1 .

« و إنّما عماد » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( عمود ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 2 .

« الدّين و جماع المسلمين » أي : مجمعهم .

« و العدّة للأعداء » أي : القوة في قبالهم .

« العامّة من الامّة ، فليكن صغوك » أي : ميلك .

« لهم و ميلك معهم » .

في ( المروج ) : كان هرمز بن انوشروان متحاملا على خواص الناس مائلا إلى عوامهم مقوّيا لهم ، و قيل إنّه قتل في مدّة ملكه و كان ملكه اثنتي عشرة سنة ثلاثة عشر ألف رجل مذكور من خواص الفرس 3 .

« و ليكن أبعد رعيتك منك و أشنأهم عندك أطلبهم لمعائب الناس ، فإنّ في الناس عيوبا الوالي أحقّ من سترها فلا تكشفنّ عمّا غاب عنك منها » في ( عيون القتيبي ) قال بعض ملوك العجم : إنّي إنّما أملك الأجساد لا النيّات ، و أحكم بالعدل لا بالرّضا ، و أفحص عن الأعمال لا عن السّرائر 4 .

و عن الصادق عليه السّلام قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ألا انبّئكم بشراركم ؟ قالوا : بلى . قال :

المشّاؤون بالنميمة ، و المفرّقون بين الأحبّة ، و الباغون للبرآء العيب 5 .

« فإنّما عليك تطهير ما ظهر لك ، و اللّه يحكم على ما غاب عنك » كما في الحدود فإذا ظهرت للوالي بالبينة أو الإقرار فاحشته كان عليه تطهيره بالحدّ ، و ما لم

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 577 دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 35 .

-----------
( 3 ) مروج الذهب 1 : 298 .

-----------
( 4 ) عيون الاخبار 1 : 61 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

-----------
( 5 ) الخصال 1 : 183 ح 249 ، و الفقيه 4 : 371 .

[ 502 ]

يظهر كذلك ليس له سبيل عليه بل جعل الحد على من نسبها إليه ، قال تعالى و الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة و لا تقبلوا لهم شهادة أبدا و أولئك هم الفاسقون 1 .

« فاستر العورة ما استطعت يستر اللّه منك ما تحبّ ستره » في الخبر : « من أشرف أعمال الكريم غفلته عمّا يعلم » 2 .

و في ( عيون ابن قتيبة ) كانت جامات كسرى التي يأكل فيها من ذهب ،

فسرق رجل من أصحابه جاما و كسرى ينظر إليه ، فلمّا رفعت الموائد افتقد الطباخ الجام فرجع يطلبها فقال كسرى : لا تتعنّ فقد أخذها من لا يردّها ، و رآه من لا يفشي عليه . ثم دخل عليه الرجل بعد و قد حلّى سيفه و منطقته ذهبا ، فقال له كسرى : هذا و أشار إلى سيفه و هذا و أشار إلى منطقته من ذاك ؟ قال :

نعم 3 .

« أطلق عن الناس عقدة كل حقد ، و اقطع عنك سبب كل وتر » زاد ( التحف ) بعده « و اقبل العذر ، و ادرأ الحدود بالشبهات » 4 .

في ( السير ) لمّا أعيد المقتدر إلى الخلافة و خلع ابن المعتز ، أمر وزيره ابن الفرات بقبض ما في دور الذين بايعوا ابن المعتز و كانت أمتعتهم تقبض و تحمل فيراها و ينفذها إلى خزائن المقتدر ، فجاءوه يوما بصندوقين فقالوا له :

هذان وجدناهما في دار ابن المعتز . فقال : أعلمتم ما فيهما . قالوا : نعم جرائد من بايعه الناس بأسمائهم و أنسابهم . فقال : لا تفتح . ثم قال : يا غلمان هاتوا نارا ،

فجاء الفرّاشون بفحم و أمرهم فأجّجوا النار ، فأقبل على من حضر فقال : و اللّه

-----------
( 1 ) النور : 4 .

-----------
( 2 ) نهج البلاغة ح 222 .

-----------
( 3 ) عيون الاخبار 1 : 461 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 128 .

[ 503 ]

لو رأيت من هذين الصندوقين ورقة واحدة لظن كل من له فيها اسم اني عرفته فتفسد نيات العالم كلهم عليّ و على الخليفة ، و ما هذا رأي ، حرّقوهما ، فطرحا بأقفالهما في النار ، فلمّا احترقا بحضرته أقبل على ابن مقلة و كان كاتبه فقال له : قد آمنت كل من بايع ابن المعتز ، أمرني بذلك الخليفة فاكتب للناس الأمان منّي . ثم قال لمن حضر : أشيعوا هذا الخبر ، فأشاعوه فطلب المستترون الامان فكتب في ذلك مائة ألف أو نحوها .

« و تغابّ » أي : تغافل .

« عن كلّ ما لا يصحّ لك ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالنّاصحين » و التحرّز من الغاشّ المتشبّه بالناصح واجب .

في ( العقد ) كان المأمون إذا ذكر عنده السعاة قال : ما ظنّكم بقوم يلعنهم اللّه على الصدق ؟ و قال ذو الرياستين : قبول النميمة شر من النميمة لأنّ النميمة دلالة و القبول إجازة و ليس من دلّ على شي‏ء كمن قبله .

و عاتب مصعب بن الزبير يوما الأحنف بن قيس في شي‏ء فأنكره ، فقال :

أخبرني الثقة . قال : كلاّ إنّ الثقة لا يبلغ ، و قد جعل اللّه السامع شريك القائل فقال سمّاعون للكذب أكّالون للسحت 1 .

و في ( سير العجم ) : ان رجلا وشى برجل إلى الاسكندر فقال : أ تحب أن يقبل منه عليك و منك عليه . قال : لا . قال : فكفّ الشرّ عنه يكفّ عنك الشرّ . و قال شاعر :

إذا الواشي بغى يوما صديقا
فلا تدع الصديق لقول واش

أيضا :

-----------
( 1 ) المائدة : 42 .

[ 504 ]

لا تقبلنّ نميمة بلّغتها
و تحفّظنّ من الذي أنباكها

لا تنقشن برجل غيرك شوكة
فتقي برجلك رجل من قد شاكها

إنّ الذي أنباك عنه نميمة
سيذبّ عنك بمثل ما قد حاكها

هذا ، و في ( الطبري ) : لمّا نقض اصبهبد طبرستان العهد بينه و بين المسلمين وجّه إليه المنصور خازم بن خزيمة و روح بن حاتم و أبا الخصيب مولاه ، فأقاموا على حصنه محاصرين له و هو يقاتلهم حتى طال عليهم المقام ،

فاحتال أبو الخصيب و قال لأصحابه : اضربوني و احلقوا رأسي و لحيتي ،

ففعلوا ذلك به فلحق بالاصبهبد و قال له : ركب منّي أمر عظيم ضربت و حلق رأسي و لحيتي و إنّما فعلوا ذلك تهمة منّي لهم أن يكون هواي معك ، و أخبره أنه معه و أنه دليل على عورة عسكرهم ، فقبل منه ذلك الاصبهبد و جعله في خاصته و ألطفه ، و كان باب مدينتهم من حجر يلقى القاء يرفعه الرجال و تضعه عند فتحه و اغلاقه و جعل ذلك نوبا بينهم ، فقال له أبو الخصيب : ما أراك وثقت بي و لا قبلت نصيحتي قال : و كيف ظننت ذلك ؟ قال : لتركك الاستعانة بي فيما يعنيك و توكيلي فيما لا تثق به إلاّ بثقاتك ، فجعل يستعين به بعد ذلك فيرى منه ما يحب إلى أن وثق به فجعله فيمن ينوب في فتح باب مدينته و إغلاقه ، فتولّى ذلك حتى أنس به ثم كتب إلى روح و خازم و صيّر الكتاب في نشابة و رماها إليهم و أعلمهم أن قد ظفر بالحيلة و وعدهما ليلة سمّاها لهما في فتح الباب ، فلمّا كان في تلك الليلة فتح لهم ، فقتلوا من فيها من المقاتلة و سبوا الذراري و ظفر بالبحترية و هي أمّ المنصور بن المهدي و بشكلة أمّ ابراهيم بن المهدي ، فمص الاصبهبد خاتما له فيه سم فقتل نفسه 1 .

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 7 : 512 ، دار سويدان ، بيروت .

[ 505 ]

« و لا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر » كالشيطان . في ( الكافي ) انّ امير المؤمنين عليه السّلام بعث إلى رجل بخمسة أو ساق من تمر البغيبغة و كان الرجل ممّن يرجو نوافله عليه السّلام و يؤمل نائله و رفده و كان لا يسأل عليّا عليه السّلام و لا غيره شيئا فقال رجل له عليه السّلام : و اللّه ما سألك فلان ، و لقد كان يجزيه من خمسة الأوساق وسق واحد . فقال له : لا كثّر اللّه في المؤمنين ضربك ، اعطي أنا و تبخل أنت إذا أنا لم اعط الذي يرجوني إلاّ من بعد المسألة ثم أعطيه بعد المسألة فلم أعطه ثمن ما أخذت منه ، و ذلك لأني عرضته أن يبذل لي وجهه الّذي يعفّره في التّراب لربّه عند تعبّده له و طلب حوائجه إليه ، فمن فعل هذا بأخيه المسلم و قد عرف أنّه موضع لصلته و معروفه فلم يصدق اللّه تعالى في دعائه له حيث يتمنّى له الجنة بلسانه و يبخل عليه بالحطام من ماله فيقول في دعائه « اللّهم اغفر للمؤمنين و المؤمنات » فإذا دعا لهم بالمغفرة فقد طلب لهم الجنة ، فما أنصف من فعل هذا بالقول و لم يحققه بالفعل 1 .

و في ( العقد ) قال أبو الأسود : لو أطمعنا المساكين لكنا أسوأ منهم . و قال لبنيه : لا تطمعوا المساكين في أموالكم فإنّهم لا يقنعون منكم حتى يرونكم مثلهم ، و لا تجاودوا اللّه فإنّه لو شاء أن يغني الناس كلهم لفعل ، و لكنه علم أنّ قوما لا يصلحهم الغنى و لا يصلح لهم إلاّ الفقر . و قال : ما بيدك خير من طلب ما بيد غيرك ، و أنشد :

يلومونني في البخل جهلا و ضلّة
و للبخل خير من سؤال بخيل 2

« و لا جبانا يضعفك عن الامور » في ( أخبار جبناء عيون ابن قتيبة ) : شهد

-----------
( 1 ) الكافي للكليني 4 : 22 ح 1 بتصرف .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 7 : 217 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

[ 506 ]

أبو دلامة حربا مع روح بن حاتم المهلبي فقال له : تقدّم فقاتل ، فقال :

إنّي أعوذ بروح أن يقدّمني
إلى القتال فتخزى بي بنو أسد

إنّ المهلّب حبّ الموت أورثكم
و لم أورّث حبّ الموت عن أحد 1

و قال آخر :

أضحت تشجّعني هند و قد علمت
أنّ الشجاعة مقرون بها العطب

لا و الذي منع الأبصار رؤيته
ما يشتهي الموت عندي من له أدب

للحرب قوم أضل اللّه سعيهم
إذا دعتهم إلى حوبائها وثبوا

و لست منهم و لا أبغي فعالهم
لا القتل يعجبني منها و لا السلب 2

و قيل لأعرابي : ألا تغزو . . . ؟ قال : إنّي لأبغض الموت على فراشي فكيف أمضي إليه ركضا 3 .

و أرسل ابن زياد رجلا مع ألفين إلى مرداس بن اديّة و هو في أربعين فهزمه مرداس فعنّفه ابن زياد و أغلظ له فقال : يشتمني الأمير و أنا حيّ أحبّ إليّ من أن يدعو لي و أنا ميّت 4 .

و كان خالد القسري من الجبناء ، خرج عليه المغيرة بن سعيد صاحب المغيّريّة فقال من الدهش : أطعموني ماء . فذكّره بعضهم فقال :

عاد الظلوم ظليما حين جدّ به
و استطعم الماء لمّا جدّ في الهرب

و قال ابن زياد : إمّا للكنة فيه أو لجبن أو لدهشة : إفتحوا سيوفكم ، فقال فيه أبو مفرّغ :

-----------
( 1 ) عيون الاخبار 1 : 254 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

-----------
( 2 ) عيون الاخبار 1 : 255 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

-----------
( 3 ) عيون الاخبار 1 : 257 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

-----------
( 4 ) عيون الاخبار 1 : 253 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

[ 507 ]

و يوم فتحت سيفك من بعيد
أضعت و كلّ أمرك للضياع 1 .

و قال ابن المقفع : الجبن مقتلة فانظر فيما رأيت و سمعت أمن قتل في الحرب مقبلا أكثر أم من قتل مدبرا 2 ؟

« و لا حريصا يزيّن لك الشره بالجور » قال ابن المقفع : الحرص محرمة أنظر من يطلب إليك بالإجمال و التكرّم أحق أن تسخو نفسك له بالعطية أم من يطلب إليك بالشره و الحرص 3 ؟

و قالوا : لا يكثر الرجل الحوائج على أخيه ، فإنّ العجل إذا أفرط في مصّ أمه نطحته و نحّته ، و قال :

كم من حريص على شي‏ء ليدركه
و علّ إدراكه يدني إلى عطبه

« فإنّ البخل و الجبن و الحرص غرائز » أي : طبائع .

« شتى » أي : مختلفة .

« يجمعها سوء الظن باللّه » أما كون منشأ البخل سوء الظن باللّه في عدم إخلافه ما ينفعه فواضح .

و في ( العقد ) : كتب رجل من البخلاء إلى رجل من الأسخياء يأمره بالإبقاء على نفسه و يخوّفه بالفقر ، فردّ عليه : الشّيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء و اللّه يعدكم مغفرة منه و فضلا 4 و إنّي أكره أن أترك أمرا قد وقع لأمر لعله لا يقع 5 .

و في ( الطبري ) قيل لجعفر بن محمد عليه السّلام : إنّ المنصور يعرف بلباس جبة هروية مرقوعة و إنّه يرقّع قميصه . فقال : الحمد للّه الذي لطف له حتى

-----------
( 1 ) عيون الاخبار 1 : 256 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

-----------
( 2 ) و ( 3 ) عيون الاخبار 1 : 258 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

-----------
( 3 ) عيون الاخبار 1 : 258 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

-----------
( 4 ) البقرة : 268 .

-----------
( 5 ) العقد الفريد 1 : 189 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

[ 508 ]

ابتلاه بالفقر في ملكه 1 .

( و فيه ) قرأ الهيثم عند المنصور الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل 2 فقال : لو لا أن الاموال حصن السلطان و دعامة للدين و الدنيا و عزهما و زينهما ، ما بتّ ليلة و أنا أحرز منه درهما و لا دينارا ، لمّا أجد من اللّذاذة لبذل المال ، و لمّا أعلم في إعطائه من جزيل المثوبة 3 .

و قال الشاعر :

من ظن باللّه خيرا جاء مبتدئا
و البخل من سوء ظن المرء باللّه

و أمّا كون الجبن منشؤه أيضا سوء الظن باللّه ، أنه يخال إن لم يحضر الجهاد لا يموت ، و قد ردّ تعالى عليهم في قوله : قل لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت أو القتل و إذن لا تمتّعون إلاّ قليلا . قل من ذا الذي يعصمكم من اللّه إن أراد بكم سوء أو أراد بكم رحمة 4 .

و كان كسرى يقول : عليكم بأهل السخاء و الشجاعة ، فإنّهم أهل حسن الظن باللّه ، و لو أن أهل البخل لم يدخل عليهم من ضرّ بخلهم و مذمّة الناس لهم و إطباق القلوب على بغضهم إلاّ سوء ظنّهم بربّهم في الخلف ، لكان عظيما .

و أما كون منشأ الحرص سوء الظن باللّه ، فلأنه لو تيقّن أنه لا يصل إليه من الرزق إلاّ ما قدّر اللّه تعالى له ، لم يحرص ، بل الحرص كالحسد و الكبر أحد أصول الكفر باللّه .

و في ( عيون ابن قتيبة ) : لمّا قتل كسرى بزرجمهر وجد في منطقته كتابا : إذا كان القدر حقا فالحرص باطل . و قال عدي بن زيد :

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 8 : 81 ، دار سويدان ، بيروت .

-----------
( 2 ) النساء : 37 ، الحديد : 24 .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 8 : 88 ، دار سويدان ، بيروت .

-----------
( 4 ) الاحزاب : 16 17 .

[ 509 ]

قد يدرك المبطى‏ء من حظّه
و الرّزق قد يسبق جهد الحرص 1

« ان شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ، و من شركهم في الاثام فلا يكوننّ لك بطانة ) في ( وزراء الجهشياري ) : سأل عمر بن عبد العزيز عن يزيد بن أبي مسلم كاتب الحجّاج فقيل له : إنّه غزا الصائفة ، فأمر بالكتاب إليه بردّه و قال : لا استنصر بجيش هو فيهم ، فردّه من الدرب .

و قال ابن أبي الحديد : اتي الوليد بن عبد الملك برجل من الخوارج فقال له : ما تقول في الحجّاج ؟ قال : و ما عسيت أن أقول فيه ، هل هو إلاّ خطيئة من خطاياك ، و شرر من نارك ، فلعنك اللّه و لعن الحجّاج معك . فالتفت الوليد إلى عمر بن عبد العزيز فقال : ما تقول في هذا ؟ فقال : ما أقول فيه ؟ هذا رجل يشتمكم ، فإمّا أن تشتموه كما شتمكم ، و إمّا أن تعفوا عنه . فغضب الوليد و قال لعمر : ما أظنّك إلاّ خارجيا . فقال عمر : و ما أظنّك إلاّ مجنونا . و قام و خرج مغضبا ، و لحقه خالد ابن الرّيّان صاحب شرطة الوليد ، فقال له : ما دعاك إلى ما كلّمت به الخليفة ، لقد ضربت بيدي إلى قائم سيفي أنتظر متى يأمرني بضرب عنقك ؟ قال : أو كنت فاعلا لو أمرك . قال : نعم . فلمّا استخلف عمر جاءه خالد ،

فوقف على رأسه متقلّدا سيفه ، فنظر إليه و قال له : يا خالد ، ضع سيفنا ، فإنّك مطيعنا في كلّ أمر نأمرك به و كان بين يديه كاتب كان للوليد أيضا فقال له :

وضع أنت أيضا قلمك ، فإنّك كنت تضرّبه و تنفع و قال : « اللّهم إنّي وضعتهما فلا ترفعهما » و ما زالا وضيعين حتى ماتا 2 .

« فإنّهم أعوان الأثمة » و قد قال تعالى : و تعاونوا على البر و التقوى

-----------
( 1 ) عيون الاخبار 3 : 213 ، دار الكتب العلمية ، بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد : 17 43 .

[ 510 ]

و لا تعاونوا على الاثم و العدوان 1 .

« و إخوان الظّلمة » في ( الطبري ) : أقطع هشام أرضا يقال لها « دورين » فأرسل في قبضها فإذا هي خراب ، فقال لذويد كاتب كان بالشام ويحك كيف الحيلة ؟ قال : ما تجعل لي . قال : اربعمائة دينار ، فكتب : « دورين و قراها » ثم أمضاها في الدواوين ، فأخذ شيئا كثيرا ، فلمّا ولي هشام دخل عليه ذويد فقال له هشام : « دورين و قراها » ؟ لا تلي لي ولاية أبدا ، و أخرجه من الشام 2 .

في ( الكافي ) عن ابن أبي يعفور قال : كنت عند الصادق عليه السّلام إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له : إنّه ربما أصاب الرجل منّا ضيق فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسنّاة يصلحها فما تقول في ذلك ؟ فقال عليه السّلام : ما أحب أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء و ان لي ما بين لابتيها ، لا ، و لا مدة بقلم ،

إنّ أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم اللّه عزّ و جلّ بين العباد .

و عن أبي بصير : سألت أبا جعفر عليه السّلام عن أعمالهم فقال : لا ، و لا مدة قلم ،

إنّ أحدكم لا يصيب من دنياهم شيئا إلاّ أصابوا من دينه مثله 3 .

« و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل آرائهم و نفاذهم » في الأمور « و ليس عليه مثل آصارهم » أي : ذنوبهم .

« و أوزارهم » أي : أثقالهم و أحمالهم من الآثام ، قال تعالى : و لا تزر وازرة وزر اخرى 4 قال الأخفش : أي : لا تأثم آثمة بإثم اخرى 5 .

-----------
( 1 ) المائدة : 2 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 7 : 205 دار سويدان بيروت .

-----------
( 3 ) الكافي 5 : 106 107 5 و 7 .

-----------
( 4 ) فاطر : 18 .

-----------
( 5 ) لسان العرب 5 : 283 وزر دار صادر ، بيروت .

[ 511 ]

في ( وزراء الجهشياري ) لمّا توفّي سليمان بن عبد الملك كتب عمر بن عبد العزيز و هو على قبره بعزل اسامة بن زيد و يزيد بن أبي مسلم ، فقال الناس ألا صبر حتى يدفن الرجل . فقال : إنّي خفت اللّه تعالى و استحييته أن اقرّهما يحكمان في امور الناس طرفة عين و قد وليت أمورهم .

« ممّن لا يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه » في ( العقد ) قال أبو عوانة : بعث إليّ الحجاج فقال : إنّي اريد أن أستعين بك في عملي . قلت : ان تستعن بي تستعن بكبير أخرق ضعيف يخاف أعوان السوء ، و إن تدعني فهو أحبّ إليّ و إن تقحمني أقحم . قال : إن لم أجد غيرك أقحمتك . قلت : و اخرى إنّي ما علمت الناس هابوا أميرا قط هيبتهم لك ، و اللّه إنّي لا تعارّ من الليل فما يأتيني النوم من ذكرك حتى أصبح و لست لك على عمل . قال : كيف ؟ قلت : فأعدت عليه . فقال : إنّي و اللّه لا أعلم على وجه الأرض خلقا هو أجرأ على دم منّي ،

إنصرف . فقمت فعدلت عن الطريق كأنّي لا ابصر ، فقال : أرشدوا الشيخ 1 .

و في ( الجهشياري ) : كان الرشيد بعد صرف الفضل بن يحيى عن خراسان قلد علي بن عيسى بن ماهان ليكثر على الفضل في الأموال ، فقتل وجوه أهل خراسان و ملوكها و جمع أموالا جليلة فحمل إلى الرشيد ألف بدرة معمولة من ألوان الحرير و فيها عشرة آلاف ألف درهم . فسرّ بها و قال ليحيى :

أين كان الفضل عن هذا . فقال يحيى : إنّ خراسان سبيلها أن تحمل إليها الأموال و لا تحمل منها و الفضل أصلح نيّات رؤوسها و استجلب طاعتهم ،

و عليّ بن عيسى قتل صناديدهم و طراخنتهم و حمل أموالهم ، و لو قصدت لدرب من دروب الصيارف بالكرخ لوجدت فيه أضعاف هذه و ستنفق مكان كلّ درهم منها عشرة . فثقل هذا القول على الرشيد ، فلمّا انتقض أمر خراسان

-----------
( 1 ) العقد الفريد 2 : 50 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 512 ]

و خرج رافع بن الليث و احتاج الرشيد إلى النهوض إليها بنفسه جعل يتذكّر هذا الحديث و يقول : صدقني و اللّه يحيى ، لقد أنفقت مائة ألف ألف و ما بلغت شيئا .

« أولئك أخف عليك مؤنة و أحسن لك معونة » في ( عيون ابن قتيبة ) قال بعض الخلفاء : دلّوني على رجل أستعمله على أمر قد أهمّني . قالوا : كيف تريده ؟ قال : إذا كان في القوم و ليس أميرهم كان كأنّه أميرهم ، و إذا كان أميرهم كان كأنّه رجل منهم . قالوا : لا نعلمه إلاّ الربيع بن زياد الحارثي . قال :

صدقتم هو لها 1 .

و في ( المقاتل ) : انّه عليه السّلام لمّا ضرب أتاه صعصعة عائدا و قال للآذن : قل له عليه السّلام : يرحمك اللّه حيّا و ميتا ، فو اللّه لقد كان اللّه في صدرك عظيما و لقد كنت بذات اللّه عليما ، فأبلغه الآذن مقالة صعصعة فقال عليه السّلام : قل لصعصعة و أنت يرحمك اللّه لقد كنت خفيف المؤونة كثير المعونة 2 .

« و أحنى » أي : أشفق .

« عليك عطفا » أي : توجّها .

« و أقلّ لغيرك إلفا » في ( المعجم ) : كان صاحب خراسان نوح بن منصور الساماني قد أرسل إلى الصاحب بن عباد وزير فخر الدولة بن ركن الدولة يستدعيه إلى حضرته و يرغّبه في خدمته و بذل البذول السنية ، فكان من جملة اعتذاره أن قال : كيف يحسن لي مفارقة قوم بهم ارتفع قدري و شاع بين الأنام ذكري ؟ ثم كيف لي بحمل أموالي مع كثرة أثقالي و عندي من كتب العلم خاصة ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر .

« فاتخذ أولئك خاصة لخلواتك و حفلاتك » أي : اجتماعاتك .

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 69 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) مقاتل الطالبيين : 37 دار المعرفة بيروت .

[ 513 ]

« ثم ليكن آثرهم » أي : أكثرهم مختارا .

« عندك أقولهم بمرّ الحق لك » في ( العقد ) قال مالك ابن أنس : بعث المنصور إليّ و إلى ابن طاوس ، فأتيناه و دخلنا عليه فإذا هو جالس على فرش قد نضدت و بين يديه نطاع قد بسطت و جلاوزة بأيديهم السيوف يضربون الأعناق ،

فأومى إلينا أن اجلسا ، فجلسنا فأطرق عنّا قليلا ثم رفع رأسه و التفت إلى ابن طاوس فقال له : حدثني عن أبيك . قال : نعم ، سمعت أبي يقول : قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله :

إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة رجل أشركه اللّه في حكمه فأدخل عليه الجور في عدله ، فأمسك ساعة ، قال مالك : فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأني من دمه . ثم التفت إليه فقال : عظني . قال : نعم إنّ اللّه تعالى يقول : أ لم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد . و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد . . . ان ربك لبالمرصاد 1 . قال مالك فضممت ثيابي من ثيابه مخافة أن يملأ ثيابي من دمه ، فأمسك ساعة حتى اسودّ ما بيننا و بينه ،

ثم قال : يا ابن طاوس ناولني هذه الدواة ، فأمسك عنه ثم قال ناولني هذه الدواة ، فأمسك فقال : ما يمنعك أن تناولنيها ، قال : أخشى أن تكتب بها معصية فأكون شريكك فيها . فلمّا سمع ذلك قال : قوما عنّي . فقال ابن طاوس : ذلك ما كنّا نبغي منذ اليوم . قال مالك : فما زلت أعرف لابن طاوس فضله 2 .

« و أقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا ذلك من هواك حيث وقع » و زاد في ( رواية التحف ) : « فإنّهم يقفونك على الحق ، و يبصّرونك ما يعود عليك نفعه » 3 .

-----------
( 1 ) الفجر : 6 14 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 1 : 52 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 130 .

[ 514 ]

في ( العقد ) قال الشعبي : إن زيادا كتب إلى الحكم بن عمرو الغفاري و كان على الصائفة ان معاوية كتب إليّ أن أصفي له الصفراء و البيضاء فلا تقسم بين الناس ذهبا و لا فضة ، فكتب إليه : وجدت كتاب اللّه قبل كتاب معاوية ،

و لو ان السماوات و الأرض كانتا على عبد رتقا فاتّقى اللّه لجعل اللّه له منهما مخرجا . ثم نادى في الناس فقسّم لهم ما اجتمع من الفي‏ء 1 .

( و فيه ) : أرسل ابن هبيرة إلى الحسن البصري و الشعبي ، فقال للحسن :

ما ترى في كتب تأتينا من عند يزيد بن عبد الملك فيها بعض ما فيها ، فإذا أنفذتها وافقت سخط اللّه و إن لم أنفذها خشيت على دمي ؟ فقال له الحسن : هذا الشعبي فقيه الحجاز عندك . فسأله فرفق له الشعبي و قال له : قارب و سدّد ،

فإنّما أنت عبد مأمور . فالتفت ابن هبيرة إلى الحسن و قال : ما تقول أنت ؟ فقال له : يا بن هبيرة خف اللّه في يزيد و لا تخف يزيد في اللّه ، يا بن هبيرة إنّ اللّه مانعك من يزيد و إنّ يزيد لا يمنعك من اللّه ، يا بن هبيرة لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ، فانظر ما كتب إليك فيه يزيد فاعرضه على كتاب اللّه فما وافقه فأنفذه و ما خالفه فلا تنفذه ، فإنّ اللّه أولى بك من يزيد و كتاب اللّه أولى بك من كتابه . فضرب ابن هبيرة بيده على كتف الحسن و قال : هذا صدقني و رب الكعبة ، و أمر له بأربعة آلاف و للشعبي بألفين ، فأمّا الحسن فأرسل إلى المساكين فلمّا اجتمعوا فرّقها ، و أمّا الشعبي فقبلها و شكر عليها 2 .

( و فيه ) : شاور معاوية الأحنف بن قيس في استخلاف ابنه يزيد ، فسكت عنه فقال : إن صدقناك أسخطناك و إن كذبناك أسخطنا اللّه و سخطك أهون

-----------
( 1 ) العقد الفريد 1 : 55 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 1 : 55 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 515 ]

علينا من سخط اللّه . فقال له معاوية : صدقت 1 .

( و فيه ) : و دخل الزهري على الوليد بن عبد الملك فقال له : ما حديث يحدثنا به أهل الشام . قال : و ما هو ؟ قال : يحدثوننا أن اللّه إذا استرعى عبدا رعيّته كتب له الحسنات و لم يكتب عليه السيئات . قال : باطل . أ نبي خليفة اللّه أكرم على اللّه أم خليفة غير نبي . قال : بل خليفة نبي . قال : فإن اللّه تعالى يقول لنبيّه داود عليه السّلام يا داود انّا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه ان الذين يضلون عن سبيل اللّه لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب 2 فهذا وعيد لنبي خليفة ، فما ظنّك بخليفة غير نبي . قال : إنّ الناس ليغروننا عن ديننا 3 .

« و الصق بأهل الورع و الصدق » زاد في رواية ( التحف ) « و ذوي العقول و الأحساب » 4 .

و في ( عيون ابن قتيبة ) : إستشار عمر بن عبد العزيز في قوم يستعملهم فقال له بعض أصحابه : عليك بأهل العذر . قال : و من هم ؟ قال : هم الذين إن عدلوا فهو ما رجوت منهم ، و إن قصروا قال الناس قد اجتهد عمر 5 .

« ثمّ رضهم » من راض المهر يروضه رياضة و رياضا .

« على ألا يطروك » أي : لا يمدحوك .

« و لا يبجّحوك » بتقديم الجيم و تشديدها ، أي : لا يفرّحوك .

« بباطل لم تفعله فإن كثرة الإطراء » و المدح .

-----------
( 1 ) العقد الفريد 1 : 56 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) ص : 26 .

-----------
( 3 ) العقد الفريد 1 : 57 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 130 .

-----------
( 5 ) عيون الاخبار 1 : 71 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 516 ]

« تحدث الزهو » أي : الكبر .

« و تدني » أي : تقرّب « من الغرة » أي : الاغترار ، و زاد في خبر ( التحف ) « و الإقرار بذلك يوجب المقت من اللّه » 1 قالوا المدح وافد الكبر .

و في ( عيون ابن قتيبة ) قال ابن المقفع : إيّاك إذا كنت واليا أن يكون من شأنك حب المدح و التزكية و ان يعرف الناس ذلك منك ، فتكون ثلمة من الثلم يقتحمون عليك منها و بابا يفتتحونك منه ، و غيبة يغتابونك بها و يضحكون منك لها ، و اعلم أنّ قابل المدح كمادح نفسه ، و المرء جدير أن يكون حبّه المدح هو الذي يحمله على ردّه ، فإن الراد له ممدوح و القابل له معيب 2 .

« و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء فإن في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة » قال الجوهري : درب بالشي‏ء إذا اعتاده 3 .

« و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه » من الإحسان و الإساءة : من عمل صالحا فلنفسه و من أساء فعليها 4 . و زاد في رواية ( التحف ) « أدبا منك ينفعك اللّه به ،

و تنفع به أعوانك » 5 .

في ( المعجم ) قال المتوكل لأبي العيناء : بلغني عنك بذاء في لسانك .

فقال : قد مدح اللّه تعالى و ذم فقال : نعم العبد إنّه أوّاب 6 و قال : همّاز

-----------
( 1 ) تحف : 130 .

-----------
( 2 ) عيون الاخبار 1 : 289 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) الصحاح 1 : 124 دار العلم للملايين بيروت .

-----------
( 4 ) فصلت : 46 ، و الجاثية : 15 .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 130 .

-----------
( 6 ) ص : 44 .

[ 517 ]

مشّاء بنميم 1 و قال الشاعر :

إذا أنا بالمعروف لم اثن صادقا
و لم أشتم النكس اللئيم المذمّما

ففيم عرفت الخير و الشر باسمه
و شقّ لي اللّه المسامع و الفما

و قيل لأبي العيناء : إلى متى تمدح الناس و تهجوهم ؟ فقال : ما دام المحسن يحسن و المسي‏ء يسي‏ء ، و أعوذ باللّه أن أكون كالعقرب تلسب النبيّ‏ّ و الذمّيّ .

« و اعلم أنّه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظن راع برعيته من إحسانه إليهم و تخفيفه المؤونات عنهم » في ( عيون ابن قتيبة ) : قام رجل من مجلس خالد القسري ، فقال خالد : إنّي لأبغض هذا الرجل و ما له إليّ ذنب . فقال رجل : أوله أيّها الأمير معروفا ، ففعل فما لبث أن خفّ على قلبه و صار أحد جلسائه 2 .

و في ( وزراء الجهشياري ) : قال المنصور لأبي العباس الطوسي و عيسى بن علي و العباس بن محمد و غيرهم من خواصّه : إنّي قد عزمت على تقليد المهدي السواد و كور دجلة ، فاستصوب جميعهم رأيه خلا الطوسي فإنّه استخلاه ثم قال له : أ رأيت إن سلك المهدي غير سيرتك و استعمل التسهيل أ ترضى بذلك ؟ قال : لا و اللّه . قال : فأنت تريد أن تحبّبه إلى الرعية و تقليدك إيّاه يبغضه إليهم لا سيما ما قرب منك ، و لكن تولّي هذه الولاية عيسى بن موسى و تجعل المهدي الناظر في ظلامات الناس و تأمره بأخذه بإنصافهم ، فضحك منه حتى فحص برجليه .

و في ( الطبري ) : كان المنصور لا يولّي أحدا ثم يعزله إلاّ ألقاه في دار خالد البطين على شاطى‏ء دجلة ملاصقا لدار صالح المسكين فيستخرج من

-----------
( 1 ) القلم : 11 .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 3 : 198 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 518 ]

المعزول مالا فما أخذ من شي‏ء أمر به فعزل و كتب عليه اسم من أخذ منه و عزل في بيت من المال و سماه بيت مال المظالم ، فكثر ما في ذلك البيت من المال و المتاع ، ثم قال للمهدي : إنّي قد هيّأت لك شيئا ترضي به الخلق و لا تغرم من مالك شيئا ، فإذا أنا متّ فادع هؤلاء الذين أخذت منهم هذه الأموال التي سمّيتها مظالم فاردد عليهم كلّ ما أخذ منهم فإنّك تستحمد إليهم و إلى العامة ،

ففعل ذلك المهدي لمّا ولي 1 .

« و ترك استكراهه إيّاهم على ما ليس له قبلهم » هكذا في نسختي ابن أبي الحديد و ابن ميثم و لا يبعد أن الأصل « به قبلهم » 2 فقال الجوهري : و ما لي به قبل أي : طاقة 3 .

في ( عيون ابن قتيبة ) قالت العجم : أسوس الملوك من قاد أبدان الرعية إلى طاعته بقلوبها ، و لا ينبغي للوالي أن يرغب في الكرامة التي ينالها من العامة كرها ، و لكن في التي يستحقها بحسن الأثر و صواب الرأي و التدبير 4 .

« فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به حسن الظنّ برعيّتك فإن حسن الظنّ يقطع عنك نصبا » أي : شرا و بلاء .

« طويلا » زاد في رواية ( التحف ) : « فاعرف هذه المنزلة لك و عليك ، لتزدك بصيرة في حسن الصنع ، و استكثار حسن البلاء عند العامة ، مع ما يوجب اللّه بها لك في المعاد » 5 .

في ( العيون ) كان ابن عباس يقول : ما رأيت رجلا أوليته معروفا إلاّ

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 8 : 81 دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 46 .

-----------
( 3 ) الصحاح 5 : 1796 دار العلم للملايين بيروت .

-----------
( 4 ) عيون الاخبار 1 : 61 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 130 .

[ 519 ]

أضاء ما بيني و بينه ، و لا رأيت رجلا أوليته سوء إلاّ أظلم ما بيني و بينه .

« و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده ، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده » في ( العيون في كتب العجم ) : قلوب الرعية خزائن ملوكها ،

فما أودعتها من شي‏ء فليعلم أنّه فيها 1 .

و في ( الطبري ) قال المنصور لاسماعيل بن عبد اللّه : أيّ الولاة أفضل ؟

قال : الباذل للعطاء و المعرض عن السيئة . قال : فأيّهم أخرق ؟ قال : أنهكهم للرعية و أتبعهم لها بالخرق و العقوبة . قال : فالطاعة على الخوف أبلغ في حاجة الملك أم الطاعة على المحبة ؟ قال : الطاعة عند الخوف تسرّ الغدر و تبالغ عند المعاينة ، و الطاعة على المحبة تضمر الإجتهاد و تبالغ عند الغفلة . قال : فأيّ الناس أولى بالطاعة ؟ قال : أولاهم بالمضرّة و المنفعة . قال : ما علامة ذلك ؟ قال :

سرعة الإجابة و بذل النفس 2 .

و في ( وزراء الجهشياري ) : لمّا غضب المنصور على أبي أيوب المورياني قال صالح بن سليمان : انّه سيقتل أبا أيوب و جميع أسبابه لأنّه سمعه يتحدّث أن ملكا من الملوك كان يساير وزيرا له فضربت دابة الوزير رجل الملك فغضب و أمر بقطع رجل الوزير فقطعت ثم ندم فأمر بمعالجته حتى برأ ثم قال الملك في نفسه : هذا لا يحبني أبدا و قد قطعت رجله فقتله ، ثم قال : و أهل هذا الوزير لا يحبّونني و قد قتلته فقتلهم جميعا . قال صالح : فعلمت أنّه سيفعل ذلك في المورياني ففعله ، و ما عدا ظني فقتله و أخاه بالضعطة و العذاب و قتل بني أخيه صبرا .

« و لا تنقض سنّة صالحة عمل بها صدور هذه الامّة و اجتمعت بها الالفة

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 64 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 8 : 71 دار سويدان بيروت .

[ 520 ]

و صلحت عليها الرعية » فإنّ سنن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كفرائض اللّه تعالى العمل بها واجب .

« و لا تحدثنّ سنّة تضرّ بشي‏ء من ماضي تلك السنن فيكون الأجر لمن سنّها و الوزر عليك بما نقضت منها » و قد أحدث الثلاثة سننا كذلك مذكورة في محلها و أما من جاء بعدهم من أتباعهم فأحداثهم أكثر من أن تحصى ، و لو لا أن أصل الإسلام كان معلوما لجعلته أرذل الملل كما أنّهم أنفسهم صاروا بها أخسّ الامم من حيث العمل .

قال الطبري في ( تاريخه ) : و لمّا خرجت الخوارج من الكوفة أتى عليا عليه السّلام أصحابه و شيعته فبايعوه و قالوا نحن أولياء من واليت و أعداء من عاديت فشرط لهم فيه سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاءه ربيعة بن أبي شدّاد الخثعمي و كان شهد معه الجمل و صفين و معه راية خثعم فقال له : بايع على كتاب اللّه و سنّة رسوله فقال ربيعة : على سنّة أبي بكر و عمر . قال له علي : ويلك لو أن أبا بكر و عمر عملا بغير كتاب اللّه و سنّة رسوله لم يكونا على شي‏ء من الحق .

فبايعه فنظر إليه علي عليه السّلام و قال : أما و اللّه لكأني بك و قد نفرت مع هذه الخوارج فقتلت ، و كأنّي بك و قد وطئتك الخيول بحوافرها ، فقتل يوم النهر مع خوارج البصرة . . . 1 .

و في الخبر : من سن سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، و من سنّ سنّة سيئة كان عليه مثل وزر من عمل بها 2 .

و في الخبر : أبى اللّه لصاحب البدعة بالتوبة . قيل : و كيف ذلك ؟ قال : لأنّه

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 116 ( دار الكتب العلمية ) .

-----------
( 2 ) البحار 74 : 204 رواية 41 باب 14 .

[ 521 ]

قد اشرب قلبه حبّها 1 ، و من مشى إلى صاحب بدعة فوقره فقد مشى في هدم الإسلام 2 .

« و أكثر مدارسة العلماء » في الطبري قال المنصور للمهدي : لا تجلس مجلسا إلاّ و معك من أهل العلم من يحدّثك ، فإن محمد بن شهاب الزهري قال « الحديث ذكر و لا يحبه إلاّ ذكور الرجال و لا يبغضه إلا مؤنثوهم » و صدق أخو زهرة 3 .

« و منافثة الحكماء » أي : الإستقصاء في استخراج ما عندهم من الحكمة .

« في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك و إقامة ما استقام به الناس قبلك » زاد في رواية ( التحف ) : « فان ذلك يحقّ الحقّ ، و يدفع الباطل ، و يكتفى به دليلا و مثالا ، لأنّ السنن الصالحة هي السبيل إلى طاعة اللّه » 4 ، فأقام ارسطاطاليس الحكيم لاسكندر خارج ملكه و داخله .

ففي ( أخبار طوال الدينوري ) قال الإسكندر لمؤدبه ارسطاطاليس : إنّي قد وترت أهل الأرض جميعا لقتلي ملوكهم و احتوائي على بلادهم و أخذي أموالهم ، و قد خفت أن يتظافروا على أهل أرضي من بعدي فيقتلونهم و يبيدونهم لحنقهم عليّ ، و قد رأيت أن أرسل إلى كلّ نبيه و شريف و من كان من أهل الرياسة في كلّ أرض و إلى أبناء الملوك فاقتلهم . فقال له مؤدبه : ليس ذلك رأي أهل الورع و الدين ، مع أنّك إن قتلت أبناء الملوك و أهل النباهة و الرياسة كان الناس عليك و على أهل أرضك أشدّ حقّا من بعدك ، و لكن لو بعثت إلى أبناء الملوك و أهل النباهة فتجمعهم إليك فتتوّجهم بالتّيجان و تملّك

-----------
( 1 ) الكافي 1 : 54 ح 4 .

-----------
( 2 ) الكافي 1 : 54 ح 2 .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 8 : 72 دار سويدان بيروت .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 131 .

[ 522 ]

كلّ رجل منهم كورة واحدة و بلدا واحدا فإنّك تشغلهم بذلك بتنافسهم في الملك و حرص كلّ واحد منهم على أخذ ما في يدي صاحبه عن أملاك بلادك ،

فتلقي بأسهم بينهم و تجعل شغلهم بأنفسهم ، فقبل الإسكندر ذلك منه و فعله و هم الذين يقال لهم ملوك الطوائف 1 .

و في ( وزراء الجهشياري ) : كان أرسطاطاليس أدّب الإسكندر ، فلمّا نشأ الإسكندر و علا و عرف من ارسطاطاليس ما عرفه من الحكمة كان شبه الوزير له و كان يعتمد عليه في الرأي و المشورة ، فكتب إليه يخبره أنّه قد كثر في خواصّه و عسكره قوم ليس يأمنهم على نفسه لمّا يرى من بعد هممهم و شجاعتهم و شذوذ آلتهم و ليس يرى لهم عقولا تفي بهذه الفضائل التي فيها بقدر هممهم ، فكتب إليه ارسطاطاليس : فهمت ما ذكرت عن القوم الذين ذكرت ،

فأمّا هممهم فمن الوفاء بعد الهمّة ، و أمّا ما ذكرت من شجاعتهم مع نقص عقولهم فمن كانت هذه حاله فرفّهه في العيش و اخصصه بحسان النساء ، فإن رفاهية العيش توهي العزم و إن حبّ النساء يحبب السلامة و يباعد من ركوب المخاطرة ، و ليكن خلقك حسنا تستدعي به صفو النيات و اخلاص المقالات ،

و لا تتناول من لذيذ العيش ما لا يمكن أوساط أصحابك مثله ، فليس مع الإستيثار محبة و لا مع المواساة بغضة .

و في ( عيون ابن قتيبة ) : قرأت كتابا من ارسطاطاليس إلى الإسكندر :

إملك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها ، فإنّ طلبك ذلك منها بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك ، و اعلم أنك إنّما تملك الأبدان ، فتخطّها إلى القلوب بالمعروف و اعلم أنّ الرعيّة إذا قدرت على أن تقول ، قدرت على أن تفعل ،

فاجهد أن لا تقول ، تسلم من أن تفعل .

-----------
( 1 ) الأخبار الطوال : 38 .

[ 523 ]

( و فيه ) : كان أنوشروان إذا ولّى رجلا أمر الكاتب أن يدع في العهد موضع أربعة أسطر ليوقّع فيه بخطه ، فإذا أتي بالعهد وقع فيه « سس خيار الناس بالمحبة و أخرج للعامة الرغبة بالرهبة ، و سس سفلة الناس بالإخافة » 1 .

و في ( المروج ) : كتب ملك الروم إلى سابور الجنود بن اردشير : بلغني من سياستك لجندك و ضبطك ما تحت يدك و سلامة أهل مملكتك بتدبيرك ما أحببت أن أسألك فيه طريقتك و اركب مناهجك . فكتب إليه سابور : نلت ذلك بثمان خصال : لم أهزل في أمر و لا نهي قطّ ، و لم اخلف وعدا و لا وعيدا قطّ ،

و حاربت للغنى لا للهوى ، و اجتلبت قلوب الناس مقة بلا كره و خوفا بلا مقت ،

و عاقبت للذنب لا للغضب ، و عممت بالقوت ، و حسمت الفضول .

( و فيه ) : أحضر يزدجرد بن بهرامجور رجلا من حكماء عصره في أقاصي مملكته و قال له : أيّها الحكيم الفاضل ما صلاح الملك ؟ فقال : ألرّفق بالرعيّة ، و أخذ الحق منهم من غير مشقة ، و التودّد إليهم بالعدل ، و أمن السبل ،

و إنصاف المظلوم من الظالم . فقال له : فما صلاح أمر الملك ؟ فقال : وزراؤه و أعوانه ، فإنّهم إن صلحوا صلح ، و ان فسدوا فسد . فقال له : فما الذي يشبّ الفتن و ينشئها و ما الذي يسكّنها و يدفنها ؟ قال : يشبها ضغائن و جرأة العامة و الإستخفاف بالخاصة ، و انبساط الألسن بضمائر القلوب و اشفاق موسر و أمل معسر ، و غفلة ملتذّ و يقظة محروم ، و الذي يسكّنها أخذ العدّة لمّا يخاف قبل حلوله و إيثار الجد حين يلتذ الهزل ، و العمل بالحزم في الغضب و الرضا 2 .

« و اعلم أنّ الرعية طبقات لا يصلح بعضها إلاّ ببعض ، و لا غنى ببعضها عن

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 61 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) مروج الذهب 1 : 273 و 288 289 .

[ 524 ]

بعض » كأعضاء الإنسان ، فالرأس لا يصلح إلاّ بالبدن مثلا ، و العينان لا تغنيان عن الاذنين ، و لا يغني الأنف عن الفم و اليدان عن الرجلين .

في ( مطالب سؤول ابن طلحة الشافعي ) قال عليه السّلام : العالم حديقة سياجها الشريعة ، و الشريعة سلطان تجب له الطاعة ، و الطاعة سياسة يقوم بها الملك ،

و الملك راع يعضدها الجيش ، و الجيش أعوان يكفلهم المال و المال رزق يجمعه الرعية ، و الرعية سواد يستعبدهم العدل ، و العدل أساس به قوام العالم .

« فمنها جنود اللّه ، و منها كتّاب العامّة و الخاصّة ، و منها قضاة العدل ، و منها عمّال الإنصاف و الرّفق ، و منها أهل الجزية و الخراج من أهل الذمة و مسلمة الناس ،

و منها التجّار و أهل الصناعات ، و منها الطبقة السفلى من ذوي الحاجة و المسكنة » .

في ( وزراء الجهشياري ) : كان أول من صنّف طبقات الناس و صنّف طبقات الكتّاب و بنى منازلهم جمشيد ، و كان لهراسب اوّل من دوّن الدواوين و حصّن الأعمال و الحسبانات ، و انتخب الجنود و جدّ في عمارة الأرضين و جباية الخراج لأرزاق الجيش و بنى مدينة بلخ .

« و كلاّ قد سمّى اللّه سهمه و وضع على حدّه فريضة » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « و فريضته » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 1 .

« في كتابه أو سنّة نبيه » وضع على حد الطبقة السابعة و هي الأخيرة فريضة في كتابه فقال عزّ و جلّ إنّما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلّفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل اللّه و ابن السبيل . . . 2 و على حدّ الطبقات الست الأولى فريضة في سنّة نبيّه .

« عهدا منه عندنا محفوظا » لمّا لم يوضع في السنّة على حدّ كثير من

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 48 .

-----------
( 2 ) التوبة : 60 .

[ 525 ]

الطبقات الست الاولى شي‏ء يعرفه الناس قال عليه السّلام : إنّه صلّى اللّه عليه و آله خصّ بعلم ذلك عترته عليهم السّلام .

و في ( بصائر درجات محمد بن الحسن الصفار ) مسندا أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال في مرضه الذي توفي فيه : ادعوا لي خليلي ، فأرسلتا إلى أبويهما ، فلمّا رآهما أعرض عنهما بوجهه ، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله ادعوا لي خليلي ، فأرسلوا إلى عليّ ،

فلمّا جاء أكبّ عليه فلم يزل يحدّثه و يحدّثه ، فلمّا خرج من عنده قالتا له عليه السّلام : ما حدّثك ؟ قال : حدّثني بباب يفتح ألف باب كلّ باب يفتح ألف باب 1 .

« فالجنود بإذن اللّه حصون الرعية و زين الولاة و عزّ الدين و ليس تقوم الرعية إلاّ بهم » في ( عيون ابن قتيبة ) : كان يقال : لا سلطان إلاّ برجال ، و لا رجال إلاّ بمال و لا مال إلاّ بعمارة ، و لا عمارة إلاّ بعدل و حسن سياسة 2 .

و في ( المروج ) : كانت سياسة يعقوب بن الليث الصفار لجيوشه سياسة لم يسمع بمثلها فيمن سلف من الملوك ، لمّا كان قد شملهم من إحسانه و غمرهم من برّه و ملأ قلوبهم من هيبته ، كان بأرض فارس و أباح للناس أن يرتعوا ثم حدث أمر أراد الرحيل فنادى مناديه بقطع الدواب عن الرتع ، فرئي في أصحابه رجل أخرج الحشيش من فم الدابّة مخافة أن تلوكه بعد سماع النداء ، و خاطب الدابّة قائلا بالفارسية : « أمير دواب را از تر بريده » أي : أمر بقطع الدواب عن الرطبة . و رئي أيضا في عسكره رجل من قوّاده ذو مرتبة و الدرع الحديد على بدنه لا ثوب بينه و بين بشرته ، فقيل له في ذلك فقال : نادى منادي الأمير : البسوا السّلاح و كنت أغتسل من الجنابة فلم يسعني التشاغل

-----------
( 1 ) بصائر الدرجات : 333 ح 3 بتصرف في اللفظ و 324 ح 8 .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 1 : 63 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 526 ]

بلبس الثياب عن السلاح 1 .

« ثم لاقوام للجنود إلاّ بما يخرج اللّه لهم من الخراج الذين يقوون به في جهاد عدوّهم و يعتمدون عليه في ما يصلحهم و يكون من وراء حاجتهم » في ( العيون ) كان جعفر بن يحيى يقول الخراج عماد الملك ، و ما استغزر بمثل العدل و لا استنزر بمثل الظلم 2 .

و في ( وزراء الجهشياري ) في عهد سابور بن اردشير إلى ابنه و اعلم أنّ قوام أمرك بدرور الخراج ، و درور الخراج بعمارة البلاد ، و بلوغ الغاية في العمارة يكون باستصلاح أهله بالعدل عليهم و المعاونة لهم ، فإنّ بعض الامور لبعض سبب ، و عوام الناس لخواصهم عدة ، و لكل صنف منهم إلى الآخر حاجة ، فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتابك و من يكونون من أهل البصر و العفاف و الكفاية ، و أسند إلى كلّ امرى‏ء منهم شقصا يضطلع به و يمكنه الفراغ منه ، فان اطّلعت على أنّ أحدا منهم خان أو تعدّى فنكّل به و بالغ في عقوبته .

« ثم لا قوام لهذين الصنفين إلاّ بالصنف الثالث من القضاة و العمّال و الكتّاب » في ( الطبري ) قال المنصور : ما أحوجني إلى أن يكون على بابي أربعة نفر لا يكون على بابي أعفّ منهم . قيل له : من هم ؟ قال : هم أركان الملك و لا يصلح الملك إلاّ بهم كما أنّ السرير لا يصلح إلاّ بأربع قوائم إن نقصت واحدة و هي ،

أمّا أحدهم : فقاض لا تأخذه في اللّه لومة لائم ، و الآخر : صاحب شرطة ينصف الضعيف ، و الثالث : صاحب خراج يستقصي و لا يظلم الرعيّة 3 .

-----------
( 1 ) مروج الذهب 4 : 114 115 .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 1 : 66 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 8 : 67 دار سويدان بيروت .

[ 527 ]

« لمّا يحكمون من المعاقد » و في رواية ( التحف ) : « لمّا يحكمون من الامور ،

و يظهرون من الإنصاف » 1 ، و كيف كان فالأحكام للقضاة .

« و يجمعون من المنافع » جمع المنافع عمل العمّال .

« و يؤتمنون عليه من خواص الامور و عوامها » الايتمان : على ما قال للكتّاب ،

ثم عدم قوام الجند و الخراج إلاّ بالعمال و الكتّاب واضح ، و أما بالقضاة فللفصل بينهم مع حصول الإختلاف .

« و لا قوام لهم جميعا إلاّ بالتجار و ذوي الصناعات فيما يجتمعون عليه من مرافقهم » و في رواية ( التحف ) « فيما يجمعون من مرافقهم » 2 .

« و يقيمون من أسواقهم و يكفونهم من الترفق بأيديهم ما لا يبلغه رفق غيرهم » و في رواية ( التحف ) « ممّا لا يبلغه رفق غيرهم » 3 .

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : لا يلتقي أحدكم تجارة خارجا من المصر و لا يبيع حاضر لباد ، و المسلمون يرزق اللّه بعضهم من بعض 4 .

و عن الصادق عليه السّلام : الكيمياء الأكبر الزراعة 5 ، و الزارعون يدعون المباركين 6 . و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعليّ : لا يظلم الفلاّحون بحضرتك 7 .

و عنه عليه السّلام : أتت الموالي أمير المؤمنين عليه السّلام فقالوا : نشكو إليك هؤلاء العرب . إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كان يعطينا معهم العطايا بالسوية و زوّج سلمان و بلالا و صهيبا و أبوا علينا هؤلاء و قالوا لا نفعل ، فكلّمهم فيهم فصاح الأعاريب أبينا

-----------
( 1 ) تحف العقول : 131 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 131 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 132 .

-----------
( 4 ) الكافي للكليني 5 : 8 ح 161 .

-----------
( 5 ) الكافي للكليني 5 : 261 ح 6 .

-----------
( 6 ) الكافي للكليني 5 : 261 ح 7 .

-----------
( 7 ) الكافي 5 : 284 ، رواية 2 ، ج 7 : 154 ، رواية 29 .

[ 528 ]

ذلك يا أبا الحسن أبينا ذلك ، فخرج و هو مغضب يجر رداءه و هو يقول : يا معشر الموالي إنّ هؤلاء قد صيّروكم بمنزلة اليهود و النصارى يتزوجون إليكم و لا يزوجونكم و لا يعطونكم مثل ما يأخذون ، فاتّجروا بارك اللّه لكم فإنّي سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول : الرزق عشرة أجزاء تسعة أجزاء في التجارة و واحد في غيرها 1 .

« ثم الطبقة السفلى من أهل الحاجة و المسكنة الذين يحق رفدهم » أي :

إعطاؤهم ( و معونتهم ) و هو حكم عقلي و لذا قال به جميع الامم و يقتضيه كرم الأخلاق ، و لذا كان كلّ كريم ملتزما به حتى في الجاهلية .

فقالوا : مرّ حاتم في سفر له على عنزة و فيهم أسير فاستغاث به فلم يحضره فكاكه ، فساومهم و أقام مكانه في القيد حتى أدّى فداءه .

« و في اللّه لكلّ سعة » في نقل المصنف سقط و الأصل « و في في‏ء اللّه لكلّ سعة » كما في ( التحف ) 2 ، و يدل عليه سياق الكلام .

روى ( الكافي ) عن أبي جعفر الأحول قال : سألني رجل من الزنادقة فقال : كيف صارت الزكاة كلّ ألف درهم خمسة و عشرين . فقلت له : إنّما ذلك مثل الصلاة ثلاث و ثنتان و أربع فقبل ذلك مني ، ثم لقيت بعد ذلك أبا عبد اللّه عليه السّلام فسألته عن ذلك فقال : ان اللّه تعالى حسب الأموال و المساكين فوجد ما يكفيهم من كلّ ألف خمسة و عشرين و لو لم يكفهم لزادهم ، فرجعت إليه فأخبرته فقال : جاءت هذه المسألة على الإبل من الحجاز ، لو أني أعطيت أحدا طاعة لأعطيت صاحب هذا الكلام 3 .

-----------
( 1 ) الكافي 5 : 318 ح 59 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 132 .

-----------
( 3 ) الكافي 3 : 509 ح 4 .

[ 529 ]

« و لكلّ على الوالي حق بقدر ما يصلحه » قال الشاعر :

فلو كنت تطلب شأو الكرام
فعلت كفعل أبي البختري

تتبّع إخوانه في البلاد
فأغنى المقلّ عن المكثر

و روى ( الكافي ) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال لعمرو بن عبيد لمّا كان يدعو إلى امامة محمد بن عبد اللّه الحسني : ما تقول في آية الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم و في الرقاب و الغارمين و في سبيل اللّه و ابن السبيل كيف تقسم الصدقة ؟ قال : أقسمها على ثمانية أجزاء فاعطي كلّ جزء من الثمانية جزءا . قال : و إن كان صنف منهم عشرة آلاف و صنف منهم رجلا واحدا أو رجلين أو ثلاثة جعلت لهذا الواحد ما جعلت للعشرة آلاف ؟ قال : نعم . قال : و تجمع صدقات أهل الحضر و أهل البوادي فتجعلهم فيها سواء ؟ قال : نعم . قال : فقد خالفت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في كلّ ما قلت في سيرته ، كان النبيّ يقسّم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي و صدقة أهل الحضر في أهل الحضر ، و لا يقسّمها بينهم بالسوية و إنّما يقسّمها على قدر ما يحضرها منهم و ما يرى و ليس في ذلك شي‏ء موقت موظّف 1 .

« و ليس يخرج الوالي من حقيقة ما ألزمه اللّه من ذلك إلاّ بالاهتمام و الإستعانة باللّه ، و توطين نفسه على لزوم الحق و الصبر عليه فيما خف عليه أو ثقل » هكذا في ( المصرية ) إلاّ أن الكلام بجملته ليس في ( النهج ) لخلو ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية عنه 2 ، و إنّما هو في رواية ( تحف العقول ) 3 ، فالظاهر أن بعضهم ألحقه بالنهج حاشية و المصرية أو النسخة التي نقلت المصرية عنها

-----------
( 1 ) الكافي 5 : 26 27 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 49 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 133 .

[ 530 ]

خلطت الحاشية بالمتن ، و بالجملة الكلام كلامه إلاّ أنّه ليس من النهج .

و كيف كان ففي ( الخصال ) عن الصادق عليه السّلام : ثلاثة هم أقرب الخلق إلى اللّه تعالى يوم القيامة حتى يفرغ من الحساب : رجل لم تدعه قدرته في حال غضبه إلى أن يحيف على من تحت يده ، و رجل مشى بين اثنين ، فلم يمل مع أحدهما على الآخر بشعيرة ، و رجل قال الحق في ماله و عليه 1 .

و عنه عليه السّلام : أشدّ الأعمال ثلاثة : إنصاف الناس من نفسك حتى لا ترضى لها منهم بشي‏ء إلاّ رضيت لهم منها بمثله ، و مواساتك الأخ في المال ، و ذكر اللّه على كلّ حال ، ليس « سبحان اللّه ، و الحمد للّه ، و لا إله إلاّ اللّه ، و اللّه أكبر » فقط ،

و لكن إذا ورد عليك شي‏ء من أمر اللّه أخذت به ، و إذا ورد عليك شي‏ء نهى اللّه تعالى عنه تركته 2 .

و روى ( عقاب الأعمال ) عن أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : من ولي عشرة ، فلم يعدل فيهم ، جاء يوم القيامة و يداه و رجلاه و رأسه في ثقب فأس .

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام : أيّما وال احتجب عن حوائج الناس ، إحتجب اللّه عزّ و جلّ عنه يوم القيامة و عن حوائجه ، و إن أخذ هديّة كان غلولا ، و إن أخذ رشوة فهو مشرك 3 .

« فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك » كان المتقدمون عليه عليه السّلام إنّما يولّون من كان ناصحا لهم دون اللّه و رسوله ، فكان أبو بكر يولّي مثل خالد بن الوليد الذي قتل مالك بن نويرة مؤمنا متعمّدا غادرا به و زنى بامرأته حتى أنكر ذلك عمر عليه ، و كان عمر يولّي مثل المغيرة بن

-----------
( 1 ) الخصال 1 : 81 5 جماعة المدرسين في الحوزة العلمية قم .

-----------
( 2 ) الخصال 1 : 132 139 جماعة المدرسين في الحوزة العلمية قم .

-----------
( 3 ) بحار الأنوار 75 : 345 42 مؤسسة الوفاء بيروت . و ثواب الأعمال : 310 1 الكتبي النجفي قم .

[ 531 ]

شعبة الذي كان منافقا باعتراف عثمان لمّا اعترض عليه بتولية المنافقين ،

و باعتراف عبد الرحمن بن عوف لمّا هنأ المغيرة عثمان بعد اختياره له و قد زنا المغيرة محصنا بالبصرة و قام عليه الشهود و منع عمر الشاهد الرابع من أداء شهادته ثم ولاّه الكوفة ، و عثمان كان يولّي مثل الوليد بن عقبة الذي كان يصلّي بهم الصبح أربعا سكران و يتغنّى في صلاته و يقول لهم في صلاته لو شئتم أزيد صلاة صبحكم على الأربع ، و كان يولّي مثل ابن عامر الذي نزل القرآن بكفره كالوليد بفسقه ، و كان النبيّ‏ّ صلّى اللّه عليه و آله أهدر دمه و لو كان لاصقا بثوب الكعبة ، مع أنّ مقتضى الديانة ألاّ يولّى إلاّ من كان متديّنا ناصحا للّه و الرسول .

« و أنقاهم جيبا » أي : أكثرهم أمانة .

« و أفضلهم حلما ممّن يبطى‏ء عن الغضب و يستريح إلى العذر » هكذا نقل المصنف ، و الصواب : ( و يسرع إلى العذر ) كما في ( التحف ) 1 و يشهد له السياق .

في الخبر قال رجل للنبي صلّى اللّه عليه و آله أوصني . قال : لا تغضب ، ثم أعاد فقال :

لا تغضب ، ثم أعاد فقال : لا تغضب 2 .

و عن النبيّ‏ّ صلّى اللّه عليه و آله : ليس الشديد بالصرعة ، إنّما الشديد من يملك نفسه عند الغضب 3 .

و قالوا : سمّى اللّه يحيى سيّدا بالحلم .

و شتم رجل الأحنف و ألحّ عليه ، فلمّا فرغ قال له : يا ابن أخي هل لك في

-----------
( 1 ) تحف العقول : 132 .

-----------
( 2 ) الكافي 2 : 303 ح 5 .

-----------
( 3 ) صحيح مسلم ، أحمد ( الجامع الصغير 2 : 135 ) .

[ 532 ]

الغذاء فإنّك منذ اليوم تحدو بجمل ثقال .

و استطال رجل على أحدهم فقال : أستغفر اللّه من الذنب الذي سلّطت به عليّ .

و في ( العيون ) نزل رجل بتغلبي فأتاه بقرى فما انفلت منه أن قال :

و التغلبيّ إذا تنحنح للقرى
حك استه و تمثّل الامثالا

فانقبض فقال : كل أيّها الرجل فإنّما قلت كلمة مقولة 1 .

و قال رجل لآخر : و اللّه لئن قلت واحدة لتسمعن عشرا . فقال الآخر : لكنك ان قلت عشرا لم تسمع واحدة .

و كان يقال : إيّاك و عزة الغضب فإنّها مصيّرتك إلى ذلّ الإعتذار .

هذا ، و كان المنصور ولّى سلم بن قتيبة البصرة و ولّى مولى له كور البصرة ، فورد كتاب مولاه أنّ سلما ضربه بالسياط ، فاستشاط المنصور و قال : علي تجرّأ سلم لأجعلنّه نكالا . فقال له ابن عيّاش و كان عليه جريئا إنّ سلما لم يضرب مولاك بقوته و لا قوّة أبيه و لكنّك قلّدته سيفك و أصعدته منبرك و أراد مولاك أن يطأطى‏ء منه ما رفعت و يفسد ما صنعت فلم يحتمل ذلك ، إنّ غضب العربي في رأسه فاذا غضب لم يهدأ حتى يخرجه بلسان أويد ،

و إنّ غضب النبطيّ في استه فإذا غضب خرى‏ء و ذهب غضبه . فضحك المنصور و قال : فعل اللّه بك يا منتوف و فعل . و كفّ عن سلم .

« و يرأف بالضعفاء و ينبو » من نبا السيف : إذا لم يعمل في الضريبة ، و من نبا عليه صاحبه : إذا لم ينفذ له ، قال :

أنا السيف إلاّ أنّ للسيف نبوة
و مثلي لا تنبو عليك مضاربه 2

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 397 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) أساس البلاغة : 445 ، مادة : ( نبو ) .

[ 533 ]

« على الأقوياء » و الأصل في قوله عليه السّلام « و يرأف بالضعفاء و ينبو على الأقوياء » قوله تعالى في أهل الايمان أشدّاء على الكفار رحماء بينهم 1 و كان هذا وصفه عليه السّلام يعرفه منه كلّ وليّ و عدوّ .

« و ممّن لا يثيره العنف و لا يقعد به الضعف » قالوا : قال عمر : إنّ هذا الأمر لا يصلح له إلاّ اللّيّن في غير ضعف ، و القويّ في غير عنف .

قلت : إلاّ أنّ عمر نفسه كان في غاية العنف حتى كلّم الناس كما في ( عيون ابن قتيبة ) عبد الرحمن بن عوف أن يكلّمه في أن يلين لهم فإنّه قد أخافهم حتى أنّه قد أخاف الأبكار في خدورهنّ . فقال : إنّي لا أجد لهم إلاّ ذلك ،

إنّهم لو يعلمون ما لهم عندي لأخذوا ثوبي عن عاتقي 2 . و قالوا : كان سوط عمر أهيب من سيف الحجاج .

« ثم ألصق بذي المروءات الاحساب » هكذا في ( المصرية ) أخذ كلمة « المروءات » من ( ابن أبي الحديد ) حيث جعلتها بين قوسين كما هو دأبها ، لكن ليست الكلمة في ( ابن ميثم ) و لا في رواية ( التحف ) 3 ، فالظاهر زيادتها و ان كانت في ( ابن أبي الحديد ) مع انّه قال « و الأحساب » فكان على ( المصرية ) أن تأخذ منه الواو أيضا .

« و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة » في ( العيون ) : قال عدي بن أرطأة لإياس بن معاوية : دلّني على قوم من القرّاء اولّهم . فقال له : القرّاء ضربان : ضرب يعملون للآخرة فهم لا يعملون لك ، و ضرب يعملون للدنيا فما ظنّك بهم إذا أنت ولّيتهم فمكّنتهم منها . قال : فما أصنع ؟ قال : عليك بأهل

-----------
( 1 ) الفتح : 29 .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 1 : 65 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 51 .

[ 534 ]

البيوتات الذين يستحيون لأحسابهم فولّهم 1 .

« ثم أهل النجدة » أي : النصرة . قال الشاعر :

إذا استنجدتهم و دعوت بكرا
لنصرتنا كسرت بهم همومي

« و الشجاعة و السخاء و السماحة » قال الجوهري : السماحة ، الجود ، إلاّ أنّ الظاهر أنّ الأصل فيها المسامحة ، قال المتلمّس :

صبا من بعد سلوته فؤادي
و سمح للقرينة بانقياد 2

في ( عيون ابن قتيبة ) كتب أنوشروان إلى مرازبته : عليكم بأهل الشجاعة و السخاء فإنّهم أهل حسن الظن باللّه 3 .

و كان الأحنف على جيش خراسان ، فبيّتهم العدو و فرّقوا جيوشهم أربع فرق و أقبلوا معهم الطبل ، ففزع الناس فكان أوّل من ركب ، الأحنف ، فأخذ سيفه و مضى نحو الصوت و هو يقول :

إنّ على كلّ رئيس حقّا
أن يخضب الصعدة أو تندقّا

ثم حمل على صاحب الطبل فقتله ، فلمّا فقد أصحاب الصوت الطبل انهزموا ففتح مرو الروذ 4 .

« فانهم جماع من الكرم و شعب من العرف » زاد في رواية ( التحف ) « يهدون إلى حسن الظنّ باللّه ، و الإيمان بقدره » 5 .

« ثم تفقد من أمورهم ما يتفقد » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( يتفقده )

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 71 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) الصحاح 1 : 376 .

-----------
( 3 ) عيون الأخبار 1 : 266 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 4 ) عيون الأخبار 1 : 267 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 132 .

[ 535 ]

كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 1 .

« الولدان من ولدهما » في ( العقد ) كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز : الإمام العدل كالامّ الشفيقة البرّة الرفيقة بولدها ، حملته كرها و وضعته كرها و ربّته طفلا ، تسهر بسهره و تسكن بسكونه ، ترضعه تارة و تفطمه اخرى ، و تفرح بعافيته و تغتمّ بشكاته .

و في ( كامل المبرد ) : انّ المهلب لمّا قتل عبد ربه الخارجي و استولى على عسكره بعث رسولا بالفتح إلى الحجّاج ، فسأله الحجّاج فيما سأله : كيف كان لكم المهلّب و كنتم له ؟ قال : كان لنا منه شفقة الوالد و له منّا برّ الولد .

« و لا يتفاقمن » أي : لا يعظمن « في نفسك شي‏ء قوّيتهم به ، و لا تحقرنّ لطفا تعاهدتهم به » أي : جدّدت عهدهم به ، و قال الجوهري : التعهد التحفّظ بالشي‏ء و تجديد العهد به ، و تعهّد فلانا و تعهّدت ضيعتي ، و هو أفصح من قولك « تعاهدته » لأنّ التعاهد إنّما يكون بين اثنين 2 .

قلت : إن سلّم كون « تعهدت ضيعتي » أفصح من « تعاهدتها » فلا نسلّم أفصحية « تعهدت فلانا » من « تعاهدته » ، بدليل كلامه عليه السّلام ، و ليس التفاعل مطلقا بين اثنين كقوله تعالى : تساقط عليك رطبا جنيا 3 و كقولهم : تجاهل زيد و تمارض عمرو .

« و إنّ قلّ فإنّه داعية لهم إلى بذل النصيحة لك و حسن الظنّ بك » في ( عيون ابن قتيبة ) سئل بعض الحكماء عن أشدّ الامور تدريبا للجنود و شحذا لها فقال :

استعادة القتال و كثرة الظفر ، و أن تكون لها مواد من ورائها و غنيمة فيما

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 51 .

-----------
( 2 ) الصحاح 2 : 516 .

-----------
( 3 ) مريم : 25 .

[ 536 ]

أمامها ، ثم الإكرام للجيش بعد الظفر و الإبلاغ بالمجتهدين بعد المناصبة و التشريف للشجاع على رؤوس الناس 1 .

و في ( الطبري ) : أراد معن بن زائدة أن يوفد إلى المنصور قوما يسلّون سخيمته و يستعطفون قلبه عليه و قال : قد أفنيت عمري في طاعته و أفنيت رجالي في حرب اليمن ثم يسخط عليّ أن أنفقت المال في طاعته فانتخب جماعة من عشيرته من أفناء ربيعة ، فكان فيمن اختار مجاعة بن الأزهر إلى أن قال فقال مجاعة للمنصور : معن عبدك و سيفك و سهمك ، رميت به عدوّك فضرب و طعن و رمى حتى سهل ما حزن و ذلّ ما صعب و استوى ما كان معوجا من اليمن ، فأصبحوا من خولك ، فان كان في نفسك هنة من ساع أو واش أو حاسد فأنت أولى بالتفضل على عبده و من أفنى عمره في طاعته .

فقبل العذر من معن ، فلمّا صار إلى معن و قرأ الكتاب بالرضى قبّل بين عينيه فقال مجاعة :

آليت في مجلس من وائل قسما
ألاّ أبيعك يا معن بأطماع

يا معن إنّك قد أوليتني نعما
عمّت لجيما و خصت آل مجّاع

فلا أزال إليك الدهر منقطعا
حتى يشيد بهلكي هتفه الناعي

و كانت نعم معن على مجاعة أنّه سأله ثلاث حوائج : منها أنّه كان يتعشّق امرأة من أهل بيته سيدة يقال لها زهراء لم يتزوجها أحد بعد و كانت إذا ذكر لها قالت بأي شي‏ء يتزوجني ؟ أبجبته الصوف أم بكسائه ؟ فلمّا رجع إلى معن كان أوّل شي‏ء سأله أن يزوّجه بها ، و كان أبوها في جيش معن فقال :

أريد زهراء و أبوها في عسكرك . فزوّجه إيّاها على عشرة آلاف درهم و أمهرها من عنده ، و منها أنّه قال له : الحائط الذي فيه منزلي صاحبه في عسكرك ،

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 195 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 537 ]

فاشتراه منه و صيّره له ، و منها أنّه أمر له بثلاثين ألف درهم و صرفه 1 .

و في ( كامل المبرد ) قال الحجاج للمهلب بعد ظفره بالخوارج : اذكر لي القوم الذين أبلوا وصف لي بلاءهم ، فوصف جمعا ذكر في جملتهم الرقّاد ،

فقال الحجّاج : فأين الرقّاد ، فدخل رجل طويل فقال المهلب : هذا فارس العرب .

فقال الرقّاد للحجّاج : إنّي كنت أقاتل مع غير المهلّب ، فكنت كبعض الناس ، فلمّا صرت مع من يلزمني الصبر و يجعلني أسوة نفسه ، و ولده و يجازيني على البلاء صرت فارسا 2 .

« و لا تدع تفقّد لطيف أمورهم اتّكالا على جسيمها ، فإنّ لليسير من لطفك موضعا ينتفعون به » في ( العيون ) لم يكن لخالد بن برمك أخ إلاّ بنى له دارا على قدر كفايته ، و وقف على أولاد الإخوان ما يعيشهم أبدا ، و لم يكن لإخوانه ولد إلاّ من جارية وهبها هو لهم 3 .

« و ليكن آثر رؤوس جندك عندك » أي : أكثرهم مختارا عندك .

« من واساهم » قال في الجمهرة يقال : آسيت الرجل و واسيته مواساة 4 .

« في معونته و أفضل » أي : تفضل .

« عليهم من جدته » في ( سر عربية الثعالبي ) : « وجد » كلمة مبهمة ليس للعرب كلمة مثلها فيختلف معانيها باختلاف مصدرها ، ففي ضد العدم يقال « وجودا » و في الغضب « موجدة » و في الضالّة « وجدانا » و في الحزن « وجدا » و في المال « وجدا » و « جدة » .

« بما يسعهم و يسع من وراءهم من خلوف » بالفتح .

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 8 : 65 دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) الكامل 3 : 409 دار النهضة القاهرة .

-----------
( 3 ) عيون الأخبار 1 : 462 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 4 ) جمهرة اللغة 1 : 238 دار العلم للملايين بيروت .

[ 538 ]

« أهليهم » قال ابن دريد حي خلوف : إذا غزا الرجال و بقي النساء 1 .

« حتى يكون همّهم همّا واحدا في جهاد العدوّ » قال المنصور لبعض قوّاده :

صدق الذي قال : « أجع كلبك يتبعك و سمّنه يأكلك » فقال له أبو العباس الطوسي : إن أجعته يلوّح له غيرك برغيف فيتبعه و يدعك .

« فإنّ عطفك عليهم يعطف قلوبهم عليك » زاد قبله في رواية ( التحف ) « ثمّ واتر أعلامهم ذات نفسك في إيثارهم ، و التكرمة لهم ، و الإرصاد بالتوسعة ،

و حقّق ذلك بحسن الفعال ، و الأثر و العطف » 2 .

في ( العقد ) قالت الحكماء : أسوس الناس لرعيته من قاد أبدانها بقلوبها و قلوبها بخواطرها ، و خواطرها بأسبابها من الرغبة و الرهبة 3 .

« و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد ، و ظهور مودة الرعية ،

و إنّه لا تظهر مودّتهم إلاّ بسلامة صدورهم » هذا الكلام بجملته من « و إن » إلى « صدورهم » نظير ما مرّ من قوله : « و ليس يخرج الوالي إلى في ما خفّ عليه أو ثقل » في كونه من كلامه عليه السّلام لكن ليس من النهج بشهادة ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية به لخلوها عنه و هي النسخ الصحيحة من النهج ، و إنّما أخذه بعضهم من رواية ( التحف ) فألحقه حاشية بالنهج فخلطت ( المصرية ) أو من قبلها الحاشية بالمتن مع تحريف « الإستفاضة » بالاستقامة 4 .

و كيف كان ففي ( تاريخ اليعقوبي ) قال الزهري : دخلت يوما على عمر بن عبد العزيز فبينا أنا عنده إذ أتاه كتاب من عامل أنّ مدينته قد احتاجت إلى مرّمة ، فقلت له : ان بعض عمّال علي بن أبي طالب عليه السّلام كتب إليه بمثل هذا ،

-----------
( 1 ) جمهرة اللغة 1 : 616 دار العلم للملايين بيروت .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 133 .

-----------
( 3 ) العقد الفريد 1 : 26 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 133 ، حد 17 : 51 .

[ 539 ]

فكتب عليه السّلام إليه : « أمّا بعد فحصّنها بالعدل ، و نقّ طرقها من الجور » فكتب بذلك إلى عامله 1 .

« و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الامور » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( أمورهم ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 2 .

في ( العقد ) قال أردشير لابنه : إنّ الملك و العدل لا غنى بأحدهما عن صاحبه فالملك اسّ و العدل حارس ، و ما لم يكن له أسّ فمهدوم ، و ما لم يكن له حارس فضائع . يا بنيّ اجعل حديثك مع أهل المراتب ، و عطيّتك لأهل الجهاد ،

و بشرك لأهل الدين ، و سرّك لمن عناه ما عناك من ذوي العقول .

و قالت الحكماء : ممّا يجب على السلطان العدل في ظاهر أفعاله لإقامة أمر سلطانه ، و في باطن ضميره لإقامة أمر دينه ، فإذا فسدت السياسة ذهب السلطان و مدار السياسة كلّها على العدل و الإنصاف ، لا يقوم سلطان لأهل الكفر و الإيمان إلاّ بهما ، و لا يدور إلاّ عليهما مع ترتيب الامور مراتبها و إنزالها منازلها 3 .

و خطب سعيد بن سويد بحمص فقال : أيّها الناس إنّ الإسلام حائط منيع و باب وثيق ، فحائط الإسلام الحقّ و بابه العدل ، و لا يزال الإسلام منيعا ما اشتدّ السلطان ، و ليس اشتداد السلطان قتلا بالسيف و لا ضربا بالسوط ، و لكن قضاء بالحق و أخذا بالعدل 4 .

« و قلّة استثقال دولهم ، و ترك استبطاء انقطاع مدتهم » في ( العقد ) كتب أبرويز لابنه شيرويه يوصيه : ليكن من تختاره لولايتك امرأ كان في ضعة

-----------
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 306 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 51 .

-----------
( 3 ) العقد الفريد 1 : 23 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 4 ) العقد الفريد 1 : 27 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 540 ]

فرفعته أو ذا شرف كان مهملا فاصطنعته ، و لا تجعله امرأ أصبته بعقوبة فاتضع لها و لا أحدا ممّن يقع بقلبه أنّ إزالة سلطانك أحبّ إليه من ثبوته 1 .

و في ( الأغاني ) : لمّا ظفر ابن الزبير بالعراق و أخرج عنها عمّال بني امية خرج ابن عبدل معهم إلى الشام ، و كان ممّن يدخل على عبد الملك و يسمر عنده فقال له ليلة :

يا ليت شعري و ليت ربما نفعت
هل ابصرن بني العوّام قد شملوا

بالذل و الأسر و التشريد انهم
على البريّة حتف حيثما نزلوا

أم هل أراك بأكتاف العراق و قد
ذلّت لعزّك أقوام و قد نكلوا

فقال عبد الملك :

إن يمكن اللّه من قيس و من جرش
و من جذام و يقتل صاحب الحرم

نضرب جماجم أقوام على حنق
ضربا ينكّل عنّا ساير الامم 2

« فأفسح » أي : أوسع « في آمالهم و واصل في حسن الثّناء عليهم » أي : أدم حسن الثناء عليهم وصل ثاني الثناء بالأوّل و هكذا « و تعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم » أي : تفصّل بالعد أفعالهم الحسنة .

في ( كامل المبرد ) : قدم المهلب بعد ظفره بالخوارج على الحجّاج فأجلسه إلى جانبه و أظهر إكرامه و برّه و قال : يا أهل العراق أنتم عبيد المهلب ،

ثم قال : أنت و اللّه كما قال لقيط الأيادي :

و قلّدوا أمركم للّه درّكم
رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

لا يطعم النّوم إلاّ ريث يبعثه
همّ يكاد حشاه يقصم الضلعا

لا مترفا إن رخاء العيش ساعده
و لا إذا عضّ مكروه به خشعا

-----------
( 1 ) العقد الفريد 1 : 27 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) الأغاني 2 : 420 دار احياء التراث العربي .

[ 541 ]

ما زال يحلب هذا الدهر أشطره
يكون متبعا طورا و متبعا

حتى استمرت على شزر مريرته
مستحكم الرأي لا قحما و لا ضرعا

فقام إليه رجل فقال للحجّاج : و اللّه لكأنّي أسمع الساعة قطريا و هو يقول في المهلب كما قال لقيط الأيادي ، ثم أنشد هذه الأشعار فسّر الحجّاج به ، حتى امتلأ سرورا 1 .

« فإنّ كثرة الذّكر لحسن أفعالهم » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( فعالهم ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 2 .

« تهزّ » أي : تحرّك .

« الشجاع » في مقاتل الطالبيين في حرب إبراهيم بن عبد اللّه الحسني ، قال المفضل الضبّي : لمّا التحمت الحرب و اشتدّت بينه و بين عسكر المنصور قال لي : حرّكني بشي‏ء ، فذكرت أبياتا لعويف القوافي :

ألا يا أيّها النّاهي فزارة بعد ما
أجدّت بسير إنّما أنت حالم

ترى كلّ حرّ أن يبيت بوتره
و يمنع منه النوم إذ أنت نائم

أقول لفتيان كرام تروّحوا
على الجرد في أفواههنّ الشكائم

قفوا وقفة من يحي لا يخز بعدها
و من يخترم لا تتّبعه اللّوائم

و هل أنت إن باعدت نفسك منهم
لتسلم في ما بعد ذلك سالم

فقال : أعد ، و تبيّنت في وجهه انّه سيقتل ، فتنبّهت و قلت : أو غير ذلك ؟

قال : لا بل أعد الأبيات ، فأعدتها ، فتمطّى في ركابيه ، فقطعهما و حمل ، فغاب عني ، و أتاه سهم غائر ، فقتله ، و كان آخر عهدي به 3 .

-----------
( 1 ) الكامل 3 : 405 دار النهضة القاهرة .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 52 .

-----------
( 3 ) مقاتل الطالبيين : 249 .

[ 542 ]

« و تحرّض » أي : ترغّب .

« الناكل » أي : الجبان الضعيف .

« إن شاء اللّه » زاد بعده في رواية ( التحف ) : « ثم لا تدع أن يكون لك عليهم عيون من أهل الأمانة ، و القول بالحقّ عند الناس ، فيثبتون بلاء كلّ ذي بلاء منهم ليثق أولئك بعلمك ببلائهم » 1 .

« ثم أعرف لكل امرى‏ء منهم ما أبلى » في ( كامل المبرد ) : لمّا ظفر المهلّب بالخوارج وجّه كعب بن معدان الأشقري إلى الحجّاج فقال له الحجّاج : أخبرني عن بني المهلّب . قال : المغيرة فارسهم و سيّدهم و كفى بيزيد فارسا و شجاعا و جوادهم و سخيهم قبيصة ، و لا يستحي الشجاع أن يفر من « مدرك » ، و عبد الملك سم ناقع ، و حبيب موت زعاف ، و محمد ليث غاب ، و كفاك بالمفضّل نجدة قال : فكيف كانوا فيكم ؟ قال : كانوا حماة السرح نهارا فإذا أليلوا ففرسان البيات قال : فأيّهم كان أنجد ؟ قال : كانوا كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفها 2 .

« و لا تضيفن » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( و لا تضمّنّ ) كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية بل و في رواية ( التحف ) 3 .

« بلاء امرى‏ء إلى غيره » فتكون ظلمت ذا البلاء .

« و لا تقصرن به دون غاية بلائه » زاد في رواية ( التحف ) « و كاف كلاّ منهم بما كان منه ، و اخصصه منك بهزّه » 4 .

في ( كامل المبرد ) : ان الحجاج قال للمهلب بعد ظفره بالخوارج و قدومه

-----------
( 1 ) تحف العقول : 133 و 134 .

-----------
( 2 ) الكامل للمبرد 3 : 403 دار النهضة القاهرة .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 134 .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 134 .

[ 543 ]

عليه اذكر لي القوم الذين أبلوا ، وصف لي بلاءهم . فذكرهم على مراتبهم في البلاء و تفاضلهم في الغناء ، و قدم بنيه المغيرة و يزيد و مدركا و حبيبا و قبيصة و المفضل و عبد الملك و محمدا و قال : انّه و اللّه لو تقدّمهم أحد في البلاء لقدّمته عليهم و لو لا أن أظلمهم لأخّرتهم . قال الحجاج : صدقت و ما أنت بأعلم بهم مني و ان حضرت و غبت ، إنّهم لسيوف من سيوف اللّه 1 .

« و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظم من بلائه ما كان صغيرا ، و لا ضعة امرى‏ء إلى ان تستصغر من بلائه ما كان عظيما » هذا الكلام في غاية النفاسة ، فإن أكثر الناس ينظرون إلى مراتب الرجال لا إلى مقادير الأعمال ، و هو من سخافة عقولهم .

هذا و زاد في رواية ( التحف ) « و لا يفسدنّ امرأ عندك علّة إن عرضت له ،

و لا نبوة حديث له ، قد كان له فيها حسن بلاء ، فإنّ العزة للّه يؤتيه من يشاء و العاقبة للمتقين ، و إن استشهد أحد من جنودك ، و أهل النكاية في عدوك ،

فاخلفه في عياله بما يخلف به الوصي الشفيق الموثق به ، حتّى لا يرى عليهم أثر فقده ، فإنّ ذلك يعطف عليك قلوب شيعتك ، و يستشعرون به طاعتك ،

و يسلسون لركوب معاريض التلف الشديد في ولايتك » 2 .

« و أردد إلى اللّه و رسوله ما يضلعك » أي : يثقلك ثقلا يميلك . قال الأعشى :

عنده البر و التّقى و أسى الصّدع
و حمل لمضلع الأثقال

« من الخطوب » أي : الأمور العظيمة ، قال ابن دريد : الخطب ، الأمر العظيم 3 « و يشتبه عليك من الأمور ، فقد قال اللّه تعالى ) هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

-----------
( 1 ) الكامل للمبرد 3 : 409 دار النهضة مصر القاهرة .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 134 .

-----------
( 3 ) جمهرة اللغة 1 : 291 دار العلم للملايين بيروت .

[ 544 ]

( سبحانه ) كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية 1 .

« لقوم أحب ارشادهم : يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول و اولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شي‏ء فردوه إلى اللّه و الرسول » 2 ، و بعده ان كنتم تؤمنون باللّه و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا 3 .

و زاد في رواية ( التحف ) : « و قال تعالى : و لو ردّوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم و لو لا فضل اللّه عليكم و رحمته لاتّبعتم الشيطان إلاّ قليلا » 4 .

« فالردّ إلى اللّه الأخذ بمحكم كتابه ، و الردّ إلى الرسول الأخذ بسنته الجامعة غير المفرقة » و زاد في رواية ( التحف ) : « و نحن أهل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذين نستنبط المحكم من كتابه ، و نميّز المتشابه منه ، و نعرف الناسخ ممّا نسخ اللّه ،

و وضع إصره ، فسر في عدوّك بمثل ما شاهدت منّا في مثلهم من الأعداء » 5 .

و يظهر من كلامه عليه السّلام أنّ الحجّة تنحصر في محكم الكتاب و السنة المجمع عليها ، و أنّ إجماع الناس على شي‏ء من غير إحراز كونه سنّة ، لا عبرة به .

« ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك » في ( تاج الجاحظ ) : يقال إن سابور ذا الإكتاف لمّا مات موبدان موبد وصف له رجل من كورة إصطخر أنّه يصلح لقضاء القضاة في العلم و التألّه و الأمانة ، فوجّه إليه فلمّا قدم دخل عليه و دعا بالطعام و دعاه إليه فدنا فأكل معه ، فأخذ سابور دجاجة فنصّفها

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 52 .

-----------
( 2 ) النساء : 59 .

-----------
( 3 ) المصدر نفسه .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 134 ، و الآية 83 من سورة النساء .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 135 .

[ 545 ]

و وضع نصفها بين يدي الرجل و نصفها بين يديه ، و أومى إليه أن كل من الدجاجة و لا تخلط بها طعاما فإنّه أمرأ لطعامك و أخفّ على معدتك ، و أقبل سابور على النصف فأكل كنحو ما كان يأكل ، ففرغ الرجل من النصف قبل سابور ثم مدّ يده إلى طعام آخر و سابور يلحظه ، فلمّا رفعت المائدة قال له :

ودّع و انصرف إلى بلدك ، فإن سلفنا من الملوك كانوا يقولون : من شره بين يدي الملوك إلى الطعام كان إلى أموال الرعيّة و السّوقة و الوضعاء أشدّ شرها .

« ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحّكه الخصوم » أي : يحملونه على اللجاج .

في العقد : تنازع إبراهيم بن المهدي و بختيشوع الطبيب بين يدي أحمد بن أبي دؤاد القاضي في مجلس الحكم في عقار بناحية السواد ، فزرى عليه إبراهيم و أغلظ له ، فأحفظ ذلك القاضي فقال : يا إبراهيم إذا نازعت أحدا في مجلس الحكم فلا تعلينّ ما رفعت عليه صوتا و لا تشر إليه بيد ، و ليكن قصدك أمما و طريقك نهجا و ريحك ساكنة ، و وفّ مجالس الحكومة حقوقها 1 .

و في ( العيون ) : قال علقمة بن مرثد لمحارب بن دثار و كان على القضاء إلى كم تردد الخصوم ؟ فقال : إنّي و الخصوم كما قال الأعشى :

أرقت و ما هذا السهاد المؤرق
و ما بي من سقم و ما بي معشق

و لكن أراني لا أزال بحادث
اغادي بما لم يمس عندي و أطرق

و سأل رجل إياس بن معاوية عن مسألة فطوّل فيها فقال له أياس : إن كنت تريد الفتيا فعليك بالحسن معلمي و معلّم أبي ، و إن كنت تريد القضاء فعليك بعبد الملك بن يعلى و كان على قضاء البصرة يومئذ و إن كنت تريد الصلح فعليك بحميد الطويل و تدري ما يقول لك يقول لك : حطّ شيئا و يقول لصاحبك : زده شيئا حتى نصلح بينكما ، و ان كنت تريد الشغب فعليك بصلح

-----------
( 1 ) العقد الفريد 1 : 79 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 546 ]

السدوسي و تدري ما يقول ، يقول لك : اجحد ما عليك ، و يقول لصاحبك ادّع ما ليس لك و ادع بيّنة غيبا 1 .

و قال ابن أبي الحديد : إرتفعت جميلة بنت عيسى و كانت جميلة كاسمها مع خصم لها إلى الشّعبي و هو قاضي عبد الملك فقضى لها ، فقال هذيل الأشجعي :

فتن الشّعبيّ لمّا
رفع الطّرف إليها

فتنته بثناياها
و قوسي حاجبيها

و مشت مشيا رويدا
ثم هزّت منكبيها

فقضى جورا على الخصم
و لم يقض عليها

فقبض الشعبي عليه و ضربه ثلاثين سوطا ، ثم انصرف يوما من مجلس القضاء و قد شاعت الأبيات و تناشدها الناس و جمع معه ، فمرّ بخادم تغسل الثياب و تقول « فتن الشعبي لمّا » و لا تحفظ تتمة البيت ، فوقف عليها و لقّنها « رفع الطرف إليها » ، ثم ضحك و قال : أبعده اللّه ، و اللّه ما قضينا لها إلاّ بالحق 2 .

قلت : و في ( العقد ) ان المرأة لمّا أدلت بحجتها قال الشعبي للزوج : هل عندك من مدفع ، فأنشأ « فتن الشعبي » الأبيات ثم دخل الشعبي على عبد الملك فلمّا نظر إليه تبسّم و قال : « فتن الشعبي لمّا رفع الطرف إليها » ثم قال له :

ما فعلت بقائل هذه الأبيات ؟ فقال : أوجعته ضربا بما انتهك من حرمتي في مجلس الحكومة و بما افترى به عليّ . قال : أحسنت .

« و لا يتمادى في الزّلّة » في ( مختلف أخبار ابن قتيبة ) قال حمّاد بن يزيد :

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 128 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 66 67 .

[ 547 ]

شهدت أبا حنيفة و قد سئل عن محرم لم يجد إزارا ، فلبس سراويل ، فقال : عليه الفدية . فقلت : سبحان اللّه ، حدّثنا عمرو بن دينار عن جابر بن يزيد عن ابن عباس قال سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول في المحرم : إذا لم يجد إزارا لبس سراويل ،

و إذا لم يجد نعلين لبس خفين . فقال : دعنا من هذا ، حدّثنا حمّاد عن إبراهيم أنّه قال : عليه الكفارة 1 .

« و لا يحصر » أي : لا يضيق صدرا ( من الفي‏ء ) أي الرجوع .

« إلى الحق إذا عرفه » روى ابن قتيبة أيضا عن أبي عوانة قال : كنت عند أبي حنيفة ، فسئل عن رجل سرق وديا . فقال : عليه القطع . فقلت له : حدّثنا يحيى بن سعيد عن ابن حبّان عن رافع بن خديج عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال : لا قطع في ثمر و لا كثر . فقال : ما بلغني هذا . فقلت : فالرجل الذي أفتيته ردّه . قال : دعه ، فقد جرت به البغال الشهب 2 .

« و لا تشرف نفسه على طمع » قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : الرشاء في الحكم هو الكفر باللّه 3 .

« و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه » في الموضوعات و الأحكام ، قال بعضهم : إذا أتاك الخصم و قد فقئت عينه فلا تحكم له حتى يأتي خصمه فلعله قد فقئت عيناه جميعا .

« و أوقفهم في الشبهات و آخذهم في الحجج » عن الشعبي قال : كنت جالسا عند شريح إذ دخلت عليه امرأة تشتكي زوجها و هو غائب و تبكي بكاء شديدا .

فقلت : ما أراها إلاّ مظلومة . قال : و ما علمك ؟ قلت : لبكائها . قال : لا تفعل فإن إخوة

-----------
( 1 ) تأويل مختلف الحديث : 52 .

-----------
( 2 ) تأويل مختلف الحديث : 52 .

-----------
( 3 ) الكافي 5 : 127 ح 3 .

[ 548 ]

يوسف جاءوا أباهم عشاء يبكون و هم له ظالمون 1 .

« و أقلّهم تبرّما » أي : ضجرا و ملالا .

« بمراجعة الخصم » في ( العيون ) قدم أياس الشام و كان غلاما فقدّم خصما له شيخا كبيرا إلى قاض لعبد الملك ، فقال له القاضي : أ تقدّم شيخا كبيرا إليّ ؟ فقال أياس : الحق أكبر منه . قال : اسكت . قال : فمن ينطق بحجتي ؟

قال : ما أظنّك تقول حقّا حتى تقوم . قال : أشهد ألاّ إله إلاّ اللّه . فقام القاضي فدخل على عبد الملك فأخبره بالخبر فقال : إقض حاجته و أخرجه من الشام لا يفسد عليّ الناس 2 .

« و أصبرهم على تكشّف الأمور » في ( أذكياء ابن الجوزي ) قال أبو السائب :

كان ببلدنا همدان رجل مستور فأحبّ القاضي قبول قوله ، فسأل عنه فزكّي له سرّا و جهرا ، فراسله في حضور المجلس ليقبل قوله و أمر بأخذ خطّه في كتب ليحضر فيقيم الشهادة فيها ، و جلس القاضي و حضر الرجل مع الشهود ، فلمّا أراد إقامة الشهادة لم يقبله القاضي ، فسئل عن سبب ذلك فقال : إنكشف لي أنّه مراء فلم يسعني قبول قوله ، فقيل له : و كيف ؟ قال : كان يدخل إليّ في كلّ يوم فأعد خطواته من حيث تقع عيني عليه من داري إلى مجلسي ، فلمّا دعوته اليوم للشهادة جاء فعددت خطاه من ذلك المكان فإذا هي قد زادت خطوتين أو ثلاثا فعلمت أنّه متصنّع فلم أقبله 3 .

« و أصرمهم » أي : أقطعهم .

« عند اتّضاح الحكم » في ( الأذكياء ) أيضا : باع رجل من أهل خراسان

-----------
( 1 ) ربيع الأبرار 1 : 696 انتشارات الشريف الرضي قم .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 1 : 139 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) الأذكياء : 80 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 549 ]

جمالا بثلاثين ألف درهم من وكيل زبيدة فمطله بثمنها ، فأتى بعض أصحاب حفص بن غياث فشاوره فقال له : اذهب إليه فقل له : أعطني ألف درهم و أحيل عليك بالمال الباقي و أخرج إلى خراسان ، فإذا فعل هذا فأتني حتى أشاور عليك . ففعل فأعطاه ألف درهم فرجع فأخبره ، فقال : عد إليه فقل له : إذا ركبت غدا فطريقك على القاضي فأحضر و أوكل رجلا بقبض المال و أخرج فإذا جلس إلى القاضي فادّع عليه بما بقي لك . ففعل ، فحبسه القاضي فقالت زبيدة لهارون : قاضيك حبس وكيلي فمره لا ينظر في الحكم ، فأمر لها بالكتاب و بلغ حفصا الخبر فقال للرجل : أحضر لي شهودا حتى اسجّل لك على الوكيل قبل ورود كتاب الخليفة ، فحضر فقال للرجل : مكانك فلمّا فرغ من السجل أخذ الكتاب فقرأه فقال للخادم : قل للخليفة إنّ كتابه ورد و قد أنفذت الحكم 1 .

« ممّن لا يزدهيه » أي : لا يستخفّه ، قال عمر بن أبي ربيعة :

فلمّا توافقنا و سلّمت أقبلت
وجوه زهاها الحسن أن تتقنّعا 2

« اطراء » أي : مدح ، في ( الجهشياري ) : كان يحيى بن خالد يقول : لست ترى أحدا تكبّر في إمارة إلاّ و قد دلّ على أن الذي نال فوق قدره ، و لست ترى أحدا تواضع في إمارة إلاّ و هو في نفسه أكثر ممّا نال في سلطانه .

« و لا يستميله إغراء » أي : تحضيض و تحريص ، في ( العيون ) كان المغيرة بن عبيد اللّه الثقفي قاضيا على الكوفة فأهدى إليه رجل سراجا من شبه و بلغ ذلك خصمه فبعث إليه ببغلة ، فلمّا اجتمعا عنده جعل يحمل على صاحب السراج و جعل صاحب السراج يقول : إن أمري أضوء من السراج ، فلمّا أكثر

-----------
( 1 ) الأذكياء : 79 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) لسان العرب 14 : 361 ، مادة : ( زها ) .

[ 550 ]

عليه قال : ويحك إنّ البغلة رمحت السراج فكسرته 1 .

« و أولئك قليل » و في رواية ( التحف ) : « فولّ قضاءك من كان كذلك و هم قليل » 2 .

و كلامه عليه السّلام مأخوذ من قوله تعالى و إنّ كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلاّ الذين آمنوا و عملوا الصالحات و قليل ما هم 3 .

« ثم أكثر تعاهد » و في رواية ( التحف ) « تعهّد » 4 .

« قضائه و افسح » أي : أوسع « له في البذل ما يزيل » و في رواية ( التحف ) « يزيح » .

« علته » زاد في ( التحف ) « و يستعين به » 5 .

« و تقلّ معه حاجته إلى الناس ، و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال » أي : شرّهم .

« له عندك فانظر في ذلك نظرا بليغا فإنّ هذا الدين قد كان أسيرا في أيدي الأشرار يعمل فيه بالهوى و يطلب به الدنيا » .

قال ابن أبي الحديد : هذه إشارة إلى قضاة عثمان و حكّامه و أنّهم لم يكونوا يقضون بالحق عنده ، بل بالهوى لطلب الدنيا ، و أمّا أصحابنا فيقولون :

إنّ عثمان كان ضعيفا و استولى عليه أهله ، و قطعوا الامور دونه ، فإثمهم عليهم و عثمان بري‏ء منهم 6 .

قلت : لم يعلم إرادته عليه السّلام لخصوص زمان عثمان ، و من أين إنّه لم يرد

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 114 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 135 و 136 .

-----------
( 3 ) ص : 24 .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 136 .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 136 .

-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 60 .

[ 551 ]

زمان جميع المتقدّمين عليه ، و تشهد له كلماته عليه السّلام فيهم في غير مقام ، و منها في الشقشقية ، كما أن المسلم من ضعف عثمان عدم قدرته الدفع عن نفسه لمّا أجمع المهاجرون و الأنصار على قتله و استحلوا دمه و خذله معاوية لحبه صيرورة دمه وسيلة لنيل الأمر إليه ، و أمّا استيلاء أهله عليه فلا فمن ولاّهم و كان راضيا بأفعالهم حتى بفعل أخيه لامه الوليد بن عقبة الذي شرب و صلّى بالناس الصبح أربعا في سكره و غنى في صلاته و تكلّم فيها فقال للناس : ان شئتم أزيدكم الصبح على الأربع ، فلم يرد إقامة الحد عليه بعد إقامة أهل الكوفة الشهود على شربه حتى اقامه أمير المؤمنين عليه السّلام عليه رغما لأنفه .

و قال ابن عبد البرفي ( استيعابه ) قال الحسن البصري : إن أبا سفيان دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال : قد صارت إليك بعد تيم وعدي ، فأدرها كالكرة و اجعل أوتادها بني امية ، فإنّما هو الملك و لا أدري ما جنّة و لا نار . . . 1 . و قد قبل منه عثمان ذلك فعالا و ان رووا أنّه أنكر قوله في الظاهر مقالا .

و قال ابن أبي الحديد نفسه في موضع آخر : مرّ أبو سفيان أيّام عثمان بقبر حمزة ، فضربه برجله و قال : يا أبا عمارة إنّ الأمر الّذي اجتلدنا عليه بالسيف ، أمسى في يد غلماننا اليوم يتلعّبون به 2 .

و أما ما نقله عن أصحابه من كون إثمهم عليهم و عثمان لا إثم عليه ، فقد قال محمد بن أبي بكر لمعاوية بن حديج لمّا أراد قتله و قال له : أقتلك بعثمان :

ما أنت و عثمان ؟ إنّ عثمان عمل بالجور و نبذ حكم القرآن و قد قال تعالى

-----------
( 1 ) الإستيعاب 4 : 87 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 16 : 136 .

[ 552 ]

و من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون 1 فنقمنا ذلك عليه فقتلناه و حسّنت أنت له ذلك و نظراؤك فقد برّأنا اللّه تعالى إن شاء اللّه من ذنبه و أنت شريكه في عظم ذنبه و جاعلك على مثاله .

« ثمّ انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا » في ( العيون ) عن معمّر : قال والي اليمن لابن شبرمة : قد دعيت لأمر عظيم للقضاء . قال : ما أيسر القضاء .

فقال له ابن شبرمة : فنسألك عن شي‏ء يسير منه . قال : سل . قال : ما تقول في ضرب بطن شاة حامل فألقت ما في بطنها . فسكت الرجل فقال له : انّا بلوناك فما وجدنا عندك شيئا . قال : فما القضاء فيها . فقال : تقوّم حاملا و حائلا و يغرم قدر ما بينهما 2 .

هذا ، و ( فيه أيضا ) كان يحيى بن أكثم يمتحن من يريدهم للقضاء فقال لرجل : ما تقول في رجلين زوج كلّ واحد منهما الآخر أمه فولد لكل واحد امرأته ولد ما قرابة بين الوالدين ، فلم يعرفها فقال له يحيى : كلّ واحد من الولدين عم الآخر لامه 3 .

« و لا تولّهم محاباة » قال ( الجوهري ) : الحباء العطاء ، قال الفرزدق :

« و إليه
كان حبا جفنة ينقل »

و حابيته في البيع محاباة 4 .

« و أثرة » بفتحتين ، أي : استبدادا .

في ( العيون ) : السلطان الحازم ربما أحبّ الرجل فأقصاه و اطّرحه مخافة ضرّه فعل الذي يلسع الحية إصبعه فيقطعها لئلاّ ينتشر سمّها في جسده ، و ربّما أبغض الرجل فأكره نفسه على توليته و تقريبه لغناء يجده

-----------
( 1 ) المائدة : 47 .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 1 : 131 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) عيون الأخبار 1 : 131 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 4 ) الصحاح 6 : 2308 .

[ 553 ]

عنده كتكاره المرء على الدواء البشع لنفعه .

و في ( العقد ) في مجاوبة ابن عباس و معاوية قال معاوية لابن عباس :

استعملك عليّ على البصرة و قد استعمل أخاك عبيد اللّه على اليمن و استعمل أخاك قثما على المدينة ، فلمّا كان من الأمر هنأتكم ما في أيديكم و لم أكشفكم عمّا وعت غرائزكم إلى أن قال فقال له ابن عباس : و أمّا استعمال عليّ عليه السّلام إيّانا فلنفسه دون هواه ، و قد استعملت أنت رجالا لهواك لا لنفسك منهم ابن الحضرمي على البصرة فقتل ، و بسر بن أرطأة على اليمن فخان ، و الضحاك بن قيس الفهري على الكوفة فحصب ، و لو طلبت ما عندنا وقينا أعراضنا 1 .

« فانهم » هكذا في ( المصرية ) و هو غلط و الصواب : ( فانهما ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 2 ، و الضمير راجع إلى المحاباة و الأثرة ، و به صرّح في رواية ( التحف ففيه ) : « فإنّ المحاباة و الأثرة » 3 .

« جماع من شعب الجور و الخيانة » و في رواية ( التحف ) « جماع الجور و الخيانة ، و إدخال الضرورة على الناس ، و ليست تصلح الأمور بالإدغال » 4 .

في ( العيون ) : قدم بعض عمّال السلطان من عمل فدعا قوما فأطعمهم و جعل يحدثهم بالكذب ، فقال بعضهم : نحن كما قال عزّ و جلّ : سمّاعون للكذب أكّالون للسحت 5 .

و فيه : ولي حارثة بن بدر « سرّق » فكتب إليه أبو الأسود الدّؤلي :

أحار بن بدر قد وليت ولاية
فكن جرذا فيها تخون و تسرق

و بارز تميما بالغنى إنّ للغنى
لسانا به المرء الهيوبة ينطق

-----------
( 1 ) العقد الفريد 4 : 93 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 68 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 137 .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 137 .

-----------
( 5 ) عيون الأخبار 1 : 122 دار الكتب العلمية بيروت ، و الآية من سورة المائدة : 42 .

[ 554 ]

فان جميع الناس اما مكذب
يقول بما يهوى و اما مصدق

يقولون أقوالا و لا يعلمونها
و ان قيل هاتوا حققوا لم يحققوا

و لا تحقرن يا حار شيئا أصبته
فحظك من ملك العراقين سرّق

فقال حارثة : لا يعمى عليك الرشد 1 .

و كان عبيد اللّه بن أبي بكرة قاضيا و كان يميل في الحكم إلى اخوانه ،

فقيل له في ذلك فقال : و ما خير رجل لا يقطع من دينه لإخوانه 2 ؟

و في ( كامل الجزري ) : ان أهل أفريقية كانوا أطوع أهل البلدان إلى زمن هشام و كانوا يقولون : لا نخالف الأئمة بما يجني العمّال ، فقال لهم أهل العراق الذين دبّوا فيهم : إنّما يعمل هؤلاء بأمر أولئك ، فقالوا : حتى نختبرهم ، فخرج ميسرة في بضع و عشرين رجلا فقدموا على هشام فلم يؤذن لهم ، فدخلوا على الأبرش فقالوا : أبلغ الخليفة أنّ أميرنا يغزو بنا و بجنده فإذا غنمنا نفلهم و حرمنا و يقول : هذا أخلص لجهادكم ، و إذا حاصرنا مدينة قدّمنا و أخّرهم و يقول : هذا ازدياد في الأجر ، ثم إنّهم عمدوا إلى ماشيتنا فجعلوا يبقرون بطونها عن سخالها يطلبون الفراء الأبيض للخليفة فيقتلون ألف شاة في جلد فاحتملنا ذلك ، ثم إنّهم سامونا أن يأخذوا كلّ جميلة من بناتنا فقلنا : لم نجد هذا في كتاب و لا سنّة و نحن مسلمون ، فأحببنا أن نعلم أ عن رأي الخليفة هذا ؟

فطال عليهم المقام و نفدت نفقاتهم فرجعوا و خرجوا على عامل هشام فقتلوه و استولوا على أفريقية 3 .

و في ( المروج ) : ركب أحمد بن الخصيب وزير المنتصر ذات يوم فتظلّم

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 124 دار الكتب العلمية بيروت ، معجم البلدان للحموي 3 : 214 بتفصيل أكثر و تغيير في ترتيب الأبيات ، إضافة إلى أبيات جوابية لحارثة . فراجعها إن شئت .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 1 : 138 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري 3 : 92 93 ، ( عام 27 ) .

[ 555 ]

إليه متظلم بقصة ، فأخرج رجله من الركاب فزجّ بها في صدر المتظلم فقتله 1 ،

فتحدّث الناس بذلك فقال بعض الشعراء :

قل للخليفة يا ابن عمّ محمّد
أشكل وزيرك إنّه ركّال

( و فيه ) : كان المنصور جالسا في مجلسه المبني على طاق باب خراسان من مدينته مدينة المنصور مشرفا على دجلة و كان بنى على كلّ باب من أبواب المدينة في الأعلى من طاقه المعقود مجلسا يشرف منه على ما يليه من البلاد أوّلها باب الدولة باب خراسان ثم باب الشام ثم باب الكوفة ثم باب البصرة كل تلقاء بلده يوما إذ جاءه سهم عائر حتى سقط بين يديه ، فذعر فأخذه فإذا عليه مكتوب « همذان منها رجل مظلوم في حبسك » فبعث من فوره ففتشوا الحبوس فوجدوا شيخا في بنية من الحبس فيه سراج يسرج و على بابه بارية مسبلة ، و إذا الشيخ موثق بالحديد متوجه نحو القبلة يردد و سيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون 2 فسألوه عن بلده فقال « همذان » فحمل و وضع بين يدي المنصور فسأله فقال : أنا رجل من أرباب نعم همذان ،

ولي ضيعة في بلدي تساوي ألف ألف درهم أراد و إليك أخذها منّي فامتنعت فكبّلني في الحديد و حملني و كتب إليك إنّه عاص فطرحت في هذا المكان . فقال :

منذكم ؟ قال : مذ أربعة أعوام ، فأمر بفكّ الحديد عنه و قال له : رددت عليك ضيعتك بخراجها ما عشّت و عشت 3 .

« و توخّ » أي : تحرّ .

« منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام

-----------
( 1 ) مروج الذهب 4 : 48 .

-----------
( 2 ) الشعراء : 227 .

-----------
( 3 ) مروج الذهب 3 : 287 288 .

[ 556 ]

المتقدمة ) صفة القدم بفتحتين فإنّها مؤنّث ، قال ذو الرّمّة :

لكم قدم لا ينكر الناس أنّها
مع الحسب العادي تطمّ على البحر

في ( ابن خلكان ) : لمّا ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة كتب إليه طاوس :

إن أردت أن يكون عملك خيرا كلّه فاستعمل أهل الخير . فقال عمر : كفى بي موعظة 1 .

« فإنّهم أكرم أخلاقا و أصحّ أعراضا و أقلّ في المطامع اشرافا و أبلغ في عواقب الامور نظرا » زاد في رواية ( التحف ) « من غيرهم فليكونوا أعوانك على ما تقلّدت » 2 .

في ( العيون ) : أحضر الرشيد رجلا ليولّيه القضاء فقال له : إنّي لا احسن القضاء و لا أنا فقيه . فقال له : فيك ثلاث خصال : لك شرف و الشرف يمنع صاحبه من الدناءة ، و لك حلم يمنعك من العجلة و من لم يعجل قلّ خطأه ، و أنت رجل تشاور في أمرك و من شاور كثر صوابه ، و أما الفقه فسينضم إليك من تتفقه به ، فولي فما وجدوا فيه مطعنا 3 .

و في ( الجهشياري ) : كان يحيى بن خالد يقول لولده : لا بدّ لكم من كتّاب و عمّال و أعوان فاستعينوا بالأشراف ، و إيّاكم و سفلة الناس فإنّ النعمة على الأشراف أبقى و هي بهم أحسن و المعروف عندهم أشهر و الشكر منهم أكثر .

و في ( الطبري ) : قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي : قال لي المعتصم : في قلبي أمر أنا مفكّر فيه منذ مدّة طويلة . فقلت : يا سيدي فإنّي إنّما عبدك و ابن عبدك . قال : نظرت إلى أخي المأمون و قد اصطنع أربعة أنجبوا ، و اصطنعت أنا

-----------
( 1 ) وفيات الأعيان 2 : 509 دار صادر بيروت .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 137 .

-----------
( 3 ) عيون الأخبار 1 : 71 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 557 ]

أربعة لم يفلح أحد منهم . قلت : و من الذين اصطنعهم أخوك . قال : طاهر بن الحسين ، فقد رأيت و سمعت ، و عبد اللّه بن طاهر فهو الرجل الذي لم ير مثله ،

و أنت فأنت و اللّه لا يعتاض السلطان منك أبدا ، و أخوك محمد و أين مثل محمد ،

و أنا اصطنعت الافشين فقد رأيت إلى ما صار أمره ، و اشناس ففشل آيه ،

و إيتاخ فلا شي‏ء ، و وصيف فلا مغنى فيه . فقلت : أجيب على أمان من عضبك ؟

قال : قل . قلت : نظر أخوك إلى الأصول فاستعملها فأنجبت فروعها ، و استعملت فروعا لم تنجب إذ لا أصول لها . قال : يا إسحاق لمقاساة ما مرّ بي من طول هذه المدة أسهل عليّ من هذا الجواب 1 .

« ثم أسبغ » أي : أكمل .

« عليهم الأرزاق فإن ذلك قوّة لهم على استصلاح أنفسهم و غنى لهم عن تناول ما تحت أيديهم و حجّة عليهم إن خالفوا أمرك أو ثلموا » أي : أوقعوا خللا .

« أمانتك » في ( العيون ) كان بعض ملوك العجم إذا شاور مرازبته فقصّر في الرأي دعا الموكّلين بأرزاقهم فعاقبهم فيقولون تخطى‏ء مرازبتك و تعاقبنا ؟ فيقول : نعم . إنّهم لم يخطؤوا إلاّ لتعلّق قلوبهم بأرزاقهم و إذا اهتموا أخطؤوا ، و كان يقول : إن النفس إذا أحرزت قوتها اطمأنّت 2 .

« ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون من أهل الصدق و الوفاء عليهم فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة » أي : سوق لهم .

« على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية » في ( تاريخ اليعقوبي ) : كتب أمير المؤمنين إلى كعب بن مالك : أمّا بعد فاستخلف على عملك و اخرج في طائفة من أصحابك حتى تمرّ بأرض كورة السواد فتسأل عن عمّالي و تنظر

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 9 : 122 دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 1 : 87 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 558 ]

سيرتهم فيما بين دجلة و العذيب ، ثم ارجع إلى البهقباذات فتولّ معونتها و اعمل بطاعة اللّه في ما ولاّك منها ، و اعلم أنّ كل عمل ابن آدم محفوظ عليه مجزيّ به ، فاصنع خيرا صنع اللّه بنا و بك خيرا و أعلمني الصدق فيما صنعت 1 .

« و تحفّظ » بلفظ الأمر من التحفظ .

« من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه ، و أخذته بما أصاب من عمله » شرط عليه السّلام اجتماع أخبار العيون ليأمن بذلك من التصنّع .

و في ( وزراء الجهشياري ) : صرف المنصور خالد بن برمك عن الديوان و قلّده أبا أيوب و قلّد خالدا فارس ، فأقام بها خالد سنين و أبو أيوب يسعى عليه و يحضّ المنصور على مكروهه و يسعى به ليسقطه من عينه لأنّه كان يعرف فيه من الفضل ما يتخوفه على محله و أن يرده المنصور إلى الديوان الذي كان يتقلده ، فلمّا كثر ذلك على المنصور صرف خالدا عن فارس و نكبه و ألزمه ثلاثة ألف ألف درهم فلم يكن عنده إلاّ سبعمائة ألف درهم ، فصدقه عن ذلك فلم يصدقه و أمر بمطالبته بالمال فأسعفه صالح صاحب المصلّى بخمسين ألف دينار و أسعفه مبارك التركي بألف ألف درهم و وجهت الخيزران بجوهر قيمته ألف ألف و مائتا ألف درهم رعاية للرضاع بين الفضل ابن ابنه و بين هارون ابنها ،

و اتصل ذلك بالمنصور فتحقق عنده قوله أنّه لا يملك إلاّ ما حكى ، فصفح له عن المال فشق ذلك على أبي أيوب و أحضر بعض الجهابذة و دفع إليه مالا و أمره أن يعترف أنّه لخالد ، و دسّ إلى المنصور من سعى بالمال ، فاحضر الجهبذ فسئل عن المال فاعترف به فأحضر خالدا فسأله عن ذلك فحلف أنّه لم

-----------
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 204 .

[ 559 ]

يجمع مالا قط و لا ادّخره و انّه لا يعرف هذا الجهبذ و دعا إلى كشف الحال .

فتركه المنصور بحضرته و أحضر النصراني فقال له : أ تعرف خالدا إن رأيته ؟

قال : نعم . فالتفت المنصور إلى خالد و قال : قد أظهر اللّه براءتك و هذا مال أصبناه بسببك . ثم قال للنصراني : هذا الجالس خالد فكيف لم تعرفه . فقال ،

الأمان و أخبره الخبر ، فكان بعد ذلك لا يقبل من أبي أيوب شيئا في خالد . . . .

و أما مع الإجتماع فلا تحصل التوطئة .

في ( الجهشياري ) : كان موسى بن عيسى الهاشمي يتقلّد للرشيد و كثر التظلم منه و اتصلت السعايات به ، و قيل انّه قد استكثر من العبيد و العدة ، فقال الرشيد ليحيى : اطلب لي كاتبا عفيفا يكمل لمصر و يستر خبره فلا يعلم موسى حتى يفجأه قال : قد وجدته . قال : من هو ؟ قال : عمر بن مهران و كان يكتب للخيزران و لم يكتب لغيرها قط و كان من عينيه أحول مشوه الخلق خسيس اللباس فأمر بإحضاره فعرّفه يحيى ما جرى و راح به الرشيد . قال :

فاستدناني و نحّى الغلمان و أمرني أن استر خبري حتى افاجى‏ء موسى فأتسلّم العمل منه . فأعلمته انّه لا يقرأ لي ذكرا في كتب أصحاب الأخبار حتى اداني مصر . ثم كتب لي كتابا بخطه إلى موسى بالتسليم ، فعدت إلى منزلي فخرجت منه من غد بكرة على بغلة لي و معي غلام أسود على بغل استأجرته معه خرج فيه قميص و مبطنة و طيلسان و شاشية و خف و مفرش صغيرة ،

و اكتريت لثلاثة من أصحابي أثق بهم ثلاثة أبغل مياومة و ليس يعرف أحد خبري من أهل البلدان التي أمرّ بها في نزولي و نفوذي ، حتى وافيت الفسطاط فنزلت جنابا و خرجت منه و حدي في زي متظلّم تاجر ، فدخلت دار الإمارة و ديوان البلد و بيت المال و سألت و بحثت عن الأخبار و جلست مع المتظلّمين و غيرهم ، فمكثت ثلاثة أيام أفعل ذلك حتى عرفت جميع ما احتجت إليه ، فلمّا

[ 560 ]

نام الناس في ليلة اليوم الرابع دعوت أصحابي فقلت للّذي أردت استكتابه على الديوان : قد رأيت مصر و قد استكتبتك على الديوان فبكّر إليه فاجلس فيه ،

فإذا سمعت الحركة فاقبض على الكاتب و وكّل به و بالكتّاب و الأعمال و لا يخرج أحد من الديوان حتى أوافيك ، و دعوت بآخر فقلّدته بيت المال و أمرته بمثل ذلك ، و قلّدت الآخر عملا بالحضرة ، و بكّرت فلبست ثيابي و وضعت الشاشية على رأسي و مضيت إلى دار الإمارة ، فأذن موسى للناس إذنا عاما فدخلت فيمن دخل ، فاذا موسى على فرش و القوّاد وقوف عن يمينه و شماله و الناس يدخلون فيسلّمون و يخرجون و أنا جالس بحيث يراني و يقيمني حاجبه ساعة بساعة و يقول لي تكلّم بحاجتك ، فأعتلّ عليه حتى خفّ الناس ،

فدنوت منه و أخرجت إليه كتاب الرشيد فقبّله و وضعه على عينه ثم قرأه فامتقع لونه و قال : السّمع و الطاعة تقرى‏ء أبا حفص السّلام و تقول له ينبغي أن تقيم بمنزلك حتى نعدّ لك منزلا يشبهك و يخرج غدا أصحابنا يستقبلونك فتدخل مدخل مثلك فقلت له : أنا عمر بن مهران و قد أمرني الخليفة بإقامتك للناس و انصاف المظلوم منك و أنا فاعل ذلك ، فمن أوضح ظلامته و وجب له عليك حق غرمته عنك من مالك ، و من وجدته كاذبا عاملته بحسب ما يستحقه .

فقال : أنت عمر بن مهران . قلت : نعم . فقال : لعن اللّه فرعون حيث يقول : « أ ليس لي ملك مصر » و اضطرب الصوت في الدار فقبض كاتبي على الديوان و صاحبي الآخر على بيت المال و ختما عليهما و وردت عليه رقاع أصحاب أخباره بذلك ، فنزل عن فرشه و قال : لا إله إلاّ اللّه هكذا تقوم الساعة ، ما ظننت أن أحدا بلغ من الحزم و الحيلة ما بلغت ، قد تسلّمت الأعمال و أنت في مجلسي . ثم نهضت إلى الديوان فقطعت أمور المتظلمين منه و أزلت ظلاماتهم .

« ثم نصبته » أي : أقمته .

[ 561 ]

« بمقام الذلّة و وسمته » من وسم دابته بالميسم ، قال الفرزدق :

لقد قلّدت جلف بني كليب
مواسم في السوالف ثابتات

أيضا :

إنّي امرؤ أسم القصائد للعدا
إنّ القصائد شرّها أغفالها 1

« بالخيانة و قلّدته » أي : جعلته كقلادة في عنقه .

« عار التّهمة » في ( العيون ) : قرأت في كتاب أبرويز إلى ابنه : إجعل عقوبتك على اليسير من الخيانة كعقوبتك على الكثير منها ، فإذا لم يطمع منك في الصغير لم يجترى‏ء عليك في الكبير 2 .

و قرأت أن ابرويز قال لصاحب بيت المال : إنّي لا أحتملك على خيانة درهم و لا أحمدك على حفظ ألف ألف درهم لأنّك إنّما تحقن بذلك دمك و تعمر به أمانتك فإنّك إن خنت قليلا خنت كثيرا .

و في ( وزراء الجهشياري ) : حكي أنّ الجور كثر في أيام أنوشروان ،

فقال له موبدان : أيّها الملك إنّي سمعت فقهاءنا يقولون : إنّه متى لم يغمر العدل الجور في بلدة ابتلي أهلها بعدوّ يغزوهم ، و خيف تتابع الآفات ، و قد خفنا ذلك بشي‏ء فشا من الجور ، فنظر أنوشروان في ذلك فاستقرّ عنده أنّ ظلما و جورا قد جرى ، فصلب ثمانين رجلا ، من الكتّاب خمسين ، و من العمّال ثلاثين .

هذا ، و صدّيقهم كان بالضدّ من ذلك ، فإن سيفه خالد بن الوليد قتل مسلما ظلما و زنى بامرأته فابلغ صديقهم بعض من مع خالد هذه الخيانة العظمى التي لا خيانة أعظم منها ، فغضب على المبلّغ و ردّه إلى الخائن . و حتى أن عمر مع كونه كنفس واحدة مع أبي بكر أنكر ذلك عليه و ألحّ عليه في

-----------
( 1 ) أساس البلاغة : 499 ، مادة : ( و هم ) .

-----------
( 2 ) عيون الأخبار 1 : 124 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 562 ]

مؤاخذة خالد فلم يفعل أبو بكر و قال : لا أشيم هذا السيف .

ففي ( الطبري ) : ان خالدا لمّا قتل مالك بن نويرة و قال له أبو قتادة هذا عملك زبره خالد فغضب أبو قتادة و أتى أبا بكر فغضب عليه أبو بكر حتى كلّمه عمر فيه فلم يرض إلاّ أن يرجع إلى خالد ، فرجع إلى خالد حتى قدم المدينة مع خالد إلى أن قال و أقبل خالد قافلا حتى دخل المسجد و عليه قباء له عليه صدأ الحديد معتجرا بعمامة له قد عرز في عمامته أسهما ، فلمّا أن دخل المسجد قام إليه عمر فانتزع الأسهم من رأسه فحطّمها ثم قال له : قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته ، و اللّه لأرجمنّك بأحجارك ، و خالد لا يكلّمه و لا يظنّ إلاّ أنّ رأي أبي بكر على مثل رأي عمر فيه ، حتى دخل على أبي بكر فلمّا أن دخل عليه أخبره الخبر و اعتذر إليه فعذره أبو بكر و تجاوز عمّا كان في حربه تلك ، فخرج خالد حين رضي أبو بكر عنه و عمر جالس في المسجد فقال لعمر :

هلمّ إليّ يا ابن امّ شلمة ، فعرف عمر أن أبا بكر قد رضي عنه فلم يكلّمه و دخل بيته 1 .

« و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم ، و لا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم ، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله » .

في ( العيون ) قرأت في كتاب أبرويز إلى ابنه شيرويه : انتخب لخراجك أحد ثلاثة : إمّا رجلا يظهر زهدا في المال و يدّعي ورعا في الدين فإنّ من كان كذلك عدل على الضعيف و أنصف من الشريف و وفّر الخراج و اجتهد في العمارة ، فإن هو لم يرع و لم يعفّ إبقاء على دينه و نظرا لأمانته كان حريّا أن يخون قليلا و يوفر كثيرا استسرارا بالرّياء و اكتتاما بالخيانة ، فإن ظهرت على ذلك منه عاقبته على ما خان و لم تحمده على ما وفّر ، و إن هو جلح في الخيانة

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 278 دار سويدان بيروت .

[ 563 ]

و بارز بالرّياء نكّلت به في العذاب و استنظفت ماله مع الحبس ، و إمّا رجلا عالما بالخراج غنيّا في المال مأمونا في العقل ، فيدعوه علمه بالخراج إلى الإقتصاد في الجلب و العمارة للأرضين و الرفق بالرعية ، و يدعوه غناه إلى العفة ،

و يدعوه عقله إلى الرغبة فيما ينفعه و الرهبة ممّا يضرّه ، و إمّا رجلا عالما بالخراج مأمونا بالأمانة مقترا من المال فتوسّع عليه في الرزق فيغتنم لحاجته الرزق ، و يستكثر لفاقته اليسير ، و يزجي بعلمه الخراج ، و يعفّ بأمانته عن الخيانة 1 .

هذا ، و في كتاب ( فضل هاشم على عبد شمس ) للجاحظ قال هاشم : لو لم يكن من بركة دعوتنا إلاّ أنّ تعذيب الامراء لعمال الخراج بالتعليق و الرهق و التجريد و التسهير و المسال و النورة و الجورتين و العذراء و الجامعة و التشطيب قد ارتفع لكان ذلك خيرا كثيرا .

« و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج ، لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة ، و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا » في ( الجهشياري ) : في عهد سابور بن أردشير ابنه : و اعلم أنّ قوام الملك بدرور الخراج و دروره بعمارة البلاد ، و بلوغ الغاية في ذلك يكون باستصلاح أهله بالعدل عليهم و المعاونة لهم ، فإنّ بعض الامور لبعض سبب ، و عوام الناس لخواصهم عدة ، و بكلّ صنف منهم إلى الآخر حاجة ،

فاختر لذلك أفضل من تقدر عليه من كتّابك و ما يكونوا من أهل البصر و العفاف و الكفاية ، و أسند إلى كلّ امرى‏ء شقصا يضطلع به . . .

و في ( المروج ) : أقبل بهرام بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير في أول ملكه على القصف و اللذات و الصيد و النزهة لا يفكّر في مهلكه و لا ينظر في

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 1 : 70 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 564 ]

أمور رعيته ، و أقطع الضّياع لخواصه و من لاذ به من خدمه و حاشيته ، فخربت الضّياع و خلت من عمّارها ، فقلّت العمارة إلاّ ما أقطع من الضياع و سقطت عنهم المطالبة و الخراج بممايلة الوزراء و خواص الملك ، و كان تدبير الملك مفوّضا إلى وزرائه ، فخربت البلاد و قلّ ما في بيوت الأموال فضعف القويّ من الجنود و هلك الضعيف منهم ، فلمّا كان في بعض الأيام ركب الملك إلى بعض متنزهاته و صيده فجنّه الليل و هو يسير نحو المدائن و كانت ليلة قمراء فدعا بالموبذان لأمر خطر بباله فلحق به و سايره و أقبل على محادثته مستخبرا له عن سير أسلافه ، فتوسطوا في مسيرهم خرابات كانت من امّهات الضّياع قد خربت في مملكته و لا أنيس بها إلاّ البوم ، و إذا بوم يصيح و آخر يجاوبه من بعض تلك الخرابات ، فقال الملك للموبدان : أ ترى أحدا من الناس اعطي فهم منطق هذا الطير المصوّت في هذا الليل الهادى‏ء . فقال له الموبدان : أنا ممّن خصه اللّه بفهم ذلك ، فقال له : فما يقول هذا الطائر ؟ و ما الذي يقول الآخر ؟

قال الموبدان : هذا بوم ذكر يخاطب بومة و يقول لها : أمتعيني من نفسك حتى يخرج منّا أولاد يسبّحون اللّه و يبقى لنا في هذا العالم عقب يكثرون ذكرنا و الترحّم علينا ، فأجابته البومة : إن الذي دعوتني إليه هو الحظّ الأكبر إلاّ أنّي اشترط عليك خصالا . قال : و ما تلك ؟ قالت : اولاها أن تعطيني من خرابات امّهات الضياع عشرين قرية ممّا قد خرب في أيام هذا الملك السعيد . فقال له الملك : فما الذي قال لها الذكر ؟ قال : قال : إن دامت أيام هذا الملك السعيد أعطيتك ممّا يخرّب من الضياع ألف قرية فما تصنعين بها ؟ قالت : نقطع كلّ واحد من أولادنا قرية من هذه الخرابات . قال لها : هذا أسهل أمر فهاتي ما بعد ذلك . فلمّا سمع الملك هذا الكلام من الموبذان استيقظ من نومه و فكّر فيما خوطب به ، فنزل من ساعته و خلا بالموبذان فقال له : أيّها القيّم بالدّين

[ 565 ]

و الناصح للملك ، اكشف لي عن هذا الغرض الذي رميت . قال : أيّها الملك إن الملك لا يتمّ عزّه إلاّ بالشريعة و القيام للّه بطاعته و التصرف تحت أمره و نهيه ،

و لا قوام للشريعة إلاّ بالملك ، و لا عزّ للملك إلاّ بالرجال ، و لا قوام للرجال إلاّ بالمال ، و لا سبيل للمال إلاّ بالعمارة ، و لا سبيل للعمارة إلاّ بالعدل ، و العدل الميزان المنصوب بين الخلق نصبه الرب . قال الملك : أمّا ما وصفت فحق فأبن لي عمّا تقصد ، و أوضح لي في البيان . قال نعم أيها الملك . عمدت إلى الضياع فانتزعتها من أربابها و عمّارها و هم أرباب الخراج و من يؤخذ منهم الأموال فأقطعتها الحاشية و الخدم و أهل البطانة ، فعمدوا إلى ما تعجّل من غلاتها و تركوا العمارة و النظر في العواقب و ما يصلح الضياع ، و سومحوا في الخراج لقربهم من الملك و وقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج و عمّار الضياع فانجلوا عن ضياعهم و رحلوا عن ديارهم و اووا إلى ما تعزّز من الضياع بأربابه فسكنوه ، فقلّت العمارة و خربت الضياع و قلّت الأموال فهلكت الجنود و الرعية و طمع في ملكنا من طاف بها من الامم لعلمهم بانقطاع المواد التي بها تستقيم دعائم الملك . فلمّا سمع الملك ذلك أقام في موضعه ثلاثا و أحضر الوزراء و الكتّاب و أرباب الدواوين ، و أحضرت الجرائد فانتزعت الضياع من أيدي الخاصة و الحاشية ، و ردّت على أربابها على رسومهم السالفة ، و أخذوا في العمارة فأخصب البلاد و كثرت الأموال عند جباية الخراج ، و قويت الجنود و قطعت مواد الأعداء و شحنت الثغور ، و أقبل الملك يباشر الامور بنفسه في كلّ وقت ، فحسنت أيامه حتى كانت تدعى عيدا لمّا عمّ الناس من الخصب و شملهم من العدل 1 .

و قال ابن أبي الحديد : رفع إلى أنوشروان أنّ عامل الأهواز قد حمل من

-----------
( 1 ) مروج الذهب 1 : 275 278 .

[ 566 ]

مال الخراج ما يزيد على العادة و ربّما يكون ذلك قد أجحف بالرعية فوقّع بردّ هذا المال على من استوفي منه ، فإنّ تكثير الملك ماله بأموال رعيّته بمنزلة من يحصن سطوحه بما يقتلعه من قواعد بنيانه 1 .

« فإنّ شكوا ثقلا في الخراج ، أو علّة أو انقطاع شرب أو بالّة » أي : قلّة شرب ،

يقال ما في سقائه بلال ، و هو ما يبلّ به ، و يقال : « لا يبلّك عندي بالّة » أي : لا يصيبك مني شي‏ء حتى قليل ، و فسّره ( ابن أبي الحديد ) بالمطر 2 فلا بدّ أنّه قرأها مجرورة عطفا على « شرب » و لم نقف على من فسر البالة بالمطر .

و كيف كان فرواية ( التحف ) خالية من الكلمة كما أنها بدلت ب « أو انقطاع شرب » بقوله « من انقطاع شرب » و هو الأصح حتى يكون انقطاع الشرب كالذي بعده « إحالة الأرض » بيانا للعلة ، ففي الرواية « فإن كانوا شكوا ثقلا أو علّة من انقطاع شرب أو إحالة أرض » 3 .

« أو إحالة أرض » أي : تغيّرها عن سابقها .

« اغتمرها غرق أو أجحف » أي : أضرّ و ذهب .

« بها عطش خففت » جواب « فإن شكوا » .

« عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم » و زاد في رواية ( التحف ) . « و إن سألوا معونة على إصلاح ما يقدرون عليه بأموالهم فاكفهم مؤونته ، فإنّ في عاقبة كفايتك إيّاهم صلاحا » 4 .

و في ( تاريخ اليعقوبي ) : إنّه عليه السّلام كتب إلى قرظة بن كعب الأنصاري : أمّا بعد فإنّ رجالا من أهل الذمّة من عملك ذكروا نهرا في أرضهم قد عفى و ادّفن

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 71 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 72 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 138 .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 138 .

[ 567 ]

و فيه لهم عمارة على المسلمين فانظر أنت و هم و اعمر و أصلح النهر ، فلعمري لئن يعمروا أحبّ إلينا من أن يخرجوا و أن يعجزوا أو يقصّروا في واجب من صلاح البلاد 1 .

في ( وزراء الجهشياري ) : زاد الماء في أيام الرشيد و كان غائبا في بعض متصيّداته و يحيى البرمكي ببغداد ، فركب يحيى و معه القوّاد ليفرّقهم على المواضع المخوفة من الماء يحفظونها ، ففرّق القوّاد و أمر بإحكام المسنّيات و صار إلى الدور فوقف ينظر إلى قوّة الماء و كثرته ، فقال قوم : ما رأينا مثل هذا المدّ . فقال يحيى : قد رأيت مثله في سنة كان أبو العباس أبي قد وجّهني عمارة بن حمزة في أمر رجل كان يعني به من أهل خراسان و كانت له ضياع بالريّ ، فورد عليه كتابه يعلمه أن ضياعه تحيّفت فخربت ، و إنّ نعمته قد نقصت و إنّ صلاح أمره في تأخيره بخراجه لسنته و كان مبلغه مائتي ألف درهم ليتقوّى بها على عمارة ضيعته و يؤديه في السنة المستقبلة ، فلمّا قرأ الكتاب غمّه و بلغ منه و كان بعقب ما ألزمه المنصور من المال الذي خرج عليه فخرج به عن كلّ ما يملكه و استعان بجميع إخوانه فيه ، فقال لي : يا بني من هاهنا يفزع إليه في أمر هذا الرجل فقلت : لا أدري . فقال : بلى . عمارة بن حمزة ،

فصر إليه و عرّفه حال الرجل ، فصرت إليه و قد مدت دجلة و كان ينزل الجانب الغربي ، فدخلت عليه و هو مصطجع على فراشه ، فأعلمته ذلك فقال : قف لي غدا بباب الجسر . و لم يزد على ذلك فنهضت ثقيل الرجلين و عدت إلى أبي بالخبر .

فقال : يا بني تلك سجيّته ، فإذا أصبحت فاغد لموعده ، فغدوت فوقفت بباب الجسر و قد جاءت دجلة تلك الليلة بمدّ عجيب قطع الجسور و انتظم الناس من الجانبين جميعا ينظرون إلى زيادة الماء ، فبينا أنا واقف أقبل زورق و الموج

-----------
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 203 .

[ 568 ]

يخفيه مرة و يظهره اخرى و الناس يقولون : غرق غرق نجا نجا ، حتى دنا من الشاطى‏ء فإذا عمارة و ملاّح معه و قد خلّف غلمانه و دوابّه في الموضع الذي ركب منه ، فلمّا رأيته نبل في عيني و ملأ صدري ، فنزلت فعدوت إليه و قلت :

جعلت فداك في هذا اليوم و أخذت بيده . فقال : أ كنت أعدك و اخلف يا بن أخي ،

اطلب لي برذونا أتكاراه . فقلت له : فاركب برذوني . قال : فأيّ شي‏ء تركب . قلت :

برذون الغلام . فقال : هات فركب و توجّه يريد أبا عبيد اللّه و هو إذ ذاك على الخراج ، و المهدي ببغداد خليفة للمنصور و المنصور في بعض أسفاره ، فلمّا طلع عمارة على حاجب أبي عبيد اللّه دخل بين يديه إلى نصف الدار ، فلمّا رآه أبو عبيد اللّه قام من مجلسه و أجلسه فيه و جلس بين يديه ، فأعلمه عمارة حال الرجل و سأله إسقاط خراجه و هو مائتا ألف درهم ، و إسلامه من بيت المال مائتي ألف درهم يردّها في العام المقبل . فقال ، هذا لا يمكنني ، و لكنّي أؤخره بخراجه إلى العام المقبل . فقال : لست أقبل غير ما سألت . فقال له : فاقنع بدونه لتوجد لي السبيل إلى قضاء الحاجة ، فأبى عمارة و تلوّم أبو عبيد اللّه قليلا ،

فنهض عمارة فأخذ أبو عبيد اللّه بكمّه و قال : إنّي أتحمل ذلك من مالي ، فعاد لمجلسه و كتب أبو عبيد اللّه إلى عامل الخراج بإسقاط خراج الرجل لسنته و الإحتساب به على أبي عبيد اللّه و إسلافه مائتي ألف درهم ترتجع منه العام المقبل ، فأخذت الكتاب و خرجنا ، فقلت : لو أقمت عند أخيك و لم تعبر في هذا المد . فقال : لست أجد بدّا من العبور ، فصرت معه إلى الموضع و وقفت حتى عبر .

« و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خففت به المؤونة عنهم فانّه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك و تزيين و لايتك مع استجلابك حسن ثنائهم و تبجّحك » بتقديم الجيم أي : تفاخرك ، يقال « النساء يتباجحن فيما بينهن » إذا

[ 569 ]

تفاخرن بينهن بعد حظوتهن .

« باستفاضة » أي : شيوع العدل .

« فيهم » .

في ( الجهشياري ) : قال الجاحظ قال ثمامة : كان أصحابنا يقولون : لم يكن يرى لجليس خالد البرمكي دار إلاّ و خالد بناها له ، و لا ضيعة إلاّ و خالد ابتاعها له ، و لا ولد إلاّ و خالد ابتاع امّه إن كانت أمة أو أدّى مهرها إن كانت حرّة ،

و لا دابة إلا و خالد حمله عليها اما من نتاجه أو من غير نتاجه ، و كان أوّل من سمّى المستميحين الزوّار ، و كانوا من قبل يسمّون السؤّال ، فقال : أستقبح لهم هذا الإسم و فيهم الأحرار و الأشراف ، فقال بعضهم :

حذا خالد في جوده حذو برمك
فجود له مستطرف و أثيل

و كان بنو الأعلام يدعون قبله
باسم على الاعدام فيه دليل

فسمّاهم الزوّار سترا عليهم
فأستاره في المجتدين سدول

« معتمدا فضل قوتهم » الظاهر كون « معتمدا » حالا من « خففت » .

« بما ذخرت عندهم من إجمامك » أي : إراحتك ، من أجمّ الفرس إذا ترك أن يركب ، أو من « استجمّ البئر » إذا تركها حتى يجتمع ماؤها .

« و الثّقة منهم » الظاهر كونه عطفا على « فضل قوتهم » .

« بما عوّدتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم » .

في ( وزراء الجهشياري ) : كان أهل الخراج قبل خلافة المهدي يعذّبون بصنوف من العذاب من السباع و الزنابير و السنانير ، فلمّا تقلّد الخلافة شاور محمد بن مسلم و كان خاصّا به فيهم فقال له : هذا موقف له ما بعده و هم غرماء المسلمين فالواجب أن يطالبوا مطالبة الغرماء ، فتقدم المهدي إلى وزيره أبي عبيد اللّه بالكتاب إلى جميع العمال برفع العذاب عن أهل الخراج .

[ 570 ]

« فربّما حدث من الامور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيّبة أنفسهم به » لتخفيفك المؤونة عنهم و إفاضة العدل فيهم و تسبيبك عمران بلادهم « فإن العمران محتمل ما حمّلته » من الأثقال .

و في ( المروج ) في مكاتبات أردشير التي حفظت هذه : من أردشير بن بهمن ملك الملوك إلى الكتّاب الذين بهم تدبير المملكة ، و الفقهاء الذين هم عماد الدين ، و الأساورة الذين هم حماة الحرب ، و الحرّاث الذين هم عمرة البلاد .

سلام عليكم . قد رفعنا أتاوتنا عن رعيتنا بفضل رأفتنا و رحمتنا ، و نحن كاتبون إليكم بوصية فاحفظوها ، و لا تستشعروا الحقد فيكم فيدهمكم العدو ،

و لا تحبوا الإحتكار فيشملكم القحط ، و كونوا لأبناء السبيل مأوى ترووا غدا في المعاد ، و تزوجوا في الأقارب فإنّه أمس للرحم و أقرب للنسب ، و لا تركنوا للدنيا فإنّها لا تدوم لأحد ، و لا تهتمّوا لها فلم يكن إلاّ ما شاء اللّه ، و لا ترفضوها مع ذلك فإنّ الآخرة لا تنال إلاّ بها 1 .

« و إنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز » أي : افتقار .

« أهلها ، و إنّما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع و سوء ظنّهم بالبقاء » على العمل .

« و قلّة انتفاعهم بالعبر » من الدنيا .

و زاد في رواية ( التحف ) « فاعمل فيما ولّيت عمل من يحبّ أن يدّخر حسن الثناء من الرعية ، و المثوبة من اللّه تعالى ، و الرضا من الإمام ، و لا قوة إلاّ باللّه » 2 .

في ( الطبري ) : كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد أنّ أهل الكوفة قد

-----------
( 1 ) مروج الذهب 1 : 272 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 138 .

[ 571 ]

أصابهم بلاء و شدّة و جور في أحكام اللّه و سنّة خبيثة استنّها عليهم عمّال السوء ، و أنّ قوام الدين ، العدل و الإحسان ، فلا يكوننّ شي‏ء أهمّ إليك من نفسك فإنّه لا قليل من الإثم ، و لا تحمل خرابا على عامر و لا عامرا على خراب ، انظر الخراج فخذ منه ما أطاق و أصلحه حتى يعمر ، و لا يؤخذ من العامر وظيفة الخراج إلاّ في رفق ، و لا تأخذنّ في الخراج إلاّ وزن سبعة ليس لها آيين ، و لا أجور الضرّابين و لا هدية النيروز و المهرجان ، و لا ثمن الصحف و لا أجور الفيوج و لا أجور البيوت ، و لا دراهم النكاح و لا خراج على من أسلم 1 .

و في ( الجهشياري ) : كان الحجّاج حمل إلى عبد الملك هدية و مالا عظيما ،

فلمّا نظر إلى المال و الهدية قال : هذا و اللّه الأمانة و الحزم و النصيحة ، إنّي استعملت هذا و أشار إلى خالد بن عبد اللّه بن أسيد على البصرة فاستعمل كلّ فاسق فجبى عشرة و اختان تسعة و رفع إلى هذا درهما و دفع هذا من الدراهم إليّ سدسا ، و استعملت هذا و أشار إلى أخيه امية على خراسان و سجستان فبعث اليّ بمفتاح من ذهب زعم انّه مفتاح مدينة ، و بفيل و برذونين حطيمين ، و استعملت الحجاج ففعل كذا فإن استعملتكم ضيّعتم و إذا عزلتكم قلتم قطع أرحامنا ، فقال خالد : استعملتني على البصرة و أهلها رجلان : مطيع ناصح و مخالف مشايح ، فأمّا المطيع فإنّي جزيته بطاعته فازداد رغبة ، و أمّا المخالف فإنّي داويت عداوته و استللت ضغينته و حشوت صدره ودّا ، و علمت أنّي متى اصلح الرجال أجب الأموال ، و استعملت الحجّاج فجبى لك الأموال و كنز العداوة في قلوب الرجال فكأنّك بالعداوة الّتي كنزها قد ثارت و أنفقت الأموال و لا مال و لا رجال . فسكت عبد الملك ، فلمّا كان هيج الجماجم جلس عبد الملك على باب ذي الأكارع و معه خالد يندب الناس إلى الفريضة و يتأمّل

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 6 : 569 دار سويدان بيروت .

[ 572 ]

خالدا و يذكر قوله و يضحك « ثم انظر في حال كتّابك » زاد في رواية ( التحف ) : « فاعرف حال كلّ امرى‏ء منهم فيما يحتاج إليه منهم ، فاجعل لهم منازل و رتبا » 1 .

« فولّ على أمورك خيرهم ، و اخصص رسائلك التي تدخل فيها مكائدك و أسرارك بأجمعهم » أي : أكثرهم جمعا متعلّق بقوله « و اخصص » .

« لوجود صالح الأخلاق » و في رواية ( التحف ) : « صالح الأدب » و زاد بعده « ممّن يصلح للمناظرة في جلائل الامور من ذوي الرأي و النصيحة و الذهن ،

أطواهم عندك لمكنون الأسرار كشحا » 2 .

« ممّن لا تبطره » أي : لا تحمله على شدّة المرح .

« الكرامة » منك له ، و زاد في رواية ( التحف ) « و لا تمحق به الدالّة » 3 .

« فيجترى‏ء بها عليك في خلاف لك بحضرة ملاء » في رواية ( التحف ) « فيجترى‏ء بها عليك في خلاء ، أو يلتمس إظهارها في ملاء » و روايته أنسب من رواية النهج ، و الظاهر أن « في خلاف » في النهج محرّف « في خلاء » و ان « لك بحضرة » مصحف « أو يلتمس اظهارها في » كما لا يخفى .

في ( الطبري ) : ظفر المنصور برجل من كبار بني امية فقال له : من أين أتى بنو امية حتى انتشر أمرهم . قال : من تضييع الأخبار .

و قالوا : الملوك تحتمل كلّ شي‏ء إلاّ التعرّض للحرمة و القدح في الملك و إفشاء السر .

في ( وزراء الجهشياري ) : كان عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح يكتب للنبي صلّى اللّه عليه و آله ثم ارتدّ و لحق بالمشركين و قال : إنّ محمّدا ليكتب بما شئت ، فسمع

-----------
( 1 ) تحف العقول : 138 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 139 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 139 .

[ 573 ]

بذلك رجل من الأنصار فحلف باللّه إن أمكنه اللّه منه ليضربنه ضربة بالسيف ،

فلمّا كان يوم فتح مكة جاء به عثمان إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و كان بينهما رضاع و قال : أقبل تائبا و الأنصاري يطيف به و معه سيفه ، فأعاد عليه عثمان القول فمد النبيّ يده فبايعه و قال للأنصاري : لقد تلومتك أن توفي بنذرك . فقال : هلاّ أومضت إليّ . فقال صلّى اللّه عليه و آله : لا ينبغي لي أن اومض .

و في ( الإستيعاب ) أنّه لمّا ارتدّ قال لقريش بمكة : إنّي كنت أصرف محمدا حيث اريد ، كان يملي علي « عزيز حكيم » فأقول أو « عليم حكيم » فيقول :

نعم كلّ صواب 1 .

« و لا تقصر به الغفلة عن ايراد مكاتبات عمّالك عليك و إصدار جواباتها على الصواب : عنك فيما يأخذ لك » من الناس .

« و يعطي منك » لهم .

« و لا يضعف عقدا اعتقده » أي : عقده .

« لك و لا يعجز عن اطلاق » أي : حل .

« ما عقد عليك و لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الامور فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل » .

في ( وزراء الجهشياري ) : كانت ملوك فارس تسمي كتّاب الرسائل تراجمة الملوك ، و كانوا يقولون لهم : لا تحملكم الرغبة و تخفيف الكلام على حذف معانيه و ترك ترتيبه و الإبلاغ فيه و توهين حججه ، و كان الرسم جاريا في أيّام الفرس أن تجتمع أحداث الكتّاب من نشأتهم بباب الملوك متعرّضين للأعمال ، فيأمر الملك رؤساء كتّابه بامتحانهم و التفتيش عن عقولهم ، فمن ارتضى منهم عرض عليه اسمه و أمر بملازمة الباب ليستعان به ، ثم يأمر

-----------
( 1 ) الإستيعاب 2 : 375 .

[ 574 ]

الملك بضمّهم العمال و تصريفهم في الأعمال و تنقّلهم على قدر آثارهم و كفاياتهم من حال إلى حال حتى ينتهي بكلّ واحد منهم إلى ما يستحقه من المنزلة ، و لم يكن يتهيّأ لأحد ممّن عرفه الملك و عرض عليه اسمه أن يتصرف مع أحد من الناس إلاّ عن أمر الملك و إذنه ، و كانت الملوك تقدّم الكتّاب و تعرف فضل صنعة الكتابة و تحظي أهلها لمّا يجمعونه من فضل الرأي إلى الصناعة و تقول هم نظام الامور و كمال الملك و بهاء السلطان ، و هم الألسنة الناطقة عن الملوك و خزّان أموالهم و أمناؤهم على رعيتهم و بلادهم ، و كان ملوك فارس إذا أنفذوا جيشا أنفذوا معه وجها من وجوه كتّابهم و أمروا صاحب الجيش ألاّ يحل و يرتحل إلاّ برأيه يبتغون بذلك فضل رأي الكاتب و حزمه ، ثم يقول الملك للكاتب المندوب للنفوذ معه : قد علمت أن الأساورة سباع الإنس و إنّه لا عقوبة عليهم إلاّ في خلع يد عن طاعة أو فشل عن لقاء أو هرب من عدو و ما سوى ذلك فلا لوم عليهم فيه ، و عليك أعتمد في تدبير هذا الجيش . فينفذ الكاتب مدبّرا له فإذا احتاج إلى مكاتبة بإعذار أو إنذار أو إخبار أو استخبار كتب فيه عن صاحب الجيش .

« ثم لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك » بكسر الفاء الإسم من قولك « تفرّست فيه خيرا » « و استنامتك » أي : سكونك سكون النائم .

« و حسن الظن منك ، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء » .

في ( الطبري ) : لمّا هزم أبو مسلم عبد اللّه بن علي و جمع ما كان في عسكره من الأموال صيّره في حظيرة و كان أصاب عينا و متاعا و جوهرا كثيرا فكان منثورا في تلك الحظيرة و وكل بحفظها قائدا من قوّاده ، قال أبو حفص الأزدي : فكنت في أصحابه فجعلها نوائب بيننا ، فكان إذا خرج رجل من

[ 575 ]

الحظيرة فتشه ، فخرج أصحابي يوما من الحظيرة و تخلّفت ، فقال لهم الأمير :

ما فعل أبو حفص ؟ فقالوا : هو في الحظيرة ، فجاء فاطّلع من الباب و فطنت له فنزعت خفي و هو ينظر فنفضتها و هو ينظر و نفضت سراويلي و كمي ثم لبست خفي و هو ينظر ، ثم قام و قعد في مجلسه و خرجت فقال : ما حبسك ؟

قلت : خير ، فخلا بي فقال : قد رأيت ما صنعت فلم صنعت هذا . قلت : إنّ في الحظيرة لؤلؤا منثورا و دراهم منثورة و نحن نتقلب عليها ، فخفت أن يكون قد دخل في خفي منها شي‏ء ، فنزعت جوربي و خفي فأعجبه ذلك و قال : إنطلق ،

فكنت أدخل الحظيرة مع من يحفظ فآخذ من الدراهم فأجعل بعضها في خفي و يخرج أصحابي فيفتشون و لا افتش حتى جمعت مالا 1 .

و في ( وزراء الجهشياري ) : كان سليمان بن عبد الملك ولّى الخراج بمصر رجلا من موالي معاوية يقال له اسامة بن زيد من أهل دمشق و كان كاتبا بليغا فبلغه أن عمر بن عبد العزيز يغمض عليه في سيرته ، فقدم على سليمان بمال اجتمع عنده و توخّى وقتا يكون فيه عمر عند سليمان ، فقال لسليمان : إنّي ما جئتك حتى نهكت الرعية و جهدت ، فإن رأيت أن ترفق بها و ترفّه عليها و تخفف من خراجها ما تقوى به على عمارة بلادها و صلاح معايشها فافعل فإنّه يستدرك ذلك في العام المقبل . فقال له سليمان : هبلتك امّك إحلب الدرّ فإذا انقطع فاحلب الدم . فخرج اسامة فوقف لعمر حتى خرج فقال له : بلغني أنّك تذمّني ، سمعت مقالتي لابن عمك و ما ردّ علي . فقال : سمعت كلام رجل لا يغني عنك من اللّه شيئا ، فلمّا توفي سليمان كتب عمر و هو على القبر بعزله .

« و لكن اختبرهم بما ولوا للصالحين قبلك فاعمد » أي : اقصد .

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 7 : 481 دار سويدان بيروت .

[ 576 ]

« لأحسنهم كان في العامة أثرا و أعرفهم بالأمانة وجها فإن ذلك » أي : عمدك لمن وصف .

« دليل على نصيحتك للّه و لمن وليت أمره » .

قال ابن أبي الحديد : قالوا : ليس الحرب الغشوم بأسرع في اجتياح الملك من تضييع مراتب الكتّاب حتّى يصيبها أهل النذالة ، و يزهد فيها أولو الفضل 1 .

« و اجعل لرأس كلّ أمر من أمورك رأسا منهم لا يقهره كبيرها و لا يتشتت عليه كثيرها » في ( الوزراء ) كان لملوك فارس ديوانان : أحدهما ديوان الخراج و الآخر ديوان النفقات . و من عهد سابور بن اردشير إلى ابنه « و أسند إلى كلّ امرى‏ء من كتّابك شقصا يضطلع به و يمكنه الفراغ منه » .

« و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت » أي : تغافلت .

« عنه ألزمته » يعني يصير ذلك العيب لازما لك دون كاتبك .

في ( الجهشياري ) في عهد سابور بن أردشير إلى ابنه ليس شي‏ء أفسد لسائر العمّال و الكتّاب إلى خراب أماناتهم و هلاك ما تحت أيديهم من جهالة الملك و قلّة معرفته بحالهم ، و تركه مكافأة المحسن بإحسانه و المسي‏ء بإساءته فأكثر الفحص .

( و فيه ) : كان الفضل و الحسن ابنا سهل و المأمون ولي عهد عند بعض الخدم المتقلدين للأعمال من قبل الرشيد ، فدخل على الخادم فتى كان يلي له شيئا ، فلمّا رآه ضحك ثم قال له : هذه مشية تعلمتها بعدك فانظر أ هي أحسن أم ما كنت أمشي حتى أنتقل عنها ، ثم غيّر مشيته و جاء فجلس فأتى برعونات كثيرة ، فلم يزل الخادم يحتال له حتى خرج ثم قال لهما : ان بعض

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 80 .

[ 577 ]

الناس يحب أن يظهر خاصية ليست له ، فلمّا خرجا من عنده قال الحسن للفضل : تعذب نفسك ثلاثين سنة من ذي قبل بالصيانة و المروة و طلب الأدب و مثل هذا يلي الأعمال . فقال له الفضل : لو حمل هذا على الصلاح و ضرب استه بالدرة خرج منه عون صدق ، ان الناس جميعا لو حملوا على صلاح صلحوا و لكنّهم يؤتون من قلّة التفقّد و الترك بغير أدب .

و حكي أنّ الفضل ولّى إنسانا شيئا فأساء فيه فأمر بحمله فضرب استه بالدرّة ثم قال له : أدّبتك بهذا فإن صلحت و إلاّ اطّرحناك .

هذا ، ( و فيه ) : أمر الرشيد لحمدونة باقطاع غلة مائة ألف درهم و ألف ألف درهم صلة ، فصار كاتبها بالتوقيع إلى ديوان الضياع ففارقهم على برّ دافعهم عنه و لم يف لهم بحمله ، فزاد بعضهم في التوقيع عند موضع الواو من « و ألف ألف درهم » ألفا فصارت « أو ألف ألف درهم » فذكر الكاتب ذلك لحمدونة فشكته إلى الرشيد فقال لها : أحسب ان كاتب هذا لجاهل لم يبر الكتاب و أعاد التوقيع و أمرها أن ترضيهم .

( و فيه ) دخل الرشيد على امّ جعفر فقال لها : قد تهتّك كاتب سعدان فاعزليه . قالت : و بأيّ شي‏ء تهتّك . قال : بالمرافق و الرشا حتى قال فيه الشاعر :

صب في قنديل سعد مع التسليم زيتا
و قنديل بنيه قبل أن تحفى الكميتا

قالت : و قال الشاعر في كاتبك أبي صالح أشنع . قال : و ما قال ؟ قالت : قال :

قنديل سعد على ضوئه
خرج لقنديل أبي صالح

تراه في مجلسه أخوصا
من لمحه للدرهم اللائح

فقال لها : كذب عليّ كاتبي و كاتبك .

و قيل : انها قالت هذا الشعر في تلك الساعة .

[ 578 ]

« ثمّ استوص بالتجّار و ذوي الصناعات » كالحدّادين و الصفّارين و الصائغين و النسّاجين و الخيّاطين و النّدافين و غيرهم .

« و أوص بهم خيرا ، المقيم منهم و المضطرب بماله » و أصل المضطرب المضترب فقلب التاء طاء كما هو القاعدة في الإفتعال من مثله ، و المراد منه الضرب في الأرض بماله ، و لذا جعل مقابل المقيم ، و منه مال المضاربة .

« و المترفّق ببدنه » كعملة البناء الذين يحصلون ببدنهم مرافق الإنسان في سكناه ، و قال تعالى في الجنّة و النار و حسنت مرتفقا 1 و ساءت مرتفقا 2 .

« فانهم » أي : التجّار و ذوي الصناعات و المترفّقين بأبدانهم .

« مواد المنافع و أسباب المرافق » و قال تعالى حاكيا عن أهل الكهف فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربّكم من رحمته و يهيّى‏ء لكم من أمركم مرفقا 3 .

في ( الكافي ) عنه عليه السّلام : إن اللّه تعالى يحبّ المحترف الأمين .

و إنّ سدير الصيرفي قال للباقر عليه السّلام : بلغني أنّ الحسن البصري كان يقول : لو غلى دماغه من حرّ الشمس ما استظلّ بحائط صيرفي ، و لو تفرّث كبده عطشا لم يستسق ماء من دار صيرفي و إنّي الصرف عملي و تجارتي و فيه نبت لحمي و دمي و منه حجّي و عمرتي . فقال عليه السّلام : كذب الحسن . خذ سواء و أعط سواء ، فإذا حضرت الصلاة فدع ما بيدك و انهض إلى الصلاة ، أما علمت أن أصحاب الكهف كانوا صيارفة 4 .

-----------
( 1 ) الكهف : 31 .

-----------
( 2 ) الكهف : 29 .

-----------
( 3 ) الكهف : 16 .

-----------
( 4 ) الكافي 5 : 113 1 و 2 .

[ 579 ]

و عن الصادق عليه السّلام : التجارة تزيد في العقل ، و تسعة أعشار الرزق في التجارة 1 .

« و جلاّبها » أي : جلاب المرافق .

« من المباعد » جمع المبعد المكان البعيد « و المطارح » جمع المطرح ،

و الأصل فيه المكان الخفض ، و هو كناية عن المكان الصعب و يعبّر عنه في الفارسية بقولهم « پرتگاه » و قال ذو الرمة :

ألمّا بميّ قبل أن تطرح النوى
بنا مطرحا أو قبل بين يزيلها 2

« في برك و بحرك » في الخبر : إن معلّى بن خنيس سأل الصادق عليه السّلام عن سفر البحر فقال : كان أبي يقول : إنّه يضرّ بدينك هو ذا الناس يصيبون أرزاقهم و معيشتهم 3 .

« و سهلك و جبلك » و في الخبر : إنّ رجلا قال للباقر عليه السّلام : إنّا نتّجر إلى هذه الجبال فنأتي منها على أمكنة لا نقدر أن نصلّي إلاّ على الثلج . فقال : ألا تكون مثل فلان يرضى بالدون و لا يطلب تجارة لا يستطيع أن يصلّي إلاّ على الثلج 4 ؟

« و حيث لا يلتئم الناس لمواضعها و لا يجترئون عليها » زاد في رواية ( التحف ) « من بلاد أعدائك من أهل الصناعات التي أجرى اللّه الرفق منها على أيديهم ، فاحفظ حرمتهم ، و آمن سبلهم ، و خذلهم بحقوقهم » 5 .

قال ابن بطوطة في ( رحلته ) و العهدة عليه و بين بلغار و أرض الظّلمة

-----------
( 1 ) الكافي 5 : 148 2 و 3 .

-----------
( 2 ) أساس البلاغة : 277 طرح .

-----------
( 3 ) الكافي 5 : 257 ح 5 .

-----------
( 4 ) الكافي 5 : 257 ح 6 .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 140 .

[ 580 ]

أربعون يوما و السفر إليها لا يكون إلاّ في عجلات صغار تجرّها كلاب كبار ،

فإنّ تلك المفازة فيها الجليد فلا يثبت قدم الآدمي و لا حافر الدابة فيها ، و الكلاب لها الأظفار فتثبت أقدامها في الجليد ، و لا يدخلها إلاّ الأقوياء من التجّار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها موفرة بطعامه و شرابه و حطبه فإنها لا شجر فيها و لا حجر و لا مدر ، و الدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي قد سار فيها مرارا كثيرة ، و تنتهي قيمته إلى ألف دينار و نحوها ، و تربط العربة إلى عنقه و يقرن معه ثلاثة من الكلاب و يكون هو المقدّم و تتبعه سائر الكلاب بالعربات ، فإذا وقف وقفت ، و هذا الكلب لا يضربه صاحبه و لا ينهره و إذا حضر الطعام أطعم الكلاب أولا قبل بني آدم و إلاّ غضب الكلب و فرّ و ترك صاحبه للتلف .

فإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة نزلوا عند الظلمة و ترك كلّ واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك و عادوا إلى منزلهم المعتاد ،

فإذا كان من الغد عادوا لتفقد متاعهم ، فيجدون بأزائه من السمّور و السنجاب و القاقم ، فإن رضي صاحب المتاع ما وجده أزاء متاعه أخذه و إن لم يرضه تركه فيزيدونه و ربّما رفعوا أي أهل الظلمة متاعهم و تركوا متاع التجار و هكذا بيعهم و شراؤهم و لا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم و يشاريهم أمن الجن هو أم من الانس ، و لا يرون أحدا . و القاقم هو أحسن أنواع الفراء و تساوي الفروة منهم ببلاد الهند ألف دينار ، و صرفها من ذهبنا مائتان و خمسون ، و هي شديدة البياض من جلد حيوان صغير في طول الشبر و ذنبه طويل يتركونه في الفروة على حاله . و السمّور دون ذلك تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما فوقها ، و من خاصّيّة هذه الجلود أنّها لا يدخلها القمل ، و أمراء الصين و كبارها يجعلون منه الجلد الواحد متصلا بفرواتهم

[ 581 ]

عند العنق و كذلك تجّار فارس و العراقين .

« فإنّهم سلم لا تخاف بائقته » أي : شرّه .

« و صلح لا تخشى غائلته » أي : داهيته و منكريّته بخلاف سلم الدول و صلحهم فقد يتفق فيهما بائقة و غائلة .

« فتفقد أمورهم بحضرتك و في حواشي » أي : جوانب .

« بلادك ، و اعلم مع ذلك » أي : مع ما يترتب على وجودهم من الفوائد .

« أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا » أي : بخلا .

« قبيحا ، و احتكارا » أي : حبسا .

« للمنافع و تحكّما في البياعات » من دون رعاية ميزان للربح .

« و ذلك باب مضرّة للعامّة » أي : العموم .

« و عيب على الولاة » .

روى ( الكافي ) أن أبا عبد اللّه عليه السّلام أعطى مولى له يقال له مصادف ألف دينار و قال له تجهّز حتى تخرج إلى مصر فإن عيالي قد كثروا ، فتجهّز بمتاع و خرج مع التجار إلى مصر ، فلمّا دنوا منها استقبلتهم قافلة خارجة منها ،

فسألوهم عن المتاع الذي معهم ما حاله في المدينة و كان متاع العامة فأخبروهم أنّه ليس بمصر منه شي‏ء ، فتحالفوا على أن لا ينقصوا متاعهم من ربح الدينار دينارا فلمّا انصرفوا دخل مصادف عليه عليه السّلام و معه كيسان في كلّ واحد ألف دينار ، فقال له عليه السّلام : هذا رأس المال و هذا الآخر ربح . فقال : ان هذا الربح كثير و لكن ما صنعتم في المتاع ، فحدّثه كيف صنعوا و كيف تحالفوا ،

فقال : سبحان اللّه تحلفون على قوم مسلمين ألاّ تبيعوهم إلاّ بربح الدينار دينارا . ثم أخذ أحد الكيسين و قال : هذا رأس مالي و لا حاجة لي في هذا الربح ،

[ 582 ]

ثم قال : يا مصادف مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال 1 .

« فامنع من الاحتكار فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله منع منه » روى ( الكافي ) أن حكيم بن حزام كان إذا دخل الطعام المدينة اشتراه كلّه ، فمرّ عليه النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال له :

إيّاك أن تحتكر . و قال صلّى اللّه عليه و آله الجالب مرزوق و المحتكر ملعون .

و روى عن الصادق عليه السّلام : الحكرة في الخصب أربعون يوما و في الشدّة ثلاثة أيّام ، فما زاد على الأربعين في الخصب و على الثلاثة في العسرة فصاحبه ملعون . و قال عليه السّلام : ليس الحكرة إلاّ في الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و السمن 2 .

في ( وزراء الجهشياري ) : كان ابن مهران كاتب الخيزران يأمر الوكلاء و العمّال الذين يعملون معه أن يكتبوا على الرشوم التي يرشمون بها الطعام « اللّهم احفظ من يحفظه » .

« و ليكن البيع بيعا سمحا بموازين العدل و أسعار لا تجحف » بتقديم الجيم أي : لا تضر .

« بالفريقين من البائع و المبتاع » كلامه عليه السّلام أعمّ من التقويم ، روى ( توحيد ابن بابويه ) ان النبي صلّى اللّه عليه و آله مرّ بالمحتكرين فأمر بحكرتهم أن تخرج بطون الأسواق و حيث تنظر الأبصار إليها ، فقيل له صلّى اللّه عليه و آله : لو قوّمت عليهم فغضب حتى عرف في وجهه و قال : انا أقوّم عليهم إنّما السعر إلى اللّه عز و جل يرفعه إذا شاء و يخفضه إذا شاء .

و قيل له صلّى اللّه عليه و آله : لو أسعرت لنا سعرا فإن الأسعار تزيد و تنقص . فقال :

ما كنت لألقى اللّه تعالى ببدعة لم يحدث لي فيها شيئا ، فدعوا عباد اللّه

-----------
( 1 ) الكافي 5 : 161 ح 1 .

-----------
( 2 ) الكافي 5 : 164 165 1 و 4 و 6 و 7 .

[ 583 ]

يأكل بعضهم من بعض 1 .

و روى ( كافي الكليني ) أنّ الطعام نفد على عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله إلاّ عند رجل ،

فقال المسلمون له : مره ببيعه . فقال له : يا فلان إنّ المسلمين ذكروا أنّ الطعام قد نفد إلاّ شيئا عندك فأخرجه و بعه كيف شئت و لا تحبسه 2 .

و روي أنّ يوسف لمّا صارت الأشياء له جعل الطعام في بيوت و أمر بعض وكلائه فكان يقول بع بكذا و السعر قائم . فلمّا علم أنّه يزيد في ذلك اليوم كره أن يجري الغلاء على لسانه ، فذهب الوكيل فجاء أوّل من اكتال فلمّا كان دون ما كان بالأمس بمكيال قال : حسبك إنّما أردت بكذا و كذا ، فعلم الوكيل أنّه قد غلا بمكيال ، ثم جاء آخر فقال له « كل لي » فكال فلمّا كان دون الذي كال للأول بمكيال قال له المشتري حسبك إنّما أردت بكذا و كذا ، فعلم الوكيل انّه قد غلا بمكيال حتى صار إلى واحد بواحد 3 .

هذا ، و فصل الصدوق تفصيلا فقال : الغلاء هو الزيادة في أسعار الأشياء حتى يباع الشي‏ء بأكثر ممّا كان يباع في ذلك الموضع ، و الرّخص هو النقصان في ذلك ، فما كان من الرخص و الغلاء عن سعة الأشياء و قلّتها فإن ذلك من اللّه تعالى يجب الرضا به و التسليم له ، و ما كان من الغلاء و الرخص ممّا يؤخذ به الناس لغير قلّة الأشياء و كثرتها من غير رضى منهم به أو كان من جهة شراء واحد من الناس جميع طعام بلد فذلك من المسعّر و المتعدّي بشراء طعام المصر كما فعله حكيم بن حزام . . . 4 .

« فمن قارف » أي : ارتكب .

-----------
( 1 ) التوحيد : 388 ح 33 .

-----------
( 2 ) الكافي 5 : 164 2 .

-----------
( 3 ) الكافي 5 : 163 5 .

-----------
( 4 ) توحيد : 389 .

[ 584 ]

« الحكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به و عاقب في غير إسراف » زاد في رواية ( التحف ) : « فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فعل ذلك » 1 .

هذا ، و في ( الطبري ) كان في عهد المنصور ولاة البريد في الآفاق كلّها يكتبون إليه كلّ يوم بسعر القمح و الحبوب و الأدم و بسعر كلّ مأكول ، و بكلّ ما يقضي به القاضي في نواحيهم و بما يعمل به الوالي ، و بما يرد بيت المال من المال و كلّ حدث كانوا إذا صلّوا المغرب يكتبون إليه بما كان في اليوم ،

و إذا صلّوا الغداة يكتبون بما كان في كلّ ليلة ، فإذا وردت كتبهم فإن رأى الأسعار على حالها أمسك ، و إن تغيّر شي‏ء منها عن حاله كتب إلى الوالي و العامل هناك و سأل عن العلّة التي نقلت ذاك عن سعره ، فإذا ورد الجواب بالعلّة تلطّف لذلك برفقه حتى يعود سعره إلى حاله ، و إن شك في شي‏ء ممّا قضى به القاضي كتب إليه و سأل من بحضرته فإن أنكر شيئا كتب إليه يوبّخه .

« ثم اللّه اللّه في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين و المحتاجين » فقد قال تعالى في وصف أهل الجحيم : و لا يحضّ على طعام المسكين 2 و قال في المكذبين بالدّين فذلك الذي يدع اليتيم . و لا يحض على طعام المسكين 3 و حكى عن أهل سقر في علل انسلاكهم فيها : و لم نك نطعم المسكين 4 .

« و أهل البؤسى » و في رواية ( التحف ) « و ذوي البؤس » 5 .

-----------
( 1 ) تحف العقول : 141 .

-----------
( 2 ) الماعون : 3 .

-----------
( 3 ) الماعون : 2 3 .

-----------
( 4 ) المدثر : 44 .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 141 .

[ 585 ]

و عن الصادق عليه السّلام : الفقير الذي لا يسأل ، و المسكين أجهد منه ، و البائس أجهدهم 1 .

« و الزمنى » جمع الزمن ، و عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى : فكلوا منها و أطعموا البائس الفقير 2 البائس الفقير الزمن الذي لا يستطيع أن يخرج من زمانته 3 .

« فإنّ في هذه الطبقة قانعا و معترا » و قد قال تعالى : و البدن جعلناها لكم من شعائر اللّه لكم فيها خير فاذكروا اسم اللّه عليها صوافّ فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها و أطعموا القانع و المعتر 4 و القانع الذي يقنع بما رزق و لا يعتري لك ، قال :

و قالوا : قد زهيت ، فقلت : كلاّ
و لكنّي أعزّني القنوع 5

و المعترّ الذي يعترض لك لتعطيه و لا يسأل .

« و احفظ للّه ما استحفظك » أي : طلب منك الحفظ .

« من حقوقهم » أي : المساكين و من ذكر بعدهم ، و في رواية ( التحف ) « من حقه فيها » 6 فيكون المعنى من حق اللّه تعالى في القلانع و المعتر ، و مرّ قوله تعالى : و أطعموا القانع و المعترّ .

« و اجعل لهم قسما من بيت مالك » يا مالك يمكن أن يراد به من بيت المال الذي بيدك و قد فرض اللّه تعالى لهم سهما في بيت المال ، فقال تعالى : انما

-----------
( 1 ) الكافي 3 : 501 ، رواية 16 .

-----------
( 2 ) الحج : 28 .

-----------
( 3 ) الكافي 4 : 46 رواية 4 .

-----------
( 4 ) الحج : 36 .

-----------
( 5 ) لسان العرب 8 : 298 ، مادة : ( قنع ) .

-----------
( 6 ) تحف العقول : 141 .

[ 586 ]

الصدقات للفقراء و المساكين . . . 1 . و يمكن أن يراد به من مال شخصك .

و في ( وزراء الجهشياري ) : أنفذ ملك الروم رسولا إلى المنصور فورد عليه عند فراغه من الجانبين من مدينة السّلام ، و أمر المنصور عمارة بن حمزة أن يركب معه إلى المهدي و هو نازل بالرصافة ، فلمّا صار إلى الجسر رأى رسول الروم من عليه من الزمنى و السؤال ، فقال لترجمانه : قل لهذا يعني عمارة إنّي أرى عندكم قوما يسألون و قد كان يجب على صاحبك أن يرحم هؤلاء و يكفيهم مؤونتهم و عيالاتهم . فقال له عمارة : إنّ الأموال لا تسعهم ، و مضى إلى المهدي و عاد فخبّر المنصور بذلك فقال له : كذبت .

الأموال واسعة فأحضرنيه ، فأحضر فقال له : بلغني ما قلت لصاحبنا و ما قال لك و كذب لأن الأموال واسعة و لكني أكره أن أستأثر على أحد من رعيتي و أهل سلطاني بشي‏ء من حظ أو فضل في دنيا أو آخرة ، و أحبّ أن يشركوني في ثوابي السؤّال و الزمنى و أن يسألوهم من ذوات أيديهم ليكون ذلك نجاة لهم في آخرتهم .

قلت : و لكن كما كذب عمارة كذب المنصور ، و إن عذره في عدم كفايته لاولئك المساكين بخله الشديد ، و من بخله أنّه ولّى رجلا كما في ( الطبري ) باروسما فلمّا انصرف أراد أن يتعلل عليه لئلا يعطيه شيئا ، فقال له :

أشركتك في أمانتي و وليتك فيئا من في‏ء المسلمين فخنته . فقال : أعيذك باللّه ما صحبني من ذلك شي‏ء إلاّ درهم منه مثقال صررته في كمي إذا خرجت من عندك أكريت به بغلا إلى عيالي فأدخل بيتي ليس معي شي‏ء لا من مال اللّه و لا من مالك . فقال له : ما أظنّك إلاّ صادقا هلم درهمنا ، فأخذه منه فوضعه تحت لبده فقال : ما مثلي و مثلك إلاّ مجير أم عامر و ذكر قصة الضبع

-----------
( 1 ) التوبة : 60 .

[ 587 ]

و مجيرها لئلا يعطيه شيئا .

« و قسما من غلاّت صوافي الإسلام في كلّ بلد » الظاهر أنّ المراد بها غلاّت الأراضي المفتوحة عنوة .

و في رواية حماد : « و الأرض التي اخذت عنوة بخيل و رجال فهي موقوفة متروكة في يد من يعمّرها و يحييها و يقوم عليها على صلح ما يصالحهم الوالي إلى أن قال بعد ذكر عشر الصدقات و يؤخذ بعد ما بقي من العشر ، فيقسم بين الوالي و بين شركائه الّذين هم عمّال الأرض و أكرتها ،

فيدفع إليهم أنصباؤهم على قدر ما صالحهم عليه ، و يؤخذ الباقي ، فيكون ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه ، و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد ، و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير . . . 1 .

و ضبط ابن أبي الحديد فقال : صوافي الإسلام ، الأرضون الّتي لم توجف عليها بخيل و لا ركاب كانت صافية للنبي صلّى اللّه عليه و آله ، فلمّا قبض صارت لفقراء المسلمين ، و لمّا يراه الإمام من مصالح الإسلام 2 ، كما أنّه خبط فقال :

و إنّهم من الأصناف المذكورين في قوله تعالى و اعلموا أنّما غنمتم من شي‏ء فأنّ للّه خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين 3 إلاّ انّه استند في مقاله إلى فعال أئمته في تصرّفهم في فدك و الخمس باسم مصالح الإسلام و مصرف المساكين .

« فإنّ للأقصى منهم » عن بلد الغلة .

-----------
( 1 ) تهذيب 4 : 130 الكافي 1 : 541 ، رواية 4 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 86 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 86 ، و الآية من سورة الانفال : 41 .

[ 588 ]

« مثل الذي للأدنى ، و كلّ » و من الأدنى و الأقصى .

« قد استرعيت حقّه فلا يشغلنّك عنهم بطر » أي : شدّة المرح ، و في رواية ( التحف ) « نظر » 1 و هو الأنسب .

« فإنّك لا تعذر بتضييعك التافه » أي : الحقير اليسير .

« لإحكامك » بكسر الهمزة أي : جعله محكما .

« الكثير المهمّ فلا تشخص » أي : لا تذهب .

« همّك عنهم » فمن أصبح و لم يهتمّ بأمور المسلمين فليس منهم .

« و لا تصعّر » أي : لا تمل من الكبر .

« خدّك لهم » و زاد في رواية ( التحف ) : « و تواضع للّه يرفعك اللّه ، و اخفض جناحك للضعفاء » 2 .

« و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه » أي : تنظره نظر الهوان .

« العيون و تحقره الرجال » و يمكن أن يكون عند اللّه جليلا .

« ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية و التواضع » حتى يهتمّ في البحث عنهم .

« فليرفع إليك أمورهم ثم اعمل فيهم بالإعذار » أي : تعمل معهم عملا يكون عذرك بعده مقبولا .

« إلى اللّه » هكذا في ( المصرية ) و فيها سقط فزاد ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية بعد لفظ الجلالة « سبحانه » 3 .

« يوم تلقاه » يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم .

« فإنّ هؤلاء من بين الرعية » لضعفهم و عدم اكتراث الناس بهم .

« أحوج إلى الإنصاف من غيرهم » من الأقوياء .

-----------
( 1 ) تحف العقول : 141 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 141 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 85 .

[ 589 ]

« و كلّ » من الضعيف و القوي .

« فاعذر إلى اللّه في تأدية حقّه إليه » لوجوب أن يؤتى كل ذي حقّ حقّه .

قال ابن أبي الحديد : كان بعض الأكاسرة يجلس للمظالم بنفسه ، و لا يثق إلى غيره ، و يقعد بحيث يسمع الصوت ، فإذا سمعه أدخل المتظلّم فاصيب بصمّم في سمعه ، فنادى مناديه إنّ الملك يقول : أيّها الرعية إن أصبت بصمّم في سمعي فلم أصب في بصري ، كلّ ذي ظلامة فليلبس ثوبا أحمر ، ثم جلس لهم في بيت مستشرف له . و كان لأمير المؤمنين عليه السّلام بيت سمّاه بيت القصص ، يلقي الناس فيه رقاعهم ، و كذلك كان فعل المهدي محمد بن هارون الواثق 1 .

« و تعهّد أهل اليتم و ذوي الرقة » أي : الضعف ، قال الشاعر :

لم تلق في عظمها و هنا و لا رققا 2

« ممّن لا حيلة له و لا ينصب نفسه للمسألة » لأنّه ذل في الدنيا و حساب طويل في العقبى ، قال تعالى : للفقراء الذين أحصروا في سبيل اللّه لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس الحافا و ما تنفقوا من خير فإن اللّه به عليم 3 .

« و ذلك على الولاة ثقيل » لتوليد الولاية فيهم كبرا .

« و الحق كلّه ثقيل » كما أن الباطل كلّه خفيف .

« و قد يخففه اللّه على أقوام طلبوا العافية » تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض و لا فسادا و العاقبة للمتقين 4 .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 87 .

-----------
( 2 ) لسان العرب 10 : 122 ، مادة : ( رقق ) .

-----------
( 3 ) البقرة : 273 .

-----------
( 4 ) القصص : 83 .

[ 590 ]

« فصبّروا » أي : حملوا على الصبر ( أنفسهم ) و في رواية ( التحف ) « نفوسهم » 1 و هو أقرب .

« و وثقوا بصدق موعود اللّه لهم » و في رواية ( التحف ) « لمن صبر و احتسب » و هو أنسب ، و زادت تلك الرواية : « فكن منهم و استعن باللّه » .

« و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم شخصك » زاد في رواية ( التحف ) : « و ذهنك من كل شغل ، ثمّ تأذن لهم عليك » 2 .

في ( وزراء الجهشياري ) : قال علي بن الجنيد كانت بيني و بين يحيى البرمكي مودّة و أنس ، فكنت أعرض عليه الرقاع في الحوائج ، فكثرت رقاع الناس عندي و اتصل شغله ، فقصدته يوما و قلت له : يا سيدي قد كثرت الرقاع و امتلأ خفّي و كمي فإمّا تطوّلت بالنظر و إمّا رددتها ، فقال لي : أقم عندي حتى أفعل ما سألت فأقمت عنده و جمعت الرقاع في خفّي و أكلنا و غسلنا أيدينا و قمنا النوم و استحييت من إذكاره إيّاها لأنني قد علمت أنا نقوم فنتشاغل بالشرب فنمت و دعا هو بالرّقاع من خفّي فوقّع في جميعها و ردّها إليه و نام و انتبه و دخلت إليه و هو في مجلس الشرب و قد اعدّت آلته فيه ، فلم أستجز ذكر الرقاع له و شربت و انصرفت بالعشيّ ، فبكّر إليّ أصحاب الرقاع لمّا وقفوا على إقامتي عنده فاعتذرت إليهم و ضاق صدري بهم ، فدعوت بالرقاع لا ميزها و أخفف منها ما ليس بمهم فوجدت التوقيع في جميعها فلم يكن لي همّ إلاّ تفريقها و الركوب إليه لشكره ، فلمّا رأيته قلت : قد تفضلت فلم لم تعرّفني حتى يتكامل سروري ؟ فقال : سبحان اللّه أردت مني أن أمنّ عليك بأن أخبرك بما لم يكن يجوز أن يخفى عنك .

-----------
( 1 ) تحف العقول : 162 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 162 .

[ 591 ]

« و تجلس لهم مجلسا عامّا فتتواضع فيه للّه الذي خلقك » و في رواية ( التحف ) « رفعك » 1 و هو الأنسب بقوله « فتتواضع » .

و في ( العقد ) : ذكر عن النجاشي أمير الحبشة أنّه أصبح يوما جالسا على الأرض و التاج على رأسه ، فأعظم ذلك أساقفته فقال : إنّي وجدت فيما أنزل تعالى على عيسى « إذا أنعمت على عبدي نعمة فتواضع لي اتمّمها عليه » و إنّي ولد لي الليلة غلام فتواضعت لذلك شكرا للّه تعالى 2 .

« و تقعد عنهم جندك و أعوانك من أحراسك و شرطك » بالضمّ فالفتح جمع شرطة ، قال الجوهري : قال الأصمعي : سمّي الجند شرطا لأنّهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها 3 .

في ( عيون ابن قتيبة ) : بينما المنصور يطوف ليلا إذ سمع قائلا يقول :

« اللّهم إنّي أشكو إليك ظهور البغي و الفساد و ما يحول بين الحق و أهله من العدل » فخرج المنصور و جلس ناحية من المسجد و أرسل إلى الرجل يدعوه ،

فأقبل فقال له : ما الذي سمعتك تذكر ؟ قال : إن آمنتني على نفسي أنبأتك بالامور من أصولها فقال له : أنت آمن . فقال : إنّ الّذي دخله الطمع حتى حال بينه و بين ما ظهر من الفساد لأنت . قال : ويحك و كيف ؟ قال : و هل دخل أحدا من الطمع ما دخلك ، إنّ اللّه تعالى استرعاك المسلمين و أموالهم فأغفلت أمورهم و أهممت بجمع أموالهم و جعلت بينك و بينهم حجابا من الجص و الآجر و أبوابا من الحديد و حجبة معهم السلاح ، ثم سترت نفسك فيها عنهم و بعثت عمّالك في جباية الأموال و جمعها و قويتهم بالرجال و السلاح و الكراع

-----------
( 1 ) تحف العقول : 142 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 1 : 35 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 3 ) الصحاح 3 : 1136 دار العلم للملايين بيروت .

[ 592 ]

و أمرت ألا يدخل عليك إلاّ فلان و فلان نفر سمّيتهم و لم تأمر بإيصال المظلوم و لا الملهوف و لا الجائع العاري و لا الضعيف الفقير و لا أحد إلاّ و له في هذا المال حق ، فلمّا رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك تجبي الأموال و تجمعها و لا تقسمها قالوا : هذا خان اللّه فما بالنا لا نخونه و قد سجن لنا نفسه ،

فائتمروا أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس إلاّ شي‏ء أرادوا ، و لا يخرج لك عامل فيخالف أمرهم إلاّ قصّوه عندك حتى يصغر قدره ، فلمّا انتشر ذلك عنك و عنهم أعظمهم الناس و هابوهم ، و كان أوّل من صانعهم عمّالك بالهدايا و الأموال ليقووا بها على ظلم رعيتك ، ثم فعل ذلك ذوو القدرة و الثروة من رعيتك لينالوا به ظلم من دونهم ، فامتلأت بلاد اللّه بالطمع بغيا و فسادا و صار هؤلاء القوم شركاؤك في سلطانك و أنت غافل ، فإن جاء متظلّم حيل بينه و بين دخول مدينتك ، فإن أراد رفع قصة عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك و أوقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم ، فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك خبره سألوا صاحب المظالم ألاّ يرفع مظلمته إليك لأن المتظلّم منه له بهم حرمة فأجابهم خوفا منهم ، فلا يزال المظلوم يختلف إليه و يلوذ به و يشكو إليه و يعتلّ عليه ، فإذا أجهد و ظهرت ، صرخ بين يديك فضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره و أنت تنظر ، فما بقاء الإسلام على هذا ، و قد كنت اسافر إلى الصين فقدمتها مرّة و قد اصيب ملكها بسمعه فبكى بكاء شديدا فحثّه جلساؤه على الصبر فقال : أما إنّي لست أبكي للبليّة النازلة بي ، و لكنّي أبكي لمظلوم بالباب يصرخ و لا أسمع صوته . ثم قال : أما إن ذهب سمعي فإنّ بصري لم يذهب نادوا في النّاس ألاّ يلبس ثوبا أحمر إلاّ متظلّم . ثم كان يركب الفيل طرفي النهار ينظر هل يرى مظلوما .

إلى أن قال : قال المنصور فكيف أحتال لنفسي ؟ قال : إن للناس أعلاما

[ 593 ]

يفزعون إليه في دينهم و يرضون به فاجعلهم بطانتك يرشدوك و شاورهم في أمرك يسدّدوك . قال : قد بعثت إليهم فهربوا منّي . قال : خافوا أن تحملهم على طريقتك ، و لكن افتح بابك و سهّل حجابك ، و انصر المظلوم و اقمع الظالم ، و خذ الفي‏ء و الصدقات ممّا حل و طاب و اقسمه بالحق و العدل على أهله و أنا الضامن عنهم أن يأتوك و يسعدوك على صلاح الامة . و عاد المنصور و طلب الرجل فلم يوجد 1 .

( و فيه ) : كلّم الأوزاعي أيضا المنصور فقال له : انّك قد أصبحت من هذه الخلافة بالذي أصبحت به و اللّه سائلك عن صغيرها و كبيرها و فتيلها و نقيرها ،

و لقد حدّثني عروة بن رويم أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال : ما من راع يبيت غاشّا لرعيّته إلاّ حرّم اللّه عليه رائحة الجنّة ، فحقيق على الوالي أن يكون لرعيّته ناظرا ، و لمّا استطاع من عوراتهم ساترا ، و بالقسط فيما بينهم قائما ، لا يتخوف محسنهم منه رهقا ، و لا مسيئهم عدوانا ، و قد كانت بيد النبي صلّى اللّه عليه و آله جريدة يستاك بها و يردع عنه المنافقين ، فأتاه جبرئيل و قال : يا محمّد ما هذه الجريدة بيدك ؟ اقذفها لا تملأ قلوبهم رعبا . فكيف من سفك دماءهم و شفق أبشارهم و أنهب أموالهم ، إنّ المغفور له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخر دعا إلى القصاص من نفسه بخدش خدشه أعرابيا لم يتعهّده ، فهبط جبرئيل و قال : يا محمّد انّ اللّه لم يبعثك جبّارا تكسر قرون امّتك 2 .

« حتى يكلّمك متكلّمهم غير متعتع » أي : متردد « فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول في غير موطن : لن تقدّس امة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القوي غير متعتع » . روى ( المناقب ) عن الباقر عليه السّلام قال : رجع أمير المؤمنين عليه السّلام داره في

-----------
( 1 ) عيون الأخبار 2 : 360 دار الكتب العلمية بيروت .

-----------
( 2 ) عيون أخبار 2 : 366 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 594 ]

وقت القيظ فاذا امرأة قائمة تقول : ان زوجي ظلمني و أخافني و تعدّى عليّ و حلف ليضربني . فقال : يا أمة اللّه اصبري حتى يبرد النهار ثم أذهب معك .

فقالت يشتدّ غضبه عليّ ، فطأطأ رأسه ثم رفعه و هو يقول : أو يؤخذ للمظلوم حقّه غير متعتع ، أين منزلك ؟ فمضى إلى بابه فوقف فقال : السّلام عليكم ،

فخرج شاب فقال عليه السّلام له : يا عبد اللّه اتّق اللّه فإنّك أخفتها و أخرجتها . فقال الفتى :

و ما أنت و ذاك ، و اللّه لأحرقنّها لكلامك . فقال عليه السّلام مسلتا سيفه : آمرك بالمعروف و أنهاك عن المنكر و تستقبلني بالمنكر و تنكر المعروف . و أقبل الناس من الطرق يقولون « السّلام عليك يا أمير المؤمنين » فسقط الرجل في يده و قال : أقلني عثرتي يا أمير المؤمنين فو اللّه لأكوننّ لها أرضا تطأني ،

فأغمد عليه السّلام سيفه و قال : يا أمة اللّه ادخلي إلى منزلك و لا تلجئي زوجك إلى مثل هذا 1 .

و في ( العقد ) : جلس المأمون للمظالم فكان آخر من تقدّم إليه و قد همّ بالقيام امرأة عليها هيئة السفر و عليها ثياب رثة فقالت :

تشكو إليك عميد القوم أرملة
عدا عليها فلم يترك لها سبد

و ابتزّ منّي ضياعي بعد منعتها
ظلما و فرّق مني الأهل و الولد

فقال لها المأمون : فأين الخصم ؟ قالت : الواقف على رأسك و أومأت ابنه العباس فقال : يا أحمد بن أبي خالد خذ بيده فاجلسه معها مجلس الخصوم ، فجعل كلامها يعلو كلام العباس ، فقال لها أحمد : إنّك بين يدي الخليفة و إنّك تكلّمين الأمير فاخفضي من صوتك . فقال له المأمون : دعها فإن الحقّ أنطقها و أخرسه . ثم قضى لها برد ضيعتها إليها 2 .

-----------
( 1 ) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 2 : 106 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد لابن عبد ربّه 1 : 27 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 595 ]

و في ( الحلية ) عن الزهري ، قال سليمان بن عبد الملك لطاوس اليماني :

لو ما حدثتنا . فقال طاوس : حدّثني رجل من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال الزهري ظننت أنّه أراد عليّا قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : ان لكم على قريش حقّا و لهم على الناس حق ما استرحموا فرحموا و استحكموا فعدلوا و ائتمنوا فأدّوا ، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين ، لا يقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا .

فتغيّر وجه سليمان .

« ثم احتمل الخرق » بالضم فالسكون ضدّ الرفق ، و بفتحتين الدهش من الخوف أو الحياء .

« منهم و العيّ » أي : العجز عن البيان ، و في المثل « أعيى من باقل » 1 قالوا اشترى عنزا بأحد عشر درهما فقالوا له : بكم اشتريته ، ففتح كفيه و فرق أصابعه و أخرج لسانه فأفلت العنز منه و هرب .

في ( العقد ) : دخل الحارث بن مسلكين على المأمون فقال له : أقول فيها كما قال مالك بن أنس لأبيك هارون . فقال : لقد تيّست فيها و تيّس مالك . فقال الحارث : فالسامع من التيسين . فتغيّر وجه المأمون و أيقن بالشر و لبس ثياب أكفانه ثم دخل عليه فقرّبه فقال له : يا هذا ان اللّه قد أمر من هو خير منك بالإنة القول لمن هو شرّ منّي في إرسال موسى و هارون إلى فرعون فقال لهما :

فقولا له قولا ليّنا لعلّه يتذكّر أو يخشى 2 قال : أبوء بالذنب . قال : عفا اللّه عنك ، إنصرف إذا شئت 3 .

هذا ، و قالوا تقدّمت امرأة إلى عمر فقالت : « يا أبا عمر حفص » أرادت أن

-----------
( 1 ) الميداني 2 : 43 ، الزمخشري 1 : 256 .

-----------
( 2 ) طه : 44 .

-----------
( 3 ) العقد الفريد 1 : 54 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 596 ]

تقول : « يا أبا حفص عمر » . فقال لها : أدهشت . فقالت : صلعت فرقتك أرادت أن تقول : « فرقت صلعتك » .

و في ( أخبار نحاة السيرافي ) قال الكسائي : فزع أعرابي من الأسد فجعل يلوذ و الأسد من وراء عوسجه ، فجعل يقول : « يعسجني بالخوتلة يبصرني لأحبسه » أراد يختلني بالعوسجة يحسبني لا أبصره 1 .

« و نح » أي : بعّد .

« عنهم » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( عنك ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 2 .

« الضيق » أي : ضيق الصدر .

« و الأنف » أي : الاستنكاف .

« يبسط اللّه عليك بذلك أكتاف رحمته ، و يوجب لك ثواب طاعته » قال أبو العتاهية :

يا من تشرّف بالدنيا و بالدّين
ليس التشرّف رفع الطّين بالطّين

إذا أردت شريف الناس كلّهم
فانظر إلى ملك في زيّ مسكين

و في ( الجهشياري ) : كان في صحابة المهدي رجل يعرف بالثقفي البصري و كان أبو عبيد اللّه وزيره له متثقلا و كان محبّا لأن يضع منه ، فتكلّم الثقفي يوما فلحن ، فقال له أبو عبيد اللّه : أ تجالس الخليفة بالملحون من الكلام ،

أما كان يجب عليك أن تقوّم من لسانك . فقال له الثقفي : إنّما يحتاج إلى استعمال الإعراب في جميع الكلام المعلّمون لينفقوا عند من التمسهم لتعليم ولده يعرّض بأبي عبيد اللّه لأنّه كان معلّما من أوّل أمره

-----------
( 1 ) أخبار النحويين البصريين : 51 معهد المباحث الشرقية الجزائر .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 88 .

[ 597 ]

فضحك المهدي حتّى غطّى وجهه .

« و اعط ما أعطيت هنيئا » أي : ليكن عطاؤك هنيئا لمن أعطيته بعدم المنّ عليه و الأذى له ، و عدم كشفه للناس و عدم مطله .

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : رأيت المعروف لا يصلح إلاّ بثلاث خصال :

تصغيره و تستيره و تعجيله ، فإنّك إذا صغّرته عظّمته عند من تصنعه إليه ،

و إذا سترته تمّمته ، و إذا عجّلته هنّأته ، و إذا كان غير ذلك سخّفته و نكّدته 1 .

« و امنع في إجمال و إعذار » عن أبي جعفر عليه السّلام : كان فيما ناجى اللّه تعالى موسى : أكرم السائل ببذل يسير أو بردّ جميل ، لأنّه يأتيك من ليس بإنس و لا جانّ ملائكة من ملائكة الرحمن يبلونك فيما خوّلتك و يسألونك عمّا نولتك ،

فانظر كيف أنت صانع يا بن عمران 2 .

و عن أبي عبد اللّه عليه السّلام : ما منع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله سائلا قطّ ، إن كان عنده أعطاه و إلاّ قال : يأتي اللّه به 3 .

« ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها ، منها إجابة عمّالك بما يعيى » أي :

يعجز .

« عنه كتابك » في ( الجهشياري ) : ورد على المنصور كتاب من محمد بن عبد اللّه بن الحسن أغلظ له فيه ، فقال له أبو أيّوب : دعني اجيبه . فقال له : ليس ذلك إليك إذا نحن تقارعنا عن الأحساب فدعني و إيّاه .

و ذكر ( الطبري ) جواب المنصور لكتابه و فيه : و زعمت انّك لم تعرّق فيك امهات الاولاد و ما خيار بني أبيك خاصة و أهل الفضل منهم إلاّ بنو امّهات

-----------
( 1 ) الكافي 4 : 30 ح 1 .

-----------
( 2 ) الكافي 4 : 15 ح 3 .

-----------
( 3 ) الكافي 4 : 15 ح 5 .

[ 598 ]

أولاد ، و ما ولد فيكم بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل من علي بن الحسين و هو لامّ ولد ، و ما كان فيكم بعده مثل ابنه محمد بن علي و جدّته امّ ولد ، و لا مثل ابنه جعفر و جدّته امّ ولد إلى أن قال و لقد طلب الإمامة أبوك أي علي بكل وجه فأخرجها أي : فاطمة بنت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهارا و مرّضها سرّا و دفنها ليلا فأبى الناس إلاّ الشيخين . . . 1 .

« و منها إصدار الناس يوم » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( عند ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 2 .

« ورودها عليك بما تحرج » أي : تضيق .

« به صدور أعوانك ، و أمض لكلّ يوم ما فيه » في ( العقد ) ذكروا أنّ ملكا من ملوك العجم كان معروفا بحسن السياسة ، و كان إذا أراد محاربة ملك من الملوك وجّه إليه من يبحث عن أخباره فيكشف عن ثلاث خصال من حاله ،

يقول لعيونه : انظروا هل ترد على الملك أخبار رعيته على حقائقها أم يخدع عنها ؟ و إلى الغنى في أيّ صنف من رعيته أ في من اشتدّ أنفه و قلّ شرهه أم في من قلّ أنفه و اشتد شرهه ؟ و انظروا في القوّام بأمره أ من نظر ليومه و غده ؟ أم من شغله يومه عن غده . فإن قيل له : لا يخدع عن أخباره ، و الغنى في من قلّ شرهه و اشتدّ أنفه ، و قوّام أمره من نظر ليومه و غده ، قال : إشتغلوا عنه بغيره ،

و إن قيل له ضدّ ذلك قال : نار كامنة تنتظر موقدا ، و أضغان مزمّلة تنتظر مخرجا ، اقصدوا له فلاحين أحين من سلامة مع تضييع ، و لا عدوّ أعدى من أ من أدّى إلى اعترار 3 .

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 7 : 569 دار سويدان بيروت .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 88 .

-----------
( 3 ) العقد الفريد 1 : 113 دار الكتب العلمية بيروت .

[ 599 ]

« و اجعل لنفسك فيما بينك و بين اللّه أفضل تلك المواقيت و أجزل » أي : أكثر « تلك الأقسام ، و ان كانت كلّها للّه إذا صلحت فيها النية و سلمت منها الرعية » .

في ( الخصال ) عن الصادق عليه السّلام : مكتوب في حكمة آل داود : « لا يظعن الرجل إلا في ثلاث : زاد لمعاد ، أو مرمّة لمعاش ، أو لذة في غير محرم » 1 .

« و ليكن في خاصة ما تخلص به للّه » هكذا في ( المصرية ) و وقع فيها تقديم و تأخير فالصواب ( للّه به ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 2 .

« دينك إقامة فرائضه التي هي له خاصة » فقالوا عليهم السّلام : أعبد الناس من أقام الفرائض 3 .

« فأعط اللّه من بدنك في ليلك و نهارك » زاد في رواية ( التحف ) « ما يجب » 4 .

« و وفّ ما تقرّبت به إلى اللّه من ذلك كاملا غير مثلوم » من ثلم يثلم بالكسر ،

و الثلمة الخلل .

« و لا منقوص بالغا من بدنك ما بلغ » و في الخبر : أسرق السرّاق من سرق من صلاته 5 .

« و إذا قمت في صلاتك للناس » و في رواية ( التحف ) ( بالناس ) 6 و هو أصح .

« فلا تكوننّ منفرّا و لا مضيّعا » في الخبر : ينبغي للإمام أن تكون صلاته على صلاة أضعف من خلفه 7 . و كان معاذ يؤمّ في مسجد على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يطيل القراءة ، و مرّ به رجل فافتتح سورة طويلة ، فقرأ الرجل

-----------
( 1 ) الخصال : 120 ح 110 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 89 .

-----------
( 3 ) بحار الأنوار 7 : 305 رواية 25 ، نقلا عن الخصال 1 : 11 .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 143 .

-----------
( 5 ) بحار الأنوار 84 : 264 ، الرواية 66 .

-----------
( 6 ) تحف العقول : 144 .

-----------
( 7 ) من لا يحضره الفقيه 1 : 255 ح 62 ، 63 ، 64 بتصرف يسير .

[ 600 ]

لنفسه و صلّى ثمّ ركب راحلته ، فبلغ ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فبعث إلى معاذ ، فقال له :

إيّاك أن تكون فتّانا ، عليك بالشمس و ضحاها و ذواتها 1 .

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أمّ أصحابه يوما ، فسمع بكاء صبي ، فخفّف الصلاة 2 .

« و قد سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حين وجهني إلى اليمن كيف اصلّي بهم فقال صلّ بهم كصلاة أضعفهم » في خبر السكوني عنه عليه السّلام قال : آخر ما فارقت عليه حبيبي أن قال : يا علي إذا صلّيت فصلّ صلاة أضعف من خلفك 3 .

« و كن بالمؤمنين رحيما » و في رواية التحف و كان بالمؤمنين رحيما 4 و هو لفظ القرآن في وصف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله 5 .

« و أمّا بعد » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : من النهج ( و أما بعد هذا ) كما يشهد به ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) و الخطية 6 ، ثم الصواب : من كلامه عليه السّلام ما في رواية ( التحف ) ( و بعد هذا ) بدون ( أمّا ) 7 لعدم المحل لها هنا .

« فلا تطوّلنّ احتجابك عن رعيتك فإنّ احتجاب الولاة شعبة من الضيق » و هو مذموم . و في ( العقد ) قال بعضهم :

ما بال بابك محروسا ببوّاب
يحميه من طارق يأتي و منتاب

لا تحتجب وجهك الممقوت من أحد
فالمقت يحجبه من غير حجّاب

فاعزل عن الباب من قد ظل يحجبه
فإنّ وجهك طلسام على الباب

و في ( العيون ) قال بعضهم :

-----------
( 1 ) من لا يحضره الفقيه 1 : 255 ح 62 ، 63 ، 64 بتصرف يسير .

-----------
( 2 ) من لا يحضره الفقيه 1 : 255 ح 62 ، 63 ، 64 بتصرف يسير .

-----------
( 3 ) التهذيب 2 : 283 ح 31 .

-----------
( 4 ) الاحزاب : 43 .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 144 .

-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد : 17 90 .

-----------
( 7 ) تحف : 144 .

[ 601 ]

ما لي أرى أبوابهم مهجورة
و كأنّ بابك مجمع الأسواق

أرجوك أم خافوك أم شاموا الحيا
لحراك فانتجعوا من الآفاق

و في ( المروج ) قال عبيد بن أبي المخارق : إستعملني الحجّاج على الفلّوجة فقلت : أههنا دهقان يستعان برأيه ؟ فقالوا : جميل بن صهيب ، فأرسلت إليه فجاءني شيخ كبير قد سقط حاجباه على عينيه فقال : ما حاجتك ؟ قلت :

إستعملني الحجّاج على الفلّوجة و لا يؤمن شره فأشر عليّ . فقال له : أيّما أحبّ إليك رضى الحجّاج أو رضى بيت المال أو رضى نفسك ؟ قلت : أن ارضي كلّ هؤلاء و أخاف الحجّاج فإنّه جبّار عنيد . قال : فاحفظ عنّي أربع خلال : إفتح بابك و لا يكن لك حاجب فيأتيك الرجل و هو على ثقة من لقائك و هو أجدر أن يخاف عمّا لك ، و أطل الجلوس لأهل عملك فإنّه قلّ ما أطال عامل الجلوس إلاّ هيب مكانه ، و لا يختلف حكمك بين الناس و ليكن حكمك على الشريف و الوضيع سواء فلا يطمع فيك أحد من أهل عملك ، و لا تقبل من أهل عملك هديّة فإن مهديها لا يرضى من ثوابها إلاّ بأضعافها مع ما في ذلك من المقالة القبيحة ، ثم اسلخ ما بين أقفيتهم إلى عجوب أذنابهم فيرضوا عنك و لا يكون للحجاج عليك سبيل 1 .

« و قلّة علم بالامور ، و الاحتجاب منهم » و في نسخة ( ابن ميثم ) عنهم .

« يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه ، فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير ،

و يقبح الحسن و يحسن القبيح » .

في ( الجهشياري ) : لمّا انصرف الفضل البرمكي من خراسان و كان أزال الجور و بنى الحياض و المساجد و الرباط ، و أحرق دفاتر البقايا و زاد الجند و القواد ، و وصل الزوّار و الكتّاب بعشرة ألف ألف درهم ، و أمر بهدم

-----------
( 1 ) مروج الذهب 3 : 146 .

[ 602 ]

البيت المعروف بالنوبهار و كان وثيقا فهدم منه قطعة و بنى فيها مسجدا ،

تلقّاه الرشيد ببستان أبي جعفر و جمع له الناس و أكرم غاية الإكرام و أمر الشعراء بمدحه و الخطباء بذكر فضله ، فكثر المادحون له ، فأمر الفضل أحمد بن سيّار الجرجاني أن يميّز أشعار الشعراء و يعطيهم على قدر استحقاقهم ،

فمشى داود ابن رزين و مسلم بن الوليد و أبان اللاحقي و أشجع السلمي و جماعة من الشعراء إليه فسألوه أن يضع من شعر أبي نؤاس و لا يلحقه بنظرائه منهم ، و تحمّلوا عليه بغالب بن السعدي و كان يتعشقه ، فلمّا عرض أبو نواس شعره على الجرجاني رمى به و قال : هذا لا يستحق قائله درهمين ،

فهجاه أبو نؤاس و قال :

بما أهجوك لا أدري
لساني فيك لا يجري

إذا فكّرت في قدرك
أشفقت على شعري

و اتصل الخبر بالفضل فوصل أبا نؤاس و أرضاه و صرف الجرجاني عن تمييز الشعر .

( و فيه ) : لمّا انقضى أمر البرامكة و حصل التدبير في يد الفضل بن الربيع ، قصد لخدمة الرشيد بحضرته و أضاع ما وراء بابه و صارت أمور البريد و الأخبار مختلة ، كان مسرور الخادم يتقلّد البريد و الخرائط و يخلفه عليه ثابت الخادم و توفي الرشيد و عندهم أربعة آلاف خريطة لم تفضّ .

« و يشاب » أي : يمزج .

« الحق بالباطل ، و إنّما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس من الامور ،

و ليست على الحق » و في رواية ( التحف ) 1 « على القول » .

« سمات » أي علامات .

-----------
( 1 ) تحف العقول : 144 .

[ 603 ]

« تعرف بها ضروب » أي : أقسام .

« الصدق من الكذب » و في رواية ( التحف ) 1 « يعرف بها الصدق من الكذب » .

« و إنّما أنت أحد رجلين : إمّا امرؤ سخت » أي : جادت .

« نفسك بالبذل في الحق ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه أو فعل كريم » و في رواية ( التحف ) 2 « أو خلق كريم » .

« تسديه » أي : توضحه ، قال عمر بن أبي ربيعة 3 :

لمن الدّيار كأنّهن سطور
تسدي معالمها الصبا و تنير 4

في ( العيون ) : قال خالد بن عبد اللّه لحاجبه : لا تحجبنّ عنّي أحدا إذا أخذت مجلسي ، فإنّ الوالي لا يحجب إلاّ عن ثلاث : عيّ يكره أن يطّلع عليه ، أو ريبة أو بخل . فأخذ ذلك منه الورّاق فقال :

إذا اعتصم الوالي بإغلاق بابه
و ردّ ذوي الحاجات دون حجابه

ظننت به إحدى ثلاث و ربّما
نزعت بظنّ واقع بصوابه

فقلت به مسّ من العيّ ظاهر
ففي إذنه للناس إظهار ما به

فإن لم يكن عيّ اللسان فغالب
من البخل يحمي ماله عن طلابه

فان لم يكن هذا و لا ذا فريبة
يصرّ عليها عند إغلاق بابه 5

هذا ، و في ( تاريخ بغداد ) : وقف شاعر بباب معن بن زائدة حولا لا يصل إليه و كان معن شديد الحجاب فلمّا طال مقامه سأل الحاجب أن يوصل له رقعة فأوصلها فإذا فيها :

-----------
( 1 ) تحف العقول : 144 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 144 .

-----------
( 3 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 : 84 .

-----------
( 4 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 : 84 .

-----------
( 5 ) اورد هذه الأبيات باختلاف في بعض الكلمات في شرحه 17 : 93 من غير ذكر لمصدرها .

[ 604 ]

إذا كان الجواد له حجاب
فما فضل الجواد على البخيل

فألقى معن الرقعة إلى كتّابه و قال : أجيبوه عن بيته ، فخلطوا و أكثروا و لم يأتوا بمعنى ، فأخذ الرقعة و كتب فيها :

إذا كان الجواد قليل مال
و لم يعذر تعلّل بالحجاب

فقال : أ يؤيسني من معروفه ، ثم ارتحل فأتبعه معن بعشرة آلاف و قال :

هي لك عندنا في كل زورة 1 .

« أو مبتلى » و في رواية ( التحف ) 2 « و إمّا مبتلى » .

« بالمنع ، فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا بذلك » قال بعضهم :

إذا تغدى فرّ بوابه
و ارتد من غير يد بابه

و مات من شهوة ما يحتسي
عياله طرا و أصحابه

« مع أن أكثر حاجات الناس مما » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( ما ) كما في ( ابن أبي الحديد ) 3 و ( ابن ميثم ) 4 و ( الخطية ) .

« لا مؤونة فيه عليك من شكاة » و في رواية ( التحف ) 5 « من شكاية » .

« مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة » و في رواية ( التحف ) 6 بدل « في معاملة » « فانتفع بما وصفت لك » .

و في ( الطبري ) 7 : قال مسوّر بن مسوّر : ظلمني وكيل للمهدي و غصبني ضيعة ، فأتيت سلاما صاحب المظالم فتظلّمت منه و أعطيته رقعة

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 13 : 237 238 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 144 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 91 . و كذلك في تحف العقول : 144 .

-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 5 : 173 .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 144 .

-----------
( 6 ) تحف العقول : 144 .

-----------
( 7 ) تاريخ الطبري 8 : 173 .

[ 605 ]

مكتوبة ، فأوصل الرقعة إلى المهدي و عنده عمّه العباس بن محمد و ابن علاثة و عافية القاضي ، فقال له المهدي : أدنه فدنوت فقال : ما تقول ؟ قلت : ظلمتني .

قال : فترضى بأحد هذين . قلت : نعم . قال : فدنوت منه حتى التزقت بالفراش قال : تكلم . قلت : أصلح اللّه القاضي انّه ظلمني في ضيعتي . فقال القاضي للمهدي : ما تقول ؟ قال ضيعتي و في يدي . قلت : أصلح اللّه القاضي سله صارت الضيعة إليه قبل الخلافة أو بعدها . فسأله فقال : صارت إلى بعد الخلافة . قال :

فأطلقها له . قال : قد فعلت : فقال العباس عمّه : و اللّه لهذا المجلس أحبّ إليّ من عشرين ألف ألف درهم .

« ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار » أي : استبداد .

« و تطاول » أي : تكبّر .

« و قلّة إنصاف في معاملة ، فاحسم » أي : اقطع .

« مادة » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( مؤونة ) كما في ( ابن أبي الحديد ) 1 و ( ابن ميثم ) 2 و ( الخطية ) .

« أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال » و في رواية ( التحف ) 3 « تلك الأشياء » .

و في ( العيون ) 4 : قال الحجاج : دلّوني على رجل للشّرط . فقيل : أيّ الرجال تريد ؟ فقال : أريده دائم العبوس طويل الجلوس ، سمين الأمانة أعجف الخيانة ، لا يحنق في الحق على جره و يهون عليه سبال الأشراف في الشفاعة .

فقيل له : عليك بعبد الرحمن بن عبيد التميمي ، فأرسل إليه يستعمله فقال له :

لست أقبلها إلاّ أن تكفيني عيالك و ولدك و حاشيتك . قال : يا غلام ناد في الناس

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 96 .

-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم 5 : 173 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 144 .

-----------
( 4 ) عيون الاخبار لابن قتيبة 1 : 16 .

[ 606 ]

من طلب إليه منهم حاجة فقد برئت منه الذمة . قال الشعبي : فو اللّه ما رأيت مثله صاحب شرطة قط ، كان لا يحبس إلاّ في دين ، و كان إذا أتي برجل قد نقب على قوم ، وضع منقبة في بطنه حتى تخرج من ظهره ، و إذا أتى بنبّاش ، حفر له قبرا فدفنه فيه ، و إذا أتي برجل لقد أحرق على قوم منزلهم ، أحرقه ، و إذا أتي برجل قاتل بحديدة أو شهر سلاحا ، قطع يده ، فكان ربّما أقام أربعين ليلة لا يؤتى إليه أحد ، فضم الحجاج إليه شرطة البصرة مع الكوفة .

« و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك » أي : من في أطرافك .

« و حامتك » أي : أودّاءك .

« قطيعة » أرض يقطعها له تكون غلتها له .

« و لا يطمعنّ منك في اعتقاد » أي : عقد .

« عقدة » أي : معاملة .

« تضر بمن يليها من الناس في شرب » أي : سقي أرضهم .

« أو عمل مشترك » كتنقية نهر يكون مصرفها على جميع من يشرب أرضه من ذاك النهر .

« يحملون مؤونته على غيرهم فيكون مهنا ذلك » عيشا رغدا يحصل من محصوله .

« لهم دونك و عيبه عليك في الدّنيا و الآخرة » لأنّهم فعلوا ذلك بسلطانك .

« و الزم الحق من لزمه من القريب و البعيد ، و كن في ذلك صابرا محتسبا ، واقعا ذلك من قرابتك و خواصّك حيث وقع ، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك فإنّ مغبة » أي :

عاقبة .

« ذلك محمودة » .

[ 607 ]

قال ابن أبي الحديد 1 : روى جويرية بن أسماء عن اسماعيل بن أبي حكيم قال : قال عمر بن عبد العزيز على المنبر : إنّ هؤلاء يعني خلفاء بني امية قبله قد كانوا أعطونا عطايا ما كان ينبغي لنا أن نأخذها منهم و ما كان ينبغي لهم أن يعطوناها ، و إنّي قد رأيت الآن أنّه ليس عليّ في ذلك دون اللّه حسيب ،

و قد بدأت بنفسي و الأقربين من أهل بيتي ، اقرأ يا مزاحم ، فجعل يقرأ كتابا فيه الاقطاعات بالضياع و النواحي ثم يأخذه عمر بيده فيقصه بالجلم ، لم يزل كذلك حتى نودي بالظهر .

و قال : و روى سهل بن يحيى المروزي عن أبيه قال : لما دفن سليمان أمر عمر بن عبد العزيز بالستور فهتكت و الثياب التي كانت تبسط للخلفاء فحملت إلى بيت المال ، ثم خرج و نادى مناديه : من كانت له مظلمة على قريب أو بعيد من عمر بن عبد العزيز فليحضر . فقام رجل ذمّي من أهل حمص أبيض الرأس و اللحية فقال : اسألك كتاب اللّه قال : ما شأنك . قال : العباس بن الوليد اغتصبني ضيعتي و العباس جالس فقال له : ما تقول يا عباس ؟ قال :

أقطعنيها الوليد و كتب لي بها سجلا . فقال عمر : ما تقول أنت أيّها الذّمّيّ . قال :

أسألك كتاب اللّه فقال عمر بن عبد العزيز : لعمري إن كتاب اللّه لأحقّ أن يتّبع من كتاب الوليد أردد عليه يا عباس ضيعته ، و جعل لا يدع شيئا مما كان في أيدي أهل بيته من المظالم إلاّ ردّها 2 .

قال : و كتب عمر بن الوليد إلى عمر بن عبد العزيز لما أخذ بني مروان برد المظالم كتابا أغلظ له فيه إلى أن قال فكتب في جوابه : . . . أما أول أمرك يا بن الوليد فإنّ امك بنانة أمة السّكون كانت تطوف في أسواق حمص و تدخل

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 99 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 99 100 بتصرّف يسير .

[ 608 ]

حوانيتها ثم اللّه أعلم بها ، فاشتراها ذبيان بن ذبيان من في‏ء المسلمين فأهداها إلى أبيك فحملت بك فبئس الحامل و بئس المحمول ، ثم نشأت فكنت جبّارا عنيدا و تزعم أني من الظالمين لأنّي حرمتك و أهل بيتك في‏ء اللّه الذي حق القرابة و المساكين و الأرامل ، و إنّ أظلم منّي و أترك لعهد اللّه من استعملك صبيّا سفيها على جند المسلمين تحكم فيهم برأيك و لم يكن له نية في ذلك إلاّ حبّ الوالد ولده ، فويل لك و ويل لأبيك ما أكثر خصماؤكما يوم القيامة ، و إنّ أظلم منّي و أترك لعهد اللّه من استعمل الحجّاج بن يوسف على خمسي العرب يسفك الدم الحرام و يأخذ المال الحرام ، و إنّ أظلم منّي و أترك لعهد اللّه من استعمل قرّة ابن شريك أعرابيا جافيا على مصر ، و أذن في المعازف و الخمر و الشرب و اللهو ، و إنّ أظلم منّي و أترك لعهد اللّه من استعمل عثمان بن حيّان على الحجاز ، فينشد الأشعار على منبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و من جعل للعالية البربرية سهما في الخمس ، فرويدا يا ابن نباتة ، و لو التقت حلقتا البطان و ردّ الفي‏ء إلى أهله لتفرّغت لك و لأهل بيتك فوضعتكم على المحجّة البيضاء ، فطالما تركتم الحق و أخذتم في بنيّات الطريق ، و من وراء هذا من الفضل ممّا أرجو أن أعمله ،

بيع رقبتك و قسم ثمنك بين الأرامل و اليتامى و المساكين ، فإنّ لكلّ فيك حقا ،

و السّلام علينا و لا ينال سلام اللّه الظالمين 1 .

قال : و روى الأوزاعي أن عمر بن عبد العزيز لما قطع عن أهل بيته ما كان من قبل يجرونه عليهم من أرزاق الخاصة ، تكلّم في ذلك عنبسة بن سعيد و قال : إنّ لنا قرابة . فقال له : إن يتّسع مالي لكم ، و أمّا هذا المال فحقّكم فيه كحق رجل بأقصى برك العماد و لا يمنعه من أخذه إلاّ بعد مكانه ،

و اللّه إنّي لأرى امورا لو استحالت حتى يصبح أهل الأرض يرون مثل رأيكم

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 101 102 بتصرّف .

[ 609 ]

لنزلت بهم بائقة من عذاب اللّه .

قال : و روى أيضا أن عمر بن عبد العزيز قال يوما و قد بلغه عن بني امية كلاما أغضبه إنّ للّه في بني اميّة يوما أو قال ذبحا و اللّه لئن كان ذلك على يدي لأعذرن اللّه فيهم . فلما بلغهم ذلك كفوا و كانوا يعلمون صرامته و أنّه إذا وقع في أمر مضى فيه 1 .

قال : و روى نوفل بن الفرات أن بني مروان شكوا إلى عاتكة بنت مروان و كانت عظيمة عندهم فقالوا : إنّه يعيب أسلافنا و يأخذ أموالنا ، فذكرت له ذلك فقال : يا عمة إنّ النبيّ‏ّ صلّى اللّه عليه و آله قبض و ترك الناس على نهر مورود ، فولي ذلك النهر بعده رجلان لم يستخصّا أنفسهما و أهلهما منه بشي‏ء ، ثم وليه ثالث فكرى منه ساقية ثم لم تزل الناس يكرون منه السواقي حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه ، و أيم اللّه لئن أبقاني اللّه لأسكرنّ تلك السواقي حتى أعيد النهر إلى مجراه الأول .

قلت 2 : و كما ردّ عمر بن عبد العزيز مظالم خلفاء بني امية كذلك ردّ مظلمة أبي بكر و عمر في فدك ، روى الطبري كما في ( خصال ابن بابويه ) عن أبي صالح الكناني عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن شريك عن هشام بن معاذ قال : كنت جليسا لعمر بن عبد العزيز حين دخل المدينة ، فأمر مناديه من كانت له مظلمة أو ظلامة فليأت الباب ، فأتى محمد بن علي فدخل إليه مولاه مزاحم فقال له : إنّ محمد بن علي بالباب . فقال : أدخله ، فدخل و عمر يمسح دموعه ، فقال له : ما أبكاك ؟ فقال : أبكاه كذا و كذا يا ابن رسول اللّه . فقال له محمد بن علي : إنّما الدنيا سوق من الأسواق منها خرج قوم بما ينفعهم و منها خرج

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 102 103 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 103 104 .

[ 610 ]

قوم بما يضرّهم إلى أن قال فاتّق اللّه و افتح الأبواب و سهّل الحجاب ، و انصر المظلوم و ردّ المظالم إلى أن قال فدعا عمر بدواة و قرطاس و كتب : « بسم اللّه الرحمن الرحيم ، هذا ما ردّ عمر بن عبد العزيز ظلامة محمد بن علي فدك » 1 .

و في ( أوائل أبي هلال العسكري ) كما في ( الطرائف ) أن أوّل من رد فدكا على ورثة فاطمة عليها السّلام عمر بن عبد العزيز ، و كان معاوية أقطعها لمروان و عمرو بن عثمان و يزيد بن معاوية و جعلها بينهم أثلاثا ثم قبضت فردّها عليهم السفاح . . . 2 .

ثم إنّه كما كان المناسب هنا في شرح كلامه عليه السّلام نقل ما فعل عمر بن عبد العزيز من ردّ مظالم بني امية كذلك كان المناسب نقل إتيان عثمان بتلك المظالم ، و قد صرّح عمر بن عبد العزيز بكون عثمان الأصل في خلفاء بني امية في قوله في الخبر المتقدم : « ثم وليه ثالث فكرى منه ساقيه ثم لم يزل الناس منه يكرون حتى تركوه يابسا لا قطرة فيه » ، و منها كما في ( خلفاء ابن قتيبة ) 3 هبته خمس أفريقية لمروان ابن عمه ، و بنى سبع دور متطاولة لامرأته نائلة و بنته عائشة و غيرهما من أهله و بناته ، و بنى لمروان القصور بذي الخشب ، و حمى حول المدينة لنفسه ، و أعطى كما في ( معارف ابن قتيبة ) عمه الحكم بن أبي العاص الذي سيّره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله إلى الطائف مئة ألف درهم ، و أقطع مهزورا موضع سوق المدينة الذي تصدّق به النبيّ على المسلمين عمّه الحارث بن الحكم ، و أعطى عبد اللّه بن خالد بن أسيد من بني عمه أربعمئة ألف درهم .

-----------
( 1 ) الخصال لابن بابويه : 104 ح 64 .

-----------
( 2 ) الطرائف 1 : 252 .

-----------
( 3 ) خلفاء ابن قتيبة 1 : 32 .

[ 611 ]

« و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا » أي : جورا .

« فأصحر » أي : أظهر .

« لهم بعذرك و اعدل » أي : إدفع .

« عنك ظنونهم بإصحارك » الباء للسببية ، فمن جعل أمره مكشوفا كالشي‏ء الملقى بالصحراء لا يبقى مجال لأن يظنّ به أمر آخر .

« فإن في ذلك رياضة منك لنفسك و رفقا برعيّتك و إعذارا » هكذا في ( المصرية ) ، مع ان النهج إنّما فيه « فإنّ في ذلك إعذارا » لخلوّ ( ابن أبي الحديد ) 1 و ( ابن ميثم ) 2 و ( الخطية ) و هي النسخ الصحيحة من النهج عمّا بينهما من « رياضة » إلى « و » و لكنه كلامه عليه السّلام كما رواه ( التحف ) 3 ، و لا بد انه كتب في أول نسخة الزيادة حاشية أخذا من التحف ثم خلطت بالمتن .

« تبلغ به » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : « فيه » كما في ( ابن أبي الحديد ) 4 و ( ابن ميثم ) 5 .

« حاجتك من » بيانية .

« تقويمهم » أي : جعلهم مستقيما على الحق ، و زاد في ( التحف ) 6 « في خفض و إجمال » و هو من تمام الكلام و قد خفي على النهج في روايته .

في ( الطبري ) : هلك يزدجرد الأثيم و ابنه ( بهرامجور ) غائب عند المنذر

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 97 .

-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم 5 : 174 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 145 .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 97 .

-----------
( 5 ) شرح ابن ميثم 5 : 174 .

-----------
( 6 ) تحف العقول : 145 .

[ 612 ]

ملك الحيرة ، فتعاقد ناس من العظماء و أهل البيوتات أن لا يملكوا أحدا من ذرية يزدجرد لسوء سيرته و قالوا ان يزدجرد لم يخلف ولدا يحتمل الملك غير بهرام و لم يل بهرام ولاية قط يعرف بها حاله و لم يتأدب بأدب العجم و انما أدبه أدب العرب و خلقه كخلقهم لنشوئه بين أظهرهم ، و اجتمعت كلمتهم و كلمة العامة على صرف الملك عن بهرام إلى رجل من عترة أردشير بابك يقال له كسرى و لم يقيموا أن ملكوه ، فانتهى هلاك يزدجرد و الذي كان من تمليكهم كسرى إلى بهرام و هو ببادية العرب ، فدعا بالمنذر و النعمان ابنه و ناس من علّية العرب و قال لهم : اني لا أحسبكم تجحدون خصيصي والدي كان أتاكم معشر العرب بإحسانه و انعامه كان عليكم مع فظاظته و شدته كانت على الفرس ، و أخبرهم بالذي أتاه من نعي أبيه و تمليك الفرس من ملكوا عن تشاور منهم في ذلك ، فقال له المنذر : لا يهولنك ذلك حتى ألطف للحيلة فيه ،

و ان المنذر جهز عشرة آلاف رجل من فرسان العرب وجههم مع ابنه النعمان إلى « طيسبون » و « به اردشير » مدينتي الملك و أمره أن يعسكر قريبا منهما و يدمن ارسال طلائعه إليهما ، فأوفد من بالباب من العظماء و أهل البيوتات « جواني » صاحب رسائل يزدجرد إلى المنذر في ابنه النعمان ، فلما ورد جواني على المنذر قال له : الق الملك بهرام ، فدخل عليه فراعه ما رأى من وسامته و بهائه و أغفل السجود له دهشا ، فكلّمه بهرام و وعده من نفسه أحسن الوعد ورده إلى المنذر ، فقال له المنذر : انما وجه النعمان إلى ناحيتكم ملك بهرام حيث ملكه اللّه بعد أبيه ، فلما سمع « جواني » مقالة المنذر و تذكر ما عاين رواء بهرام و هيبته و ان جميع من شاور في صرف الملك عن بهرام مخصوص محجوج قال للمنذر : إني لست مخبرا جوابا و لكن سر ان رأيت إلى محلة الملوك فيجتمع اليك من بها من العظماء و تشاوروا في ذلك فانهم لن

[ 613 ]

يخالفوك في شي‏ء مما تشير به .

و سار « جواني » و استعد المنذر بعده بيوم و سار ببهرام في ثلاثين ألف رجل من العرب و ذوي النجدة منهم إلى مدينتي الملك حتى إذا و ردهما أمر فجمع الناس و جلس بهرام على منبر من ذهب مكلل بجوهر و جلس المنذر عن يمينه و تكلّم عظماء الفرس و أهل البيوتات و فرشوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد أبي بهرام و سوء سيرته و انه أخرب بسوء رأيه الأرض و أكثر القتل ظلما حتى قد قتل الناس في البلاد التي يملكها و أمورا غير ذلك فظيعة و انهم انما تعاقدوا على صرف الملك عن ولد يزدجرد لذلك ، و سألوا المنذر الا يجبرهم في أمر الملك على ما يكرهونه .

فوعى المنذر ما بثوا من ذلك و قال لبهرام : أنت أولى بإجابة القوم مني .

فقال لهم بهرام : اني لست أكذبكم معشر المتكلمين في شي‏ء مما نسبتهم إلى يزدجرد لما استقر عندي من ذلك ، و لقد كنت زاريا عليه لسوء هديه ، و لم أزل أسأل اللّه أن يمنّ علي بالملك فأصلح كلّ ما أفسد و أرأب ما صدع ، فان أتت لملكي سنة و لم أف لكم بهذه الامور التي عددت لكم تبرأت من الملك طائعا و قد أشهدت بذلك عليّ اللّه و ملائكته و موبذان موبذ و ليكن هو فيها حكما بيني و بينكم ، و أنا مع الذي بينت لكم على ما أعلمكم من رضاي بتمليككم من تناول التاج و الزينة من بين أسدين ضاريين مشبلين فهو الملك .

فلما سمع القوم مقالة بهرام هذه و ما وعد من نفسه استبشروا بذلك و انبسطت آمالهم و قالوا فيما بينهم إنّا لسنا نقدر على رد قول بهرام مع انّا ان تممنا على صرف الملك عن بهرام نتخوف أن يكون في ذلك هلاكنا لكثرة من استمد و استجاش من العرب ، و لكنّا نمتحنه بما عرض علينا مما لم يدعه إليه الا ثقة بقوته و بطشه و جرأته ، فان يكن على ما وصف به نفسه فليس لنا رأي

[ 614 ]

إلاّ تسليم الملك إليه و السمع و الطاعة له و ان يهلك تعجزه فنحن من هلكته برآء و لشره و غائلته آمنون . و تفرّقوا على هذا الرأي ، فعاد بهرام و جلس كمجلسه الذي كان فيه بالأمس و حضره من كان يحاده فقال لهم : اما أن تجيبوني فيما تكلمت أمس و اما أن تسكتوا باخعين لي بالطاعة . فقال القوم :

أما نحن فقد اخترنا لتدبير الملك كسرى و لم نر منه إلاّ ما نحب ، و لكنّا قد رضينا مع ذلك أن يوضع التاج و الزينة كما ذكرت بين أسدين و تتنازعانهما أنت و كسرى فأيكما تناولهما من بينهما سلمنا له الملك ، فرضي بهرام بمقالتهم و أتى بالتاج موبذان مؤبد الموكل بعقد التاج على رأس كلّ ملك يملك فوضعهما في ناحية و جاء بسطام أصبهبد بأسدين ضاريين مجوعين مشبلين ، فوقف أحدهما عن جانب الموضع الذي وضع فيه التاج و الآخر بحذائه و أرخى وثاقهما ، ثم قال بهرام لكسرى : دونك التاج و الزينة . فقال كسرى : أنت أولى بالبدء و بتناولهما مني لأنك تطلب الملك بوراثة و أنا فيه مغتصب ، فلم يكره بهرام قوله لثقته ببطشه و قوته و حمل جرزا و توجه نحو التاج و الزينة ، فقال له موبذان موبذ : استماتتك في هذا الأمر الذي أقدمت عليه انما هو تطوّع منك لا عن رأي أحد من الفرس و نحن برآء إلى اللّه من اتلافك نفسك . فقال له بهرام : أنتم من ذلك برآء و لا وزر عليكم فيه .

ثم أسرع نحو الأسدين ، فلما رأى موبذان موبذ جده في لقائهما هتف به بح بذنوبك و تب إلى اللّه منها ثم أقدم ان كنت لا محالة مقدما ، فباح بهرام بما سلف من ذنوبه ثم مشى نحو الأسدين فبدر إليه أحدهما فلما دنا من بهرام وثب وثبة فعلا ظهره و عصر جنبي الأسد بفخذيه عصرا أثخنه ، و جعل يضرب على رأسه بالجرز الذي كان حمل ، ثم شد الأسد الآخر عليه فقبض على اذنيه و عركهما بكلتي يديه فلم يزل يضرب رأسه برأس الأسد الذي كان

[ 615 ]

راكبه حتى دمغهما ثم قتلهما كليهما ، و كان ذلك من صنيعه بمرأى من كسرى و من حضر ذلك المحفل فتناول بهرام بعد ذلك التاج و الزينة ، فكان كسرى أول من هتف به و قال : عمرك اللّه بهرام ثم الذين حوله قائلون نحن سامعون مطيعون و رزقت ملك أقاليم السبعة ، ثم هتف به جميع من حضر قد أذعنا للملك بهرام و رضينا به ملكا ، و أكثروا الدعاء له . ثم ان العظماء و الوزراء لقوا المنذر بعد ذلك اليوم و سألوه أن يكلّم بهرام في التغمد لاساءتهم في أمره و التجاوز عنهم ، فكلمه المنذر في ذلك فأسعفه فيما سأل و بسط آمالهم ملك و هو ابن عشرين سنة 1 .

« و لا تدفعن صلحا دعاك إليه عدوك و للّه » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

« للّه » كما في ( ابن أبي الحديد ) 2 و ( ابن ميثم ) 3 .

« فيه رضى » انما شرط عليه السّلام ذلك لأن كلّ صلح لم يكن للّه فيه رضى .

ففي ( صفين نصر ) : خرج رجل من أهل الشام ينادي بين الصفين : يا أبا الحسن ابرز لي ، فخرج عليه السّلام إليه حتى إذا اختلفت أعناق دابتيهما بين الصفين فقال : يا علي ان لك قدما في الاسلام و هجرة فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن دماء و تأخير هذه الحروب حتى ترى من رأيك . فقال : و ما ذاك ؟

قال : ترجع إلى عراقك فنخلي بينك و بين العراق و نرجع إلى الشام فتخلّي بيننا و بين شامنا فقال عليه السّلام له : لقد عرفت انك انما عرضت هذا نصيحة و شفقة ،

و لقد أهمني هذا الأمر و أسهرني و ضربت أنفه و عينه فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله ، ان اللّه تعالى لم يرض من أوليائه أن يعصى

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 71 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 106 .

-----------
( 3 ) شرح ابن ميثم 5 : 174 .

[ 616 ]

في الأرض و هم ساكتون مذعنون لا يأمرون بالمعروف و لا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنم . فرجع الشامي مسترجعا 1 .

و كذلك الصلح في المعاملات ، فقالوا : الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما أحل حراما أو حرّم حلالا .

« فان في الصلح دعة » أي : استراحة .

« لجنودك وراحة لهمومك و أمنا لبلادك » في ( ديوان النعماني ) : من أبلغ ما حذّر به من الحرب قول بعض العجم : « دافع بالحرب ما أمكن ، فإنّ النفقة في كلّ شي‏ء من الأموال إلاّ الحرب ، فإنّ النفقة فيها من الأرواح » . و قال النابغة الجعدي :

و تسلب المال الذي كان ربها
ضنينا بها و الحرب فيها الحرائب

و قال جدل الطعان :

دعاني أشبّ الحرب بيني و بينه
فقلت له : لا بل هلمّ إلى السلم

و إيّاك و الحرب التي لا أديمها
صحيح و ما تنفك تأتي على الرغم

فإن يظفر الحزب الذي أنت منهم
و ينقلبوا ملأى الأكفّ من الغنم

فلا بدّ من قتلى لعلّك فيهم
و إلاّ فجرح لا يكون على العظم

فلما أبى خلّيت فضل ردائه
عليه فلم يرجع بحزم و لا عزم

و كان صريع الخيل أول وهلة
فبعدا له مختار جهل على علم

في ( الطبري ) : سأل عمرو بن الليث الصفّار السلطان أن يولّيه ما وراء النهر فولاّه و وجه إليه و هو مقيم بنيسابور بالخلع و اللواء على ما وراء النهر ، فخرج لمحاربة إسماعيل الساماني ، فكتب إليه إسماعيل : إنّك ولّيت دنيا

-----------
( 1 ) صفين لنصر : 474 .

[ 617 ]

عريضة و إنّما في يدي ما وراء النهر و أنا في ثغر ، فاقنع بما في يدك و اتركني مقيما في هذا الثغر ، فأبى إجابته فذكر له شدّة عبور نهر بلخ فقال : لو أشاء أن أسكره ببدر الأموال و أعبره لفعلت . فلما أيس إسماعيل عبر النهر إلى الجانب الغربي و جاء عمرو فنزل بلخ و أخذ إسماعيل عليه النواحي فصار كالمحاصر و ندم على ما فعل و طلب المحاجزة فأبى عليه إسماعيل ، و لم يكن بينهما كثير قتال حتى هزم و مر بأجمة في طريقه قيل له انها أقرب فقال لعامة من معه :

أمضوا في الطريق الواضح ، و مضى في نفر يسير فدخل الاجمة فوحلت دابته و مضى من معه ، و جاء أصحاب إسماعيل فأخذوه أسيرا ، فلما ورد الخبر على المعتضد مدح إسماعيل و ذم عمرا .

( و لكن الحذر كلّ الحذر من عدوك بعد صلحه فان العدو ربما قارب ) العدو ( ليتغفل ) و يغدر بك ( فخذ بالحزم ) و الاحتياط في أمرك ( و اتهم في ذلك حسن الظن ) لأنّه يمكن أن يؤدي إلى هلاكك . قال البحتري :

أوجلتني بعد أمن غرتي
و اغترار الأمن يستدعي الوجل

في الطبري في قصة محاربة نصر بن سيار و الكرماني في خراسان أيام خروج ابي مسلم : بعث أبو مسلم إلى الكرماني حين عظم الأمر بينه و بين نصر اني معك ، فقبل الكرماني ذلك و انضم إليه أبو مسلم فاشتد ذلك على نصر ، فأرسل إلى الكرماني ويلك لا تغتر فو اللّه اني لخائف عليك و على أصحابك منه و لكن هلم إلى الموادعة فندخل مرو و نكتب كتابا بصلح و هو يريد أن يفرّق بينه و بين أبي مسلم ، فدخل الكرماني منزله و أقام أبو مسلم في المعسكر و خرج الكرماني حتى وقف في الرحبة في مائة فارس و عليه قرطق خشكشونة ، ثم أرسل إلى نصر اخرج لنكتب بيننا ذلك الكتاب ، فأبصر نصر

[ 618 ]

منه غرة فوجّه إليه ابن الحارث بن سريج في نحو من ثلاثمائة فارس فالتقوا في الرحبة فطعن في خاصرة الكرماني فخر عن دابته و حماه أصحابه حتى جاءهم ما لا قبل لهم به فقتل نصر الكرماني و صلبه 1 .

و في السير : حاصر قتيبة بن مسلم سمرقند أشهرا بعد فتح بخارى فلم يقدر على فتحها ، فهيأ صناديق و جعل لها أبوابا من أسافلها تغلق من داخل و تفتح ، و جعل في كلّ صندوق رجلا مستلئما معه سيفه و أقفل أبوابها العليا ثم أرسل إلى دهقانها اني راحل عنك إلى الصغانيان و ناحيتها و معي فضول أموال و سلاح فوادعني و احرز هذه الصناديق عندك إلى عودي ان سلمت ،

فأجابه و تقدم قتيبة إلى الرجال أن يفتحوا في جوف الليل أبواب الصناديق فيخرجوا ثم يصيروا إلى باب المدينة فيفتحوه ، و أمر الدهقان بالصناديق فأدخلت المدينة ، فلما جن الليل و هدء الناس خرج الرجال بأيديهم السيوف لا يستقبلهم أحد إلاّ قتلوه حتى أتوا باب المدينة فقتلوا الحرس و فتحوا الباب و دخل قتيبة فصارت في يده 2 .

و في العيون : أوصى بعض الحكماء ملكا فقال له : لا يكن العدو الذي قد كشف لك عن عداوته بأخوف عندك من الظنين الذي يستتر لك بمخاتلته ، فانه ربما تخوف الرجل السم الذي هو أقتل الأشياء ثم يقتله الماء الذي يحيي الأشياء و ربما تخوف أن يقتله الملوك التي تملكه ثم تقتله العبيد التي يملكها ،

فلا تكن للعدو الذي تناصب أحذر منك للطعام الذي تأكل ، و انا لكلّ أمر أخذت منه نذيرك و ان عظم آمن مني من كلّ أمر عريته من نذيرك و ان صغر 3 .

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري .

-----------
( 2 ) سير العجم

-----------
( 3 ) عيون القتيبي 1 : 117 .

[ 619 ]

و فيه في سير العجم : ان فيروز بن يزدجرد بن بهرام لما ملك سار بجنوده نحو خراسان ليغزو أخشنوار ملك الهياطلة ببلخ ، فلما انتهى إلى بلاده اشتد رعب اخشنواز . فناظر أصحابه في أمره ، فقال له رجل منهم :

أعطني موثقا و عهدا تطمئن إليه نفسي أن تكفيني أهلي و ولدي و تحسن إليهم و تخلفني فيهم ، ثم اقطع يدي و رجلي و القني على طريق فيروز حتى يمرّ بي هو و أصحابه فأكفيك مؤونتهم و أورّطهم مورطا تكون فيه هلكتهم . فقال له اخشنواز : و ما الذي تنتفع به من سلامتنا و صلاح حالنا إذا أنت هلكت و لم تشركنا في ذلك ؟ قال : إنّي قد بلغت ما كنت أحب أن أبلغه من الدنيا و أنا موقن بأن الموت لا بدّ منه فأحبّ أن أختم عمري بأفضل ما تختم به الأعمار من النصيحة لإخواني و النكاية في عدوي فيشرف بذلك عقبي و اصيب سعادة و حظوة فيما أمامي . ففعل به ذلك و أمر به فألقي حيث وصف له ، فلمّا مرّ به فيروز سأله عن أمره ، فأخبره ان اخشنواز فعل ذلك و قال له : إنّي احتلت حتى حملت إلى هذا الموضع لأدلك على عورته و غرّته ، إنّي أدلك على طريق هو أقرب من هذا الذي تريدون سلوكه و أخفى فلا يشعر اخشنواز حتى تهجموا عليه فينتقم اللّه لي منه بكم فليس في هذا الطريق إلاّ تفويز يومين ثم تفضون إلى كلّ ما تحبّون . فقبل فيروز قوله بعد أن أشار عليه وزراؤه بالاتهام له و الحذر منه ، فخالفهم و سلك الطريق حتى انتهى بهم إلى موضع من المفازة لا صدر عنه ، ثم بيّن لهم أمره فتفرقوا في المفازة يمينا و شمالا يلتمسون الماء فقتل العطش أكثرهم و لم يخلص مع فيروز منهم إلاّ عدّة يسيرة فإنّهم انطلقوا معه حتى أشرفوا على أعدائهم و هم مستعدون لهم ، فواقعهم على تلك الحالة و على ما بهم من الضرّ و الجهد فاستمكنوا منهم و أعظموا النكاية فيهم 1 .

-----------
( 1 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 : 117 .

[ 620 ]

« و ان عقدت بينك و بين عدوك عقدة أو ألبسته منك ذمة » أي : عهدا .

« فحط » من حاط يحوط أي : رعى .

« عهدك بالوفاء » و أوفوا بعهد اللّه إذا عاهدتم و لا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها و قد جعلتم اللّه عليكم كفيلا إنّ اللّه يعلم ما تفعلون . و لا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوّة أنكاثا تتّخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون امّة هي أربى من امة إنّما يبلوكم اللّه به 1 .

« و ارع ذمّتك بالأمانة » و في قصة فيروز و أخشنوار المتقدّمة بعد ما مر ثم رغب فيروز إلى أخشنوار و سأله أن يمنّ عليه و على من بقي من أصحابه على أن يجعل لهم عهد اللّه و ميثاقه ألاّ يغزوه أبدا فيما يستقبل من عمره ، و على أنّه يحدّ فيما بينه و بين مملكته ، حدّا لا تجاوزه جنوده ، فرضي أخشنوار بذلك و خلّى سبيله و انصرف إلى مملكته ، فمكث فيروز برهة من دهره كئيبا ثم حمله الأنف على أن يعود لغزوه و دعا أصحابه إلى ذلك فردوه عنه و قالوا له :

انّك قد عاهدته و نحن نتخوّف عليك عاقبة البغي و الغدر مع ما في ذلك من العار و سوء المقالة . فقال لهم : إنّي إنّما شرطت ألا أجوز الحجر الذي جعلته بيني و بينه فأنا آمر بالحجر ليحمل على عجلة أمامنا . فقالوا له : أيها الملك ان العهود و المواثيق التي يتعطاها الناس بينهم لا تحمل على ما يسر المعطي لها و لكن على ما يعلن المعطي ، و انك انما جعلت له عهد اللّه و ميثاقه على الأمر الذي عرفه لا على أمر لم يخطر بباله ، فأبى فيروز و مضى في غزاته حتى انتهى إلى الهياطلة و تصافّ الفريقان للقتال ، فأرسل أخشنواز إلى فيروز يسأله أن يبرز فيما بين صفّيهم ليكلّمه فخرج إليه فقال له أخشنواز : أظن انّه لم يدعك إلى غزونا إلاّ الأنف ممّا أصابك ، و لعمري لئن كنّا احتلنا لك بما رأيت لقد

-----------
( 1 ) النحل : 91 92 .

[ 621 ]

كنت التمست منّا أعظم منه و ما ابتدأناك ببغي و لا ظلم ، و لا أردنا إلاّ دفعك عن أنفسنا و عن حريمنا ، و لقد كنت جديرا أن تكون من سوء مكافأتنا بمننا عليك و على من معك من نقض العهد و الميثاق الذي وكدت على نفسك أعظم أنفا مما نالك منّا فانا أطلقناكم و أنتم اسراء و حقنا دماءكم و بنا قدرة على سفكها ، و إنّا لم نجبرك على ما شرطت مع انّي قد ظننت انّه يزيدك نجاحا ما تثق به من كثرة جنودك ، و ما أشك ان أكثرهم كارهون لشخوصك لعرفانهم أنّك دعوتهم إلى ما يسخط اللّه فانظر ما قدر غناء من يقاتل على مثل هذه الحال و ما عسى أن تبلغ نكايته في عدوّه إذا كان عارفا بأنّه ان ظفر فمع عار و ان قتل فإلى النار إلى أن قال فلما كان في اليوم الثاني أخرج اخشنوار الصحيفة التي كتبها لهم فيروز فرفعها على رمح لينظر إليها أهل عسكر فيروز فيعرفوا غدره ، فانتقض عسكر فيروز و ما لبثوا إلاّ يسيرا حتى انهزموا و قتل منهم خلق كثير و هلك فيروز ، فقال اخشنوار : لقد صدق الذي قال « لا راد لما قدر و لا أشدّ احالة لمنافع الرأي من الهوى و اللجاح و لا أضيع من نصيحة تمنح من لا يوطّن نفسه على قبولها و لا أسرع عقوبة و أسوأ عاقبة من البغي و الغدر و لا أجلب لعظيم العار و الفضوح من افراط الفخر و الأنفة » 1 .

« و اجعل نفسك جنة دون ما أعطيت » في الطبري بعد ذكر أن محمد بن الأشعث أعطى مسلم بن عقيل الامان و أتى به ابن زياد و أراد قتله فقال مسلم :

يا ابن الأشعث أما و اللّه لو انّك آمنتني ما استسلمت قم بسيفك دوني فقد أخفرت ذمتك .

و رضي السموأل بقتل ابنه دون أن يؤدي الامانة إلى غير أهلها .

-----------
( 1 ) عيون الأخبار لابن قتيبة : 118 121 .

[ 622 ]

« فإنّه ليس من فرائض اللّه شي‏ء » و في رواية ( التحف ) 1 « شي‏ء من فرائض اللّه » .

« الناس أشدّ عليه اجتماعا مع تفرّق أهوائهم و تشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود » لأنّه من الواجبات التي يعتقد بها كلّ ملّة و نحلة الموحد و الملحد و المسلم و الكافر ، و قد أكد فرضه الشريعة ، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعثت إلى الوفاء بالعهد للبر و الفاجر 2 .

« و قد لزم ذلك المشركون في ما بينهم دون المسلمين » أي : لا اختصاص بذلك بالمسلمين .

« لما استوبلوا » أي : عدوه وخيما .

« من عواقب الغدر » .

في ( العقد ) : قال مروان بن محمد لعبد الحميد الكاتب حين أيقن بزوال ملكه : قد احتجت إلى ان تصير مع عدوّي و تظهر الغدر بي فإنّ إعجابهم بأدبك و حاجتهم إلى كتابك تدعوهم إلى حسن الظّن بك ، فإن استطعت أن تنفعني في حياتي و إلاّ لم تعجز عن حفظ حرمتي بعد مماتي . فقال عبد الحميد : إنّ الذي أمرت به أنفع الأشياء لك و أقبحها بي ، و ما عندي غير الصبر معك حتى يفتح اللّه عليك أو أقتل معك 3 .

و قال المدائني : قتل عبد الملك عمرو بن سعيد بعد ما صالحه و كتب له كتابا و أشهد شهودا ثم قال لرجل كان يستشيره و يصدر عن رأيه إذا ضاق به الأمر : ما رأيك في الذي كان منّي ؟ قال : أمر قد فات دركه . قال : لتقولنّ . قال :

-----------
( 1 ) تحف العقول : 145 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 146 .

-----------
( 3 ) العقد الفريد 1 : 73 .

[ 623 ]

حزم لو قتلته و حييت . قال : أو لست بحيّ ؟ فقال ، من أوقف نفسه موقفا لا يوثق له بعهد و لا بعقد فليس بحي . قال : كلام لو سبق سمعه فعلي لأمسكت 1 .

و قال عمرو بن العلاء : كانت بنو سعيد بن تميم أغدر العرب ، و كانوا يسمون الغدر في الجاهلية كيسان ، فقال فيهم الشاعر :

إذا كنت في سعد و خالك منهم
غريبا فلا يغررك خالك من سعد

إذا ما دعوا كيسان كانت كهولهم
إلى الغدر أدنى من شبابهم المرد 2

و كان المنصور غدر بابن هبيرة و عمّه عبد اللّه بن علي و أبي مسلم فأعطاهم الأمان ثم قتلهم ، فلما كتب إلى محمد بن عبد اللّه بن الحسن كتابا ذكر فيه اعطاءه الأمان أجابه محمد أي الأمانات تعطيني أمان ابن هبيرة أم عمّك أم أبي مسلم .

« فلا تغدرن بذمتك و لا تخيسن » أي : لا تنكثن .

« بعهدك و لا تختلن » أي : لا تخدعن .

« عدوّك فانّه لا يجترى‏ء على اللّه » بنقض حرمة العهد .

« إلاّ جاهل شقي » في الخبر 3 : من أمن رجلا على دمه ، فقتله ، فإنّه يحمل لواء غدر يوم القيامة .

« و قد جعل اللّه عهده و ذمته أمنا أفضاه » أي : جعله فضاء واسعا .

« بين العباد برحمته و حريما » أي : شيئا محترما .

« يسكنون إلى منعته » بفتح النون .

-----------
( 1 ) العقد الفريد 1 : 73 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 1 : 74 .

-----------
( 3 ) اخرجه ابن ماجه 2 : 816 ح 3688 .

[ 624 ]

« و يستفيضون » أي : ينتشرون .

« إلى جواره » بالكسر مصدر جاور .

في ( المعجم ) : عن سيف في فتح نيشابور : افتتحها المسلمون سنة ( 19 ) سنة فتح نهاوند حاصروها مدة فلم يفجأهم إلاّ و أبوابها تفتح و خرج السرح و فتحت الأسواق و انبث أهلها ، فأرسل المسلمون ان ما خبركم ؟ قالوا : انكم رميتم الينا بالأمان فقبلناه و أقررنا لكم بالجزاء على أن تمنعونا . فقالوا : ما فعلنا . فقالوا : ما كذبنا ، فسأل المسلمون فيما بينهم فاذا عبد يدعى مكتفا كان أصله منها هو الذي كتب لهم الأمان ، فقال المسلمون : ان الذي كتب اليكم عبد . قالوا : لا نعرف عبدكم من حرّكم فقد جاء الأمان و نحن عليه قد قبلناه فان شئتم فاغدروا . فأمسكوا عنهم .

هذا ، و في ( العقد ) : كان الاسكندر لا يدخل مدينة إلاّ هدمها و قتل أهلها حتى مر بمدينة كان مؤدبه فيها فخرج إليه فأطلقه الأسكندر و أعظمه ، فقال له المؤدب : ان أحق من زين لك أمرك و أعانك على كلّ ما هويت لأنا و ان أهل هذه المدينة قد طمعوا فيك لمكاني منك فأحب أن لا تسعفني فيهم و ان تخالفني في كلّ ما سألتك لهم ، فأعطاه من العهود على ذلك ما لا يقدر على الرجوع عنه ، فلما توثق منه قال : فان حاجتي اليك أن تهدمها و تقتل أهلها . قال : ليس إلى ذلك سبيل و لا بد من مخالفتك 1 .

« فلا ادغال » قال الجوهري : قد أدغل في الأمر ادخل فيه ما يخالفه و يفسده .

« و لا مدالسة » الدلس الظلمة ، و المدالسة أن يأتيك بالشي‏ء في الظلام

-----------
( 1 ) العقد الفريد 1 : 111 .

[ 625 ]

ليخفى عليك العيب .

« و لا خداع فيه » الخداع مصدر خادعه إذا أراد به المكروه من حيث لا يعلم 1 .

في ( العقد ) : صالح سعيد بن العاص حصنا من حصون فارس على أن لا يقتل منهم رجلا واحدا فقتلهم كلّهم إلاّ رجلا واحدا 2 .

و في ( الطبري ) : بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله خالد بن الوليد حين افتتح مكة داعيا و لم يبعثه مقاتلا و معه قبائل من العرب سليم و مدلج و قبائل من غيرهم ، فلما نزلوا على الغميصاء ماء من مياه بني جذيمة و كانوا قد أصابوا في الجاهلية عوفا أبا عبد الرحمن بن عوف و الفاكهة بن المغيرة عمّ خالد و كانا قد أقبلا تاجرين من اليمن فلما نزلا بهم قتلوهما و أخذوا أموالهما فلما رأى القوم خالدا أخذوا السلاح ، فقال لهم خالد : ضعو السلاح فان الناس قد أسلموا إلى أن قال فوضعوا القوم السلاح لقول خالد ، فلما وضعوه أمر بهم خالد عند ذلك فكتفوا ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم ، فلما انتهى الخبر إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله رفع يديه إلى السماء ثم قال « اللّهم اني ابرأ اليك مما صنع خالد » ، ثم دعا عليا عليه السّلام فقال له : أخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم و اجعل أمر الجاهلية تحت قدميك ، فخرج و معه مال فودى لهم الدماء حتى انّه ليدي ميلغة الكلب الخ 3 .

و في ( الطبري ) أيضا : ان أبا بكر كان من عهده إلى جيوشه ان إذا غشيتم دارا من دور الناس فسمعتم إذانا للصلاة فأمسكوا عن أهلها حتى تسألوهم

-----------
( 1 ) جوهري 14 : 1697 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 1 : 112 .

-----------
( 3 ) تاريخ الطبري 3 : 66 و 67 .

[ 626 ]

ما الذي نقموا و ان لم تسمعوا أذانا فشنوا الغارة و اقتلوا و احرقوا ، و كان ممّن شهد لمالك ابن نويرة بالإسلام أبو قتادة السلمي ، و قد كان عاهد اللّه أن لا يشهد مع خالد بعدها حربا أبدا ، و كان يحدث أنّهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح ، قال أبو قتادة . فقلنا انّا المسلمون . فقالوا و نحن المسلمون . قلنا لهم : فما بال السلاح معكم . قالوا لنا : فما بال السلاح معكم . قلنا :

فان كنتم كما تقولون فضعوا السلاح ، فوضعوه ثم صلّينا و صلّوا . و كان خالد يعتذر في قتله أنّه قال و هو يراجعه ما أخال صاحبكم إلاّ و قد كان يقول كذا كذا قال أو ما تعده لك صاحبا ؟ ثم قدمه فضرب عنقه و أعناق أصحابه ، فلما بلغ قتلهم عمر تكلّم فيه عند أبي بكر فأكثر فقال : عدوّ اللّه عدا على امرى‏ء مسلم فقتله ثم نزا على امرأته إلى أن قال فقال أبو بكر : خالد سيف سلّه اللّه لا أشيمه 1 .

و في ( الطبري ) أيضا : قتل الحجّاج يوم الزاوية من وقائعه مع ابن الأشعث لمّا انهزموا أحد عشر ألفا خدعهم بالأمان ، أمر مناديا فنادى لا أمان لفلان بن فلان و فلان بن فلان فسمّى رجالا فقال العامة : قد آمن الناس فحضروا عنده فأمر بهم فقتلوا 2 .

« و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحق فإنّ صبرك على ضيق أمر » هكذا في ( المصرية و ابن أبي الحديد ) 3 و ليس « أمر » في ( ابن ميثم ) 4 و ( الخطية ) و الظاهر كونه حاشية خلطت بالمتن فرواية

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 279 و 280 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 6 : 381 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 107 .

-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 5 : 175 .

[ 627 ]

التحف 1 أيضا منه خالية .

« ترجو انفراجه » قال الشاعر :

عسى الكرب الذي أمسيت فيه
يكون وراءه فرج قريب

« و فضل عاقبته » بحصول ثواب كثير له ، قال تعالى : إنّما يوفّى الصّابرون أجرهم بغير حساب 2 .

« خير من غدر تخاف تبعته » من خصمك .

« و أن تحيط بك من اللّه فيه » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( فيه من اللّه ) كما في ( ابن أبي الحديد ) 3 و ( ابن ميثم ) 4 و ( الخطية ) .

« طلبه فلا تستقبل » جعله ( ابن ميثم ) 5 بالموحدة ، قال : و روي « تستقيل » بالمثنّاة .

« فيها دنياك و لا آخرتك » .

في ( الطبري ) في صلح الحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو أخا بني عامر بن لؤي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قالوا له : إئت محمدا فصالحه و لا يكن في صلحه إلاّ أن يرجع عنّا عامه هذا إلى أن قال فلمّا التأم الأمر و لم يبق إلاّ الكتاب وثب عمر فأتى أبا بكر فقال : أ ليس برسول اللّه ؟ قال : بلى . قال : أ و لسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى . قال : أ و ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى . قال : فعلى م نعطي الدنية في ديننا إلى أن قال ثم أتى عمر النبيّ فقال له : أ لست برسول اللّه ؟ قال :

بلى . قال : أ و لسنا بالمسلمين . قال : بلى . قال : أ و ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى .

قال : فعلى م نعطي الدنيّة في ديننا . فقال النبيّ : أنا عبد اللّه و رسوله لن أخالف

-----------
( 1 ) تحف العقول : 146 .

-----------
( 2 ) الزمر : 10 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 107 .

-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 5 : 175 .

-----------
( 5 ) شرح ابن ميثم 5 : 175 .

[ 628 ]

أمر اللّه و لن يضيّعني إلى أن قال فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لعلي بن أبي طالب : اكتب « هذا ما صالح عليه محمد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأمن فيهن الناس و يكفّ بعضهم عن بعض ،

على أنّه من أتى النبيّ من قريش بغير إذن وليّه ردّه عليهم و من جاء قريشا ممّن مع النبيّ لم تردّه عليه ، و أن بيننا عيبة مكفوفة ، و انّه لا اسلال و لا إغلال ،

و أن من أحبّ أن يدخل في عقد النبيّ و عهده دخل فيه و من أحب أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه » فتواثبت خزاعة فقالوا : نحن في عقد النبيّ و عهده و تواثبت بنو بكر فقالوا : نحن في عقد قريش و عهدهم إلى أن قال قال الزهري : فما فتح في الإسلام فتح قبله كان أعظم منه ، انما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة و وضعت الحرب أوزارها و آمن الناس كلّهم و آمن بعضهم بعضا التقوا و تفاوضوا في الحديث و المنازعة ، فلم يكلّم أحد بالاسلام يعقل شيئا إلاّ دخل فيه ، فقد دخل في الاسلام في تينك السنين مثل ما كان دخل في الاسلام قبل ذلك و أكثر .

إلى أن قال : فلما قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المدينة جاءه أبو بصير رجل من قريش و كان ممّن حبس بمكة فكتب فيه أزهر بن عبد عوف و الأخنس بن شريق الثقفي و بعثا رجلا من بني عامر بن لؤي و معه مولى لهم فقدما على النبيّ بكتاب الأزهر و الأخنس ، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : يا أبا بصير قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت و لا يصلح لنا في ديننا الغدر و ان اللّه جاعل لك و لمن معك من المستضعفين فرجا و مخرجا ، فانطلق معهما حتى إذا كان بذي الحليفة جلس إلى جدار و جلس معه صاحباه ، فقال أبو بصير : أ صارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ؟ قال : نعم . قال : أنظر إليه . قال : ان شئت فاستله أبو بصير ثم علاه به فقتله . و خرج المولى سريعا حتى أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هو في المسجد ، فلما رآه

[ 629 ]

طالعا قال : ان هذا رجل قد رأى فزعا ، فلما انتهى إليه قال له : ويلك مالك . قال :

قتل صاحبكم صاحبي ، فو اللّه ما برح حتى طلع أبو بصير متوشحا السيف حتى وقف على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال : يا رسول اللّه وفت ذمتك رددتني اليهم ثم أنجاني اللّه . فقال النبيّ : ويل امه مسعر حرب لو كان معه رجال ، فلما سمع أبو بصير ذلك علم أنّه سيرده اليهم ، فخرج حتى نزل بالعيص من ناحية ذي المروة على ساحل بحر بطريق قريش الذي كانوا يأخذون إلى الشام و بلغ المسلمين الذين كانوا احتبسوا بمكة قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأبي بصير « محش حرب لو كان معه رجال » ، فخرجوا إلى أبي بصير بالعيص و لحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو فاجتمع إليه قريبا من سبعين رجلا منهم ، فكانوا قد ضيقوا على قريش فو اللّه ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلاّ اعترضوا لهم فقتلوهم و أخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يناشدونه باللّه و الرحم لما أرسل اليهم فمن أتاه فهو آمن ، فآواه النبيّ فقدموا عليه المدينة 1 .

« اياك و الدماء و سفكها بغير حلها فانه ليس شي‏ء أدنى » هكذا في المصرية و الصواب : « أدعى » كما في ابن أبي الحديد 2 و ابن ميثم 3 و الخطية ( لنقمة و لا أعظم لتبعة و لا أحرى بزوال نعمة و انقطاع مدة من سفك الدماء بغير حقها ) قال تعالى و من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها و غضب اللّه عليه و لعنه و أعدّ له عذابا عظيما 4 .

و في غريب ابن قتيبة قال علي عليه السّلام « لما قتل ابن آدم أخاه غمص اللّه

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 633 و 634 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 110 .

-----------
( 3 ) شرح ابن ميثم 5 : 175 .

-----------
( 4 ) النساء : 93 .

[ 630 ]

الخلق و نقص الأشياء » و معنى الحديث ان اللّه تعالى نقص الخلق من عظم الابدان و طولها من القوة و البطش و طول العمر و نحو ذلك .

و عن الصادق عليه السّلام : أوحى اللّه تعالى إلى موسى قل للملأ من بني اسرائيل إيّاكم و قتل النفس الحرام بغير حق فان من قتل منكم نفسا في الدنيا قتله في النار مائة ألف قتلة مثل قتل صاحبه 1 .

و عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى و من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انّه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا 2 انه يوضع في موضع من جهنم إليه ينتهي شدّة عذاب أهلها لو قتل الناس جميعا كان انما يدخل ذلك المكان 3 .

و عن أحدهما عليهما السّلام قيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله قتيل في مسجد جهينة ، فقام يمشي حتى انتهى إلى مسجدهم و تسامع الناس فأتوه ، فقال : من قتل ذا ؟ فقالوا لا ندري . فقال : و الذي بعثني بالحقّ لو أن أهل السماوات و الأرض شركوا في دم مسلم أو رضوا به لأكبهم اللّه على مناخرهم أو قال على وجوههم 4 .

و عن الصادق عليه السّلام : في من قتل مؤمنا يقال له مت أي ميتة شئت يهوديا و ان شئت نصرانيا و ان شئت مجوسيا 5 .

« و اللّه سبحانه مبتدى‏ء بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة » .

-----------
( 1 ) عقاب الاعمال : 327 ح 8 .

-----------
( 2 ) المائدة : 32 .

-----------
( 3 ) اخرجه الكليني في الكافي 7 : 271 ح 1 ، و ؟ ؟ في عتاب : 32 ح 2 .

-----------
( 4 ) اخرجه الكليني في الكافي 7 : 272 ح 8 .

-----------
( 5 ) اخرجه الكليني في الكافي 7 : 273 ح 98 ، و عتاب : 327 ح 4 .

[ 631 ]

عن الصادق عليه السّلام : أول ما يحكم اللّه تعالى في القيامة الدماء فيقوم ابنا آدم فيفصل بينهما ، ثم الذين يلونهما من أصحاب الدماء حتى لا يبقى منهم أحد ، ثم الناس بعد ذلك ، فيأتي المقتول قاتله فيشخب دمه في وجهه فيقول :

هذا قتلني . فيقول : أنت قتلته ، فلا يستطيع أن يكتم اللّه حديثا 1 .

( فلا تقوين سلطانك بسفك دم حرام فان ذلك مما يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله ) .

في المروج كان معاوية بعث في سنة أربعين بسر بن ارطأة في ثلاثة آلاف رجل حتى قدم المدينة و عليها أبو أيوب الأنصاري ، فتنحى و جاء بسر فصعد المنبر و تهدد أهل المدينة بالقتل فأجابوه إلى بيعة معاوية ، ثم سار إلى اليمن و كان عبيد اللّه بن العباس بها فخرج عنها و خلّف ابنيه عند امهما ، فقتلهما بسر و قتل معهما خالا لهما من ثقيف و قتل بالمدينة و بين المسجدين خلقا كثيرا من خزاعة و غيرهم ، و كذلك بالجرف قتل بها خلقا كثيرا من رجال همدان . و قتل بصنعاء خلقا كثيرا من الأبناء و لم يبلغه عن أحد أنّه يمالى‏ء عليا أو يهواه إلاّ قتله 2 .

« و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد لأنّ فيه قود » بفتحتين أي :

القصاص .

« البدن » قال تعالى : النفس بالنفس 3 و قال و لكم في القصاص حياة 4 .

« و إن ابتليت بخطأ و أفرط عليك سوطك أو سيفك » هكذا في ( المصرية )

-----------
( 1 ) اخرجه الكافي 7 : 271 ح 2 ، و عقاب الأعمال : 326 ح 3 .

-----------
( 2 ) مروج الذهب 2 : 21 و 22 .

-----------
( 3 ) المائدة : 45 .

-----------
( 4 ) البقرة : 179 .

[ 632 ]

و الكلمة « أو سيفك » زائدة لعدم وجودها في ( ابن أبي الحديد ) 1 و ( ابن ميثم ) 2 و ( الخطية ) ، و الظاهر أن الكلمة كانت حاشية زادها بعض المحشين اجتهادا فخلطت بالمتن ، إلاّ أنّ اجتهاده كان خطأ فالسيف لا يستعمل إلاّ في العمد دون الخطأ ، و ليست الكلمة في رواية ( التحف ) 3 أيضا .

« أو يدك بعقوبة فإنّ في الوكزة » قال ابن دريد : الوكز : الضرب باليد و هي مجموعة 4 .

« فما فوقها مقتلة » أي : سببا للقتل كما اتّفق لموسى عليه السّلام مع القبطيّ قال تعالى فوكزه موسى فقضى عليه 5 .

« فلا تطمحنّ » أي : لا ترفع .

« بك نخوة » أي : عظمة .

« سلطانك عن أن تؤدّي إلى أولياء المقتول حقّهم » من الدية لأنّ في مثله من قتل يحصل بسبب إفراط سوط أو يد في العقوبة و هو الخطأ شبيه العمد الدية على القاتل و إنّما الدية على العاقلة في الخطأ المحض .

روى الكافي أنّه عليه السّلام أمر قنبرا أن يضرب رجلا حدّا فغلط قنبر فزاده ثلاثة أسواط فأقاده عليه السّلام من قنبر ثلاثة أسواط .

و روى : أنّ امرأة كانت تؤتى فبلغ ذلك عمر فبعث إليها فروّعها و أمر أن يجاء بها إليه ، ففزعت المرأة فأخذها الطلق و ذهبت إلى بعض الدور فولدت غلاما فاستهلّ الغلام ثم مات ، فدخل عليه من روعة المرأة و من موت الغلام

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 111 .

-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم 5 : 175 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 147 .

-----------
( 4 ) جمهرة اللغة 2 : 825 .

-----------
( 5 ) القصص : 15 .

[ 633 ]

ما شاء اللّه ، فقال له بعض جلسائه : ما عليك من هذا شي‏ء ، و قال بعضهم و ما هذا ؟ فقال عمر : سلوا أبا الحسن . فقال عليه السّلام : إن كنتم اجتهدتم ما أصبتم ، و إن كنتم برأيكم قلتم لقد اخطأتم ، ثم قال لعمر عليك ديّة الصبي 1 .

قال ابن أبي الحديد : كلامه عليه السّلام لمالك يدلّ على أنّ المؤدب من الولاة إذا تلف تحت يده إنسان في التأديب فعليه الدية ، و قال لي قوم من فقهاء الامامية :

إنّ مذهبنا أن لا دية عليه ، و هو خلاف مقتضى كلامه عليه السّلام هنا 2 .

قلت : فصلّ الشيخان في ( المقنعة ) و ( الاستبصار ) بين حقوق اللّه و حقوق الناس استنادا إلى خبر الكافي عن ابن حي عن الصادق عليه السّلام كان علي يقول : من ضربناه حدا من حدود اللّه فمات فلا دية له علينا ، و من ضربناه في حقوق الناس فمات فان ديته علينا 3 .

و كلامه عليه السّلام هنا لمالك لا ينافي ذلك لأن مورده التعدّي لقوله عليه السّلام « و أفرط عليك سوطك أو يدك بعقوبة » و يمكن حمل خبر ( الكافي ) في ضمان حقوق الناس أيضا على التعدّي لعدم تعيين الضّرب فيه و إلاّ فمن حقوق الناس القصاص في غير النفس .

و في خبر زيد الشحام عن الصادق عليه السّلام في رجل قتله القصاص ، هل له دية ؟ قال : لو كان ذلك لم يقتصّ من أحد 4 .

و في خبر الحلبي عنه عليه السّلام أيضا أنّ من قتله الحدّ و القصاص

-----------
( 1 ) الكافي 7 : 260 ح 1 ، و 7 : 374 ح 11 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 112 .

-----------
( 3 ) الاستبصار 4 : 279 3 ، المقنعة : 116 ، من لا يحضره الفقيه 4 : 51 ح 5 ، الكافي 7 : 292 ح 10 ، التهذيب 10 : 208 ح 27 .

-----------
( 4 ) الاستبصار 4 : 276 ح 2 : الكافي 7 : 291 ح 3 ، التهذيب 10 : 207 ح 20 : من لا يحضره الفقيه 4 : 379 ح 2 .

[ 634 ]

فلا دية له 1 .

« و إيّاك و الإعجاب بنفسك و الثّقة بما يعجبك منها » في ( المروج ) : قيل لقتيبة ابن مسلم و هو وال للحجاج على خراسان محاربا للترك : لو وجّهت فلانا لرجل من أصحابه أميرا على الجيش إلى الحرب ، فقال : إنّه رجل عظيم الكبر ،

و من عظم كبره اشتدّ عجبه ، و من أعجب برأيه لم يشاور كفيّا و لم يؤامر نصيحا ، و من تبجّح بالإعجاب و فخر بالاستبداد كان من الصّنع بعيدا و من الخذلان قريبا ، و من تكبّر على عدوّه حقره ، و من حقره تهاون بأمره ، و من تهاون بأمر عدوه وثق بقوّته و سكن إلى عدّته فقلّ احتراسه و كثر عثاره ، و ما رأيت عظيما تكبّر على صاحب حرب قطّ إلاّ كان مخذولا ، لا و اللّه حتى يكون أسمع من فرس و أبصر من عقاب ، و أهدى من قطاة و أحذر من عقعق ، و أشدّ اقداما من أسد و أوثب من فهد ، و أحقد من جمل و أروغ من ثعلب ، و أسخى من ديك و أشح من ظبي و أحرس من كركي ، و أحفظ من كلب و أصبر من ضب و أجمع من النمل ، و ان النفس إنما تسمح بالعناية على قدر الحاجة و يتحفظ على قدر الخوف و يطمع على قدر السبب ، و قد قيل : ليس لمعجب رأي و لا لمتكبّر صديق ، و من أحبّ أن يحبّ تحبّب 2 .

و في ( الطبري ) : كان يزدجرد الاثيم بن سابور ذي الأكناف ذا عيوب كثيرة ، و كان من أشدّ عيوبه و أعظمها ذكاء ذهن و حسن أدب و صنوفا من العلم قد مهرها و علمها ، و شدّة عجبه بما عنده من ذلك و استخفافه بكلّ ما كان في أيدي الناس من علم و أدب ، و احتقاره له و قلّة اعتداده به و استطالته على

-----------
( 1 ) الاستبصار 4 : 278 279 ح 1 : الكافي 7 : 290 291 ح 1 ، التهذيب 10 : 206 18 ، من لا يحضره الفقيه 4 :

278 .

-----------
( 2 ) مروج الذهب 4 : 237 .

[ 635 ]

الناس بما عنده منه 1 .

« و حبّ الإطراء » أي : مدح الناس له . في ( العقد ) : قدم على عمر بن عبد العزيز ناس من أهل العراق فنظر إلى شاب منهم يتحوّش للكلام ، فقال : أكبروا أكبروا . فقال الشاب : ليس بالسن و لو كان الأمر كلّه بالسن لكان في المسلمين من هو أسن منك . فقال عمر : صدقت تكلّم . فقال : إنّا لم نأتك رغبة و لا رهبة ، أمّا الرغبة فقد دخلت علينا منازلنا و قدمت علينا بلادنا ، و أما الرهبة فقد آمننا اللّه بعد لك من جورك . قال : فما أنتم . قال : وفد الشكر . فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلّل ، فقال له : لا يغلبنّ جهل القوم بك معرفتك بنفسك فإنّ اناسا خدعهم الثناء و غرّهم شكر الناس فهلكوا و أنا أعيذك باللّه أن تكون منهم . فألقى عمر رأسه على صدره .

و قد يطري أهل الدنيا من فوقهم بما يكون كفرا ، فقالوا كتب الحجّاج إلى عبد الملك : كما أن خليفة الرجل في أهله أكرم عليه من رسوله كذلك الخلفاء أعلى منزلة من المرسلين 2 .

« فان ذلك من أوثق » أي : أحكم .

« فرص الشيطان في نفسه » قال أبو عبد اللّه عليه السّلام قال إبليس لجنوده : إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث لم ابال ما عمل ، فإنّه غير مقبول منه : إذا استكثر عمله و نسي ذنبه و دخله العجب 3 .

جعل عليه السّلام الإعجاب و حبّ الاطراء من أوثق فرصه ، لأن فرصه كثيرة في إضلال ابن آدم . و في الخبر : قال إبليس لنوح بعد أن دعا على قومه

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 63 .

-----------
( 2 ) العقد الفريد 2 : 17 .

-----------
( 3 ) الخصال : 112 ح 86 .

[ 636 ]

أرحتني و أنا أريد أن اكافئك على ذلك ، اذكرني في ثلاثة مواطن : إذا غضبت و إذا حكمت بين اثنين ، و إذا كنت مع امرأة خاليا ليس معكما أحد 1 .

أيضا قال إبليس : ما أعياني في ابن آدم فلن يعييني منه واحدة من ثلاث :

أخذ مال من غير حلّه ، أو منعه من حقّه ، أو وضعه في غير وجهه 2 .

« ليمحق » أي : يبطل .

« ما يكون من احسان المحسنين » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

( المحسن ) كما في ( ابن أبي الحديد ) 3 و ( ابن ميثم ) 4 و ( الخطية ) .

و في الخبر : سيّئة تسوؤك خير من حسنة تعجبك .

و في ( تفسير القمي ) : لما كلّم اللّه تعالى موسى و أنزل عليه الألواح رجع إلى بني إسرائيل فصعد المنبر فأخبرهم أنّ اللّه كلّمه و أنزل عليه التوراة ، ثم قال في نفسه : ما خلق اللّه خلقا هو أعلم منّي . فأوحى تعالى إلى جبرئيل ان أدرك موسى فقد هلك و أعلمه أنّ عند ملتقى البحرين عند الصخرة الكبيرة رجلا أعلم منك فصر إليه و تعلّم منه ، فنزل جبرئيل على موسى فأخبره بذلك . . . 5 .

و في ( عقاب الأعمال ) عن أبي جعفر عليه السّلام : إن اللّه عز و جل فوّض الأمر إلى ملك من الملائكة ، فخلق سبع سماوات ، و سبع أرضين ، و أشياءهما ، فلما رأى ان الأشياء قد انقادت له قال : من مثلي فأرسل اللّه عز و جل نويرة نار مثل

-----------
( 1 ) الخصال : 132 ح 140 .

-----------
( 2 ) الخصال : 132 ح 141 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 112 .

-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 5 : 175 .

-----------
( 5 ) تفسير القمي 2 : 36 .

[ 637 ]

أنملة فاستقبلها بجميع ما خلق حتى وصلت إليه لما دخله العجب 1 .

« و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك أو التزيّد » في ( الصحاح ) التزيد في الحديث : الكذب 2 ، و كان سعيد بن عثمان يلقب بالزوائدي لأنّه كان له ثلاث بيضات .

« فيما كان من فعلك أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك فإنّ المنّ يبطل الإحسان » كما يبطل الصدقات . قال الشاعر :

أفسدت بالمنّ ما أسديت من حسن
ليس الكريم إذا أسدى بمنّان

في ( العيون ) : قال رجل لبنيه : إذا اتّخذتم عند رجل يدا فانسوها .

و قال رجل لابن شبرمة : فعلت بفلان كذا و كذا و كذا . فقال له : لا خير في المعروف إذا احصي .

و قد وصف النابغة الاحسان مع المن بنعمة ذات عقارب ، فقال في عمرو بن الحدث الغساني :

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة
لوالده ليست بذات عقارب

« و التزيّد يذهب بنور الحق » فكل باطل خلط مع الحق يذهب بالحق .

و كان الصادق عليه السّلام يقول لطلاب العلم : لا تكونوا علماء جبّارين فيذهب باطلكم بحقكم 3 .

« و الخلف » للوعد .

« يوجب المقت » أي : المبغوضية .

« عند اللّه و الناس . قال اللّه تعالى » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

-----------
( 1 ) عقاب الأعمال : 299 ح 1 .

-----------
( 2 ) الصحاح 2 : 482 .

-----------
( 3 ) أخرجه ابن بابويه في أماليه : 394 ح 9 المجلس 57 .

[ 638 ]

( سبحانه ) كما في ( ابن أبي الحديد ) 1 و ( ابن ميثم ) 2 و ( الخطية ) كبر مقتا عند اللّه أن تقولوا ما لا تفعلون و قبله يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون 3 ، و قد أكثروا في ذمّ الخلف فمنها :

يا أكثر الناس وعدا حشوه خلف
و أكثر الناس قولا حشوه كذب

أيضا :

يا جواد اللّسان من غير فعل
ليت جود اللسان في راحتيكا

أيضا :

قد بلوناك بحمد اللّه ان أغنى البلاء
فإذا جل مواعيدك و الجحد سواء

أيضا :

للّه درّك من فتى
لو كنت تفعل ما تقول

أيضا :

لسانك أحلى من جنى النحل موعدا
و كفّك بالمعروف أضيق من فعل

« و إيّاك و العجلة بالامور قبل أوانها » قال تعالى : خلق الإنسان من عجل سأريكم آياتي فلا تستعجلون 4 و قال : و يدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير و كان الإنسان عجولا 5 .

« أو التسقط » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( أو التساقط ) كما في ( ابن أبي الحديد ) 6 و ( ابن ميثم ) 7 و ( الخطية ) .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 113 .

-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم 5 : 176 .

-----------
( 3 ) الصف : 2 3 .

-----------
( 4 ) الأنبياء : 37 .

-----------
( 5 ) الاسراء : 11 .

-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 113 .

-----------
( 7 ) شرح ابن ميثم 5 : 176 .

[ 639 ]

« فيها عند امكانها » .

قال ابن أبي الحديد : هو عبارة عن النهي عن الحرص و الجشع ، قال الشنفرى :

و إن مدّت الأيدي إلى الزاد لم أكن
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل 1

قلت : أين ما قال من مراده عليه السّلام ، فان مراده النهي عن الاسترخاء و البطء في الامور عند إمكان أدركها في مقابل العجلة بها قبل وقتها ، قال الشاعر :

فإذا أمكنت فبادر إليها
حذرا من تعذّر الإمكان

« أو اللّجاجة فيها إذا تنكّرت » قال الشاعر :

و رب ملحّ على بغية
و فيها منيّته لو شعر

قال آخر :

كناطح صخرة يوما ليفلقها
فلم يضرها و أوهى قرنه الوعل

« أو الوهن عنها إذا استوضحت » و في رواية ( التحف ) ( أوضحت ) ، 2 و الفرق بين هاتين الفقرتين و اللتين قبلهما أن هاتين من حيث عرفان الامور و نكرها و وضوحها و لبسها و الأوليان من حيث بلوغ وقتها و عدمه .

« فضع كلّ أمر موضعه و أوقع كلّ أمر » هكذا في ( المصرية ) و الصواب :

( عمل ) كما في ( ابن أبي الحديد ) 3 و ( ابن ميثم ) 4 و ( الخطية ) .

« موقعه » .

رأى دريد بن الصّمّة الخنساء بنت عمرو بن شريد تهنا الابل كما ينبغي فقال فيها :

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 116 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 147 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 113 .

-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 5 : 176 .

[ 640 ]

ما ان رأيت و لا سمعت به
كاليوم هاني أينق جرب

متبذّلا تبدو محاسنه
يضع الهناء مواضع النقب

و قالوا : الحكمة وضع كلّ شي‏ء موضعه ، و العقل هو الذي يضع الأشياء مواضعها .

« و إيّاك و الاستئثار » أي : الاستبداد .

« بما النّاس فيه أسوة » أي : سواء ، أي : جعله اللّه لعامة عباده كالكلأ ، و قد حمى عثمان الكلأ الذي حول المدينة لنفسه و هو أحد مطاعنه .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) : إجتمع ناس من الصحابة فكتبوا كتابا ذكروا فيه ما خالف عثمان من السنة إلى أن قال فيها و ما كان من الحمى الذي حمى حول المدينة . و قال : قال له رجل من المهاجرين يا عثمان أ رأيت ما حميت عن الحمى ء آ للّه أذن لكم أم على اللّه تفترون 1 .

هذا ، و استشهد ابن أبي الحديد لكلامه : « و إيّاك و الإستئثار بما الناس فيه أسوة » بأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله لمّا غنائم من خيبر غنائم ، ركب راحلته و سار ، فتبعه الناس يطلبون قسمتها ، فمرّ بشجرة فخطفت رداءه ، فالتفت اليهم و قال : ردّوا عليّ ردائي ، فلو ملكت بعدد رمل تهامة مغنما لقسمته بينكم ، ثم لا تجدونني بخيلا و لا جبانا ، و نزل و قسّم ذلك المال عن آخره عليهم كلّه ، لم يأخذ لنفسه وبرة 2 .

و هو كما ترى لا ربط له ، فإن الغنائم ليس الناس فيها أسوة بل خمس منها للنبي صلّى اللّه عليه و آله و أقربائه و أربعة أخماس منها للمجاهدين ، و النبي ما استأثر على الناس بسهامهم بل آثرهم بسهم نفسه .

-----------
( 1 ) الخلفاء لابن قتيبة 1 : 32 و 33 . و الآية 59 من سورة يونس .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 116 .

[ 641 ]

« و التغابي » أي : التغافل و هو عطف على « الاستئثار » ، أي : و إيّاك و التغافل « عما يعنى » بلفظ المجهول « به » أي : يهتم به .

« ممّا قد وضح للعيون فإنّه مأخوذ منك لغيرك » كما كان عثمان يعمل أقاربه أعمالا شنيعة بمرأى و مسمع من الناس و يتغابى عنها .

و في ( خلفاء ابن قتيبة ) في كتاب جمع الصحابة فيه بدع عثمان إلى أن قال و ما كان من إفشائه العمل و الولايات في أهله و بني عمّه من بني أمية أحداث و غلمة لا صحبة لهم من الرسول و لا تجربة لهم بالامور ، و تركه المهاجرين و الأنصار لا يستعملهم على شي‏ء و لا يستشيرهم و استغنى برأيه عن رأيهم ، و ما كان من الوليد بن عقبة بالكوفة إذ صلّى بهم الصبح و هو أمير عليهم سكران أربع ركعات ثم قال إن شئتم أزيدكم ركعة زدتكم ، و تعطيله إقامة الحدّ عليه إلى أن قال ثم قام رجل من الأنصار فقال : يا عثمان ما بال هؤلاء النفر من أهل المدينة يأخذون العطايا و لا يغزون في سبيل اللّه ، و إنّما هذا المال لمن غزا فيه و قاتل عليه ؟ إلى أن قال فما بال هذا القاعد الشارب لا تقيم الحدّ عليه ؟ يعني الوليد بن عقبة 1 .

« و عمّا قليل تنكشف » و في رواية ( التحف ) ( تكشف ) 2 و هو أصح .

« عنك أغطية الأمور » هنا لك تبلو كل نفس ما أسلفت 3 ، يوم تبلى السّرائر 4 .

« و ينتصف منك للمظلوم » و في رواية ( التحف ) 5 « فينتصف المظلومون

-----------
( 1 ) الخلفاء لابن قتيبة 1 : 32 و 34 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 148 .

-----------
( 3 ) يونس : 30 .

-----------
( 4 ) الطارق : 9 .

-----------
( 5 ) تحف العقول : 148 .

[ 642 ]

من الظالمين » و روايته أصحّ ، فقال عليه السّلام ذلك عامّا كما في قوله تعالى : فاذا جاءت الطامّة الكبرى . يوم يتذكّر الإنسان ما سعى . و برّزت الجحيم لمن يرى . فأمّا من طغى و آثر الحياة الدنيا فإنّ الجحيم هي المأوى . و أمّا من خاف مقام ربّه و نهى النفس عن الهوى فإنّ الجنّة هي المأوى 1 .

و كيف كان ففي ( الطبري ) : لما دخل المنصور آخر منزل نزله من طريق مكة نظر في صدر البيت الذي نزل فيه فاذا فيه مكتوب :

أبا جعفر حانت و فاتك و انقضت
سنوك و أمر اللّه لا بدّ واقع

أبا جعفر هل كاهن أو منجم
لك اليوم من حرّ المنيّة مانع

فدعا بالمتولي لإصلاح المنازل فقال : أ لم آمرك ألا يدخل المنزل أحد من الدعار ؟ قال : و اللّه ما دخلها أحد منذ فرغ منها . فقال : إقرأ ما في صدر البيت . قال ما أرى شيئا . فدعا برئيس الحجبة فقال : إقرأ ما على صدر البيت . فقال : ما أرى على صدر البيت شيئا . فأملى البيتين فكتبا عنه ، فالتفت إلى حاجبه فقال له : اقرأ آية من كتاب اللّه جل و عزّ تشوّقني إلى اللّه عز و جل فتلا و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون 2 فأمر بفكّيه فوجئا و قال له ما وجدت شيئا تقرأ غير هذه الآية . فقال : محي القرآن من قلبي غير هذه الآية . فأمر بالرحيل من ذلك المنزل تطيّرا ممّا كان و ركب فرسا ، فلما كان في الوادي الذي يقال له « سقر » و كان آخر منزل بطريق مكة كبا به الفرس فدقّ ظهره و مات فدفن ببئر ميمون ، و حفر له مئة قبر و ما دفن في كلّها لئلاّ يعرف موضع قبره الذي هو ظاهر للناس و دفن في غيرها للخوف عليها ، و كذلك قبور خلفاء ولد

-----------
( 1 ) النازعات : 34 39 .

-----------
( 2 ) الشعراء : 227 .

[ 643 ]

العباس لا يعرف لأحد منهم قبر 1 .

« أملك » في رواية ( التحف ) « ثم أملك » 2 .

« حمية أنفك » و في الخبر : المؤمن كالجمل الأنف . أي : الموجع أنفه بالخزامة .

« و سورة » أي : سطوة .

« حدك » أي : بأسك ، و في رواية ( التحف ) « حدّتك » 3 .

« و سطوة يدك » قال هود لقومه : و إذا بطشتم بطشتم جبّارين 4 .

« و غرب » أي : حدة .

« لسانك و احترس » أي : احتفظ .

« من كلّ ذلك » الأربعة المذكورة .

« بكفّ البادرة » ما تبدر من الإنسان عند حدته .

« و تأخير السطوة » أي : العقوبة .

« حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار » عن النبي صلّى اللّه عليه و آله : « إن الغضب جمرة توقّدت في جوف ابن آدم ، ألا ترون إلى حمرة عينيه و انتفاخ أوداجه » 5 .

و قال صلّى اللّه عليه و آله : « ليس الشّديد بالصرعة إنّما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب » 6 .

هذا ، و في رواية ( التحف ) : « و ارفع بصرك إلى السماء عند ما يحضرك

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 8 : 107 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 148 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 148 .

-----------
( 4 ) الشعراء : 130 .

-----------
( 5 ) الكافي 2 : 304 ح 12 .

-----------
( 6 ) أخرجه الطبري و مسلم في صحيحيهما و أحمد في مسنده ، عنهم الجامع الصغير 2 : 125 .

[ 644 ]

منه حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار » 1 .

و قال ابن أبي الحديد : كان لكسرى أنوشروان من يقف على رأسه يوم جلوسه ، فإذا غضب على إنسان قرع سلسلة تاجه بقضيب في يده و قال له :

إنّما أنت بشر ، فارحم من في الأرض يرحمك من في السماء 2 .

« و لن تحكم » من الإحكام .

« ذلك من نفسك حتى تكثر همومك » أي : خيالاتك .

« بذكر المعاد » أي : العود .

« إلى ربك » .

و في ( الطبري ) : سار الهادي بين أبيات جرجان و بساتينها ، فسمع صوتا من بعض تلك البساتين من رجل يتغنّى ، فقال لصاحب شرطته : عليّ بالرجل الساعة . فقال له سعيد بن مسلم : ما أشبه قصة هذا الحائن بقصة سليمان بن عبد عبد الملك . قال : و كيف ؟ قال : كان سليمان في متنزّه له و معه حرمه فسمع من بستان آخر صوت رجل يتغنّى فدعا صاحب شرطته فقال علي بصاحب الصوت ، فأتي به فلما مثل بين يديه قال له : ما حملك على الغناء و أنت إلى جنبي و معي حرمي ، أما علمت أنّ الرّماك إذا سمعت صوت الفحل حنّت إليه ، يا غلام جبّه فجبّ الرجل ، فلما كان في العام المقبل رجع سليمان إلى ذلك المنتزه فجلس مجلسه الذي فيه فذكر الرجل و ما صنع به فقال لصاحب شرطته : عليّ بالرجل الذي كنّا جببناه ، فأحضره فلمّا مثل بين يديه قال له : إمّا بعت فوفيناك و إمّا وهبت فكافأناك ، فو اللّه ما دعاه بالخلافة و لكنّه قال له : يا سليمان اللّه اللّه ، قطعت نسلي فذهبت بماء وجهي و حرمتني لذتي ثم

-----------
( 1 ) تحف العقول : 148 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 117 .

[ 645 ]

تقول : « إمّا وهبت فكافأناك و إمّا بعت فوفيناك » لا و اللّه حتى نقف بين يدي اللّه .

فقال الهادي : يا غلام ردّ صاحب الشرطة . فقال له : لا تتعرّض للرجل 1 .

« و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك » و في رواية ( التحف ) 2 : « أن تتذكّر ما كان من كلّ ما شاهدت منّا » .

« من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة أو أثر عن نبيّنا » و في رواية ( التحف ) 3 :

« عن نبيّك » .

و منه في ( الأنساب ) قوله صلّى اللّه عليه و آله : الولد للفراش و للعاهر الحجر 4 .

و في ( الطبري ) : كتب المهدي إلى عمّاله : ردّوا نسب بني زياد إلى عبيد ،

لقد قال معاوية فيما يعلمه أهل الحفظ للأحاديث عند كلام نصر بن الحجّاج السلمي و من كان معه من موالي بني مخزوم و قد أعدّ لهم معاوية حجرا تحت بعض فرشه فألقاه إليهم فقالوا له يسوغ لك ما فعلت في زياد و لا تسوغ لنا ما فعلنا في صاحبنا فقال : قضاء النبي خير لكم من قضاء معاوية 5 .

« أو فريضة في كتاب اللّه » فلا يجوز صرف الصدقات إلى غير الأصناف الثمانية ، قال تعالى بعد عدّها فريضة من اللّه 6 .

« فتقتدي بما شاهدت ممّا عملنا به فيها » هذا يدل على أن عمل المتقدّمين عليه لم يكن على مقتضى الشريعة ، و أمّا عمله عليه السّلام فكان على حاقّ الحقّ ، و قد قال النبي صلّى اللّه عليه و آله في المتواتر عنه « عليّ على الحق يدور مداره » 7 و قد أقرّ بذلك

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 8 : 214 215 .

-----------
( 2 ) تحف العقول : 148 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 148 .

-----------
( 4 ) الجامع الصغير 2 : 198 .

-----------
( 5 ) تاريخ الطبري 8 : 131 .

-----------
( 6 ) التوبة : 60 .

-----------
( 7 ) أخرجه الحاكم 3 : 124 ، و الخطيب 14 : 321 ، و الترمذي 5 : 632 ح 3714 .

[ 646 ]

الثاني فقال في شوراه بأنّه لو ولي الناس ليحملنّهم على المحجّة البيضاء فيحتج عليهم بالبرهان الذي ذكره القرآن أ فمن يهدي إلى الحقّ أحقّ أن يتّبع أمّن لا يهدّي إلاّ أن يهدى فما لكم كيف تحكمون 1 .

« و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا و استوثقت به من الحجة لنفسي عليك لكيلا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها » هو كقوله تعالى : رسلا مبشّرين و منذرين لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة بعد الرسل و كان اللّه عزيزا حكيما 2 ، و لو لا أن تصيبهم مصيبة بما قدّمت أيديهم فيقولوا ربّنا لو لا أرسلت إلينا رسولا فنتّبع آياتك و نكون من المؤمنين 3 .

و زاد في رواية ( التحف ) « فليس يعصم من السوء ، و لا يوفّق للخير إلاّ اللّه جلّ ثناؤه ، و قد كان ممّا عهد إليّ رسول اللّه في وصايته تحضيضا على الصلاة و الزكاة و ما ملكت أيمانكم ، فبذلك أختم لك ما عهدت ، و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم » 4 .

« و أنا اسأل اللّه » هكذا في ( المصرية ) و فيها سقط و الأصل « و من هذا العهد و هو آخره و أنا أسأل اللّه » كما في ( ابن أبي الحديد ) 5 و ( ابن ميثم ) 6 و زاد الثاني « سبحانه » .

« بسعة رحمته و عظيم قدرته على إعطاء كل رغبة » دون خلقه .

« أن يوفّقني و إيّاك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح إليه » باتّقائه

-----------
( 1 ) يونس : 35 .

-----------
( 2 ) النساء : 165 .

-----------
( 3 ) القصص : 47 .

-----------
( 4 ) تحف العقول : 148 .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 117 .

-----------
( 6 ) شرح ابن ميثم 5 : 186 .

[ 647 ]

حسب الوسع كما قال عز و جل فاتّقوا اللّه ما استطعتم 1 و إلى خلقه بإصلاح أمورهم بقدر الجهد كما حكى تعالى عن شعيب عليه السّلام : إن اريد إلاّ الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكّلت و إليه أنيب 2 .

« مع حسن الثّناء في العباد و جميل الأثر في البلاد » فكل منهما نعمة عظيمة و الثاني عبادة معنوية أيضا .

و في الجهشياري كان جبرئيل بن بختيشوع صنيعة البرامكة ، و كان يقول للمأمون كثيرا هذه النعمة لم أفدها منك و لا من أبيك هذه أفدتها من يحيى بن خالد و ولده .

و فيه سارت الركبان في الافاق بغدر الأمين و بحسن سيرة المأمون ،

فاستوحش الناس من الأمين و انحرفوا عنه و سكنوا إلى المأمون و مالوا إليه .

« و تمام النعمة و تضعيف الكرامة » قال حد « و تمام » معطوف على « ما » في قوله عليه السّلام « لما فيه رضاه » 3 .

قلت : بل معطوف على « حسن الثناء » كما هو واضح ، و لا يصح ما قال لأنّه يصير المعنى على ما قال « اسأل اللّه أن يوفقني لتمام النعمة و تضعيف الكرامة » و لا معنى له ، و توجيهه بأن المراد للأعمال الصالحة التي يستوجهما بها تعسف .

« و ان يختم لي و لك بالسعادة و الشهادة » استجيب دعاؤه عليه السّلام للاشتر فقضى نحبه مسموما في طاعته عليه السّلام و كفاه شرفا و فضلا .

-----------
( 1 ) التغابن : 16 .

-----------
( 2 ) هود : 88 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 118 .

[ 648 ]

و في ( الطبري ) : لما انقضى أمر الحكومة كتب علي عليه السّلام إلى الأشتر و هو يومئذ بنصيبين : « أما بعد فانك ممن استظهر به على إقامة الدين و أقمع به نخوة الأثيم و أشد به الثغر المخوف ، و كنت وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه بها خوارج و هو غلام حدث ليس بذي تجربة للحرب و لا بمجرب للأشياء ، فاقدم عليّ لننظر في ذلك فيما ينبغي و استخلف على عملك أهل الثقة و النصيحة من أصحابك » . فأقبل الأشتر حتى دخل عليه عليه السّلام فحدّثه حديث أهل مصر و قال له : ليس لها غيرك . أخرج رحمك اللّه فإنّي إن لم أوصك اكتفيت برأيك ، و استعن باللّه على ما أهمّك ، فاختلط الشدّة باللين و ارفق ما كان الرّفق أبلغ ، و اعتزم بالشدّة حين لا يغني عنك إلاّ الشدة . فخرج الأشتر من عنده فأتى رحله فتهيّأ للخروج إلى مصر ، و أتت معاوية عيونه فخبّروه بولاية الأشتر ، فعظم ذلك عليه و قد كان طمع في مصر فعلم أن الأشتر إن قدمها كان أشدّ عليه من محمد بن أبي بكر ، فبعث إلى « الجايستار » رجل من أهل الخراج فقال له : إن الأشتر قد ولّي مصر فإن أنت كفيتنيه لم آخذ منك خراجا ما بقيت ، فاحتل له بما قدرت عليه ، فخرج الجايستار حتى أتى قلزم و أقام به ،

و خرج الأشتر من العراق إلى مصر ، فلما انتهى إلى القلزم استقبله الجايستار فقال : هذا منزل و هذا طعام و علف و أنا رجل من أهل الخراج ، فنزل به الاشتر فأتاه الدهقان بعلف و طعام حتى إذا طعم أتاه بشربة من عسل قد جعل فيها سمّا فسقاه إيّاه ، فلمّا شربها مات ، و أقبل الذي سقاه إلى معاويه فأخبره ، فقام معاوية خطيبا فقال : كانت لعلي بن أبي طالب يدان يمينان قطعت إحداهما يعني عمّارا يوم صفين و قطعت الاخرى يعني الأشتر اليوم 1 .

« انا للّه و انّا إليه راجعون » هكذا في ( المصرية ) و الصواب : ( راغبون ) كما

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 5 : 94 95 ، بتصرّف .

[ 649 ]

في ( ابن أبي الحديد ) 1 و ابن ميثم 2 و الخطية بل في رواية ( التحف ) 3 أيضا .

« و السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الطيبين الطاهرين و سلّم تسليما كثيرا ،

و السّلام » هكذا في ( المصرية ) لكن « و سلم » الاولى و « السّلام » في الآخر زائدتان قطعا لعدم وجودهما في ( ابن أبي الحديد ) 4 و ( ابن ميثم ) 5 و ( الخطية ) ، مع أنّ « و سلّم » لا يصلح فصلها بين الموصوف و الصفة ، و أما باقيها فاختلف ابن أبي الحديد و ابن ميثم على ما في النسخة فيهما ، ففي ( ابن أبي الحديد ) 6 هكذا « و السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الطيبين الطاهرين » و في ( ابن ميثم ) 7 « و السّلام على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم تسليما كثيرا » و مثله ( الخطية ) ، و هو الصحيح من النهج لكون نسخة ابن ميثم بخط مصنفه ، و في رواية ( التحف ) 8 : « و السّلام على رسول اللّه ،

و على آله الطيبين الطاهرين » .

هذا ، و نقل ابن أبي الحديد بعد عهده عليه السّلام هذا إلى الأشتر وصايا جمع من كبراء العرب كأوس بن حارثة و الحارث بن كعب و أكثم بن صيفي و قيس بن عاصم و عمرو بن كلثوم و يزيد بن المهلب 9 .

و نقل أيضا وصية أردشير إلى من بعده من الملوك ، فقال : قال في

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 117 . و فيه : « إنّا إلى اللّه راغبون » ، و في صبحي الصالح : « إنّا إليه راجعون » .

-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم 5 : 186 .

-----------
( 3 ) تحف العقول : 149 . و فيه : « و إنّا إليه راجعون » .

-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 117 .

-----------
( 5 ) شرح ابن ميثم 5 : 186 .

-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 117 .

-----------
( 7 ) شرح ابن ميثم 5 : 186 .

-----------
( 8 ) تحف العقول : 149 .

-----------
( 9 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 118 124 .

[ 650 ]

وصيته : رشاد الوالي خير للرعية من خصب الزمان ، الملك و الدين توأمان لا قوام لأحدهما إلاّ بصاحبه ، فالدّين أسّ الملك و عماده ، ثم صار الملك حارس الدّين و لا بدّ للملك من أسّه و لا بدّ للدّين من حارسه ، فأمّا ما لا حارس له فضائع و ما لا أسّ له فمهدوم . إنّ رأس ما أخاف عليكم مبادرة السفلة إيّاكم إلى دراسة الدين و تأويله و التفقّه فيه ، فتحملكم الثقة بقوة الملك على التهاون بهم ،

فتحدث في الدّين رياسات منتشرات سرا فيمن قد و ترتم و جفوتم ، و حرمتم ،

و أخفتم ، و صغّرتم من سفلة الناس و الرعية و حشو العامة ، ثم لا تنشب تلك الرياسات أن تحدث خرقا في الملك و وهنا في الدولة .

و اعلموا أنّ سلطانكم على أجساد الرعية لا على قلوبها ، و إن غلبتم الناس على ما في أيديهم فلا تغلبوهم على ما في قلوبهم و آرائهم و مكايدهم .

و اعلموا أنّ العاقل المحروم سالّ عليكم لسانه و هو أقطع سيفيه ، و إنّ أشدّ ما يضرّ بكم من لسانه على ما صرف الحيلة فيه إلى الدّين ، فكان للدنيا يحتج و للدين فيما يظهر يتعصب ، فيكون للدين بكاؤه و إليه دعاؤه ، ثم هو أوحد للتابعين و المصدّقين و المناصحين و المؤازرين ، لأنّ تعصّب الناس موكّل بالملوك ، و رحمتهم و محبّتهم موكّلة بالضعفاء المغلوبين ، فاحذروا هذا المعنى كلّ الحذر .

و اعلموا انّه ليس ينبغي للملك أن يعرّف للعبّاد و النّسّاك بأن يكونوا أولى بالدين منه و لا أحدب عليه و لا أغضب له ، و لا ينبغي أن يخلي النسّاك و العبّاد من الأمر و النهي في نسكهم و دينهم ، فإنّ خروج النسّاك و غيرهم من الأمر و النهي عيب على الملوك و على المملكة و ثلمة بيّنة الضرر على الملك و على من بعده .

و اعلموا أنّه قد مضى قبلنا من أسلافنا ملوك كان الملك يتعهد الحماية

[ 651 ]

بالتفتيش و الجماعة بالتفضيل و الفراغ بالاشتغال كتعهّده جسده بقصّ فضول الشعر و الظفر و غسل الدرن و الغمص و مداواة ما ظهر من الأدواء و ما بطن ، و قد كان من أولئك الملوك من صحة ملكه أحبّ إليه من صحّة جسده ،

فتتابعت تلك الأملاك بذلك كأنهم ملك واحد ، و كأن أرواحهم روح واحدة يمكّن أوّلهم لآخرهم و يصدّق آخرهم أوّلهم ، يجتمع أنباء أسلافهم و مواريث آرائهم و ثمرات عقولهم عند الباقي منهم بعدهم ، و كأنهم جلوس معه يحدّثونه و يشاورونه ، حتى كان على رأس دارا بن دارا ما كان من غلبة الاسكندر الرومي عليه و كان إفساده أمرنا و تفرقته جماعتنا و تخريبه عمران مملكتنا أبلغ له فيما أراد من سفك دمائنا ، فلمّا أذن اللّه تعالى في إعادة أمرنا كان من بعثه إيانا ما كان ، و بالاعتبار يتّقى العثار ، و التجارب الماضية دستور يرجع إليه في الحوادث الآتية .

و اعلموا أنّ طباع الملوك على غير طباع الرعية و السوقة ، فإن الملك يطيف به العزّ و الأمن و السرور و القدرة على ما يريد ، و الأنفة و الجرأة و العبث و البطر ، و كلّما ازداد في العمر تنفسا و في الملك سلامة ازداد من هذه الطبائع حتى يسلمه ذلك إلى سكر السلطان الذي هو أشد من سكر الشراب ، فينسى النكبات و العثرات و الغير و الدوائر و فحش تسلّط الأيام و لؤم غلبة الدهر ،

فيرسل يده بالفعل و لسانه بالقول ، و عند حسن الظن بالأيّام تحدث الغير و تزول النعم ، و قد كان من أسلافنا و قدماء ملوكنا من يذكّره عزّه الذل و أمنه الخوف و سروره الكآبة و قدرته المعجزة ، و ذلك هو الرجل الكامل قد جمع بهجة الملوك و فكرة السوقة و لا كمال إلاّ في جمعهما .

و اعلموا أنّ كثيرا من وزراء الملوك من يحاول استبقاء دولته و أيامه بإيقاع الاضطراب و الخبط في أطراف مملكته ليحتاج الملك إلى رأيه و تدبيره ،

[ 652 ]

فإذا عرفتم هذا من وزير من وزرائكم فاعزلوه فإنّه يدخل الوهن و النقص على الملك و الرعية لصلاح حال نفسه و لا تقوم نفسه بهذه النفوس كلّها .

و اعلموا أنّ بدء ذهاب الدولة ينشأ من قبل إهمال الرعيّة بغير أشغال معروفة و لا أعمال معلومة ، فإذا نشأ الفراغ تولّد منه النظر في الامور و الفكر في الفروع و الاصول ، فإذا نظروا في ذلك نظروا فيه بطباع مختلفة فتختلف بهم المذاهب و يتولد من اختلاف مذاهبهم تعاديهم و تضاغنهم ، و هم مع اختلافهم هذا متفقون و مجتمعون على بغض الملوك ، فكل صنف منهم إنّما يجري إلى فجيعة الملك بملكه ، و لكنّهم لا يجدون سلّما إلى ذلك أوثق من الدّين و الناموس ، ثم يتولّد من تعاديهم أنّ الملك لا يستطيع أن يجمعهم على هوى واحد ، فان انفرد باختصاص بعضهم صار عدوّ بقيتهم ، و في طباع العامة استثقال الولاة و ملالهم و النفاسة عليهم و الحسد لهم ، و في الرعية المحروم و المضروب و المقام عليه الحدود ، و يتولّد من كثرتهم مع عداوتهم أن يجبن الملك عن الإقدام عليهم ، فإنّ في إقدام الملك على الرعية كلّها كافة تغريرا بملكه ، و يتولّد من جبن الملوك عن الرعية استعجالهم و هم أقوى عدو له و أخلقه بالنظر لأنّه حاضر مع الملك في دار ملكه ، فمن أفضى إليه الملك بعدي فلا يكوننّ بإصلاح جسده أشدّ اهتماما منه بهذه الحال ، و لا يكوننّ لشي‏ء من الأشياء أكره و أمكر لرأس صار ذنبا و ذنب صار رأسا ، و يد مشغولة صارت فارغة أو غنيّ صار فقيرا ، أو عامل مصروف أو أمير معزول .

و اعلموا أنّ سياسة الملك و حراسته ألاّ يكون ابن الكاتب إلاّ كاتبا و ابن الجنديّ إلاّ جنديّا و ابن التاجر إلاّ تاجرا و هكذا في جميع الطبقات ، فإنّه يتولّد من تنقل الناس عن حالاتهم أن يلتمس كلّ امرى‏ء منهم فوق مرتبته ، فإذا انتقل أوشك أن يرى شخصا أرفع ممّا انتقل إليه فيحسده أو ينافسه و في ذلك من

[ 653 ]

الضرر المتولّد ما لا خفاء به ، فان عجز ملك منكم عن إصلاح رعيته كما أوصيناه فلا يكون للقميص القمل أسرع خلعا منه لما لبس من قميص ذلك الملك .

و اعلموا أنّه ليس للملك أن يحلّف لأنّه لا يقدر أحد على استكراهه ، و ليس له أن يغضب لأنّه قادر ، و الغضب لقاح الشر و الندامة ، و ليس له أن يعبث و يلعب لأنّ اللّعب و العبث من عمل الفرّاغ ، و ليس له أن يفرغ لأنّ الفراغ من أمر السّوقة ، و ليس له أن يحسد أحدا إلاّ على حسن التدبير ، و ليس له أن يخاف لأنّه لا يد فوق يده .

و اعلموا أنكم لن تقدروا أن تختموا أفواه الناس من الطّعن و الإزراء عليكم و لا قدرة لكم على أن تجعلوا القبيح من أفعالكم حسنا ، فاجتهدوا في أن تحسن أفعالكم كلّها و ألاّ تجعلوا للعامّة إلى الطعن عليكم سبيلا .

و اعلموا أنّ لباس الملك و مطعمه مقارب للباس السّوقة و مطعمهم ،

و ليس فضل الملك على السّوقة إلاّ بقدرته على اقتناء المحامد و استفادة المكارم ، فان الملك إذا شاء أحسن ، و ليس كذلك السّوقة .

و اعلموا أن لكلّ ملك بطانة و لكلّ رجل من بطانته بطانة ، ثم لكلّ امرى‏ء من بطانة الباطنة بطانة حتى يجتمع من ذلك أهل المملكة ، فإذا أقام الملك بطانته على حال الصواب فيهم أقام كلّ امرى‏ء منهم بطانته على مثل ذلك حتى تجتمع على الصلاح عامّة الرعيّة .

و اعلموا أنّ في الرعية صنفا أتوا الملوك من قبل النّصائح له ، و التمسوا إصلاح منازلهم بإفساد منازل الناس ، فأولئك أعداء الناس و أعداء الملوك ،

و من عادى الملوك و الناس كلّهم فقد عادى نفسه .

و اعلموا أن الدهر حاملكم على طبقات ، فمنها حال السّخاء حتى يدنو

[ 654 ]

أحدكم من السرف ، و منها حال التقدير حتى يدنو من البخل ، و منها حال الأناة حتى يدنو من البلاء ، و منها حال انتهاز الفرصة حتى يدنو من الخفّة ، و منها حال الطلاقة في اللّسان حتى يدنو من الهذر ، و منها حال الأخذ بحكمة الصّمت حتى يدنو من العيّ ، فالملك منكم جدير أن يبلغ من كلّ طبقة في محاسنها حدّها ، فإذا وقف عليه الجم نفسه عما وراءها .

و اعلموا أن ابن الملك و أخاه و ابن عمه يقول « كدت أن أكون ملكا و بالحري الا أموت حتى أكون ملكا » فاذا قال ذلك قال ما لا يسر الملك و ان كتمه فالداء في كلّ مكتوم و إذا تمنى ذلك جعل الفساد سلما إلى صلاح و لم يكن الفساد سلما إلى صلاح قط ، و قد رسمت لكم مثالا اجعلوا الملك لا ينبغي الا لأبناء الملوك من بنات عمومتهم و لا يصلح من أولاد بنات العم إلاّ كامل غير سخيف العقل و لا عازب الرأي و لا ناقص الجوارح و لا مطعون عليه في الدين ، فانكم إذا فعلتم ذلك قلّ طلاّب الملك و إذا قلّ طلابه استراح كلّ امرى‏ء إلى ما يليه و نزع إلى حد يليه و عرف حاله و رضي معيشته و طاب زمانه 1 .

قلت : و الأنسب بعهده عليه السّلام إلى الأشتر عهد ذي اليمينين إلى ابنه و ان كان عهد أردشير أجمع عهد في سياسة الدولة . ففي ( الطبري ) : لما ولّى المأمون عبد اللّه بن طاهر بن الحسين ديار ربيعة كتب له أبوه ذو اليمينين كتابا نسخته :

عليك بتقوى اللّه وحده لا شريك له و خشيته و مراقبته و مزايلة سخطه و حفظ رعيتك و الزم ما ألبستك اللّه من العافية بالذكر لمعادك و أنت صائر إليه و موقوف عليه و مسؤول عنه ، و العمل في ذلك كلّه بما يعصمك اللّه و ينجيك يوم القيامة من عذابه و أليم عقابه ، فان اللّه قد أحسن اليك و أوجب عليك الرأفة بمن استرعاك أمرهم من عباده و ألزمك العدل عليهم و القيام بحقه و حدوده

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 17 : 124 130 ، باختزال لبعض فقرات الوصية .

[ 655 ]

فيهم و الذب عنهم و الدفع عن حريمهم و بيضتهم و الحقن لدمائهم و الأمن لسبيلهم و ادخال الراحة عليهم في معايشهم ، و مؤاخذك بما فرض عليك من ذلك و موقفك عليه و مسائلك عنه و مثيبك عليه بما قدمت و أخرت ، ففرغ لذلك فكرك و عقلك و بصرك و رؤيتك و لا يذهلك عنه ذاهل و لا يشغلك عنه شاغل فانه رأس أمرك و ملاك شأنك و أول ما يوفقك اللّه لرشدك .

و ليكن أول ما تلزم به نفسك و تنسب إليه فعالك المواظبة على ما افترض اللّه عليك من الصلوات الخمس و الجماعة عليها بالناس قبلك في مواقيتها على سننها في اسباغ الوضوء لها و افتتاح ذكر اللّه فيها و ترتل في قراءتك و تمكن في ركوعك و سجودك و تشهدك و لتصدق فيها لربك نيّتك و احضض عليها جماعة من معك و تحت يدك و ادأب عليها فانها كما قال اللّه تعالى تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر .

ثم اتبع ذلك الأخذ بسنن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المثابرة على خلائقه و اقتفاء آثار السلف الصالح من بعده ، و إذا ورد عليك أمر فاستعن باللّه باستخارة اللّه و تقواه و لزوم ما أنزل اللّه في كتابه من أمره و نهيه و حلاله و حرامه و ايتمام ما جاءت به الآثار عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ، ثم قم فيه بما يحق للّه عليك و لا تمل عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو بعيد ، و آثر الفقه و أهله و الدين و حملته و كتاب اللّه و العاملين به ، فان أفضل ما تزين به المرء الفقه في دين اللّه و الطلب له و الحث عليه و المعرفة بما يتقرب فيه منه إلى اللّه ، فانه الدليل على الخير كلّه و القائد له و الامر به و الناهي عن المعاصي و الموبقات كلها ، و بها مع توفيق اللّه تزداد العباد معرفة باللّه عز و جل و اجلالا له و دركا للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك و الهيبة لسلطانك و الانسة بك و الثقة بعدلك .

[ 656 ]

و عليك بالاقتصاد في الامور كلّها ، فليس شي‏ء أبين نفعا و لا أحضر أمنا و لا أجمع فضلا من القصد و القصد داعية إلى الرشد و الرشد دليل على التوفيق و التوفيق منقاد إلى السعادة ، و قوام الدين و السنن الهادية بالاقتصاد فآثره في دنياك كلها و لا تقصر في طلب الآخرة و الأجر و الأعمال الصالحة و السنن المعروفة و معالم الرشد ، فلا غاية للاستكثار من البر و السعي له إذا كان يطلب به وجه اللّه و مرضاته و مرافقة أوليائه في دار كرامته .

و اعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز و يحصن من الذنوب ، و انك لن تحوط نفسك و من يليك و لا تستصلح أمورك بأفضل منه فآته و اهتد به تتم أمورك و تزد مقدرتك و تصلح خاصتك و عامتك .

و أحسن الظن باللّه عز و جل يستقم لك رعيتك ، و التمس الوسيلة إليه في الامور كلّها تستدم به النعمة عليك ، و لا تنهض أحدا من الناس فيما توليه من عملك قبل تكشف أمره بالتهمة ، فان ايقاع التهم بالبرآء و الظنون السيئة بهم مأثم ، و اجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك و اطرد عنهم سوء الظن بهم و ارفضه عنهم يعنك ذلك على اصطناعهم و رياضتهم و لا يجدون لعدو اللّه الشيطان في أمرك مغمزا ، فانه انما يكتفي بالقليل من وهنك فيدخل عليك من الغم في سوء الظن ما ينغصك لذاذة عيشك .

و اعلم أنك تجد بحسن الظن قوة و راحة و تكفى به ما أحببت كفاية من أمورك و تدعو به الناس إلى محبتك و الاستقامة في الامور كلها لك ، و لا يمنعك حسن الظن بأصحابك و الرأفة برعيتك أن تستعمد المسألة و البحث عن أمورك و المباشرة لامور الأولياء و الحياطة للرعية و النظر في حوائجهم و حمل مؤوناتهم آثر عندي مما سوى ذلك فانّه أقوم للدين و أحيى للسنة و أخلص نيتك في جميع هذا ، و تفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم انّه مسؤول

[ 657 ]

عمّا صنع و مجزي بما أحسن و مأخوذ بما أساء ، فان اللّه جعل الدين حرزا و عزا و رفع من اتبعه و عززه ، فأسألك بمن تسوسه و ترعاه نهج الدين و طريقة الهدى .

و أقم حدود اللّه في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم و ما استحقوه ،

و لا تعطل ذلك و لا تهاون به ، و لا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فان في تفريطك في ذلك لما يفسد عليك حسن ظنك ، و اعزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة و جانب الشبهة و البدعات يسلم لك دينك و يقم لك مروتك .

و إذا عاهدت عهدا فف به و إذا وعدت الخير فأنجزه ، و اقبل الحسنة و ادفع بها ، و اغمض عن عيب كلّ ذي عيب من رعيتك ، و اشدد لسانك عن قول الكذب و الزور و ابغض أهله ، و اقص أهل النميمة فان أوّل فساد أمرك في عاجل الامور و آجلها تقريب الكذوب و الجرأة على الكذب ، لأن الكذب رأس المأثم و الزور و النميمة خاتمتها ، لأن النميمة لا يسلم صاحبها و قابلها لا يسلم له صاحب و لا يستقيم لمطيعها أمر ، و أحب أهل الصدق و الصلاح و أعن الاشراف بالحق و واصل الضعفاء وصل الرحم و ابتغ بذلك وجه اللّه و عزة أمره و التمس فيه ثوابه و الدار الاخرة ، و اجتنب سوء الأهواء و الجور و اصرف عنهما رأيك و أظهر برائتك من ذلك لرعيتك ، و أنعم بالعدل سياستهم و قم بالحق فيهم و بالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى و املك نفسك عند الغضب و آثر الوقار و الحلم . و اياك و الحدة و الطيرة و الغرور فيما أنت بسبيله ، و اياك أن تقول اني مسلّط أفعل ما أشاء ، فان ذلك سريع فيك إلى نقص الرأي و قلّة اليقين باللّه وحده لا شريك له و أخلص للّه النية فيه و اليقين به .

و اعلم ان الملك للّه يعطيه من يشاء و ينزعه ممن يشاء ، و لن تجد تغير النعمة و حلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى حملة النعمة من أصحاب السلطان

[ 658 ]

و المبسوط لهم في الدولة إذا كفروا بنعم اللّه و احسانه و استطالوا بما آتاهم اللّه من فضله ، و دع عنك شره نفسك ، و لتكن ذخائرك و كنوزك التي تدخر و تكنز البر و التقوى و المعدلة و استصلاح الرعية و عمارة بلادهم و التفقد لامورهم و الحفظ لدمائهم و الاغاثة لملهوفهم .

و اعلم ان الأموال إذا كثرت و ذخرت في الخزائن و تزينت بها الولاة و طال به الزمان و اعتقد فيه العز و المنعة فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الاسلام و أهله ، و وفر منه على أولياء الخليفة قبلك حقوقهم و اوف رعيتك من ذلك حصصهم و تعهد ما يصلح أمورهم و معايشهم ، و جمع أموال رعيتك و عملك أقدر و كان الجمع لما شملهم من عدلك و احسانك أسلس لطاعتك و أطيب أنفسا لكل ما أردت ، فاجهد نفسك فيما حددت لك في هذا الباب و لتعظم حسبتك فيه ، فانما يبقى من المال ما أنفق في سبيل حقه و اعرف للشاكرين شكرهم و أثبهم عليه .

و إيّاك أن تنسيك الدنيا و غرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك ،

فان التهاون يوجب التفريط و التفريط يورث البوار ، و ليكن عملك للّه و فيه تبارك و تعالى أرج الثواب ، فان اللّه قد اسبغ عليك نعمته في الدنيا و أظهر لديك فضله ، فاعتصم بالشكر و عليه فاعتمد يزدك اللّه خيرا و احسانا ، فان اللّه يثيب بقدر شكر الشاكرين و سيرة المحسنين و اقض الحق فيما حمل من النعم و البس من العافية و الكرامة و لا تحقرن ذنبا و لا تمايلن حاسدا و لا ترحمن فاجرا و لا تصلن كفورا و لا تداهنن عدوا و لا تصدقن نماما و لا تأمنن غدارا و لا تولين فاسقا و لا تتبعن غاويا و لا تحمدن مرائيا و لا تحقرن انسانا و لا تجيبن باطلا و لا تلاحظن مضحكا و لا تخلفن وعدا و لا ترهبن فجرا و لا تعملن غصبا و لا تأتين بذخا و لا تمشين مرحا و لا تركبن سفها و لا تفرطن في طلب الآخرة

[ 659 ]

و لا تدفع الأيام عيانا و لا تغمضن عن الظالم رهبة منه أو مخافة و لا تطلبن ثواب الآخرة بالدنيا .

و اكثر مشاورة الفقهاء و استعمل نفسك بالحلم ، و خذ عن أهل التجارب و ذوي العقل و الرأي و الحكمة ، و لا تدخلن في مشورتك أهل الدقة و البخل و لا تسمعن لهم قولا فان ضررهم أكثر من منفعتهم و ليس شي‏ء أسرع فسادا لما استقبلت في أمر رعيتك من الشح .

و اعلم انك إذا كنت حريصا كنت كثيرا الأخذ قليل العطية ، و إذا كنت كذلك لم يستقم لك أمرك إلاّ قليلا ، فان رعيتك انما تعتقد على محبتك بالكف عن أموالهم و ترك الجور عنهم ، و يدوم صفاء أوليائك لك بالأفضال عليهم و حسن العطية لهم فاجتنب الشح .

و اعلم أنّه أوّل ما عصى به الإنسان ربه و ان العاصي بمنزلة خزي و هو قول اللّه عز و جل و من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون 1 فسهل طريق الجود بالحق و اجعل للمسلمين كلّهم من بيتك حظا و نصيبا ، و أيقن ان الجود من أفضل أعمال العباد ، فاعدده لنفسك خلقا و ارض به عملا و مذهبا .

و تفقد أمور الجند في دواوينهم و مكاتبهم ، و اردد عليهم أرزاقهم و وسع عليهم في معايشهم ليذهب بذلك اللّه فاقتهم و يقوم لك أمرهم و يزيد به قلوبهم في طاعتك و أمرك خلوصا و انشراحا ، و حسب ذي سلطان من السعادة أن يكون على جنده و رعيته رحمة في عدل له و حيطته و انصافه و عنايته و توسعته ، فزايل مكروه احدى البليتين باستشعار تكملة الباب الاخر و لزوم العمل به تلق إن شاء اللّه نجاحا و صلاحا و فلاحا .

و اعلم ان القضاء من اللّه بالمكان الذي ليس به شي‏ء من الامور ، لأنّه

-----------
( 1 ) الحشر : 9 .

[ 660 ]

ميزان اللّه الذي يعتدل عليه الأحوال في الأرض ، و بإقامة العدل في القضاء و العمل تصلح الرعية و تأمن السبل و تنتصف للمظلوم و يأخذ الناس حقوقهم و تحسن المعيشة و يؤدى حق الطاعة و يرزق اللّه العافية و السلامة و يقوم الدين و تجري السنن و الشرائع ، و على مجاريها ينتجز الحق و العدل في القضاء ، و اشتد في أمر اللّه و تورع عن النطف و امض لإقامة الحدود و أقلل العجلة و أبعد من الضجر و القلق و اقنع بالقسم و لتسكن ريحك و يقرّ جدك و اقنع بتجربتك و انتبه في صمتك و سدد في منطقك و انصف الخصم وقف عند الشبهة و أبلغ في الحجة ، و لا يأخذك في أحد من رعاياك محاباة و لا محاماة و لا لوم لائم و تثبت و تأن و راقب و انظر و تدبّر و تفكّر و اعتبر و تواضع لربك و ارأف بجميع الرعية و سلّط الحق على نفسك ، و لا تسرعن إلى سفك دم فان الدماء من اللّه بمكان عظيم انتهاكا لها بغير حقّها .

و انظر هذا الخراج الذي قد استقامت عليه الرعية و جعله اللّه للاسلام عزا و رفعة و لأهله سعة و منعة و لعدوه و عدوهم كبتا و غيظا و لأهل الكفر من معاهدتهم ذلا و صغارا ، فوزعه بين أصحابه بالحق و العدل و التسوية و العموم فيه ، و لا ترفعن منه شيئا عن شريف لشرفه و عن غني لغناه و لا عن كاتب لك و لا أحد من خاصتك ، و لا تأخذن منه فوق الاحتمال له و لا تكلفن أمرا فيه شطط ، و احمل الناس كلّهم على مر الحق فان ذلك أجمع لالفتهم و ألزم لرضى العامة .

و اعلم انك جعلت بولايتك خازنا و حافظا و راعيا ، و انما سمي أهل عملك رعيتك لأنّك راعيهم و قيمهم تأخذ منهم ما أعطوك من عفوهم و مقدرتهم و تنفقه في قوام أمرهم و صلاحهم و تقويم أودهم ، فاستعمل عليهم في كور عملك ذوي الرأي و التدبير و التجربة و الخبرة بالعمل و العلم بالسياسة

[ 661 ]

و العفاف ، و وسّع عليهم في الرزق فان ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت و أسند اليك ، و لا يشغلنك عنه شاغل و لا يصرفنك عنه صارف ، فانك متى آثرته و قمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك و حسن الاحدوثة في أعمالك و احتزت النصيحة من رعيتك و أعنت على الصلاح ،

فدرت الخيرات ببلدك و فشت العمارة بناحيتك و ظهر الخصب في كورك فكثر خراجك و توفرت أموالك و قويت بذلك على ارتباط جندك و ارضاء العامة بإقامة العطاء فيهم من نفسك و كنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك و كنت في أمورك كلّها ذا عدل و قوة و آلة و عدة ، فنافس في هذا و لا تقدم عليه شيئا تجد مغبة أمرك إن شاء اللّه .

و اجعل في كلّ كورة من عملك أمينا يخبرك أخبار عمالك و يكتب اليك بسيرتهم و أعمالهم حتى كأنك من كلّ عامل في عمله معاين لأمره كلّه ، و ان أردت أن تأمره بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك ، فان رأيت السلامة فيه و العافية و رجوت فيه حسن الدفاع و النصح و الصنع فامضه و إلاّ فتوقف عنه و راجع أهل البصر و العلم ثم خذ فيه عدته ، فانه ربما نظر الرجل في أمر من أمره قد و اتاه على ما يهوى فقواه ذلك و أعجبه و ان لم ينظر في عواقبه أهلكه و نقض عليه أمره ، فاستعمل الحزم في كلّ ما أردت و باشر بعد عون اللّه بالقوة ، و أكثر استخارة ربك في أمور أو حوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت .

و اعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه و إذا أخرت عمله اجتمع عليك أمر يومين فشغلك ذلك حتى تعرض عنه ، فاذا أمضيت لكلّ يوم عمله أرحت نفسك و بدنك و أحكمت أمور سلطانك .

و انظر أحرار الناس و ذوي الشرف منهم ثم استبق صفاء طويتهم

[ 662 ]

و تهذيب مودتهم لك و مظاهرتهم بالنصح و المخالصة على أمرك فاستخلصهم و أحسن اليهم و تعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة فاحتمل مؤونتهم و اصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم مسّا .

و انفرد نفسك للنظر في امور الفقراء و المساكين و من لا يقدر على رفع مظلمة اليك و المحتقر الذي لا علم له بطلب حقه ، فاسأل عنه أحفى مسألة و وكّل بأمثاله أهل الصلاح من رعيتك و مرهم برفع حوائجهم و حالاتهم اليك لتنظر فيها بما يصلح اللّه أمرهم ، و تعاهد ذوي البأساء و يتاماهم و أراملهم و اجعل لهم أرزاقا من بيت المال اقتداء بالخليفة أعزه اللّه في العطف عليهم و الصلة لهم ليصلح اللّه بذلك عيشهم و يرزقك به بركة و زيادة ، و أجر للاضراء من بيت المال و قدم حملة القرآن منهم و الحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم ، و انصب لمرضى المسلمين دورا تؤويهم و قوّاما يرفقونها و أطباء يعالجون أسقامهم ، و أسعفهم بشهواتهم ما لم يؤد ذلك إلى سرف في بيت المال .

و اعلم ان الناس إذا أعطوا حقوقهم و أفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك و لم تطلب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعا في نيل الزيادة و فضل الرفق منهم ، و ربما برم المتصفح لامور الناس لكثرة ما يرد عليه و يشغل فكره و ذهنه منها ما يناله به مؤونة و مشقة ، و ليس من يرغب في العدل و يرفع محاسن أموره في العاجل و فضل ثواب الاجل كالذي يستقبل ما يقربه إلى اللّه و يلتمس رحمته به .

و أكثر الاذن للناس عليك و ابرز لهم وجهك و سكن لهم أحرامك و اخفض لهم جناحك و أظهر لهم بشرك و لن لهم في المسألة و المنطق و اعطف عليهم بجودك و فضلك ، و إذا أعطيت فاعط بسماحة و طيب نفس و التمس الصنيعة

[ 663 ]

و الأجر غير مكدر و لا منان ، فان العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء اللّه .

و اعتبر بما ترى من امور الدنيا و من مضى من قبلك من السلطان و الرياسة في القرون الخالية و الامم البائدة ، ثم اعتصم في أحوالك كلّها بأمر اللّه و الوقوف عند محبته و العمل بشريعته و سنته و إقامة دينه و كتابه .

و اجتنب ما فارق ذلك و خالفه و دعا إلى سخط اللّه ، و اعرف ما تجمع عمالك من الأموال و ينفقون منها و لا تجمع حراما و لا تنفق إسرافا .

و أكثر مجالسة العلماء و مشاهدتهم و مخالطتهم ، و ليكن هواك اتباع السنن و إقامتها و ايثار مكارم الامور و معاليها ، و ليكن أكرم دخلائك و خاصتك عليك من إذا رأى عيبا فيك لم يمنعه هيبتك من انهاء ذلك اليك في سر و اعلامك ما فيك من النقص ، فان أولئك أنصح أوليائك و مظاهريك . و انظر عمالك الذين بحضرتك و كتّابك فوقت لكلّ رجل منهم في كلّ يوم وقتا يدخل عليك فيه بكتبه و مؤامرته و ما عنده من حوائج عمالك و أمر كورك و رعيتك ،

ثم فرغ لما يورده عليك من ذلك سمعك و بصرك و فهمك و عقلك ، و كرر النظر إليه و التدبير له ، فما كان موافقا للحزم و الحق فامضه و استخر اللّه فيه و ما كان مخالفا لذلك فاصرفه إلى التثبت فيه و المسألة عنه .

و لا تمتن على رعيتك و لا على غيرهم بمعروف تأتيه اليهم ، و لا تقبل من أحد منهم إلاّ الوفاء و الاستقامة و العون في أمور الخليفة و تفهم كتابي اليك ،

و أكثر النظر فيه و العمل به ، و استعن باللّه على جميع أمورك و استخره فان اللّه مع الصلاح و أهله .

و ليكن أعظم سيرتك و أفضل رغبتك ما كان للّه رضى و لدينه نظاما و لأهله عزا و تمكينا و للذمة و الملة عدلا و صلاحا ، و أنا أسأل اللّه أن يحسن عونك و توفيقك و رشدك وكلاءك ، و ان ينزل عليك فضله و رحمته بتمام فضله

[ 664 ]

عليك و كرامته لك حتى يجعلك أفضل أمثالك نصيبا و أوفرهم حظّا و أسناهم ذكرا و أمرا ، و ان يهلك عدوك و من ناواك و بغي عليك ، و يرزقك من رعيتك العافية و يحجز الشيطان عنك و وساسه حتى يستعلي أمرك بالعز و القوة و التوفيق ، انّه قريب مجيب .

قال الطبري : و ذكروا أن طاهرا لما عهد إلى ابنه عبد اللّه هذا العهد تنازعه الناس و كتبوه و تدارسوه و شاع أمره حتى بلغ المأمون فدعا به حتى قرى‏ء عليه فقال : ما أبقى أبو الطيب شيئا من أمر الدين و الدنيا و التدبير و الرأي و السياسة و إصلاح الملك و الرعية و حفظ البيضة و طاعة الخلفاء و تقويم الخلافة إلاّ و قد أحكمه و أوصى به ، و أمر أن يكتب بذلك إلى جميع العمال في نواحي الأعمال .

قلت : و هو كما ترى جله بل كلّه مأخوذ من كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في عهده هذا إلى الأشتر بألفاظ اخر .

هذا ، و نقل ابن أبي الحديد في شرح قوله عليه السّلام « و قد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة » الخطبة ( 65 ) عن غارات الثقفي انّه عليه السّلام لما ولّى محمد بن أبي بكر مصر كتب له : أمره بتقوى اللّه في السر و العلانية و خوف اللّه تعالى في المغيب و المشهد و باللين على المسلمين و بالغلظة على الفاجر و بالعدل على أهل الذمة و بانصاف المظلوم و الشدة على الظالم و بالعفو عن الناس و بالاحسان ما استطاع و اللّه يجزي المحسنين و يعذب المجرمين ، و أمره أن يدعو من قبله إلى الطاعة و الجماعة ، فإنّ لهم في ذلك من العاقبة و عظيم المثوبة ما لا يقدر قدره و لا يعرف كنهه ، و أمره أن يجبي خراج الأرض على ما كانت تجبى عليه من قبل و لا ينتقص منه و لا يبتدع ، ثم يقسمه بين أهله على ما كانوا يقسمون عليه

[ 665 ]

من قبل ، و أن يلين لهم جناحه و أن يواسي بينهم في مجلسه و وجهه ، و ليكن القريب و البعيد في الحق سواء و أمره أن يحكم بين الناس بالحق و أن يقوم بالقسط و لا يتبع الهوى و لا يخاف في اللّه لومة لائم ، فإنّ اللّه جل ثناؤه مع من اتّقى و آثر طاعته و أمره على من سواه . . .

ثم نقل عنه أنه روى أن محمدا كان ينظر في هذا الكتاب و يتأدّب به ، فلمّا ظهر عليه عمرو بن العاص و قتله أخذ كتبه أجمع فبعث بها إلى معاوية ، فكان معاوية ينظر في هذا الكتاب و يتعجّب منه ، فقال الوليد بن عقبة له : مر بهذه الأحاديث أن تحرق . فقال له : مه ، لا رأي لك . فقال له الوليد : أ فمن الرأي أن يعلم الناس أن أحاديث أبي تراب عندك تتعلّم منها ؟ قال معاوية : ويحك أ تأمرني أن أحرق علما مثل هذا فقال الوليد : إن كنت تعجبت من علمه و قضائه فعلى م تقاتله ؟ فقال : لو لا أنّه قتل عثمان و أفنانا لأخذنا عنه . ثم قال : لا نقول هذه من كتب علي بل من كتب أبي بكر كانت عند ابنه ، فلم تزل تلك في خزائن بني امية حتى ولي عمر بن عبد العزيز فهو الذي أظهر أنّها من أحاديث علي عليه السّلام .

ثم قال ابن أبي الحديد : الأليق أن الكتاب الذي ينظر فيه معاوية و يعجب منه و يفتي بأحكامه هو عهده عليه السّلام إلى الأشتر ، فإنّه نسيج وحده و منه تعلم النّاس الآداب و القضاء و السياسة ، و هذا العهد صار إلى معاوية لما سمّ الأشتر ، و حقيق لمثله أن يقتنى في خزائن الملوك 1 .

قلت : مضافا إلى أنّه اجتهاد في مقابل النص فإنّ هذا الخبر و خبرا آخر رواه الثقفي أيضا مسندا عن عبد اللّه بن سلمة قال : صلّى بنا عليّ عليه السّلام فلمّا انصرف قال :

لقد عثرت عثرة لا أعتذر
سوف أكيس بعدها و أستمر

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 6 : 65 73 ، باختزال و تصرّف يسير .

[ 666 ]

و أجمع الأمر الشتيت المنتشر

فقلنا : ما بالك يا أمير المؤمنين ؟ فقال :

إنّي استعملت محمد بن أبي بكر على مصر فكتب إليّ أنّه لا علم لي بالسنّة ، فكتبت إليه كتابا فيه أدب و سنّة فقتل و أخذ الكتاب 1 . لا يصح في نفسه ، لأن الأشتر سمّ في القلزم في طريق مصر خفية و كان مصر و القلزم في تصرفه عليه السّلام فمن قدر أن يأخذ عهد الأشتر و كان سلطانه باقيا ، و إنّما محمد صار أسيرا في أيديهم فأخذوا كتبه ، و ذاك الكتاب إلى محمد بن أبي بكر و إن كان أيضا يكفي نفاسة إلاّ أن الظاهر كون ما أخذه معاوية غير ذاك ، ففي الخبر الأول أخذ كتبه أجمع ، و في الخبر الثاني كان كتابا فيه أدب و سنّة و تأسّف عليه السّلام على صيرورته إلى معاوية ، و يأتي كتابه عليه السّلام إلى محمد بطرقه في الآتي .

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 6 : 73 .

[ 667 ]