من الخطبة ( 105 ) سُبْحَانَكَ خَالِقاً وَ مَعْبُوداً بِحُسْنِ بَلاَئِكَ عِنْدَ خَلْقِكَ خَلَقْتَ دَاراً وَ جَعَلْتَ فِيهَا مَأْدُبَةً مَشْرَباً وَ مَطْعَماً وَ أَزْوَاجاً وَ خَدَماً وَ قُصُوراً وَ أَنْهَاراً وَ زُرُوعاً وَ ثِمَاراً ثُمَّ أَرْسَلْتَ دَاعِياً يَدْعُو إِلَيْهَا فَلاَ اَلدَّاعِيَ أَجَابُوا وَ لاَ فِيمَا رَغَّبْتَ رَغِبُوا وَ لاَ إِلَى مَا شَوَّقْتَ إِلَيْهِ اِشْتَاقُوا أَقْبَلُوا عَلَى جِيفَةٍ قَدِ اِفْتَضَحُوا بِأَكْلِهَا وَ اِصْطَلَحُوا عَلَى حُبِّهَا وَ مَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ وَ أَمْرَضَ قَلْبَهُ فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْنٍ غَيْرِ صَحِيحَةٍ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنٍ غَيْرِ سَمِيعَةٍ قَدْ خَرَقَتِ اَلشَّهَوَاتُ عَقْلَهُ وَ أَمَاتَتِ اَلدُّنْيَا قَلْبَهُ وَ وَلِهَتْ عَلَيْهَا نَفْسُهُ فَهُوَ عَبْدٌ لَهَا وَ لِمَنْ فِي يَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا حَيْثُمَا زَالَتْ زَالَ إِلَيْهَا وَ حَيْثُمَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَ عَلَيْهَا وَ لاَ يَزْدَجِرُ مِنَ اَللَّهِ بِزَاجِرٍ وَ لاَ يَتَّعِظُ مِنْهُ بِوَاعِظٍ وَ هُوَ يَرَى اَلْمَأْخُوذِينَ عَلَى اَلْغِرَّةِ حَيْثُ لاَ إِقَالَةَ وَ لاَ رَجْعَةَ كَيْفَ نَزَلَ بِهِمْ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَ وَ جَاءَهُمْ مِنْ فِرَاقِ اَلدُّنْيَا مَا كَانُوا يَأْمَنُونَ وَ قَدِمُوا مِنَ اَلْآخِرَةِ عَلَى مَا كَانُوا يُوعَدُونَ فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِمْ اِجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ وَ حَسْرَةُ اَلْفَوْتِ فَفَتَرَتْ لَهَا أَطْرَافُهُمْ وَ تَغَيَّرَتْ لَهَا أَلْوَانُهُمْ ثُمَّ اِزْدَادَ اَلْمَوْتُ فِيهِمْ وُلُوجاً فَحِيلَ بَيْنَ أَحَدِهِمْ وَ بَيْنَ مَنْطِقِهِ وَ إِنَّهُ لَبَيْنَ أَهْلِهِ يَنْظُرُ بِبَصَرِهِ وَ يَسْمَعُ بِأُذُنِهِ عَلَى صِحَّةٍ مِنْ عَقْلِهِ وَ بَقَاءٍ مِنْ لُبِّهِ يُفَكِّرُ فِيمَ أَفْنَى عُمُرَهُ وَ فِيمَ أَذْهَبَ دَهْرَهُ وَ يَتَذَكَّرُ أَمْوَالاً جَمَعَهَا أَغْمَضَ فِي مَطَالِبِهَا وَ أَخَذَهَا مِنْ مُصَرَّحَاتِهَا وَ مُشْتَبِهَاتِهَا قَدْ لَزِمَتْهُ تَبِعَاتُ جَمْعِهَا وَ أَشْرَفَ عَلَى فِرَاقِهَا تَبْقَى لِمَنْ وَرَاءَهُ يَنْعَمُونَ فِيهَا وَ يَتَمَتَّعُونَ بِهَا فَيَكُونُ اَلْمَهْنَأُ لِغَيْرِهِ وَ اَلْعِبْءُ عَلَى
[ 366 ]
ظَهْرِهِ وَ اَلْمَرْءُ قَدْ غَلِقَتْ رُهُونُهُ بِهَا فَهُوَ يَعَضُّ يَدَهُ نَدَامَةً عَلَى مَا أَصْحَرَ لَهُ عِنْدَ اَلْمَوْتِ مِنْ أَمْرِهِ وَ يَزْهَدُ فِيمَا كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ أَيَّامَ عُمُرِهِ وَ يَتَمَنَّى أَنَّ اَلَّذِي كَانَ يَغْبِطُهُ بِهَا وَ يَحْسُدُهُ عَلَيْهَا قَدْ حَازَهَا دُونَهُ فَلَمْ يَزَلِ اَلْمَوْتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتَّى خَالَطَ سَمْعَهُ فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ وَ لاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ فِي وُجُوهِهِمْ يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ وَ لاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ ثُمَّ اِزْدَادَ اَلْمَوْتُ اِلْتِيَاطاً بِهِ فَقَبَضَ بَصَرَهُ كَمَا قَبَضَ سَمْعَهُ وَ خَرَجَتِ اَلرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ قَدْ أُوحِشُوا مِنْ جَانِبِهِ وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ لاَ يُسْعِدُ بَاكِياً وَ لاَ يُجِيبُ دَاعِياً ثُمَّ حَمَلُوهُ إِلَى مَحَطٍّ فِي اَلْأَرْضِ فَأَسْلَمُوهُ فِيهِ إِلَى عَمَلِهِ وَ اِنْقَطَعُوا عَنْ زَوْرَتِهِ أقول : قال ابن أبي الحديد : لينظر النّاظر إلى ما عليها من البهاء و الجلالة و الرواء و الديباجة ، و ما يحدثه من الروعة و الرهبة و المخافة و الخشية حتّى لو تليت على زنديق ملحد مصمّم على اعتقاد نفي البعث و النّشور لهدّت قواه و رعّبت قلبه و أصعقت على نفسه ، فجزى اللّه قائلها عن الإسلام أفضل ما جزى به وليّا من أوليائه ، في ما بلغ نصرته له تارة بيده و سيفه ، و تارة بلسانه و نطقه ، و تارة بقلبه و فكره ، إن قيل جهاد و حرب هو سيّد المجاهدين و المحاربين ، و إن قيل وعظ و تذكير فهو أبلغ الواعظين و المذكّرين ، و ان قيل فقه و تفسير ، فهو رئيس الفقهاء و المفسّرين ، و ان قيل عدل و توحيد ، فهو إمام العدل و الموحّدين ، و ليس منه تعالى بمستنكر أن يجمع العالم في واحد 1 .
« سبحانك خالقا و معبودا » الظاهر أنّ « خالقا و معبودا » تميّزان ، أي : أنت خالق و معبود ، منزّه عن النقص .
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 7 : 202 .
[ 367 ]
« بحسن بلاءك عند خلقك خلقت دارا » أي : دار الآخرة التي قال فيها : و إنّ الدّار الآخرة لهي الحيوان . . . 1 ، و خلقة تلك ، كانت بلاء حسنا منه تعالى عند خلقه فقوله : « بحسن » متعلّق بقوله « خلقت » .
« و جعلت فيها مأدبة » في ( المصباح ) : أدب من باب ضرب : صنع صنعا دعا الناس إليه ، و اسم الصّنع المأدبة ( بضمّ الدّال و فتحها ) 2 .
« مشربا و مطعما و أزواجا و خدما و قصورا و أنهارا و زروعا و ثمارا » أي : تلك المأدبة مشتملة على الأقسام الثمانية الّتي لوازم كمال كلّ مأدبة ، أمّا مشربها فقد قال تعالى : إنّ الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا عينا يشرب بها عباد اللّه يفجّرونها تفجيرا 3 و اما مطعمها فقد قال عزّ و جلّ :
و فاكهة ممّا يتخيّرون و لحم طير ممّا يشتهون 4 ، يطاف عليهم بصحاف من ذهب و أكواب و فيها ما تشتهيه الأنفس و تلذّ الأعين و أنتم فيها خالدون 5 و أمددناهم بفاكهة و لحم ممّا يشتهون يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها و لا تأثيم 6 و أمّا أزواجها فقد قال تعالى : إنّ المتّقين في مقام أمين في جنّات و عيون يلبسون من سندس و إستبرق متقابلين كذلك و زوّجناهم بحور عين 7 ، حور مقصورات في الخيام 8 ، و عندهم
-----------
( 1 ) العنكبوت : 64 .
-----------
( 2 ) المصباح المنير للفيتوري : 13 مادة ( أدب ) .
-----------
( 3 ) الدهر : 5 6 .
-----------
( 4 ) الواقعة : 20 21 .
-----------
( 5 ) الزخرف : 71 .
-----------
( 6 ) الطور : 22 23 .
-----------
( 7 ) الدخان : 51 54 .
-----------
( 8 ) الرحمن : 72 .
[ 368 ]
قاصرات الطرف أتراب 1 و أمّا خدمها فقد قال تعالى : و يطوف عليهم غلمان لهم كأنّهم لؤلؤ مكنون 2 . و أمّا قصورها فعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : ( إنّ في الجنّة غرفا يرى ظاهرها من باطنها ، و باطنها من ظاهرها ، يسكنها من امّتي من أطاب الكلام ، و أطعم الطّعام ، و أفشى السلام ، و صلّى بالليل و النّاس نيام ،
فقيل : و من يطيق ذلك ؟ قال : من قال إذا أصبح و أمسى : ( سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر ) عشر مرات ، فقد أطاب الكلام ، أمّا اطعام الطعام فنفقة الرّجل على عياله ، و أمّا الصلاة بالليل و النّاس نيام ، فمن صلّى المغرب و العشاء الآخرة ، و صلّى الغداة في المسجد في جماعة فكأنّما أحيا الليل كلّه ،
و إفشاء السلام ، ألاّ تبخل بالسّلام على أحد من المسلمين . و امّا أنهارها فقد قال تعالى : مثل الجنّة التي وعد المتّقون فيها أنهار من ماء غير آسن و أنهار من لبن لم يتغيّر طعمه و أنهار من خمر لذّة للشّاربين و أنهار من عسل مصفّى . . . 3 . و امّا زروعها و ثمارها فقد قال تعالى : و لهم فيها من كلّ الثمرات . . . 4 ، و إنّ للمتّقين لحسن مآب جنّات عدن مفتّحة لهم الأبواب متّكئين فيها يدعون فيها بفاكهة كثيرة و شراب 5 ، و أمددناهم بفاكهة و لحم ممّا يشتهون 6 .
« ثمّ أرسلت داعيا يدعو إليها » يا أيّها النبيّ إنّا أرسلناك شاهدا و مبشّرا و نذيرا و داعيا إلى اللّه بإذنه و سراجا منيرا و بشّر المؤمنين
-----------
( 1 ) ص : 52 .
-----------
( 2 ) الطور : 24 .
-----------
( 3 ) محمّد : 15 .
-----------
( 4 ) محمّد : 15 .
-----------
( 5 ) ص : 49 .
-----------
( 6 ) الأمالي للصدوق : 198 ، و نقله المجلسي في بحار الأنوار 8 : 118 ، و الآية 22 من سورة الطور .
[ 369 ]
بأنّ لهم من اللّه فضلا كبيرا 1 .
« فلا الدّاعي أجابوا » و قال الرسول يا ربّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجورا 2 .
« و لا فيما رغّبت إليه » هكذا في ( المصرية ) 3 و كلمة « إليه » زائدة لعدم وجودها في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) 4 .
« رغبوا » إنّما هذه الحياة الدّنيا متاع و إنّ الآخرة هي دار القرار 5 .
« و لا إلى ما شوّقت إليه اشتاقوا » إنّ الأبرار لفي نعيم على الأرائك ينظرون تعرف في وجوههم نضرة النّعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك و في ذلك فليتنافس المتنافسون 6 ، فلم يتنافسوا ، بل قلوبهم في غمرة من هذا و لهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون 7 ، و الكلام تحسّر منه عليه السلام على النّاس كتحسّر اللّه تعالى عليهم في قوله تعالى : يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزءون 8 و كتحسّر نوح عليه السلام في قوله : ربّ إنّي دعوت قومي ليلا و نهارا فلم يزدهم دعائي إلاّ فرارا 9 .
« أقبلوا على جيفة افتضحوا » هكذا في ( المصرية ) 10 و الصواب : ( قد
-----------
( 1 ) الأحزاب : 45 47 .
-----------
( 2 ) الفرقان : 30 .
-----------
( 3 ) الطبعة المصرية : 261 خ 103 بلفظ : « و لا فيما رغبوا إلى » .
-----------
( 4 ) ابن أبي الحديد 7 : 200 و شرح ابن ميثم كالمصرية 3 : 59 .
-----------
( 5 ) غافر : 39 .
-----------
( 6 ) المطففين : 22 26 .
-----------
( 7 ) المؤمنون : 63 .
-----------
( 8 ) يس : 30 .
-----------
( 9 ) نوح : 4 5 .
-----------
( 10 ) الطبعة المصرية : 261 .
[ 370 ]
افتضحوا ) كما في الثلاثة 1 .
« بأكلها » قالوا : الدّنيا جيفة و طالبها كلاب .
« و اصطلحوا على حبّها » أي : تصالحوا ، و إنّما اصطلحوا على حبّها حيث إنّها معشوقة جميعهم ، و لذا يبغضون أهل الآخرة حيث أنّهم أعداء محبوبهم و لذا يريدون أهل الدّنيا ، و لو كانوا مزاحميهم في كثير من امورهم ، و يعادون أهل الآخرة و لو لم يزاحموهم في شيء من امورهم .
« و من عشق شيئا أعشى بصره » أي : أضعفه قال الشاعر :
و عين الرّضا عن كلّ عيب كليلة و في ( الأساس ) : اشتقاق العشق من العشقة ، و هي اللّبلاب لأنّه يلتوي على الشّجر و يلزمه 2 .
هذا و قال بشّار : ( و الأذن تعشق قبل العين أحيانا ) 3 .
« و أمرض قلبه » مرض القلب فوق مرض الجوارح ، قال تعالى في المنافقين : في قلوبهم مرض فزادهم اللّه مرضا . . . 4 .
« فهو ينظر بعين غير صحيحة و يسمع باذن غير سميعة » قال تعالى :
لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضلّ أولئك هم الغافلون 5 .
و في ( تاريخ بغداد ) : سئل أحمد بن يحيى عن حديث أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله : « حبّك الشيء يعمي و يصمّ » فقال : يعمي العين عن النظر إلى
-----------
( 1 ) ابن أبي الحديد و النسخة الخطبة : 90 كما ذكر أما شرح ابن ميثم فكالمصرية 3 : 59 .
-----------
( 2 ) أساس البلاغة للزمخشري : 302 ( عشق ) .
-----------
( 3 ) الأغاني 3 : 165 .
-----------
( 4 ) البقرة : 10 .
-----------
( 5 ) الأعراف : 179 .
[ 371 ]
مساويه و يصمّ الآذان عن استماع العذل فيه ، و أنشأ يقول :
و كذّبت طرفي فيك و الطرف صادق
و اسمعت أذني منك ما ليس تسمع
1 « قد خرقت الشهوات عقله » يجوز في ( خرقت ) التّخفيف و التّشديد يقال :
( خرقت الثّوب و خرّقته ) .
« و أماتت الدّنيا قلبه » . . . و ما أنت بمسمع من في القبور 2 .
« و ولهت عليها نفسه » ( ولهت ) من باب علم ، و الوله : ذهاب العقل و التحيّر من شدّة الوجد . في رسالة سهل بن هارون في البخل : قال الحصين بن المنذر :
وددت أنّ لي مثل احد ذهبا لا أنتفع منه بشيء قيل : فما فائدتك منه ؟ قال لكثرة من يخدمني عليه لأنّ المال مخدوم 3 .
« حيثما زالت زال إليها ، و حيثما أقبلت أقبل عليها » قال ابن أبي الحديد : نظر إليه الشاعر فقال :
ما النّاس إلاّ مع الدّنيا و صاحبها
فكيف ما انقلبت يوما به انقلبوا
يعظّمون أخا الدّنيا فإن وثبت
يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا
4 « و لا يزدجر من اللّه بزاجر » هذا في ( المصريتين ) 5 و لكن في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخوئي و الخطية ) 6 : ( لا ينزجر من اللّه بزاجر ) فهو الصحيح لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدّعا
-----------
( 1 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 2 : 117 .
-----------
( 2 ) فاطر : 22 .
-----------
( 3 ) البخلاء للجاحظ 1 : 16 مطبعة العرفان .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 7 : 208 .
-----------
( 5 ) الطبعة المصرية المصححة و غير المصححة : 262 خ 103 .
-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 7 : 100 108 ، و شرح الخوئي 7 : 325 ح 108 ، و النسخة الخطية : 90 كما ذكر ، أما ابن ميثم فكالمصرية 3 : 60 ح 106 .
[ 372 ]
من خشية اللّه 1 .
« و لا يتّعظ من اللّه بواعظ » سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم اللّه على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة و لهم عذاب عظيم 2 .
« و هو يرى المأخوذين على الغرّة » فلا يستطيعون توصية و لا إلى أهلهم يرجعون 3 ، فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتّى إذا فرحوا بما اوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون 4 ، و ما أرسلنا في قرية من نبيّ إلاّ أخذنا أهلها بالبأساء و الضّرّاء لعلّهم يضّرّعون ثمّ بدّلنا مكان السيئة الحسنة حتّى عفوا و قالوا قد مسّ آباءنا الضّراء و السّرّاء فأخذناهم بغتة و هم لا يشعرون 5 ، و لقد جاء آل فرعون النذر كذّبوا بآياتنا كلّها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر 6 .
« حيث لا إقالة و لا رجعة » حتّى إذا جاء أحدهم الموت قال ربّ ارجعون لعلّي أعمل صالحا فيما تركت كلاّ إنّها كلمة هو قائلها و من ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون 7 .
« كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون » من غمرات الموت ، و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم اخرجوا أنفسكم اليوم
-----------
( 1 ) الحشر : 21 .
-----------
( 2 ) البقرة : 6 7 .
-----------
( 3 ) يس : 50 .
-----------
( 4 ) الأنعام : 44 .
-----------
( 5 ) الأعراف : 94 95 .
-----------
( 6 ) القمر : 41 42 .
-----------
( 7 ) المؤمنون : 99 100 .
[ 373 ]
تجزون عذاب الهون . . . 1 .
« و جاءهم من فراق الدّنيا ما كانوا يأمنون » في ( تاريخ بغداد ) : ( لمّا استتمّ للمعتصم غلمانه الأتراك بضعة عشر ألفا و علّق له خمسون ألف مخلاة على فرس و برذون و بغل ، و ذلّل العدوّ بكلّ النواحي ، أتته المنيّة على غفلة ، فقيل : إنّه يقول في حمّاه التي مات فيها 2 حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون 3 .
« و قدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون » في ( المروج ) : و في سنة ( 282 ) ذبح أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون بدمشق و كان بنى في سفح الجبل أسفل من دير مروان قصرا ، و كان يشرب فيه في تلك الليلة ، و عنده طغج ، و كان الّذي تولّى ذلك خادما من خدمهم ، و أتى بهم على أميال ، فقتلوا و صلبوا ، و منهم من رمى بالنشّاب ، و منهم من شرح لحم من أفخاذه و عجيزته ، و أكله السّودان من ممالك أبي الجيش . و حمل أبو الجيش في تابوت إلى مصر ، و ورد الخبر بذلك إلى مصر ، فأخرج من التابوت ، و جعل على السّرير على باب مصر ، و خرج ولده الأمير جيش و ساير الأمراء و الأولياء ،
فتقدّم القاضي ابن عبدة المعروف بالعبداني و صلّى عليه . و حكى أبو بشر الدّولابي عن أبي عبد اللّه البخاري و كان شيعيّا من أهل العراق ، و كان يقرأ في دور آل طولون و مقابرهم انّه كان بات في تلك الليلة ممّن يقرأ عند القبر ،
و قدّم أبو الجيش ليدلّى في القبر ، و نحن نقرأ سورة الدخان ، فأحدر من السرير ، و دلّي في القبر ، و انتهينا من السورة في هذا الوقت إلى قوله عزّ و جلّ
-----------
( 1 ) الأنعام : 93 .
-----------
( 2 ) الخطيب البغدادي 3 : 346 رقم 1451 .
-----------
( 3 ) الأنعام : 44 .
[ 374 ]
خذوه فاعتلوه إلى سواء الجحيم ثمّ صبّوا فوق رأسه من عذاب الحميم ذق إنّك أنت العزيز الكريم 1 فخفضنا أصواتنا و أذعرنا حياء ممّن حضر 2 .
« فغير موصوف ما نزل بهم » روى أنّ في التوراة : ( مثل الموت كمثل شجرة شوك أدرجت في بدن ابن آدم ، فتعلّقت كلّ شوكة بعرق و عصب ، ثمّ جذبها رجل شديد الجذب فقطع ما قطع ، و بقي ما بقي .
« اجتمعت عليهم سكرة الموت و حسرة الفوت » قالوا : كان هشام بن عبد الملك كساء ظهره و ثياب مهنته لا يحملها إلاّ سبعمائة بعير من أجلد ما يكون من الإبل ، و كان مع ذلك يتقلّلها ، فمات و الوليد غائب ، فأتاه موته ، فأمر بقفل الخزائن فلم يجدوا الهشام ما يكفّنونه ، فلم يدفن إلاّ بعد ثلاثة أيّام كان الوليد قد قدم 3 .
« ففترت لها أطرافهم » و لو كانت أطرافهم قبل في غاية القوّة ، و في ( تاريخ بغداد ) : قال ابن أبي داود : كان المعتصم يخرج ساعده إليّ و يقول : عضّ ساعدي بأكثر قوّتك فأقول : ما تطيب نفسي لذلك ، فيقول : إنّه لا يضرّني فأروم ذلك ، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنّة فضلا عن الأسنان و انصرف يوما من دار المأمون إلى داره ، و كان شارع الميدان منتظما بالخيم فيها الجند فمرّ بامرأة تبكي و تقول : ابني ابني و إذا بعض الجند قد أخذ ابنها ، فأمره المعتصم أن يردّ ابنها عليها ، فأبى فقبض عليه بيده فسمع صوت عظامه ، ثمّ أطلقه من يده فسقط ، و أمر بإخراج الصبيّ إلى امّه 4 .
و في ( الأخبار الطوال ) : لمّا خرج الرشيد إلى طوس في سنة ( 193 )
-----------
( 1 ) الدخان : 47 49 .
-----------
( 2 ) مروج الذهب للمسعودي 4 : 158 .
-----------
( 3 ) الكامل لابن الأثير 5 : 266 267 .
-----------
( 4 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 3 : 346 رقم 1451 .
[ 375 ]
مرض بها مرضا شديدا فجمع له الأطباء يعالجونه ، فقال :
إنّ الطبيب بطبّه و دوائه
لا يستطيع دفاع محذور جرى
ما للطبيب يموت بالدّاء الذي
قد كان يشفي مثله فيما مضى
فلمّا اشتدّ به الوجع قال للفضل بن الرّبيع : يا عبّاسي ما يقول النّاس ؟
قال : يقولون : إنّ شانئ الخليفة قد مات ، فأمر أن يسرج له حمار ليركبه ،
و يخرج فاسرج له و حمل حتّى وضع على السّرج استرخت فخذاه ، و لم يستطع الثبوت فقال : أرى النّاس قد صدقوا ، ثمّ توفّي 1 .
« و تغيّرت لها ألوانهم ثم ازداد الموت فيهم ولوجا » ( و لوج ) مصدر ولج يلج أي : دخل . قال سيبويه : جاء المصدر فعولا مع أنّ فعولا من مصادر غير المتعدّي ، لأنّه على معنى ولجت فيه 2 .
« فحيل بين أحدهم و بين منطقه » لسقوط قوّة المنطق قبل السّامعة و الباصرة .
« و إنّه لبين أهله ينظر ببصره و يسمع باذنه على صحّة من عقله و بقاء من لبّه » روى ( الكافي ) : أنّ رجلا قال للصادق عليه السلام : انّي خرجت إلى مكّة مع رجل ،
فمرض في الطريق شديدا فكنت أقوم عليه ، ثمّ أفاق حتّى لم يكن عندي به بأس ، فمات ، فقال عليه السلام : ما من ميّت يحضره الوفاة إلاّ ردّ اللّه تعالى عليه من سمعه و بصره و عقله للوصيّة ، أخذ الوصيّة أو تركها و هي الرّاحة التّي يقال لها راحة الموت ، و هي حقّ على كلّ مسلم 3 .
« يفكّر فيم أفنى عمره و فيم أذهب دهره » في ( المروج ) : لمّا اشتدّت علّة
-----------
( 1 ) الأخبار الطوال للدينوري : 394 .
-----------
( 2 ) الصحاح : ( ولج ) .
-----------
( 3 ) الكافي 7 : 3 ح 3 .
[ 376 ]
معاوية و أيس من برئه أنشأ يقول :
فيا ليتني لم أعن في الملك ساعة
و لم أك في اللّذّات أعشى النّواظر
و كنت كذي طمرين عاش ببلغة
من الدّهر حتّى زار أهل المقابر
1 « و يتذكر أموالا جمعها أغمض في مطالبها » الأصل فيه غضّ البصر ، كأنّه لم ير الحرام .
« و أخذها من مصرّحاتها و مشتبهاتها » ( المصرّح ) غير المشتبه من ( يوم مصرّح ) ليس فيه غيم أو من ( تصريح الخمر ) بأن يذهب عنها الزّبد . روي أنّ في القيامة يكون جمع لهم أعمال كالجبال ، فتصير هباء منثورا لعدم تورّعهم في الدّنيا عن المحرّمات .
« قد لزمته تبعات جمعها » قيل لرجل : إنّ فلانا مات ، و ترك عشرة آلاف ،
فقال : أمّا العشرة آلاف فلا تتركه .
« و أشرف على فراقها تبقى لمن وراءه ينعمون فيها و يتمتّعون بها » ذكروا ان عمرو بن العاص دخل عليه ابنه في احتضاره فقال له : خذ ذلك الصندوق و هو مملوّ مالا ، وليته كان مملوّا بعرا « فيكون المهنأ لغيره » حيث أتاه من غير تعب في تحصيله ، و العبء بالكسر الحمل الثقيل .
« على ظهره » في ( المروج ) : لمّا حضرت الوفاة معاوية بن يزيد بن معاوية اجتمعت إليه بنو اميّة فقالوا له : اعهد إلى من رأيت من أهل بيتك ، فقال :
و اللّه ما ذقت حلاوة خلافتكم فكيف أتقلّد وزرها و تتحلّون أنتم حلاوتها ،
و اتعجّل أنا مرارتها ؟ اللّهمّ إنّي بريء منها 2 .
-----------
( 1 ) مروج الذهب للمسعودي 3 : 49 .
-----------
( 2 ) مروج الذهب للمسعودي 3 : 73 .
[ 377 ]
« و المرء قد غلقت رهونه بها » غلق الرّهن : استحقّه المرتهن إذا لم يفتك في الوقت المشروط ، و المراد أنّه كما لو رهن الإنسان علق مضنّة بمال في مدّة و لم يسع في تلك المدّة لتحصيل مال يفكّه به يعلق ذاك العلق ، كذلك هذا الإنسان الّذي رهن نفسه النفيسة بالواجبات التي عليه ، و لم يفكّها بأداء تلك الواجبات في مدّة حياته في الدّنيا ، يصير كذلك ، قال تعالى : كلّ نفس بما كسبت رهينة 1 .
« فهو يعضّ يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره » في ( الأساس ) :
اصحر بالأمر و أصحره : أظهره 2 .
قلت : مقتضى كلامه عليه السلام كون الإصحار بمعنى الظّهور ، لا الإظهار ،
و يوم يعضّ الظالم على يديه يقول يا ليتني اتّخذت مع الرسّول سبيلا . . . 3 .
« و يزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره » في ( الأخبار الطوال ) : لمّا اشتدّ وجع عبد الملك تمثّل ببيت اميّة بن أبي الصّلت :
ليتني كنت قبل ما بدا لي
في قلال الجبال أرعى الوعولا
فلم يمس حتى قضى 4 .
« و يتمنّى أنّ الذي كان يغبطه بها و يحسده عليها قد حازها دونه » و أصبح الّذين تمنّوا مكانه بالأمس يقولون و يكأنّ اللّه يبسط الرزق لمن يشاء من عباده و يقدر لو لا أن منّ اللّه علينا لخسف بنا و يكأنّه لا يفلح الكافرون 5 .
-----------
( 1 ) المدثر : 38 .
-----------
( 2 ) أساس البلاغة للزمخشري : 249 ( صحر ) .
-----------
( 3 ) الفرقان : 27 .
-----------
( 4 ) الأخبار الطوال للدينوري : 325 .
-----------
( 5 ) القصص : 82 .
[ 378 ]
حافظا ترك جهان گفتن طريق خوش دلى است
تا نه پندارى كه احوال جهانداران خوش است
« فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتّى خالط لسانه سمعه » هكذا في ( المصريتين ) 1 و ليس في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 2 كلمة « لسانه » و لا مناسبة لها أيضا ، فإنّ اللّسان لا يخالط السمع بل الموت يخالطه .
« فصار بين أهله لا ينطق بلسانه و لا يسمع بسمعه » سقطت قوّة ناطقته و قوّة سامعته و بقيت قوّة باصرته .
« يردّد طرفه بالنّظر في وجوههم » في ( الصحاح ) : الطرف : العين و لا يجمع لأنّه في الأصل مصدر فيكون واحدا و يكون جماعة ، قال تعالى : لا يرتدّ إليهم طرفهم . . . 3 .
« يرى حركات ألسنتهم و لا يسمع رجع كلامهم » أي : حاصل مرادهم .
« ثمّ ازداد الموت التياطا به » أي : لصوقا به . في ( كامل المبرّد ) : قال ابن عباس : دخلت على عمرو بن العاص في احتضاره فقلت له : إنّك كنت تقول :
« اشتهي أن أرى عاقلا يموت حتّى أسأله كيف يجد » ، فكيف تجد ؟ قال : أجد السّماء كأنّها مطبقة على الأرض و أنا بينهما ، و أراني كأنّي أتنفّس من خرت أبرة يعني ثقبها 4 .
« فقبض بصره كما قبض سمعه » قال ابن ميثم 5 : نبّه عليه السلام على انّ البصر يبطل بعد السمع ، كالسمع بعد النطق لعلمه بأسرار الطبيعة ، و الذي يلوح من
-----------
( 1 ) الطبعة المصرية المصححة 263 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 7 : 201 ، و ابن ميثم كالمصرية 3 : 60 ، و الخطية : 91 .
-----------
( 3 ) الصحاح : ( طرف ) و الآية من سورة إبراهيم : 43 .
-----------
( 4 ) الكامل للمبرّد : 229 .
-----------
( 5 ) ابن ميثم .
[ 379 ]
أسبابه أنّه لمّا كان السبب العامّ القريب للموت هو انطفاء الحرارة الغريزية عن فناء الرطوبة الأصليّة التي منها خلقنا و كان فناء تلك الرطوبة عن عمل الحرارة الغريزية فيها التجفيف و التحليل ، كان كلّ عضوا يبس في طبيعته و أبرد ، أسرع إلى البطلان ، و أسبق إلى الفساد فنقول : أمّا أنّ آلة النطق أسرع فسادا من آلة السمع ، فلأنّ آلة النّطق مبنيّة على الأعصاب المحرّكة و مركّبة منها ، و آلة السمع من الأعصاب المفيدة للحسّ ، و اتّفق الأطباء على أنّ الأعصاب المحرّكة أيبس و أبرد لكونها منبعثة من مؤخّر الدماغ دون الأعصاب المفيدة للحسّ ، فإنّ جلّها منبعث من مقدّم الدّماغ فكانت لذلك أقرب إلى البطلان ، و أمّا بطلان آلة السمع قبل البصر فلأنّ منبت الأعصاب التي هي محلّ القوّة السامعة أقرب إلى مؤخّر الدّماغ من منابت محلّ القوّة الباصرة فكانت أيبس و أبرد ، و أقبل لإنطفاء القوّة الغريزية 1 .
« و خرجت الروّح من جسده فصار جيفة بين أهله » الإنسان أوّله نطفة ،
و آخره جيفة .
« قد أوحشوا من جانبه و تباعدوا من قربه » لكونهم من أهل الدّنيا ، و الميّت من أهل الآخرة ، و أنت يوم ترحل عنهم كضيف بتّ فيهم .
« لا يسعد باكيا و لا يجيب داعيا » في ( المروج ) : ( ذكر المدائني انّ الحجّاج لم يكن يظهر لندمائه بشاشة إلاّ في يوم دخلت عليه ليلى الأخيليّة ، فقال لها :
بلغني أنّك مررت بقبر توبة بن حمير ، و عدلت عنه ، فو اللّه ما وفّيت له ، و لو كان هو بمكانك و أنت بمكانه ما عدا عنك ، قالت : لي عذر قال : و ما هو ؟ قالت :
« سمعته و هو يقول :
و لو أنّ ليلى الأخيليّة سلّمت
عليّ و دوني جندل و صفائح
-----------
( 1 ) شرح ابن ميثم 3 : 65 .
[ 380 ]
لسلّمت تسليم البشاشة أوزقا
إليها صدى من جانب القبر صائح
و كان معي نسوة قد سمعن قوله ، فكرهت أن أكذّبه ، فاستحسن الحجّاج قولها .
و ذكر حماد الرّاوية غير هذا الوجه ، و هو أنّ زوج ليلى حلف عليها و قد أجاز بقبر توبة ليلى أن تنزل و تأتي و تسلّم عليه و تكذّبه في قوله ذاك البيت ،
فأبت أن تفعل فأقسم عليها زوجها ، فنزلت حتّى جاءت إلى القبر و دموعها على صدرها ، فقالت : السلام عليك يا توبة ، فلم تستتمّ النداء حتى انفرج القبر عن طائر كالحمامة البيضاء فضربت صدرها فوقعت ميتة ، فأخذوا في جهازها و كفنها ، و دفنت إلى جانب قبره 1 .
« ثمّ حملوه إلى محطّ من الأرض » بقدر قامته ، قال الشاعر : ( و كأنّني بك راكبا أجيادهم بدل الجياد ) ، الأجياد جمع الجيد : العنق ، و الجياد جمع الجواد :
الفرس ، روى « محط » بالحاء المهملة ، و الخاء المعجمة ، و الأوّل أحسن فيكون في معنى الحفرة ، و قيل بالفارسيّة :
هر كه را خوابگه آخر بد و مشتى خاك است
گو چه حاجت كه بر أفلاك كشى ايوان را
2 و نكّره لأنّه لا تدري نفس بأيّ أرض تموت ، و أيّ موضع يدفن . قال مطرود الخزاعي في ولد عبد مناف :
قبر بردمان ، و قبر بسلمان ، و قبر عند غزّات
و ميّت مات قريبا من الحجون عن شرق البنيّات
3
-----------
( 1 ) مروج الذهب للمسعودي 3 : 140 .
-----------
( 2 ) ديوان حافظ : 8 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 15 : 200 .
[ 381 ]
قال البلاذري : أما الّذي بردمان ناحية اليمن المطّلب و الّذي بسلمان نوفل و الّذي بغزّة هاشم ، و الّذي مات بمكّة و دفن بقرب الحجون عبد شمس 1 .
و في ( معارف ابن قتيبة ) : قال أبو صالح صاحب التفسير ، ما رأينا بني أمّ قطّ أبعد قبورا من بني العباس لأمّ الفضل ، مات الفضل بالشام ، و عبد اللّه بالطائف ، و عبيد اللّه بالمدينة ، و قثم بسمرقند ، و معبد بافريقية 2 .
« و أسلموه إلى عمله » فالأقرباء إنّما صحابتهم إلى إنزاله في حفرته ، و أمّا الّذي يكون معه أبدا فهو عمله ، إن خيرا فخير ، و ان شرّا فشرّ ، و حينئذ فكأنّ الأقرباء بعد إنزاله أسلموه بيد العمل .
« و انقطعوا عن زورته » في ( الإرشاد ) : لمّا مات الحسن بن الحسن ضربت زوجته فاطمة بنت الحسين عليه السلام على قبره فسطاطا إلى سنّة ، فلمّا كان رأس السنة ، قالت لمواليها : قوّضوا هذا الفسطاط في اللّيل ، فلّما أظلم اللّيل سمعت قائلا يقول :
هل وجدوا ما فقدوا ،
فأجابه آخر :
بل يئسوا فانقلبوا 3 .
-----------
( 1 ) أنساب الأشراف للبلاذري 1 : 63 .
-----------
( 2 ) المعارف لابن قتيبة : 122 .
-----------
( 3 ) المفيد ، الإرشاد : 197 .
[ 382 ]
[ 383 ]