الحكمة ( 131 ) وَ قَالَ ع وَ سَمِعَ رَجُلاً يَذُمُّ اَلدُّنْيَا :
أَيُّهَا اَلذَّامُّ لِلدُّنْيَا اَلْمُغْتَرُّ بِغُرُورِهَا اَلْمُنْخَدِعُ بِأَبَاطِيلِهَا أَ تَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا ثُمَّ
-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 4 : 584 .
-----------
( 2 ) القارعة : 8 11 .
[ 41 ]
تَذُمُّهَا أَنْتَ اَلْمُتَجَرِّمُ عَلَيْهَا أَمْ هِيَ اَلْمُتَجَرِّمَةُ عَلَيْكَ مَتَى اِسْتَهْوَتْكَ أَمْ مَتَى غَرَّتْكَ أَ بِمَصَارِعِ آبَائِكَ مِنَ اَلْبِلَى أَمْ بِمَضَاجِعِ أُمَّهَاتِكَ تَحْتَ اَلثَّرَى كَمْ عَلَّلْتَ بِكَفَّيْكَ وَ كَمْ مَرَّضْتَ بِيَدَيْكَ تَبْغِي لَهُمُ اَلشِّفَاءَ وَ تَسْتَوْصِفُ لَهُمُ اَلْأَطِبَّاءَ غَدَاةَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ دَوَاؤُكَ وَ لاَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ بُكَاؤُكَ لَمْ يَنْفَعْ أَحَدَهُمْ إِشْفَاقُكَ وَ لَمْ تُسْعَفْ بِطَلِبَتِكَ وَ لَمْ تَدْفَعْ عَنْهُ بِقُوَّتِكَ وَ قَدْ مَثَّلَتْ لَكَ بِهِ اَلدُّنْيَا نَفْسَكَ وَ بِمَصْرَعِهِ مَصْرَعَكَ إِنَّ اَلدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا وَ دَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا وَ دَارُ غِنًى لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا وَ دَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اِتَّعَظَ بِهَا مَسْجِدُ أَحِبَّاءِ اَللَّهِ وَ مُصَلَّى مَلاَئِكَةِ اَللَّهِ وَ مَهْبِطُ وَحْيِ اَللَّهِ وَ مَتْجَرُ أَوْلِيَاءِ اَللَّهِ اِكْتَسَبُوا فِيهَا اَلرَّحْمَةَ وَ رَبِحُوا فِيهَا اَلْجَنَّةَ فَمَنْ ذَا يَذُمُّهَا وَ قَدْ آذَنَتْ بِبَيْنِهَا وَ نَادَتْ بِفِرَاقِهَا وَ نَعَتْ نَفْسَهَا وَ أَهْلَهَا فَمَثَّلَتْ لَهُمْ بِبَلاَئِهَا اَلْبَلاَءَ وَ شَوَّقَتْهُمْ بِسُرُورِهَا إِلَى اَلسُّرُورِ رَاحَتْ بِعَافِيَةٍ وَ اِبْتَكَرَتْ بِفَجِيعَةٍ تَرْغِيباً وَ تَرْهِيباً وَ تَخْوِيفاً وَ تَحْذِيراً فَذَمَّهَا رِجَالٌ غَدَاةَ اَلنَّدَامَةِ وَ حَمِدَهَا آخَرُونَ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ ذَكَّرَتْهُمُ اَلدُّنْيَا فَتَذَكَّرُوا وَ حَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَ وَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا
[ 41 ]
أقول : رواه الشيخ في ( أماليه ) عن جابر الأنصاري ، قال : بينا أمير المؤمنين عليه السّلام في جماعة من أصحابه أنا فيهم ، إذ ذكروا الدنيا و تصرّفها بأهلها ، فذمها رجل فذهب في ذمّها كلّ مذهب ، فقال عليه السّلام له : أيّها الذام للدّنيا أنت المتجرّم عليها أم هي المتجرّمة عليك ؟ فقال : بل أنا المتجرّم عليها ،
فقال عليه السّلام : فبم تذمّها ؟ أليست منزل صدق لمن صدّقها ؟ و دار غنى لمن تزوّد منها ؟ و دار عافية لمن فهم عنها ؟ و مساجد أنبياء اللَّه ، و مهبط وحيه ، و مصلّى ملائكته ، و متجر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرّحمة ، و ربحوا فيها الجنّة ، فمن ذا
[ 42 ]
يذمّها و قد أذنت ببينها ، و نادت بانقطاعها ، و نعت نفسها و أهلها ، فمثّلت ببلائها البلاء ، و شوّقت بسرورها إلى سرور ، تخويفا و ترغيبا إذا ابتكرت بعافية راحت بفجيعة ، فذمّها رجال فرّطوا غداة النّدامة ، و حمدها آخرون اكتسبوا فيها الخير فيا أيّها الذّام للدنيا المغترّ بغرورها ، متى استذمّت إليك ، أم متى غرتك ؟ أبمضاجع آبائك من البلى ؟ أم بمصارع أمّهاتك تحت الثّرى ؟ كم مرّضت بيديك ؟ و عالجت بكفّيك ؟ تلتمس لهم الشّفاء و تستوصف لهم الأطباء لم تنفعهم بشفاعتك و لم تسعفهم في طلبتك مثّلت لك ويحك الدّنيا بمصرعهم مصرعك و بمضجعهم مضجعك حين لا يغنى بكاؤك و لا ينفعك احبّاؤك 1 .
و رواه ابن أبي شعبة في ( تحفه ) مرفوعا عن جابر الأنصاري أبسط ،
فقال : قال جابر كنّا مع أمير المؤمنين عليه السّلام بالبصرة ، فلمّا فرغ من قتال من قاتله أشرف علينا من آخر الليل ، فقال : فيهم أنتم ؟ قلنا : في ذمّ الدّنيا فقال : على م تذّم الدّنيا يا جابر ؟ ثمّ حمد اللَّه و أثنى عليه و قال : أما بعد فما بال أقوام يذمّون الدّنيا انتحلوا الزهد فيها ، الدّنيا منزل صدق لمن صدّقها ، و مسكن عافية لمن فهم عنها ، و دار غنى لمن تزوّد فيها ، مسجد أنبياء اللَّه ، و مهبط وحيه ، و مصلّى ملائكته ، و مسكن أحبّائه ، و متجر أوليائه ، اكتسبوا فيها الرّحمة و ربحوا منها الجنّة فمن ذا يذمّ الدّنيا يا جابر و قد آذنت ببينها و نادت بانقطاعها و نعت نفسها بالزّوال و مثلت ببلائها البلاء و شوّقت بسرورها إلى سرور راحت بفجيعة و ابتكرت بنعمة و عافية ترهيبا و ترغيبا يذمّها قوم عند النّدامة حدّثتهم جميعا فصدقتهم و ذكّرتهم فذكروا و وعظتهم فاتّعظوا و خوّفتهم فخافوا و شوّقتهم فاشتاقوا فأيّها الذّامّ للدّنيا المغترّ بغرورها متى استذمّت
-----------
( 1 ) الأمالي للطوسي : 207 ح 2 .
[ 43 ]
إليك بل متى غرّتك بنفسها بمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمّهاتك من الثّرى كم مرّضت بيديك و علّلت بكفّيك تستوصف لهم الدّواء و تطلب لهم الأطباء لم تدرك فيه طلبتك و لم تسعف فيه بحاجتك بل مثّلت الدّنيا به نفسك و بحاله حالك غداة لا ينفعك أحبّاؤك و لا يغني عنك نداءك حين يشتدّ من الموت أعالين المرض و أليم لو عات المضض حين لا ينفع الأليل و لا يدفع العويل يحفز بها الحيزوم و يغصّ بها الحلقوم لا يسمعه النّداء و لا يروّحه الدّعاء فياطول الحزن عند انقطاع الأجل ثمّ يراح به على شرجع نقله أكفّ أربع فيضجع في قبره في طول لبث و ضيق جدث فذهبت الجدّة ، و انقطعت المدّة و رفضته العطفة اللّطفة لا تقاربه الأخلاّء و لا يلّم به الزّوّار و لا اتّسقت به الدّار انقطع دونه الأثر و استعجم دونه الخبر و بكّرت ورثته و اقتسمت تركته و لحقه الحوب و احاطت به الذّنوب فإن يكن قدّم خيرا طاب مكسبه و ان يكن قدّم شرّا تب منقلبه و كيف ينفع نفسا فرارها و الموت قصارها و القبر مزارها فكفى بهذا و اعطا كفى » ثم قال : يا جابر امض معي ، فمضيت معه حتّى أتينا القبور فقال : يا أهل التربة و يا أهل الغربة امّا المنازل فقد سكنت و امّا المواريث فقد قسمت و امّا الأزواج فقد نكحت ، هذا خبر ما عندنا فما خبر ما عندكم ، ثمّ أمسك عنّي مليّا ثمّ رفع رأسه فقال : و الّذي أقلّ السّماء ، فعلت ، و سطح الأرض فدحت ، لو أذن للقوم في الكلام لقالوا : إنّا وجدنا خير الزّاد التقوى ، ثم قال : يا جابر إذا شئت فارجع 1 .
( بيان ) شرجع : الجنازة .
و رواه ( كمال الدّين الشافعي في مطالب سؤوله ) فقال : و قال عليه السّلام : أيّها الذّامّ للدنيا أنت المجترم عليها أم هي المجترمة عليك ؟ فقال قائل من
-----------
( 1 ) تحف العقول لابن شعبة الحراني : 186 .
[ 44 ]
الحاضرين أنا المجترم عليها يا أمير المؤمنين فقال له : فلم ذممتها أليست دار صدق لمن صدقها و دار غنى لمن تزوّد منها و دار عافية لمن فهم عنها مسجد أحبّائه و مصلّى أنبيائه و مهبط الملائكة و متجر أوليائه اكتسبوا فيها الطاعة و ربحوا فيها الجنّة فمن ذا يذمّها و قد أذنت بانتهائها و نادت بانقضائها و أنذرت ببلائها فان راحت بفجيعة فقد غدت بمبتغى و ان أعصرت بمكروه فقد أسفرت بمشتهى إلى أن قال و إذا قتك شهدا و صبرا فإن ذممتها لصبرها فامدحها لشهدها و إلاّ فاطرحها لا مدح و لا ذمّ . . . 1 .
و رواه ( أمالي المفيد ) كما يأتي في شرح بعض الفقرات .
و رواه الخطيب في الحسن بن ابان مسندا عنه عن بشير بن زإذان عن جعفر بن محمّد الصّادق عن آبائه عليهم السّلام قالوا كان علي عليه السّلام في مسجد الكوفة فسمع رجلا يشتم الدّنيا و يفحش في شتمها فقال له اجلس فجلس فقال : مالي أسمعك تشتم الدّنيا ، و تفحش في شتمها أو ليس هو اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر سامعين مطيعين ، فأنشا يقول : إنَّ الدّنيا لمنزل صدق لمن صدقها و دار بلاء لمن فهم عنها ، و عافية لمن تزوّد منها ، منزل أحبّاء اللَّه ، و مهبط وحيه ، و مصلّى ملائكته ، و متجر أوليائه ، اكتسبوا الجنة و ربحوا فيها المغفرة ،
فذمّها أقوام غداة النّدامة و حمدها آخرون ذكّرتهم الدّنيا فذكّروا و حدّثتهم فصدّقوا فمن ذا يذمّها و قد أذنت ببينها ، و نادت بانقطاعها ، راحت بفجيعة ،
و ابتكرت بعافية ، تخويف و ترهيب ، يا أيّها الذّامّ للدّنيا المقبل بتغريرها متى استدنت إليك أم متى غرّتك ؟ أبمضاجع آبائك من الثّرى أو بمنازل أمّهاتك من البلى أم ببواكر الصّريخ من اخوانك أم بطوارق النّعي من أحبابك ؟ هل رأيت إلاّ ناعيا منعيا ، أو رأيت إلاّ وارثا موروثا ؟ كم علّلت بيديك أم كم مرّضت
-----------
( 1 ) مطالب السؤول لابن طلحة : 51 .
[ 45 ]
بكفّيك ؟ تبتغي له الشّفاء و تستوصف الأطباء لم تنفعه بشفاعتك و لم تنجح له بطلبتك بل مثّلت لك به الدّنيا نفسك و بمضجعه مضجعك غداة لا يغني عنك بكاؤك و لا ينفعك أحبّاؤك فهيهات أيّ مواعظ للدّنيا لو نصتّ لها ؟ و أيّ دار لو فهمت عنها ؟ و أيّ عافية لو تزوّدت منها ؟ انصرف إذا شئت 1 .
و رواه ابن قتيبة في ( زهد عيونه ) فقال : ذمّ رجل الدّنيا عند عليّ عليه السّلام فقال له : الدّنيا دار صدق لمن صدّقها و دار نجاة لمن فهم عنها و دار غنى لمن تزوّد منها مهبط وحي اللَّه و مصلّى ملائكته و مسجد أنبيائه و متجر أوليائه ربحوا منها الرّحمة و احتسبوا فيها الجنّة فمن ذا يذمّها و قد آذنت ببينها و نادت بفراقها و شبّهت بسرورها السّرور و ببلاءها البلاء ترغيبا و ترهيبا فيا أيّها الذّام للدّنيا المعلّل نفسه متى خدعتك الدّنيا أم متى استذمت إليك أبمصارع آبائك في البلى أم بمضاجع أمّهاتك في الثّرى كم مرّضت بيديك و علّلت بكفّيك تطلب له الشّفاء و تستوصف له الأطباء غداة لا يغني عنه دواؤك و لا ينفعه بكاؤك 2 .
و رواه المسعودي في ( مروجه ) فقال : كان علي عليه السّلام يقول : الدّنيا دار صدق لمن صدّقها و دار عافية لمن فهم عنها و دار غنى لمن تزوّد منها ، الدّنيا مسجد أحبّاء اللَّه و مصلّى ملائكة اللَّه و مهبط وحيه و متجر أوليائه اكتسبوا فيها الرحمة و ربحوا فيها الجنّة فمن ذا يذمّها و قد أذنت ببينها و نادت بفراقها و نعت نفسها و أهلها و مثّلت لهم ببلاءها البلاء و شوّقت بسرورها إلى السّرور راحت بفجيعة و ابتكرت بعافية تحذيرا و ترغيبا و تخويفا فذمّها رجال غداة النّدامة و حمدها آخرون غبّ المكافأة ذكّرتهم فذكّروا تصاريفها و صدقتهم
-----------
( 1 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 7 : 287 .
-----------
( 2 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 2 : 321 .
[ 46 ]
فصدّقوا حديثها فيا أيّها الذامّ للدّنيا المغترّ بغرورها متى استذامّت لك الدّنيا ؟
بل متى غرّتك من نفسها ؟ أبمضاجع آبائك من البلى ؟ أم بمصارع أمّهاتك من الثّرى ؟ كم قد علّلت بكفّيك و مرّضت بيديك ؟ من تبغي له الشّفاء و تستوصف له الأطباء لم تنفعه بشفائك . . . 1 .
« قول المصنّف و قال عليه السّلام و قد سمع رجلا يذم الدنيا » قد عرفت من رواية ( تحف العقول ) : أنّ الرّجل كان من البصرة بعد الجمل ، و من رواية ( تاريخ بغداد ) انّه كان بالكوفة ، و لعلّه كان كلّ منهما فتكرار مثله غير بعيد .
و في ( اليتيمة ) فصل لأبي النّضر العتبي في الإنكار على من يذمّ الدّهر ( عتبك على الدهر داع إلى العتب عليك و استبطاؤك إيّاه صارف عنان اللّوم إليك فالدّهر سهم من سهام اللَّه منزعه عن مقابض أحكامه و مطلعه من جانب ما صرّرته مجاري أقلامه و الوقيعة فيه تمرس بحكم خالقه و باريه و مجاري الأشياء على قدر طباعها و بحسب ما في قواها و أوضاعها و من ذا الّذي يلوم الأراقم على النّهش بالأنياب و العقارب على اللّسع بالأذناب و انّى لها أن تذمّ و قد أشربت خلقتها السّم و حكم اللَّه في كلّ حال مطاع و بأمره رضا و اقتناع فاعف الزّمان عن قوارض لسانك و اضرب عليها حجاب القرص بأسنانك و اذكر قول النبيّ صلى اللَّه عليه و آله : لا تسبّوا الدّهر فانّ اللَّه هو الدّهر ، و عليك بالتسليم بحكم العليّ العظيم و ذاك أحمد عاقبة و أرشد دنيا و دين 2 .
و قال ابن أبي الحديد : هذا الفصل كلّه لمدح الدّنيا و هو ينبىء عن اقتداره عليه السّلام على ما يريد من المعاني لأنّ كلامه كلّه في ذمّ الدّنيا و هو الآن
-----------
( 1 ) مروج الذهب للمسعودي 2 : 419 .
-----------
( 2 ) يتيمة الدهر للثعلبي 4 : 462 .
[ 47 ]
يمدحها و هو صادق في ذاك و في هذا 1 .
قلت : و في ( الاستيعاب ) : قدم عمرو بن الأهتم في وجوه قومه من بني تميم على النبي صلى اللَّه عليه و آله في سنة تسع ، و كان في من معه الزّبرقان بن بدر ،
فقال الزّبرقان : يا رسول اللَّه صلى اللَّه عليه و آله أنا سيّد تميم ، و المطاع فيهم ، و المجاب فيهم آخذ لهم بحقوقهم و أمنعهم من الظلم ، و هذا ، يعني عمرو بن الأهتمّ ، يعلم ذلك فقال عمرو : إنه لشديد العارضة مانع لجانبه مطاع في دينه ، فقال الزّبرقان :
و اللَّه لقد كذب يا رسول اللَّه و ما منعه ان يتكلّم إلاّ الحسد ، فقال عمرو : أنا أحسدك ، فو اللَّه إنّك لئيم الخال ، حديث المال ، أحمق الولد ، مبغض في العشيرة ،
و اللَّه ما كذبت في الأولى و لقد صدقت في الثانية فقال النبيّ صلى اللَّه عليه و آله : إنّ من البيان لسحرا 2 .
و في ( المعجم ) : روى أنّ خالد بن صفوان و كان عمرو بن الاهتمّ جدّ أبيه أكل يوما خبزا وجبنا فرآه أعرابي فسلّم عليه فقال له خالد : هلّم إلى الخبز و الجبن فإنّه حمض العرب ، و هو يسيغ اللّقمة و يفيق الشهوة ، و تطيب عليه الشربة ، فانحطّ الأعرابيّ فلم يبق شيئا فقال خالد : يا جارية زيدينا خبزا وجبنا ، فقالت : ما بقي عندنا من الجبن شيء فقال خالد : الحمد للَّه الّذي صرف عنّا معرّته و كفانا مؤنته ، و اللَّه إنّه ما علمته ليقدح في السّن ، و يخشن الحلق ،
و يربو في المعدة ، و يعسر في المخرج . فقال الأعرابي : و اللَّه ما رأيت قطّ قرب مدح من ذمّ أقرب من هذا 3 .
قوله عليه السّلام : « أيها الذّام للدنيا المغترّ بغرورها المخدوع باباطيلها » هكذا في
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 : 326 .
-----------
( 2 ) الاستيعاب لابن عبد البر 3 : 1163 ترجمة عمرو بن الأهتم .
-----------
( 3 ) المعجم 11 : 34 .
[ 48 ]
( المصرية ) 1 و لكن في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم ) 2 : « المنخدع » بدل « المخدوع » فهو الصحيح .
« أ تغتر بالدنيا ثمّ تذمّها » و في ( ابن أبي الحديد ) : « اتفتتن بها ثمّ تذمّها » 3 .
أنكر عليه السّلام ذمّه للدّنيا لكون الذامّ من محبّيها و عبدتها ، و الذمّ إنّما يحسن من الزّاهدين فيها و أغلب الناس هكذا يذمّون الدّنيا مع شغفهم بها حبّا ، قال شاعر :
قد أجمع الناس على ذمّها
و ما أرى منهم لها تاركا
لا تأمن الدّنيا على غدرها
كم غدرت قبل بامثالكا
4 و قال آخر :
إذا نصبوا للقول قالوا فاحسنوا
و لكن حسن القول خالفه الفعل
و ذمّوا لنا الدّنيا و هم يرضعونها
افاويق حتّى ما يدرّ لها ثعل
5 و قال أبو إسحاق التّيمي كما في الحلية :
ننافس في الدّنيا و نحن نعيبها
و قد حذرتناها لعمري خطوبها
و ما نحسب الأيّام تنقص مدّة
على انّها فينا سريع دبيبها
كأنّي برهط يحملون جنازتي
إلى حفرة يحثى عليّ كثيبها
و كم ثمّ من مسترجع متوجّع
و نائحة يعلو عليّ نحيبها
و باكية تبكي عليّ و انّني
لفي غفلة من صوتها ما اجيبها
6
-----------
( 1 ) المصرية : 687 ح 132 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 18 : 325 ح 127 ، و ابن ميثم كالمصرية 5 : 313 .
-----------
( 3 ) ابن أبي الحديد 18 : 325 .
-----------
( 4 ) المستطرف من كل فن مستظرف 2 : 97 و هو للكناني .
-----------
( 5 ) الكامل للمبرّد : 52 ، 657 .
-----------
( 6 ) حلية الأولياء لأبي نعيم 10 : 141 ترجمة ( 505 ) .
[ 49 ]
« أنت المتجرّم عليها أم هي المتجرّمة عليك » التجرّم : ادّعاء الذّنب على من لم يذنب ، قال الشاعر :
تعد علي الذنب ان ظفرت به
و ان لم تجد ذنبا عليّ تجرّم
روى ( عيون ابن بابويه ) عنه عليه السّلام قال : قال عبد المطلب :
يعيب النّاس كلّهم زمانا
و ما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا و العيب فينا
و لو نطق الزّمان بنا هجانا
و إنّ الذّئب يأكل لحم ذئب
و يأكل بعضنا بعضا عيانا
1 « متى استهوتك أم متى غرّتك » أي : حملتك على الهوى أو خدعتك .
« أ بمصارع آبائك من البلى » من ( بلى الثّوب ) و ( بلى الميّت ) : أفنته الأرض روى محمد بن أبي العتاهية عن ابن عبّاس ، قال : وجدت جمجمة في الجاهلية مكتوب عليها :
اذن الحيّ فاسمعي
اسمعي ثمّ عي و عي
أنا رهن بمصرعي
فاحذري مثل مصرعي
2 و قال الحسن : إنّ امرأ ليس بينه و بين آدم إلاّ أب قد مات لمعرق في الموت .
« أم بمضاجع أمّهاتك تحت الثّرى » الضجع : وضع الجنب على الأرض ،
و الثّرى : التراب النّدي .
في ( عرائس الثعالبي ) : يروى أنّ ملك الموت ، لمّا ورد على داود قال أفجئت داعيا أم ناعيا ؟ قال بل ناعيا فقال فهلاّ أرسلت إليّ قبل ذلك و آذنتني لأستعدّ للموت فقال : كم أرسلت إليك ؟ فقال : و من أرسلت ؟ قال أين أبوك ،
-----------
( 1 ) عيون أخبار الرضا للصدوق : 306 ، كذلك الأمالي : 107 ، و أيضا المجلسي في البحار 15 : 125 .
-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 6 : 26 .
[ 50 ]
و أين أمّك ، و أين أخوك ، و أين جارك ، و أين قهارمتك ، و أين فلان و فلان ؟ قال :
كلّهم ماتوا فقال : أما علمت أنّهم رسلي إليك ؟ 1 « كم علّلت بكفّيك » أي : كم عالجت المعلولين و خدمتهم بشخصك .
« و كم مرضت بيديك » أي ، التمريض : القيام على المريض .
« تبغي لهم الشفاء » أي : تطلب لهم الشّفاء .
« و تستوصف لهم الأطباء » أي : تطلب منهم وصف علاجه ، قال إبراهيم بن محمّد بن عرفة : رأيت عليّ بن العبّاس الرّومي يجود بنفسه ، فقلت له : ما حالك ؟ فأنشد :
غلط الطيبب عليّ غلطة مورد
عجزت موارده عن الاصدار
و الناس يلحون الطبيب و انّما
خطأ الطبيب إصابة المقدار
2 و قال عتاهية محمّد بن أبي العتاهية :
علل المريض من المنيّة
لا يعالجها الطبيب
هذا ، و قال عيسى بن محمّد الطّوماري : دخلنا على إبراهيم الحربي و هو مريض و قد كان يحمل ماءه إلى الطبيب و كان يجيء إليه و يعالجه فجائت الجارية و ردّت الماء و قالت : مات الطبيب ، فبكى إبراهيم و أنشأ يقول :
إذا مات المعالج من سقام
فيوشك للمعالج أن يموت
و لبعضهم في طبيب :
عليله المسكن من شؤمه
في بحر هلك ماله ساحل
ثلاثة تدخل في دفعة
طلعته و النّعش و الغاسل
في ( الأغاني ) ، عن إسحاق الموصلي : لمّا مات أبوه قال : قال لي برصوما
-----------
( 1 ) عرائس المجالس للثعالبي : 292 .
-----------
( 2 ) وفيات الأعيان لابن خلكان 3 : 361 .
[ 51 ]
الزّامر و كان خرّيج أبيه أما في حقّي و خدمتي و ميلي اليكم و شكري لكم ما استوجب به أن تهب لي يوما من عمرك تفعل فيه ما أريد و لا تخالفني في شيء ؟ فقلت : بلى و وعدته بيوم فأتاني فقال : مرلي بخلعة ففعلت و جعلت فيها جبّة و شيء ، فلبسها ظاهرة ، و قال : إمض بنا إلى المجلس الّذي كنت آتي أباك فيه فمضينا جميعا إليه و قد خلّقته و طيّبته ، فلّما صار على باب المجلس رمى بنفسه إلى الأرض فتمرّغ في التراب ، و بكى و أخرج نايه و جعل ينوح في زمره ،
و يدور في المجلس و يقبّل المواضع التي كان أبي يجلس فيها و يبكي و يزمر ،
حتّى قضى من ذلك و طرا ثمّ ضرب بيده إلى ثيابه يشقّها و جعلت أسكته و أبكي معه ، فما سكن إلاّ بعد حين ، ثم دعا بثيابه فلبسها ، و قال : انّما سألتك أن تخلع عليَّ لئلاّ يقال انّ برصوما أنّما خرّق ثيابه ليخلع عليه إسحاق خيرا منها 1 .
« لم ينفع أحدهم إشفاقك » أي : خوفك من حلول مكروه به . في ( الأغاني ) :
ركب الرّشيد حمارا و دخل على إبراهيم الموصلي يعوده ، فقال له : كيف أنت ؟
قال : أنا و اللَّه كما قال الشاعر :
سقيم ملَّ منه أقربوه
و أسلمه المداوي و الحميم
و قال ابنه إسحاق الموصلي لمّا اشتدّ أمر القولنج على أبي و لزمه و كان يعتاده أحيانا قعد في الابزن عن خدمة الخليفة و عن نوبته في داره ،
فقال في ذلك :
ملّ و اللَّه طبيبي
عن مقاساة الّذي بي
سوف أنعى عن قريب
لعدوّ و حبيب
-----------
( 1 ) الأغاني 5 : 255 .
[ 52 ]
فقال هارون : ( انّا للَّه ) و خرج فلم يبعد حتّى سمع الناعية عليه 1 .
« و لم تسعف بطلبتك » هكذا في ( المصرية ) 2 و لكن في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) 3 « و لم تسعف فيه بطلبتك » فهو الصحيح .
قال ابن نباتة :
نعلّل بالدّواء إذا مرضنا
و هل يشفى من الموت الدّواء
و نختار الطبيب و هل طبيب
يؤخّر ما يقدّمه القضاء
و ما أنفاسنا إلاّ حساب
و لا حركاتنا إلاّ فناء
4 « و لم تدفع عنه بقوّتك » قال أبو هلال العسكري : فتأهّب لسقام ليس يشفيه طبيب .
« قد مثّلت لك به الدنيا نفسك » قال أبو العتاهية :
يا نفس قد مثّلت حا
لي هذه لك بعد حين
و شككت انّي ناصح
لك فاستملت إلى الظنّون
فتأمّلي ضعف الحرا
ك و كلّه بعد السّكون
و تيقَّني انّ الّذي
بك من علامات المنون
5 و قال المرتضى :
كم ذا تطيش سهام الموت مخطئة
عنّي و تصمي اخلاّئي و اخواني
و لو فطنت و قد أردى الزّمان أخي
علمت انّ الّذي أصماه أصماني
« و بمصرعه مصرعك » في ( تاريخ بغداد ) عن ابن عباس قال : وجدت
-----------
( 1 ) الأغاني 5 : 253 .
-----------
( 2 ) المصرية المصححة « لم تسعف فيه » .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 : 325 و الخطية : 321 ، كما ذكر و ابن ميثم 5 : 312 بلفظ « و لم تسعف بطلبتك » .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 19 : 193 .
-----------
( 5 ) تاريخ بغداد 6 : 260 .
[ 53 ]
جمجمة في الجاهلية مكتوب عليها : اذن الحيّ فاسمعي اسمعي ثم عي و عي أنا رهن بمضجعي فاحذري مثل مصرعي 1 .
و عن المبرّد قال : دخلت على الجاحظ في آخر أيّامه و هو عليل فقلت له :
كيف أنت ؟ فقال : كيف يكون من نصفه مفلوج و لو نشر بالمناشير ما حسّ به ،
و نصفه الآخر منقرس لو طار الذّباب بقربه لآلمه ، و قال محمّد بن أبي العتاهية :
لربّما غوفص ذو شره
أصحّ ما كان و لم يسقم
يا واضع الميّت في قبره
خاطبك اللّحد فلم تفهم
و في ( كامل المبرّد ) عن صاحب له قال : وجدت رجلا في طريق مكّة معتكفا على قبر و هو يردّد شيئا و دموعه تكفّ على لحيته فقيل له : أ كان ابنك ؟
قال : لا كان عدوّا لي خرج إلى الصيد اياس ما كنت من عطبه و أكمل ما كان من صحته فرمى ظبيا فأقصده فذهب ليأخذه فعثر فتلقى بفؤاده ظبّة السهم و قد نجم من صفحة الظّبي فلحقه أولياؤه فاتنزعوا السهم و هو و الظّبي ميّتان فنمى إليّ خبره فأسرعت إلى قبره مغتبطا بفقده و انّي لضاحك السنّ إذ وقعت عيني على صخرة فرأيت عليها كتابا فهلّم فأقرأه و أومى إلى الصّخرة فاذا عليها :
و ما نحن إلاّ مثلهم غير اننّا
أقمنا قليلا بعدهم و تقدّموا
2 فقلت : أشهد انّك تبكي على من بكاؤك عليه أحقّ من النّسيب أي : تبكي على نفسك و هي أحقّ بالبكاء عليها من الأنسباء و الأقرباء الّذين يبكي النّاس عليهم .
« إنّ الدنيا دار صدق لمن صدَّقها » قال لبيد :
-----------
( 1 ) المصدر نفسه 6 : 260 . و هي لأبي العتاهية أمر أن تكتب على قبره .
-----------
( 2 ) الكامل في الأدب للمبرّد : 1255 .
[ 54 ]
فقولا له ان كان يضمر أمره
المّا يعظك الدّهر امّك هابل
فان أنت لم تصدقك نفسك فانتسب
لعلّك تهديك القرون الأوائل
فان لم تجد من دون عدنان باقيا
و دون معدّ فلترعك العوازل
و كلّ امرىء منّا سيعلم سعيه
إذا جمعت عند الإله المحاصل
1 « و دار عافية لمن فهم عنها » قد عرفت انّ في بعض روايات أسانيده بدله ( و أي دار لمن فهم عنها ) .
« و دار غنى لمن تزوّد منها » بالأعمال الصالحة .
« و دار موعظة لمن اتّعظ بها » في ( تاريخ بغداد ) : لمّا حضر أبو نؤاس الموت قال اكتبوا هذه الأبيات على قبري :
وعظتك اجداث صمت
و نعتك ازمنة خفت
و تكلّمت عن أوجه
تبلى و عن صور سبت
و أرتك قبرك في القبور
و أنت حيّ لم تمت
2 و للخاقاني بالفارسية :
پرويز كنون كم شد ، زان گمشده كمتر گوى
زرّين تره كو برخوان ، رو كم تركوا برخوان
3 « مسجد أحبّاء اللَّه » قال عيسى عليه السّلام ساعة قدم الدّنيا و أوصاني بالصّلاة و الزكاة ما دُمتُ حيّاً 4 .
و قال النبيّ صلَّى اللَّه عليه و آله : « حبّب إليّ من دنياكم ثلاث إلى أن قال و قرّة
-----------
( 1 ) ديوان لبيد : 131 ، يرثي النعمان بن المنذر .
-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 7 : 448 .
-----------
( 3 ) ديوان الخاقاني : 279 « ف » .
-----------
( 4 ) مريم : 31 .
[ 55 ]
عيني الصّلاة » 1 .
« و مصلّى ملائكة اللَّه » روى ابن قولويه عن الصادق عليه السّلام : ما خلق اللَّه خلقا أكثر من الملائكة و انّه ينزل من السماء كلّ مساء سبعون ألف ملك يطوفون بالبيت الحرام نهارهم فاذا غربت الشمس انصرفوا إلى قبر الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله فيسلّمون عليه ثمّ يأتون قبر أمير المؤمنين عليه السّلام فيسلّمون عليه ثمّ يأتون قبر الحسين عليه السّلام فيسلّمون عليه ثمّ يعرجون إلى السماء قبل أن تغيب الشمس .
و روى عن إسحاق بن عمّار قال : قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام : إنّي كنت بالبحيرة ليلة عرفة و كنت أصلّي و ثمّ نحو خمسين ألفا من النّاس جميلة وجوههم طيّبة أرواحهم و أقبلوا يصلّون الليل أجمع ، فلما طلع الفجر سجدت ثمّ رفعت فلم أر منهم أحدا إلى أن قال قال عليه السّلام له : إنّهم الملائكة الموكَّلون بقبر الحسين عليه السّلام 2 .
« و مهبط وحي اللَّه » من آدم إلى الخاتم عليهم السّلام .
« و متجر أولياء اللَّه ، اكتسبوا فيها الرّحمة و ربحوا فيها الجنّة » إنَّ اللَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأنَّ لهم الجنّة يقاتلون في سبيل اللَّه فيقتلون و يقتلون وعدا عليه حقّا في التوراة و الإنجيل و القرآن و من أوفى بعهده من اللَّه فاستبشروا ببيعكم الّذي بايعتم به و ذلك هو الفوز العظيم 3 .
« فمن ذا يذمّها و قد أذنت ببينها » أي : أعملت بفراقها و الأصل في الإيذان الإيصال إلى الأذن ، و يترجم بالفارسية بقولهم ( گوشزد )
ننافس في الدنيا و نحن نعيبها
و قد حذّرتنا لعمري خطوبها
4
-----------
( 1 ) الخصال للصدوق 17 : 79 ، و نقله المجلسي في البحار 76 : 141 .
-----------
( 2 ) رواه ابن الشيخ في المجالس : 2 عن المفيد عن ابن قولويه و نقله المجلسي في بحار الأنوار 59 : 176 ح 8 .
-----------
( 3 ) التوبة : 111 .
-----------
( 4 ) حلية الأولياء لأبي نعيم 10 : 141 .
[ 56 ]
« و نادت بفراقها » قال جحظة :
قد نادت الدّنيا على نفسها
لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر واريته
و جامع بدّدت ما يجمع
1 « و نعت » من النّعي رفع الصّوت بذكر الموت .
« نفسها و أهلها » في ( عيون القتيبي ) قيل : كنّا أجنّة في بطون امّهاتنا فسقط من سقط ، و كنّا في من بقي ثمّ كنّا مراضع فهلك منّا من هلك ، و بقي من بقى و كنّا إيفاعا و ذكر مثل ذلك ثمّ صرنا شبّانا و ذكر مثل ذلك ثمّ صرنا شيوخا لا أبالك فما تنتظر ؟ فهل بقيت حالة تنتقل إليها 2 .
« فمثّلت لهم ببلائها البلاء » إنّا كنّا قبل في أهلنا مشفقين فمنّ اللَّه علينا و وقانا عذاب السّموم 3 .
« و شوّقتهم بسرورها الى السرور » و بشِّر الّذين آمنوا و عملوا الصّالحات انّ لهم جنّات تجري من تحتها الأنهار كلّما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الّذي رزقنا من قبل و أتوا به متشابها . . . 4 .
« راحت بعافية » في ( الصحاح ) : الروّاح نقيض الصّباح ، و هو اسم للوقت من زوال الشمس إلى اللّيل و قد يكون مصدر راح يروح نقيض ( غدا ) 5 .
« و ابتكرت بفجيعة » قال الفيومي : ( قال ابن جنّي ) ( بكر و بكرّ و أبكر ) بمعنى الإسراع أي : وقت كان 6 .
-----------
( 1 ) تاريخ بغداد 4 : 66 ترجمة جحظة البرمكي .
-----------
( 2 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 2 : 363 و القول لمكحول .
-----------
( 3 ) الطور : 26 27 .
-----------
( 4 ) البقرة : 25 .
-----------
( 5 ) الصحاح : ( روح ) .
-----------
( 6 ) المصباح المنير للفيتوري : 59 « بكر » .
[ 57 ]
قلت : بل الأصل في البكور الشّروع أوّل النّهار في مقابل الرّواح و الشّروع أوّل النهار يستلزم الاسراع ، فانّ من أراد الاسراع في عمل ابتكر به ،
و الفجيعة : المصيبة الموجعة ، قال شاعر :
ان صفا عيش امرىء في صبحها
جرّعته ممسيا كأس القذي
1 « ترغيبا و ترهيبا و تخويفا و تحذيرا » مفاعيل لها لقوله ( فمثلّت ) و ( شوّقتهم ) و ( راحت ) و ( ابتكرت ) .
« فذمّها رجال غداة النّدامة » أي : صبح القيامة لأنّه يندم المجرمون فيها .
« و حمدها آخرون يوم القيامة ذكّرتهم فتذكّروا » هكذا في ( المصرية ) 2 و الصواب : « فذكّروا » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطيّة ) 3 .
« و حدّثتهم فصدّقوا و وعظتهم فاتّعظوا » روى ( أمالي المفيد ) مسندا عن ابن عبّاس قال : سئل أمير المؤمنين عليه السّلام عن قوله تعالى ألا إنّ أولياء اللَّه لا خوفٌ عليهم و لا هم يحزنون 4 من هم ؟ فقال هم قوم أخصلوا للَّه تعالى في عبادته و نظروا إلى باطن الدّنيا حين نظر النّاس إلى ظاهرها فعرفوا آجلها حين غرّ سواهم بعاجلها فتركوا منها ما علموا انّه سيتركهم و أماتوا منها ما علموا انّه سيميتهم ثم قال أيّها المعلّل نفسه بالدّنيا الرّاكض على حبائلها المجتهد في عمارة ما سيخرب منها ألم تر إلى مصارع آبائك في البلاء و مضاجع ابناءك تحت الجنادل و الثّرى كم مرّضت بيديك و علّلت بكفّيك تستوصف لهم الأطبّاء و تستعتب لهم الأحبّاء فلم يغن غناؤك و لا ينجع فيهم دواؤك ، و قال بعضهم « بينا هذه الدّنيا تصرح بزبدتها و تلحف فضل جناحها و تعزّ بركود رياحها إذ
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 18 : 364 .
-----------
( 2 ) الطبعة المصرية : 688 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 18 : 326 ، و ابن ميثم 5 : 313 بلفظ « فتذكروا » ، أما الخطية : 321 فبلفظ « فذكروا » .
-----------
( 4 ) يونس : 62 .
[ 58 ]
عطفت عطف الضّروس و طرحت طرح الشموس و شنّت غارات الهموم و أراقت ما حلبت من النّعيم فالسّعيد من لم يغترّ بنكاحها و استعد لو شك طلاقها 1 .
و روى ( أمالي الشيخ ) مسندا عن ابن عباس عنه عليه السّلام في خطبة له :
« أيّها الناس ، إنّكم سيّارة قد حدا بكم الحادي ، و حد الخراب الدّنيا حادي و ناداكم للموت منادي فلا تغرّنكم الحياة الدّنيا و لا يغرّنّكم باللَّه الغرور 2 ألا و انّ الدّنيا دار غرّارة خدّاعة تنكح في كلّ يوم بعلا ، و تقتل في كلّ ليلة أهلا و تفرّق في كلّ ساعة شملا فكم من منافس فيها و راكن إليها من الامم السالفة قد قذفتهم في الهاوية ، و دمّرتهم تدميرا و تبرّتهم تتبيرا ، و أصلتهم سعيرا ، اين من جمع فأوعى ؟ و شدّ فأوكى و منع فأكدى ؟ بل أين من عسكر العساكر و دسكر الدّساكر و ركب المنابر ؟ أين من بنى الدّور و شرّف القصور و جمهر الألوف ؟ قد تداولتهم أيّامها و ابتلعتهم أعوامها فصاروا أمواتا و في القبور رفاتا ، قد نسوا ما ( يئسوا عمّا ) خلّفوا و وقفوا على ما أسلفوا ، ثمّ ردّوا إلى اللَّه مولاهم الحقّ ألا له الحكم و هو أسرع الحاسبين ، و كأنّي بها و قد أشرفت بطلائعها و عسكرت بفظائعها فأصبح المرء بعد صحّته مريضا و بعد سلامته نقيضا يعالج كربا و يقاسي تعبا في حشرجة السّباق و تتابع الفراق و تردّد الأنين و الذّهول عن البنات و البنين و المرء قد اشتمل عليه شغل شاغل و هول هائل قد اعتقل منه اللّسان و تردّد منه البنان فأصاب مكروبا و فارق الدّنيا مسلوبا لا يملكون له نفعا و لا لما حلّ به دفعا يقول اللَّه عزّ و جلّ في كتابه
-----------
( 1 ) الأمالي للطوسي 2 : 297 .
-----------
( 2 ) لقمان : 33 .
[ 59 ]
فلو لا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين 1 ، ثم من دون ذلك أهوال القيامة و يوم الحسرة و النّدامة يوم تنصب الموازين و تنشر الدّواوين باحصاء كلّ صغيرة و اعلان كلّ كبيرة يقول اللَّه في كتابه و وجدوا ما عملوا حاضرا و لا يظلم ربّك أحدا 2 .
أيّها النّاس الآن الآن من قبل النّدم و من قبل أن تقول نفس يا حسرتا على ما فرّطت في جنب اللَّه و إن كنت لمن السّاخرين 3 ، أو تقول لو انّ اللَّه هداني لكنتُ من المتّقين أو تقول حين ترى العذاب لو أنّ لي كرّة فأكون من المحسنين 4 ، فيردّ الجليل جلّ ثناؤه بلى قد جاءتك آياتي فكذّبت بها و استكبرت و كنت من الكافرين 5 ، فو اللَّه ما سأل الرجوع إلاّ ليعمل صالحا . . . و لا يشرك بعبادة ربِّه أحدا 6 ، أيّها الناس ، الآن الآن ما دام الوثاق مطلقا و السّراج منيرا ، و باب التّوبة مفتوحا ، و من قبل أن يجف القلم و تطوى الصحيفة فلا رزق ينزل ، و لا عمل يصعد ، المضمار اليوم و السّباق غدا فانّكم لا تدرون إلى جنّة أو نار ، و استغفر اللَّه لي و لكم 7 .
و مرّ في ( 11 ) فصل الموت كتابه عليه السّلام لشريح في وصف دور الدّنيا .
هذا ، و ممّا يدخل في هذا الفصل و لو كان الرّضي نقله كان من موضوع كتابه ما رواه ( الكافي ) في باب بعد باب استدراجه ، أنّ رجلا جاء إليه عليه السّلام فقال
-----------
( 1 ) الواقعة : 86 87 .
-----------
( 2 ) الكهف : 49 .
-----------
( 3 ) الزمر : 56 .
-----------
( 4 ) الزمر : 57 58 .
-----------
( 5 ) الزمر : 59 .
-----------
( 6 ) الكهف : 110 .
-----------
( 7 ) الأمالي للمفيد 6 : 86 ح 2 .
[ 60 ]
أوصني بوجه من وجوه الخير أنج به ، فقال عليه السّلام : أيّها السّائل ، افهم ثمّ استفهم ، استعلم ثم استيقن ، ثمّ استعمل ، إعلم أنّ النّاس ثلاثة : زاهد ، و صابر ،
و راغب ، امّا الزّاهد : فقد خرجت الأحزان و الأفراح من قلبه ، فلا يفرح بشيء من الدّنيا ناله و لا ييأس على شيء منها فاته فهو مستريح ، و أمّا الصابر فانه يتمنّاها بقلبه فاذا نال منها ألجم نفسه عنها لسوء عاقبتها و شنارها ، و لو اطّلعت على قلبه عجبت من عفّته و تواضعه و حزمه ، و امّا الرّاغب فلا يبالي من أين جاءت الدّنيا من حلّها أو حرامها و لا يبالي ما دنس فيها عرضه ، و أهلك نفسه ، و أذهب مروّته فهم في غمرتهم يعمهون و يضطربون 1 .
و انّه قيل له عليه السّلام عظنا و أوجز فقال : الدّنيا حلالها حساب ، و حرامها عقاب و إنّي لكم بالرّوح ، و لم تأسّوا بسنّة نبيّكم تطلبون ما يطغيكم و لا ترضون بما يكفيكم 2 .
-----------
( 1 ) الكافي 4 : 194 ح 13 .
-----------
( 2 ) الكافي للكليني 4 : 99 ح 13 .
[ 61 ]