8

الحكمة ( 257 ) و قال عليه السلام لكميل بن زياد النخعي :

يَا ؟ كُمَيْلُ ؟ مُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَرُوحُوا فِي كَسْبِ اَلْمَكَارِمِ وَ يُدْلِجُوا فِي حَاجَةِ مَنْ هُوَ نَائِمٌ فَوَالَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ اَلْأَصْوَاتَ مَا مِنْ أَحَدٍ أَوْدَعَ قَلْباً سُرُوراً إِلاَّ وَ خَلَقَ اَللَّهُ مِنْ ذَلِكَ اَلسُّرُورِ لُطْفاً فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَائِبَةٌ جَرَى إِلَيْهَا كَالْمَاءِ فِي اِنْحِدَارِهِ حَتَّى يَطْرُدَهَا عَنْهُ كَمَا تُطْرَدُ غَرِيبَةُ اَلْإِبِلِ « يا كميل مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم » في ( ذيل الطبري ) « قال النبي صلّى اللّه عليه و آله لسائب بن أبي السائب : ألم تكن شريكي في الجاهلية ؟ قال نعم بأبي أنت و أمي نعم الشريك كنت لا تمارى و لا تباري فقال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله :

يا سائب انظر الأخلاق الحسنة التي كنت تصنعها في الجاهلية ، فأصنعها في الاسلام اقر الضيف و احسن إلى اليتيم و اكرم الجار 2 و قال صلّى اللّه عليه و آله : بعثت لاتمم مكارم الأخلاق .

-----------
( 1 ) البيان و التبيان للجاحظ 3 : 145 ، و الحديث « اسرعكنّ بي لحوقا اطولكن يدا » .

-----------
( 2 ) ذيل المذيل للطبري ، من كتاب الطبري : 60 مؤسسة الأعلمي بيروت .

[ 255 ]

و في ( الكافي ) عن الصادق عليه السلام « المكارم عشر ، فان استطعت أن تكون فيك فلتكن فانها تكون في الرجل و لا تكون في ولده و تكون في الولد و لا تكون في أبيه و تكون في العبد و لا تكون في الحر ، قيل و ما هن ؟ قال : صدق البأس ،

و صدق اللسان ، و أداء الامانة ، و صلة الرحم ، و اقراء الضيف ، و اطعام السائل ،

و المكافاة على الصنائع ، و التذمم للجار ، و التذمم للصاحب ، و رأسهن الحياء » .

و روى نوادر معيشة ( الكافي ) عن معاوية بن عمار عن الصادق عليه السلام لا تمانعوا قرض الخمير و الخبز و اقتباس النار فانه يجلب الرزق على أهل البيت مع ما فيه من مكارم الأخلاق .

و روي عن الصادق عليه السلام ان اللّه تعالى خص الأنبياء بمكارم الأخلاق فمن كانت فيه فليحمد اللّه على ذلك و الا تكن فيكم فاسألوا اللّه فيها و ذكرها عشرة اليقين و القناعة و الصبر و الشكر و الحلم و حسن الخلق ، و السخاء و الغيرة و الشجاعة و المروة و زاد في خبر صدق الحديث و اداء الامانة » .

« و يدلجوا في حاجة من هو نائم » من ( أدلج ) إذا سار من أول الليل .

« فو الذي وسع سمعه الأصوات » ( يسمع السر و أخفى ) .

« ما من أحد أودع قلبا سرورا إلاّ و خلق اللّه له من ذلك السرور لطفا » في ثواب الأعمال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله ما من عبد يدخل على أهل بيت مؤمن سرورا إلاّ خلق اللّه له من ذلك السرور خلقا يجيئه يوم القيامة كلّما مرت عليه شديدة يقول : يا ولي اللّه لا تخف فيقول له من أنت فلو ان الدنيا كانت لي ما رأيتها لك شيئا فيقول أنا السرور الذي ادخلت على آل فلان .

« فاذا نزلت به نائبة » من نوائب الدهر و مصائبه .

« جرى » ذلك اللطف .

« إليها » أي : إلى تلك النائبة .

[ 256 ]

« كالماء في انحداره » أي : في سرعته .

« يطردها عنه » من ( اطردت الابل ) .

« كما تطرد غريبة الابل » في المعجم « قدم علي ابن مروان صاحب ديار بكر شاعر من المعجم يعرف بالغساني ، و كان من عادة ابن مروان إذا قدم عليه شاعر يكرمه و ينزله ، و لا يجتمع به إلى ثلاثة أيام ليستريح من سفره و يصلح شعره ثم يستدعيه . و اتفق ان الغساني لم يكن أعد شيئا في سفره ثقة بقريحته فأقام ثلاثة أيام فلم يفتح عليه يعمل بيتا واحدا و علم انّه يدعى و لا يليق أن يلقى الأمير بغير مديح فأخذ قصيدة من شعر الحسن بن أسد الفارقي لم يغيّر فيها إلاّ اسمه .

و اعلم ابن مروان بذلك فغضب و قال يجي‏ء هذا العجمي فيسخر منّا ثم أمر بمكاتبة ابن اسد ، و أمر أن يكتب القصيدة بخطّه و يرسلها إليه فخرج بعض الحاضرين فانهى القضية إلى الغساني و كان هذا بآمد و كان له غلام جلد فكتب من ساعته إلى ابن اسد كتابا بأني قدمت على الأمير فارتج على قول الشعر مع قدرتي عليه فادّعيت قصيدة من شعرك استحسانا لها و عجبا بها و مدحت بها الأمير ، و لا أبعد أن تسأل عن ذلك فان سألت فرأيك الموفق في الجواب » .

فوصل غلام الغساني قبل كتاب ابن مروان ، فأجاب ابن مروان بأني لا أعرف هذه القصيدة ، و لا قائلها فلما ورد الجواب عليه عجب من ذلك و شتم الساعي و قال انما قصدكم فضيحتي بين الملوك حسدا منكم لمن احسن إليه ثم ازداد في الاحسان إلى الغساني و انصرف الغساني إلى بلاده فلم يمض على ذلك إلاّ مديدة حتى اجتمع أهل ميافارقين إلى ابن أسد و دعوه إلى أن يؤمروه عليهم و يساعدوه على العصيان و اقامة الخطبة للسلطان ملكشاه

[ 257 ]

و حده اسقاط اسم ابن مروان من الخطبة فأجابهم إلى ذلك و بلغ ذلك ابن مروان فحشد له و نزل على ميافارقين فأعجزه أمرها فأنفذ إلى نظام الملك و السلطان يستمدهما فأنفذا إليه جيشا و مددا مع الغساني المذكور ، و كان قد تقدم عند نظام الملك و السلطان و صار من أعيان الدولة و صدقوا في الزحف على المدينة حتى أخذوها عنوة و قبض على ابن أسد و جي‏ء به إلى ابن مروان فأمر بقتله فقام الغساني و شدّد العناية في الشفاعة فيه فامتنع ابن مروان امتناعا شديدا من قبول شفاعته و قال : ان ما اعتمده في شق العصا يوجب أن يعاقب بالقتل .

فقال : بيني و بين هذا الرجل ما يوجب قبول شفاعتي فيه ، و أنا أتكفل به الا يجري منه بعد شي‏ء يكره فاستحيى منه و أطلقه له فاجتمع به الغساني و قال : أتعرفني ؟ قال : لا و اللّه و لكني أعرف انّك ملك من السماء من اللّه بك على بقاء مهجتي فقال له : أنا الذي ادّعيت و سترت عليّ و ما جزاء الاحسان إلاّ الاحسان ، فقال ابن أسد : ما رأيت قصيدة جحدت فنفعت صاحبها أكثر من نفعها إذا ادّعاها ، غير هذا فجزاء اللّه عن مروءتك خيرا ، و انصرف الغساني من حيث جاء .

( أيضا ) حبس أحمد بن طولون ، ابن داية فاجتمع زهاء ثلاثين رجلا ممّن يمونهم و دخلوا على بن طولون و قالوا ليس لنا أن نسأل الأمير مخالفة ما يراه في ابن داية و انما نسأله ان آثر قتله ان يقتلنا قال : و لم ؟ فقالوا لنا ثلاثون سنة ما فكّرنا في ابتياع شي‏ء ممّا احتجنا إليه و لا وقفنا بباب غيره و نحن و اللّه نرفض البقاء بعده و عجّوا بالبكاء بين يديه فقال لهم : بارك اللّه عليكم فقد كافأتم احسانه و جازيتم إنفاقه ، ثم قال : احضروه فاحضر ، فقال لهم : خذوا

[ 258 ]

بيد صاحبكم و انصرفوا فخرجوا معه و انصرف إلى منزله 1 .

( أيضا ) بعث ابن طولون في الساعة التي توفي فيها ابن داية المذكور بخدم فهجموا الدار ، و طالبوا بكتبه مقدرين ان يجدوا فيها كتابا من أحد ممّن ببغداد فحملوا صندوقين و قبضوا على ابنيه و صاروا بهما إلى داره و ادخلا إليه ، و عنده رجل من أشراف الطالبيّين فأمر بفتح أحد الصندوقين و ادخل خادم يده على دفتر جراياته على الاشراف و غيرهم فأخذ الدفتر بيده و تصفحه و كان جيد الاستخراج فوجد اسم الطالبي الذي عنده في الجراية فقال : كانت عليك جراية ليوسف بن داية ؟ قال : نعم أيها الأمير دخلت هذه المدينة و أنا مملق فأجري عليّ في كلّ سنة مائتي دينار اسوة بابن الأرقط و العقيقي و غيرهما .

ثم امتلأت يداي من طول الأمير فاستعفيته منها فقال لي : نشدتك اللّه الا قطعت سببا لي برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تدمع الطالبي فقال ابن طولون : رحم اللّه يوسف ، ثم قال لولده : انصرفوا إلى منازلكم فلا بأس عليكم فانصرفوا و لحقوا جنازة أبيهما ، و حضر ذلك العلوي و أحسن مكافأة أبيهم في خلفه 2 .

و في ( مستجاد التنوخي ) عن علي بن صالح البلخي عن بعض شيوخه عن شيبة الدمشقي ، قال كان في أيام سليمان بن عبد الملك رجل يقال له خزيمة بن بشر من بني أسد بالرقة و كانت له مروءة و نعمة حسنة و فضل و بر بالاخوان فلم يزل على تلك الحال حتى احتاج إلى اخوانه الذين كان يتفضل عليهم فواسوه حينا ثم ملّوه ، فلما لاح له تغيّرهم أتى امرأته فقال لها قد رأيت من اخواني تغيّرا و قد عزمت على لزوم بيتي إلى أن يأتيني الموت

-----------
( 1 ) معجم الادباء للحموي 3 : 156 .

-----------
( 2 ) المصدر نفسه 3 : 158 159 .

[ 259 ]

و أغلق بابه عليه و أقام يتقّوت بما عنده حتى نفد و بقي حائرا في أمره و كان عكرمة الفياض الربعي و اليا على الجزيرة فبينما هو في مجلسه و عنده جماعة من أهل البلد إذ جرى ذكر خزيمة بن بشر فقال عكرمة ما حاله ؟ فقالوا صار من سوء الحال إلى أن أغلق بابه و لزم بيته فقال فما وجد مواسيا و لا مكافيا قالوا لا فأمسك .

ثم لمّا كان الليل عمد إلى أربعة آلاف دينار فجعلها في كيس ثم أمر باسراج دابته و خرج سرّا من أهله فركب و معه غلام من غلمانه يحمل المال ثم سار حتى وقف بباب خزيمة فأخذ الكيس من الغلام .

ثم أبعده و تقدّم إلى الباب فدقّه بنفسه فخرج إليه خزيمة فناوله الكيس و قال له اصلح بهذا شأنك فتناوله خزيمة فرآه ثقيلا فوضعه ثم أمسك لجام الدابة و قال له من أنت ؟ جعلت فداك قال : ما جئتك هذه الساعة و أنا أريد أن تعرفني قال خزيمة فما أقبله إلاّ و تخبرني من أنت قال أنا جابر عثرات الكرام قال زدني قال لا ثم مضى و دخل خزيمة بالكيس فقال لامرأته ابشري فقد أتى اللّه بالفرج و لو كانت فلوسا فهي كثيرة قومي فاسرجي ، قالت لا سبيل إلى السراج فبات يلمسها فيلمس خشونة الدنانير و لا يصدّق و رجع عكرمة إلى منزله فوجد امرأته قد افتقدته و سألت عنه فأخبرت بركوبه منفردا فارتابت لذلك فشقّت جيبها و لطمت خدّها فلما رآها قال لها ما دهاك ؟ قالت غدرت بابنة عمك قال و ما ذاك ؟ قالت أمير الجزيرة يخرج بعد هدأة من الليل منفردا من غلمانه في سر من أهله و اللّه ما يخرج إلاّ إلى زوجة أو سرية قال لقد علم اللّه اني ما خرجت إلى واحدة منهما قالت فخبرني فيم خرجت ؟ قال يا هذه لم أخرج في هذا الوقت و أنا أريد أن يعلم بي أحد قالت لا بد قال فاكتميه اذن قالت أفعل فأخبرها بالقصة على وجهها و ما كان من قوله و رده عليه .

[ 260 ]

قال ثم أصبح خزيمة فصالح الغرماء و أصلح من حاله .

ثم تجهز يريد سليمان بن عبد الملك بفلسطين و بلا وقف ببابه دخل الحاجب فأخبره بمكانه . و كان مشهور المروة و كان سليمان به عارفا فاذن له فلما دخل عليه قال ما أبطأك عنّا ؟ قال سوء الحال ، قال فبم نهضت ؟ قال : لم أعلم بعد هدأة من الليل إلاّ و رجل طرق بابي فكان منه كيت و كيت و أخبره بقصته فقال له هل تعرفه ؟ قال : لا قال : كان متنكرا إلاّ أن سمعت منه انّه جابر عثرات الكرام فتلهف سليمان على عدم معرفته و قال لو عرفنا لأعناه على معرفته .

ثم قال عليّ بقناة فأتى بها فعقد لخزيمة على الجزيرة على عمل عكرمة الفياض فخرج خزيمة إلى الجزيرة فلما قرب منها خرج عكرمة و أهل البلد للقائه فسلّم عليه .

ثم سارا جميعا إلى أن دخلا باب خزيمة إلى دار الامارة و أمر أن يؤخذ عكرمة و ان يحاسب فحوسب فوجدت عليه فضول كثيرة فطلبه بادائها قال ما هي عندي فاصنع ما أنت صانع فأمر به إلى الحبس ثم بعث إليه يطالبه فأرسل اني لست ممّن يصون ماله بعرضه فاصنع ما شئت فأمر به فكبّل بالحديد و اقام كذلك شهرا أو أكثر فأضناه ذلك و بلغ ابنة عمّه ضرّه فجزعت ثم دعت مولاة لها ذات عقل و قالت امضي الساعة إلى باب هذا الأمير فقولي عندي نصيحة فاذا طلبت منك فقولي لا أقولها إلاّ للأمير فاذا دخلت عليه فسليه ان يخليك فاذا فعل فقولي له ما كان هذا جزاء جابر عثرات الكرام منك كافأته بالحبس و الضيق و الحديد ففعلت ذلك فلما سمع خزيمة قولها قال و اسوأتاه و انّه لهو قالت نعم فأمر من وقته بدابته فاسرجت و بعث إلى رؤوس أهل البلد فجمعهم و أتى بهم إلى باب الحبس ففتح و دخل خزيمة و من معه فألفى عكرمة

[ 261 ]

في قاع الحبس متغيّرا قد أضناه الضر فلما نظر إليه عكرمة و إلى الناس احشمه ذلك و نكس رأسه فأقبل خزيمة حتى أكبّ على رأسه فقبّله فرفع عكرمة رأسه إليه و قال ما أعقب هذا منك ؟ قال كريم فعلك و سوء مكافأتي قال يغفر اللّه لنا و لك .

ثم أمر الحداد ففك القيد عنه و أمر خزيمة أن يوضع في رجل نفسه فقال عكرمة تريد ماذا ؟ قال : أريد أن ينالني من الضر مثل ما نالك فقال اقسم عليك باللّه ألا تفعل فخرجا جميعا إلى أن وصل دار خزيمة فودّعه عكرمة و أراد الانصراف قال ما أنت ببارح حتى أغير من حالك و حيائي من ابنة عمك أشد من حيائي منك .

ثم أمر بالحمام فأخلي و دخلا جميعا ثم قام خزيمة فتولى خدمته بنفسه ثم خرجا فخلع عليه و حمل عليه مالا كثيرا ثم سار و معه إلى داره و استأذنه في الاعتذار إلى ابنة عمه فاذن له فاعتذر لها و تذمم من فعله ذلك ثم سأله أن يسير معه إلى سليمان فأنعم له بذلك فسارا حتى قدما عليه فدخل الحاجب فأخبره بقدوم خزيمة فراعه ذلك و قال و الي الجزيرة يقدم بغير أمرنا ما هذا إلاّ لحادث عظيم فلما دخل عليه قال له قبل أن يسلّم ما وراك يا خزيمة ؟

قال خير ، قال فما الذي أقدمك ؟ قال ظفرت بجابر عثرات الكرام فأحببت ان أسرك به لمّا رأيت من تلهفك و شوقك إلى رؤيته قال و من هو ؟ قال : عكرمة الفياض فاذن له في الدخلول فدخل فرحب به و أدناه من مجلسه و قال يا عكرمة ما كان ضرّك له إلاّ و بالا عليك .

ثم قال اكتب حوائجك كلّها في رقعة قال أو يعفيني الخليفة قال لا بد ثم دعا بدواة و قرطاس و قال اعتزل و اكتب ففعل فأمر بقضائها جميعا من ساعة و أمر له بعشرة الآف دينار و سفطين من ثياب ثم دعا بقناة و عقد له على

[ 262 ]

الجزيرة و ارمينية و اذربيجان و قال له أمر خزيمة إليك ان شئت أبقيته و ان شئت عزلته قال بل أرده إلى عمله ثم انصرفا و لم يزالا عاملين لسليمان بن عبد الملك مدّة خلافته 1 .

و في ( تاريخ بغداد ) ، قال أبو خليفة : كان في جوارنا رجل حدّاد فاحتاج في أمر له أن يتظلّم أيام الواثق فشخص إلى سر من رأى ثم عاد فحدّثنا انّه رفع قصته إلى الواثق فأمر برد أمره إلى ابن داود و أمر جماعة المتظلمين فحضروا فنظر في أمورهم و تشوفت لينظر في أمري و رقعتي بين يديه فأومأ اليّ بالانتظار فانتظرت حتى لم يبق أحد دعاني فقال أتعرفني فقلت لا أنكر القاضي أعزّه اللّه فقال و لكني أعرفك مضيت يوما في الكلأ فانقطعت نعلي فأعطيتني شسعا لها ، فقلت لك اني أحبوك بثواب ذلك فتكرهت قولي و قلت و ما مقدار ما فعلت امض في حفظ اللّه .

ثم قال و اللّه لا صلح زمانك كما أصلحت نعلي ثم وقع لي في ظلامتي و وهب لي خمسمائة دينار ، و قال ذرني في كلّ وقت . قال أبو خليفة فرأيناه متسع الحال بعد ان كان مضيقا 2 .

و في ( الأغاني ) عن إبراهيم بن المدبر قال جاءني يوما محمد بن صالح الحسني بعد أن أطلق من حبس المتوكل فقال : اني أريد المقام عندك اليوم على خلوة لأبثك من أمري شيئا لا يصح ان يسمعه غيرنا فقلت افعل فصرفت من كان بحضرتي و خلوت معه و أمرت برد دابته و أخذ ثيابه فلما اطمأن و أكلنا و اصطبحنا قال أعلمك اني خرجت في سنة كذا و كذا و معي أصحابي على القافلة الفلانية فقاتلنا من كان فيها فهزمناهم و ملكنا القافلة فبينا أنا أحوزها

-----------
( 1 ) التوخي ، المستجاد من فعلات الأجواد : 26 32 .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 4 : 146 ترجمة أحمد بن أبي داود .

[ 263 ]

و انيخ الجمال إذ طلعت عليّ امرأة من العمارية ما رأيت قط أحسن وجها منها و لا أحلى منطقا فقالت يا فتى ان رأيت أن تدعو لي بالشريف المتولي أمر هذا الجيش فقلت قد رأيته و سمع كلامك فقالت سألتك بحق اللّه و حق رسوله أنت هو ؟ فقلت نعم فقالت :

« أنا حمدونة بنت عيسى بن موسى بن أبي خالد الحري و لأبي محل من السلطان و لنا منعة ان كنت ممّن سمع بها و ان كنت لم تسمع فسل غيري و واللّه لا استأثرت عنك بشي‏ء أملكه ، و لك بذلك عهد اللّه و ميثاقه عليّ و ما أسألك إلاّ أن تصونني و تسترني و هذه ألف دينار معي لنفقتي فخذها حلالا و هذا حلي عليّ من خمسمائة دينار فخذه و ضماني ما شئت بعده اخذه لك من تجار المدينة أو مكة أو أهل الموسم فليس منهم أحد يمنعني شيئا أطلبه ،

و ادفع عني و احمني من أصحابك و من عار يلحقني » فوقع قولها من قلبي موقعا عظيما فقلت قد وهب اللّه مالك و جاهك و حالك و وهبت لك القافلة بجميع ما فيها .

ثم خرجت فناديت في أصحابي فاجتمعوا فقلت اني قد اجرت هذه القافلة و أهلها و خفرتها و حميتها و لها ذمة اللّه و ذمة رسوله و ذمتي فمن أخذ منها خيطا أو عقالا فقد أذنته بحرب فانصرفوا معي ، فلما أخذت و حبست بينا أنا ذات يوم في محبسي إذ جاءني السجّان و قال لي ان بالباب امرأتين تزعمان انهما من أهلك و قد حظر عليّ أن يدخل عليك أحد إلاّ انّهما اعطتاني دملج ذهب ان أوصلهما إليك و هاهما في الدهليز فأخرج إليهما ان شئت ففكّرت في من يجيئني في هذا البلد و أنا غريب لا أعرف أحدا ثم قلت لعلهما من ولد أبي أو بعض نساء أهلي ، فخرجت إليهما فاذا بصاحبتي فلما رأتني بكت لمّا رأت من تغيّر خلقي و ثقل حديدي ، فأقبلت عليها الاخرى فقالت أهو هو ؟ فقالت أي و اللّه

[ 264 ]

انّه لهو هو ثم أقبلت عليّ فقالت : فداك أبي و امي و اللّه لو استطعت أن أقيك ممّا أنت فيه بنفسي و أهلي لفعلت و كنت بذلك مني حقيقا ، و واللّه لا تركت المعاونة لك و السعي في حاجتك و خلاصك بكلّ حيلة و مال و شفاعة و هذه دنانير و ثياب و طيب فاستعن بها على موضعك و رسولي يأتيك كلّ يوم بما يصلحك حتى يفرّج اللّه عنك ، ثم أخرجت إليّ كسوة و طيبا و مائتي دينار ، و كان رسولها يأتيني في كل يوم بطعام نظيف و يتواصل برها بالسجّان فلا يمتنع من كلّ شي‏ء أريده حتى منّ اللّه عليّ بخلاصي ثم راسلتها فخطبتها فقالت أما من جهتي فأنا لك متابعة مطيعة و الأمر إلى أبي فأتيته فخطبتها إليه فردني و قال ما كنت لأحقق عليها ما قد شاع في الناس عنك في أمرها و قد صيرتنا فضيحة فقمت من عنده منكسا مستحييا و قلت له في ذلك :

رموني و إياها بشنعاء هم بها
أحق أدال اللّه منهم معجلا

بأمر تركناه و ربّ محمد
عيانا فأما عفة أو تجملا

قال إبراهيم ابن المدبر فقلت له ان عيسى صنيعة أخي و هو لي مطيع و أنا أكفيك أمره فلما كان من الغد لقيت عيسى في منزله و قلت له جئتك في حاجة فقال مقضية فقلت جئتك خاطبا إليك ابنتك .

فقال هي لك امة و أنا لك عبد و قد أجبتك فقلت اني خطبتها على من هو خير مني أبا و أما و أشرف صهرا و متصلا محمد بن صالح العلوي فقال لي يا سيدي هذا رجل قد لحقنا بسببه ظنّة و قيلت فينا أقوال فقلت أفليست باطلة ؟

قال : بلى ، قلت فكأنّها لم تقل و إذا وقع النكاح زال كلّ قول و شنيع ، و لم أزل أرفق به حتى أجاب ، و بعثت إلى محمد بن صالح فأحضرته و ما برحت حتى زوجته و سقت الصداق عنه 1 و فيه بعث ابن الزبير ابن الأزرق المخزومي على بعض

-----------
( 1 ) الأغاني لأبو الفرج الاصفهاني 16 : 364 367 .

[ 265 ]

أعمال اليمن فأعطى أعطية سنية و بث في قريش منها أشياء جزيلة فأثنت عليه قريش و وفدوا إليه فأسنى لهم العطايا و بلغ ذلك ابن الزبير فحسده و عزله بابراهيم بن سعد بن أبي وقاص فلما قدم عليه أراد أن يحاسبه .

فقال له مالك عندي حساب و لا بيني و بينك عمل و قدم مكة فخافت قريش ابن الزبير عليه أن يفتشه أو يكشفه فلبست السلاح و خرجت إليه لتمنعه فلما لقيهم نزلت إليه قريش فسلمت عليه و بسطت له أرديتها و تلقته امائهم و ولائدهم بمجامر الالوة و العود المندلي يبخرون بين يديه حتى انتهى إلى المسجد و طاف بالبيت .

ثم جاء إلى ابن الزبير فسلّم عليه و هم معه مطيفون به فعلم ابن الزبير انّه لا سبيل له إليه فما عرض و لا صرّح له بشي‏ء و مضى إلى منزله .

و في الجهشياري « كان عبد اللّه بن أبي فروة ، و عبد الملك بن مروان ،

و مصعب بن الزبير في حداثتهم اخلاّء لا يكادون يفترقون ، و كان إذا اكتسى عبد الملك كسوة اكتسى الخليلان مثلها فاكتسى عبد الملك حلة ، و اكتسى ابن أبي فروة مثلها ، و بقي مصعب لا يجد ما يكتسي به و كان أقلّهم شيئا فذكر ابن أبي فروة ذلك لأبيه فكساه مثل حليتهما على يد ابنه فلما ولّى مصعب العراق استكتب ابن أبي فروة فكان عنده يوم إذ أتى مصعب بعقد جوهر قد أصيب في بعض بلاد العجم لبعض ملوكهم لا يدري ما قيمته ، فجعل مصعب يقلبه و يعجب منه .

ثم قال لابن أبي فروة ايسّرك ان أهبه لك قال نعم و اللّه أيها الأمير فدعه إليه فرآه قد سر به سرورا شديدا فقال مصعب : و اللّه لأنا بالحلة يوم كسوتنيها أشدّ سرورا منك بهذا ، الآن ، و كان العقد سبب غناء ابن أبي فروة و غنا عقبه ، و ذكر مصعب الزبيري ان عامل خراسان وجد كنزا فيه نخلة كانت

[ 266 ]

مصنوعة من الذهب لكسرى عثاكيلها من لؤلؤ و جوهر و ياقوت أحمد و أحضر فحملها إلى مصعب فجمع لها المقوّمين فقوّموها بألفي ألف دينار فقال إلى من أدفعها ؟ فقيل إلى نسائك و أهلك فقال لا بل أرفعها إلى رجل قدم عندنا يدا و أولانا جميلا أدعوا عبد اللّه بن أبي فروة فدفعها إليه فلما قتل مصعب كاتب عبد الملك و بذل له مالا فسلم منه بماله و كان أيسر أهل المدينة .