4

الحكمة ( 455 ) و سئل عن أشعر الشعراء فقال عليه السّلام :

إِنَّ اَلْقَوْمَ لَمْ يَجْرُوا فِي حَلْبَةٍ تُعْرَفُ اَلْغَايَةُ عِنْدَ قَصَبَتِهَا فَإِنْ كَانَ وَ لاَ بُدَّ فَالْمَلِكُ اَلضِّلِّيلُ ( يريد امرأ القيس ) .

أقول : قال ابن أبي الحديد في ( أمالي ابن دريد الحرموزي ) : عن ابن المهلبي عن ابن الكلبي عن شداد بن ابراهيم عن عبيد اللَّه بن الحسن العنبري عن ابن عرادة قال : كان علي عليه السّلام يعشي الناس في شهر رمضان باللحم و لا يتعشى معهم فإذا فرغوا خطبهم و وعظهم ، فأفاضوا ليلة في الشعراء و هم على عشائهم ، فلما فرغوا خطبهم و قال في خطبته « ان ملاك أمركم الدين و عصمتكم التقوى و زينتكم الأدب و حصون أعراضكم الحلم » ثم قال : يا أبا الأسود قل فيما كنتم تفيضون فيه ، أيّ الشعراء أشعر فقال : الذي يقول :

و لقد اغتدى يدافع ركني
أعوجي ذو ميعة أضريج

مخلط مزيل معن مقن
مفنخ مطرح سيوح خروج

يعني أبا داود الإيادي فقال عليه السّلام : ليس به . قالوا : فمن ؟ فقال عليه السّلام : لو رفعت للقوم غاية فجروا إليها معا علمنا من السابق منهم ، و لكن ان يكن فالذي لم يقل عن رغبة و لا رهبة . قيل : من هو ؟ قال : هو الملك الضليل ذو القروح . قيل :

امرؤ القيس ؟ قال عليه السّلام : هو 1 .

قلت : و رواه أبو الفرج في ( أغانيه ) في ( أبي داود الإيادي ) بإسناده عن شداد لكن فيه « شداد بن عبيد اللَّه » لا « شداد بن إبراهيم » عن عبيد اللَّه بن الحر لا

-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد ، في أمالي ابن دريد 20 : 153 .

[ 53 ]

« ابن الحسن » عن أبي عرادة لا « ابن عرادة » و لا بد أن أحدهما تحريف كلاّ أو بعضا .

و متنه أيضا هكذا : كان علي صلوات اللَّه عليه يفطر الناس في شهر رمضان ، فإذا فرغ من العشاء تكلّم فأقلّ و أوجز فأبلغ ، فاختصم الناس ليلة حتى ارتفعت أصواتهم في أشعر الناس ، فقال عليه السّلام لأبي الأسود : قل . فقال و كان يتعصّب لأبي داود الإيادي أشعرهم الذي يقول :

و لقد اغتدى يدافع ركني
أحوذي ذو ميعة اضريج

مخلط مزيل مكر مفر
منفخ مطرح سبوح خروج

سلهب سرحب كأنّ رماحا
حملته و في السراة دموج

فأقبل عليه السّلام على الناس و قال : كلّ شعرائكم محسن و لو جمعهم زمان واحد و غاية واحدة و مذهب واحد في القول لعلمنا أيّهم أسبق إلى ذلك ، و كلّهم قد أصاب الذي أراد و أحسن فيه ، و إن يكن أحد أفضلهم فالذي لم يقل رغبة و لا رهبة امرؤ القيس بن حجر فانّه كان أصحّهم بادرة و أجودهم نادرة 1 .

قول المصنّف : « و سئل من أشعر الشعراء » هكذا في ( المصرية ) 2 ،

و الصواب : « و سئل عليه السّلام عن أشعر الشعراء » كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية ) 3 .

و كيف كان فقال ابن أبي الحديد قال أبو الفرج في ( أغانيه ) : لا خلاف أنّ امرأ القيس و زهيرا و النابغة مقدّمون على الشعراء كلّهم ، و إنما اختلف في تقديم بعضهم على بعض . ثم نقل عن ( الأغاني ) روايات عن جرير و الأحنف

-----------
( 1 ) الأغاني لأبي الفرج 16 : 376 .

-----------
( 2 ) الطبعة المصرى : 167 .

-----------
( 3 ) شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 20 : 153 ، و شرح نهج البلاغة لابن ميثم 5 : 458 ، و النسخة لا خطية 330 .

[ 54 ]

و الحطيئة في تقديم زهير ، و قال : روي عن النبي صلّى اللَّه عليه و آله أيضا : أفضل شعرائكم القائل « و من و من » يعني زهيرا في قصيدته « أمن أم أوفى » ففيها :

و من يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه و يذمم

و من لم يذد عن حوضه بسلاحه
يهدم و من لم يظلم الناس يظلم

و من هاب أسباب المنايا ينلنه
و لو نال أسباب السماء بسلّم

و من لم يجعل المعروف من دون عرضه
يفره و من لا يتّق الشتم يشتم

ثم نقل عنه روايات عن عمر و عبد الملك و أبي الأسود و أبي عمرو و الشعبي في تقديم النابغة ، و نقل عن النقيب أيضا تفضيل النابغة في اعتذاره إلى النعمان 1 .

قلت : و بعدهم باقي السبعة صاحب السبع المعلّقات ، و هذا معنى بحث عنه في كلّ زمان عموما و خصوصا و كلّ قال بهواه ، ففي ( الأغاني ) : أنّ المأمون قال لعبد اللَّه بن طاهر : من أشعر من قال الشعر في خلافة بني هاشم ؟

قال : الذي يقول :

أيا قبر معن كنت أوّل حفرة
من الأرض خطّت للسماحة موضعا

فقال أحمد بن يوسف : بل أشعرهم الذي يقول :

وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي
متأخر عنه و لا متقدّم

فقال له المأمون : أبيت إلا غزلا أين أنتم عن الذي يقول :

-----------
( 1 ) شرح نهج البلاغة لبن أبي الحديد 20 : 155 .

[ 55 ]

يا شقيق النفس من حكم
نمت عن عيني و لم أنم 1

و في ( تاريخ بغداد ) : قيل لأبي حاتم : من أشعر الناس ؟ قال : الذي يقول :

و لها مبتسم كثغر الأقاحي
و حديث كالوشي وشي البرود

نزلت في السواد من حبة القلب
و زادت زيادة المستزيد

عندها الصبر عن لقائي و عندي
زفرات يأكلن صبر الجليد 2

يعني بشارا و كان يقدمه على جميع الناس .

و فيه قال خالد الكاتب : بينا أنا مارّ بباب الطاق إذا براكب خلفي على بغلة ، فلما لحقني نخسني بسوطه فقال : أنت القائل « و ليل المحب بلا آخر » ؟

قلت : نعم . قال : وصف امرؤ القيس الليل الطويل في ثلاث أبيات و وصفه النابغة في ثلاثة أبيات و وصفه بشّار في ثلاثة أبيات ، و برزت عليهم بشطر قلته ؟ قلت : و بم وصفه امرؤ القيس ؟ قال : بقوله :

و ليل كموج البحر أرخى سدوله
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي

فقلت له لمّا تمطّى بصلبه
و أردف أعجازا و ناء بكلكل

ألا أيّها الليل الطويل ألا انجلي
بصبح و ما الإصباح منك بأمثل 3

قلت : و بم وصف النابغة ؟ فقال : بقوله :

كليني لهمّ يا اميمة ناصب
و ليل اقاسيه بطي‏ء الكواكب

و صدر أزاح الليل عازب همّه
فضاعف فيه الهمّ من كلّ جانب

تقاعس حتى قلت ليس بمنقض
و ليس الذي يهدي النجوم بآئب

قلت : و بم وصفه بشّار ؟ فقال : بقوله :

-----------
( 1 ) الاغاني 26 : 402 .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد 7 : 117 .

-----------
( 3 ) ديوان امرؤ القيس : 48 49 .

[ 56 ]

خليلي ما بال الدجى لا تزحزح
و ما بال ضوء الصبح لا يتوضح

أظن الدجى طالت و ما طالت الدجى
و لكن أطال الليل سقم مبرح

أضلّ النهار المستنير طريقه
أم الدهر ليل كلّه ليس يبرح

إلى أن قال : فلما مضى سألت عنه فقيل : هو أبو تمام الطائي .

و هذا مع كونه عن هوى لا يبعد حيث انّه هو راوي مدح بيته وضعه له لترويجه ، و إلا فأين المعاني العالية التي تضمّنها ثلاثة الثلاثة من شطره العامي 1 .

و فيه : قال مسلمة بن مهدي : قلت لأبي العتاهية : من أشعر الناس ؟ فقال :

جاهليا أم إسلاميا أم مولدا ؟ قلت : كل . قال : الذي يقول في المديح :

إذا نحن أثنينا عليك بصالح
فأنت كما تثنى و فوق الذي تثنى

و ان جرت الألفاظ منّا بمدحة
لغيرك إنسانا فأنت الذي تعنى

و الذي يقول في الزهد :

و ما الناس إلاّ هالك و ابن هالك
و ذو نسب في الهالكين عريق

إذا امتحن الدّنيا لبيب تكشفت
له عدوّ في ثياب صديق

و لقيت العتابي فسألته عن ذلك ، فردّ علي مثل ذلك 2 .

و فيه قال مسعود بن بشر : لقيت ابن مناذر بمكّة و كان عالما بالشعر زاهدا في الدنيا فقلت له : من أشعر الناس ؟ فقال : من إذا شبب لعب و إذا أخذ في ماجد قصد . قلت : مثل من ؟ قال : مثل جرير إذ يقول :

ان الذين غدوا بلبك غادروا
و شلا بعينك لا يزال معينا

غيضن من عبراتهن و قلن لي
ماذا لقيت من الهوى و لقينا

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 8 : 312 .

-----------
( 2 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 7 : 344 ، و الأدبيات لأبي نؤاس .

[ 57 ]

ثم قال حين جدّ :

ان الذي حرم الخلافة تغلبا
جعل الخلافة و النبوّة فينا

مضر أبي و أبو الملوك فهل لكم
يا جرو تغلب من أب كأبينا ؟

هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئت ساقكم إليّ قطينا 1

و فيه : قال صدقة بن محمد : اجتمع عند المأمون ذات يوم عدّة من الشعراء ، فقال أيّكم القائل :

فلما تحساها وقفنا كأننا
نرى قمرا في الأرض يبلغ كوكبا 2

قالوا : أبو نؤاس . قال فالقائل :

إذا نزلت دون اللهاة من الفتى
دعا همه عن صدره برحيل 3

قالوا : أبو نؤاس . قال فالقائل :

فتمشت في مفاصلهم
كتمشي البرء في السقم 4

قالوا : أبو نؤاس . قال هو إذن أشعركم 5 .

و فيه : قال أبو العتاهية : قلت عشرين ألف بيت في الزهد و ودت أنّ لي مكانها أبياتا ثلاثة قالها أبو نؤاس هي :

يا نواسي توقّر
و تعزّ و تصبّر

ان يكن ساءك دهر
ان ما ساءك أكثر

يا كبير الذنب عفو اللَّه
من ذنبك أكبر 6

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 7 : 444 .

-----------
( 2 ) في الديوان ذكر بيت الشعر بشكل آخر راجع : 37 .

-----------
( 3 ) ديوان أبي نؤاس : 409 .

-----------
( 4 ) ديوان أبي نؤاس : 457 .

-----------
( 5 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 7 : 445 .

-----------
( 6 ) ديوان أبي نؤاس : 288 مع تغيير في بعض الألفاظ .

[ 58 ]

و كانت هذه الأبيات مكتوبة على قبر أبي نؤاس .

و عن المناقب : قيل للأصمعي من أشعر الناس ؟ قال : من قال :

و كأن أكفّهم و الهام تهوي
عن الأعناق تلعب بالكرينا

فقال : هو السيّد الحميري . فقال : هو و اللَّه أبغضهم إليّ .

و بالجملة إذا أعجبهم شعر حكموا بأشعرية قائله ، و إنّما يحتاج الحكم إلى الاطلاع على أشعار جميعهم و المقايسة بينها . و قالوا : إنّ لبيدا أنشد النابغة قوله :

ألم تلمم على الدمن الخوالي
لسلمى بالمذائب فالقفال

فقال له : أنت أشعر هوازن . فأنشده قوله :

عفت الديار محلّها فمقامها
بمنى تأبّد غولها فرجامها

فقال له : اذهب فأنت أشعر العرب 1 .

و في ( الشعراء ) لابن قتيبة : أنشد العتبي مروان بن أبي حفصة لزهير .

فقال : هذا أشعر الناس ، ثم أنشده للأعشى فقال بل هذا أشعر الناس ، ثم أنشده لأمرى‏ء القيس فكأنما سمع غناء على الشراب فقال : امرؤ القيس و اللَّه أشعر الناس 2 .

و القول الفصل ما قاله عليه السّلام من كون امرى‏ء القيس أفضلهم على الجملة ،

و أما ما روي عن النبي صلّى اللَّه عليه و آله أنّ أفضلهم زهير ، فإن صحّت الرواية فمحمول على أنّ المراد كونه أفضلهم من حيث بيان الكلمات الحكمية كما في قصيدته تلك ، و هو لا ينافي كون امرى‏ء القيس أفضل منه في التشبيهات و المعاني الشعرية ، مع أنّه يأتي أنّ النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله جعل امرأ القيس سابق الشعراء و جعله

-----------
( 1 ) مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 3 : 221 .

-----------
( 2 ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : 9 .

[ 59 ]

الفرزدق مع الحطيئة و اسمه جرول و المخبل السعدي و كنيته أبو يزيد من النوابغ فقال :

وهب القصائد للنوابغ إذ مضوا
و أبو يزيد و ذي القروح و جرول

و أمّا في ( المناقب ) : عن أبي محمد الفحام قال : سأل المتوكل ابن الجهم عن أشعر الناس ؟ فذكر شعراء الجاهلية و الإسلام . ثم إنّه سأل الهادي عليه السّلام فقال : الجماني حيث يقول :

لقد فاخرتنا من قريش عصابة
بمطّ خدود و امتداد أصابع

فلما تنازعنا المقال قضى لنا
عليهم بما يهوى نداء الصوامع

ترانا سكوتا و الشهيد بفضلنا
عليهم جهير الصوت في كلّ جامع

فإنّ رسول اللَّه أحمد جدّنا
و نحن بنوه كالنجوم الطوالع

فقال المتوكل : أشهد أنّ محمّدا رسول اللَّه . فقال عليه السّلام : محمّد جدّي أم جدّك ؟ فضحك المتوكل و قال : هو جدّك لا ندفعك عنه 1 .

فلا ينافي كلام جدّه عليه السّلام ، لأن كلامه في شعراء الجاهلية و كلام الهادي في شعراء الإسلام ، و كلامه من حيث العموم و كلام الهادي من حيث الخصوص .

ثم إنّه كما كان أبو الأسود يعتقد تقدّم أبي داود ، يعتقد ابن عباس تقدم زهير ، فروى الطبري في ذكر شي‏ء من سير عمر عن عكرمة عن ابن عباس قال : بينما عمر و بعض أصحابه يتذاكرون الشعر فقال بعضهم : فلان أشعر .

و قال بعضهم : بل فلان أشعر . أقبلت فقال : قد جاءكم أعلم الناس بها . فقال لي :

من شاعر الشعراء يابن عباس ؟ قلت : زهير بن أبي سلمى . فقال : هلم من شعره ما نستدلّ به على ما ذكرت . فقلت : امتدح قوما من بني عبد اللَّه بن غطفان فقال :

-----------
( 1 ) مناقب آل أبي طالب لبن شهر آشوب 4 : 406 .

[ 60 ]

لو كان يقعد فوق الشمس من كرم
قوم بأوّلهم أو مجدهم قعدوا

قوم أبوهم سنان حين تنسبهم
طابوا و طاب من الأولاد ما ولدوا

إنس إذا أمنوا جنّ إذا فزعوا
مرزؤون بهاليل إذا حشدوا

محسدون على ما كان من نعم
لا ينزع اللَّه منهم ما له حسدوا

فقال عمر : أحسن ، و ما أعلم أولى بهذا الشعر من هذا الحي من بني هاشم لفضل النبي صلّى اللَّه عليه و آله و قرابتهم منه . فقلت له : وفقت و لم تزل موفقا . فقال :

يابن عباس أتدري ما منع قومكم منكم بعد محمّد ؟ فكرهت أن أجيبه فقلت : إن لم أكن أدري فأمير المؤمنين يدريني . فقال : كرهوا أن يجمعوا لكم النبوّة و الخلافة فتبجحوا على قومكم بجحا بجحا ، فاختارت قريش لأنفسها فأصابت و وفقت . فقلت له : إن تأذن لي في الكلام و تمطّ عني الغضب تكلمت ؟

فقال : تكلّم يابن عباس . فقلت : أما قولك اختارت قريش لأنفسها فأصابت و وفقت فلو أن قريشا اختارت لأنفسها حيث اختار اللَّه عز و جل لها لكان الصواب بيدها غير مردود و لا محسود . و أمّا قولك إنّهم كرهوا أن تكون لنا النبوّة و الخلافة فإنّ اللَّه عز و جل وصف قوما بالكراهية فقال ذلك بأنّهم كرهوا ما أنزل اللَّه فأحبط أعمالهم 1 .

فقال عمر : هيهات و اللَّه يابن عباس قد كانت تبلغني عنك أشياء كنت أكره أن تزيل منزلتك مني لها . فقلت : و ما هي ، فإن كانت حقّا فما ينبغي أن تزيل منزلتي منك ، و إن كانت باطلا فمثلي أماط الباطل عن نفسه .

فقال عمر : بلغني أنّك تقول إنّما صرفوها عنّا حسدا و ظلما . فقلت : أما قولك ظلما فقد تبيّن للجاهل و الحليم ، و امّا قولك حسدا فإن إبليس حسد آدم فنحن ولده المحسودون .

-----------
( 1 ) محمد : 9 .

[ 61 ]

فقال عمر : هيهات أبت و اللَّه قلوبكم يا بني هاشم إلاّ حسدا ما يحول و غشا ما يزول . فقلت له : مهلا لا تنسب قلوب قوم أذهب اللَّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا بالحسد و الغش ، فإنّ قلب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله من قلوب بني هاشم . فقال عمر : إليك عني يابن عباس . فقلت : أفعل . فلما ذهبت لأقوم استحيى مني فقال : يابن عباس مكانك ، فو اللَّه إنّي لراع لحقّك محبّ لما سرّك .

فقلت له : إنّ لي عليك حقّا و على كلّ مسلم فمن حفظه فحظّه أصاب و من أضاعه أخطأ . ثم قام فمضى 1 .

بل كان عمر نفسه أيضا قائلا بتقدّم زهير و ان مرّ نقل ابن أبي الحديد عن ( الأغاني ) نقله ذهابه إلى تقدم النابغة 2 .

فروى الطبري في ذاك الباب أيضا عن ابن عباس قال : خرجت مع عمر في بعض أسفاره ، فإنّا لنسير ليلة و قد دنوت منه إذ ضرب مقدم رحله بسوطه و قال :

كذبتم و بيت اللَّه يقتل أحمد
و لما نطاعن دونه و نناضل

و نسلمه حتى نصرع حوله
و نذهل عن أبنائنا و الحلائل

ثم قال : استغفر اللَّه . ثم سار فلم يتكلّم قليلا ثم قال :

و ما حملت من ناقة فوق رحلها
أبرّ و أوفى ذمّة من محمّد

و أكسى لبرد الخال قبل ابتذاله
و أعطى لرأس السابق المتجرّد

ثم قال : استغفر اللَّه ، يابن عباس ما منع عليّا من الخروج معنا ؟ قلت : لا أدري . قال : يابن عباس أبوك عم النبي و أنت ابن عمه ، فما منع قومكم منكم ؟

قلت : لا أدري . قال : لكني أدري يكرهون ولايتكم لهم . قلت : لهم و نحن لهم كلّ

-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 3 : 288 .

-----------
( 2 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 : 155 .

[ 62 ]

الخير . قال : اللّهم غفرا يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة و الخلافة فيكون بجحا بجحا ، لعلّكم تقولون إنّ أبا بكر فعل ذلك ، لا و اللَّه و لكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره و لو جعلها لكم ما نفعكم مع قربكم ، أنشدني لشاعر الشعراء زهير قوله :

إذا ابتدرت قيس بن عيلان غاية
من المجد من يسبق إليها يسوّد 1

فأنشدته و طلع الفجر 2 . . . .

قلت : و لم استغفر في كلّ مرّة من إنشاد أبيات قيلت في مدح النبي صلّى اللَّه عليه و آله ،

هل كان مدحه منكرا أستغفر منه ، و لم لم يستغفر من أمره ابن عباس بإنشاد قصيدة زهير في مدح قيس عيلان .

كما إنّه لم يقول لابن عباس « أنت ابن عم النبي و أبوك عمّه فما منع قريشا منكما » و يترك ذكر أمير المؤمنين عليه السّلام مع أنّه لم يكن ابن عباس و لا أبوه يدعى في قباله ، بل كانا مذعنين بأنّ الخلافة له عليه السّلام ، و إنّما أراد بذلك التفرقة بينه عليه السّلام و بين أقربائه ، كما إنّه و صاحبه في أوّل الأمر ذهبا بإشارة المغيرة عليهما إلى العباس و جعلا له نصيبا ليضعفا بذلك أمره عليه السّلام ، فأنكر العباس عليهما ، بما ذكره التاريخ .

هذا ، و كما اختلف في أشعر الشعراء اختلف في أشعر الأشعار ، فقيل لأبي عمرو بن العلاء كما في ( العقد ) أيّ بيت تقوله العرب أشعر ؟ قال : البيت الذي إذا سمعه سامعه سوّلت له نفسه أن يقول مثله ، و لأن يخدش أنفه بظفر كلب أهون عليه من أن يقول مثله .

و قيل مثل ذلك للأصمعي فقال : الذي يسابق لفظه معناه .

-----------
( 1 ) زهير بن أبي سلمى : 23 .

-----------
( 2 ) تاريخ الطبري 3 : 288 .

[ 63 ]

و قيل مثل ذلك للخليل فقال : البيت الذي يكون في أوّله دليل على قافيته .

و قيل مثل ذلك لعمير فقال : البيت الذي لا يحجبه عن القلب شي‏ء . قال :

و أحسن من هذا كلّه قول زهير :

و أحسن بيت أنت قائله
بيت يقال إذا أنشدته صدقا 1

و في ( صناعتي العسكري ) : قيل للأصمعي : من أشعر الناس ؟ فقال : من يأتي بالمعنى الخسيس فيجعله بلفظه كبيرا ، أو الكبير فيجعله بلفظه خسيسا ،

أو ينقضي كلام قبل القافية فإذا احتاج إليها أفاد بها معنى . قيل : نحو من ؟ قال :

نحو ذي الرمة حيث يقول :

قف العيس في إطلال مية فاسأل
رسوما كأخلاق الرداء المسلسل

فتم كلامه عند الرداء ، فزاد بالمسلسل معنى ثم قال :

أظنّ الذي يجد عليك سؤالها
دموعا كتبذير الجمان المفصل

فتم كلامه عند الجمان ، فزاد بالمفصل معنى ، و نحو قول الأعشى :

كناطح صخرة يوما ليفلقها
فلم يضرها و أوهى قرنه الوعل

فزاد بقوله « و أوهى قرنه الوعل » معنى 2 .

و فيه أيضا : سئل بعضهم عن أحذق الشعراء ؟ فقال : من يتفقد الابتداء و المقطع .

هذا ، و في ( اليتيمة ) : كانت بهمدان شاعرة مجيدة تعرف بالحنظلية ،

و خطبها أبو علي كاتب بكر ، فلما ألحّ عليها و ألحف كتبت إليه :

أيرك أير ما له
عند حري هذا فرج

فاصرفه عن باب حري
و ادخله من حيث خرج

-----------
( 1 ) العقد الفريد 5 : 325 326 .

-----------
( 2 ) الصناعتين : 422 423 .

[ 64 ]

فقال الصاحب بن عباد : هذه و اللَّه في هذين البيتين أشعر من كبشة ام عمرو و الخنساء اخت صخر و من كعوب الهذلية و ليلى الأخيلية 1 .

هذا ، و كما اختلف في الأشعر عموما اختلف فيه في جرير و الفرزدق خصوصا ، ففي ( الأغاني ) : قال يونس بن حبيب : ما ذكر جرير و الفرزدق في مجلس شهدته قط فاتفق المجلس على أحدهما .

و فيه قيل للمفضل الضبي : الفرزدق أشعر أم جرير ؟ قال : الفرزدق ، قال بيتا هجا فيه قبيلتين و مدح قبيلتين فقال :

عجبت لعجل إذ تهاجى عبيدها
كما آل يربوع هجوا آل دارم

فقيل له قد قال جرير :

ان الفرزدق و البعيث و امه
و أبا البعيث لشر ما استار

فقال : و أي شي‏ء أهون من أن يقال : فلان و فلان و فلان كلّهم بنو الفاعلة 2 .

قلت : و في لفظه « و أبا البعيث » ركاكة و إنّما حق الكلام « و أباه » كما قال :

و أمّه .

هذا ، و وصف أبو بكر الخوارزمي ابن اخت محمد بن جرير الطبري الشعراء بأوصاف فقال : ما ظنّك بقوم الاقتصار لمحمود إلا منهم . و الكذب مذموم إلا فيهم ، و إذا ذموا ثلبوا ، و إذا مدحوا سلبوا ، و إذا رضوا رفعوا الوضيع ، و إذا غضبوا وضعوا الرفيع ، و إذا افتروا على أنفسهم بالكبائر لم يلزمهم حدّ و لم يمتدّ إليهم يد . . . .

أشار بقوله الأخير إلى ما حكي عن الفرزدق أنّه أنشد سليمان بن عبد

-----------
( 1 ) اليتيمة 3 : 292 .

-----------
( 2 ) الأغاني لأبي الفرج الإصفهاني 21 : 284 .

[ 65 ]

الملك قصيدته التي يقول فيها :

فبتن بجانبيّ مصرعات
و بتّ أفضّ أغلاق الختام

فقال له سليمان : أقررت بالزنا و لا بد من حدّك . فقال له : كتاب اللَّه يدرأ عني الحد . قال : و أين ؟ قال : قوله تعالى و الشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنّهم في كلّ واد يهيمون و أنّهم يقولون ما لا يفعلون 1 فضحك و أجازه .

قالوا : و عن هذه القصة أخذ صفي الدين الحلي قوله :

نحن الذين أتى الكتاب مخبّرا
بعفاف أنفسنا و فسق الألسن

هذا ، و عن الثعالبي : قال لي سهل بن المرزبان يوما : إنّ من الشعراء من شلشل و منهم من سلسل و منهم من قلقل و منهم من بلبل .

و قالوا : أراد بقوله « من شلشل » الأعشى في قوله :

و قد أروح إلى الحانوت يتبعني
شاو مشل شلول شلشل شول

و أراد بقوله « من سلسل » مسلم بن الوليد في قوله :

سلت و سلت ثم سل سليلها
فأتى سليل سليلها مسلولا

و أراد بقوله « من قلقل » المتنبي في قوله :

فقلقلت بالهمّ الذي قلقل الحشى
قلاقل عيس كلّهن قلاقل

و أراد بقوله « من بلبل » المتغلبي في قوله :

و إذا البلابل أفصحت بلغاتها
فانف البلابل باحتساء بلابل

قلت : و ململ أحد شعراء بلدتنا ( تستر ) المعروف بملاّ حسنا في قوله بالفارسية باللسان البلدي :

ساقيا مى بيار بى مل مل
ده بملاى بى تأمل مل

و هلهل في قوله أيضا :

-----------
( 1 ) الشعراء : 224 226 .

[ 66 ]

داديمه يه هل ودو هل دهلم
دگه چو رى دلم مزن چه دهل

« فقال ان القوم » أي : الشعراء .

« لم يجروا » من : أجروا الخيل .

« في حلبة » بسكون اللام أي : ميدان و مجال واحد ، يقال « تجاروا في الحلبة » أي مجال الخيل للسباق ، و يقال مجازا : فلان يركض في كلّ حلبة من حلبات المجد .

« تعرف الغاية » أي : النهاية .

« عند قصبتها » في ( النهاية ) : في حديث سعيد ابن العاص « سبق بين الخيل فجعلها مائة قصبة » .

أراد أنّه ذرع الغابة بالقصب فجعلها مائة قصبة . و يقال : ان تلك القصبة تركز عند أقصى الغابة ، فمن سبق إليها أخذها و استحق الخطر ، فلذلك يقال :

حاز قصب السبق 1 .

قال عليه السّلام ذلك لاختلاف مشاربهم ، فكان امرؤ القيس مفتونا بالنساء ،

و الأعشى بالشراب ، و طرفة بالدعة ، و طفيل بالخيل ، و قالوا : لم يقل أحد في التسلية أحسن من أوس بن حجر في قوله :

أيتها النفس اجملي جزعا
فإنّ ما تحذرين قد وقعا

و في رياضة النفوس من أبي ذؤيب في قوله :

و النفس راغبة إذا رغّبتها
و إذا تردّ إلى قليل تقنع

و في الهيبة أحسن من الفرزدق في قوله :

يغضي حياء و يغضى من مهابته
فلا يكلّم إلاّ حين يبتسم

و في المديح من جرير في قوله :

-----------
( 1 ) النهاية لإبن الأثير 4 : 67 .

[ 67 ]

ألستم خير من ركب المطايا
و أندى العالمين بطون راح 1

و من زهير في قوله :

تراه إذا ما جئته متهللا
كأنّك تعطيه الذي أنت سائله

و لو لم يكن في كفّه غير نفسه
لجاد بها فليتق اللَّه سائله 2

و في الهجاء من الأعشى في قوله :

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم
و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا 3

و من جرير في قوله :

فغضّ الطرف إنّك من نمير
فلا كعبا بلغت و لا كلابا 4

و في القدرة من النابغة في قوله :

فإنّك كالليل الذي هو مدركي
و إن خلت أنّ المنتأى عنك واسع

و في الرقة من امرى‏ء القيس في قوله :

و ما ذرفت عيناك إلاّ لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتل 5

و في الكسل مما رواه يحيى بن سعيد الاموي لبعضهم :

سألت اللَّه أن يأتي بسلمى
و كان اللَّه يفعل ما يشاء

فيأخذها و يطرحها بجنبي
و يرقدها و قد كشف الغطاء

و يأخذني و يطرحني عليها
و يرقدنا و قد قضي القضاء

و يرسل ديمه سحا علينا
فيغسلنا و لا يلقى عناء

و هذا باب واسع و من أراد اطلاعا أكثر فليراجع ( ديوان المعاني ) لأبي

-----------
( 1 ) ديوان جرير : 77 .

-----------
( 2 ) بيتان من قصيدتين الاولى في صفحة 68 و الثانية في صفحة 72 من ديوان زهير ابن أبي سلمى .

-----------
( 3 ) ديوان الأعشى : 99 .

-----------
( 4 ) ديوان جرير : 63 .

-----------
( 5 ) من المعلقه ديوان أمرى‏ء القيس : 38 .

[ 68 ]

هلال العسكري 1 .

و في ( المعجم ) : قال محمد بن سلام : سألت يونس النحوي عن أشعر الناس . فقال : لا أومي إلى رجل بعينه ، و لكني أقول امرؤ القيس إذا ركب و النابغة إذا رهب و زهير إذا رغب و الأعشى إذا طرب و قالوا : و جرير إذا غضب .

و لابن جني كتاب مترجم بالمهج في تفسير اسماء شعراء الحماسة 2 .

في ( الأغاني ) : قالوا : اجتمع الزبرقان بن بدر و المخبل السعدي و عبدة بن الطبيب و عمرو بن الأهتم قبل أن يسلموا و بعد المبعث ، قال : فجاءهم رجل من بني يربوع و هم جلوس يشربون ، فقالوا له : أخبرنا أيّنا أشعر . قال : أخاف أن تغضبوا فأمّنوه . فقال : أما عمرو فشعره برود يمينه تنشر و تطوى ، و أما أنت يا زبرقان فشعرك كلحم لم ينضج فيؤكل و لم يترك نيئا فينتفع به ، و اما أنت يا مخبل فشعرك شهب من نار اللَّه يلقيها على من يشاء ، و أما أنت يا عبدة فشعرك كمزادة أحكم خزرها فليس يقطر منها شي‏ء 3 .

« فإن كان و لا بد » من ذكر أشعرهم مع اختلاف مشاربهم و تشتّت مساربهم .

« فالملك الضليل » و كما اختلف في الأشعر اختلف في الأشبه بأمرى‏ء القيس ، فقال الحموي في الحسين بن أحمد بن الحجاج الكاتب : قالوا انّه في درجة امرى‏ء القيس لم يكن بينهما مثلهما و ان كان جلّ شعره مجون و سخف ،

و ناهيك برجل يصف نفسه بمثل قوله :

-----------
( 1 ) ديوان المعاني لأبي هلال العسكري : راجع 1 : 76 و 1 : 197 .

-----------
( 2 ) المعجم 20 : 65 .

-----------
( 3 ) الأغاني 13 : 197 .

[ 69 ]

رجل يدّعي النبوّة في السخف
و من ذا يشكّ في الأنباء

جاء بالمعجزات يدعو إليها
فأجيبوا إليها يا معشر السخفاء

خاطر يصفح الفرزدق في الشعر
و نحو ينيك أمّ الكسائي 1

و قال الصاحب بن عباد : بدى‏ء الشعر بملك يعني امرأ القيس و ختم بملك يعني أبا فراس 2 .

و أقول : إلاّ أنّ الملك الثاني كان مهديا لا ضليلا كالأول ، فان أبا فراس صاحب القصيدة الميمية في مظلومية أهل البيت عليهم السّلام و ظالمية بني العباس .

يححى أنّه دخل بغداد و أمر أن يشهر خمسمائة سيف خلفه و قيل أكثر ، و وقف في المعسكر و أنشد القصيدة و خرج من باب آخر ، أول القصيدة :

الحقّ مهتضم و الدين مخترم
و في‏ء آل رسول اللَّه مقتسم

و منها قوله :

يا للرجال أما للَّه منتصر
من الطغاة و ما للدين منتقم

بنو علي رعايا في ديارهم
و الأمر يملكه النسوان و الخدم

محلؤون فأصفى شربهم و شل
عند الورود و أوفى وردهم لمم

فالأرض إلاّ على ملاكها سعة
و المال إلاّ على أربابها ديم 3

كان أبو فراس ابن عم ناصر الدولة الحمداني و سيف الدولة الحمداني ،

فقالوا فيه : كان وشاح قلادة آل حمدان .

و أمّا كون امرى‏ء القيس ملكا فلأن أباه حجر بن عمرو الكندي ملك على بني أسد ، و كان يأخذ منهم شيئا معلوما ، فامتنعوا منه فسار إليهم فأخذ

-----------
( 1 ) معجم الحموي 9 : 206 207 .

-----------
( 2 ) معجم الحموي 9 : 208 .

-----------
( 3 ) ديوان أبي فراس : 257 258 .

[ 70 ]

سرواتهم فقتلهم بالعصي ، ثم اجتمع بنو أسد فجاؤوا إليه على غفلة فوجدوه نائما فذبحوه ، فآلى أمرؤ القيس ألاّ يأكل لحما و لا يشرب خمرا حتى يثأر بأبيه ثم استجاش بكر ابن وائل فأوقع بهم .

و أمّا كونه ضليلا فلعهره ، حتى أنّ أباه أراد قتله لذلك ، قال ابن قتيبة في ( شعرائه ) : كان أبوه قد طرده لما صنع بفاطمة ما صنع ، كان عاشقا لها فطلبها زمانا فلم يصل إليها و كان يطلب غرة حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل ،

فلما بلغ ذلك أباه دعا مولى له و قال له : اقتل امرأ القيس و ائتني بعينيه ، فذبح جؤذرا فأتاه بعينيه ، فندم . فقال له : أبيت اللعن إنّي لم أقتله 1 . . . .

و في ( الأغاني ) : كان امرؤ القيس عاشقا لابنة عم له يقال لها عنيزة ،

فطلبها زمانا فلم يصل إليها ، و كان في طلب غرة من أهلها ليزورها فلم يقض له حتى كان يوم الغدير و هو يوم دارة جلجل و ذلك أن الحي احتملوا فتقدّم الرجال و تخلّف النساء و الخدم و الثقل ، فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلّف بعدما سار مع قومه غلوة ، فكمن في غابة من الأرض حتى مر به النساء فإذا فتيات و فيهن عنيزة ، فلما وردن الغدير قلن : لو نزلنا فذهب عنّا بعض الكلال . فنزلن إليه و نحين العبيد عنهن ثم تجردن فاغتمسن في الغدير ، فأتاهن امرؤ القيس محتالا و هنّ غوافل ، فأخذ ثيابهن فجمعها و قال لهن : و اللَّه لا أعطي جارية منكن ثوبها و لو أقامت في الغدير يومها حتى تخرج مجرّدة : فأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار ثم خشين أن يقصرن دون المنزل الذي أردنه ، فخرجت إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فأخذته فلبسته ، ثم تتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة ، فناشدته اللَّه أن يطرح إليها ثوبها فقال : دعينا منك . فخرجت فنظر إليها مقبلة و مدبرة ، فأخذت ثوبها و أقبلن عليه يعذلنه و يقلن له : عريتنا

-----------
( 1 ) الشعر و الشعراء 1 : 51 .

[ 71 ]

و حبستنا و جوعتنا . قال : فان نحرت لكن مطيتي أتأكلن منهأ . قلن : نعم .

فاخترط سيفه فعقرها و نحرها و كشطها و صاح بالخدم فجمعوا إليه حطبا فأجّج نارا عظيمة ، ثم جعل يقطع من سنامها و أطائبها و كبدها فيلقيها على الجمر فيأكلن و يأكل معهن و يشرب من ركوة كانت معه و يغنيهن و ينبذ إلى العبيد و الخدم من الكباب حتى شبعن و طربن ، فلما أراد الرحيل قالت احداهن :

أنا أحمل طنفسته . و قالت الاخرى : أنا أحمل رحله . و قالت الاخرى : أنا أحمل حشيته و انساعه . فتقسمن متاع راحلته بينهن و بقيت عنيزة لم تحمل له شيئا ،

فقال لها يا بنة الكرام لا بد لك أن تحمليني معك فإنّي لا أطيق المشي و ليس من عادتي . فحملته على غارب بعيرها ، فكان يدخل رأسه في خدرها فيقبلها ، فإذا امتنعت مال حدجها فتقول له : يا امرأ القيس عقرت بعيري فانزل . فذلك قوله :

تقول و قد مال الغبيط بنا
عقرت بعيري يا امرأ القيس فانزل 1

و قال ابن أبي الحديد كان يعلن في شعره بالفسق كقوله :

فمثلك حبلى قد طرقت و مرضع
فألهيتها عن ذي تمائم محول

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له
بشقّ و تحتي شقها لم يحول 2

و كقوله :

سموت إليها بعدما نام أهلها
سمو حباب الماء حالا على حال

فقالت : لحاك اللَّه انّك فاضحي
ألست ترى السمار و الناس أحوالي

فقلت لها : تاللَّه أبرح قاعدا
و لو قطعوا رأسي لديك و أوصالي

فلما تنازعنا الحديث و أسمحت
هصرت بغصن ذي شماريخ ميال

فصرنا إلى الحسنى و رقّ كلامنا
و رضت فذلّت صعبة أي إذلال

-----------
( 1 ) الأغاني 21 : 341 342 .

-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 20 : 170 .

[ 72 ]

حلفت لها باللَّه حلفة فاجر
لناموا فما ان حديث و لا صال

فأصبحت مشعوفا و أصبح بعلها
عليه القتام كاسف الوجه و البال 1

و كقوله :

و بيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل

تخطيت أبوابا إليها و معشرا
عليّ حراصا أو يسرون مقتلي

فجئت و قد نضت لنوم ثيابها
لدى الستر إلا لبسة المتفضل

فقالت : يمين اللَّه ما لك حيلة
و ما أن أرى عنك الغواية تنجلي

فقمت بها أمشي تجر وراءنا
على أثرنا اذيال مرط مرحل

فلما أجزنا ساحة الحي و انتحى
بنا بطن حبت ذي حقاف عقنقل

هصرت بفودي رأسها فتمايلت
عليّ هضيم الكشح ريا المخلخل 2

و كقوله :

فبتّ أكابد ليل التمام
و لم يبد منّا لدى البيت بشر

و قد رابني قولها يا هناه
ويحك الحقت شرا بشر 3

و كقوله :

تقول و قد جردت من ثيابها
كما رعت مكحول المدامع أتلعا

لعمرك لو شخص أتانا رسوله
سواك و لكن لم نجد لك مدفعا

فبتنا نصد الوحش عنّا كأننا
قتيلان لم يعلم لنا الناس مصرعا

تجافى عن المأثور بيني و بينها
و تدني عليّ السابري المضلعا 4

قلت : و جره عهره إلى هلكته ، فكان أتى قيصرا ليعينه على ثأر أبيه ،

-----------
( 1 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 : 170 .

-----------
( 2 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 : 170 .

-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 20 : 171 .

-----------
( 4 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 20 : 172 .

[ 73 ]

فسمع بمراودته ابنته فأهلكه ، ففي ( شعراء ابن قتيبة ) : لم يزل امرؤ القيس يسير في العرب يطلب النصر حتى خرج إلى الروم و نظرت إليه ابنة قيصر فعشقته ، فكان يأتيها و تأتيه فطبن الطماح الأسدي لهما و كان حجر أبو امرى‏ء القيس قتل أباه فوشى به إلى الملك فخرج امرؤ القيس متسرعا ، فبعث قيصر في طلبه رسولا فأدركه دون أنقرة بيوم و معه حلة مسمومة ، فلبسها في يوم صائف فتناثر لحمه و تفطّر جسده ، و كان يحمله جابر التغلبي فذلك قول امرى‏ء القيس :

فأما تريني في رحالة جابر
على جرح كالقر تخفق أكفاني

فيا رب مكروب كررت وراءه
و عان فككت الغل منه ففداني

إذا المرء لم يخزن عليه لسانه
فليس على شي‏ء سواه بخزان 1

و قال حين حضرته الوفاة بأنقرة :

رب خطبة محبرة
و طعنة مسحنفرة

و جفنة مثعنجرة
تبقى غدا بأنقرة

و هذا آخر شي‏ء تكلّم به ثم مات 2 .

و مثله في الإسلام عمر بن أبي ربيعة المخزومي الشاعر ، فكانوا يسمّونه الفاسق لتعرضه للنساء ، ففي ( الشعراء ) : حجّ عبد الملك فلقيه عمر فقال له عبد الملك : يا فاسق . فقال له : بئست تحية ابن العم على طول الشحط .

قال : يا فاسق أما إنّ قريشا تعلم إنّك أطولها صبوة و أبطأها توبة ، ألست القائل :

و لو لا أن تعنّفني قريش
مقال الناصح الأدنى الشفيق

-----------
( 1 ) ديوان امرى‏ء القيس : 173 174 .

-----------
( 2 ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة 1 : 53 .

[ 74 ]

لقلت إذا التقينا قبّليني
و لو كنّا على ظهر الطريق 1

و كان يتعرّض للنساء و يتشبب بهن ، فسيّره عمر بن عبد العزيز إلى الدهلك ثم غزا في البحر فاحرقت السفينة التي كان فيها فاحترق هو و من معه 2 .

و قد وصف عليه السّلام امرأ القيس في رواية ابن دريد بذي القروح لما عرفت من لبسه الحلة المسمومة و توليدها فيه القروح 3 .

و في ( الأغاني ) : أرسل القراء الأشراف و هم سليمان بن صرد و هاني بن عروة و خالد بن عرفطة و مسروق بن الأجدع إلى لبيد : أيّ العرب أشعر ؟

قال : الملك الضليل ذو القروح . قالوا : من ذو القروح ؟ قال : امرؤ القيس 4 .

قول المصنّف : « يريد امرؤ القيس » قال ابن أبي الحديد : قال محمد بن سلام الجمحي في ( طبقات شعرائه ) : حدث عوانة عن الحسن ان النبي صلّى اللَّه عليه و آله قال لحسان : من أشعر العرب ؟ قال : الزرق العيون من بني قيس . قال : لست أسألك عن القبيلة ، انّما أسألك عن رجل واحد . فقال : ان مثل الشعر كناقة نحرت فجاء امرؤ القيس فأخذ سنامها و أطائبها ، ثم جاء المتجاوران من الأوس و الخزرج فأخذا ما والى ذلك منها ، ثم جعلت العرب تمرعها حتى إذا بقي الفرث و الدم جاء عمرو بن تميم و النمر بن قاسط فأخذاه . فقال النبي صلّى اللَّه عليه و آله : ذاك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها ، خامل يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار . . . 5 .

-----------
( 1 ) الشعر و الشعراء : 369 370 دار الكتب العلمية .

-----------
( 2 ) المصدر نفسه : 367 .

-----------
( 3 ) الشعر و الشعراء : 49 .

-----------
( 4 ) الأغاني 15 : 372 .

-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 20 : 169 .

[ 75 ]

قلت : و روى الخطيب في ( تاريخ بغداده ) عن عفيف بن معديكرب قال :

كنّا عند النبي صلى اللَّه عليه و آله فجاء وفد من أهل اليمن فقالوا له : لقد أحيانا اللَّه ببيتين من شعر امرى‏ء القيس . قال لهم : و ما ذاك ؟ قالوا : أقبلنا نريدك حتى إذا كنّا بموضع كذا و كذا أخطأنا الماء فمكثنا لا نقدر عليه ، فانتهينا إلى موضع طلح و ممر ،

فانطلق كلّ منّا إلى أصل شجرة ليموت في ظلّها ، فبينما نحن في آخر رمق إذا راكب قد أقبل معتم ، فلما رآه بعضنا تمثّل :

و لما رأت أنّ الشريعة همّها
و أنّ بياضا في فرائصها دامي

تيممت العين التي عند ضارج
يفي‏ء عليها الظل عرمضها طامي

فقال الراكب : من يقول هذا الشعر ؟ قلنا : امرؤ القيس . قال : هذه و اللَّه ضارج أمامكم و قد رأى ما بنا من الجهد . فرجعنا إليها فإذا بيننا و بينها نحو من خمسين ذراعا ، فإذا هي كما وصف امرؤ القيس عليها العرمض يفي‏ء عليها الظلّ . فقال النبي صلّى اللَّه عليه و آله : ذاك مشهور في الدنيا خامل في الآخرة ، مذكور في الدّنيا منسي في الآخرة ، يجي‏ء يوم القيامة معه لواء الشعراء يقودهم إلى النار 1 .

رواه ( عيون ابن قتيبة ) . و قد أشار ابن لنكك إلى حديث النبي صلّى اللَّه عليه و آله المتقدّم في قوله :

إذا خفق اللواء عليّ يوما
و قد حمل امرؤ القيس اللواء

رجوت اللَّه لا أرجو سواه
لعل اللَّه يرحم من أساء

و في ( حيوان الجاحظ ) : قال خلف الأحمر : لم أر أجمع من بيت لامرى‏ء القيس :

أفاد و جاد و ساد و قاد
و عاد و زاد و أفضل

-----------
( 1 ) تاريخ بغداد للخطيب البغدادى 2 : 374 ، و كذلك البيان و التبيين لابن قتيبة 1 : 144 .

[ 76 ]

و من بيت له :

له أيطلا ظبي و ساقا نعامة
و ارخاء سرحان و تقريب تنفل

و قالوا : لم نر في التشبيه كقوله حين شبّه شيئين بشيئين في حالين مختلفين في بيت واحد :

كأن قلوب الطير رطبا و يابسا
لدى وكرها العناب و الحشف البالي 1

و في ( الشعراء ) : سبق امرؤ القيس الشعراء إلى أشياء ابتدعها و اتبعوه عليها من استيقافه صحبه في الديار و رقة النسيب و قرب الماجد و يستحسن من تشبيهه قوله :

كأنّ عيون الوحش حول قبابنا
و أرحلنا الجزع الذي لم يثقب

و قوله :

كأني غداة البين لما تحملوا
لدى سمرات الحي ناقف حنظل

و قد أجاد في وصف الفرس :

مكر مفر مقبل مدبر معا
كجلمود صخر حطّه السيل من عل

له ايطلا ظبي و ساقا نعامة
و ارخاء سرحان و تقريب تتفل 2

و في ( تاريخ اليعقوبي ) : لما بلغ امرؤ القيس مقتل بني أسد لأبيه و كان غائبا جمع جمعا و قصد لهم ، فلما كان في الليلة التي أراد أن يغير عليهم في صبيحتها نزل بجمعه ذلك فذعر القطا ، فطار عن مجاثمه فمر ببني أسد ، فقالت بنت علباء القائم بأمر بني أسد : ما رأيت كالليلة قطا أكثر . فقال علباء : ( لو ترك القطا لنام ) ، فأرسلها مثلا و عرف أن جيشا قد قرب منه ، فارتحل و أصبح امرؤ

-----------
( 1 ) الحيوان للجاحظ 3 : 53 .

-----------
( 2 ) الشعر و الشعراء : 52 53 دار الكتب العلمية .

[ 77 ]

القيس فأوقع بكنانة فأصاب فيهم و جعل يقول : يا لثارات حجر . فقالوا : و اللَّه ما نحن إلا من كنانة . فقال :

ألا يا لهف نفسي بعد قوم
هم كانوا الشفاء فلم يصابوا

وقاهم جدّهم ببني أبيهم
و بالأشقين ما كان العقاب

و أفلتهن ( علباء ) جريضا
و لو أدركنه صفر الوطاب

و مضى إلى اليمن لما لم يكن به قوّة على بني أسد و من معهم من قيس ،

فأقام زمانا و كان يدمن مع ندامى له ، فأشرف يوما فإذا براكب مقبل ، فسأله من أين أقبلت ؟ قال : من نجد . فسقاه مما كان يشرب ، فلما أخذت منه الخمرة رفع عقيرته و قال :

سقينا امرأ القيس بن حجر بن حارث
كؤوس الشجا حتى تعوذ بالفهر

و ألهاه شرب ناعم و قراقر
و أعياه ثار كان يطلب في حجر

و ذاك لعمري كان أسهل مشرعا
عليه من البيض الصوارم و السمر

ففزع امرؤ القيس لذلك ثم قال : يا أخا أهل الحجاز من قائل هذا الشعر ؟

قال : عبيد بن الأبرص . قال : صدقت . ثم ركب و استنجد قومه فأمّدوه بخمسمائة من مذحج ، فخرج إلى أرض معد فأوقع بقبائل من معد و قتل الأشقر بن عمرو و هو سيّد بني أسد و شرب في قحف رأسه و قال :

قولا لدودان عبيد العصا
ما غرّكم بالأسد الباسل

و طلب قبائل معد امرأ القيس و ذهب من كان معه و بلغه ان المنذر ملك الحيرة قد نذر دمه ، فأراد الرجوع إلى اليمن فخاف حضرموت و طلبته بنو

[ 78 ]

أسد و قبائل معد ، فسار إلى سعد الأيادي و كان عاملا لكسرى على بعض كور العراق و استتر عنده إلى أن مات سعد ، فسار إلى تيماء و سأل السموأل بن عاديا أن يجيره ، فقال : أنا لا أجير على الملوك . فأودعه أدرعا و انصرف عنه إلى ملك الروم و استنصره ، فوجه معه تسعمائة من أبناء البطارقة ، فسار الطماح الأسدي إلى قيصر و قال له : إنّ امرأ القيس شتمك في شعره و زعم أنّك علج أغلف . فوجّه قيصر إليه بحلّة قد فضخ فيها السمّ ، فلما ألبسها تقطع جلده فقال :

تأوبني دائي القديم فغلسا
احاذر أن يزداد دائي فأنكسا

لقد طمح الطماح من بعد أرضه
ليلبسني من دائه ما تلبسا

فلو أنّها نفس تموت سوية
و لكنّها نفس تساقط أنفسا 1

هذا ، و في ( عقلاء مجانين النيسابوري ) قال الجاحظ : رأيت مجنونا بالكوفة فقال لي : من أنت ؟ قلت : عمرو بن بحر الجاحظ . قال : يزعم أهل البصرة انّك أعلمهم . قلت : ان ذلك يقال . قال : من أشعر الناس ؟ قلت : امرؤ القيس . قال : حيث يقول ماذا ؟ قلت :

كأنّ قلوب الطير رطبا و يابسا
لدى وكرها العناب و الحشف البالي

قال : فأنا أشعر منه . قلت : حيث تقول ماذا ؟ قال : حيث أقول :

كأنّ وراء الستر فوق فراشها
قناديل زيت من وراء قرام

فأينا أشعر ؟ قلت : أنت . و القرام : الستر الملوّن 2 .

هذا ، و ادّعى رجل شاعرية شخص عند شاعر فقال :

و تشابهت سور القرآن عليكم
فقرنتم الأنعام بالشعراء

-----------
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 1 : 217 220 .

-----------
( 2 ) عقلاء المجانين للنيسابوري : 155 156 .

[ 79 ]