من الخطبة القاصعة ( 190 ) فَاعْتَبِرُوا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اَللَّهِ ؟ بِإِبْلِيسَ ؟ إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ اَلطَّوِيلَ وَ جَهْدَهُ اَلْجَهِيدَ وَ كَانَ قَدْ عَبَدَ اَللَّهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَةٍ لاَ يُدْرَى أَ مِنْ سِنِي اَلدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي اَلْآخِرَةِ عَنْ كِبْرِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَمَنْ بَعْدَ ؟ إِبْلِيسَ ؟ يَسْلَمُ عَلَى اَللَّهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ كَلاَّ مَا كَانَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْرٍ أَخْرَجَ مِنْهَا مَلَكاً إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ اَلسَّمَاءِ وَ أَهْلِ اَلْأَرْضِ لَوَاحِدٌ وَ مَا بَيْنَ اَللَّهِ وَ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمًى حَرَّمَهُ عَلَى اَلْعَالَمِينَ فَاحْذَرُوا عِبَادَ اَللَّهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ وَ أَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ وَ أَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَ رَجْلِهِ فَلَعَمْرِي لَقَدْ فَوَّقَ لَكُمْ سَهْمَ اَلْوَعِيدِ وَ أَغْرَقَ لَكُمْ بِالنَّزْعِ اَلشَّدِيدِ وَ رَمَاكُمْ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ وَ قَالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 2 11 15 : 39 3 قَذْفاً بِغَيْبٍ بَعِيدٍ وَ رَجْماً بِظَنٍّ مُصِيبٍ صَدَّقَهُ بِهِ أَبْنَاءُ اَلْحَمِيَّةِ وَ إِخْوَانُ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ فُرْسَانُ اَلْكِبْرِ وَ اَلْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى إِذَا اِنْقَادَتْ لَهُ اَلْجَامِحَةُ مِنْكُمْ وَ اِسْتَحْكَمَتِ
-----------
( 1 ) إبراهيم : 22 .
-----------
( 2 ) الحشر : 16 .
-----------
( 3 ) الحجر : 39 .
[ 353 ]
اَلطَّمَاعِيَّةُ مِنْهُ فِيكُمْ فَنَجَمَتِ اَلْحَالُ مِنَ اَلسِّرِّ اَلْخَفِيِّ إِلَى اَلْأَمْرِ اَلْجَلِيِّ اِسْتَفْحَلَ سُلْطَانُهُ عَلَيْكُمْ وَ دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ اَلذُّلِّ وَ أَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ اَلْقَتْلِ وَ أَوْطَئُوكُمْ إِثْخَانَ اَلْجِرَاحَةِ طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ وَ قَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ وَ سَوْقاً بِخَزَائِمِ اَلْقَهْرِ إِلَى اَلنَّارِ اَلْمُعَدَّةِ لَكُمْ فَأَصْبَحَ أَعْظَمَ فِي دِينِكُمْ حَرْجاً وَ أَوْرَى فِي دُنْيَاكُمْ قَدْحاً مِنَ اَلَّذِينَ أَصْبَحْتُمْ لَهُمْ مُنَاصِبِينَ وَ عَلَيْهِمْ مُتَأَلِّبِينَ فَاجْعَلُوا عَلَيْهِ حَدَّكُمْ وَ لَهُ جِدَّكُمْ فَعَمْرُ اَللَّهِ لَقَدْ فَخَرَ عَلَى أَصْلِكُمْ وَ وَقَعَ فِي حَسَبِكُمْ وَ دَفَعَ فِي نَسَبِكُمْ وَ أَجْلَبَ بِخَيْلِهِ عَلَيْكُمْ وَ قَصَدَ بِرَجِلِهِ سَبِيلَكُمْ يَقْتَنِصُونَكُمْ بِكُلِّ مَكَانٍ وَ يَضْرِبُونَ مِنْكُمْ كُلَّ بَنَانٍ لاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِيلَةٍ وَ لاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِيمَةٍ فِي حَوْمَةِ ذُلٍّ وَ حَلْقَةِ ضِيقٍ وَ عَرْصَةِ مَوْتٍ وَ جَوْلَةِ بَلاَءٍ فَأَطْفِئُوا مَا كَمَنَ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ نِيرَانِ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ أَحْقَادِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّمَا تِلْكَ اَلْحَمِيَّةُ تَكُونُ فِي اَلْمُسْلِمِ مِنْ خَطَرَاتِ اَلشَّيْطَانِ وَ نَخَوَاتِهِ وَ نَزَغَاتِهِ وَ نَفَثَاتِهِ وَ اِعْتَمِدُوا وَضْعَ اَلتَّذَلُّلِ عَلَى رُءُوسِكُمْ وَ إِلْقَاءَ اَلتَّعَزُّزِ تَحْتَ أَقْدَامِكُمْ وَ خَلْعَ اَلتَّكَبُّرِ مِنْ أَعْنَاقِكُمْ وَ اِتَّخِذُوا اَلتَّوَاضُعَ مَسْلَحَةً بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ عَدُوِّكُمْ ؟ إِبْلِيسَ ؟ وَ جُنُودِهِ فَإِنَّ لَهُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ جُنُوداً وَ أَعْوَاناً وَ رَجْلاً وَ فُرْسَاناً إلى أن قال :
أَلاَ وَ قَدْ أَمْعَنْتُمْ فِي اَلْبَغْيِ وَ أَفْسَدْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُصَارَحَةً لِلَّهِ بِالْمُنَاصَبَةِ وَ مُبَارَزَةً لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْمُحَارَبَةِ فَاللَّهَ اَللَّهَ فِي كِبْرِ اَلْحَمِيَّةِ وَ فَخْرِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ اَلشَّنَئَانِ وَ مَنَافِخُ اَلشَّيْطَانِ اَلَّتِي خَدَعَ بِهَا اَلْأُمَمَ اَلْمَاضِيَةَ وَ اَلْقُرُونَ اَلْخَالِيَةَ حَتَّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَ مَهَاوِي ضَلاَلَتِهِ ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ اَلْقُلُوبُ فِيهِ وَ تَتَابَعَتِ
[ 354 ]
اَلْقُرُونُ عَلَيْهِ وَ كِبْراً تَضَايَقَتِ اَلصُّدُورُ بِهِ أَلاَ فَالْحَذَرَ اَلْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَ كُبَرَائِكُمْ اَلَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَ أَلْقَوُا اَلْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَ جَاحَدُوا اَللَّهَ عَلَى مَا صَنَعَ بِهِمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَ مُغَالَبَةً لِآلاَئِهِ فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ اَلْعَصَبِيَّةِ وَ دَعَائِمُ أَرْكَانِ اَلْفِتْنَةِ وَ سُيُوفُ اِعْتِزَاءِ اَلْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّقُوا اَللَّهَ وَ لاَ تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَلَيْكُمْ أَضْدَاداً وَ لاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَ لاَ تُطِيعُوا اَلْأَدْعِيَاءَ اَلَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَ خَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَ أَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ وَ هُمْ أَسَاسُ اَلْفُسُوقِ وَ أَحْلاَسُ اَلْعُقُوقِ اِتَّخَذَهُمْ ؟ إِبْلِيسُ ؟ مَطَايَا ضَلاَلٍ وَ جُنْداً بِهِمْ يَصُولُ عَلَى اَلنَّاسِ وَ تَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ اِسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَ دُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ وَ نَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَ مَوْطِئَ قَدَمِهِ وَ مَأْخَذَ يَدِهِ فَاعْتَبِرُوا بِمَا أَصَابَ اَلْأُمَمَ اَلْمُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اَللَّهِ وَ صَوْلاَتِهِ وَ وَقَائِعِهِ وَ مَثُلاَتِهِ وَ اِتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَ مَصَارِعِ جُنُوبِهِمْ وَ اِسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ لَوَاقِحِ اَلْكِبْرِ كَمَا تَسْتَعِيذُونَ مِنْ طَوَارِقِ اَلدَّهْرِ إلى أن قال :
وَ لَقَدْ نَظَرْتُ فَمَا وَجَدْتُ أَحَداً مِنَ اَلْعَالَمِينَ يَتَعَصَّبُ لِشَيْءٍ مِنَ اَلْأَشْيَاءِ إِلاَّ عَنْ عِلَّةٍ تَحْتَمِلُ تَمْوِيهَ اَلْجُهَلاَءِ أَوْ حُجَّةٍ تَلِيطُ بِعُقُولِ اَلسُّفَهَاءِ غَيْرَكُمْ فَإِنَّكُمْ تَتَعَصَّبُونَ لِأَمْرٍ مَا يُعْرَفُ لَهُ سَبَبٌ وَ لاَ عِلَّةٌ أَمَّا ؟ إِبْلِيسُ ؟
فَتَعَصَّبَ عَلَى ؟ آدَمَ ؟ لِأَصْلِهِ وَ طَعَنَ عَلَيْهِ فِي خَلْقِهِ فَقَالَ أَنَا نَارِيٌّ وَ أَنْتَ طِينِيٌّ وَ أَمَّا اَلْأَغْنِيَاءُ مِنْ مُتْرَفَةِ اَلْأُمَمِ فَتَعَصَّبُوا لِآثَارِ مَوَاقِعِ اَلنِّعَمِ فَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ 2 11 34 : 35 فَإِنْ كَانَ لاَ بُدَّ مِنَ اَلْعَصَبِيَّةِ فَلْيَكُنْ تَعَصُّبُكُمْ لِمَكَارِمِ اَلْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ اَلْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ اَلْأُمُورِ
[ 355 ]
اَلَّتِي تَفَاضَلَتْ فِيهَا اَلْمُجَدَاءُ وَ اَلنُّجَدَاءُ مِنْ بُيُوتَاتِ اَلْعَرَبِ وَ يَعَاسِيبِ اَلقَبَائِلِ بِالْأَخْلاَقِ اَلرَّغِيبَةِ وَ اَلْأَحْلاَمِ اَلْعَظِيمَةِ وَ اَلْأَخْطَارِ اَلْجَلِيلَةِ وَ اَلْآثَارِ اَلْمَحْمُودَةِ فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ اَلْحَمْدِ مِنَ اَلْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ اَلْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ اَلطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ اَلْمَعْصِيَةِ لِلْكِبْرِ وَ اَلْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ اَلْكَفِّ عَنِ اَلْبَغْيِ وَ اَلْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ اَلْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ اَلْكَظْمِ لِلْغَيْظِ وَ اِجْتِنَابِ اَلْفَسَادِ فِي اَلْأَرْضِ وَ اِحْذَرُوا مَا نَزَلَ بِالْأُمَمِ قَبْلَكُمْ مِنَ اَلْمَثُلاَتِ بِسُوءِ اَلْأَفْعَالِ وَ ذَمِيمِ اَلْأَعْمَالِ فَتَذَكَّرُوا فِي اَلْخَيْرِ وَ اَلشَّرِّ أَحْوَالَهُمْ وَ اِحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَمْثَالَهُمْ فَإِذَا تَفَكَّرْتُمْ فِي تَفَاوُتِ حَالَيْهِمْ فَالْزَمُوا كُلَّ أَمْرٍ لَزِمَتِ اَلْعِزَّةُ بِهِ شَأْنَهُمْ وَ زَاحَتِ اَلْأَعْدَاءُ لَهُ عَنْهُمْ وَ مُدَّتِ اَلْعَافِيَةُ فِيهِ عَلَيْهِمْ وَ اِنْقَادَتِ اَلنِّعْمَةُ لَهُ مَعَهُمْ وَ وَصَلَتِ اَلْكَرَامَةُ عَلَيْهِ حَبْلَهُمْ مِنَ اَلاِجْتِنَابِ لِلْفُرْقَةِ وَ اَللُّزُومِ لِلْأُلْفَةِ وَ اَلتَّحَاضِّ عَلَيْهَا وَ اَلتَّوَاصِي بِهَا وَ اِجْتَنِبُوا كُلَّ أَمْرٍ كَسَرَ فِقْرَتَهُمْ وَ أَوْهَنَ مُنَّتَهُمْ مِنْ تَضَاغُنِ اَلْقُلُوبِ وَ تَشَاحُنِ اَلصُّدُورِ وَ تَدَابُرِ اَلنُّفُوسِ وَ تَخَاذُلِ اَلْأَيْدِي وَ تَدَبَّرُوا أَحْوَالَ اَلْمَاضِينَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ قَبْلَكُمْ كَيْفَ كَانُوا فِي حَالِ اَلتَّمْحِيصِ وَ اَلْبَلاَءِ أَ لَمْ يَكُونُوا أَثْقَلَ اَلْخَلْقِ أَعْبَاءً وَ أَجْهَدَ اَلْعِبَادِ بَلاَءً وَ أَضْيَقَ أَهْلِ اَلدُّنْيَا حَالاً اِتَّخَذَتْهُمُ اَلْفَرَاعِنَةُ عَبِيداً فَسَامُوهُمْ سُوءَ اَلْعَذَابِ وَ جَرَّعُوهُمُ اَلْمُرَارَ فَلَمْ تَبْرَحِ اَلْحَالُ بِهِمْ فِي ذُلِّ اَلْهَلَكَةِ وَ قَهْرِ اَلْغَلَبَةِ لاَ يَجِدُونَ حِيلَةً فِي اِمْتِنَاعٍ وَ لاَ سَبِيلاً إِلَى دِفَاعٍ حَتَّى إِذَا رَأَى اَللَّهُ جِدَّ اَلصَّبْرِ مِنْهُمْ عَلَى اَلْأَذَى فِي مَحَبَّتِهِ وَ اَلاِحْتِمَالَ لِلْمَكْرُوهِ مِنْ خَوْفِهِ جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَضَايِقِ اَلْبَلاَءِ فَرَجاً فَأَبْدَلَهُمُ اَلْعِزَّ مَكَانَ اَلذُّلِّ وَ اَلْأَمْنَ مَكَانَ اَلْخَوْفِ فَصَارُوا مُلُوكاً حُكَّاماً وَ أَئِمَّةً أَعْلاَماً وَ قَدْ بَلَغَتِ اَلْكَرَامَةُ مِنَ اَللَّهِ لَهُمْ مَا لَمْ تَبْلَغِ
[ 356 ]
اَلْآمَالُ إِلَيْهِ بِهِمْ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانُوا حَيْثُ كَانَتِ اَلْأَمْلاَءُ مُجْتَمِعَةً وَ اَلْأَهْوَاءُ مُتَّفِقَةً وَ اَلْقُلُوبُ مُعْتَدِلَةً وَ اَلْأَيْدِي مُتَرَادِفَةً وَ اَلسُّيُوفُ مُتَنَاصِرَةً وَ اَلْبَصَائِرُ نَافِذَةً وَ اَلْعَزَائِمُ وَاحِدَةً أَ لَمْ يَكُونُوا أَرْبَاباً فِي أَقْطَارِ اَلْأَرَضِينَ وَ مُلُوكاً عَلَى رِقَابِ اَلْعَالَمِينَ فَانْظُرُوا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ فِي آخِرِ أُمُورِهِمْ حِينَ وَقَعَتِ اَلْفُرْقَةُ وَ تَشَتَّتَتِ اَلْأُلْفَةُ وَ اِخْتَلَفَتِ اَلْكَلِمَةُ وَ اَلْأَفْئِدَةُ تَشَعَّبُوا مُخْتَلِفِينَ وَ تَفَرَّقُوا مُتَحَارِبِينَ قَدْ خَلَعَ اَللَّهُ عَنْهُمْ لِبَاسَ كَرَامَتِهِ وَ سَلَبَهُمْ غَضَارَةَ نِعْمَتِهِ وَ بَقِيَ قَصَصُ أَخْبَارِهِمْ فِيكُمْ عِبْرَةً لِلْمُعْتَبِرِينَ « فاعتبروا بما كان من فعل اللَّه بإبليس » قال الجوهري : كان اسم إبليس عزازيل ، و سمّي إبليس من قولهم : أبلس من رحمة اللَّه . أي : يئس 1 .
« إذ أحبط عمله الطويل » أي : أبطله ، قيل : الأصل في الإحباط أن يذهب ماء الركية فلا يعود كما كان .
« و جهده الجهيد » الجهد بالفتح من قولهم إجهد جهدك ، أي : ابلغ غايتك ،
و أمّا بالضم فبمعنى الطاقة .
« و قد كان عبد اللَّه ستة آلاف سنة » و روى القمي في ( تفسيره ) عن الصادق عليه السّلام : ركع ركعتين في السماء في أربعة آلاف سنة 2 .
« لا يدرى أمن سنيّ الدنيا أم من سنيّ الآخرة » قال ( ابن ميثم ) لا يدرى في نسخة الرضي بالبناء للفاعل و في غيرها للمفعول 3 .
ثم ان ( ابن أبي الحديد ) قال : في سني الآخرة آيات تعرج الملائكة
-----------
( 1 ) الصحاح للجوهري 2 : 909 مادة ( أبلس ) .
-----------
( 2 ) تفسير القمي 1 : 42 .
-----------
( 3 ) شرح ابن ميثم ، شرح نهج البلاغة 4 : 247 .
[ 357 ]
و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 1 و يدبّر الأمر من السماء إلى الأَرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره أَلف سنة 2 و إنّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون 3 و المراد بالاولى ، مدّة عمر الدّنيا ، أي :
تعرج الملائكة و الروح بأعمال البشر طول هذه المدة ، و بالأخيرتين ، كمية أيام الآخرة ، و هو أنّ كلّ يوم منها مثل ألف سنة من سنيّ الدّنيا 4 .
و قال عليه السّلام : قوله تعالى في موضع مقداره خمسين ألف سنة و في آخر مقداره ألف سنة إشارة إلى تفاوت تلك الأزمنة الموهومة بشدة أهوال أحوال الآخرة و ضعفها و طولها و قصرها ، و سرعة حساب بعضهم و خفّة ظهرها و ثقل أوزار قوم آخرين و طول حسابهم ، كما روي عن ابن عباس في قوله تعالى : في يوم كن مقداره خمسين ألف سنة هو يوم القيامة جعله اللَّه على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة 5 .
و عن أبي سعيد الخدري : قيل للنبي صلّى اللَّه عليه و آله يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 6 ما أطول هذا اليوم ؟ فقال : و الذي نفسي بيده إنّه ليخفّ على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدّنيا 7 .
و قال الشيخ في ( التبيان ) في قوله تعالى يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدون 8 في سورة
-----------
( 1 ) المعارج : 4 .
-----------
( 2 ) السجدة : 5 .
-----------
( 3 ) الحج : 47 .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد ، شرح نهج البلاغة 13 : 133 .
-----------
( 5 ) تفسير ابن عباس : 485 .
-----------
( 6 ) المعارج : 4 .
-----------
( 7 ) الطبرسي ، مجمع البيان 6 : 54 .
-----------
( 8 ) السجدة : 5 .
[ 358 ]
الم السجدة ، قال ابن عباس و الضحّاك : معناه يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة ممّا يعدّه البشر ، و قيل معناه خمسمائة عام نزول و خمسمائة صعود فذلك ألف سنة ، و قال قوم : يجوز أن يكون يوم القيامة يوما له أول و ليس له آخر وقته أوقات يسمّى بعضها ألف سنة و بعضها خمسين ألف سنة ، و قيل ان معنى و إن يوماً عند ربّك كأَلف سنة ممّا تعدُّون 1 إنّه فعل في يوم واحد من الأيام الستة التي خلق فيها السماوات و الأرض ما لو كان يجوز أن يفعله غيره لمّا فعله إلاّ في ألف سنة ، و قيل : إنّ معناه أنّ كلّ يوم من الأيام الستة التي خلق فيها السماوات كألف سنة من أيام الدّنيا 2 .
و قال في قوله : و إنّ يوماً عند ربّك كألف سنة ممّا تعدّون في سورة الحج : قال ابن عباس و مجاهد و عكرمة : يوم من أيام الآخرة كألف سنة من أيام الدّنيا . . . 3 .
و في ( تفسير القمي ) في قوله تعالى : و يستعجلونك بالعذاب و لن يخلف اللَّه وعده و إنّ يوما عند ربّك كألف سنة ممّا تعدون 4 في الحج : إنّ النبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أخبرهم ان العذاب قد أتاهم فقالوا ابن العذاب استعجلوه ، فقال تعالى : و ان يوما عند ربك كألف سنة ممّا تعدون 5 .
و في قوله تعالى : اللَّه الذي خلق السماوات و الأرض و ما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي و لا شفيع أَفلا تتذكّرون . يدبِّر الأَمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره
-----------
( 1 ) الحج : 47 .
-----------
( 2 ) التبيان للطوسي 8 : 294 295 .
-----------
( 3 ) التبيان للطوسي 7 : 326 .
-----------
( 4 ) الحج : 47 .
-----------
( 5 ) تفسير القمي 2 : 88 .
[ 359 ]
ألف سنة ممّا تعدّون 1 .
في السجدة ، يعني الأمور التي يدبرها و الأمر و النهي الذي أمر به و أعمال العباد ، كل هذا يظهر يوم القيامة فيكون مقدار ذلك اليوم ألف سنة من سني الدّنيا .
و قال في : تعرج الملائكة و الروح 2 في صبح ليلة القدر « إليه » من عند النبي و الوصي .
و قال في : يوم كان مقداره خمسين ألف سنة في القيامة خمسين موقفا كلّ موقف ألف سنة .
و روى الكليني و الشيخان ، في أماليّيهما مسندا عن حفص بن غياث عن الصادق عليه السّلام : إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربّه شيئا إلاّ أعطاه فلييأس من الناس كلّهم و لا يكون له رجاء إلاّ عند اللَّه تعالى ، فإذا علم تعالى ذلك من قلبه لم يسأل اللَّه شيئا إلاّ أعطاه ، فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا عليها ، فإنّ للقيامة خمسين موقفا كلّ موقف مقداره ألف سنة ثم تلا في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة 3 .
قال ( ابن أبي الحديد ) : إذا كانت عبادة إبليس ستة آلاف من سنيّ الآخرة و سنتها ألف سنة يكون الحاصل ألفي ألف ألف سنة و مائة و ستون ألف ألف ، و إن كانت سنتها خمسين ألفا يكون الحاصل ثمانية عشر ألف ألف ألف 4 .
« عن كبر ساعة واحدة » متعلّق بقوله عليه السّلام « أحبط » .
-----------
( 1 ) السجدة : 4 5 .
-----------
( 2 ) المعارج : 4 .
-----------
( 3 ) الكافي للكليني 2 : 48 ح 2 ، و أمالي الطوسي : 34 ح 7 ، و الأمالي للمفيد : 195 .
-----------
( 4 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 133 .
[ 360 ]
« فمن بعد إبليس يسلم على اللَّه بمثل معصيته » و في ( ابن أبي الحديد ) : فمن ذا . . .
« كلاّ ما كان اللَّه سبحانه ليدخل الجنة بشرا بأمر أخرج به منها ملكا » الباء في « بأمر » للمصاحبة و في « به » للسبية ، أي : إذا كان الكبر سببا للإخراج من الجنة لا يمكن إدخالها معه 1 .
« إنّ حكمه في أهل السماء و الأرض لواحد » فما لم يرتضه من الملك لم يرتضه من البشر .
« و ما بين اللَّه و بين أحد من خلقه هوادة » أي : صلح و ميل .
« في إباحة حمى » بالكسر فالفتح ، أي موضع محظور لا يقرب . و في الخبر « لا حمى إلاّ للَّه و لرسوله » 2 .
« حرمه على العالمين » فلا استثناء فيه .
« فاحذروا عباد اللَّه » هكذا في ( الطبعة المصرية ) 3 ، و لكن في ( ابن ميثم ) 4 « فاحذروا عدو اللَّه » . و في ( ابن أبي الحديد ) 5 و ( الخوئي ) 6 « فاحذروا عباد اللَّه عدوّ اللَّه » .
« أن يعديكم بدائه » قال الجوهري : العدوى ما يعدى من جرب أو غيره أي يجاوز من صاحبه إلى غيره 7 .
-----------
( 1 ) المصدر نفسه .
-----------
( 2 ) ذكره البحاري في صحيحه 3 : 148 و أحمد في مسنده 4 : 71 ، و البيهقي في سننه 9 : 147 .
-----------
( 3 ) انظر النسخة المصرية : 420 .
-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 4 : 242 .
-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 136 .
-----------
( 6 ) راجع الخوئي في شرحه 11 : 381 .
-----------
( 7 ) الصحاح للجوهري 6 : 2421 ، مادة ( عدا ) .
[ 361 ]
قال ابن أبي الحديد « ان يعديكم » بدل من « عدو اللَّه » 1 ، و قال الراوندي :
يجوز أن يكون مفعولا ثانيا ، و ليس بصحيح لأن « حذرت » لا يتعدّى إلى المفعولين 2 .
قلت : يمكن أن يكون مفعوله الثاني بنزع الخافض ، و الأصل « من أن يعديكم بدائه » و حذف الجار من أن و ان قياسى .
في ( عيون القتيبي ) : خطب سلمان إلى عمر فاجمع على تزويجه فشقّ ذلك على عبد اللَّه بن عمر فشكاه إلى عمرو بن العاص فقال : أنا أردّه عنك . فقال :
إن رددته بما يكره أغضبت إياه . قال : عليّ أن أردّه عنك راضيا ، فأتى سلمان فضرب بين كتفيه بيده ثم قال : هنيئا لك أبا عبد اللَّه هذا عمر يتواضع بتزويجك .
فالتفت إليه مغضبا و قال : أبي يتواضع و اللَّه لا أتزوّجها أبدا 3 .
قلت : فعل ذلك عمر على لسان ابنه ، و ابنه كان معروفا بالضعة .
و روى محمد بن عمرو الكشّي أنّ سلمان خطب إلى عمر فرده ، ثم ندم فعاد إليه فقال له سلمان : إنّما أردت أن أعلم ذهبت حميّة الجاهلية عن قلبك أم هي كما هي 4 .
« و أن يستفزّكم بندائه » « و ان يجلب عليكم بخيله و رجله » هكذا في ( الطبعة المصرية ) و لكن في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخوئي و الخطية 5
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 136 .
-----------
( 2 ) ذكر القطب الراوندي « ان يعديكم » محله نصب على انه بدل من عدو اللَّه أو مفعول ثان من العدوى و هو ما يعدي من جرب أو غيره ، القطب الراوندي منهاج البراعة 2 : 237 .
-----------
( 3 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 : 268 .
-----------
( 4 ) الكشي : 15 .
-----------
( 5 ) انظر النسخة المصرية : 420 ، و ابن أبي الحديد 13 : 136 ، و ابن ميثم 4 : 286 ، و الخوئي 11 : 281 ، و النسخة الخطية للمرعشي : 181 .
[ 362 ]
« و ان يستفزكم بخيله و رجله » و قد عرفت في أوّل الكتاب أنّ المعتبر نسخة ابن أبي الحديد و ابن ميثم لا سيما الثاني الذي نسخته بخط المصنف ، و الظاهر ان ما في ( الطبعة المصرية ) كان حاشية أخذا من قوله تعالى : و استفزز من استطعت منهم بصوتك و أجلب عليهم بخيلك و رجلك 1 خلطت بالمتن .
و كيف كان ، فاستفزّه أي : استخفّه ، و أجلب على فرسه ، أي : صاح به من خلفه و استحثه للسبق ، و الخيل هنا مثل الآية بمعنى الفرسان كالرجل الرجالة ،
و أمّا في قوله تعالى : و الخيل و البغال و الحمير 2 فالأفراس 3 .
و عن الصادق عليه السّلام : إذا أخذ القوم في المعصية فإن كانوا ركبانا كانوا من خيل إبليس ، و إن كانوا رجالا كانوا من رجالته 4 .
« فلعمري لقد فوّق لكم سهم الوعيد » قال ابن أبي الحديد فوّقت السهم جعلت له فوقا و هو موضع الوتر ، و لا يجوز أن يفسّر بأنه وضع الفوق في الوتر ليرمي به ، لأن ذلك لا يقال فيه : « فوق » بل يقال : « أفقت السهم و أوفقته » و لا يقال : أفوقته و هو من النوادر 5 .
قلت : أخذ ما قاله عن ( الصحاح ) ، فقال : الفوق موضع الوتر من السهم و الجمع أفواق و فوق ، تقول فقت السّهم فانفاق ، أي : كسرت فوقه فانكسر ،
و فوّقته ، أي : جعلت له فوقا 6 ، و أفقت السّهم ، أي : وضعت فوقه في الوتر لأرمي به ، و أوفقته أيضا و لا يقال : أفوقته و هو من النوادر . إلاّ أنّ ابن دريد قال :
-----------
( 1 ) الاسراء : 64 .
-----------
( 2 ) النحل : 8 .
-----------
( 3 ) التبيان للطوسي 6 : 499 .
-----------
( 4 ) ثواب الأعمال للصدوق 2 : 307 ح 3 .
-----------
( 5 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 : 139 .
-----------
( 6 ) الصحاح للجوهري 4 : 1546 مادة ( فوق ) .
[ 363 ]
فوّقت السهم تفويقا إذا جعلت الوتر في فوقه ، وفقته إذا جعلت له فوقا . و هو الصحيح كما يشهد له سياق كلامه عليه السّلام .
« و أغرق لكم بالنزع الشديد » و في حد « و أغرق إليكم » 1 ، و كيف كان ،
فالمراد انته استوفى نزع القوس ، أي : مدّها ، فيكون وقع سهمه أشد .
« و رماكم من مكان قريب » فلا بدّ من إصابة سهمه ، و إنّما قد يخطىء البعيد قالوا و قرب مكانه لأنه يجري من ابن آدم مجرى الدم كما في الخبر 2 قاله ابن أبي الحديد و تبعه ( ابن ميثم و الخوئي ) 3 .
قلت : و يمكن أن يكون المراد أنّه يخدعهم من طريق ينخدعون له كما خدع آدم و حواء فأقسم لهما إنّه لهما لمن الناصحين و يخدع بنيهما بالتزيّن لهم في الأرض ، و المخادع إذا دخل من باب يليط بقلب من يريده انخدع له و لو تفطن لخدعته ، فكيف إذا لم يتفطن .
ففي غزوة الأحزاب بعد قرب قريش من المدينة جاء حيّ بن أخطب إلى بني قريظة في جوف الليل و كانوا في حصنهم قد تمسّكوا بعهد النبي صلّى اللَّه عليه و آله فدقّ باب الحصن فسمع كعب بن أسد قرع الباب ، فقال لأهله : هذا أخوك قد شأم قومه و جاء الآن يشأمنا و يهلكنا و يأمرنا بنقض العهد بيننا و بين محمّد ، فنزل إليه و قال له : من أنت ؟ قال : حيّ بن أخطب جئتك بعزّ الدهر .
قال : بل جئتني بذلّ الدهر . فقال : يا كعب هذه قريش في قادتها و سادتها قد نزلت بالعقيق مع حلفائهم و كنانة ، و هذه فزارة مع قادتها و سادتها قد نزلت الزغابة ، و هذه سليم و غيرهم قد نزلوا حصن بني ذبيان ، و لا يفلت محمد
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 136 .
-----------
( 2 ) بحار الأنوار 60 : 268 حديث عن الرسول صلّى اللَّه عليه و آله .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 139 و شرح ابن ميثم 4 : 285 ، و شرح الخوئي 11 : 286 .
[ 364 ]
و أصحابه من هذا الجمع أبدا فافتح الباب . فقال له : لست بفاتح . إرجع من حيث شئت فقال حيّ : ما يمنعك من فتح الباب إلاّ خسيستك التي في التنور تخاف أن أشركك فيها ، فافتح فإنّك آمن من ذلك . فقال له كعب : لعنك اللَّه دخلت من باب دقيق ، إفتحوا الباب . . . . و يشهد لمّا قلنا قوله عليه السّلام بعد « فقال . . . » 1 .
قال ربِّ بما أغويتني لاُزيّننَّ لهم في الأَرض و لاُغوينَّهم أَجمعين 2 و في سورة الأعراف قال فبما أغويتني لأَقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينّهم من بين أَيديهم و من خلفهم و عن أَيمانهم و عن شمائلهم و لا تجدُ أَكثرهم شاكرين 3 و معنى قوله « أغويتني » كلفتني تكليفا أدّى إلى غوايتي .
« قذفا بغيب بعيد » قال ابن أبي الحديد إنتصب قذفا و كذا رجما بعد على المصدر الواقع موقع الحال 4 ، و قال الراوندي : إنّهما مفعول له ، و ليس بصحيح ، لأنّهما ليسا بعلّة 5 .
قلت : و ما ذكره هو أيضا من كونهما حالا بمعنى قاذفا و راجما أيضا غير معيّن ، بل الظاهر كونهما على أصلهما و نصبهما على المفعول المطلق النوعي ، أي قال قولا قذفا و رجما .
و الأصل في القذف ، الرمي 6 ، قال تعالى : و يقذفون بالغيب من مكان بعيد 7 .
-----------
( 1 ) تاريخ الامم و الملوك للطبري 2 : 93 ( دار الكتب العلمية ) .
-----------
( 2 ) الحجر : 39 .
-----------
( 3 ) الأعراف : 16 17 .
-----------
( 4 ) انظر شرح ابن أبي الحديد 13 : 141 .
-----------
( 5 ) انظر الراوندي 2 : 241 242 .
-----------
( 6 ) الصحاح للجوهري 4 : 1414 مادة ( قذف ) .
-----------
( 7 ) سبأ : 53 .
[ 365 ]
« و رجما بظن مصيب » نقله ( ابن أبي الحديد ) : بظن غير مصيب ، و قال و روي بظن مصيب و قال ابن ميثم في نسخة الرضي « بظن مصيب » 1 و في أكثر النسخ غير مصيب .
قلت : لم أفهم معنى القائه التعارض بين نسخة المصنف و نسخ غيره ،
فإنّ غيرها لو كانت مائة لا تقاوم نسخته لكونها الأصل في الكتاب ، و إنّما يمكن الخدش في نقل المصنف بالوقوف على مستنده و عدم مطابقة نقله له .
قال ابن ميثم كونه رجما بظن غير مصيب هو المناسب لقوله قبل « بغيب بعيد » لأنّ ما يقال عن غيب بعيد قلما يصيب ظنّه 2 .
قلت : إذا كان قذفه بغيب بعيد في قوله : لأَزيّننَّ لهم في الأرض و لأَغوينَّهم 3 و كان ذاك قذفا صحيحا كما قال تعالى : و لَقَد صَدَّقَ عليهم إِبليس ظَنّهُ فاتَّبعوه 4 و قال عليه السّلام « صدقه به ابناء الحمية . . . » لم يصحّ ما قال .
و بالجملة قذف إبليس هذا و رجمه كان صوابا ، فلم يقال بظن غير مصيب ، و إن كان الغالب على الظن في غيره الخطأ كما في إنكار الكفّار الصانع و البعث ظنّا .
« صدّقه به أبناء الحميّة » أي : الأنفة عن الانقياد للحق .
« و اخوان العصبية » الذين يعينون قومهم على الظلم .
و عن النبي صلّى اللَّه عليه و آله : من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من عصبية بعثه اللَّه تعالى مع أعراب الجاهلية 5 .
-----------
( 1 ) انظر شرح ابن أبي الحديد 13 : 141 و شرح ابن ميثم 4 : 251 ، النسخة الخطية ، « بظن مصيب » : 181 ( المرعشي ) .
-----------
( 2 ) شرح ابن ميثم 4 : 251 .
-----------
( 3 ) الحجر : 39 .
-----------
( 4 ) سبأ : 20 .
-----------
( 5 ) الكليني ، الأصول 2 : 308 ح 3 ، و أورده الصدوق ، ثواب الأعمال و عقابها 2 : 264 ح 5 .
[ 366 ]
و عن الصادق عليه السّلام : من تعصب عمّمه اللَّه تعالى بعمامة من نار 1 .
« و فرسان الكبر و الجاهلية » قالوا : كان جذيمة الأبرش لا ينادم أحدا ذهابا بنفسه و ينادم الفرقدين ، فإذا شرب قدحا صبّ لهذا قدحا و لهذا قدحا 2 ، و كان عامر بن عامر مزّيقا يلبس كلّ يوم حلّتين و يمزّقهما غدا يكره أن يعود فيهما و يأنف أن يلبسهما غيره .
« حتى إذا انقادت له الجامحة منكم » الجموح : الذي يركب هواه فلا يمكن ردّه ، و الأصل فيه الدّابّة .
« و استحكمت الطماعيّة » بالتخيف مصدر ( طمع ) كالطماعة .
« فنجمت الحال » أي : ظهرت و طلعت .
« من السرّ الخفيّ إلى الأمر الجليّ » و في الخبر عن أبي جعفر عليه السّلام : كان قوم لوط أفضل قوم خلقهم اللَّه تعالى فطلبهم إبليس الطّلب الشديد ، و كانوا إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم و كانوا إذا رجعوا خرب إبليس ما يعملون ، فقال بعضهم لبعض : نرصد هذا الذي يخرّب متاعنا ، فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان ، فقالوا له : أنت الذي تخرّب متاعنا . قال :
نعم . فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه ، فبيّتوه عند رجل ، فلمّا كان الليل صاح فقال :
مالك ؟ قال : كان أبي ينوّمني على بطنه ، فنوّمه على بطنه فلم يزل يدلك الرجل حتى علمه أن يعمل بنفسه ، فأوّلا عمله إبليس و الثانية عمله هو ، ثم انسلّ ففر منهم فأصبحوا فجعل الرجل يخبرهم بما فعل الغلام و يعجبهم منه شيئا لا يعرفونه ، فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بعضهم ببعض ، ثم جعلوا يرصدون مارّ الطريق ، ثم تركوا نساءهم و أقبلوا على الغلمان ، فلمّا رأى إبليس
-----------
( 1 ) الكافي للكليني 2 : 308 ح 4 و أورده الصدوق بلفظ « عصبه اللَّه بعصابة » انظر ثواب الأعمال و عقابها 2 : 263 ح 3 .
-----------
( 2 ) و الفرقدان هما مالك و عقيل : انظر الكامل 3 : 124 .
[ 367 ]
أنّه قد أحكم أمره في الرجال دار إلى النساء فصيّر نفسه امرأة ثم قال رجالكن يفعل بعضهم ببعض . قالوا : نعم قد رأينا ذلك و يعظهم لوط ، فعلّمهنّ السحق حتى اكتفت النساء بالنساء إلى أن قال : قال لوط لجبرئيل و ميكائيل و إسرافيل : بم أمركم ربّي فيهم ؟ قال أمرنا أن نأخذهم بالسّحر . قال :
تأخذونهم الساعة . قالوا : إنّ موعدهم الصبح أَليس الصبح بقريب 1 . إلى أن قال : و قال تعالى لنبيه صلّى اللَّه عليه و آله : و ما هي من الظالمين ببعيد 2 من ظلمة امتك إن عملوا ما عمل قوم لوط 3 .
و في خبر عنه عليه السّلام : اللّواط ما دون الدبر ، و الدبر هو الكفر 4 .
« استفحل سلطانه عليكم » روى ( الخصال ) عن الصادق عليه السّلام ، أن إبليس يقول لجنوده : إذا استمكنت من ابن آدم في ثلاث : إذا استكثر عمله و نسي ذنبه و دخله العجب ، لم أبال بما عمل فإنّه غير مقبول منه 5 .
هذا و « استفحل » جواب لقوله : « إذا انقادت » .
« و دلف » أي : تقدم .
« بجنوده نحوكم » روى ( الفقيه ) عن الباقر عليه السّلام أنّ إبليس إنّما يبثّ جنود ليله من حين تغيب الشمس إلى مغيب الشفق ، و يبث جنود نهاره من حين يطلع الفجر إلى مطلع الشمس ، و كان النبي صلّى اللَّه عليه و آله يقول : أكثروا ذكر اللَّه تعالى في هاتين الساعتين ، و تعوّذوا باللَّه تعالى من شر إبليس و جنوده ، و عوّذوا
-----------
( 1 ) هود : 81 .
-----------
( 2 ) هود : 83 .
-----------
( 3 ) الكافي للكليني 5 : 544 ح 5 ، و كذا الصدوق في ثواب الأعمال و عقابها 2 : 216 ح 1 ، و نقله نعمة اللَّه الجزائري في قصص الأنبياء : 161 .
-----------
( 4 ) عن أمير المؤمنين عليه السّلام أخرجه الكليني 5 : 544 ح 3 .
-----------
( 5 ) الخصال 1 : 112 ح 86 .
[ 368 ]
صغاركم في هاتين الساعتين فإنّهما ساعتا غفلة 1 .
« فأقحموكم و لجات الذلّ » أي : أدخلوكم قهرا كإدخال الراكب مركوبه مداخل الذلّة .
« و أحلّوكم ورطات القتل » أي : أنزلوكم مهالك مؤدّية إلى القتل .
« و أوطأوكم إثخان الجراحة » أي : إكثارها ، قال ابن أبي الحديد يعني جعلوكم واطئين لذلك 2 .
قلت : بل يعني جعلوكم موطئين للإثخان كما في قولك أوطأته دابتي ،
فالدابة واطئة و الخصم موطوء ، و كون الإثخان واطئا لهم استعارة من قبيل قوله تعالى فصب عليهم ربّك سوط عذاب 3 .
مع ان على قول ابن أبي الحديد : لا معنى للكلام ، فإذا كانوا واطئين للإثخان أيّ نقص في ذلك حتى يكون من قبيل « فأقحموكم و لجات الذل و أحلّوكم و رطات القتل » .
هذا ، و أغرب الخوئي 4 فقال « اثخان » مفعول أول « لأوطؤكم » كما في قولك أعطيت درهما زيدا أي جعلوا اثخان الجراحة واطئا لهم ، لا أنّه جعلهم واطئين له على أنّه مفعول ثان كما توهّم ( ابن أبي الحديد ) فإنّه لا ريب في أنّ « كم » مفعول أول و أنّ المعنى عليه جعل الاثخان واطئا لهم 5 .
هذا ، و في ( الجمهرة ) الوطو يهمز و لا يهمز « وطيت » و « وطئت » 6 .
-----------
( 1 ) الفقيه 1 : 501 ح 1440 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 142 .
-----------
( 3 ) الفجر : 13 .
-----------
( 4 ) شرح الخوئي 11 : 284 .
-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 142 .
-----------
( 6 ) جمهرة اللغة لابن دريد 1 : 46 .
[ 369 ]
« طعنا في عيونكم » أي : يعمونكم لأن الطعن في العين يوجب عماها .
« و حزّا في حلوقكم » و حزّ الحلق أي : قطعه يوجب الهلاك .
« و دقّا لمناخركم » أي : انوفكم .
« و قصدا لمقاتلكم » مقاتل الإنسان المواضع التي إذا أصيبت قتلته .
« و سوقا لخزائم القهر إلى النّار المعدّة لكم » قال الجوهري : الخزامة حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير يشدّ بها الزمام ، و يقال لكل مثقوب :
مخزوم 1 .
قال ابن أبي الحديد نسبته عليه السّلام الطعن إلى العيون ، و الحزّ و هو الذبح إلى الحلوق ، و الدقّ و هو الصدم الشديد إلى المناخر من صناعة الخطابة التي علّمها اللَّه تعالى إيّاه بلا تعليم ، و تعلّمها الناس كلّهم بعده منه عليه السّلام . و قال أيضا : طعنا و حزّا و دقّا و قصدا و سوقا مفعول مطلق و العامل فيها محذوف ،
و من روى « و أوطأوكم لاثخان الجراحة » يجعلها مفعولا به . و ينبغي أن يكون « قصدا و سوقا » خالصين للمصدرية ، لأنّه يبعد أن يكون مفعولا به 2 .
و قال الخوئي يجوز جعل الخمسة مفعولا مطلقا ، و أن يكون طعنا و حزّا و دقّا بدلا من اثخان و قصدا و سوقا مفعولا مطلقا 3 .
قلت : يرد على كلّ منهما أنّ التفريق بين الخمسة غلط لأن الكلّ على سياق واحد ، و على الأول انّه لا معنى لجعلها مفعولا بها لاوطأوكم ، فأي معنى أن يقال « أوطأكم طعنا في عيونكم » الخ . و على الثاني أيضا ذلك بجعل الثلاثة بدلا من « اثخان » .
-----------
( 1 ) الصحاح للجوهري 15 : 1911 مادة ( خزم ) ، و في الكتاب العين : الخزامة ، برة في أنف الناقة يشدّ فيها الزّمام 4 : 212 مادة ( خزم ) .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 143 .
-----------
( 3 ) شرح الخوئي 11 : 284 .
[ 370 ]
ثم إنّه لم يتعيّن كونها مفعولات مطلقات ، فيحتمل كونها تميّزات أو حالات على كون المصدر بمعنى اسم الفاعل أو مفعولا لها لأوطأوكم و أحلّوكم و أقحموكم .
« فأصبح أعظم في دينكم جرحا » أصبح من الأفعال الناقصة ، و اسمه ضمير إبليس ، و « أعظم » خبره و هو اسم تفضيل كالمعطوف عليه « و أورى » بقرينة قوله بعد « من الذين . . . » . و يجوز أن يكون « أعظم » كمعطوفه حالا مغنيا عن الخبر كقولهم « أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما » ، و هو الأقرب معنى ،
قال تعالى : و لقد أَضلَّ منكم جبّلاً كثيراً أَفلم تكونوا تعقلون 1 .
« و أورى في دنياكم قدحا » أي : أوقد فيها نارا ، و إحراق إبليس لدنياهم فضلا عن دينهم لأنّ من يتعرّض بلا سبب للمعارضة مع الناس و يتبع العصبيات لا بدّ أن يصرف أمواله بلا فائدة و لا يفرغ لتحصيل عائدة فتصير دنياه أيضا بائدة .
و قال ابن أبي الحديد : إن قيل هل يفسد إبليس أمر الدنيا كالدين 2 ؟ قلت :
نعم ، ألا ترى إذا أغرى السارق بالسرقة أفسد حال السارق من جهة الدين و المسروق من جهة الدنيا ، و كذلك القول في الغصب و القتل .
قلت : هو كما ترى ، فإنّه عليه السّلام خاطب المطيعين لإبليس بإفساده لدنياهم ،
و المسروق منه و المغصوب منه و المقتول يمكن أن يكون من الأنبياء و الأولياء ليس لابليس عليهم سبيل .
« من الذين » متعلق باسم التفضيل « أعظم » و « أورى » .
« أصبحتم لهم مناصبين » من « ناصبته الحرب » .
-----------
( 1 ) يس : 62 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 143 .
[ 371 ]
« و عليهم متألّبين » أي : مجتمعين .
و إنّما كان إبليس أفسد لدنياهم ممّن كانوا يحاربونهم لأنّهم لم تكن لم عداوة ثابتة بل عصبية و جهالة ، فقالوا في سبب خطبته عليه السّلام : إنّ في آخر خلافته : لمّا تضعضع أمر حكومته عليه السّلام أخيرا بالخوارج و غارات معاوية و كذلك حال الغوغاء و العامة عند ضعف الدول يخرج الرجل من قبيلته فيمرّ بقبيلة اخرى فينادي باسم قبيلته عاليا قصدا لإثارة الشرّ فيتألب عليه فتيان الحيّ الذي مرّ عليهم 1 .
« فاجعلوا عليه حدكم » أي : بأسكم و شدتكم .
« و له جدكم » أي : سعيكم و اجتهادكم .
« فو اللَّه لقد فخر على أصلكم » في ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : لمّا مات آدم شمت به إبليس و قابيل فاجتمعا في الأرض فجعلا المعارف و الملاهي شماتة بآدم ، فكل ما كان في الأرض من هذا الضرب الذي يتلذذ به الناس فإنّما هو من ذاك 2 .
« و وقع في حسبكم و دفع في نسبكم » قال الأزهري : الحسب مأخوذ من الحساب و هو عدّ المناقب ، لأنّهم كانوا إذا تفاخروا حسب كلّ واحد مناقبه و مناقب آبائه 3 .
و قال ابن السّكّيت : الحسب و الكرم يكونان في الرجل و ان لم تكن له آباء شرف ، و الشرف و المجد لا يكونان إلاّ بالآباء 4 . يشهد له قول الشاعر :
و من كان ذا نسب كريم و لم يكن له
حسب كان اللئيم المذمما
-----------
( 1 ) انظر مروج الذهب للمسعودي فقد ذكر وصفا لهذه الظاهرة 2 : 418 .
-----------
( 2 ) الكافي للكليني ، أخرجه عن سماعة 6 : 341 ح 3 .
-----------
( 3 ) الصحاح للجوهري 1 : 110 .
-----------
( 4 ) المصدر نفسه .
[ 372 ]
ففرّق بين الحسب و النسب .
و كيف كان قال تعالى قال ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك قال أَنا خيرٌ منه خلقتني من نارٍ و خلقته من طين 1 .
« و أجلب بخيله عليكم » قال : فبما أغويتني لأَقعدن لهم صراطك المستقيم . ثم لآتينّهم من بين أَيديهم و من خلفهم و عن أَيمانهم و عن شمائلهم و لا تجد أَكثرهم شاكرين 2 .
و عن شقيق البلخي 3 : ما من صباح إلاّ قعد لي الشيطان على أربعة مراصد من بين يديّ و من خلفي و عن يميني و عن شمالي ، أمّا من بين يديّ فيقول : لا تخف فإنّ اللَّه غفور رحيم فأقرأ و إِنّي لغفّار لمن تاب و آمن و عمل صالحاً ثم اهتدى 4 ، و أمّا من خلفي فيخوّفني الضّيعة على مخلفي فأقرأ و ما من دابّة في الأَرض إلاّ على اللَّه رزقها 5 ، و اما من قبل يميني فيأتيني من جهة الثناء فأقرأ و العاقبة للمتقين 6 ، و أمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ و حيل بينهم و بين ما يشتهون 7 .
( يقتنصونكم بكلّ مكان ) أي : يصيدونكم .
روى ( المحاسن ) عن الصادق عليه السّلام : أنّ إبليس ظهر ليحيى عليه السّلام و إذا
-----------
( 1 ) الأعراف : 12 .
-----------
( 2 ) الأعراف : 16 17 .
-----------
( 3 ) هو أبو علي البلخي ترجم له ابن نعيم في حلية الأولياء 6 : 58 برقم ( 403 ) و ترجم له ابن خلّكان في وفيات الأعيان 2 : 475 ، و ترجم له آخرون لم يأتوا على ذكر النصّ ، و ترجم له العلاّمة التستري في قاموس الرجال 5 : 434 برقم ( 3584 ) . و جاء على ذكر النصّ لكنّه لم يشر إلى المصدر .
-----------
( 4 ) طه : 82 .
-----------
( 5 ) هود : 6 .
-----------
( 6 ) الأعراف : 128 .
-----------
( 7 ) سبأ : 54 .
[ 373 ]
عليه معاليق من كلّ شيء ، فقال يحيى : ما هذه ؟ قال : هذه الشهوات التي أصبتها من ابن آدم . فقال : هل لي منها شيء ؟ فقال : ربما شبعت فثقلت عن الصلاة و الذكر . قال : للَّه عليّ ألاّ أملأ بطني من طعام أبدا . فقال إبليس : للَّه عليّ ألاّ أنصح مسلما أبدا . ثم قال الصادق عليه السّلام : للَّه على جعفر و آل جعفر ألاّ يملأوا بطونهم من طعام أبدا ، و للَّه على جعفر و آل جعفر ألا يعملوا للدنيا أبدا 1 .
« و يضربون منكم بكل بنان » أي : أطراف الأصابع و قال لأَتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً . و لاُضلنّهم و لاُمنِّينَّهم و لآمرنّهم فليبتّكنّ آذان الأنعام و لآمرنهم فليغيرنّ خلق اللَّه و من يتخذ الشيطان وليّاً من دون اللَّه فقد خسر خسراناً مبينا 2 .
« لا تمتنعون بحيلة » و إنّهم ليصدَّونهم عن السبيل و يحسبون أَنّهم مهتدون 3 .
« و لا تدفعون بعزيمة » و ما كان لي عليكم من سلطانٍ إلاّ أن دعوتكم فاَستجبتم لي 4 .
« في حومة ذل » أي : مجتمعة .
« و حلقة ضيق » الحلقة بالتسكين و عن أبي عمرو ابن العلا بالتحريك .
« و عرصة موت » قال الجوهري : كلّ بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء عرصة 5 .
« و جولة بلاء » قال ابن ميثم : الحومة و الحلقة و العرصة و الجولة ألفاظ
-----------
( 1 ) البرقي في المحاسن : 439 ح 298 ، و أورده الطبرسي من حديث سليمان بن إبراهيم : 338 من الأمالي .
-----------
( 2 ) النساء : 118 119 .
-----------
( 3 ) الزخرف : 38 .
-----------
( 4 ) إبراهيم : 22 .
-----------
( 5 ) الصحاح للجوهري 2 : 1044 مادة ( عرص ) .
[ 374 ]
كنى بها عن الدّنيا إذ كانت محل ذلّهم و الضيق عليهم و عرصة موتهم و مظنة بلائهم ، تبعه الخوئي 1 .
قلت : بل لا ربط لها بالدّنيا ، و إنّما هي من تتمّة ذكر حملة إبليس عليهم ،
و المراد بها أنّ العدوّ إذا كان في غاية القوة و كمال العدة و الشخص في منتهى قلّة الحيلة كيف يكون حاله .
« فأطفئوا ما كمن » أي : استتر « في قلوبكم من نيران العصبية » النيران جمع للنار .
و في ( الكافي ) عن الباقر عليه السّلام : إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم ، و إنّ أحدكم إذا غضب احمرّت عيناه و انتفخت أوداجه و دخل الشيطان فيه ، فإذا خاف أحدكم ذلك من نفسه فليلزم الأرض ، فإنّ رجس الشيطان يذهب عنه عند ذلك 2 .
« و أحقاد الجاهلية » قال النبي صلّى اللَّه عليه و آله من كان في قلبه مثقال حبة خردل من الكبر بعثه اللَّه تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية 3 .
« فإنّما تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان » المسلم يجب أن يكون كما قال نهار بن توسعة :
أبي الإسلام لا أب لي سواه
إذا افتخروا بقيس أو تميم 4
و إنّما الحميّة للكافر قال تعالى : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميّة حميّة الجاهليّة 5 .
-----------
( 1 ) شرح ابن ميثم 4 : 255 ، شرح الخوئي 11 : 291 .
-----------
( 2 ) الكافي للكليني 2 : 304 ح 12 .
-----------
( 3 ) الحديث بلفظ « عصبية » و ليس « الكبر » اصول الكافي 2 : 308 ح 3 .
-----------
( 4 ) الكامل للمبرّد 3 : 908 .
-----------
( 5 ) الفتح : 26 .
[ 375 ]
« و نخواته و نزعاته » أي : افساداته .
في ( الطبري ) قال الشعبي : أوّل ما نزغ به الشيطان بين أهل الكوفة و هو أول مصر نزع الشيطان بينهم في الإسلام أنّ سعد بن أبي وقّاص استقرض من عبد اللَّه بن مسعود من بيت المال مالا فأقرضه ، فلمّا تقاضاه لم يتيسّر عليه ، فارتفع بينهما الكلام حتى استعان ابن مسعود بأناس من الناس على استخراج المال و استعان سعد بأناس من الناس على استنظاره ، فافترقوا و بعضهم يلوم بعضا يلوم هؤلاء سعدا و هؤلاء عبد اللَّه 1 .
« و نفثاته » من نفث في العقدة عند الرقي و هو البصاق اليسير 2 .
« و اعتمدوا وضع التذلل على رؤوسكم و القاء التعزز تحت أقدامكم » روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : ان في السماء ملكين موكلين بالعباد ، فمن تواضع للَّه رفعاه و من تكبّر وضعاه 3 .
« و خلع التكبر من أعناقكم » روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : ان النجاشي أرسل إلى جعفر بن أبي طالب و أصحابه أي لمّا كانوا بالحبشة عنده و هو في بيت له جالس على التراب و عليه خلقان الثياب ، فأشفقوا منه حين رأوه على تلك الحال ، فلمّا رأى ما بهم و تغيّر وجوههم قال : الحمد للَّه الذي نصر محمّدا و أقرّ عينه ، ألا ابشّركم إنّه جاءني الساعة عين من عيوني من نحو أرضكم فأخبرني أنّ اللَّه تعالى نصر محمدا صلّى اللَّه عليه و آله و أهلك عدوّه و أسر فلان و فلان و فلان التقوا بواد يقال له بدر كثير الأراك لكأنّي أنظر إليه حيث كنت أرعى لسيدي و هو رجل من بني ضمرة هناك . فقال له جعفر : أيها الملك فلم
-----------
( 1 ) تاريخ الأمم و الملوك للطبري 2 : 595 .
-----------
( 2 ) الصحاح للجوهري 1 : 295 مادة ( نفث ) .
-----------
( 3 ) الكافي 2 : 122 ح 2 ، أخرجه عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه . . عن معاوية بن عمار .
[ 376 ]
أراك جالسا على التراب و عليك هذه الخلقان . فقال : يا جعفر إنّا نجد فيما أنزل اللَّه على عيسى عليه السّلام ان من حق اللَّه على عباده أن يحدثوا له تواضعا عندما يحدث لهم من نعمة ، فلمّا أحدث اللَّه لي نعمة بمحمّد أحدثت للَّه هذا التواضع ،
فلمّا بلغ النبي صلّى اللَّه عليه و آله قوله قال : إنّ التواضع يزيد صاحبه رفعة ، فتواضعوا يرفعكم اللَّه 1 .
« و اتخذوا التواضع مسلحة بينكم و بين عدوّكم » المسلحة كالثغر .
و في الخبر : كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب 2 .
« فإنّ له من كلّ امة جنودا و أعوانا و رجلا و فرسانا » روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : الكبر رداء اللَّه ، فمن نازعه تعالى رداءه لم يزده تعالى إلاّ سفالا ،
و إن النبي صلّى اللَّه عليه و آله مرّ في بعض طرق المدينة و سوداء تلقط السرقين فقيل لها تنحّي عن طريق النبي فقالت : ان الطريق لمعرض فهمّ بعض القوم أن يتناولوها فقال صلّى اللَّه عليه و آله : دعوها فإنّها جبارة 3 .
إلى أن قال عليه السّلام بعد ذكر قابيل و كبره على أخيه و حسده له و قد مرّ في فصل آدم .
« ألا و قد أمعنتم في البغي » روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام ان إبليس يقول لجنوده : ألقوا بينهم الحسد و البغي فإنّهما يعدلان عن اللَّه تعالى الشرك 4 .
و عن النبي صلّى اللَّه عليه و آله ، إنّ أعجل الشرّ عقوبة ، البغي . هذا و الإمعان التباعد في العدو 5 .
-----------
( 1 ) الكافي 2 : 121 ح 1 ، أخرجه علي بن إبراهيم عن مسعدة بن صدقة .
-----------
( 2 ) الصحاح للجوهري 1 : 376 ، مادة ( سلح ) .
-----------
( 3 ) الكافي ، 2 : 309 الكتاب 5 الباب 124 .
-----------
( 4 ) الكافي 2 : 327 ، الكتاب 5 ، الباب 133 .
-----------
( 5 ) الصدوق ، ثواب الأعمال و عقابها 2 : 325 ، ح 4 عن عبد اللَّه بن ميمون .
[ 377 ]
« و أفسدتم في الأرض » و هو من أبغض الأشياء عنده تعالى ، حكى تعالى عن شعيب لقومه و لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم مؤمنين 1 و قال تعالى : فهل عسيتم إِن توليتم أَن تفسدوا في الأرض و تقطّعوا أَرحامكم 2 و لا تفسدوا في الأَرض بعد إِصلاحها و ادعوه خوفاً و طمعاً إِن رحمة اللَّه قريب من المحسنين 3 .
« مصارحة للَّه » أي : مواجهة له .
« بالمناصبة » أي : نصب الحرب .
« و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة » روى ( عقاب الأعمال ) عن الصادق عليه السّلام :
ان اللَّه تعالى يقول : ليأذن بحرب منّي من أذلّ عبدي المؤمن 4 .
و عنه عليه السّلام : إنّ اللَّه عز و جل خلق المؤمنين من نور عظمته و جلال كرامته ، فمن طعن عليهم أو ردّ عليهم فقد ردّ على اللَّه في عرشه و ليس من اللَّه في شيء إنّما هو شرك الشيطان 5 .
و عن الباقر عليه السّلام : قال النبي صلّى اللَّه عليه و آله سباب المؤمن فسوق و قتاله كفر و أكل لحمه معصية اللَّه 6 .
« فاللَّه اللَّه في كبر الحمية و فخر الجاهلية » كما قال المساور بن هند :
ما سرّني أنّ امّي من بني أسد
و أنّ ربّي ينجّيني من النار 7
-----------
( 1 ) الأعراف : 85 .
-----------
( 2 ) محمد : 22 .
-----------
( 3 ) الأعراف : 56 .
-----------
( 4 ) عقاب الأعمال ، للشيخ الطوسي ، عن بعض أصحابه سمعته يقول : قال اللَّه عز و جل ليأذن بحرب منّي من أذلّ عبدي المؤمن و ليأمن من غضبي من أكرم عبدي المؤمن : 23 .
-----------
( 5 ) المصدر نفسه .
-----------
( 6 ) ثواب الأعمال و عقابها للصدوق 2 : 287 ح 2 .
-----------
( 7 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 4 : 13 .
[ 378 ]
« فإنّه ملاقح الشنآن » أي : البغض ، و الشنآن هنا بتسكين النون ليكون قرينة للشيطان في قوله بعد « و منافخ الشيطان » و قالوا يجوز فيه التحريك كما قالوا يجوز فيه سقوط الهمز . و أما الملاقح فقال ابن أبي الحديد : قال الراوندي هي الفحول التي تلقح ، و ليس بصحيح ، نص الجوهري على أن الوجه لواقح كما في قوله تعالى : و أرسلنا الرياح لواقح . . . 1 و قال هو من النوادر ،
لأن الماضي رباعي ، و الصحيح ان ملاقح ههنا جمع ملقح و هو المصدر من لقحت كضربت مضربا و شربت مشربا 2 .
قلت : ما قاله الراوندي أيضا نص الجوهري ، و ليت ابن أبي الحديد لم يقتصر على مراجعة صدر كلام الجوهري و راجع ذيل كلامه « الملاقح الفحول الواحد ملقح » 3 حتى لا يعترض على الراوندي اعتراضا ساقطا .
ثم ليس في كلامي الجوهري تضادّ ، فإنّ صدر كلامه في قولهم « ألقحت الرياح السحاب » فلا يقال الرياح ملاقح بل لواقح ، و ذيله في قولهم « ألقحت الفحول الناقة فالفحول ملاقح و لا يقال لواقح . و مثله ابن دريد فقال : ألقحها الفحول فهي ملقح و الجمع ملاقح ، ألقحت الريح السحاب إذا جمعته ، و تركوا القياس في هذا الباب فقالوا رياح لواقح و لم يقولوا ملاقح و هو الأصل .
و ممّا ذكرنا يظهر لك أن قول الفيروزآبادي : ألقحت الرياح الشجر فهي لواقح و ملاقح 4 و خلط فقد عرفت انّهم لا يقولون رياح ملاقح بل فحول ملاقح و استند الخوئي إليه غفلة 5 .
-----------
( 1 ) الحجر : 22 .
-----------
( 2 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13 : 147 .
-----------
( 3 ) الصحاح للجوهري 1 : 401 ، مادة ( لقح ) .
-----------
( 4 ) قاموس المحيط للفيروزآبادي 1 : 247 مادة ( لقح ) .
-----------
( 5 ) شرح الخوئي 11 : 304 .
[ 379 ]
ثم قول ابن أبي الحديد : و الصحيح أنّ « ملاقح » في كلامه جمع ملقح المصدر الميمي ، ليس بصحيح فإنّ المعنى المصدري ليس بمناسب هنا بل المعنى الوصفي ، كما ان تمثيله بقوله : « ضربت مضربا و شربت مشربا » أيضا غير معلوم صحته ، لأنّه لم يعلم استعمال العرب للمضرب و المشرب بمعنى المصدر بل بمعنى المكان و الزمان ، و إنّما قالوا في المصدر الضرب و الشرب 1 .
ثم إنه كما يمكن ان يكون معنى كلامه عليه السّلام : « فإنّه ملاقح الشنآن » كون فخر الجاهلية من فحول تلقح الشنآن كما قاله الراوندي ، كذلك يمكن أن يكون معناه كونه من حوامل تلدن الشنآن ، فقال الجوهري : و الملاقح أيضا الإناث التي في بطونها أولادها ، الواحدة ملقحة بفتح القاف .
« و منافخ الشيطان » قال ابن أبي الحديد المنافخ جمع منفخ مصدر نفخ 2 .
قلت : بل جمع المنفاخ ، أي : الذي ينفخ به ، أو جمع المنفخ بمعناه . قال الفيّومي : المنفخ و المنفاخ الذي ينفخ به .
« التي خدع بها الامم الماضية و القرون الخالية » القرن من الناس أهل زمان واحد ، قال الشاعر :
إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم
و خلّفت في قرن فأنت غريب 3
و « الخالية » الماضية ، و قال تعالى : و زين لهم الشيطان أعمالهم فصدّهم عن السبيل و كانوا مستبصرين 4 .
« حتى أعنقوا » قال الفيّومي : العنق بفتحتين ضرب من السير فسيح
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 147 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 147 .
-----------
( 3 ) الصحاح للجوهري 6 : 2180 مادة ( قرن ) .
-----------
( 4 ) العنكبوت : 38 .
[ 380 ]
سريع و هو اسم من أعنق إعناقا 1 .
« في حنادس » أي : ظلمات .
« جهالته » أي : الشيطان « و مهاوي ضلالته » المهواة ما بين الجبلين أو الوهدة العميقة .
« ذللا » بضمتين جمع ذلول بالفتح .
« عن سياقه » أي : سوق الشيطان .
« سلسا » بضمتين جمع سلس بالفتح فالكسر أي : المنقاد .
« في قياده » في الخبر ان النبي صلّى اللَّه عليه و آله رأى أبا سفيان راكبا و يزيد ابنه يقوده و معاوية ابنه الآخر يسوقه ، فقال صلّى اللَّه عليه و آله : لعن اللَّه الراكب و القائد و السائق 2 .
« أمرا تشابهت القلوب فيه » الأصل فيه قوله تعالى و قال الذين لا يعلمون لو لا يكلمنا اللَّه أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم قد بيّنّا الآيات لقوم يوقنون 3 .
قال ابن أبي الحديد : « أمرا » منصوب باعتمدوا محذوف ، و تبعه ابن ميثم 4 .
و قال الخوئي : بل بنزع الخافض متعلق بقوله « أعنقوا » أي : أسرعوا إلى أمر تشابهت القلوب فيه 5 .
قلت : و كلّ منهما بلا معنى ، فإنّهم لم يعتمدوا و لم يسرعوا إلى أمر بذاك
-----------
( 1 ) المصباح المنير للفيّومي 2 : 592 .
-----------
( 2 ) بحار الأنوار 33 : 208 رواية 492 . و أخرجه الطبراني في الجزء 3 : 71 بلفظ العن السائق و الراكب .
-----------
( 3 ) البقرة : 118 .
-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 4 : 260 ، و شرح ابن أبي الحديد 13 : 148 .
-----------
( 5 ) شرح الخوئي 11 : 302 .
[ 381 ]
الوصف ، و إنّما عملوا عملا كان بذاك الوصف ، و نزع الخافض يحتاج إلى قرينة و ليست .
و الصواب كونه خبرا لكان محذوف ، و حذف كان مع اسمها و إبقاء خبرها و لو غير بعد « أن » و « لو » كثير ، كقوله تعالى تنزيل العزيز الرحيم 1 و قول الشاعر :
من لدن شولا فالى اتلائها 2
« و تتابعت القرون عليه » يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسولٍ إلاّ كانوا به يستهزؤن 3 .
« و كبراً تضايقت الصدور به » و من يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيّقاً حرجاً كأنّما يصَّعَّد في السماء 4 .
قال ابن أبي الحديد : و « كبرا » عطف على امرا أو منصوب على المصدر ،
بأن يكون اسما واقعا موقعه كالعطاء موضع الإعطاء 5 .
قلت : بل لا ريب في كونه عطفا صونا لنسق الكلام .
« ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم » قيل : إشارة إلى قوله تعالى :
ربنا إِنّا أطعنا سادتنا و كبراءنا فأَضلّونا السبيلا 6 .
« الذين تكبّروا عن حسبهم و ترفّعوا فوق نسبهم » قال النبي صلّى اللَّه عليه و آله كلّكم من
-----------
( 1 ) يس : 5 .
-----------
( 2 ) لسان العرب 7 : 241 « من له شولا » لذي الرمة .
-----------
( 3 ) يس : 30 .
-----------
( 4 ) الأنعام : 125 .
-----------
( 5 ) شرح ابن أبي الحديد 13 148 .
-----------
( 6 ) الأحزاب : 67 .
[ 382 ]
آدم و آدم من تراب 1 .
و في ( تذكرة سبط ابن الجوزي ) 2 : كانت بنو امية تنقص عليّا عليه السّلام باسم أبي تراب الذي سمّاه به النبي صلّى اللَّه عليه و آله مدّة ولايتهم ، و كانوا يستهزئون به و قد قال تعالى قل أَباللَّه و آياته و رسله كنتم تستهزؤن 3 .
و جاء رجل إلى سهل الساعدي فقال : هذا فلان يذكر عليّا . فقال : ما يقول ؟ قال : يقول أبو تراب و يلعنه ، فغضب سهل و قال : و اللَّه ما كنّاه به إلاّ النبي صلّى اللَّه عليه و آله و ما كان اسم أحب إليه منه ، خرج علي عليه السّلام إلى المسجد فاضطجع على التراب فسقط رداؤه و خلص التراب إلى ظهره ، فجاء النبي صلّى اللَّه عليه و آله فمسح التراب عن ظهره و قال : إجلس أبا تراب 4 .
و روى الكشي مسندا عن أبي جعفر عليه السّلام قال : جلس عدّة من الصحابة ينتسبون و فيهم سلمان الفارسي ، فسأله عمر عن نسبه و أصله ، فقال : أنا سلمان ابن عبد اللَّه كنت ضالاّ فهداني اللَّه بمحمد ، و كنت عائلا فأغناني اللَّه بمحمد ، و كنت مملوكا فأعتقني اللَّه بمحمد ، هذا حسبي و نسبي . ثم خرج النبي صلّى اللَّه عليه و آله فحدّثه سلمان بذلك و شكا إليه ما لقي من القوم و ما قال لهم ، فقال النبي صلّى اللَّه عليه و آله : يا معشر قريش إن حسب الرجل دينه ، و مروّته خلقه ، و أصله عقله ، قال تعالى : إنّا خلقناكم من ذكر و اُنثى و جعلناكم شعوباً و قبائل لتعارفوا إنّ أَكرمكم عند اللَّه أتقاكم 5 يا سلمان ليس لأحد من هؤلاء عليك
-----------
( 1 ) تحف العقول : 24 ، و ورد عن الربيع بن حبيب في مسنده 2 : 8 كلّكم لآدم و آدم من تراب .
-----------
( 2 ) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي هذا القول و نسبه إلى الحاكم أبي عبد اللَّه النيسابوري : 5 .
-----------
( 3 ) التوبة : 65 .
-----------
( 4 ) تاريخ الأمم و الملوك للطبري 2 : 409 .
-----------
( 5 ) الحجرات : 13 .
[ 383 ]
فضل إلاّ بتقوى اللَّه و إن كان التقوى لك فأنت أفضلهم 1 .
« و القوا الهجينة على ربّهم » قال الفيومي : الهجنة في الكلام ، العيب و القبح ،
و الأصل في الهجنة بياض الروم و الصقالبة 2 . قال تعالى : إنّا جعلنا الشياطين أَولياء للذين لا يؤمنون . و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا و اللَّه أَمرنا بها قل إِنّ اللَّه لا يأمر بالفحشاء أتقولون على اللَّه ما لا تعلمونَ قل أَمر ربي بالقسط و أَقيموا وجوهكم عند كلّ مسجدٍ و ادعوه مخلصين له الدين 3 .
« و جاحدوا اللَّه على ما صنع بهم » و جحدوا بها و استيقنتها أَنفسهم ظلماً و علوّاً 4 .
« مكابرة لقضائه و مغالبة لآلائه » أي : لنعمائه و اللَّه جعل لكم من بيوتكم سكناً و جعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم و يوم إِقامتكم و من أصوافها و أوبارها و أشعارها أَثاثاً و متاعاً إلى حين . و اللَّه جعل لكم ممّا خلق ظلالاً و جعل لكم من الجبال أكناناً و جعل لكم سرابيل تقيكم الحرّ و سرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتمّ نعمته عليكم لعلّكم تسلمون . فإن تولّوا فإنّما عليك البلاغ المبين . يعرفون نعمة اللَّه ثم ينكرونها و أَكثرهم الكافرون 5 .
« فإنّهم قواعد أساس العصبية » قال ابن أبي الحديد : آساس بالمد :
-----------
( 1 ) الكشي : 14 .
-----------
( 2 ) المصباح المنير للفيّومي : 635 مادة ( هجان ) .
-----------
( 3 ) الأعراف : 27 29 .
-----------
( 4 ) النمل : 14 .
-----------
( 5 ) النحل : 80 83 .
[ 384 ]
جمع أساس 1 .
قلت : كونه بلفظ الجمع يشهد له قوله عليه السّلام بعد « و دعائم أركان الفتنة » ،
فكما أن الأركان جمع فلا بدّ أنه جمع ، و أمّا الاعتزاء بعد ذاك في قوله عليه السّلام « و سيوف اعتزاء الجاهلية » فمصدر و المصدر لا يثنى و لا يجمع ، فقول الخوئي : رآه في النسخ بلفظ الإفراد ساقط إلاّ أن كونه جمع أساس كما قال ابن أبي الحديد : بلا أساس ، بل هو جمع أسس مخفّف أساس مثل سبب و أسباب ، و أمّا أساس فجمعه أسس بضمتين مثل قذال و قذل كما صرّح به الجوهري 2 .
« و دعائم أركان الفتنة » أي : عمدها .
« و سيوف اعتزاء الجاهلية » أي : الانتساب إليها . قال ابن أبي الحديد : سمع ابي بن كعب رجلا يقول : « يا فلان » فقال عضضت بهن أبيك ، فقيل له : ما كنت فحّاشا ، قال : سمعت النبي صلّى اللَّه عليه و آله يقول : من تعزّى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه و لا تكنّوا 3 .
و قال ابن الأثير في الحديث : من لم يتعزّ بعزاء اللَّه فليس منّا ، أي : من لم يدع بدعوى الإسلام فيقول : يا للإسلام أو يا للمسلمين أو يا للَّه . . . 4 .
« فاتّقوا اللَّه و لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا » و تجعلون رزقكم أنّكم تكذّبون 5 أَلم تر إِلى الذين بدّلوا نعمة اللَّه كفراً و أَحلّوا
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 150 .
-----------
( 2 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 150 ، و شرح الخوئي 11 : 309 ، و راجع الصحاح للجوهري 2 : 903 ، مادة ( أسس ) .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 150 .
-----------
( 4 ) ابن الأثير 3 : 233 و ذكره المجلسي في بحار الأنوار ج 22 : 538 ح 39 .
-----------
( 5 ) الواقعة : 82 .
[ 385 ]
قومهم دار البوارِ 1 .
« و لا لفضله عندكم حسادا » أَم يحسدون الناس على ما آتاهم اللَّه من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب و الحكمة 2 فالأنبياء و الأوصياء و الكتب السماوية نعمه تعالى على الناس و فضله و لطفه عليهم ، و قد فسّر نعمة اللَّه في الآية السابقة و الناس في هذه الآية بأهل البيت عليهم السّلام .
« و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم و خلطتم بصحتكم مرضهم » روى نصر بن مزاحم : أنّ عمارا قام في صفّين فقال : امضوا عباد اللَّه إلى قوم يطلبون فيما يزعمون بدم الظالم لنفسه الحاكم على عباد اللَّه بغير ما في كتاب اللَّه ، إنّما قتله الصالحون المنكرون للعدوان الآمرون بالاحسان . فقال هؤلاء الذين لا يبالون إذا سلمت لهم دنياهم لو درس هذا الدين : لم قتلتموه ،
فقلنا لاحداثه ، فقالوا : انّه ما أحدث شيئا . و ذلك لأنّه مكّنهم من الدنيا فهم يأكلونها و يرعونها و لا يبالون لو انهدّت عليهم الجبال ، و اللَّه ما أظنّهم يطلبون دمه ، إنّهم ليعلمون إنّه لظالم و لكنّ القوم ذاقوا الدنيا فاستحبّوها و استمرؤوها و علموا لو أنّ الحق لزمهم لحال بينهم و بين ما يرعون فيه منها ،
و لم يكن للقوم سابقة في الإسلام يستحقون بها الطاعة و الولاية ، فخدعوا أتباعهم بأن قالوا قتل إمامنا مظلوما ليكونوا بذلك جبابرة و ملوكا ، و تلك مكيدة قد بلغوا بها ما ترون ، و لولاهم ما بايعهم من الناس رجلان 3 .
« و أدخلتم في حقّكم » أي : ولايته عليه السّلام .
« باطلهم » أي : الثلاثة و أتباعهم أهل الجمل و صفّين و النهروان أفَمن
-----------
( 1 ) إبراهيم : 28 .
-----------
( 2 ) النساء : 54 .
-----------
( 3 ) صفّين لنصر بن مزاحم : 319 .
[ 386 ]
يهدي إلى الحق أَحقُّ أَن يُتَّبع أَمّن لا يهدّي إِلاّ أَن يهدي فما لكم كيف تحكمون 1 و قال النبي صلّى اللَّه عليه و آله في المتواتر عنه : عليّ مع الحقّ و الحقّ معه يدور حيثما دار 2 . و قال عمر يوم الشورى : أما و اللَّه لئن وليها عليّ ليحملنّهم على المحجّة البيضاء 3 .
« و هم آساس الفسوق » آساس هنا أيضا بالمدّ جمع أسس ، و أغرب ابن ميثم فقال : و روي أسآس بسكون السين بوزن أحلاس و هو جمع أسس كحمل و أحمال ، فإنّ لازم قوله بسكون السين أن يكون جمع ساس لا أسس 4 .
« و أحلاس العقوق » أي : ملازميه .
و من الغريب أن أحلاس العقوق كانوا يقولون لمعادن البر و التقوى إنّهم عققة ، فكان أبو جهل يعدّ النبي صلّى اللَّه عليه و آله عاقّا ، و أبو سفيان وضع رمحه على فم حمزة و قال : ذق عقق 5 .
و روى أنّ عثمان قال لأمير المؤمنين عليه السّلام : أصبحت بمنزلة الولد العاقّ لأبيه . . . 6 .
هذا ، و قال الفيّومي : أصل العق الشق ، يقال عق ثوبه كما يقال شقه ،
و العقيق الوادي الذي شقه السيل قديما و منه : « عقّ الولد أباه » 7 .
-----------
( 1 ) يونس : 35 .
-----------
( 2 ) مجمع الزوائد للهيثمي 7 : 235 ، و تاريخ بغداد للخطيب البغدادي 14 : 321 ، و شرح ابن أبي الحديد 1 : 297 .
-----------
( 3 ) شرح ابن أبي الحديد 1 : 185 .
-----------
( 4 ) شرح ابن ميثم 4 : 263 .
-----------
( 5 ) جاء في الكامل لإبن الأثير 2 : 160 و اجتاز به الحليس بن زبّان سيد الأحباش ، و هو يضرب في شدق حمزة بزجّ الرمح و يقول ذق عقق . . . فقال أبو سفيان : أكتمها ( عنّي ) فإنّها زلّة .
-----------
( 6 ) شرح ابن أبي الحديد 9 : 24 .
-----------
( 7 ) المصباح المنير للفيّومي 2 : 577 .
[ 387 ]
« إتّخذهم إبليس مطايا ضلال » قال الفيّومي : المطا الظهر ، و منه قيل للبعير مطية فعلية بمعنى مفعولة ، لأنّه يركب مطاه يجمع على مطى و مطايا 1 .
و عن الأصمعي : المطية مأخوذ من المطو ، أي : المد ، قيل : يذكر و يؤنث .
و قال الجوهري : و المطايا فعالى ، و الأصل فعائل فعل به ما فعل بخطايا 2 . . . .
و روى ( الكافي ) عن الباقر عليه السّلام : لا يزال العبد في فسحة من اللَّه تعالى حتى يشرب الخمر فإذا شربها خرق اللَّه تعالى سرباله و كان إبليس أخاه و وليّه و سمعه و بصره و يده و رجله يسوقه إلى كلّ ضلال و يصرفه عن كلّ خير 3 .
« و جندا بهم يصول على الناس » في تفسير القمي في ذكر غزوة بدر :
أتى إبليس إلى قريش في صورة سراقة بن مالك فقال لهم : أنا جاركم إدفعوا إليّ رايتكم ، فدفعوها إليه و جاء بشياطينه يهوّل بهم على أصحاب النبي صلّى اللَّه عليه و آله و يخيّل إليهم و يفزعهم 4 .
« و تراجمة ينطق على لسانهم » في تفسير القمي : لمّا أظهر النبي صلّى اللَّه عليه و آله الدعوة بمكّة قدمت عليه الأوس و الخزرج إلى أن قال بعد ذكر بيعة سبعين منهم له في دار عبد المطلب على العقبة ليلا و تعيينه صلّى اللَّه عليه و آله لهم اثني عشر نقيبا صاح إبليس : يا معشر قريش و العرب هذا محمّد و الصباة من أهل يثرب على جمرة العقبة يبايعونه على حربكم ، فأسمع أهل منى فأقبلت قريش إلى أن قال و خرج حمزة و أمير المؤمنين عليه السّلام و معهما السيف فوقفا على العقبة ،
-----------
( 1 ) المصباح المنير للفيّومي : 790 .
-----------
( 2 ) الصحاح للجوهري 6 : 2494 مادة ( مطا ) .
-----------
( 3 ) الكافي 6 : 397 ح 9 .
-----------
( 4 ) تفسير القمي 1 : 266 .
[ 388 ]
فلمّا نظرت قريش إليهما قالوا : ما هذا الذي اجتمعتم له ؟ فقال حمزة : ما اجتمعنا و ما هاهنا احد ، و اللَّه لا يجوز هذه العقبة أحد إلاّ ضربته بسيفي ،
فرجعوا إلى مكة فاجتمعوا في الندوة و كان لا يدخل دار الندوة إلاّ من قد أتى عليه أربعون سنة فدخل أربعون رجلا من مشايخ قريش و جاء إبليس في صورة شيخ كبير فقال له البوّاب : من أنت ؟ قال : أنا رجل من أهل نجد لا يعدمكم منّي رأي صائب ، إنّي حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرجل فجئت لاشير عليكم . فقال : أدخل فدخل إبليس .
فلمّا أخذوا مجالسهم قال أبو جهل : يا معشر قريش إنّه لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا ، نحن أهل اللَّه تغدو إلينا العرب في السنة مرّتين و يكرموننا و نحن حرم اللَّه ، لا يطمع فينا طامع فلم نزل كذلك حتى نشأ فينا محمد بن عبد اللَّه ، فكنّا نسميه الأمين لصلاحه و سكونه و صدق لهجته ، حتى إذا بلغ ما بلغ و أكرمناه ادّعى أنّه رسول اللَّه و أن أخبار السماء تأتيه ، فسفّه أحلامنا و سب آلهتنا و أفسد شبابنا و فرّق جماعتنا ، و زعم أنّه من مات من أسلافنا ففي النّار ، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا ، و قد رأيت فيه رأيا ، رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله ، فإنّ طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناه عشر ديات . فقال إبليس : هذا رأي خبيث . قالوا : و كيف ؟ قال : لأنّ قاتل محمد مقتول لا محالة ،
فمن الذي يبذل نفسه للقتل منكم ، فإنّه إذا قتل محمد يغضب بنو هاشم و حلفاؤهم من خزاعة ، و إنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشي قاتل محمد على الأرض فيقع بينكم الحروب و تتفانوا .
فقال آخر : فعندي رأي آخر . قال : و ما هو ؟ قال : نثبته في بيت و يلقى إليه قوته حتى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير و النابغة و امرؤ القيس . فقال إبليس : هذا أخبث من الآخر ، لأنّ بني هاشم لا ترضى بذلك ، فإذا
[ 389 ]
جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم و اجتمعوا عليكم فأخرجوه .
فقال آخر منهم : نخرجه من بلادنا و نتفرّغ لعبادة آلهتنا . فقال إبليس :
هذا أخبث من الرأيين المتقدمين ، لأنّكم تعمدون إلى أصبح الناس وجها و أنطق الناس لسانا و أفصحهم لهجة ، فتحملونه إلى وادي العرب فيخدعهم و يسحرهم بلسانه فلا يفجأكم إلاّ و قد ملأها عليكم خيلا و رجلا .
فبقوا حائرين فقالوا له : فما الرأي ؟ قال : يجتمع من كلّ بطن من بطون قريش واحد و يكون معهم من بني هاشم رجل فيأخذون سكينة أو حديدة أو سيفا فيدخلون عليه فيضربونه كلّهم ضربة واحدة حتى يتفرّق دمه في قريش كلّها ، فلا يستطيع بنو هاشم ان يطلبوا بدمه و قد شاركوا فيه ، فإن سألوكم أن تعطوا الدية فأعطوهم ثلاث ديات فقالوا : الرأي رأي الشيخ النجدي ، و دخل معهم عمّه أبو لهب 1 .
و رواه ( الطبري ) عن ابن عباس و فيه : إجتمع في دار الندوة من بني عبد شمس ابن عبد مناف ، شيبة و عتبة و أبو سفيان ، و من نوفل بن عبد مناف ،
طعيمة بن عدي و جبير بن مطعم و الحارث بن عامر ، و من عبد الدار بن قصي ،
النضر بن الحارث ، و من أسد بن عبد العزى ، أبو البختري بن هشام و زمعة بن الأسود و حكيم بن خرام ، و من بني مخزوم ، أبو جهل بن هشام ، و من بني سهم ، نبيه و منبه ، و من جمح ، اميّة بن خلف .
إلى أن قال : فقال أبو جهل و اللَّه إنّ لي لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد .
قالوا : و ما هو يا أبا الحكم ؟ قال : الرأي أن تأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا نسيبا و سيطا فينا ، ثم يعطى كلّ فتى منهم سيفا صارما ، ثم يعمدون إليه ثم يضربونه ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح فإنّهم إذا فعلوا ذلك تفرّق دمه
-----------
( 1 ) تفسير القمي 1 : 273 274 .
[ 390 ]
في القبائل كلّها فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا و رضوا منّا بالعقل . فقال الشيخ : القول ما قال الرجل ، هذا الرأي لا أرى لكم غيره 1 .
هذا ، و قال الفيّومي : « ترجم الكلام » إذا أوضحه ، و اسم الفاعل ترجمان 2 ، و فيه لغات فتح التاء و ضم الجيم و فتحهما و ضمهما ، و جمعه تراجم ، و التاء و الجيم اصليتان . و جعل الجوهري التاء زائدة أورده في رجم 3 .
قلت : الظاهر أنّ ما كان على فعلان كالترجمان و القهرمان إمّا معرّب و إن كان ورد في الفصيح ، فورد الترجمان و القهرمان في كلامه عليه السّلام ، أو مركّب من كلمتين و هو الأظهر ، و لذا لم يذكر أهل اللغة القهرمان أصلا و نحت المركب حتى يجعل كلمات كلمة كثيرة في جميع اللغات ، و منها بلاش في العربية منحوت بلا شيء .
« استراقا لعقولكم » أي : سرقة لها .
« و دخولا في عيونكم » الدخول في العين ، كناية عن كمال الاستيلاء كسابقه و لاحقه .
« و نفثا في أسماعكم » قال الفيّومي : نفث إذا بزق . . . .
روى ( الكافي ) عن الصادق عليه السّلام : إن شيطانا يقال له القفندر إذا ضرب في منزل رجل أربعين يوما بالبربط و دخل عليه الرجال وضع ذلك الشيطان كلّ عضو منه على مثله من صاحب البيت ، ثم نفخ فيه نفخة فلا يغار بعدها حتى تؤتى نساؤه فلا يغار 4 .
-----------
( 1 ) تاريخ الطبري 2 : 98 .
-----------
( 2 ) المصباح المنير للفيّومي : 74 .
-----------
( 3 ) الصحاح للجوهري 4 : 1928 مادة ( رجم ) .
-----------
( 4 ) الكافي 5 : 536 ح 5 .
[ 391 ]
« فجعلكم مرمى نبله » أي : سهمه ، جعله الفيّومي اسم جمع حيث قال :
النبل السهام العربية لا واحد لها من لفظها 1 . و جعله الجوهري مفردا حيث قال : جمعوها على أنبال و نبال 2 .
و في الخبر : النظر سهم من سهام الشيطان مسموم 3 .
و عنه عليه السّلام : الفتن ثلاث : حبّ النساء و هو سيف الشيطان ، و شرب الخمر و هو فخ الشيطان ، و حبّ الدينار و الدرهم و هو سهم الشيطان 4 .
« و موطىء قدمه » و من يتبع خطواته يصير موطىء أقدامه و وطئاته .
« و مأخذ يده » كناية عن غاية استيلائه عليهم كالحيوان الأهلي الذي يؤخذ باليد و لا يحتاج إلى عدو خلفه أو رمي إليه ، قال تعالى إنّا جعلنا الشياطين أَولياءَ للّذين لا يؤمنون 5 .
و في ( الكشي ) عن الهادي عليه السّلام : لعن اللَّه القاسم اليقطيني و لعن اللَّه علي بن حسكة القمّي ، إن شيطانا تراءى للقاسم و فأوحى إليه زخرف القول غرورا 6 .
و عنه عليه السّلام : يزعم ابن بابا أنّي بعثته نبيّا و أنّه باب ، عليه لعنة اللَّه ، سخر منه الشيطان فأغواه 7 .
« فاتعظوا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس اللَّه و صولاته
-----------
( 1 ) المصباح المنير للفيّومي 2 : 811 ، مادة ( نبل ) .
-----------
( 2 ) الصحاح للجوهري 5 : 1823 مادة ( نبل ) .
-----------
( 3 ) ورد بلفظ : النظرة سهم من سهام إبليس مسموم عن الصادق : الفقيه 4 : 11 .
-----------
( 4 ) المجلسي ، بحار الأنوار 73 : 140 .
-----------
( 5 ) الأعراف : 27 .
-----------
( 6 ) الكشي : 518 .
-----------
( 7 ) المصدر نفسه : 520 .
[ 392 ]
و وقائعه و مثلاته » البأس : العذاب ، و المثلات : العقوبات ، و قال تعالى : و عاداً و ثمود و قد تبيّن لكم من مساكنهم و زيّن لهم الشيطان أَعمالهم فصدّهم عن السبيل و كانوا مستبصرين . و قارون و فرعون و هامان و لقد جآءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض و ما كانوا سابقين . فكُلاّ أَخذنا بذنبهِ فمنهم من أَرسلنا عليه حاصباً و منهم من أَخذته الصيحة و منهم من خسفنا به الأرض و منهم من أغرقنا و ما كان اللَّه ليظلمهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون 1 .
« و اتّعظوا بمثاوي خدودهم » قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فَبئس مثوى المتكبرين 2 .
« و مصارع جنوبهم » قال تعالى في قوم صالح : قال الملأُ الّذين استكبروا من قومه للّذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أَنّ صالحاً مُرسل من ربِّه قالوا إِنّا بما اُرسل به مؤمنون . قال الذين استكبروا إِنّا بالذي آمنتم به كافرون . فعقروا النّاقة و عتوا عن أمر ربِّهم و قالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كُنت من المرسلين . فأَخَذَتهُمُ الرَّجفة فأَصبحوا في دارِهم جاثمين 3 .
« فاستعيذوا باللَّه من لواقح الكبر » أي : ممّا حمل به الكبر و حبل فأيّ سبع تلد .
« كما تستعيذون من طوارق الدهر » قال الجزري : قيل أصل الطرق الدق ،
سمي الآتي بالليل طارقا لحاجته إلى طرق الباب ، و الطوارق جمع الطارقة ،
-----------
( 1 ) العنكبوت : 38 40 .
-----------
( 2 ) الزمر : 72 .
-----------
( 3 ) الأعراف : 75 78 .
[ 393 ]
و منه الحديث : « أعوذ بك من طوارق الليل إلاّ طارقا يطرق بخير » 1 .
و كيف لا يستعاذ من لواقح الكبر كطوارق الدهر و قد قال تعالى و الذي تولى كبره منهم له عذابٌ عظيم 2 و و أمّا الذين استنكفوا و استكبروا فيعذّبهم عذاباً أليماً و لا يجدون لهم من دون اللَّه وليّاً و لا نصيراً 3 و إذا تتلى عليه آياتنا ولّى مستكبراً كأَنّ لم يسمعها كأَن في اُذنيه وقراً فبشّره بعذابٍ أليم 4 و إذا عَلِمَ من آياتنا شيئاً اتخذها هُزُواً اُولئك لهم عذابٌ مهين . من ورائهم جهنّم و لا يغني عنهم ما كسبوا شيئاً و لا ما اتخذوا من دون اللَّه أولياءَ و لهم عذابٌ عظيم 5 .
في وزراء الجهشياري : قال الواقدي دخل الفضل بن يحيى على أبيه يتبختر في مشيته و أنا عنده ، فكره ذلك منه فقال لي : أتدري ما أبقى الحكيم في طرسه ؟ قلت : لا . قال : أبقى الحكيم في طرسه أنّ البخل و الجهل مع التواضع أزين بالرجل من الكبر مع السخاء و العلم ، فيالها أي : لصفة التواضع حسنة غطّت على عيبين عظيمين ، و يالها أي لصفة الكبر سيئة غطت على حسنتين كبيرتين . ثم أومى إليه بالجلوس 6 .
إلى أن قال عليه السّلام « و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العالمين يتعصّب لشيء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه » أي : تلبيس ، و الأصل فيه نحاس أو حديد طلي بذهب أو فضة .
-----------
( 1 ) النهاية لابن الأثير الجزري 3 : 121 مادة ( طرق ) .
-----------
( 2 ) النور : 11 .
-----------
( 3 ) النساء : 173 .
-----------
( 4 ) لقمان : 7 .
-----------
( 5 ) الجاثية : 9 10 .
-----------
( 6 ) وزراء الجهشياري : 198 .
[ 394 ]
« الجهلاء أو حجّة » أي : احتجاج .
« تليط » أي : تلصق .
« بعقول السّفهاء » .
في ( الأغاني ) كانت الأوس و الخزرج أهل عزّ و منعة ، و هما أخوان لاب و امّ ابنا حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر ، و كانت أول حرب جرت بينهم في مولى كان لمالك بن العجلان أي الخزرجي قتله سمير بن يزيد الأوسي و كان مالك سيّد الحيّين في زمانه ، و هو الذي ساق تبعا إلى المدينة و قتل الفطيون 1 صاحب زهرة و أذلّ اليهود للحيّين جميعا ، فكان له بذلك الذكر و الشرف عليهم ، و كانت دية المولى و هو الحليف فيهم خمسا من الإبل ،
و دية الصريح عشرا ، فبعث مالك إلى عمرو بن عوف . إبعثوا الى سميرا حتى أقتله بمولاي فإنّا نكره أن تنشب بيننا و بينكم حرب ، فأرسلوا إليه : إنّا نعطيك الرضا من مولاك فخذ منّا عقله 2 فإنّك قد عرفت أنّ الصريح لا يقتل بالمولى .
قال : لا آخذ في مولاي دون دية الصريح ، فأبوا إلاّ ديّة المولى . فلمّا رأى ذلك مالك بن العجلان جمع قومه من الخزرج و كان فيهم مطاعا و أمرهم بالتهيّىء للحرب ، فلمّا بلغ الأوس استعدوا لهم و تهيّأ و اللحرب و اختاروا الموت على الذل ، ثم خرج بعض القوم إلى بعض فالتقوا بالصفينة قرية بني عمرو بن عوف بين قباء و بني سالم فاقتتلوا شديدا حتى نال بعضهم من بعض .
ثم إن رجلا من الأوس نادى : يا مالك ننشدك باللَّه و الرّحم فاجعل بيننا و بينك عدلا من قومك فما حكم علينا سلّمنا لك . فارعوى مالك عند ذلك و قال :
نعم ، فاختاروا عمرو بن امرىء القيس فقال : إنّي أقضي بينكم إن كان سمير
-----------
( 1 ) الفطيون : ملك بني اسرائيل ، و كان اليهود و الأوس و الخزرج يدينون له .
-----------
( 2 ) عقله : ديته .
[ 395 ]
قتل صريحا من القوم فهو به قود ، و إن قبلوا العقل فلهم دية الصريح ، و إن كان قتل مولى فلهم دية المولى و ما أصبتم منّا في هذه الحرب ففيه الدية مسلّمة إلينا و ما أصبنا منكم علينا فيه دية مسلمة إليكم . فغضب مالك و رأى أن يردّ عليه رأيه و أمر قومه بالقتال ، فجمع بعضهم لبعض ثم التقوا بالفصل عند آطام بني قينقعاع فاقتتلوا شديدا ، ثم تداعوا إلى الصلح فحكّموا ثابت بن حرام أبا حسان بن ثابت النجاري فقضى بينهم أن يدوا مولى مالك بدية الصريح ثم تكون السنة فيهم بعده كما كانت أول مرة فرضوا ، أراد ثابت إطفاء النائرة فأخرج خمسا من الإبل من قبيلته حين أبت عليه الأوس أن تؤدّي إلى مالك أكثر من خمس و أبى هو أن يأخذ دون عشر ، فلمّا أخرج ثابت الخمس أرضى مالكا بذلك و رضت الأوس و اصطلحوا بعهد و ميثاق أن لا يقتل رجل في داره و لا معقله و المعاقل النخل فإذا خرج رجل من داره أو معقله فلا دية له ، ثم انظروا في القتلى فأيّ الفريقين فضل على صاحبه ، فأفضلت الأوس على الخزرج بثلاثة نفر فودتهم الأوس و اصطلحوا ففي ذلك يقول حسان :
و أبي في سميحة القائل و الفا
صل حين التفّت عليه الخصوم 1
« غيركم فانكم تتعصّبون لأمر لا » هكذا في ( الطبعة المصرية ) و الصواب :
( ما ) كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية 2 .
« يعرف له سبب و لا علّة » كرجلين تنازعا في العنب النيروزي و الرازقي أيّها أطيب .
ففي ( عيون القتيبي ) قال بعضهم : رأيت رجلين بصريا و كوفيا على باب
-----------
( 1 ) الأغاني 3 : 40 42 .
-----------
( 2 ) عند ابن أبي الحديد النسخة المحققة بلفظ ( ما ) 13 : 166 ، و عند ابن ميثم البحراني النسخة المنقحة بلفظ ( لا ) كما ورد في الطبعة المصرية : أمّا النسخة الخطية ( المرعشي : 187 ) فبلفظ « غيركم فإنّكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب و لا علة » . .
[ 396 ]
مويس 1 يتنازعان في العنب النيروزي و الرازقي أيّهما أطيب ، فجرى بينهما كلام إلى أن تواثبا فقطع الكوفيّ إصبع البصري وفقأ البصري عين الكوفي ثم لم ألبث إلاّ يسيرا حتى رأيتهما متصافيين متنادمين 2 .
و قيل : إن المسافرين أخذا في التمنّي ، فقال أحدهما ليت لي قطيع غنم ،
فقال الآخر ليت لي قطيع ذئب تأكل أغنامك ، فتواثبا و تجارحا .
« أمّا إبليس فتعصّب على آدم لأصله » النار .
« و طعن عليه في خلقه » من التراب .
« فقال أنا ناري و أنت طيني » فكيف أسجد لك .
« و أمّا الأغنياء من مترفة الامم » أي : الطاغين منهم بالأموال .
« فتعصّبوا لآثار مواقع النعم ، فقالوا و نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذبين » الآية في سورة سبأ ، و قبلها و ما أرسلنا في قرية من نذير إلاّ قال مترفوها إنّا بما ارسلتم به كافرون 3 .
« فإنّ كان لا بدّ من العصبية فليكن تعصّبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الامور الّتي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء » أي : الشجعان ، ففي ( الصحاح ) : النجدة الشجاعة ، و منه نجد الرجل بالضم فهو نجيد ، و جمع نجيد نجداء .
« من بيوتات العرب » في ( الأسد ) : نافر خالد بن مالك التميمي النهشلي القعقاع بن معبد التميمي إلى ربيعة بن خالد الأسدي ، فقال هاتيكما مكارمكما ،
فقال خالد أعطيت من سأل و أطعمت من أكل و نصبت قد وري حين وضعت
-----------
( 1 ) في النسخة الالمانية بلفظ « مونس » .
-----------
( 2 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 2 : 52 .
-----------
( 3 ) سبأ : 34 35 .
[ 397 ]
السماك ذيولها و طعنت يوم الشواحط فارسا فجللت فخذيه بفرسه . فقال : يا قعقاع ما عندك ؟ فأخرج قوس حاجب فقال : هذه قوس عمي رهنا عن العرب ،
و هاتان نعلا جدّي قسم فيها أربعين مرباعا ، و هذه ذريبة زرارة اصطلح عليها سبقة أملاك كلّهم حرب لصاحبه ، و عمّي سويد بن زرارة لم ير ناره خائف إلاّ أمن ، و لم يمسك بطنب فسطاطه أسير إلاّ افك . فقال ربيعة : إنّ السماحة و اللهى و المرباع و الشرف الأسبغ للقعقاع ، إلاّ أنّي نفرت من كان أبوه معبدا و عمّه حاجبا و جدّه زرارة 1 .
« و يعاسيب » أي : سادات ، و الأصل فيه ملك النحل .
« القبائل بالأخلاق الرغيبة » قالوا : قيل لعامر بن حارثة الأزدي ، أبو مزيقياء : ماء السماء لأنّه كان إذا أجدب قومه مأنهم حتى يأتيهم الخصب ،
فكان خلفا منه و قيل لولده : بنو ماء السماء و هم ملوك الشام ، قال بعض الأنصار :
أنا ابن مزيقيا عمرو و جدّي
أبوه عامر ماء السماء 2
« و الأحلام العظيمة » في ( الاستيعاب ) قيل للأحنف بن قيس : ممّن تعلمت الحلم ؟ قال : من قيس بن عاصم المنقري ، رأيته يوما قاعدا بفناء داره محتبيا بحمائل سيفه يحدّث قومه ، إذ اتى برجل مكتوف و آخر مقتول فقيل له : هذا ابن أخيك قد قتل ابنك ، فو اللَّه ما حلّ حبوته و لا قطع كلامه ، فلمّا أتمّه التفت إلى ابن أخيه فقال : يا ابن أخي بئس ما فعلت ، أثمت بربّك و قطعت رحمك و قتلت ابن عمك و رميت نفسك بسهمك ، ثم قال لابن له آخر : قم يا بنيّ فوار أخاك و حلّ
-----------
( 1 ) اسد الغابة 2 : 91 .
-----------
( 2 ) البيت لعبادة بن الصامت ، الاستيعاب 1 : 118 .
[ 398 ]
كتاف ابن عمك و سق إلى امّك مائة ناقة دية ابنها فإنّها غريبة 1 .
و قيس ، هو الذي قال فيه النبي صلّى اللَّه عليه و آله لمّا وفد عليه وفد بني تميم : هذا سيد أهل الوبر 2 .
و كان قيس قد حرّم على نفسه الخمر في الجاهلية ، و ذلك أنّه غمز عكنة ابنته و هو سكران و سبّ أبويها و رأى القمر فتكلم و أعطى الخمّار كثيرا من ماله فلمّا أفاق اخبر بذلك فحرّمها على نفسه .
و لمّا حضرته الوفاة قال لبنيه : إحفظوا عنّي فلا أحد أنصح لكم منّي ، إذا متّ فسوّدوا كباركم و لا تسوّدوا صغاركم فيسفه الناس كباركم و تهونون عليهم ، و عليكم بإصلاح المال فإنّه منبهة للكريم و يستغنى به عن اللئيم ،
و إيّاكم و مسألة النّاس فإنّها أخزى كسب الرجل 3 .
« و الأخطار الجليلة و الآثار المحمودة » في أنساب السمعاني في الكرجي و أبو دلف القاسم بن عيسى بن ادريس بن معقل العجلي الكرجي الأمير المشهور بالجود و الشجاعة . قلت : و حسده المأمون بقول الشاعر فيه :
إنّما الدّنيا أبو دلف
فإذا ولى ولت على أثره
قال العتابي : اجتمعنا على باب أبي دلف جماعة من الشعراء ، فوعدنا إذا جاءت أمواله من الكرج و غيرها ، فأتت الأموال فبسطها على الانطاع و أجلسنا حوله و دخل إلينا فقام على رؤوسنا متّكئا على قائم سيفه ، ثم أنشأ يقول :
ألا يا أيّها الزوّار لا يد عنكم
أياديكم عندي أجل و أكثر 4
فإن كنتم أفردتموني للرجا
فشكري لكم من شكركم لي أكثر
-----------
( 1 ) الاستيعاب 3 : 1295 ترجمة قيس بن عاصم ( رقم 1240 ) .
-----------
( 2 ) الاصابة 5 : 158 .
-----------
( 3 ) الاصابة 5 : 159 .
-----------
( 4 ) في نسخة التحقيق « أكبر » .
[ 399 ]
كفاني من مالي دلاص و سابح 1
و أبيض من صافي الحديد و مغفر
ثم أمر بنهب تلك الأموال ، فأخذ كلّ واحد على قدر قوته . . . و الدلاص الدرع اللينة ، و السابح الفرس الجواد ، و المراد بأبيض : السيف 2 .
و في ( شعراء القتيبي ) : مرّ حاتم في سفر له على عنزة و فيهم أسير ،
فاستغاث به و لم يحضره فكاكه ، فساوم به العنزيين و اشتراه و أقام مكانه في القيد حتى أدى فداءه و قسّم ماله بضع عشر مرّة .
و كانت لحاتم قدور عظام بفنائه على الأثافي لا تنزل عنها ، فإذا أهلّ رجب نحر كلّ يوم و أطعم .
و كان أبوه جعله في إبل له و هو غلام ، فمرّ به عبيد بن الأبرص و بشر بن أبي حازم و النابغة الذبياني يريدون النعمان ، فنحر لكلّ منهم بعيرا و هو لا يعرفهم ، ثم سألهم عن أسمائهم فتسمّوا له ، ففرّق فيهم الإبل و جاء إلى أبيه و قال : يا أبه طوّقتك مجد الدهر طوق الحمامة . و حدّثه بما صنع ، فقال أبوه :
إذن لا اساكنك . فقال : إذن لا ابالي ، فاعتزله .
( و فيه ) : إن حاتما أتى ماوية بنت عفزر يخطبها ، فوجد عندها النابغة الذبياني و رجلا من النبيت يخطبانها ، فقالت انقلبوا إلى رحالكم و ليقل كلّ واحد منكم شعرا يذكر فيه فعاله و منصبه فاني متزوجة أكرمكم و أشعركم .
فانطلقوا و نحر كلّ منهم جزورا ، فلبست ماوية ثياب أمة لها و اتبعتهم ، فأتت النبيتي فاستطعمته فأطعمها ذنب جزوره فأخذته ، و أتت النابغة فأطعمها مثل ذلك ، و أتت حاتما فأطعمها عظما من العجز و قطعة من السنام و قطعة من الحارك ، فانصرفت و أهدى لها كلّ رجل منهم باقي جزوره و أهدى لها حاتم
-----------
( 1 ) في نسخة التحقيق « سامح » .
-----------
( 2 ) أنساب الأشراف للسمعاني : 478 .
[ 400 ]
مثل ما أهدى إلى واحدة من جاراته ، و صبّحها القوم فأنشدها كلّ منهم أبياتا ،
فلمّا فرغوا من إنشادهم دعت بالمائدة و قدمت إلى كلّ رجل ما كان أطعمها ،
فنكس النّبيتي و النابغة رأسيهما ، فلمّا رأى حاتم ذلك رمى بالذي قدم إليه إليهما و أطعمهما منه ، فتسلّلا لواذا 1 فتزوجت حاتما و كانت من بنات ملوك اليمن .
( و فيه ) : قالت امرأة حاتم النّوار : أصابتنا سنة اقشعرّت لها الأرض و اغبرّت الآفاق ، فضنت المراضيع عن أولادها فما تبض بقطرة ، و راحت الابل حدبا حدابيس 2 و حلقت السنة المال و أيقنّا أنّه الهلاك ، فو اللَّه إنّا لفي صنبر 3 بعيدة ما بين الطرفين إذ تضاغى أصبيتنا من الجوع عبد اللَّه و عدي و سفانة ،
فقام حاتم إلى الصبيين و قمت إلى الصبية فو اللَّه ما سكتوا إلاّ بعد هدأة من الليل و أقبل يعلّلني بالحديث فعلمت الذي يريد فتناومت ، فلمّا تغوّرت النجوم إذا شيء قد رفع كسر البيت فقال من هذا ، فذهب ثم عاد فقال من هذا ، فذهب ثم عاد في آخر الليل فقال من هذا قال جارتك فلانة أتتك من عند أصبية يتعاوون عواء الذئب من الجوع و ما أجد معوّلا إلاّ عليك ، فقال لها أعجليهم فقد أشبعك اللَّه و إياهم ، فأقبلت المرأة تحمل اثنين و يمشي جنباتها أربعة كأنها نعامة حولها رئالها ، فقام إلى فرسه فوجأ لبته بمدية ثم كشطه و دفع المدية إلى المرأة فقال شأنك الآن ، فاجتمعوا على اللحم فقال سوءة : أتأكلون دون الصريم ، ثم أقبل يأتيهم بيتا بيتا و يقول : هبّوا أيها القوم عليكم بالنار ،
فاجتمعوا و التفع ناحية بثوبه ينظر إلينا ، و لا و اللَّه ما ذاق منه مضغة و إنه
-----------
( 1 ) لواذا : متتاليين .
-----------
( 2 ) هزيلة .
-----------
( 3 ) الصنبر : ليلة شديدة البرد .
[ 401 ]
لأحوج إليه منّا ، فأصبحنا و ما على الأرض إلاّ عظم و حافر ، فعذلته على ذلك فقال :
مهلا نوار أقلّي اللّوم و العذلا
و لا تقولي لشيء فات ما فعلا 1
( و فيه ) : كان عنترة العبسي من أشدّ أهل زمانه و أجودهم بما ملكت يده ،
و كان لا يقول من الشعر إلاّ البيتين و الثلاثة ، حتى سابّه رجل من قومه فذكر سواده و سواد امّه و أنّه لا يقول الشعر . فقال عنترة : و اللَّه إنّ الناس ليترافدون الطعمة فما حضرت أنت و لا أبوك و لا جدّك مرفد الناس قط ، و إنّ الناس ليدعون في الغارات فيعرفون بتسويمهم فما رأيتك في خيل مغيرة في أوائل الناس قط ، و إن اللبس ليكون بيننا فما حضرت أنت و لا أبوك و لا جدّك خطة فصل ، و إنّما أنت فقع بقرقر و إنّي لاحتضر البأس و اوفى المغنم و أعفّ عن المسألة و أجود بما ملكت يدي و أفصل الخطة الصماء ، و أمّا الشعر فستعلم فكان أول ما قال :
هل غادر الشعراء من متردّم 2
تسمّى قصيدته تلك الذهبية .
« فتعصّبوا لخلال الحمد من الحفظ للجوار » في ( كامل المبرد ) : ذكر أبو عبيدة أنّ رجلا من السواقط أي من ورد اليمامة من غير أهلها من بني أبي بكر بن كلاب قدم اليمامة و معه أخ له ، فكتب له عمير بن سلمى أنّه له جار و كان أخو هذا الكلابي جميلا ، فقال له قرين أخو عمير لا تردنّ أبياتنا بأخيك هذا ، فرآه بعد بين أبياتهم فقتله و قيل ان أخا عمير يتحدث إلى امرأة أخي الكلابي فعثر عليه زوجها فخافه قرين عليها فقتله ، و كان عمير غائبا فأتى
-----------
( 1 ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : 70 74 .
-----------
( 2 ) الشعر و الشعراء لابن قتيبة : 75 76 .
[ 402 ]
الكلابي قبر سلمى أبي عمير و قرين فاستجار به فلجأ قرين إلى قتادة بن مسلمة من حنيفة فحمل قتادة إلى الكلابي ديات مضاعفة و فعلت وجوه بني حنيفة مثل ذلك ، فأبى الكلابي أن يقبل ، فلمّا قدم عمير قالت له امّه : لا تقتل أخاك و سق إلى الكلابي جميع ماله . فأبى الكلابي أن يقبل ، فلجأ قرين إلى خاله فلم يمنع عميرا منه ، فأخذه عمير فمضى به حتى قطع الوادي فربطه إلى نخلة و قال للكلابي : أما إذا أبيت إلاّ قتله فامهل حتى أقطع الوادي و ارتحل عن جواري فلا خير لك فيه فقتله الكلابي ففي ذلك يقول عمير :
قتلنا أخانا للوفاء بجارنا
و كان أبونا قد تجير مقابره 1
« و الوفاء بالذمام » فرضي السموأل بقتل ولده و لم يدفع ما استودعه امرؤ القيس إلى خصمه .
« و الطاعة للبرّ و المعصية للكبر و الأخذ بالفضل » في ( العقد ) كان سلم بن نوفل سيّد بني كنانة ، فوثب رجل على ابنه و ابن أخيه فجرحهما فأتي به فقال :
ما امكنك 2 من انتقامي . قال : فلِم سوّدناك إلاّ أن تكظم الغيظ و تحلم عن الجاهل و تحتمل المكروه ، فخلّى سبيله 3 .
هذا ، و من أمثالهم : « لو كان عنده كنز النطف ما غدا » قالوا : كان النطف فقيرا من بني يربوع يحمل الماء على ظهره فينطف أي : يقطر ، و كان أغار على مال بعث به باذان من اليمن إلى كسرى ، فأعطى منه يوما حتى غابت الشمس فضربته العرب مثلا 4 .
« و الكفّ عن البغي و الإعظام للقتل و الإنصاف للخلق و اجتناب الفساد في
-----------
( 1 ) الكامل في الأدب للمبرّد 1 : 211 بتصرف .
-----------
( 2 ) نسخة التحقيق « أمّنك » و « امكنك » هو تحريف .
-----------
( 3 ) العقد الفريد لابن عبد ربّه 2 : 271 .
-----------
( 4 ) مجمع الأمثال 2 : 135 .
[ 403 ]
الأرض » في ( العقد ) دخلت امرأة مشتكية على المأمون ، فقال لها : و أين الخصم .
قالت : الواقف على رأسك و أومأت إلى ابنه العباس بن المأمون فقال المأمون لأحمد بن أبي خالد : خذ بيد العباس فأجلسه مع المرأة ، فجلس الخصوم فجعل كلامها يعلو كلام العباس ، فقال لها أحمد : إنّك بين يدي الخليفة و تكلّمين الأمير فاخفضي من صوتك . فقال له المأمون : دعها يا أحمد فإنّ الحقّ أنطقها و أخرسه ، ثم قضى لها برد ضيعتها إليها و أمر بالكتاب لها إلى العامل ببلدها أن يسقط خراجها و أمر لها بنفقة 1 .
( و فيه ) : ورد سليك بن سلكة على الحجّاج ، فقال له : عصى عاص من عرض العشيرة فحلق على اسمي و هدم منزلي و حرمت عطائي . فقال له الحجّاج : هيهات أو ما سمعت قول الشاعر :
جانيك من يجني عليك و قد
تعدي الصّحاح مبارك الجرب
و لربّ مأخوذ بذنب عشيرة
و نجا المقارف صاحب الذّنب
فقال له سليك : إنّي سمعت اللَّه عز و جل قال في غير هذا فقال حاكيا عن اخوة يوسف له فخذ أَحدنا مكانه إِنّا نَراكَ من المحسنين . قال معاذ اللَّه أن نأَخُذ إِلاّ من وجدنا متاعنا عندهُ إِنّا إِذاً لظالمُون 2 فقال الحجّاج ليزيد بن مسلم كاتبه : افكك لهذا عن اسمه و اصكك له بعطائه و ابن له منزله و مر مناديا صدق اللَّه و كذب الشاعر 3 .
( فيه ) : و قيل لقيس بن عاصم بم سوّدك قومك ؟ قال : بكفّ الأذى و بذل النّدى و نصر المولى 4 .
-----------
( 1 ) العقد الفريد 1 : 44 .
-----------
( 2 ) يوسف : 78 79 .
-----------
( 3 ) العقد الفريد 1 : 46 .
-----------
( 4 ) العقد الفريد 2 : 269 .
[ 404 ]
« و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات » جمع المثلة بالفتح فالضم فيهما ،
أي : العقوبات .
« بسوء الأفعال و ذميم الأعمال » كقوم نوح قال تعالى : . . . فَلَبِثَ فيهم أَلفَ سنةٍ إِلاّ خمسينَ عاماً فأَخذُهُم الطوفإنّ و هم ظالمون 1 و كقوم هود ، قال :
تعالى : و اذكر أَخا عادٍ إِذ أَنذر قومه بالأَحقاف . . . فلمّا رأَوهُ عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أَليم . تدمّر كلّ شيءٍ بأَمر ربّها فأَصبحوا لا يرى إِلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين 2 و كقوم صالح ، قال تعالى : و إلى ثمود أخاهم صالحاً . . .
فعقروها فقال تمتّعوا في داركم ثلاثة أيام . . . و أخذ الّذين ظلموا الصيحة فأصبحوا في دارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها 3 .
و كقوم لوط ، قال تعالى : و لمّا جَآءت رسُلنا لوطاً سيء بهم و ضاق بهم ذرعاً و قال هذا يومٌ عصيب . و جاءهُ قومُه يُهرعون إِليه و من قبل كانوا يعملون السيئات . . . قالوا يا لوط إِنّا رُسل ربِّك لن يصلوا إِليك فأَسر بأَهلك بقطعٍ من الليل و لا يلتفت منكم أَحدٌ إِلاّ امرأَتك إِنّه مصيبها ما أَصابهم إِنّ موعدهُم الصبح أَليس الصبح بقريب . فلَمّا جاء أَمرنا جعلنا عاليها سافلها و أَمطرنا عليها حجارةً من سجيلٍ منضودٍ . مسومةً عند ربك و ما هي من الظالمين ببعيد 4 و كقوم شعيب ، قال تعالى : و إِلى مدين أَخاهم شُعيباً . . .
و يا قوم أَوفوا المكيال و المِيزان بالقسط و لاَ تبخسوا الناس أَشياءهم و لا تعثوا في الأرض مفسدينَ . . . و يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أَن يصيبكم مثل ما
-----------
( 1 ) العنكبوت : 14 .
-----------
( 2 ) الأحقاف : 21 25 .
-----------
( 3 ) هود : 61 68 .
-----------
( 4 ) هود : 77 83 .
[ 405 ]
أصاب قومَ نُوحٍ أو قوم هود أَو قوم صالح و ما قوم لوطٍ منكم ببعيد . . . و أَخذت الذين ظلموا الصيحة فأَصبحوا في ديارهم جاثمين . كأَن لَم يغنوا فيها أَلا بعداً لمدين كما بعدت ثَمود 1 .
و قوم موسى ، قال تعالى : و قارون و فرعون و هامان و لقد جاءهم موسى بالبيّنات فاستكبروا في الأرض و ما كانوا سابقين . فكلاّ أَخذنا بذنبه فمنهم من أَرسلنا عليه حاصباً و منهم من أَخذته الصيحة و منهم من خسفنا به الأرض و منهم من أغرقنا و ما كان اللَّه ليظلمهم و لكن كانوا أنفسهم يظلمون 2 .
« فتذكّروا في الخير و الشر أحوالهم ، و احذروا أن تكونوا أمثالهم » في الملالة من الخير و الميل إلى الشر فتستحقوا المثلات أمثالهم .
« فإذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم » في الخير و الشر ، و أن حالهم لمّا كان عملهم خيرا كانت خيرا و لمّا كان عملهم شرّا كانت شرّا .
« فالزموا كلّ أمر لزمت العزّة به شأنهم و زاحت » أي : بعدت و ذهبت .
« الأعداء له » أي : لذلك الأمر .
« عنهم و مدّت العافية فيه » أي : في ذاك الأمر .
« عليهم ، و انقادت النعمة له » أي : لذلك الأمر .
« معهم » فصارت غير منقطعة عنهم .
« و وصلت الكرامة عليه » أي : على ذلك الأمر .
« حبلهم » فصارت ملازمة لهم .
« من » بيانية لكلّ أمر أوجب تلك الأمور .
-----------
( 1 ) هود : 84 95 .
-----------
( 2 ) العنكبوت : 39 40 .
[ 406 ]
« الاجتناب للفرقة » شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً و الذي أَوحينا إِليك و ما وصَّينا به إبراهيم و موسى و عيسى أَن أَقيموا الدّين و لا تتفَرقوا 1 .
« و اللزوم للألفة » و الاتفاق .
« و التحاضّ » أي : الحث و الترغيب .
« عليها » أي : على الالفة .
« و التواصي » أي : وصية الأول للآخر .
« بها » حتى تصيروا مثلهم في لزوم العزة شأنكم و دفع الأعداء عنكم و مدّ العافية عليكم و انقياد النعمة لكم وصلة الكرامة بحبلكم .
« و اجتنبوا كلّ أمر كسر فقرتهم » قال الجوهري : الفقارة بالفتح واحدة فقار الظهر ، و الفقرة بالكسر مثل الفقارة ، و أجود بيت في القصيدة يسمّى فقرة تشبيها بفقرة الظهر 2 .
« و أوهن » أي : أضعف .
« منتهم » قال الجوهري : في « منن » : المنة بالضم القوّة 3 .
« من تضاغن القلوب » أي : انطوائها على الحقد .
« و تشاحن الصدور » أي : امتلائها من العداوة و الشحناء .
« و تدابر النفوس » أي : تقاطعها .
« و تخاذل الأيدي » بترك التناصر .
« و تدبّروا أحوال الماضين من قبلكم كيف كانوا في حال التمحيص » أي :
الاختبار و الابتلاء من « محص الذهب » إذا خلّصه ممّا يشوبه .
-----------
( 1 ) الشورى : 13 .
-----------
( 2 ) الصحاح للجوهري 2 : 782 مادة ( فقر ) .
-----------
( 3 ) الصحاح للجوهري 6 : 2207 مادة ( منن ) .
[ 407 ]
« البلاء » السوء .
« ألم يكونوا أثقل الخلق أعباء » أي : احمالا جمع العبء بالكسر الحمل قال :
الحامل العبء الثقيل عن
الجاني بغير يد و لا شكر 1
« و أجهد العباد » أي : أشقهم .
« بلاء » أي : ابتلاء .
« و أضيق أهل الدنيا حالا » أي : مالا .
« إتخذتهم الفراعنة » قال الجوهري : فرعون لقب الوليد بن مصعب ، و كل عات فرعون ، و في الحديث « أخذنا فرعون هذه الامة » 2 .
« عبيدا » في تفسير القمّي : إستعبد آل فرعون قوم موسى و قالوا : لو كان لهؤلاء على اللَّه كرامة كما يقولون ما سلّطنا عليهم ، فقال موسى لقومه : يا قوم إن كنتم آمنتم باللَّه فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين . فقالوا على اللَّه توكلنا ربّنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين 3 .
« فساموهم سوء العذاب » أي : أعطوهم قال :
إذا سمته وصل القرابة سامني
قطيعتها تلك السفاهة و الظلم
الأصل فيه قوله تعالى لبني اسرائيل في البقرة : و إِذ نجّيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يُذبّحون أبناءكم و يستحيون نساءَكم و في ذلكم بلاء من ربّكم عظيم 4 .
« و جرّعوهم المرار » من المرارة ، و أي مرّ أمر ممّا عملوه بهم من ذبح
-----------
( 1 ) الصحاح للجوهري 1 : 61 و البيت لزهير بن أبي سلمى : ديوانه 36 .
-----------
( 2 ) الصحاح للجوهري 6 : 2177 مادة ( فرعن ) .
-----------
( 3 ) تفسير القمي 1 : 314 ، و الآيتان من سورة يونس : 84 85 .
-----------
( 4 ) البقرة : 49 .
[ 408 ]
أبنائهم و لذلك قال تعالى لهم : و في ذلكم بلاء من ربّكم عظيم 1 .
« فلم تبرح » أي : لم تزل .
« الحال بهم في ذل الهلكة » منهم .
« و قهر الغلبة » من أعدائهم .
« لا يجدون حيلة في امتناع » من الفراعنة .
« و لا سبيلا إلى دفاع » شرّهم عنهم .
« حتى إذا رأى اللَّه جدّ الصبر منهم على الأذى في محبّته ، و الاحتمال » أي :
التحمّل .
« للمكروه من خوفه ، جعل لهم من مضائق البلاء فرجا » قال تعالى في سورة الدخان : و لقد نجّينا بني إسرائيل من العذاب المهين . من فرعون إِنّه كان عالياً من المسرفين 2 .
« فأبدلهم العزّ مكان الذلّ ، و الأمن مكان الخوف ، فصاروا ملوكا حكّاما و أئمة أعلاما » قال تعالى في سورة القصص : و نُريد أن نَمُنَّ على الذين استُضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلَهُمُ الوارثين . و نُمكّن لهم في الأرض و نُرِيَ فرعون و هامان و جنودهما منهم ما كانوا يحذرون 3 و في سورة الأعراف و أورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعفون مشارق الأرض و مغاربها الّتي باركنا فيها و تمّت كلمة ربّك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا و دمّرنا ما كان يصنع فرعون و قومه و ما كانوا يعرشون 4 .
« و قد بلغت الكراهة من اللَّه لهم ما لم تبلغ » هكذا في ( الطبعة المصرية ) ،
-----------
( 1 ) المصدر نفسه .
-----------
( 2 ) الدخان : 30 31 .
-----------
( 3 ) القصص : 5 6 .
-----------
( 4 ) الأعراف : 137 .
[ 409 ]
و الصواب : ( ما لم تذهب ) كما في ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطية 1 .
« الآمال إليه بهم » قال تعالى : و إذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جعل فيكم أنبياء و جعلكم ملوكاً و آتاكم ما لم يؤت أحداً من العالمين 2 .
و في سورة البقرة : و ظَلّلنا عليكم الغمام و أَنزلنا عليكم المنّ و السلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم و ما ظلمونا و لكن كانوا أنفسهم يظلمون 3 .
في ( الجلالين ) : ظلّل عليهم الغمام من حر الشمس في التيه و أنزل عليهم الترنجبين و الطير السماني في التيه ، و كانوا منهيين عن الادّخار فادّخروا فانقطع عنهم 4 .
و في السورة نفسها و إِذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً قد علم كُلُّ اُناس مشربهُم كلوا و اشربوا من رزق اللَّه و لا تعثوا في الأَرض مفسدين 5 .
و في الجلالين أيضا : عطشوا في التيه فضرب موسى حجره الذي كان كرأس الرجل و هو الذي فر بثوبه فانفجرت منه بعدد الأسباط الإثنى عشر لكل سبط عين .
« فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء » جمع الملأ .
-----------
( 1 ) شرح ابن أبي الحديد 13 : 169 جاء بلفظ « ما لم تذهب » ، ابن ميثم ( النسخة المنقحة ) كما ورد في الطبعة المصرية 4 : 288 .
-----------
( 2 ) المائدة : 20 .
-----------
( 3 ) البقرة : 57 .
-----------
( 4 ) الجلالين : 12 .
-----------
( 5 ) البقرة : 60 .
[ 410 ]
« مجتمعة و الأهواء متّفقة و القلوب معتدلة و الأيدي مترادفة » أي : متعاونة .
« و السيوف متناصرة » ينصر سيف ذا سيف ذاك ، و سيف ذاك سيف ذا .
« و البصائر نافذة » في العمل .
« و العزائم » الارادات المتحركة للشخص إلى العمل .
« واحدة » ما عزمه ذا عزمه ذاك .
« ألم يكونوا أربابا في أقطار الأرضين ، و ملوكا على رقاب العالمين » لمّا كانوا متّفقين .
« فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم حين وقعت الفرقة و تشتّتت الالفة و اختلفت الكلمة و الأفئدة ، و تشعبوا مختلفين و تفرّقوا متحاربين ، قد خلع اللَّه عنهم لباس كرامته و سلبهم غضارة نعمته » أي : طراوتها و طيبها .
« و بقي قصص أخبارهم فيكم عبرة للمعتبرين منكم » كذلك شأن كل امة من الامم من العرب و العجم في غلبتهم وقت اتفاقهم ، و مغلوبيتهم وقت افتراقهم .
و في ( الأخبار الطوال ) : لمّا تمّ لملوك الطوائف مائتا سنة و ست و ستون ظهر أردشير بن بابك بن ساسان بمدينة إصطخر ، فدبّ في ردّ ملك فارس في نصابه فلم يزل يغلب ملكا و يقتل ملكا حتى انتهى إلى فرخان ملك الجبل فقتله في صحراء الهرمزدجان ، ثم سار إلى نهاوند ثم الريّ ثم خراسان لا يأتي حيّزا إلاّ أذعن له ، ثم سار إلى سجستان ثم إلى كرمان ثم سار إلى فارس ثم سار إلى العراق ، فتلقّاه من كان بها من ملوك الطوائف بالأهواز فقتلهم ، ثم سار حتى عسكر بموضع المدائن اليوم فاختطّها و بناها . . . .
هذا في أولهم إلى أن قال : في آخرهم ملكوا عليهم بوران بنت كسرى ،
و ذلك أن شيرويه لم يدع احدا من اخوته خلا ( جوان شير ) لكونه طفلا ، فعند ذلك و هى أمرهم و ضعف سلطان فارس و فلّت شوكتهم ، فلمّا أفضى الأمر إلى
[ 411 ]
بوران بنت كسرى بن هرمز شاع في أطراف الأرضين أنّه لا ملك لأرض فارس و إنّما يلوذون بباب امرأة ، فخرج رجلان من بكر بن وائل يقال لأحدهما المثنى بن حارثة الشيباني و الآخر سويد بن قطبة العجلي ، فأقبلا حتى نزلا فيمن جمعا بتخوم أرض العجم ، فكانا يغيران على الدهاقين فيأخذان ما قدرا عليه ، فإذا طلبا أمعنا في البرّ فلا يتبعهما أحد ، و كان المثنّى يغير من ناحية الحيرة و سويد من ناحية الابلّة و ذلك في خلافة أبي بكر ، فكتب المثنّى إليه يعلمه ضراوته بفارس و يعرّفه و هنهم و يسأله أن يمدّه بجيش ، فلمّا انتهى كتابه إلى أبي بكر كتب إلى خالد بن الوليد و قد كان فرغ من أهل الردة أن يسير إلى أهل الحيرة فيحارب فارس و يضم المثنى و من معه إليه ، و كره المثنى ورود خالد عليه و كان ظن أن أبا بكر سيولّيه الأمر ، فسار خالد و المثنّى بأصحابهما حتى أناخا على الحيرة ، و تحصّن أهلها في القصور الثلاثة ، ثم نزل إليه عمرو بن بقيلة و حديثه مع خالد في البيش معروف ، ثم صالحوه في القصور الثلاثة على مائة ألف درهم يؤدّونها في كلّ عام إلى المسلمين ، ثم ورد كتاب أبي بكر إلى خالد يأمره بالشخوص إلى الشام لمدد أبي عبيدة ، فخلّف خالد بالحيرة مع المثنى عمرو بن حزم الأنصاري و سار على الأنبار و انحطّ على عين التمر و كان بها مسلحة لأهل فارس فحاصرهم حتى استنزلهم بغير أمان فضرب أعناقهم و سبى ذراريهم ، و من ذلك السبي أبو محمد بن سيرين و حمران بن عثمان مولى عثمان ، و قتل فيها خالد خفيرا كان بها من العرب يسمّى هلال بن عقبة من النمر بن قاسط و صلبه ، و مرّ بحيّ من بني تغلب و النمر ، فأغار عليهم فقتل و غنم حتى انتهى إلى الشام ، و لم يزل عمرو بن حزم و المثنى يتطرفإنّ أرض السواد و يغيران فيها حتى توفي أبو بكر و ولي عمر سنة ثلاث عشرة ، فعزم على
[ 412 ]
توجيه خيل إلى العراق فدعا أبا عبيد أبو المختار فعقد له على خمسة آلاف رجل 1 . . . .
و مثل الاختلاف في مصالح الدنيا ترك أحكام الدين و مخالفة أوامر اللَّه تعالى ، قال تعالى : و قضينا إِلى بني إِسرائيل في الكتاب لتُفسدنَّ في الأرض مرَّتين و لتعلُنَّ علوّاً كبيراً . فإذا جاء وعد اُولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا اُولي بأسٍ شديد فجاسوا خلال الديار و كان وعداً مفعولاً . ثم رددنا لكم الكرّة عليهم و أَمددناكم بأموالٍ و بنين و جعلناكم أكثر نفيراً . إِن أَحسنتم أَحسنتم لأنفُسكم و إِن أَسأتُم فلها فإذا جاء وعد الآخرةِ ليسوؤا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة و ليتبّروا ما علوا تتبيراً 2 .
قال الزمخشري : و افسادهم في المرة الاولى كان قتلهم زكريا و حبسهم ارميا حين أنذرهم بسخط اللَّه ، و إفسادهم في المرة الأخيرة كان بقتل يحيى بن زكريا و قصد قتل عيسى بن مريم 3 .
و المراد بعباد أولي بأس شديد بعثوا عليهم سنحاريب و جنوده و قيل بختنصر و قيل جالوت قتلوا علماءهم و أحرقوا التوراة و خرّبوا المسجد و سبوا منهم سبعين ألفا .
و المراد بردّ الكرّة لهم عليهم لمّا أقلعوا عن الافساد قيل : قتل بختنصر و استنقاذ بني اسرائيل أسراءهم و أموالهم و رجوع الملك إليهم ، و قيل هي قتل داود لجالوت .
و قال في قوله تعالى بعد : عسى ربّكم أَن يرحمكم و إِن عُدتم عُدنا 4
-----------
( 1 ) الأخبار الطوال للدينوري : 45 .
-----------
( 2 ) الاسراء : 4 7 .
-----------
( 3 ) الكشّاف للزمخشري 2 : 649 .
-----------
( 4 ) الاسراء : 8 .
[ 413 ]
قد عادوا إلى المعصية فأعاد اللَّه عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة و ضرب الأتاوة عليهم .
و عن الحسن عادوا فبعث اللَّه محمّدا صلّى اللَّه عليه و آله فهم يعطون الجزية عن يد و هم صاغرون .
و عن قتادة : ثم كان آخر ذلك أن بعث اللَّه عليهم هذا الحيّ من العرب فهم منهم في عذاب إلى يوم القيامة 1 .
هذا ، و في ( غارات الثقفي ) في فتنة ابن الحضرمي بالبصرة من قبل معاوية و تعارض مخنف بن سليم و شبث بن ربعي في قومهما الأزد و تميم قال علي عليه السّلام : مه تناهوا أيّها الناس و ليردعكم الإسلام و وقاره عن التباغي 2 و التهاذي 3 ، و لتجمع كلمتكم ، و الزموا دين اللَّه الذي لا يقبل من أحد غيره ،
و كلمة الاخلاص التي هي قوام الدين و حجّة اللَّه على الكافرين ، و اذكروا إذ كنتم قليلا مشركين متفرقين متباغضين فألّف بينكم بالاسلام فكثّرتم و اجتمعتم و تحاببتم ، فلا تفرّقوا بعد إذ اجتمعتم و لا تباغضوا بعد إذ تحاببتم ،
و إذا رأيتم الناس و بينهم النائرة قد تداعوا إلى العشائر و القبائل فاقصدوا لهامهم و وجوههم بالسّيف حتى يفزعوا إلى اللَّه تعالى و إلى كتابه و سنّة نبيّه ،
فأمّا تلك الحميّة حين تكون في المسلمين ، من خطرات الشيطان فانتهوا عنها لا أبا لكم تفلحوا و تنجحوا 4 .
-----------
( 1 ) الكشّاف للزمخشري 2 : 650 .
-----------
( 2 ) التباغي : ظلم بعضهم بعضا .
-----------
( 3 ) التهاذي : التكلّم بغير المعقول .
-----------
( 4 ) الغارات للثقفي : 271 272 .
[ 414 ]