21

الحكمة ( 111 ) و قال عليه السّلام و قد توفّي سهل بن حنيف الأنصاريّ بالكوفة بعد مرجعه من صفّين معه ، و كان أحبّ النّاس إليه :

لَوْ أَحَبَّنِي جَبَلٌ لَتَهَافَتَ وَ معنى ذَلك أنَّ الْمِحْنَةَ تَغْلْظُ عَلَيْهِ فَتُسْرِعُ الْمَصَائِبُ إلَيْهِ وَ لاَ يُفْعَلُ ذَلِكَ إِلاّ بالْأَتْقِيَاءِ الْأَبْرَارِ وَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَار : وَ هَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ ع : مَنْ أَحَبَّنَا ؟ أَهْلَ اَلْبَيْتِ ؟ فَلْيَسْتَعِدَّ لِلْفَقْرِ جِلْبَابًا

-----------
( 1 ) نقله عن المدائني ابن أبي الحديد في شرحه 1 : 101 .

[ 439 ]

وَ قَدْ يُؤَوَّلُ ذَلِكَ عَلَى مِعْنَى آخَرَ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ ذِكْرِهِ أقول : القول الأوّل الخاصّ بسهل رواه الخاصّة فقط ، و الثّاني العام العامّة على ما وقفنا .

أمّا الأوّل ففي ( كتاب محمّد بن مثنى الحضرمي ) من الاصول الأربعمائة : عن جعفر بن محمّد بن شريح ، عن ذريح المحاربي ، عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام . و ذكر سهل بن حنيف ، فقال : كان من النّقباء . فقلت له : من نقباء نبيّ اللَّه الاثني عشر ؟ فقال : نعم كان من الّذين اختيروا من السّبعين . فقلت له :

كفلاء على قومهم ؟ فقال : نعم ، إنّهم رجعوا و فيهم دم ، فاستنظروا النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله إلى قابل ، فرجعوا ففرغوا من دمهم ، فاصطلحوا ، و أقبل النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله معهم .

و ذكر سهلا ، فقال أبو عبد اللَّه عليه السّلام : ما سبقه أحد من قريش ، و لا من النّاس بمنقبة . و أثنى عليه ، و قال : لمّا مات جزع أمير المؤمنين عليه السّلام جزعا شديدا ،

و صلّى عليه خمس صلوات ، و قال : لو كان معي جبل لارفضّ 1 .

و أمّا الثاني فرواه ابن قتيبة و أبو عبيد 2 .

قول المصنّف : « و كان أحبّ » هكذا في ( المصرية ) ، و الصواب ( من أحبّ ) كما في ( ابن أبي الحديد و ابن ميثم و الخطّية ) 3 .

« النّاس إليه » و لذلك صلّى عليه السّلام عليه خمس صلوات ، كما عرفت من خبر كتاب محمّد بن المثنى 4 ، كما صلّى النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله على عمّه حمزة أربع عشرة صلاة .

« لو أحبّني جبل لتهافت » أي : تساقط قطعة قطعة ، و قد عرفت ذكر الخبر

-----------
( 1 ) رواه محمّد بن مثنى الحضرمي في أصله : 86 .

-----------
( 2 ) نقله عن غريب الحديث لابن قتيبة و أبي عبيد المرتضى في أماليه 1 : 13 المجلس 2 .

-----------
( 3 ) لفظ شرح ابن أبي الحديد 4 : 289 مثل المصرية ، و لفظ شرح ابن ميثم 5 : 298 : « كان من أحب » .

-----------
( 4 ) مرّ نقله في صدر هذا العنوان .

[ 440 ]

بدل التهافت : « لأرفضّ ، و المعنى واحد ، ففي ( الصحاح ) : و كلّ متفرّق ذاهب مرفضّ . قال القطامي :

أخوك الّذي لا يملك الحسّ نفسه
و ترفضّ عند المحفظات الكتائف 1

قول المصنّف : « معنى ذلك أنّ المحنة » أي : الامتحان .

« تغلظ عليه فتسرع المصائب إليه » في حديث الأربعمائة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال : و الّذي فلق الحبّة و برأ النسمة ، للبلاء أسرع إلى المؤمن من أغدار السّيل من أعلى التّلعة إلى أسفلها ، و من ركض البراذين 2 .

« و لا يفعل ذلك إلاّ بالأتقياء الأبرار » فحيث إنّ الامور مقسومة من اللَّه تعالى بين عباده ، فمن آتاه اللَّه الآخرة لا يؤتيه الدّنيا ، كما أنّ من آتاه الحذاقة و الكمال لا يؤته الرّياسة و المال ، فذكروا أنّ المقتدر لمّا خلع و بويع ابن المعتزّ ،

أخبر الطبري بذلك ، فقال : فمن رشّح للوزارة ؟ قيل : ابن الجراح . قال : فمن ذكره للقضاء ؟ فقيل : ابن المثنى . فأطرق قليلا ، ثمّ قال : إنّ هذا أمر لا يتمّ ، و لا ينتظم .

قيل له : و كيف ؟ قال : كلّ واحد من هؤلاء الذين سمّى متقدّم في معناه على الرّتبة في أبناء جنسه ، و الزّمان مدبر و الدّنيا مولية ، و ما أرى هذا إلاّ إلى اضمحلال ، و لا يكون لمدّته طول . فكان الأمر كما قال 3 .

« و المصطفين الأخيار » في ( تاريخ اليعقوبي ) قدم على عليّ عليه السّلام أبو مريم القرشي المكّي و كان صديقا له فلمّا رآه قال : ما أقدمك يا أبا مريم ؟

قال : و اللَّه ما جئت في حاجة ، و لكن عهدي بك قديم فأحببت أن أراك ، و لو اجتمع أهل الأرض عليك ، لأقمتهم على الطريق . فقال : يا أبا مريم و اللَّه إنّي لصاحبك

-----------
( 1 ) صحاح اللّغة 3 : 1079 مادة ( رفض ) .

-----------
( 2 ) رواه ضمن حديث الاربعمائة الصدوق في الخصال : 621 و ابن شعبة في تحف العقول : 111 .

-----------
( 3 ) روى هذا المعنى الطبري في تاريخه 8 : 251 سنة 296 ، و القرطبي في صلة تاريخ الطبري : 18 سنة 296 .

[ 441 ]

الّذي تعلم ، و لكنّي منيت بشرار خلق اللَّه إلاّ من رحم اللَّه يدعونني فآبى عليهم ، ثمّ اجيبهم فيتفرّقون عنّي ، و الدنيا محنة الصالحين ، جعلنا اللَّه و إيّاك منهم ، و لو لا ما سمعت من حبيبي أنّه يقول ، لضاق ذرعي غير هذا الضيق ،

سمعته يقول : الجهد و البلاء أسرع إلى من أحبّ اللَّه و أحبّني من السّيل إلى مجاريه 1 .

« و هذا مثل قوله عليه السّلام : من أحبّنا أهل البيت فليستعد للفقر جلبابا » و رواه أبو عبيد ، و ابن قتيبة في ( غريبيهما ) هكذا : « من أحبّنا أهل البيت فليعدّ للفقر جلبابا أو تجفافا » 2 .

و في ( الصحاح ) : الجلباب : الملحفة ، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلا :

تمشي النسور إليه و هي لاهية
مشي العذارى عليهنّ الجلابيب 3

و التّجفاف : لبس الفرس .

روى الصّفار عن الأصبغ قال : كنت مع أمير المؤمنين عليه السّلام ، فأتاه رجل فسلّم عليه ، ثمّ قال له : إنّي و اللَّه لاحبّك في اللَّه ، و احبّك في السّرّ كما احبّك في العلانية ، و أدين اللَّه بولايتك في السّرّ كما أدين بها في العلانية . و بيد أمير المؤمنين عليه السّلام عود فتطأطأ رأسه ، ثم نكت بعوده في الأرض ساعة ، ثمّ رفع رأسه إليه فقال : إنّ النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله حدّثني بألف حديث لكلّ حديث ألف باب ، و أنّ أرواح المؤمنين تلتقي في الهواء فتشامّ ، فما تعارف منها ايتلف ، و ما تناكر منها اختلف ، و يحك لقد كذبت فما أعرف وجهك في الوجوه ، و لا اسمك في الأسماء . ثمّ دخل عليه آخر ، فقال له : إنّي احبّك في اللَّه ، و احبّك في السّر كما

-----------
( 1 ) تاريخ اليعقوبي 2 : 205 .

-----------
( 2 ) رواه عنهما المرتضى في أماليه 1 : 13 المجلس 2 .

-----------
( 3 ) صحاح اللغة 1 : 101 مادة ( جلب ) .

[ 442 ]

احبّك في العلانية ، و أدين اللَّه بولايتك في السّرّ كما أدين اللَّه بها في العلانية فنكت عليه السّلام بعوده الثّانية ثم رفع رأسه إليه ، فقال له : صدقت إنّ طينتنا طينة مخزونة أخذ اللَّه ميثاقها من صلب آدم ، فلم يشذّ منها شاذّ ، و لا يدخل فيها داخل من غيرها ، اذهب و اتخذ للفقر جلبابا ، فإنّي سمعت النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله يقول : و اللَّه الفقر أسرع إلى محبينا من السّيل إلى بطن الوادي . و رواه ( أمالي ) الشيخ 1 .

و لكن روى ( معاني الأخبار ) : عن أحمد بن المبارك قال : إنّ رجلا قال للصّادق عليه السّلام : حديث يروى : أنّ رجلا قال لأمير المؤمنين عليه السّلام : إنّي احبّك . فقال له : أعدّ للفقر جلبابا . فقال : ليس هكذا قال ، إنّما قال له : أعددت لفاقتك جلبابا .

يعني : يوم القيامة 2 .

و يمكن الجمع بكون لفظ ( الفقر ) في خبر الصّفار ، و خبر أبي عبيد ، و ابن قتيبة من وهم الرّاوي ، و الأصل : البلاء ، كما يشهد له خبر الاربعمائة المتقدّم ،

و خبر أبي مريم المتقدّم ، لكن روى ( الاسد ) : عن عثمة أنّ رجلا من الأنصار رأى بوجه النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله أثر الجوع ، فأتى بيته فلم يجد فيه شيئا ، فأتى بني قريظة فآجر نفسه على كلّ دلو بتمرة ، حتّى جمع حفنة أو كفّا ثمّ رجع بالتّمر فوضعه بين يدي النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، فقال صلّى اللَّه عليه و آله له : إنّي لأظنّك تحبّ اللَّه و رسوله ؟ قال : أجل و الذي بعثك بالحقّ ، لأنت أحبّ إليّ من نفسي و ولدي و أهلي و مالي . قال : أمّا لا فاصطبر للفاقة ، و أعدّ للبلاء تجفافا ، فو الّذي بعثني بالحقّ لهي أسرع إلى من يحبّني من هبوط الماء من رأس الجبل إلى أسفله 3 .

« و قد يؤوّل » من التأويل .

-----------
( 1 ) أخرجه الصفاري البصائر : 411 ح 2 ، و أبو علي الطوسي في أماليه 2 : 23 المجلس 14 .

-----------
( 2 ) معاني الأخبار للصدوق : 182 ح 1 .

-----------
( 3 ) اسد الغابة 3 : 387 .

[ 443 ]

« ذلك » أي : قوله « من أحبّنا فليستعدّ للفقر جلبابا » .

« على معنى آخر ليس هذا موضع ذكره » الظّاهر أنّه أراد ما ذكره أبو عبيد ، فإنّه قال : إنّه عليه السّلام لم يرد الفقر في الدّنيا ، ألا ترى أنّ في من يحبّهم مثل ما في ساير النّاس من الغنى ؟ و إنّما أراد الفقر يوم القيامة ، و أخرج الكلام مخرج الوعظ و النصيحة و الحثّ على الطاعات ، فكأنّه أراد : من أحبّنا فليعدّ لفقره يوم القيامة ما يجبره من الثّواب ، و التقرّب إلى اللَّه تعالى و الزلفى عنده 1 .

قلت : ما ذكره أبو عبيد معنى صحيح ، إلاّ أنّ لفظ الخبر آب عن الحمل عليه ، و قد عرفت أنّ خبر ( المعاني ) ذكر ذاك المعنى ، و حكم بكون لفظه غير ذاك اللفظ ، و كونه بلفظ : « أعددت لفاقتك ، أي : في القيامة جلبابا » . و لو فرض صحّة الخبر فالظاهر معنى قاله ابن قتيبة ، و هو : أنّ من أحبّنا فليصبر على التقلّل من الدّنيا ، و ليأخذ نفسه بالكفّ عن أعراضها 2 .

و ذكر المرتضى في ( غرره ) قولهما ، و يمكن أن يكون في الخبر وجه ثالث ، هو : أن أحد وجوه معنى لفظة ( الفقر ) أن يحزّ أنف البعير حتّى يخلص إلى العظم أو قريب منه ، ثمّ يلوى عليه حبل يذلل به الصّعب . بعير مفقور به :

فعل به ذلك . فيحتمل على هذا أنّه عليه السّلام أراد : أنّ من أحبّنا فليلزم نفسه ،

و ليحطمها و ليقدها إلى الطاعات ، و ليصرفها عمّا تميل إليه طباعها من الشهوات ، و ليذللها على الصبر على ما ذكرناه ، و مشقّة ما اريد منها ، كما يفعل ذلك بالبعير الصّعب . و هذا وجه ثالث في الخبر لم يذكر 3 .

قلت : هو أيضا معنى بعيد خلاف المتبادر من اللفظ ، و كيف كان ، فروي عن أبي خليفة الفضل بن حباب الجمحي قال :

-----------
( 1 ) أمالي المرتضى 1 : 13 المجلس 2 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 2 ) أمالي المرتضى 1 : 13 المجلس 2 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 3 ) قاله المرتضى في أماليه المسمى بالغرر و الدرر 1 : 13 ، و النقل بتصرف يسير .

[ 444 ]

شيبان و الكبش حدّثاني
شيخان باللَّه عالمان

قالا إذا كنت فاطميا
فاصبر على نكبة الزمان

و في السير : كتب الحسين عليه السّلام إلى الأحنف يدعوه إلى نفسه ، فلم يردّ جوابا ، و قال : قد جرّبنا آل أبي الحسن ، فلم نجد عندهم إيالة للملك ، و لا جمعا للمال ، و لا مكيدة في الحرب 1 .

و في ( عيون ابن قتيبة ) : قال الشّعبي : ما لقينا من آل أبي طالب ؟ إن أحببناهم قتلونا ، و إن أبغضناهم أدخلونا النّار 2 .

و قيل لابن عمر : إنّ الحسين عليه السّلام توجّه إلى العراق . فلحقه و ناشده اللَّه أن يرجع فأبى ، فقال ابن عمر : أما إنّي ساحدّثك حديثا : إنّ جبرئيل عليه السّلام أتى النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله فخيّره بين الدّنيا و الآخرة فاختار الآخرة . و أنّكم بضعة من النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله ، و اللَّه ، لا تليها أنت و لا أحد من أهل بيتك ، و ما صرفها اللَّه عنكم إلاّ لما هو خير لكم 3 .

و في ( مقاتل أبي الفرج ) : في حديث سفيان بن أبي ليلى الّذي قال للحسن عليه السّلام : أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة قال الحسن عليه السّلام له : ما جاءنا بك يا سفيان ؟ قال : حبّكم . فقال عليه السّلام فأبشر يا سفيان ، فإنّي سمعت عليّا يقول : سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه و آله يقول : يرد عليّ الحوض أهل بيتي و من أحبّهم من امّتي كهاتين يعني : السّبابتين أو كهاتين يعني : السّبابة و الوسطى إحداهما تفضل على الاخرى . أبشر يا سفيان ، فإنّ الدّنيا تسع البر و الفاجر ، حتّى يبعث اللَّه إمام الحقّ من آل محمّد عليهم السّلام 4 .

-----------
( 1 ) الفائق للزمخشري 1 : 52 مادة ( اول ) ، بفرق يسير .

-----------
( 2 ) عيون الاخبار لابن قتيبة 1 : 212 .

-----------
( 3 ) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 : 211 ، و النقل بتلخيص .

-----------
( 4 ) المقاتل أبي الفرج : 44 .

[ 445 ]

ثمّ حبّهم عليهم السّلام من الفرائض و إن سمّوا محبّيهم روافض ، و في ( فواتح الميبدي ) روى الكشاف و الواحدي : أنّه لمّا نزلت . . . قل لا أسألكم عليه أجرا إلاّ المودّة في القربى . . . 1 ، سألوا النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله و سلّم : امرنا بمحبّة من ؟ فقال ثلاث مرّات : عليّ و فاطمة و ابناهما 2 .

و روى الترمذي عن المقداد قال : قال النّبيّ صلّى اللَّه عليه و آله : معرفة آل محمّد براءة من النّار ، و حبّ آل محمّد جواز من الصراط ، و الولاية لآل محمّد أمان من العذاب 3 .