( و لقد دخل موسى الى لبسه ) . انطلق موسى و هرون الى فرعون بأمر اللّه ، و دخلا عليه ، و هما يلبسان مدارع الصوف ، و بيدهما العصي ، و دعواه الى اللّه ، و شرطا له بقاء ملكه و دوام عزه ان أسلم و أطاع . . و سخر فرعون ممن يشترط له هذا ، و لا جاه له و لا مال . . فقال له موسى : « أ وَ لو جئتك بشيء مبين » ؟ . و لكن الشيء المبين و الحق اليقين عند فرعون و أمثاله هو الذهب و الملك . . و لذا قال فرعون : يا قوم أ ليس لي ملك مصر و هذه الأنهار تجري من تحتي ؟ .
ثم قال لموسى : « لئن اتخذتَ إلها غيري لأجعلنك من المسجونين » .
و أقر « نيتشه » هذه الفلسفة ، و استدل عليها بقوله على لسان زرادشت : « إذا كان هناك إله فكيف أستطيع أن لا أكون إلها ، و لهذا فليس ثم من إله » . .
أبدا . . ليس للكون إله ، و الدليل ان نيتشه أو زرادشت ليس بإله . . و أيضا ليس للفقير من حق ، و يستحيل أن يكون الفقير محقا ، و الدليل انه بلا مال و جاه . . و لا عجب فهذا هو المنطق السائد عمليا في كل عصر ، و ان كان باطلا باتفاق الجميع من الوجهة النظرية .
( و لو أراد اللّه سبحانه لأنبيائه الى لفعل ) . لا واسطة بين اللّه و عباده إلا التبليغ عنه على لسان أنبيائه بهدف الإيمان به و العمل بشريعته عن قناعة لا عن رغبة أو رهبة . . و إذا كان هذا هو الغرض من بعثة الأنبياء فلا موجب إذن لأن يزودهم سبحانه بكنوز الدنيا و حدائقها و طيورها و وحوشها ( و لو فعل ) أي
[ 126 ]
لو زود سبحانه الأنبياء بمتاع الحياة الدنيا ( لسقط البلاء ) و الاختبار و الامتحان ،
لأن الناس عبيد الدنيا ، و لمن في يده شيء منها ، و عليه يكون إيمانهم بالأنبياء الأغنياء إيمانا بالمال لا برسالة اللّه و أنبيائه .
( و بطل الجزاء ) لأنه لغير اللّه ( و اضمحلت الأنباء ) و الأحاديث عن الأنبياء و سيرتهم و عظمتهم و شريعتهم حيث يكون الحديث عنهم ، و الحال هذه ، حديثا عن الدنيا التي يملكونها ، لا حديثا عن اللّه و حلاله و حرامه ( و لما وجب للقابلين اجور المبتلين ) لأن المراد بالمبتلى من أظهره التمحيص على حقيقته و لن يكون هذا إلا في الضراء و ساعة العسرة ( و لا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ) لأن أهل الإحسان يعطون و لا يطمعون في الربح ( و لا لزمت الأسماء معانيها ) لكل كلمة معنى تدل عليه ، و لكل اسم مسمى يفهم منه ، و معنى الإيمان باللّه و رسله هو التصديق به و بهم ، و لو أسمينا من آمن طمعا ، أسميناه مؤمنا لوضعنا الكلمة في غير مدلولها ، و الاسم في غير مسماه .
( و لكن اللّه سبحانه جعل رسله أولي قوة الخ ) . . أولياء اللّه أهون الناس شأنا عند الطغاة و أهل الدنيا ، لفقرهم و قلة يدهم ، و لكنهم أغنياء بالصدق و الأمانة ، و بالهداية و التقوى ، بل هم أقوى و أغنى من خلق اللّه و يخلق على الإطلاق ،
لا تهزمهم الملوك و الجبابرة عن عزمهم و لا تثنيهم الشهوات و الأموال عن دينهم و ضمائرهم ( و لو كانت الأنبياء أهل قوة الخ ) . . بما ذا تبرهن على تجردك للحق ؟ . أ بانقيادك له رغبة أو رهبة ، أو بإيمانك به لوجه الحق و ثباتك عليه حتى و لو دفعت الثمن غاليا من نفسك و أهلك و مالك ؟ . و الجواب واضح و بسيط ، فمن آمن خوفا أو طمعا فهو تاجر ، و من آمن لوجه الحق وحده مهما تكن النتائج و العواقب فهو المؤمن حقا و واقعا ، و على هذا لو كانت الدنيا مع الأنبياء لآمن من في الأرض جميعا ، و اختلط الحابل بالنابل ، و المؤمن بالفاجر .
( فكانت النيات مشتركة ، و الحسنات مقتسمة ) لو ان الدنيا مع الأنبياء و آمن بهم من آمن لكان ايمانه مشوبا بحب الدنيا ، و هذا هو معنى الاشتراك ، و أيضا كان عمله بأمر من الأنبياء موزعا بين حب اللّه و حب الدنيا ، و هذا هو المراد بالتقسيم ( و لكن اللّه سبحانه أراد أن يكون الاتباع الى شائبة ) . جرد سبحانه أنبياءه من زينة الدنيا ليكون الإيمان خالصا لوجهه الكريم ، قال تعالى :
[ 127 ]
« و ما أمروا إلا ليعبدوا اللّه مخلصين له الدين 5 البينة » . و قال نبيه العظيم :
انما الأعمال بالنيات ، و لكل امرىء ما نوى . . و من كانت هجرته الى اللّه و رسوله فهجرته الى اللّه و رسوله ، و من كانت هجرته الى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته الى ما هاجر اليه .
( و كلما كانت البلوى أعظم كانت المثوبة و الجزاء أجزل ) . و لذا قيل :
الأجر على قدر المشقة . و عن رسول اللّه ( ص ) : إن عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء .
و الخلاصة لا شيء عند الأنبياء إلا اللّه و الحق ، و لا يعتزون إلا به ، و لا يخافون إلا منه ، و من ادعى الإيمان باللّه و رسله ، ثم اعتز بغير اللّه ، و خاف من سواه فهو كاذب في دعواه .