( أ لا ترون ان اللّه سبحانه اختبر الأولين الخ ) . . بنى سبحانه البيت الحرام من حجر و طين تماما كالبيوت التي نسكنها ، و ألزم بزيارته و حجه من استطاع اليه سبيلا . . يخضع و يتذلل ، و يستغيث و يستجير ، و هذا الإلزام و الوجوب كان
[ 130 ]
من زمن سحيق يبتدىء بآدم ، و الى آخر يوم ، و ابراهيم ( ع ) أعاد ما بدأه السابقون . و كان البيت الحرام و ما زال في واد غير ذي زرع ، لا ثمر و لا مطر ،
أما طريقه فكان بحارا و جبالا ، و الحج اليه متاعب و مصاعب تزيد المؤمن ثوابا ،
و تميزه عمن عصى و تمرد . . كانوا يمشون أو يركبون الدواب الى شاطىء البحر ،
ثم يركبون البحر الى الصحراء ، يقطعونها على الجمال ، و يعانون التعب و الخوف من القتل أو السلب ، و يقاسون الجوع و العطش ، و الحر و البرد .
أما اليوم و بعد السيارة و الطيارة فالحج نزهة و سياحة ، و لا شيء فيه للثواب و التمييز و الاختبار إلا النية الخالصة ، و التلبية لدعوة اللّه وحدها ، و الشعور بالتوجه و الانقطاع اليه تعالى عسى أن يتوب و يغفر . و روي أن النبي ( ص ) أشار الى ذلك بقوله : « يأتي زمان على الناس يخرج أغنياؤهم الى بيت اللّه للسياحة ، و فقراؤهم للتجارة ، و علماؤهم للسمعة ، و قلة منهم تخرج لوجه اللّه » . و المراد بالفقراء هنا كل من يتخذ الحج وسيلة للربح و الاتجار كالمعرّفين الذين يقودون جماعة من الحجاج بأجر معلوم ، أما العلماء فالمراد بهم أصحاب العمائم الذين ترسلهم الحكومات باسم البعثة لا لشيء إلا للسمعة كما في الحديث .
ان بيت اللّه الحرام أحجار لا تضر و لا تنفع كما قال رسول اللّه ( ص ) من قبل و قال الإمام و غير الإمام من بعد ، و لكن هذه الأحجار رمز للإجماع على توحيد اللّه و عبادته ، و شعار لتقديسه و تعظيمه : « و من يعظّم شعائر اللّه فإنها من تقوى القلوب 32 الحج » . و ليس الإسلام بدعا في ذلك ، فكل الأمم و الطوائف من بني آدم لها رموز و شعائر مطهرة مقدسة . ( انظر ما نقلناه في كتاب :
« من هنا و هناك » بعنوان زيارة القبور ) .
( ثم أمر آدم ( ع ) و ولده أن يثنوا أعطافهم نحوه ) أي ان يحجوا الى بيت اللّه الحرام ، و قيل : انه كان خيمة يطوف حولها آدم ، ثم بنّاها ابنه شيث بالحجر و الطين ( فصار مثابة لمنتجع أسفارهم ) إشارة الى قوله تعالى في الآية 125 من سورة البقرة : « و إذ جعلنا البيت مثابة للناس و أمنا » . و منتجع إشارة الى المنافع التي ذكرها سبحانه في الآية 28 من سورة الحج : « ليشهدوا منافع لهم » .
( تهوي اليهم ثمار الأفئدة ) إشارة الى الآية 37 من سورة ابراهيم : « فاجعل أفئدة من الناس تهوي اليهم » . ( من مفاوز قفار ) « و أذِّن في الناس بالحج يأتوك رجالا و على كل ضامر 27 الحج » .
[ 131 ]
( حتى يهزوا مناكبهم الى محاسن خلقهم ) . على الحاج قبل كل شيء أن يلبس ثوبي الاحرام ، و هما إزاران يلف أحدهما حول وسطه ، و الثاني على الظهر و الصدر و الكتفين ، و لا خيط يشبك أحدهما بالآخر ، و الى هذا أشار الإمام بقوله : « قد نبذوا السرابيل الخ » . . أما إعفاء الشعور فهو إشارة الى ان المحرم بكسر الراء يترك شعره بلا قص و حلق و نتف ، ثم يرفع صوته بالتلبية و التهليل و التكبير ، ثم يطوف و يسعى ، و يصلي و يستغفر .
( ابتلاء عظيما ، و امتحانا شديدا الخ ) . . لما ذا نبذ السرابيل ، و تشويه المحاسن ، و الهرولة ذهابا و إيابا ، و الطواف حول الأحجار بتذلل و تضرع ؟ . .
لا تسل . . انك عبد مأمور . . و لمولاك حق التمحيص و الاختبار بالأمر و النهي ،
و ما عليك إلا أن تطيع ، و على قدر طاعتك يعرف مقدار حبك للّه ، و جزاؤك عنده .
( و لو أراد اللّه سبحانه أن يضع بيته الحرام الخ ) . . اللّه على كل شيء قدير ، و أيضا هو عليم حكيم ، يعلم انه لو أعطى الدنيا لأنبيائه لآمن الناس بدنياهم لا بنبوّتهم و رسالتهم . . و أيضا لو جعل بيته الحرام في حدائق و أنهار لكان مقهى و ملهى ، و مسرحا و « بلاجا » للشياطين لا مهبطا للملائكة المقربين ، و مسجدا للعاكفين : « و عهدنا الى ابراهيم و اسماعيل ان طهرا بيتي للطائفين و العاكفين و الركّع السجود 125 البقرة » .
و قيل : ان موقع مكة في الخريطة الجغرافية كموقع القلب من الجسد ، لأنها وسط بين الشمال و الجنوب ، و ان نسبة بلاد الغرب اليها قربا و بعدا كنسبة بلاد الشرق . . و مهما يكن فإن رحلة المسلم الى مكة هي رحلة حب للّه و رسوله ، انه يحن و يهرع الى مكة ، و يقبّل الحجر الأسود ، و هو يرجو أن تمس شفتاه نفس المكان الذي قبّله محمد ، و يطوف حول البيت ، و هو يأمل أن تقع قدماه في نفس المكان الذي وطأه محمد ( ص ) .
( و لكن اللّه يختبر عباده بأنواع الشدائد الخ ) . . تقدم مثله مع الشرح مفصلا في الخطبة 141 و في هذا المعنى قوله تعالى : « و لنبلونكم بشيء من الخوف و الجوع و نقص من الأموال و الأنفس و الثمرات 155 البقرة » .
[ 132 ]