المعنى :

قال الشريف الرضي تلا الإمام قوله تعالى : « ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر » و قال : ( يا له ما أبعده مراما ) . أ تريدون أن تثبتوا الفضائل و المكارم لأنفسكم بكثرة الأموال و الرجال حيث يقول بعضكم لبعض : رهطي أكثر أموالا ، و أعز نفرا ؟ . . هيهات ، إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم . . ان الغنى و الفقر ، و العز و الذل بعض العرض على اللّه ( و زورا ما أغفله ) يشير بهذا الى قوله تعالى : « حتى زرتم المقابر » و المعنى عجبا من غفلتكم . أنتم في الطريق الى زيارة المقابر ،

و مع هذا تتلهون بالترهات ، و تباهون بعظام الأموات ( و خطرا ما أفظعه ) ان الذي تنتهون اليه شي‏ء فظيع و خطير ، و هو الموت و القبر و الحساب و الجزاء .

ما لكم أ فلا تبصرون ؟ .

( لقد استخلوا منهم ) . تمادى الأحياء في الافتخار و الاعتزاز بالموتى من الأجداد و الآباء . . و حين زار الخلف المكاثر الأجداث ما وجد فيها أحدا من

[ 289 ]

السلف الدابر ( أي مدّكر ) ان هذه موعظة و ذكرى للعالمين ( و تناوشوهم من مكان بعيد ) أي ذكروا الماضين بالعز و المجد ، و بين الفريقين أبعد ما بين الخافقين ( أ فبمصارع آبائهم الخ ) . . أ تفخرون بالأجسام الفانية ، و العظام البالية ؟ ( و لأن يكونوا عبرا الخ ) . . جدير بالعاقل أن يتعظ بالموتى لا أن يفخر بهم ( و لأن يهبطوا بهم الخ ) . . و أيضا جدير به أن يذل و يخشع لا ان يتعالى و يشمخ .

( لقد نظروا اليهم بأبصار العشوة الخ ) . . نظروا الى الموتى بعيون غير سليمة ،

فخاضوا من ذكرهم في بحر من الجهالة ( و لو استنطقوا عنهم الى أعقابهم جهالا ) . لو أن الأحياء سألوا المقابر عن أجدادهم و آبائهم لأجابتهم بلسان الحال : انهم في الضلالة و الهاوية ، و أنتم في الجهالة و الغواية ، و لاحقون بهم الى أسفل سافلين ( تطأون في هاماتهم ) . قال ابن أبي الحديد : أخذ هذا المعنى أبو العلاء المعري فقال :

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض
إلا من هذه الأجساد

( و تستثبتون في أجسادهم ) . تستحيل أجسادهم الى تراب ، فتغرسون فيها الأشجار و نحوها ( و ترتعون فيما لفظوا ) تتقلبون في الذي تركوا من حطام الدنيا و متاعها ( و تسكنون فيما خربوا ) أي فيما تركوا ، تقول : خربت الديار إذا باد أهلها ،

لأنها بهم تحيا و تثمر ( و إنما الأيام بينكم الخ ) . . بكت الأيام أو الديار على الآباء و ناحت ، و عما قريب تبكي عليكم و تنوح ( أولئك سلف غايتكم ) المراد بالسلف من مضى و بالغاية الموت ، و المعنى هم السابقون الى المقابر ، و أنتم اللاحقون .

( و فراط مناهلكم الخ ) . . مضى من كان قبلكم من الأجيال ملوكا و مملوكين ،

و كان لهم في العز دعائم ، و في الفخر سباق ، و أنتم على آثارهم تهرعون ، فلما ذا تعمهون ؟ و قال الإمام مخاطبا أهل القبور : يا أهل الوحدة ، يا أهل الوحشة ،

أنتم لنا فرط سابق ، و نحن لكم تبع لاحق ( سلكوا في بطون البرزخ ) القبور ( سبيلا سلّطت الأرض عليهم الخ ) . . فما أبقت لهم جلدا لا لحما ، و لا دما و لا عظما . . أبدا لا شي‏ء في القبر على الإطلاق إلا الظلمات و الآفات . . و أنباء القبر عند الإمام كثيرة و كثيرة ، و لا يمل من تكرارها ، و قد مرت هذه الصفات في الخطبة 109 و 195 « و الحبل على الجرار » .

[ 290 ]

و قال ميثم البحراني ما معناه : ان قول الإمام : « أصبحوا جمادا . . لا يفزعهم . .

لا يحزنهم » ان هذا يشعر بأنه لا حساب و لا عذاب في القبر . و أجاب البحراني بأن مراد الإمام ان الموتى جماد بالنسبة الى الحياة الدنيا ، أما بالنسبة الى الآخرة فإنهم يحسون و يشعرون .

و بعد ، فإن غرض الإمام من كلامه عن القبور و أهلها هو التنبيه الى ان العاقل اذا تأمل و تدبر بداية الإنسان و نهايته ينتهي لا محالة إلى الإيمان بأنه مغلوب لقوة قاهرة تتصرف فيه كيف تشاء ، و لا راد لما تريد ، و انه لا نجاة من غضبها إلا بالسمع و الطاعة لأمرها و نهيها .