اللّه يمهل و لا يهمل :

تلا الإمام ( ع ) قوله تعالى : « يا أيها الانسان ما غرك بربك الكريم » و قال :

( أدحض مسؤول الى نفسه ) . أبدا لا حجة و لا عذر لك أيها المتجرى‏ء على معصية اللّه ، و ما أنت إلا جاهل مغرور . . و قال قائل : إن الذي أغراه بالمعصية قوله سبحانه : « ما غرك بربك الكريم » حيث ألهمه الجواب و علّمه أن يقول غدا اذا سئل عن ذنبه : غرني حلمك و كرمك . و هذا خطأ ، لأن اللّه سبحانه لا ينهى عن المعصية ، ثم يغري بها .

أما الإمام فإنه يفسر الكلام في الآية بالحلم و الإمهال ، و انه تعالى يمهل و لا يهمل أي لا يعجل العقوبة ، و إلا ما ترك على ظهرها من دابة . . انه يمد للعاصي ،

و ينعم عليه ، عسى أن يؤوب الى رشده ، و يرجع عن غيّه ، و عليه يكون معنى الآية : لا تغتر أيها الانسان بحلم اللّه و سكوته عنك ، فإن هذا تأنيب لك و اختبار .

و أجلّ ما قرأت في هذا الباب مناجاة للإمام زين العابدين ( ع ) قال فيها من جملة ما قال :

« سبحانك ما أعجب ما أشهد به على نفسي ، و أعدده من مكتوم أمري ،

و أعجب من ذلك أناتك عني ، و إبطاؤك عن معالجتي ، و ليس ذلك من كرمي عليك ، بل تأنيبا منك لي ، و تفضلا منك عليّ ، لأن أرتدع عن معصيتك المسخطة ، و أقلع عن سيئاتي المخلفة ، لأن عفوك عني أحب اليك من عقوبتي » .

( يا أيها الانسان ما جرأك الى هلكة نفسك ) . الإمام يشعر بآلام الناس ، و يتوجع لها و لهم ، حتى عذابهم في الآخرة يشفق عليهم منه ، بل توجعه لهم من أجل هذا أشد و أعظم ، لأنه أقسى و آلم . . و من أجل هذا خاطب من من يستهين بمعصية اللّه ، خاطبه بلسان الشفيق الناصح ، و نهاه بأسلوب السؤال و الاستفهام : كيف أعرض عن خالقه ، و صرف وجهه عن دعوته ، و طلب النوال من غيره ؟ . و ما الذي جرأه على هذا الضلال و الاستسلام للتهلكة ؟ .

( أما لدائك بلول الخ ) . . الى متى هذا التمادي في الغي ؟ أ لا تفيق من نشوتك ؟ ( أ ما ترحم نفسك الى أعز الأنفس عليك ) . عجبا منك .

ترى غريقا فتسعفه ، أو متألما من لفحة الهجير فتظلله ، ثم لا تقي نفسك من عذاب الحريق ، و أنت تملك القدرة على خلاصها و سلامتها ؟ ما شأنك ؟ هل

[ 308 ]

ران على بصرك و بصيرتك ، أم أنت في غنى عن نفسك ؟ و لو كنت على شي‏ء من الوعي لبكيت عليها دما ( و كيف لا يوقظك خوف بيات نقمة ) و من الذي يعصمك من اللّه إن أراد بك سوءا ؟ و هل أخذت منه عهدا و أمانا ؟ : « و كم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتا أو هم قائلون 4 الأعراف » . ( و قد تورطت بمعاصيه الخ ) . . أي تصديت لغضب اللّه و عذابه ، فادفعه عنك إن كنت ذا قوة و طول .

( فتداو من داء الفترة في قلبك بعزيمة الخ ) . . المراد بالفترة هنا الفتور و عدم العزم و النشاط بقرينة قوله « بعزيمة » و المعنى كن يقظا و نشيطا ، و لا تكسل في طاعة اللّه ، و تستوحش من ذكره ( و تمثل في حال توليك عنه إقباله عليك ) .

أنت تعرض عن اللّه لاهيا بملذاتك و شهواتك ، و هو يقبل عليك بفضله و إحسانه . .

تصور حالك و وضعك هذا بينك و بين نفسك عسى أن تكف و تهتدي ( يدعوك الى عفوه ) أي الى التوبة و طلب العفو ، لأن عفوه تعالى عن ذنبك أحب اليه من عذابك : « ما يفعل اللّه بعذابكم ان شكرتم و آمنتم 147 النساء » .

( و يتغمدك بفضله ، و أنت متول عنه الى غيره ) . أ هذا جزاء من غمرك بالإحسان : تأكل رزقه ، و تعبد غيره ؟ . فأين الوفاء و الحياء ؟ ( فتعالى اللّه من قوي ما اكرمه ) . نقصّر في طاعته عمدا ، و ننتهك حرماته قصدا ، و مع هذا يحلم و لا يعاجل . . سبحان ربنا إنّا كنا ظالمين ( و تواضعت من ضعيف الى يصرفها عنك ) الخطاب للإنسان ، و تواضعت : من الضعة و الحقارة ، و المعنى من أنت أيها الجاهل الوضيع حتى تجرأ على اللّه ، و تخالفه في أمره و نهيه ؟ فكم من نعمة أسداها اليك ، و خزي ستره عليك ، و مكروه دفعه عنك ، كل هذا ،

و أنت متماد في الغي و الضلال ( فما ظنك به لو أطعته ) و طلبت منه الرضوان و الأمان ، فإنه يعطيك ما أملت ، و يزيدك من فضله . . انه واسع رحيم .

( لو ان هذه الصفة ) و هي الإساءة للمحسن ( كانت في المتفقين الخ . . قوة و قدرة ، لكن أول حاكم على نفسك بذميم الأخلاق ، و مساوى‏ء الأعمال ) لأنك أسأت لمن أحسن اليك ، فكيف و الذي أحسن اليك خالقك و خالق الكائنات ؟ .

و قيل : ان القدرة أشد و أعظم من القوة ، و لذا جاء في القرآن الكريم : ان اللّه على كل شي‏ء قدير . و ليس فيه على كل شي‏ء قوي . و فيه ان اللّه قوي عزيز .

[ 309 ]