الفصل الثالث

غرابة السياق بسبب فصاحة التركيب العالية

 

تحدث الغرابة هنا بسبب الفصاحة العالية، التي تأتي من خلال توخّي معاني النحو، فتكون مزيّة في المعنى لا باللفظ، بحيث تكون موصولة بغيرها ممّا يليها.

تبيّن من استقراء مادة (ف/ص/ح) في معاجم اللغة ؛ أنّ أصلها الذي تفرّعت منه ؛ هو الخلوص والنقاء(1). وأنّ هذه الدلالة تربط مفردات المادّة كلّها(2). ووردت فصاحة الرجل ؛ في لسانه وحِكَمهِ. فالرجل ذو اللسان الفصيح ؛ هو اللوذعي، والحذ ّاقي(3) ؛ الذي هو المّاهر، فإنّ ذلك لا يتأتّى إلاّ بطلاقة اللسان، بمعنى ؛ خلو صه من العيوب التي تحول دون انطلاقه، لذلك؛ فسّروا الفصاحة؛ بالذّلاقة؛ والبيان(4)، فإذا أفصح الرجل تكلّم بالعربية، وجادت لغته ؛ إذا ازدادت فصاحته(5).

والفصاحة ليست من مجرد الإبانة، والوضوح، والظهور بل هي: اللـُّذاذة في السمع(6)، ففي (الدارجة)، ما يُلّذُ سمعه، ولكنّه غير فصيح، ولو أنّها كذلك، لكان الناس كلّهم فصحاء، وليس الأمر كذلك، وإنّما خلوصها من العيوب، وتُدرك هذه العيوب من خلال معاني اللفظة، ولهذا كانت الفصاحة في المعنى من دون اللفظ؛ لأنّ « المزيّة التي من أجلها استحقّ اللفظ الوصف بأنّه فصيح هي في المعنى دون اللفظ»(7). ولذلك وجدنا قول الإمام علي (ع): «ما سمعتُ بكلمة عربية من العرب إلاّ وسمعتها من رسول الله، وسمعته يقول: (مات حَتْف أنفه)، وما سمعتها من عربي قبله»(8). فقد استغـرب الإمـام قـول النبـي ـ مات حتف أنفه ـ لفصاحته, فلا شبه في أنّ وصف اللفظ بـ(العربي) في مثل هذا القول، يكون في معنى الوصف؛ بأنّه فصيح مألوف، ولم يصفها الإمام (عربية) من أجل ألفاظها, بل من أجل ما تحمل من معنى جديد.

فالفصاحة صفة لا تكون للفظ من حيث هو لفظ، وإنّما؛ هي صفة في معناها، غير أنّ الأمر لا يوجب (الفصاحة) للفظة، حينما تـُقطع وتـُرفع من الكلام الذي هي فيه، بل يوجبها لها موصولة بغيرها، وقد عُلـّق معناها بمعنى ما يلحقها، وما يسبقهاولهذا وُصفت فصاحة القرآن بالإعجاز(9)، وفي الحقيقة جاءت من الأفصح، وعلى هذا المعنى ورد قول ابن عطية (ت/ 542 هـ ):

«... فبهذا جاء نظم القرآن إلى الغاية القصوى من الفصاحة. »(10)، وذهب القاضي عياض (ت/ 544 هـ)، إلى مثل هذا المعنى أيضاً(11).

فقوله ـ تعالى ـ ((واشتعل الرأس شيباً))(12)، لفظ (اشتعل) في أعلى رتبة من الفصاحة، لكنّها لم تكن لها وحدها، ولكن موصولاً بها (الرأس)، معرّفاً بالألف واللام، ومقروناً إليها (الشيب) منكراً منصوباً. و غرابة هذه الآية، إنّما جاءت من فصاحتها العالية، تلك الفصاحة المعجزة التي تحدّت العرب من أن يأتوا بمثله. ولو جاء قوله (وشاب رأسي كلـّه)، أو (ابيضّ رأسي كلـّه) بطلت فصاحته من الإعجاز، وكان فصيحاً، بعد ما كان الأفصح.

وفي الحالة الأولى، لا مزية له على كلام المخلوقين. وعلى هذا هناك فصيح وأفصح، ورشيق وأرشق، وعالٍ وأعلى من الكلام، أمر لا يُدرك إلّا بالذوق، ولا يمكن إقامة الدلالة عليه، وهو بمنزلة جاريتين ؛ أحداهما : بيضاء مشرّبة حُمرة، دقيقة الشفتين، أسيلة الخدين .. والأخرى دونها في هذه الصفات والمحاسن، لكنّها أحلى في صفة وأليق، وأصلح، ولا يُدرى لأي سبب كان ذلك؟! ولكنّه بالذوق والمشاهدة يُعرف، ولا يمكن تعليله، وهكذا الكلام، فلا يعرفه إلاّ أهل الذوق والخبرة، وأصحاب التخصّص.

والفصاحة بعد، لا تظهر في أفراد الكلمات، وإنّما؛ تظهر بالضم على طريقة ترتب المعاني(13)، بوساطة الألفاظ المكوِّنة لعبارات وجمل(14)، بيد أنّ هذه الألفاظ لا يصحّ لها معنى سوى توخّي معاني النحو وأحكامه(15) في ما بين معاني الكلم ومن هذا قوله ـ تعالى ـ ((فما ربحت تجارتهم))(16)، فلا أحد يقدح في فصاحة هذه الآية. فلو قال : (فما ربحوا في تجارتهم). ترى إعراب الاسم (التجارة)، قد تغيّر، فصار مجروراً، بعد أن كان مرفوعاً، وقد زيد في اللفظ بعض ما لم يكن فيه، وهو (الواو) في (ربحوا)، و (في) من قولنا (في تجارتهم)، فالمعنيان واحد، ولكن الفصاحة في الأولى أقوى وأجمل، بل أفصح؛ لأنّ «المعنى قد تغيّر كما تغيّر اللفظ»(17). فالكلام العالي الفصاحة، يقرّبه علوّه, من الغرابة، ولو لم تكن غرابة, في عدم إلفة ذلك الإعرابي، حينما سمع آيةً من القرآن تـُتلى، لما قال : « سجدتُ لفصاحته »(18)، ولم يكن آمن، بل لم يكن أسلم بعد وهذه الفصاحة إنّما تأتي من توخّي معاني النحو في التركيب.

فالإستعمال غير المّالوف لأجزاء الكلم من اسمٍ, أو فعل , أو حرف, هو الذي يسبب غرابة في سياق التركيب العالي الفصاحة.

ممّا تُوخى فيه معاني النحو أيضاً, ويحدث غرابة في سياق التركيب ـ العالي الفصاحة ـ ما كان سببه تعدّد الوجوه النحوية للموقع الإعرابي الواحد, من مثل قوله ـ تعالى ـ ((إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ))(19) وقوله ـ تعالى ـ (( أَنَّ اللهَ بَرِي‏ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ))(20).

فلو قُرأت برفع (اللهُ) في الآية الأولى؛ كانت الخشية حينئذ مسندة إلى الله ـ سبحانه ـ ولو جُرّت (رسوله) في الآية الثانية؛ كانت (البراءة) من المشركين ومن الرسول , وهذا كفرٌ. فيكون الرسول غير متبرىء من المشركين, بل مُتبرءاً منه , ومثل هذا كثير(21).

لهذا فإنّ اختيار الوجه التأويلي الملائم هو الذي يعطي الدلالة الحقيقية التي أراد المنشىء إيصالها إلى المتلقي. وعلى هذا ينقسم هذا الفصل إلى مبحثين, هما غرابة سياق التركيب بسبب الإستعمال النادر لأجزاء الجملة , وبسبب الحذف و تعدّد وجوه الإعراب في ألفاظ ذلك التركيب.

***

 

المبحث الأول؛ غرابة السياق بسبب الإستعمال النادر:

تكمن الغرابة في هذا المبحث بسبب الإستعمال غير المألوف للأسماء والأفعال والحروف في التركيب. يترك الإمام الألفاظ الفصيحة والشائعة المطـّردة في الإستعمال , ويستعمل ألفاظاً قليلة الاستعمال, ونادرته, وربّما تسمع أول مرّة منه , ولكثرة الدلالات النحوية لهذه الألفاظ , يضطرب معنى التركيب ومن ثم يضطرب معنى السياق غرابةً في ذلك التركيب. وعلى هذا ورد في (النهج) من قول الإمام علي (ع) ما نصّه : «امْلِكُوا عَنِّي هَذا الغُلامَ، لا يَهُدَّني، فإنَّنِي أنْفَس بَهذيْن ـ يعني الحسن والحسينِ (ع) ـ على المَوْت، لِئَلاّ يَنْقَطِعُ بهما نَسْلُ رسول الله صلَّى اللهُ عليه وآلِهِ وسلّمَ...»(22).

قوله :( املكوا) : احجروا، كما يحجرُ المّالك على مملوكه(23)، وهو فعل أمر، وألفه وصل؛ لأنّ ماضيه من الثلاثي، من ملكتُ الدار، والعبد، وأملِك من (المُلْك)، أي : المملكة، وقيل الاستيلاء مع ضبطٍ وتمكـّن من التصرّف(24) وفيه نزل قوله ـ تعالى ـ ((الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ))(25).

و(عن)، متعلـّقة بمحذوف تقديره (استولوا عليه وأبعدوه عنّي). فالمْلك؛ سببَ الحجر على المملوك، ولمّا كان كذلك، عُبِّر بالسبب عن المُسبِّب، كما عُبّر بالنكاح عن العقد، وهو في الحقيقة اسم (الوطء)(26). وسبباً له.

و(لا يهدَّني) : لا يكسرني، أو لا يهدمني، و(أنفس) : أضنّ، أبخل، والمعنى : أراد أن يقول : احجروا، عنّي هذا الغلام لا يهدمني، ويقوِّض أركان قوتي بموته في الحرب، فإنّني أبخل بهذين ـ يعني الحسن والحسين ـ على الموت، لئّلا ينقطع بهما نسل الرسول (ص) .

لا أحد يقدح بفصاحة هذا التركيب، قال : (املكوا) ولم يقلْ : (أبعدوا، أو احجروا، أو استولوا عليه.) ولذلك رأى الرضي غرابة فيه فأشار إليه بقوله : « قوله (ع) : (املكوا عنّي هذا الغلام) مِن أعلى الكلام وأفصحه.»(27).

بيد أنّه لم يوضِّح، ماهيّة هذه الفصاحة ـ وفصاحته ـ في ما أراه ـ جاءت من توخّي معاني النحو في التركيب. ولهذا السبب عينه, استفصح الشارحون قول أبي الطيب:

« إذا كانَ شَمّ الرَّوْح أدْنى إليكم فلا بَرِحَتْني رَوَْضةٌ وقَبــولُ»(28)

ذكروا ؛ ولمّا كان في (فلا برحتني) معنى (فارقتني) عدّى اللفظة؛ وإن كانت لازمة، نظراً للمعنى، وأزيد على هذا أنّه جعل الروضة ـ وهي من الأرض ـ تفارقه , وليس هو الذي يفارقها. وسنرى معاني النحو في التركيب كيف كانت أساساً في فصاحته، في قول الإمام : (املكوا ..).

(عن) حرف جرّ، وقد وضع النحويون له معانٍ عشرة، منها؛ (البدل) أو (العوض)(29)، وبهذا المعنى جاء قوله ـ تعالى ـ ((وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً))(30). فيُحتمل أن تكون (عن) بهذا المعنى، فيكون قول الإمام : (احجروه، أو خذوه، بالشدّه، وامسكوه، بدلاً عني، أو عوضاً..).

وقوله : (لا يهدَّني) ـ بالنصّب ـ على إضمار (أن)، أي لئلاّ يكسرني، وقد وجدتُ (بُعيض) النسخ(31) ـ بالرفع ـ على إلغاء (أن) المضمرة عن العمل، كما في قولهم : (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، على رواية الرفع، وقد رُوي قول طرفة بالوجهين(32)، (الرفع والنصّب) :

« ألاَ أيُّهذا الزّاجـري احـضُرَُ الوَغــى وأنْ أشهدَ اللّذات هَلْ أنت مُخلدِي»(33)

ووجه انتصاب (المضارع) ـ احضرَ ـ في هذا البيت شاذّ لا يُقاس عليه لقول ابن مالك :

«وشذَّ حذفُ (أن) ونَصْبٌ في سوى ما مَرَّ، فاقْبل مِنه ما عَدْلٌ رَوَى»(34)

ويُحتمل أن يكون انتصاب (يهدَّني) بـ( كي) مضمرة، إن جوزنا إضمارها، كما نُصبت ظاهرة في قوله ـ تعالى ـ ((لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ))(35). فيكون المعنى : (احجروا هذا الغلام عني كي لا يكسرني).

ومن معاني (عن)؛ التعليل، من نحو قوله ـ تعالى ـ ((وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ ))(36)، والمعنى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه، أي : عمه، أو جدّه لأمّه آزر، إلاّ عن موعدة وعد أباه، وَعَدَه؛ أن يسلم، فاستغفر له، أو قال: لأبيه؛ إن لم تعبد الأصنام، استغفر لك(37)، فعلى معنى (عن) التعليلي، يكون معنى قوله: (املكوا عني هذا الغلام لا يهدني) سبباً في كسره(ع)؛ لأنّ لمّا كان الولد الصالح المنتَفَع به، ممّا يشدّ القوة، وتقوى به النفس، ولا سيما ولده الحسن (ع) كنى بقوله : (لا يهدني) ـ هنا ـ على تقدير (هلاكه) عن إضعافه لركنه، وانكسار نفسه بذلك، ثم على علّة أخرى، هي لوجوب المحافظة عليه مع أخيه الحسين (ع) وهي المحافظة على نسل الرسول (ص) .

ومن معاني (عن) أيضاً؛ المجاوزة، فقد قال ابن مالك:

«عَلى بِلا سْتِعْلا، ومَعْنى (في) و(عن) بِعَن تجاوزاً عَنَى مَنْ قَدْ فَطِن»(38)

ولم يذكر البصريون سوى هذا المعنى(39)، ومثال ما جاءت (عن) بمعنى المجاوزة(سافرتُ عن البلد)، و(رميتُ السهم عن القوس). وبهذا المعنى ذهب (الشارح) حينما أراد تفسير غرابة التركيب الذي أشار إليه الرضي ـ من أعلى الكلام وأفصحه ـ بقوله: «ووجهُ علوّ هذا الكلام وفصاحته! أنّه لمّا كان فيه (املكوا) معنى البُعْد، أعقبه بعن، وذلك أنّهم لايملكونه دون أميرالمؤمنين (ع) إلاّ وقد أبعدوه عنه، أَلا تَرى أنّك، إذا حجرت على زيد دون عمرو، فقد باعدت زيداً عن عمرو وكذلك قال: (املكوا عني هذا الغلام)»(40).

وقول الشارح لا بأس به، إلاّ أنّه، إنّما يحسن ذلك, لو كان الحسن (ع) في تسرّعه إلى الحرب متابعاً لأبيه (ع) فسيتحسن حينئذ أن يقول: (أبعدوه عني)، لكنّ الرواية لا دلالة فيها على ذلك.

والأوجه، بل؛ الأوْلى ـ عندي ـ أنّه؛ لمّا شاهد من ابنه مسارعته إلى الحرب، وكان بنفسه غير متمكن من حفظه وممانعته، لمكان اشتغاله بكراهة الحرب، والقتل والقتال, أَمَرَ أصحابه بحفظه، بأحسن تعبير، وألطف عبارة، فقال : (املكوا)، أي : املكوه في التسرّع، املكوا تسرّعه، فعدل عن التعبير بلفظ(المنع)، و(الضبط)، و(الحفظ)، و(المراقبة)، و(الإمساك) ـ فمال هنا ـ إلى التعبير بلفظ(الملك)، لِمَا فيه من الدلالة على التسلـّط، والاستيلاء، والتمكّن من التصرّف، والقدرة على الممانعة والحفظ، بأي وجه أمكن، وأي نحو شاء، وأراد (المّالك) ما ليس في غيره من الألفاظ المذكورة، يعني امنعوه، واحفظوه منْع المالك لملكه، وحفظه إيّاه.

ثم أكّد ذلك بقوله : (عني)، يعني : إنّي كما لو كان ممكناً لكنت املكه وأراقبه غاية المراقبة، فحيث، لم أتمكّن من ذلك، فكونوا أنتم مالكين له، مراقبين عليه بدلا مني، وراقبوه، مثل مراقبتي, غير متوانين، ولا مقصّرين.

فقد علم بذلك أنّ في هذه العبارة من الدلالة على تأكيد المنْع والمحافظة، ما ليس في غيرها.وعلّل ذلك بقوله : (لا يهدني)؛ لأنّ التسرّع إلى الحرب, مظنّة القتل والهلاك، وموت الولد المعين الصالح، وهذا موجب للحسن (ع)، فالولد؛ سند ظهر الوالد، وذهابه، ذهاب قوّة قلب، ونور بصر الوالد.

ثم علّل ذلك بعلّة ثانية، بقوله : (فإنّي أنفس)، أي : في نفسي البخل والضن(41) بهذين الولدين (الحسن والحسين) على الموت لئلاّ ينقطع بهما نسل النبي (ص) .

رأينا فصاحة النصّ العالية وقد جاءت من توخّي معاني النحو في التركيب فغرُب سياقه لكثرة الاحتمالات التي تدلُّ عليها هذه المعاني، والآن أي معنى سياقي أوْلى لهذا التركيب؟

قلتُ : الأَوْلى ؛ هو ذوق القارئ المبنية معرفته على جزالة اللفظ، وعذوبته، ولـُذاذته في سمعه، إذا كان من ذوي الخبرة. وقد حدث كلّ هذا في لفظ (املكوا)، وهو في المرتبة العليا من الفصاحة، لكنّها لم تكن لها وحدها، ولكن موصولا بها (عن) حرف جر ـ بمعنى العوض ـ، وقد وصل هو الآخر بالاسم المجرور (الياء) مقروناً إليهما (الغلام)معرّفاً بالألف واللام منصوباً.

ومثل هذا أيضا ورد من قوله (ع) في (النهج) حينما أراد أن يصف الدنيا: «... مَنِ اسْتَغنى فِيها فُتِنَ، ومَنِ افْتَقَرَ فِيها حَزِنَ، ومَنْ ساعَاها فاتَتْهُ، ومَنْ قَعَد عَنْها واتَتْه، ومَنْ أبْصَرَ بِها بَصَّرتْهُ، وَمَنْ أبْصَرَ إليها أعْمَتْهُ»(42).

أشار الرضي إلى غرابة تركيبها بقوله: «أقول: و إذا تأمل المتأمّل قوله (ع) (ومن أبصر بها بصرته) وجد تحته من المعنى العجيب، والغرض البعيد ما لايبلغ غايته، ولا يدرك غوره، لاسيما إذا قـُرن إليه قوله : (ومن أبصر إليها أعمته) فإنّه يجد الفرق بين(أبصر بها)، و( أبصر إليها) واضحاً نيّراً، وعجيباً باهراً»(43).

فقد ذكر الرضي, في قوله: (لاسيما إذا قرن ...), دلالة على أن الفصاحة للتركيب، وغرابة السياق في مفرداته ـ توخّي معانيها ـ أسماءاً، أو أفعالاً، أو حروفاً، وقد جوّز الشارح احتمالين؛ لاقتران (أبصر) بـ(إليها)، واقتران (أبصر) بـ(بها) وعدّه غريباً غير مسموع، فهو من ابتكار(44) المعاني اللطيفة وأثرها في اللفظ والتركيب(45)، فجاء السياق غريباً.

وقد عضد رأي الشارحُ, بقوله : « فإن قلت المسموع : أبصرتُ زيداً، ولم يُسمع أبصرتُ إلى زيد، قلتُ : يجوز أن يكون قوله (ع) : (ومن أبصر إليها)، أي ومن أبصر متوجهاً إليها، كقوله تعالى : ((في تسع آيات إلى فرعون))(46)، ولم يقل (مرسلاً)، ويجوز أن يكون أقام ذلك مقام قوله(نظر إليها) لمّا كان مثله، كما قالوا في( دخلتُ البيت)، و( دخلتُ إلى البيت)، أجروه مجرى (ولجتُ إلى البيت لمّا كان نظيره»(47).

لم يزد الشارح في شرح غرابة هذه الفصاحة؛ على أكثر من توخيه معاني النحو في تركيبها .

وأرى معنى : أبصر بها : فكر في أحوالها وعرفها، وأبصر إليها : اشتغل بها حتى أعمتـْه في كلّ ما يُراد منه.

ومثل هذا النوع من الغرابة في النهج (نصحتُ لكم) في قول الإمام (ع): «... اسْتَنفَرْتُكم للجِهَادِ فَلَمْ تَنْفِروا , وأسْمَعْتُكم فَلَمْ تَسْمَعُوا , وَدَعَوْتُكم سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا , ونَصَحْتُ لَكم فَلَمْ تَقْبَلوا , شُهودٌ كَغُيِّاب , وَعَبيدٌ كأرْبَاب...»(48).

وعليه ورد قوله تعالى: ((يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ))(49). وقول العامة (نصحتك) ليس بالأفصح، وإنما هو الفصيح. وكذلك قوله الأفصح في «... ولقد وَاْسيَتُه بِنَفْسِي...»(50) ، ففي الفصيح؛ يقال: واسيته، وآسيته، وبالهمزة أفصح(51).

وأحيلك عزيزي القارئ الكريم إلى فصل كامل من خطبة له (ع) في (النهج) فيها من غرائب الأفصح متمثلاً في الأسماء والأفعال والحروف، بدايته؛ قوله : «... جَعَلَ نُجُومَها أعْلاَماً يُسْتَدَلُّ بِهَا...»(52)، وهذا الفصل من أفصح الكلام ونادره, ولا ننسَ أنّ هذا الباب يشمل غرابة السياق في التركيب الغيبي(53)، والفقهي(54)، والكلامي(55).

***

 

الهوامش

(1) ينظر: العين, و(تهذيب اللغة), و(القاموس المحيط) (ف/ص/ح): 3/121, 4/53, 227.

(2) ينظر: مفهوم الفصاحة: 264.

(3) ينظر: تهذيب الألفاظ:677.

(4) ينظر: خلق الإنسان: 186.

(5) ينظر: المصدر نفسه: 188.

(6) ينظر: المثل السائر : 1/168.

(7) دلائل الإعجاز: 400.

(8) مستند أحمد : 4/36.

(9) ينظر: هذا المعنى في (إعجاز القرآن): 54، وفي (الإشارة إلى الإيجاز ): 271، وفي (التسهيل) : 1/14.

(10) المحرر الوجيز : 1/71.

(11) ينظر: الشفا: 1/217.

(12) مريم /4 .

(13) ينظر المغني للقاضي عبد الجبار :16/199.

(14) ينظر هذا المعنى في (المثل السائر): 1/145.

(15) ينظر: دلائل الإعجاز:395.

(16) البقرة: 16.

(17) دلائل الإعجاز: 429.

(18) الشفا : 1/262.

(19) فاطر / 28.

(20) التوبة / 3.

(21) ينظر: مختصرالقراءات الشاذةفي القرآن, و(أثر القراءات القرآنية في تطور الدرس النحوي ).

(22) شرح النهج : 11/ 25 , رويت موثقة النسبة للإمام, ينظر: (وقعة صفين ): 530, و(تاريخ الطبري): 5/ 561, إلى قوله ينقطع فيهما نسل رسول الله.

(23) ينظر : مختار الصحاح، و(القاموس المحيط)، و(مجمع البحرين) : (م/ل/ك) : 633، 878، 4/227.

(24) ينظر : مجمع البحرين (م/ل/ك) : 4/227.

(25) الفرقان /26.

(26) ينظر : القاموس المحيط : (و/ط/ء): 65.

(27) شرح النهج : 11/25.

(28) ديوان المتنبي :3/96، و(شرح ديوان المتنبي للعكبري) : 3/196، و(شرح ديوان المتنبي للبرقوقي) : 3/270.

(29) ينظر : المغني لابن هشام : 1/146.

(30) البقرة /48.

(31) وجدت هذا, في نسخة خطية من نسخ (النهج) تدعى نسخة مكتبة المشهد العلوي، ولعلّها من أقدم النسخ الموجودة في مكتبة الحكيم في النجف الأشرف، برقم: 624/ مخطوطات. وأظن رفع (يهدني) جاء من تصحيف الناسخ.

(32) ينظر : المغني لابن هشام : 2/641.

(33) ديوانة : 59.

(34) شرح ابن عقيل : 2/362.

(35) الأحزاب / 37.

(36) التوبة /114.

(37) ينظر تفسير القرآن الكريم، وبهامشه تفسير الجلالين: 269، و(تفسير القرآن الكريم): 205.

(38) شرح ابن عقيل : 2/22.

(39) ينظر : المغني لابن هشام : 1/147.

(40) شرح النهج: 11/25 ـ 26.

(41) ينظر: القاموس المحيط (ن/ف/س) : 534 ـ 535.

(42) شرح النهج : 6/238، وردت هذه الكلمة في كتب عديدة موثقة النسبة للإمام؛ ينظر: (الكامل) : للمبرد : 1/88، و(أمالي القالي) : 2/117، و(المجتنى) :31، و(أمالي المرتضى) : 1/153، و(مشكاة الأنّوار) : 243.

(43) شرح النهج: 6/238.

(44) أمثلة هذا النوع كثيرة في (النهج) ينظر : (شرح النهج) : 2/62/6, 11/101/15, 11/142/2 ـ 3.

(45) أمثلة هذا النوع كثيرة في (النهج) , ينظر : (شرح النهج) : 1/301/4، 1/313/5، 6/400/10 ... .

(46) النمل: 12.

(47) شرح النهج : 6/240. والآية /12 من سورة النحل.

(48) شرح النهج: 7/70/9, رُويتْ مقيّدة ومضبوطة النسبة للإمام في: (كتاب سُليم: 110) وفي: (عيون الأخبار لابن قيتية): 2/301, وفي (المجالس للمفيد): 105, و... .

(49) الأعراف /79.

(50) شرح النهج: 10/179/4.

(51) ينظر: المصدر نفسه: 10/179.

(52) م.ن: 10/85 ـ 86..

(53) مثاله في: (شرح النهج): 7/47/5، 7/102/2، 7/200 ـ 202... .

(54) مثاله في (المصدر نفسه): 7/250 ــ252، 8/287/ 8 ـ 7، 19/59/3.

(55) مثاله في (م.ن): 9/252/4، 13/44/4، 13/69، 94 الخطبة كلـّها... .