الباب الثالث

(غرابة السياق في التركيب)

 

(غرابة السياق في التركيب)

ذكر الباحثون أنواعاً كثيرة للسياق، منها السياق اللغوي(1), ونعني به؛ تلك العلاقات (الأفقية) التي تقوم في العبارة بين المفردات بوصف ـ المفردات ـ وحدات معجميّة دلالّية, لا بوصفها وحدات نحوية, ولا أقسام كلامية عامّة(2) فالجملة قد تكون صحيحة من حيث انسجامها مع قواعد التركيب النحوي, ولكنّها في الوقت نفسه غريبة من الناحية الدلالية.

وهذا النوع من السياق, هو السياق الدلالي؛ لأنّه يبحث في التركيب أكثر من بحثه في معنى المفردة داخل السياق. ولا أرى أنّ الجملة السليمة من حيث التركيب النحوي تكون غريبة دلالياً, بل غرابتها تأتي من توخّي معاني النحو فيها, فالسلامة يجب أن تكون في التركيب النحوي, والدلالي عندئذٍ تستحقّ أن نسمّيها جملة أو تركيباً منسجماً, وفي هذا الانسجام يتكوّن سياقها, الدالّ على المعنى المراد.

على الرغم من الأثر؟ الذي يقوم به السياق في كشف المعنى ورفع الالتباس, إلاّ أنّنا نغالي, إذا قلنا إنّه يرشدنا إلى المعنى في كلّ الأحوال, ففي بعض الأحيان لا يمكن العثور على الدليل الذي يرشدنا إلى المعنى الصحيح المقصود داخل التركيب نفسه, بل نفهمه من مجمل المحادثة(3).

إذن لا بدّ للشارح, أو المفسِّر من أن يجتهد في إزالة غرابة النصّ في التركيب, وهذه الغرابة جاءت من المفردات التي بها تكوِّن الجمل, وبالجمل يتكوَّن الكلام, أو الكتاب, وليس كلّ الكلام ظاهراً جلياً, فلو كان كذلك, لاستوى فيه العلماءُ والجهّال, ولماتت الخواطر بعدم البحث والاستدلال, فإنّ نار الفكر تقدح بزناد المشكلات, فكما كانت فضيلة الفقر, أنّه يبعث على إعمال ّ الفكر، واستنباط الحِيل في الكسب, كانت فضيلة المفسِّر, أنّه يعمل فكره ليستنبط المعنى السياقي في التركيب الكلّي, ولاسيما إذا أراد فهم غرابته.

والسياق؛ معانٍ مرتّبة قبل أن تكون ألفاظاً منسّقة, وهو؛ ما يريده عقل الكاتب, أو المتكلّم قبل أن ينطق به اللسان, أو يجري به القلم(4) , وعلى هذا فإنّ غرابة السياق حاصلة في المعنى الإجمالي له لا في ألفاظه, أو مفرداته, هذا من جهة, ومن جهة أخرى؛ تكمن هذه الغرابة في الألفاظ نفسها, فتؤثر في سياق تركيبها, ومن جهة ثالثة تكمن في المعنى الإجمالي لهذه الألفاظ إذا رُتِّبت, مكوِّنة تركيباً عالي الفصاحة, فلذلك كان هذا الباب ينقسم إلى ثلاثة أقسام, الأول: غرابة السياق للتركيب المتكوِّن من ألفاظٍ سهلةٍ وبيِّنةٍ, والثاني: غرابته؛ بسبب تعقيد المعاني وصعوبتها, والثالث: غرابته؛ بسبب الفصاحة العالية للتركيب.

 

***

 

الفصل الأول

غرابة السياق الكلي للتركيب على الرغم من وضوح الألفاظ

 

تحدث الغرابة هنا بسبب غموض السياق المتأتية من رصّ كلّ مفردة إلى جنب قرينتها على الرغم من سهولة هذه الألفاظ, وفصاحتها الظاهرة البيِّنة, فتكوِّن معنًى إجمالياً في السياق غريباً, بعيداً عن دلالات تلك المفردات, إذا وُضعت خارجاً عن نطاقه.

السياق لغةً: تتابع الكلام وأسلوبه الذي يجري عليه(5) في نسق، وفي الاصطلاح: يعني: تلك الأجزاء التي تسبق النصّ، أو تليه مباشرةً، و يتحدّد من خلالها المعنى المقصود(6)، فهو مجموع؛ «ما يصاحب اللفظ،ممّا يساعد على توضيح المعنى»(7)، وإنْ دلّ هذا على شيءٍ فإنّما يدلُّ على أنّه يوضِّح الغموض والإلتباس الحاصلين في التركيب.

وقد تكلـّم اللغويّون كثيراً (8) على الدلالة السياقية ، وجدتُها تندرج تحت مفهوم واحد، ذلك : أنّ للسياق أثراً مهماً في بيان دلالة الكلمة ؛ لأنّه هو الذي يخلقُ لها قيمةً حضورية(9)، أي: أنّ معنى الكلمة يحدّدها السياق الذي تقــع فيه.

وتبدو عناية المفسّرين بالسياق ـ ولاسيما سياق الحال ـ حين حديثهم عن الشروط التي يجب أن تتوافر في مُفَسِّر القرآن، ومنها؛ معرفة أسباب النزول، أي: الظروف والأحداث الملابِسة للنصِّ القرآني؛ لأنِّ معرفتها؛ تساعد على فهم معنى الآيات، وقد يكون اللّفظُ عاماً، إلاّ أنّ سبب النزول؛ هو الذي يفيد التخصيص(10)، وممّا يتَّصل بالسياق أيضاً؛ أنّهم يشترطون في المُفَسِّر؛ أن يستحضر النصّ القرآني كلـّه عند تفسير بعضه، فما أُجمِل في مكان، فُسّر في آخر، وما اختُصر في موضع بُسِط في موضعٍ آخر(11). فعلى هذا كان الغموض يقع في المعنى من جهة التركيب، و يصير له هيأة تخصّه، وهذا ليس قدحاً في تلك الألفاظ؛ لأنّها إذا عُدت لفظة لفظة، وُجدت كلـّها ظاهرة واضحة، فإذا نظرنا إليها مع التركيب احتاجت إلى استنباط وتفسير.

فهي غرابة تأويلية، ليس للمجاز فيها أثر، ويحدث هذا في القرآن، والحديث والأشعار، والخطب، والمكاتبات.

ومثال هذا من القرآن قوله ـ تعالى ـ ((يؤتي الحكمةَ مَنْ يَشاءُ))(12)، وفُسّرت (الحكمةُ) في الآية على أنّها: العلم، وهي الإصابة في القول، ولا مانع من الحمل على جميع المعاني شمولاً، أو بديلاً، وهي: النبوَّة، وهي: العقل، وهي: الورع(13)..، ومثل هذا قوله ـ تعالى ـ ((ذُق انك انتَ العَزيزُ الكَرِيم))(14). فنحن لا نجد أيّةَ غرابة في ألفاظ هذه الآية، ونجدها حاصلة في الهيئة الخاصّة بالسياق من جهة التركيب، و يدلّ هذا السياق على أنّ المعنى هو: ذُقْ إنَّك «الذليل الحقير»(15)، وهذا المعنى ممّا لا تسعفنا به المعاجم اللغوية.

يدور كلام (نهج البلاغة) على ثلاثةِ أقطابٍ: الأول من هذه الأقطاب تدور عليه الخطب والثاني تدور عليه المكاتبات للولاة وغيرهم, والقطب الثالث تدور على حكمه (ع) ، لكني قسمتُ الفصل إلى مبحثين, الأول يضمّ التراكيب الواضحة السهلة التي طوتها الخطب والمكاتبات, والثاني كلام الإمام في الحكم التي تضمّنت ألفاظاً سهلة, ولا يفوتني أن أذكر أنّ قسماً من الحكم التي جَمَعَها الرضي ضمّتها الخطب والرسائل, ذكرها المصنّف في بداية كتاب (النهج). فعلى الرغم من سهولة هذه الألفاظ غرب سياق تركيب الخطب والرسائل والحكم.

***

المبحث الأول؛ غرابة سياق التركيب في الخطب والمكاتبات:

من عيوب المعاجم اللغوية غلبة معاني المفردات، وقلـّةُ إيراد معاني الجمل، ففي المعاجم قيمتان، قيمة معجميّة، جامدة لا حياة فيها، وقيمة استعمالية، وهي التي نجدها في كتب التاريخ، ودواوين الشعر، وكتب الأدب، وهي القيمة الحيويّة، لأنّها تؤخذ من صميم كلام العرب، وشعرهم، ومن الشعر, ما قاله أبو تمام:

«وَلِهتْ فأظْلَمَ كُلُّ شيءٍ دُونها وأضاءَ مِنها كلُّ شيءٍ مُظْلِـمِ»(16)

فإنّ «الوَلـَه»، و(الظلمة)، و(الإضاءة) كل ذلك مفهوم المعنى، لكنّ البيت بجملته يحتاج في فهمه إلى استنباط، والمراد به: ولهتُ فاظلمَ ما بيني وبينها لِما نالني من الجزع، وأمّا قوله: (وأضاء منها كلّ شيء مظلم)، أي: وَضُح لي منها ما كان مستتراً عني من حبّها إياي(17).

وأما القيمة الفنية في كتب الأدب،التي تتجلّى فيها صور البيان الرفيع, ما وجدتُه في كتاب (نهج البلاغة) من قول الإمام علي (ع): «ذمّتي بما أقولُ رَهِينةٌ، وأَنا بِهِ زَعِيمٌ. إنّ مَنْ صَرّحَتْ لَهُ العِبرُ عَمَّا بين يَديْه مِن المثلاتِ حَجَزَتْه التقوى, عن تقحّم الشُّبُهاتِ. ألا وإنَّ بَلِيَّتَكم قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِها يَوْمَ بَعَثَ اللهُ نبيَّهُ. والذي بَعَثَهُ بالحَقِّ لتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلةً، ولَتُغَربَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُساطُنَّ سَوْطَ القِدرِ، حتى يَعُودَ أسْفَلُكُم أعْلاكُم، وأعْلاكُم أسْفَلَكُم...»(18). قطعت هذا النصَّ من خطبة للإمام خطبها، حينما بويع بالمدينة، ذكرها كثير من: المؤلفين موثـِّقين نسبتها إلى الإمام(19).

قلنا إنّ السياق، هو الذي يحدّد المعنى الإجمالي للتركيب؛ لأنّه مرتبط بالأجزاء التي تسبقه والأجزاء التي تليه فهو وثيقها، والمقصود من الأجزاء هي: الجمل المكوَّنة من المفردات، فإذا تعدّدت معانيها، جاء تأويل كلَّ جزء منها مختلفاً في معناه، تبعاً لمعاني تلك الأجزاء، وبهذا يضطرب معنى السياق أيضاً.

ـ فـ(البَلْبَلْة) تعني: الاختلاط، وتفرّق الآراء، وشدّة الهمِّ والحزن والوسواس(20). فيكون معنى قوله (لتبلبلن بلبلة )؛ سيختلط بعضكم ببعض، بحيث تزول عزّة ذوي العزّة، وجلالة الإجلاِّء، فيختلط؛ العالم بالجاهل،والمؤمن بالفاسق، والشريف بالدنيء ...

ـ ويُحتمل أن يكون المعنى: سيصيبكم همٌّ وحزن شديدان، ممّا يُؤْثر عنهما وسوسة في صدوركم، تكون سبباً في تفريق آرائكم، وتشتّتكم، وقد جاء قوله: (بلبلة) مفعولاً مطلقاً مؤكِّداً لفعله، الذي هو مصدر فضلة(21).

و(الغربلة) تعني: النَخْل، والقَطْع، والقَتْل، والطَّحْن(22)، وهي مأخوذة من (الغِربال) الذي يُغربل به الدقيق ونحوه، فهي بمعنى: النَّخْل، فعلى هذا كان له معنيان؛ أحدهما:

ـ كالتَّبَلْبل، أي: الاختلاط، لأنَّ؛ غربلة الدقيق تخلِط بعضه ببعض.

ـ والثاني أن يريد بذلك؛ أنّه يستخلص الفاسق من المؤمن، والوضيعُ من الشريف والصالح من الفاسد، فَيَتَمَيَّزُ به، كما يتَمَيّز الدقيق مِن نخالته.

ـ والمعنى الثالث عندي هو أنّ: (غربلتُ اللـَّحم): قطعته، فهي إشارة إلى الفتن والاضطهادات التي ستُجرى على مشاهير المسلمين، وتمّت بالفعل في زمن الأمويين، وغيرهم.

فمن خلال تعدّد معاني (البلبلة)، و(الغربلة)؛ تعدّد معنى سياق تركيبهما، وبذلك غَرُب معنى السياق الكلـِّي للنصِّ، فالآن، أي الاحتمالات يمكن للسياق الكلـّي توضيحه لهذا النصّ ؟

قلتُ؛ إنّ معنى (الاختلاط) للفظ (البلبلة) هو الأقوى عندي؛ لأنَّ التركيب الذي قبله, وبعده منسجم معه، فقبله قوله «ألا وإنَّ بليَّتكُمْ... الله نبيّه»، وبعده قوله «وَلَتُساطَنّ سَوْط القدر»، و(لتساطنّ) من (السوط)، وهو أن يُجعل شيئان في إناء وتضربها بيدك حتى يختلطا(23)، وقوله: «يعودُ أسفلُكم أعلاكُم...» أي: تختلط الأبزاز ونحوها في القدر عند غليانه، فينقلب أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها. وهذا حكاية عمّا يؤولون إليه من الاختلاف، وتقطـّع الأرحام وفساد النظام.

ويصدق هذا المعنى أيضاً في الاحتمالين الأولين، للمعنى المؤوَّل في التركيب, حينما يكون معنى (الغربلة)، النَّخْل، أو القَطْع.

إذن تبقى الغرابة قائمة في السياق الكلِّي للتركيب، لكون معناه مجرّد احتمالات غير مؤكـَّدة، يعضد رأي هذا أنّ شارح (النهج) يحتمل احتمالات عندما يمرُّ بشرح مثل هذا التركيب، في حين نجده يشرح التراكيب الباقية بمعانٍ مؤكـَّدة في مواضعها(24).

***

 

المبحث الثاني؛ غرابة سياق التركيب في الحِكَم:

عدد كبير من الحِكَم التي جمعها الرضي 2 ووضعها في القسم الأخير من كتاب (النهج) مأخوذٌ من كلام الإمام (ع) من المظان والأصول التي اعتمدها الرضي في جمْعه للكتاب , قالها الإمام في مناسبات معينة , أو وجدها المصنـِّف في خطبه التي لم يدوّنها في كتاب (النهج) ومن هذه الحِكم السهلة الألفاظ التي غرب سياقها ما نصّه: «... مَنْ أبْدى صَفحَتَهُ للحقَّ هَلَكَ ...»(25)، ويروى: «مَنْ أبْدى صفحَته للحقِّ هَلَكَ عِندَ جَهلةِ النّاسِ...»(26).

والمعنى في الرواية الأولى: من كاشف الحقّ مخاصماً له، مصارحاً له بالعداوة هلك.

ـ وفي الرواية الثانية يكون معنى السياق: من ظاهر الحقّ ونصره، غلبه الجهلة بكثرتهم، وهم أعوان الباطل، فهلك.

قبل التركيب المذكور قوله (هلك من ادعى)، فلو شرحناه، لوجدنا اضطراباً في المعنى السياقي الكلّي أيضاً، ممّا يؤدي إلى غموض، يبعد بنا حتى يصل إلى الغرابة، فقوله: (هَلَكَ مَنِ ادَّعَى)، أي الأمانة من غير استحقاق، وقوله (وَخَابَ مَنِ افْتَرى)، أي: على الله وعلى رسوله في دعواه لها، فالجملتان تحتملان (الدعاء، والأخبار).

والمراد بالهلاك؛ الهلاك الأُخروي، وبالخيبة؛ الحرمان والخسران، فكان معنى ـ قوله (من أبدى ..) أراد به نفسه (ع) ونبّه على أنّ المتجرّد لإظهار الحقّ في مقابلة كلّ باطل، وردّ الجهّال من جهلهم، وحملهم على مُرِّ الحقّ، وصعبه في كلّ وقت يكون مَعْرَضاً للهلاك بأيديهم وألسنتهم.

ويأتي هذا المعنى حينما نبَّه (ع) على معاندة الجّهال للحقّ وأهله، أشار إلى ما يترتّب على صفحة الجهالة ؛ وما هي ثمرة لها بقوله «وَكَفَى بالمَرءِ جَهْلا ألاّ يَعْرِف قَدْرَهُ»(27)، فيتعدّى طوره، ويجهل رتبته، ولا يتصوّر نفسه كآحاد البشر، وهذا من أعظم المهلكات، لكون منشَئِهِ العُجْبُ، والكِبر، والغرور. وادعاء ما ليس له بأهل، كما في ادعاء الذين قبله و(معاوية) الخلافة، وسعيهم في هلاك الإمام، وإفساد الأمر عليه لإبداء صفحة الإمام للحقّ.

لقد اتكأتُ في معرفة معنى السياق هذا, على ما كان قبله من أجزاء, فذهب بي بعيداً, لوجود احتمالين هما: (الدعاء، والإخبار)، ولذتُ في ما كان بَعد النصّ، فكان المعنى السياقي للتركيب؛ ذا احتمالين أيضاً:

الأول: كفى بالمرء جهلاً أن يطلب فوق قدره درجة، كالجاهل يعرف نفسه عالماً, والفاسق مؤمناً... إلى أن يعرِّف الإنسان نفسَهُ خليفةً، وهو لا يعرِفُ معنى الأدب.

والثاني: أن ينزّل نفسه دون ما هي، فالشريف يجالس الأوباش، والمؤمن يعاشر الفسّاق ... وحينما وقفتُ على كامل الخطبة في الكتب التي أوردتها, عرفت أنّ المعنى السياقي هو الاحتمال الآتي:

إنّ المراد هم الأشخاص الذين تقمّصوا الخلافة وهم يعلمون أنَّهم ليسوا بأهلها كالخلفاء الذين سبقوه (أبو بكر، وعمر، وعثمان)، ويؤيّد هذا؛ الخطبة الشقشقية.

والذين ادّعوا الإمامة وهم يعرفون عدم لياقتهم، وكفايتهم لها, وهم خلفاء بني أميّة كمعاوية وابنه يزيد وغيرهم .

ومن غريب السياق أيضاً, ما سُمِع منه (ع) حينما قال: «سَيِّئةٌ تَسُووءُك خَيرٌ عِندَ الله مِن حَسَنَةٍ تُعْجِبُك»(28).

فإنّ لفظة (سيئة , وتسوء , وخير , وحسنة , وتعجبك) كلـُّها ألفاظ بيّنة سهلة واضحة , لكنّ لهذا التركيب معنىً سياقياً غريباً عن معنى ألفاظه.

ذلك أنّ الإنسان إذا وقع منه القبيح, ثم ساءه ذلك وندم عليه وتاب حقيقة التوبة, كَفّرَتْ توبته معصيتُه, فسقط ما كان يستحقّه من العقاب, وحصل له ثواب التوبة, وأمّا من فعل واجباً واستحقّ به ثواباً, ثم خامره الإعجاب بنفسه, والإدلال على الله ـ تعالى ـ بعلمه, والتـَّيه على الناس بعبادته واجتهاده, فإنّه يكون قد أحبط ثواب عبادته بما شَفَعها من القبيح الذي أتاه, وهو العجب والتـّيْه والإدلال على الله ـ تعالى ـ فيعود لا مثاباً ولا معاقباً؛ لأنّه يتكافّأ الاستحقاقان.

ولا ريب في أنّ من حصل له ثواب التوبة, وسقط عنه عقاب المعصية؛ خيرٌ ممّن خرج من الأمرين كفافاً لا عليه ولا له.

فهذه غرابة السياق على الرغم من سهولة ألفاظ التركيب ومعانيها، وأمثلتها كثيرة(29) في (النهج)، ولكن كيف ستكون غرابة السياق، إذا تَعَقّدت معاني تركيبه, هذا ما سيجيب عنه الفصل الثاني.

***

الهوامش

(1) ينظر: نحو علم للترجمة:74 ـ 75، و(المعاجم اللغوية):120ـ 123, و(علم الدلالة): د. أحمد مختار: 69.

(2) ينظر: التطور الدلالي بين لغة الشعر الجاهلي و لغة القران: 76.

(3) ينظر: هذا المعنى في (نحو علم للترجمة): 208.

(4) ينظر: هذا المعنى في (الأسلوب دراسة بلاغية تحليلية لأصول الأساليب الأدبية):40.

(5) ينظر أساس البلاغة (س/و/ق) :314.

(6) ينظر معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب: 288, و(معجم المصطلحات اللغوية والأدبية): 83.

(7) المعاجم اللغوية في ضوء دراسات علم اللغة الحديث: 116.

(8) ينظر: اللغة والمعنى والسياق: 83, و(علم الدلالة العربي): 32, و(السياق في الفكر اللغوي عند العرب): 116, و(دروس في الألسنية العامة): 186, و(علم اللغة سعران): 288, و(السياق ودلالاته في توجيه المعنى): 38, و(مفاتيح الألسنية): 125, و(اللسانيات من خلال النصوص): 94 ـ 95, و(احتمالات المعاني في بعض التراكيب العربية): 80.

(9) ينظر اللغة (فندريس): 231.

(10) ينظر: البرهان في علوم القران:1/22.

(11) ينظر: الإتقان: 3/200, و(دراسة المعنى عند الأصوليين): 222.

(12) البقرة/269.

(13) ينظر: فتح القدير: 1/289.

(14) الدخان: 49.

(15) بدائع الفوائد: 4/109.

(16) ديوانه: 312.

(17) ينظر: المثل السائر: 1/69.

(18) شرح النهج: 1/272.

(19) ينظر: الجاحظ في (البيان): 2/50, وابن قنيبة في (عيون الأخبار): 2/236, وابن مسكويه في (الحكمة الخالدة): 111, والمسعودي في (إثبات الوصية): 124, والطبري في (المستشرد): 75, والكليني في (الكافي):97, و... .

(20) ينظر : القاموس المحيط : (ب/ل/ب/ل): 891, و(مجمع البحرين): (ب/ل/ب/ل): 1/236.

(21) ينظر: شرح قطر الندى: 224.

(22) ينظر: القاموس المحيط, (غ/ر/ب/ل): 956 .

(23) ينظر: القاموس المحيط (س/و/ط): 619 .

(24) ينظر: شرح النهج: 1/170, 171, 214, 2/77،80 ... .

(25) المصدر نفسه: 1/273.

(26) م.ن: 1/ 273.

(27) شرح النهج: 1/ 273.

(28) شرح النهج: 18/174, رُويت مقيّدة النسبة للإمام في:(العقد الفريد):1/147, و(التذكرة): 132, وقد رواها (ابن فهد) في (عدّة الداعي), كما في: (مستدرك الوسائل): 1/16.

(29) ينظر: (شرح النهج): 9/ 119/ 5, 132/ 4, 13/ 18/5 ... .