■ المبحث الثاني؛ غرابة السياق بسبب الحذف وتعدّد التأويل النحوي:
تكمن الغرابة في هذا المبحث بسبب كثرة الوجوه الإعرابية للموقع الإعرابي الواحد , فالمعنى يتبع (الموقع) , ويتغيّر بتغيّره, فتعدّد التأويلات النحوية يؤدي إلى تعدّد المعاني الدلالية .
وهذا هو الوجه الثاني من وجوه غرابة السياق الذي تحدث الغرابة فيه؛ بسبب تعدّد التأويل النحوي للنصّ المستغرب, فهذا التعدّد في التأويل يولّد تعدّداً في القصد حسب ما يقتضيه الوجه التأويلي المستفاد من تعدّد الحذف ذلك؛ لأنّ كلّ وجه من وجوه النحو يفيد دلالة قد تكون مفارقه لدلالة الوجوه الأخرى , أو قد تكون مخالفة لها بسبب الحذف, أو الإيجاز .
لو وقفنا عند التأويلات التي أدارها المفسرون والنحويون في قوله تعالى : ((وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ))(1) لوجدنا أنّ لكلّ تأويلٍ دلالة نحوية تؤدي إلى قصد معنوي.
فلفظة (طاعةٌ) في هذه الآية, وفي الآيتين ؛ (20, 21) من سورة (محمد), يمكن أن تُؤوّل على (الرّفع) بوجوه, وعلى (النّصب) بوجوه أيضاً.
فعلى رفع (طاعة) يمكن أن تُؤوّل اللفظة على (مِنّا طاعة) فتكون مبتدأ , أي : مسنداً إليه , وهذا يعني؛ أنّ (الطاعة) هي: المقصودة, وأنّها صدرت من القائلين .
وإذا أُوِّلتْ بـ(أمرك طاعة) فإنّها ستكون خبراً, ويكون أمر الرسول هو المقصود, وهو مدار الحديث وليس (الطاعة). ويمكن أن تُؤوّل ـ والله أعلم ـ على؛ (قولوا سَمْعٌ وطاعَة ٌ) وحينئذ يكون مدار الحديث على الطلب , بقول: (سمعٌ وطاعةٌ).
وعلى نصْب (الطاعة) , تكون ـ الطاعة ـ تفسيراً (للقتال) وكأنّه قيل: (ذُكر فيها القتال بالطاعة أو على الطاعة) ثم نُزع الخافض, وحينئذٍ ستكون (الطاعة) أمراً عارضاً, ويكون القتال هو المتحدَث عنه(2).
ومثال ما كانت غرابة سياقه بسبب الحذف ما ورد في (النهج) من كلام الإمام (ع) : «... فَصَيَّرَها في حَوْزَةٍ خَشْناءَ يَغْلُظُ كَلْمُها, وَيَخْشُنُ مَسُّها, وَيَكْثُرُ العِثارُ فِيها , والإعْتِذارُ مِنْها, فَصاحِبُها كَراكِبِ الصَّعْبَةِ إنْ أشْنَقَ لَها خَرَمَ وَإنْ أسْلَسَ لَها تقحّم ...»(3).
رأى الرضي غرابة في هذا التركيب ولهذا فسّره بقوله: «... (كَرَاكِبُ الصَّعْبةِ إنْ أشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وإنْ أسْلَسَ لَهَا تَقَحّمَ), يريد أنَّه إذا شدّد عَلَيها في جَذْب الزِّمام وهي تـُنازِعُهُ رأْسَهَا خَرَمَ أَنْفَها, وإنْ أَرْخَى لَها شَيْئاً مَعَ صَعُوبَتِها تقحّمتْ بِهِ فَلَم يَمْلِكْها...»(4).
ولزيادة الإيضاح نقول: إنّ الغرابة التي وجدها الرضي في هذا النصّ , إنّما سببها كثرة الحذف فيه. وإنّما حَذَف الإمام (ع) إبتغاء الإيجاز وتقوية الكلام. فإنّ النصّ من غير حذْف يكون على النحو الآتي : (كراكب الناقة الصعبة إنْ أشنق لها الزمام خرم أنفها وإن أسلس لها القياد تقحّمت به الناقة الطريق الوعرة).
والناظر في النصّ الذي صنعناه , يجد فضل (الفصحى) على (الفصيحة) , ويجد فضل (الإيجاز) على(الإطناب) وما يثيره ذلك الإيجاز من إيحاء في نفوس السامعين ممّا لا يثيره الإطناب .
فإنّ المحذوفات في النصّ هي : موصوف استغنى بصفته عنه , وهي (النّاقة). ومفعول استغنى عنه بإيحاء السياق في (أشنق) وهو الزِّمام , ومفعول حُذف للإيجاز, بسبب دلالة الفعل (خَرَم) وبسبب لفظة (الزِّمام) أيضاً؛ لأنّه لا يكون إلاّ في أنف الناقة , والمفعول المحذوف هو : (الأنّف) الذي دلّ عليه ما يكتنفه. والمفعول الثالث الذي حُذف هو: (القياد) , استغناءاً عنه بما وُطـِّأ له من ألفاظ (أشْنَقَ وخَرُم وأسْلَسَ) فصار فهمه يسيراً على السامعين وهو (القياد) .
وأما آخر ما حُذف في هذا النصّ, فإنّه مفعول (تقحّم) , وتقديره : (تقحّم الطريق الوعرة), والذي يزيد في غرابة هذا السياق إسناد الفعل (تقحّم) إلى راكب الناقة , وهو في الحقيقة لا يتقحّم , وإنّما تتقحّم الناقة به الطريق الوعرة , وهو لا يستطيع أن يملك زِمامها .
إن لكلّ من هذه المحذوفات دلالة يوصلنا إليها هذا الحذف , فقوله (الصّعبة) من دون ذكر الناقةيدلّ على أنّه يقصد بيان الصعوبة, لا بيان جنس المركوب, وهو الناقة. في حين يدلَّ قوله (أشنق لها) , أنّه يريد الحديث (الفعل) ولا يريد ما أشنقه , وهو (الزِّمام) , وكذلك (أسلس) فهو يريد إرخاء (الزِّمام) والتساهل في الأمور , وهو المقصود, ولا يقصد (المُرخّى) .
أما قوله: (تقحَّم) فهو يريد؛ أنّ هذا الراكب سيصل إلى الهلاك لا بإرادته بل بإرادة المركب الصّعب الذي ركبه , وهو التهاون في الأمور .
والمتأمّل لهذا الحذف وتغيير الدلالات الناتج منه, لاشكّ في أنّه يقرّ بأثره في تغيّر القصد حين تحوّل القائل من الذكر إلى الحذف , فأدّى هذا التحوّل إلى غرابة في السياق لا وجود لها لو أنّ هذه المحذوفات من النصّ قد ذُكرت فيه .
وشبيه بما تعدّد من التأويل النحوي في ما وجدته في قول أمير المؤمنين, من عهده لمّالك بن الحارث الأشتر لمّا ولاه على مصر, قال (ع) : «... و إنْ عَقَدْتَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ عَدِوٍّ لَكَ عُقْدَةً, أوْ ألبَسْتَهُ مِنْكَ ذِمّةً, فَحُطْ عَهْدَكَ بِالوَفاءِ, وَارْعَ ذِمّتَكَ بِالأمانَةِ. وَاجْعَلْ نَفْسَكَ جُنّةً دُونَ ما أعْطَيْتَ؛ فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرائِضِ الله شَيءٌ النّاسُ أشدّ عَلَيْهِ اجْتِماعاً مَعَ تَفَرُّقِ أهْوائِهِمْ , وَتَشَتّتِ آرائِهِمْ , مِنْ تَعْظِيمِ الوَفاءِ بِالعُهودِ...»(5).
فالمنعم النظر في هذا النصّ يجد فيه موضعاً جعله الشارحون عويصاً بما فرّعوا له من تأويلات , فصار يؤدي في كلّ تأويل معنًى نحوياً لا يؤدِّيه في التأويل الآخر. يبدأ هذا الموضع من قول الإمام: «واجْعَلْ نَفْسَكَ جُنّةً دُونَ ما
أَعْطَيْتَ؛ فَإنَّهُ لَيْسَ مِنْ فَرائِضِ الله شيء النّاسُ أشدّ عَلَيْهِ اجْتِماعاً مَعَ تَفَرُّقِ أهْوائِهِمْ , وَتَشَتُّتِ آرائِهِمْ , مِنْ تَعْظِيمِ الوَفاءِ بالعهودِ».وأوّل تأويل في هذا النصّ، هو تعلـّق الظرف (دون) المضاف إلى (ماالموصولة) , فلو عُلـِّق بـ (جُنّة) لم يصحّ ؛ لأنّ الظرف يتعلـّق بمشتق لا باسم جامد , لذا فتأويله ؛ أنّه متعلـّق بمحذوف صفة لـ (جُنّة), أي: (جُنّة موضوعة) وهذا التأويل يفيد معنىً عالياً , لأنّ المُوَصَّى (مالك) يفدي عهده بنفسه ويضحِّي بها ولا يفرّط في عهده. ولو تعلـّق الظرف (دون) بالفعل (اجعل) لاختلف المعنى وصار ذماً , لأنّ المُوَصَّى حينذاك يجعل نفسه في مرتبة أقلّ من العهد الذي أعطاه , أي أقلّ من مرتبة عدوّه, وهذا ما لم يقصده الإمام بالتأكيد.
ثم أنظر إلى التأويلات التي يتضمّنها قول الإمام (فإنّه ليس من فرائض الله شيء الناس أشدّ عليه اجتماعاً مع تفرّق أهوائهم وتشتـّت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود)، تجد اختلاف الشرّاح النحويين في إعراب النصّ وتأويل هذا الإعراب.
ذكر الراوندي في إعرابه؛ أنّ (الناس) مبتدأ , و (أشدّ) مبتدأ ثانٍ , و (من تعظيم الوفاء) خبره , وهذا المبتدأ الثاني مع خبره؛ خبر المبتدأ الأوّل (الناس), ومحل الجملة (الناس أشدّ عليه إجتماعاً... الوفاء) نصب؛ لأنّها خبر ليس , ومحل (ليس) وما دخلت عليه رفع لأنّه خبر. والراوندي يقصد بهذا أنّ (ليس) ومعموليها خبر لضمير الشأن المحذوف في (فإنه ليس ...) , أي أنّها خبر (إن).
أما اسم (ليس) نفسها ـ عنده ـ فهو كلمة (شيء). والجار والمجرور قبله (من فرائض الله) ليس خبراً لـ(ليس) بل هو حال من (شيء) , ولو تأخّر هذا الجار والمجرور عن كلمة (شيء) لصار صفة لها(6).
ولا نريد أن نحكم على الراوندي بالصواب أو الخطأ , لكننا نتلمّس الدلالة المعنوية في تأويلاته النحوية هذه , فنجد أنّ المعنى في تأويله : التركيز في (شيء) , وما يتـّصل بها من الكلام الذي يكتنفها , ولم يركـّز الدلالة في (فإنّه ليس من فرائض الله...) أي لم يبحث في اسم (إنّ) وخبرها , ودلالتها لتوكيد الكلام الذي يُعدّ خبراً لها على رغم طوله وتشعّب جمله , وإنّما ركـّز في إعراب (الناس) مبتدأً, ثم أخذ يفتـّش عن خبره فجعله جملة (أشدّ من تعظيم الوفاء). وهذا يفيد وصف (الناس) بالحرص على تعظيم الوفاء بالعهود. وليس هذا مراد الإمام ؛ لأنّه يوصِي مالكاً الأشتر بالحفاظ على العهود والوفاء بها. وهذا يوحي بأنّ الناس في ذلك الوقت لم تكن تحافظ على العهود , ولا تفي بها .
ولو نظرنا في تأويلات ابن أبي الحديد ؛ لهذا النصّ لوجدنا أنّه يجعل (شيء) اسماً لـ(ليس) وأنّ الجار والمجرور قبله في موضع الحال , وهذا يقرّ به من جواز الإبتداء به ؛ لأنّه خُصص بالحال ـ وهي وصف ـ فصار هذا مسوّغاً للإبتداء به على رغم تنكيره(7). ولم يجعل الشارح (أشدّ) مبتدأً ثانياً , بل جعله خبراً , وهذا يعطينا دلالة بعيدة جداً عن (تعظيم الناس ...للوفاء بالعهود)؛ لأنّه يعلـّقها بـ (شيء).
ويجعل الشارح من (فرائض الله) خبراً لـ(شيء) قُدِّم عليه , و«ليس يمتنع أيضا أن يكون (من فرائض الله) منصوبَ الموضع ؛ لأنّه حال , ويكون موضع (الناس أشدّ) رفعا؛ لأنّه خبر المبتدأ الذي هو (شيء)...»(8).
ومن ينظر في اختلاف التأويل عند الرجلين يدرك غرابة السياق في هذا الموضع , لأنّ الدلالة في كلّ تأويل وفي فروعه تختلف عن الدلالة في التأويل الآخر. ولو أخذنا أصل الكلام (ليس شيء أشدّ من تعظيم الوفاء بالعهود). فإنّ الحديث (الإسناد) قائم بين (شيء) و( أشدّ) الذي هو الخبر في الأصل , وحين دخلت (ليس) صار خبراً لها .
إنّ هذه العلاقة ـ علاقة (ليس شيء أشدّ) ـ تفيد النفي المطلق بين (شيء) وشدّة إعظام الناس للوفاء، غير أنّ جعْل (شيء) اسماً لـ(ليس) وجعْل (من فرائض) خبراً مقدَّماً لها, يلغي تماماً الدلالة على نفي شدّة إعظام الناس للعهود, وهذا ما لم يقصد إليه الإمام بالتأكيد , بل هو يحضّ مالكاً على الوفاء بعهده مهما كان.
أما التأويل الذي يرى أنّ (من فرائض الله) في موضع الحال , وهي مقدَّمة على صاحبها ـ شيءٌ ـ فإنّه تأويل يؤدّي بنا إلى مخالفة ما وضعه النحويون أنفسهم من قواعد الحال. هم يرون أنّ الحال لا تأتي من نكرة , ويشترطون أنْ يكون صاحب الحال معرفة هذا أولاً (9).
سيقودنا هذا التأويل إلى جواز تقدّم الحال على صاحبها النكرة من غير مسوّغ. ثم ما فائدة أن يكون (من فرائض الله) متعلـّقا بـ (شيء) حتى يكون حالاً له ثانياً.
ومدار الأمر لتجنّب هذه التأويلات التي تؤدِّي إلى معانٍ نحوية مختلفة هو: وجود كلمة (الناس) في النصّ , فإنّهم أعربوها مبتدأً أولاً , والتمسوا خبره في اسم التفضيل (أشدّ) , ـ الذي هو عندهم مبتدأً أيضاً ـ ومتعلـّقه ـ من الوفاء بالعهود ـ الذي جعلوه خبراً له , وهو ليس كذلك؛ لأنّ اسم التفضيل لابدّ له من أن يتعلـّق بـ (من).
ولو أمضينا الإعراب على أصل الكلام لكان (شيء) اسماً لـ(ليس) و (أشدّ) خبراً لها و(تعظيماً) تمييز متعلـّق بـ (أشدّ) و (من الوفاء بالعهود) متعلـّقاً باسم التفضيل (أشدّ). ولكانت الدلالة المستفادة هي: أوفِ يا مالك بعهدك فإنّه لا شيءَ عند الناس أعظم من الوفاء بالعهود.وهذا هو ما يقصده الإمام (ع) .
وقد ورد في مثل هذا في (النهج) كثير(10).
اقتصرتُ في هذه الفصول على غرابة السياق الكلّي للنص المتأتـّية من التركيب اللغوي، متجاوزاً الجوانب البلاغية في هذه التراكيب، وغرابتها من خلال أساليب علم البلاغة، وصولاً إلى غرابة سياقها الكلّي بسبب النظم، وسيبرِّزها الباب القادم، إن شاء الله.
***
الهوامش
(1) النساء / 81.
(2) ينظر: معاني القرآن : 1/ 278ـ 279.
(3) شرح النهج: 1/162, رويت موثقة ومقيدة للإمام في (تحف العقول): 313, و(معاني الأخبار): 343, و(الشافي): 203 ـ 204, و(الإحتجاج): 1/95, قطعت هذا الكلام في الخطبة الشقشقية.
(4) شرح النهج: 1/ 204.
(5) شرح النهج: 17/ 106, روي هذا الكتاب موثقاً للإمام في: (تحف العقول): 126, و( دعائم الإسلام): 1/ 350, و(نهاية الأرب): 6/19.
(6) ينظر: شرح النهج: 17/ 107.
(7) ينظر: المقتصد في شرح الإيضاح: 2/ 883, 907, و(شرح قطر الندى): 118, قال ابن هشام: « ... وقد ذكر بعض النحاة لتسويغ الابتداء بالنكرة صوراً , وأنهاها بعضُ المتأخرين إلى نيف وثلاثين موضعاً, وذكر بعضهم أنّها كلـّها ترجع إلى الخصوص والعموم, فتأمّل ذلك..», و(شرح ابن عقيل): 1/218.
(8) شرح النهج : 17/ 108.
(9) ينظر : شرح قطر الندى : 236, و( شرح ابن عقيل) : 1/ 633.
(10) ينظر: شرح النهج : 17/ 83/ 2, 14/141, 18/ 30/ 5... .