الفصل الثاني

غرابة السياق بسبب تعقيد المعاني وصعوبتها

سِنخ الغرابة هنا بل أصلها، يأتي من غموض الألفاظ وتعقيدها، وتعقيدَها؛ إنّما جاء من غرابة ألفاظها، فمُفسِّرها لابدّ من أن ينصرف إلى تأويل معنى, يؤثـِّر في السياق الكلّي فيجعله غريباً.

الغرابة في أيّة لغة أمر طبيعي، إذا كانت هذه اللغة مؤثـَّلة التاريخ واسعة التراث... مثل اللغة العربية, فهي: خصيصة من خصائص اللغة الإنسانية(1)، لذا تبقى جزءاً من طبيعة اللغة الإنسانية، لا يمكن إنكارها، أو تجاهلها سواء أكانت في لغة الخطابة أم في لغة الكتابة، أو على مستوى الإفراد، أو التركيب. غير أنّ الغرابة التي تنشأ من لغة الخطابة أقلّ عنتاً منها في لغة الكتابة، إذ تصحب الكلام إشارات وحركات وإيماءات باليد والجسم والوجه والعين، في لغة الخطابة وهذا ما يُعرف بـ( علم الحركة الجسمية)(2) الذي يدرس حركة الجسم الإنساني في أثناء الكلام ودلالاته على المعنى.

والآن نحن بإزاء نصّ أدبي وصل إلينا مكتوباً، فلاتلوين في الأداء، ولاتنغيم، ولانبر, ممّايترتّب عليها وضوح المعنى وكشف لبْسه. فهو غريب علينا كما غرب في وقته، حاله حال غريب القرآن والحديث، لذا سئل عن غر يبهما على الرغم من نزول القرآن بين ظهرانيهم ـ العرب ـ وكون النبي بينهم أيضاً.

وَلـمّا كان الكلام يحتوي على لفظة غريبة، تعدّدت معانيها الدلالية لغرابتها عن السامع، أو القارئ، فلابدّ من أن يؤثـِّر كلّ معنى من معانيها المحتملة في السياق، فلم يكن السياق فيصلاً في تحديد المعنى المطلوب، لذلك بات غريباً، ولهذا فزع المفسرون إلى الاستعانة بالمعاجم اللغوية.

ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً))(3). (أشدّه) لفظ غريب(4). فسّره ابن قتيبة بقوله: «بلغ أشدّه، إذا انتهى منتهاه قبل أن يأخذ في النقصان، وهو جَمْع، لواحده أشدَّ، ويقال شَدُّ، وأشَدَّ...»(5)، وفسّرها في موضع آخر, بقوله: «يتناهى في الثبات إلى حدِّ الرجال، ويقال ؛ ذلك ثمانية عشرة سنة»(6)، وحددَّ المعنى في السياق قائلاً: «وأشُدُّ اليتيم غير أشدَّ الرجل... ؛ لأنَّ أشدَّ الرجل: الاكتهال، والحنكة، وأن يشتدَّ رأيُه وعقلـُه... وأشدُّ الغلام: أنْ يشتدَّ خلْقـُهُ، ويتناهى ثباته»(7).

ويأتي (الرازي) ليحدّد معنى اللفظ في التركيب من حيث السياق بقوله: ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً))؛ قلنا: المراد ببلوغ الأشدِّ دون الأربعين سنة على اختلاف مقداره، والمراد بالاستواء بلوغ الأربعين، أو الستيّن، وكان إيتاء كلّ واحد منهما الحكم، والعلم في ذلك الزمان، فأُخبر عنه كما وقع»(8).

حدّد مقدار الاستواء بستين سنة، ولا أدري من أين جاء بهذا المقدار، غير أنّي عارف بمقدار الأربعين, من قوله ـ تعالى ـ ((حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً)) ولا يطـّرد هذا المقدار في قياسه؛ لأنّه ـ سبحانه ـ أتى الحُكم ليحيى وهو صبي, قال: ((وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا))(10).

لحظنا كيف أثرت (أشَّد) في التركيب، بل حتى في السياق الكلـّي له ـ في الآية ـ , ويزداد التأثير في السياق إذا احتوى التركيب على أكثر من مفردة غريبة؛ لأنّه بكثرة احتمالات معاني المفردة الواحدة؛ تكثر احتمالات معاني التركيب ممّا يجعل السياق غريباً في ذلك التركيب ولأجل هذا كان هذا الفصل ينقسم إلى مبحثين:

 

المبحث الأول؛ غرابة السياق المتضمِّن لفظة غريبة واحدة:

نجد هذا النوع من الغرابة في قوله (ع) «لَنا حقٌّ، فإن أُعْطِينَاهُ وإلاّ رَكِبْنا أَعجَازَ الإبِلِ، وإنْ طَالَ السُّرى...»(11).

أوّل تفسير (أَعجاز الإبل) العلماءُ، كلّ بحسب اجتهاده، وعلمه، فقد شرحها جامع(النهج) حينما وجدها غريبة، بقوله : «... إنّا إنْ لم نُعْطَ حقـّنا كنّا أذلاّء وذلك أنّ الرديف يَرْكب عجزَ البعير، كالعبد، والأسير، ومن يجري مجراهما...»(12).

وذكر ابن أبي الحديد ـ شارح النهج ـ قول أبي عبيد الهروي (ت/401هـ) وهو: (إنـّا لنا حقّ إن نُعْطه نأخذه، وإن نُمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن طال السُّرى)، قال: «قد فسّروه على وجهين ؛ أحدهما : أنَّ راكب البعير يلحقه مشقّة، وضرر, فأراد : إنَّا إذا مُنعنا حقنا صبرنا على المشقّة والمضّرة، كما يصبر راكب عجز البعير، وهذا التفسير قريب ممّا فسّره الرضي. والوجه الثاني : إنّ راكب عجز البعير، إنّما يكون إذا كان غيره، قد ركب على ظهر البعير, و راكب ظهره متقدّم على راكب عجز البعير، فأراد : إنّا إذا مُنعنا حقّنا تأخّرنا وتقدّم غيرنا علينا، فكنّا كراكب رديفاً لغيره، وأكّد المعنى كلا التفسيرين بقوله: وإن طال السُّرى»(13).

قال ذلك؛ لأنّه إذا طال السُّرى، كانت المشقّة على راكب عجز البعير أعظم ـ في رأي الهروي ـ فكان الصبر على تأخّر عجز البعير، عن الراكب على ظهره أشدّ وأصعب. وبهذين الاحتمالين، فَسّر كلّ من (ابن قتيبة)، و(ابن أبي الحديد)، و(السيوطي)، و(فخر الدين الطريحي)(14).

إلاّ أنّ السيوطي؛ حدّد المعنى وأصّله، فالتحديد أنّه انصرف عن المعنى الحقيقي إلى المعنى المجازي بقوله:

«... ولم يُرِد ركوبَ الدابّة، كأنّه قال : إن قُدَّمنا للإمامة تقدّمنا، وإن أُخّرْنا عنها صبرنا على ذلك، وإن طالت الأيام»(15) ، فهذا احتمال رابع، وأصّل المعنى بقوله: «وأصله أنّ راكب البعير، إذا ركبه بغير رحْل ولا وطاء، ركب عجزه، ولم يركب ظهره من أجل السنام، وذلك مركب صعب يشقُّ على راكبه، خاصّة إذا تطاول الركوب، ويُحتمل أنّه أراد بذلك أن يكون ردْفاً تابعاً لغيره، كرديف الدابّة الذي ركب عجزه»(16).

يستفاد من تأصيل معنى (السيوطي) أنّ الإمام أراد كما يضطر الراكب إلى ركوب العجز لعدم توافر الرحْل والوطاء، وهما ممّا يعينانه على المشقـّة، فأنا كذلك اضطررت، فركبت هذا المركب لعدم وجود الأنصار الذين بهم أُعان على المشقـّة ودفع المضّرة, فصبرتُ وإن طالت الأيام. وهذا احتمال خامس .

ولو لم أعرف مناسبة الخطبة والظروف والأحوال التي قيلت فيها لرأيتُ ؛ احتمالاً سادساً ذلك أنّ كلامه ـ الإمام ـ من باب الفخر، فيكون المعنى : (أنّ الراكب على كاذ الفرس، أو عَجُز البعير, تُطلقُ يداه بالسلاح، أكثر من الراكب الذي يلي عنق الفرس أو البعير، ولهذا قال الشاعر:

«سَراةُ بني أبي بَكـــْرٍ تَسَامــى عَلى كــاذِ المسوَّمــةِ العـرابِ»(17)

فهل لحظنا كيف غرب السياق في هذا النوع؟ والسبب واضح؛ ذلك؛ بكثرة احتمالات معاني اللفظ (الغريب) في التركيب، وهو لفظ واحد، وأمثلة هذا في (النهج) كثير(18)، فكيف إذا تضمّن التركيب أكثر من مفردة غريبة؟ هذا ما سيجيبُ عنه المبحث الثاني.

***

 

المبحث الثاني؛ غرابة السياق المتضمِّن أكثر من لفظة غريبة:

تكمن الغرابة في هذا المبحث إذا احتوى التركيب على أكثر من مفردة غريبة, لكثرة احتمالات المعاني في هذه المفردات, ففي هذه الحالة لاشكّ في أنّه سيحدث معنى سياقي كلّي، يرتفع به الخفاء واللّبْس والغموض إلى الحدّ الذي يجعله غريباً، ومثال ذلك في(النهج) قول الإمام (في باب الحكم) : «إذا بَلَغَ النساءُ نَصَّ الحِقاق، فالعَصَبَة أَوْلى»(19). وقد وضع المصنّف هذه الحكمة في باب «من كلامه (ع) المتضمّن ألفاظاً من الغريب يحتاج إلى تفسير»(20) وسيأتي شرح (الرضي) لمفرداتها الغريبة.

ولمعرفة معنى السياق، لابدّ من أن ننظر إلى معاني المفردات الغريبة، فإذا وضحتْ، بان السياق، والعكس بالعكس.

والآن لي مناقشة ومعالجة للألفاظ الغريبة ـ وبكل تواضع ـ مع المصنِّف والشارح، وأقوال العلماء الأُخر يسبقهم قول الإمام.

قوله: «إذا بَلَغَ النساءُ...»، ولمَ يقلْ (إذا بلغت...)، ذلك من قبيل قوله تعالى: ((وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ))(21)، في عدم تأنيث الفعل, مع كون الفاعل مؤنّثاً حقيقياً، لكونه اسم جَمْع، وهذا من قول ابن مالك (ت/672هـ):

«والتّاءُ معَْ جَمْعٍ سوى السالم مِن مُذكّرٍ كالتّاءِ مع إحْـدَى اللبـنْ»(22)

روى حكمة الإمام أبو عبيد القاسم بن سلاّم: «إذا بلغَ النساء نصَّ الحقائق»(23)، وليس (نصّ الحِقاق).

فالمصنّف ـ الرضي ـ غلّط أبا عبيد القاسم بن سلاّم في موضع شرحه ـ الأخير ـ لمادّة (نصّ الحقائق)، ومنشأُ هذا الغلط، إنّما جاء ـ في ما أظنُّ ـ من أنَّ الرضي رأى غرابة التركيب على مؤلـِّف (غريب) كأبي عُبيد، فشرحها كما يراها. قال الرضي: «ويُروى (نصّ الحقائق)، والنصّ منتهى الأشياء، ومبلغ أقصاها، كالنصّ في السير، لأنّه أقصى ما تقدر عليه الدابة، ويُقال: نصصتُ الرجل عن الأمر، إذا استقصيتُ مسألته لتستخرج ما عنده فيه، ونصّ الحقائق؛ يريد به الإدراك؛ لأنّه منتهى الصّغر والوقت الذي يخرج منه الصغير إلى حدِّ الكبر»(24).

نرى أنَّ المصنـِّف جعل الأصل في معنى النصِّ (الإنتهاء)، وجعله (الجامع) بين قولهم (النصّ في السير)، و بين( قولهم نصصتُ الرجل عن الأمر)، والأظهر فيه؛ الإظهار كما صرّح (ابن دريد) في قوله: «نصصتُ الحديث نصّاً، إذا أظهرته، ونصصتُ العروس نصّاً إذا أظهرتها، ونصصتُ البعير في السير نصّاً إذا رفعته، ونصصتُ العروس نصّاً إذا أقعدتها على المنصّة، وكل شيءٍ أظهرته فقد نصصتُه، ونصّة المرأة؛ الشعر الذي يقع على وجهها من مقدّم رأسها»(25).

وقوله: «فإذا بلغ النساء ذلك فالعَصَبة أوْلى بالمرأة من أمها، إذا كانوا محارمَ, مثل الإخوة والأعمام وبتزويجها إن أراد ذلك. »(26).

قلتُ؛ إنّ ما ذكره ـ الرضي ـ من الإخوة والأعمام أوْلى بالمرأة؛ بُعْدٌ عن الصواب، إنّما الوليُّ؛ الأب والجدُّ، إذا كانت صغيرة، وعلى ذلك، إذا كانت كبيرة باكراً، وأمّا غيرهما، فلا خلاف في عدم ولايتهما(27).

وقوله : «والحِقاق؛ محاقّةَ الأمِّ للعَصَبة في المرأة، وهو الجدال والخصومة، وقول كلِّ واحد منهما للآخر: أنا أحقُّ منك بهذا، يُقال: حاققتُه حِقاقاً، مثل جادلتُه جدالاً..»(28). قلتَ؛ هنا لا وجود لمجيء (الحِقاق) مصدر (حاقَّ) بمعنى (جادل)، كـ(المُحاقـَّة)، لكنّ الوجود في صحّة إضافة (النصّ) إليه بذلك المعنى، فلم يذكر أحدٌ أنّه: يقال: (نصصتُ الجدال)، كما قالوا: (نصصتُ الحديث، والبعير، والعروس، كما مرَّ. ).

وقوله: «وقد قيل أنَّ نصَّ الحِقاق؛ بُلوغ العقل، وهو الإدراك؛ لأنّه (ع)، إنّما أراد منتهى الأمر الذي تجب به الحقوق والأحكام..»(29) ، فقد أجاب الشارح على هذا بقوله: «أنَّ المراد بنصَّ الحِقاق؛ منتهى الأمر الذي تجب به الحقوق والأحكام، فإنّ أهل اللغة، لم ينقلوا عن العرب، إنّها استعملت (الحِقاق) في (الحقوق)، فلا يُعرف هذا في كلامهم. »(30).

ـ وقول الرضي : «قال: ومَنْ رواه (نصَّ الحقائق) فإنّما أراد جَمْع حقيقة، هذا معنى ما ذكره أبو عبيد القاسم بن سلاّم»(31).

قلتُ: فما معنى (الحقائق)، إذا كانت جمْع حقيقة هاهنا ؟وما معنى إضافة (نص ّ) إلى (الحقائق) جمع حقيقة، فإنَّ أبا عُبيد، لم يُفسّر ذلك مع شدّة الحاجة إلى تفسيره(32).

وقوله: «والذي عندي؛ أنَّ المراد بنصِّ الحِقاق ها هنا؛ بلوغ المرأة إلى الحدِّ الذي يجوز فيه تزويجها، وتصرّفها في حقوقها، تشبيهاً بالحِقاق من الإبل..»(33).

قلتُ؛ جاء في (اللسان)؛ الحُقّة: نبز أمّ جرير بن الخَطَفَى، خطبها سُويد ابن كراع إلى أبيها، فقال: إنّها لصغيرة صرعة، فقال: سويد: لقد رأيتها، وهي؛ حُقّة، أي كالحُقّة من الإبل في عظمها(34)، أي في العظم فقط.

وإضافة (النصّ) إلى الإبل كثيرة، قال: زيد بن حارثة لما حجَّ ناس من قبيلته، رأوه عند النبي (ص) :

«فَكُفّوا مِن الوَجد الذي قد شَجَا لَكُم ولا تَعْملوا في الأَرضِ نَصَّ الأباعــرِ»(35)

وقوله: «وهي ـ أي الحِقاق ـ جَمْع حِقَّة، وحِقِّ، وهو الذي استكمل ثلاث سنين، ودخل في الرابعة، وعند ذلك يبلغ إلى الحدّ الذي يمكن فيه من ركوب ظهره، ونصِّه في سيره»(36).

قلتُ: إنَّ الجوهري جعل (الحِقق) جمعاً لـ(حِقّة، وحِقّ)(37)، وأجاز الفيروزآبادي ذلك(38).

وقوله: «والحقائق أيضاً : جَمْع حِقّة، فالروايتان جميعاً ترجعان إلى مسمّى واحد، وهذا أشبه بطريقة العرب من المعنى المذكور أوّلاً»(39).

فهنا رَبَطَ (الرضي) بين ما يعرفه من استعمالات العرب وبين ما يشرحه من قول الإمام، فصرّح بمعنى السياق بقوله : (وهذا أشبه ...)، وأجاب الشارح ؛ بعدم جواز ذلك بقوله :«ليس الأمر على ما ذُكر من أنَّ (الحقائق) جمع حِقّة، ولكنّ الحقائق جمع (حِقاق)، (والحقاق) جَمْع (حِقّ)، وهو ما كان من الإبل ابن ثلاث سنين، وقد دخل الرابعة، فاستحقّ أن يُحمل عليه، ويُنتفع به، فالحقائق إذن : جمع الجَمْع لِحقّ لا لِحقّة»(40).

قلتُ : إذا كان (الحقائق) جمع (الِحقاق)، و (الِحقاق) جَمْع (حِقّة)، و (حِق) بالاتّفاق(41)، يصدق أن يكون الحقائق جَمْع (حِقّة)، كما قال السيد (الرضي) .

وأما قول الشارح حينما أراد تحديد معنى السياق وإزالة إبهامه بقوله: «يمكن أن يُقال : (الحِقاق) هاهنا الخصومة، يقال : ما له فيه حِقّ، ولا حِقاقّ، أي : ولا خصومة، ويُقال لن يُنازع في صغار الأشياء، إنّه لبرِق الحِقاق، أي خصومته في الدَّنىء من الأمر، فيكون المعنى، إذا بلغت المرأة الحدَّ الذي يستطيع الإنسان فيه الخصومة، والجدال، فعصبتُها أوْلى بها من أمّها، والحدُّ الذي تكتمل فيه المرأة والغلام للخصومة، والحكومة، والجدال، هو سنّ البلوغ»(42).

قلتُ: إنّ الشارح، فسّر معنى السياق الكلّي للنصَّ ـ مع جلّ احترامي له ـ بما يصدُق عليه مقولة؛ من قال:(وفسّر الماءَ بعد الجُهد بالماء .). فتفسيره، هو عين ما ذكره المصّنف سابقاً بقوله : (والحقاق مُحاقّة الأمّ للعصبة في المرأة، وهو الجدال والخصومة وقول كلّ واحد منهما للآخر, أنا أحقّ منك.)، إلاّ أنّ ما عبّر به (الشارح) مأخوذ من (الصحاح)(43)، وما عبّر به المصّنف مأخوذ من (الجمهرة)(44) والمعنى واحد.

فما ذكره الشارح تطويل بلا طائل، وتكرار بلا حاصل. وزد على هذا، فإنَّ الجدال والخصومة يحدث في لعب الأطفال أيضاً، وكلّ واحد منهم يقول للآخر أنا أحقَّ منك في كذا... ممّا يُحدِث نزاعاتٍ تكون أُساً في نزاعات عوائلهم، بل قبائلهم. فلا مسوّغ؛ لأن نجعل أساس البلوغ ؛ الخصام، أو الجدال، أو الحكومة، أبداً.

وأمّا ما ذكره أبو عبيد، فلا يفي بالمطلوب، لأنّه فسّر معنى (النصِّ) ولم يفسّر معنى نصّ (الحقائق)(45)، فإنّه؛ لم يبيّن من أي وجه يدل لفظ (نصّ الحِقاق)، ولا اشتقاق (الِحقاق) ولا أصله، ليظهر في ذلك مطابقة اللفظ للمعنى السياقي.

وأما قول أبي عُبيد : «الحِقاق ها هنا مصدر حاقـّه، يُحاقّه. »(46)، فإنْ كان مقصود الإمام هذا، فقبل الإدراك، يكون (الحِقاق) أيضاً، لأنَّ كلّ واحدة من القرابات تقول للأخرى، أنا أحقّ بها منك، فلا معنى لتخصيص ذلك بحال البلوغ, إلاّ أن يزعم زاعم أنّ الأمَّ قبل البلوغ لها الحضانة, فلا ينازعها قبل البلوغ في البنت أحدٌ، ولكنّ في ذلك خلافاً كبيراً بين الفقهاء(47).

وقد جمع الفيروزآبادي احتمالات معنى (الحِقاق) بقوله : « وحِقاق العُرْفط صغاره، و(إذا بَلَغْن: أي النساءُ نصَّ الحِقاق، أو الحقائِق، فالعَصبة أوْلى)، أي : إذا بلغن الغاية التي عَقـَلـْنَ فيها، وعَرَفن فيها حَقائِق الأمور، أو قـَدَرْنَ فيها على الحِقاق، أي : الخصام»(48)، وهذه ثلاثة احتمالات سبقه إليها؛ المؤلفون.

وبعد أن عرفنا كيف اضطرب السياق في هذا التركيب، صدق قولي من أنّ سبب غرابة السياق الكلـّي للتركيب، هي معاني مفرداته الغريبة.

لاشكّ في أنّ السآمة أخذت مأخذها من القاريء, الكريم في تحديد معنى النصّ، والذي عندي هو احتمالان:

الأول: ما جاء به صاحب القاموس، من الاحتمالين الأولين؛ هما: بلوغ الغاية في عقلهن, ومعرفتهن حقائق الأمور، وبهذين المعنيين يمكن للمرآة تحمّل مشقـّة الحياة الزوجية وأعبائها كحدّ الإبل، الذي يمكن فيه ركوب ظهرها، ونصّها في السير.

الثاني: أراد بـ( النصِّ) الارتفاع، يُقال نصَّت الضبيّة رأسها؛ إذا رفعته, ومنه منصّة العروس، لارتفاعها عليها؛ فيكون قد استعار لفظ (الحقاق) لأثداء البنت الصغيرة، إذا نهدت، وارتفعت، لشبهها بالحقـّة صورة، فالمعنى إذن: إذا بَلَغَت النساء حدّ ارتفاع أثدائِهنّ، فأبوها، وعمّها أوْلى بتزويجها لمن أراد.

فهل نظرنا كيف أثـّر تعقيد المعاني وصعوبتها في اللفظ والتركيب، فقد شدّد غرابة السياق الكلـّي فيه، هذا من ناحية، ومِن ناحية أخرى، يُعدُّ هذا النوع، إلتفاتاً إلى معانٍ لطيفة أثـّرت في اللفظ والتركيب أيضاً.

وأمثلة هذا في (النهج) كثير(49).

وثمّة ألفاظ ليست غريبة، بل هي بيّنة سهلة، لكنَّ فصاحتها العالية جداً، لم تُؤلف ؛ إذا سُمعت أوّل مرة، فتشكُل على سامعها، ممّا تجعل سياقها، وهي في التركيب غريباً، وسنرى ذلك في الفصل القادم إن شاء الله.

 

***

الهوامش

(1) ينظر: نظرية جومسكي اللغوية: 118 ـ 119, و(العربية والغموض): 16.

(2) ينظر: دراسات في علم اللغة: 159.

(3) يوسف/22.

(4) ينظر: تفسير غريب القرآن: 34, 15, 329, 407.

(5) المصدر نفسه: 215.

(6) ينظر: تفسير غريب القرآن: 329.

(7) المصدر نفسه: 329.

(8) مسائل الرازي وأجوبتها: 148, ويبحث هذا الكتاب بالغريب التركيبي للآيات القرآنية وتخريج الآيتين هو: يوسف/22, والقصص/14.

(9) الاحقاف/15.

(10) مريم/12.

(11) شرح النهج: 18/132, وقد أسندتها كتب (الغريب) وغيرها مقيّدة ومضبوطة إلى الإمام, ينظر: (غريب الحديث لابن قتيبة): 2/139, و(تاريخ الطبري) 3/300, و(ذيل المذيل للطبري): 120, و(تهذيب اللغة) (ع/ج/ز): 1/341 ، و(تنبيه الخواطر): 5, و(الفائق): 2/397, و(النهاية): 3/185, و(التذييل): 101, و(مجمع البحرين) ( ع/ج/ز): 3/124.

(12) شرح النهج: 18/132.

(13) ينظر: شرح النهج: 18/132.

(14) ينظر: غريب الحديث لابن قتيبة: 2/139، و(تاريخ الطبري): 3/300، و(ذيل المذيل للطبري): 120، و(تهذيب اللغة) (ع/ج/ز): 1/341، و(تنبيه الخواطر): 5، و(النهاية): 3/185، و(التذييل): 101، و(مجمع البحرين) (ع/ج/ز): 3/124.

(15) التذييل :101.

(16) المصدر نفسه.

(17) ينظر: شرح ابن عقيل: 1/291، وهذا البيت يستشهد به النحويون على زيادة (كان) بين الجار والمجرور، والحقُّ أنّ اللفظة ليست (كان)، وإنّما هي (الكاذ)، أي: مؤخرة ظهر الفرس, صحّفها النحويون في ـ رأينا ـ وقرأوها (كان)، ثم عدّوا (كان) زائدة , ولا دليل على زيادة (كان) بين الجار والمجرور في غير هذا البيت.

(18) ينظر: شرح النهج: 13/ 146/ 4, 6/ 174/ 1, 16/ 294/ 6.

(19) شرح النهج :19/108، رُويت موثقة للإمام في كتب (الغريب) وغيرها، ينظر :غريب الحديث للقاسم بن سلاّم: 3/456 ـ 458، و(تهذيب اللغة)، و(الصحاح)، و(الفائق): 3/97, و(النهاية)، و(لسان العرب)، و(مجمع البحرين) (ح/ق/ق)، و(ن/ص/ص): 4/378، 3/1058، 1/414، 14/162، 4/321.

(20) شرح النهج : 19/104.

(21) يوسف /30.

(22) ألفية ابن مالك :18، وينظر تفصيل ذلك في (شرح ابن عقيل) :1/483.

(23) ينظر: غريب الحديث: 3/456، وينظر أيضاً: (شرح النهج): 19/104.

(24) شرح النهج:19/ 108, وينظر: (الفائق): 3/97, و(النهاية): 1/414.

(25) الجمهرة: (ن/ص/ص): 1/479.

(26) شرح النهج 19/108.

(27) ينظر :شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام : 4/28.

(28) شرح النهج : 19/108.

(29) المصدر نفسه : 19/108.

(30) شرح النهج : 19/ 108.

(31) المصدر نفسه: 19/108.

(32) لمعرفة ذلك ينظر : (غريب الحديث): 3/456 ـ ـ458.

(33) شرح النهج: 19/ 108 .

(34) ينظر: اللسان : (ح/ق/ق): 3/259.

(35) الإصابة في تمييز الصحابة: 3/25.

(36) شرح النهج: 19/108، وذكر هذا المعنى أيضاً ابن الأثير في (النهاية): 5/64.

(37) ينظر: الصحاح (ح/ق/ق): 3/1058.

(38) ينظر: القاموس المحيط (ح/ق/ق): 806.

(39) شرح النهج: 19/108 ـ 109. وهذا المعنى مأخوذ من (الزمخشري) في (الفائق): 30/ 97.

(40) شرح النهج: 19/110. وينظر هذا المعنى أيضا في (النهاية): 1/ 414.

(41) ينظر: القاموس، و (مجمع البحرين) : (ح/ق/ق) :806 ـ 807، 2/548.

(42) شرح النهج : 19/110.

(43) ينظر : الصحاح (ح/ق/ق) : 3/1058 .

(44) ينظر : الجمهرة(ح/ق/ق): 1/479.

(45) ينظر : غريب الحديث :3/457.

(46) غريب الحديث : ورقة : 181، لم أجد هذا القول في (المطبوع)، فأسعفني بذلك مخطوطه. (صورة من المخطوط بحوزتي) .

(47) ينظر: تفصيل ذلك في (شرائع الإسلام): 2/ 58, و( اللمعة الدمشقية): 4/ 131.

(48) القاموس المحيط (ح/ق/ق) : 806 ـ 807 .

(49) ينظر: شرح النهج: 1/162/5 ـ 7, 6/174/3 ـ 4, 6/246, فصل من خطبة (الغراء), قد حُشد بالألفاظ الغريبة حشداً لافتاً للنظر, لايفهم إلّا بالرجوع إلى المعاجم اللغوية, وانظر أيضاً: (شرح النهج): 9/266/ 6, 10, 9/268/ 3, 4, 9/271, 2, 19/ 29/1 ... .