« الخاتمة »

لقد نجز بحمد الله أولاً وآخراً هذا البحث، بعد رحلة ماتعة، طوّفت بالباحث في رياض العربية، وقد توخى منها، إماطة اللثام عن (غريب) كتاب (نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب (ع) ليضع عصا ترحاله، فيصل بها إلى نهاية مطافه عند هذه الخاتمة، التي تحصد أهم النتائج التي توصل إليها البحث من خلال أبوابه الأربعة، وفيها ما يخصّ الغرابة في اللغة عموماً وغرابة (النهج) خصوصاً، وتوثيق النصّوص ودراسة (الغريب) المفرد، و(الغريب التركيبي)، و(الغريب النظمي)، وسياقيهما، وسأوجز نقاطاً لِما تناوله الباحث وفصّله في هذا البحث.

1 ـ الغرابة أمر نسبي، والاستعمال وحده، هو مدار الفصاحة، فلو جال الناثر أو الناظم في ساحة العربية، واستعمل ما شاء من الألفاظ، قريبة، أو بعيدة، مأنوسة، أو غريبة، سيحيي بذلك ألفاظاً، ويخرجها من بطون الأوراق إلى أسنّة الأقلام وشفاه المتحدثين، فقليل الاستعمال، ونادره في قبيلة، قد يكون كثيرهما في قبيلة أخرى، إلاّ أَنْ يبدع الناثر، أو الناظم اشتقاقاً جديداً، مبتكراً، وهذا من خصائص اللغة ومزايا لهجاتها في طرائق النطق، وكيفيّة إحكامه، وعلى هذا كان:

2 ـ الغريب محكوماً بزمن نظمه، وتأليفه، فهو غير محصور في البداوة، وغير مأخوذ عن(معجمها)، ويُحكم عليه بالغرابة، إذا خلا كلام العرب السابق عليه، والمعاصر له، منه، ومن مثيله، ويأتي من المبادرة إلى إبداع المعاني الجديدة، والتقاط الأفكار اللطيفة، وربّما يصير من أسس جمال اللغة وبلاغتها .

3 ـ يأتي غريب (المفردة) من (النادر)، و( قليل الاستعمال)، فإن خالف الفصاحة واختصّ بلهجة قوم محدودين، سُمِّي (وحشياً) أو (حوشياً)، وهو لايتعارض مع الفصاحة عموماً لأنَّه بعيد عن التقعّر، والبناء المضطرب، والمنكر، والنفور والشذوذ, وغريب (النهج) ليس من هذا وإنَّما هو؛ من الطريف الذي أضفى عليه الإمام (ع) من الرقة والشفافية ما به تتـّضح دقـّة معاني المفردات الحيدرية، فاللفظة الغريبة، هنا، هي: التي تكون حسنة مستغربة في التأويل، يتفاوت في العلم بها الناس.

4 ـ كثرة الغريب في لغة الحديث النبوي الشريف، وحديث الصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم ـ ناتجة من اختلاف الرواة لأنَّ النبي الكريم (ص) وأصحابه معلّمون، والمعلّم، والمبلّغ، ينهى عن منكر، ويأمر بمعروف، ويشرّع في حادثة، ويفتي في نازلة فهو إذن لا يغرب، بل الذي يغرب هو الراوي الذي يسوق الحديث. إمّا كما يراه، أو كما يفهمه، أو كما يتذكره يستبدل بكلمة مكان أخرى، دفعاً للإحراج.

5 ـ لا يتعمّد الإمام إدخال (الغريب) ليعجز السامعين عن فهم كلام (النهج)، وإنّما يتعمّده لإثارتهم، وشدّهم إليه من خلال إعمال فكرهم، والبحث عن دلالة (الغريب) المعنوية، ولهذا يستعمل الفصاحة العالية بنطق جميل, مؤثِّر في نبرات صوتية، تصحبها إيماءات وإشارات باليد، أو بالرأس، أو بالعين، عارفاً ـ الإمام ـ بمواضع الوضوح، والإيجاز والإطناب، ليهيّئ بهذا جواً إيقاعياً بين الخطبة وبين موضوعاتها، ليظفر بإقبال الناس، فيأمرهم وينهاهم بأوامر الله ونواهيه.

6 ـ كانت لغة (النهج) وما تزال حجة في الفصاحة، وأنموذجاً في البلاغة، أفاد منها كتب اللغة والأدب، وأهل التفسير، وعلماء العربية، وأوّل تأثير لـ(النهج) كان في كتب (الغريب). فالغرابة هنا وجه من وجوه الإعجاز في الفصاحة والبلاغة، أي: وجهٌ من وجوه الإعجاز البياني.

7 ـ تعدّد أنواع الغرابة؛ بتقدّم الزمن، قد فسّر الدرس اللغوي الحديث بعضه ووضع له قواعد دلالاته، ووجوه تصرّفها، وكلـّما جدّ شيء في الدرس الدلالي الحديث أعاننا على فهم أكثر لغرائب (نهج البلاغة).

8 ـ الغريب في (النهج) على ثلاثة أقسام، القسم الأول منها ؛ غريب اللفظ المفرد، وقد وجدتُه على ثلاثة أنواع، لم يسبق الإمامَ فيها أحدٌ، وكان النوع الأول منها : (غريب اللفظ)، يتوزع إلى غريب (نادر)، و(شارد)، و(وحشي)، و(قليل)، وغريب بسبب (ضيق المجال الدلالي).

وكان النوع الثاني من القسم الأول : الغريب في المعنى، وقد وجدتُه يتوزع إلى غريب بسبب (اختلاف البيئة والأسلوب الحضاري)، و( التناظر والتشابه في الأصوات)، و( تداول اللفظة في أكثر من مجال)، و( استعمال اللفظة بين الحقيقة والمجاز)، و( اتساع دلالة اللفظة ).

وكان النوع الثالث من القسم الأول الغريب في (الاشتقاق)، الذي جاءت غرابته من جدّة الاشتقاق بين اللفظ والتركيب، وقد توزّع إلى غريب (الفعل وتصريفاته في النهج), وإلى (المصدر وصيغه)، وإلى(الصفات الجارية مجرى الفعل وصيغها في النهج)، وإلى (أفعل التفضيل)، وأخيراً إلى غريب (الجموع وأبنيتها في النهج).

وأمّا القسم الثاني في غريب (النهج)، فكان (الغريب التركيبي)، وقد وجدتُه يتوزع إلى (سياق التركيب الواضح الألفاظ، بيّنها) فالغرابة جاءت في السياق مِن رصّ الألفاظ البيِّنة الواضحة، وإلى (سياق التركيب صعب الألفاظ، معقدها)، وكان سبب غرابة هذا النوع، احتواء التركيب على مفردة غريبة، أو أكثر، وبخاصة إذا تعددت معانيها. وإلى (سياق التركيب العالي الفصاحة)، لا يميّزه إلاّ من له مِران، وذوق في العربية، فعدم إلفة هذا النوع من الفصاحة، هو المسبب الوحيد لغرابة السياق في هذا التركيب.

والقسم الثالث في غريب (النهج)، كان (الغريب النظمي)، وقد وجدتُه يتوزّع إلى غريب (سياق نظم علم البديع، ونظم علم المعاني)، إذ خرجت بعض فروعهما إلى غرض مجازي، وإلى غريب (سياق التشبيه، والاستعارة)، وإلى غريب (سياق الكناية)، وإلى غريب سياق النصّ المتضمن كل الغرائب المدروسة في هذا البحث.

غير أنَّ غرابة سياق (التشبيه), جاءت من التشبيه الغريب الذي منشؤه تشبيه (ما لم تجرِ به العادة) فيه, ولذلك كثرت إحتمالات المعاني فيه، وغرابة سياق (الاستعارة)، جاءت من خفاء الوجه الاستعاري، أو بُعْده فيه، وغرابة سياق (الكناية)، جاءت من بُعدها عن الأصل الذي وُضعت له، وغرابة سياق (النصّ كاملاً)، جاءت من تعدّد الأغراض فيه، وأنَّ المجاز مهيمن بغرابته على غرابة باقي علوم البلاغة؛ لأنَّها, كلّها تدور حول محوره، ولهذا كانت غرابة (البديع)، و( المعاني) أقلّ بكثير من غرابة فروع (البيان).

9 ـ يحتوي أغلب نصوص (النهج)، إنْ لم تكن كلّها على كلّ أنواع الغرابة التي درستُها في هذا البحث، وفي كلّ نصّ تتعدّد احتمالات المعنى للنوع الواحد، سواءاً أكان هذا المعنى حقيقياً أم مجازياً فمن كثرتها تنتج الغرابة.

أما بشأن نتائج توثيق النصّ ، فسأوجزهــا مكمّلـة لنتائـج البحث ؛ وهي الآتي:

10 ـ لم يجرؤ أحد ممّن ترجم للرضي ; على أن يقدح في سيرته، وأخلاقه، ووثاقته، ودينه، ولا مجال في أن يُتهم في وضع (النهج)، ولِمَ لَمْ ينسبه إلى نفسه ؟ ويعلو به على أقرانه!، ولِمَ لَمْ ينسبه إلى النبي (ص) ؟ فحديثه أبلغ وأفصح وهو معلـِّم الإمام ومربيه !! .

11 ـ العثور على المظان والأصول كلّها, التي اعتمدها (الرضي) في جَمْع (النهج)، في عصرنا الحالي، أمر مستحيل، لِما مرّت به المكتبات الاسلامية والعربية، من حرق وتلف.

12 ـ صرّح (الرضي) بثمانية عشر مصدراً، لعدم اشتهارها، ولم يصرّح بالمظان والأصول الأُخر، لاشتهارها بين الناس آنذاك، ولا سيما وهو من أهل (العصر الذهبي) .

13 ـ وجدتُ مظان وأصولاً روت كلام الإمام في (النهج)، وغير (النهج) واقتصرتُ على مَن روى كلامه (ع) في (النهج) في موضوع دراستي هذه، فكانت مظان روت خطبه, ساعة إلقائها، وعلى هذا لم يكن الرضي هو السابق إلى جَمْع كلام الإمام, ولا الأوّل في تدوينه.

وأخرى سبقت عصر (الرضي) بعدّة قرون، روت كلام الإمام بإسناد متّصل به نفسه، ولم تمر في طريقها على (الرضي)، ولا على كتاب (النهج) الذي جَمَعَه. وكانت مظان وأصول ثالثة، عاصر مؤلفوها (الرضي) نقلت كلام الإمام بصورة تتفاوت عمّا في (النهج) بزيادة كلمة، أو نقصانها، أو استبدال أخرى بها، ولم تـُشِر إليه من قريب أو بعيد، مّما نعتقد معه أنَّ مصدرها في النقل غير (النهج)، وهذا التفاوت وجدتُه في (الرسائل) أقلّ منه في (الخطب والحكم)؛ لأنّ الرسائل والمكاتبات تدوّن، والتدوين يحفظ النصّوص من الضياع .

14 ـ إنَّ أكثر الرواة ينقلون (بالمعنى) من دون (اللفظ)، فقد يبدلون الكلمة بما يرادفها، ويروون العبارة بما يضارعها، تارةً لعدم وضوحها في (المخطوط)، وتارةً أخرى، لوَهْم من الناسخ، ولهذا جاءت روايات (النهج) تنقص وتزيد قليلاً عمّا جمعه (الرضي) في (النهج), وليس هذا في المأثور عن أمير المؤمنين، فحسب، بل في كلّ المأثورات بما فيها الأحاديث النبوية الشريفة .

15 ـ إنَّ كثيراً من المؤلفين ينقلون من (النهج) ما يتفق ومذهبهم، وما لايخالف معتقدهم، لذلك رأيتُ فقرات من الخطبة الواحدة موزَّعة على مجموعة مصنفات، كلّ حسب غرضه، وقلّما يورد المؤلف الخطبة كاملة، لذلك :

16 ـ كان جلّ قصد (الرضي) في جَمْعه (للنهج) أن يخرج جانباً من كلام الإمام الذي تضمّن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة و... ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، لذا نراه لم يعتنِ بالتناسق والتتالي، بل ربّما يختار من الخطبة الطويلة، ذات الغايات الكثيرة والمرامي البعيدة، بـِضع كلمات هي أقلّ بكثير مّما ترك؛ لأنّه يأخذ من الكلام ما يدخل تحت غرضه، ويندرج في قصده من أبواب الكتاب .

17 ـ كتاب (النهج) يزيل الشك والإرتياب عنه؛ لأنَّ الناقد الخريت لنصوصه، يرى أنَّه لا تتفاوت أبعاضه في جزالة الألفاظ، وجلالة المعاني، وحسن السبك والانسجام فهو؛ كسبيكة لجين أفرغها صائغها الحاذق في قالب واحد، قد استوت خوافيه وقوادمه وأوائله وأواخره، وقد شهد بذلك أهل الذوق والصناعة، وأئمة الفن وأدباء عصور الدهر كلّهم .

18 ـ من الحرص على التراث، ومن الصيانة للموروث العربي، ألاّ نسمح لأنفسنا، ونسلِّط الشكوك عليه، لأنّا متى فتحنا هذا الباب في هذا النحو، لم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله (ص) وساغ لطاعن أن يطعن، ويقول : هذا خبر منحول، وهذا كلام مصنوع، وكذلك ما نقل عن الخلافة الراشدة والصحابة والتابعين ـ رضي الله عنهم ـ من الكلام والخِطب والأدب، وغير ذلك في ما يُروى عن الشعراء، والمترسلين، والخطباء...

19 ـ وأخيراً شهود كل قضية اثنان، وشهود (النهج) مئات من المظان والأصول. فما جُمِع بين دفتي كتاب (نهج البلاغة) للإمام علي بن أبي طالب (ع) لا لغيره, فهو غيض من فيض عبق كلامه الذي لم يدوّن في (النهج), وجامعه الرضي لا المرتضى.

ولو أنعم المرتاب النظر؛لعرف أنَّ لكلِّ من كلام الإمام, وكلام الرضي طابعه الخاص , وكيف يجوز أن يشتبه هذا بذاك, وهل اشتبه التـّبرُ يوماً باللجين؟!

وإنَّ من تكلـَّف الاستدلال على أنَّ الشمس مضيئة في وضح نهار تموز (العراق) يتعب, ويُنسب إلى السفه، وجاحد الأمور المعلومة علماً ضرورياً, أشدّ سفهاً ممّن رام الإستدلال بالأدلة النظرية عليها .

هذه أظهر النتائج التي توصّل إليها البحث، ولعلّها أوضحت شيئاً جديداً، يُنتفع منه في دراسات لاحقة لهذا الكتاب الخالد، لكونها مفاتيح لموضوعات أُخر، وعلى نحوٍ تفصيلي؛ لأنّ كلَّ موضوع درسته في (النهج)، يُستحق أن يُدرس ببحثٍ مستقلٍّ، وما على الناكر، إلاّ أن يُجرّب ما أدَّعيه؛ لأنّ (النهج), كان وما يزال بكراً.

وأسأل الباحثَ الكريمَ؛ الدعاء، إذا لمِع بين عينيه بريق (النهج) وتقلـّبت يداه على يواقيته ولآليه..

ولله الحمدُ، حمداً لا ينتهي، إلاّ برضاه عزّ وجلّ ...

 

***