■ المبحث الخامس؛ غريب الجموع وأبنيتها
(1):أحصى الصرفيون سبعة وعشرين جمْعاً، كان منها أربعة للقلّة، وثلاثة و عشرون للكثرة، وحاولوا أن يستقروا قواعد أكثرية، كأن يروا الغالب من مفردات الألفاظ على جمع من الجموع، ليقولوا: أنّه القياس، وما خالفه فهو الشاذّ، وقد ذكروا شواذّ كلّ جمع(2)، مما هو معروف من الألفاظ، فالشاذ هنا ليس بغريب ؛ لأنَّه شائع الإستعمال، كثير على الألسنة بنفسه, لكنّه ليس في ضمن القاعدة، من نحو (كفٍّ وأَكُفٍّ) في شذوذ من قياس (اَفْعُل) جمع (فَعْل)(3).
ولمَّا كانت هذه القواعد أكثرية، فقد كثر شواذّها حتى لم تخلُ قاعدة فيها من شواذّ تتجاوز عدد الأصابع، فإنّ مجال الغريب ينحصر في ما ندر من الأبنية، أو ربّما لم يُسمع بمثله، وهو الأغلب الأعمّ في غريب (الجموع) عند الإمام في (كتاب النهج)، وما أمكن لنا أن نعدَّه غريباً في هذا المجال أيضاً، وهو ما جاز له أن يكون على صياغة مطّردة فيه، تركها الإمام وذهب إلى غيرها ممّا لم يُسمع بهذا المفرد .
وهكذا يكون لنا نوعان من الغريب والأول، أوْلى وأكثر، وقد نبَّهنا ابن خالويه على بناء باب في كتابه (ليس في كلام العرب) عن غريب الجموع إلى عدّة نكات، انتقيناها من عدد من النصوص الخاصة في (النهج) للمقارنة، وزيادة الفائدة، ونحن نسرد هذه المسائل مسعفينها بما تزودنا به كتب المعاجم، وعلى هذا النحو:
ذكر؛ ابن خالويه أنّه, ليس لجمع (فاعل على أفاعل وأفاعيل) إلّا (باطل وأباطِل وأباطيل) ثم قال: «وتكون باطل جَمْع أبطولة»(4). وقد وردت (أباطيل) عند الإمام في أثناء كلامه عن النبي (ص) بقوله: «والدّافِعِ جَيْشَاتِ الأباطِيل، والدّامغ صَوْلاتِ الأضَالِيْلِ»(5).
وهذا يعني أَنَّ (أباطيل) و(أضاليل) جمع لـ(أبطولة) و(أضلولة) ولعلّ هذا أقرب من جمعها لـ(باطل) و(ضال)، ذلك أنّ (الباطل) بمعنى المصدر «ضدّ الحقّ»(6). قال تعالى : (( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ))(7)، ومثله أحابيل، جمْع (أحبولة)(8)، وقد ذكر صاحب القاموس : (إبطولة وإبطالة)، من دون أن يذكر جَمْعَهما(9)، وذكر (أضلولة) ولم يجمعها(10). ولم يذكر صاحب (العين) هذه التصاريف جميعاً. ومثلها (أعلولة)، و(أعاليل), قال الإمام علي (ع): «ما عَزَّتْ دَعْوةُ مَنْ دَعاكُمْ، ولا اسْتَرَاحَ قَلْبُ مَنْ قاسَاكُمْ، أعالِيلٌ بأضَالِيلَ ؛ دِفاعُ ذِي الدِّيْن المَطُولِ»(11).
أي عِلَل وضلالات، وهذه كلّها مصادر مجموعة، وقد منع الصرفيون جمْع المصدر ما لم تتعدّد أنواعه(12)، والظاهر أنّ كلاً من (أبطولة، و أضلولة، وأعلولة) هي: مصادر للدلالة على أنواع مفردة من (الباطل) و(الضلال)، و(العلل)، ومن هنا تنتفي صحّة ادعاء ابن خالويه من أنّ (أباطيل) جَمْعٌ لـ(باطل)، ذلك أنّ (الباطل) يدلّ على عموم جنس (البطلان )؛ لأنَّه ضدُّ الحقِّ، ويَصِحُّ قوله الآخر في كونها جَمْعا لـ(إبطولة)، وقبل أن نغادر هذه المسالة، نلفتُ الانتباه إلى أنّ الإمام كثيراً ما صاغ مصدر المرّة، وجمَعَه جَمْعاً مؤنثاً سالماً على نحو (جيشات) في النصّ الأوّل الآنف ذكره، وهذا واضح في النصوص الباقية في (النهج).
وقد ذكر ابن خالويه أنّه ليس في كلام العرب إلّا «سُلْقان جمع سَلْق، وهي الصحراء»(13)، وهذا حصر مبالَغ فيه، إذ ورد في كلام الإمام لفظان على هذه الزنة غير ما ذكر ابن خالويه.
أمّا الأُولى: ففي قوله: «الّلهُمَّ انْشُرْ عَلَيْنا غَيْثَكَ وبَرَكَتَكَ، وَرِزْقَكَ وَرَحْمَتَكَ، وَاسْقِنا سُقْياً ناقِعَةً مُرْوِيَةً، مُعْشِبَةً، تُنْبِتُ بها ما قَدْ فَاتَ، وتُحْيِي بها مَا قَدْ مَاتَ، نافِعَةَ الحَيَا، كَثيرَةَ المُجْتَنَى، تُرْوِي بِها القِيعَانَ، وَتَسِيلُ البُطْنانِ، وَتَسْتَوْرِقُ الأَشْجَارَ، وَتُرْخِصُ الأسْعَارَ ؛ إنَّكَ على مَا تَشَاءُ قَدِيرٌ»(14)، قال ابن أبي الحديد : «والبطنَان جَمْعُ بطن، وهو الغامض من الأرض، مثل ظَهْر وظهران، وعَبْد وعبدان»(15)، وقال الزمخشري : «ومن المجاز رِشْ سَهْمَكَ بظُهْران ولاترشه ببُطنان، وهو في بطنان الشباب، أي وسطه، والبحبوحة؛ بطنان الجَنّة، قال الراعي:
فإن يُودِ رِبعيُّ الشبابِ فقد أُرى بِبُطنانِـهِ قُــدّام سِـرْبٍ أو ابْقُهْ»(16)
ولو قال : في أواسط الشباب لفهم أنّ (بطنان)جمعٌ، ولكنّه قال : (في وسطه) فأشكل، وذكر صاحب القاموس هذا الجمْع(17)، فاجتمعت لدينا حتى الآن ثلاثة ألفاظ هي (بُطنان، وظُهران، وعُبدان). أمّا اللفظة الثانية على هذا الجمع من ألفاظ الإمام فهي لفظة (سُهمان) في قوله : «إنَّه لَيْس على الإمام إلّا مَا حُمِّل من أَمْر رَبِّهِ : الإبلاغُ في المَوْعِظِةِ، والاجْتهادُ في النَّصِيحةِ، والإحْياءُ للسُّنَّةِ، وإقامَةُ الحُدودِ على مُسْتَحِقِّيها، وَإِصْدَارُ السُّهمانِ عَلى أهْلِهَا»(18) ولم يذكرها الخليل في (العين) وكذلك لم أجدها في (اللسان، ولا في (التاج)...
وقال الزمخشري: «ومن المجاز أصابَه في القسمة كذا سهماً وله سُهمان من المغنم.. »(19) وذكره صاحب (القاموس)(20) مشيراً إلى أنّه, بمعنى القسمة والنصيب، فسهم ؛ بمعنى : الحظّ، جمعه (سُهمان وسُهمة). أمّا القِدْح والنبل، فجمعه (سِهام).
وإلى هذا بلغت ألفاظ هذه الزنة من الجمع خمساً. وذكر ابن خالويه؛ أنّه ليس في كلام العرب جمْع من فاعل على (فعلى) إلّا (هالك وهلكى)(21).
قال الإمام بعد تلاوة سورة التكاثر : «... أفَبِمَصارِعِ آبائِهِمْ يَفْخَرون ! أَمْ بِعَدِيدِ الهَلْكى يَتَكاثَرُون...»!(22).
قال الخليل: «وقوم هلكى وهالكون. والهلاّك الصعاليك الذين ينتابون الناس طلباً لمعروفهم من سوء الحال، قال جميل:
أبيتُ مَــعَ الهُلاَّك ضَيـفَاً لأهـلهــا وأَهلِي قَريبٌ موسِعون ذوو فَضلِ»(23)
ولم يذكر الزمخشري هذه الزنة, إلّا أنّ الفيروز آبادي قال : « ورجل هالك من هلْكى وهُلَّك وهلاَّك، وهوالك، شاذّ»(24).
ويبدو أنَّ هذه الزنة هي الأشيع في مادّة (هلك) , إلّا أنَّ ندرتها في جمع (فاعل)، وشيوعها في جمع (فعيل) هي التي حدتنا لاختيارها بين (الغريب)، وإذا صحَّ ما ذهب إليه ابن خالويه، فهي: فريدة في هذا الباب، وشاذّة، ولعلّ ما سوّغ جمع (هالك) على (هلْكى) هو حمله على معنى (قتيل) .
ومن مثل جمْع (أعاليل، وأباطيل، وأضاليل) جمع «أَفاعِيل»(25) ومن مثل جمع (جيشات) جمع «مَوْتَات»(26)، ومن مثل جمع (بطنان)، جمع «أجْنَان»(27)، ومن مثل جمع (هَلْكى) جمع ؛ «الزَّمْنَى»(28) .
بقي أنَّ استعمال هذه الأوزان عند الإمام، قد شدّ من أزر بلاغة هذه النصوص، ولو اختار ما هو شائع، لَمَا بلغت هذه النصوص مبلغها من وقعها في النفوس، فكانت تقع في مجال النظم موقع الواسطة من العقد. وإجمالاً، فإنَّ القاريء لو عاد إلى ما عرضنا له، من بعض تغريبات الإمام (ع) في مجال التصاريف، لوجد أنَّها كانت بدعوى الدّقة في تصوير المعاني، كانت لضبط إيقاع النصّ، كما يقول أصحاب (الأسلوبيات)، وأنَّ هذه التغريبات، كانت نمطاً من أنماط (الإنزياح) الجمالي، الذي جاء بوصفه حاجة اقتضتها الضرورة البنائية للنصِّ، ليظهر بصورة متكاملةً، لغةً، ووقعاً، وبلاغةً، ومعنىً، ودقّةَ تصويرٍ, وعمْقَ تغويرٍ.
فهل لحظنا كيف أثّرت هذه الألفاظ ـ الغريبة ـ في نصِّ (النهج) ؟!
وبهذا الفصل تنتهي غرابة ألفاظ (نهج البلاغة) المفردة، التي كان سبب غرابتها من ندرة الاستعمال، ومن المعنى المتأتي من اللفظة المفردة، ومن الإشتقاق الجديد في أقوال الإمام (ع) في (النهج).
ولكن ثمّة غرابة أخرى وجدتُها حينما استقريتُ (النهج) ليست في اللفظ المفرد، وإنَّما : في (التركيب)، وفي (النظم), مّما جعلتْ سياقي (التركيب، أو النظم) غريبين، وهذا ما نسميه بـ(غرابة التركيب)، و(غرابة النظم) وهو ما
سيعقده البابان ؛ الثالث، والرابع إن شاء الله.***
الهوامش
(1) وضع ابن خالويه في كتابه(ليس في كلام العرب) باباً سماه (مستقصى من غرائب الجمع):329.
(2) ينظر: الكتاب: 2/199، و(المخصص): 14/115 ـ 117 و(شرح المفصل): 5/9 ـ 10، 72، 73، و(شرح الشافية للرضي): 2/205، و(الكافية): 91، و(شرح الأشموني): 4/88، و(التسهيل): 186، و(شذا العرف): 98 ـ 112.
(3) ينظر : الكتاب : 2/199.
(4) ليس في كلام العرب : 232، و ينظر جمعه في : (شرح الشافية للرضي) : 2/205، و (شرح المفصل) : 5/73.
(5) شرح النهج: 6/138، رويت موثقة النسبة في(تذكرة الخواص): 136، و(الصحيفة العلوية) : 3، و...
(6) القاموس المحيط (ب/ط/ل) : 890.
(7) الأنبياء /18.
(8) ينظر: (القاموس المحيط): (ح/ب/ل): 903 وذكر (الأحبولة والأحبول) ولم يذكر لهما جمعاً .
(9) ينظر : القاموس المحيط : (ب/ط/ل) : 890.
(10) ينظر : المصدر نفسه (ض/ل/ل) : 942 ـ 943.
(11) شرح النهج: 2/111، قُيِّدت وضُبِطت للإمام في (البيان والتبيين): 1/170، و 2/66، (تحقيق:عبدالسلام محمد هارون) و(عيون الأخبار):2/236و(الأخبار الطوال):211 و
... .(12) ينظر : شرح المفصل : 5/66.
(13) ليس في كلام العرب : 329 ـ 330 .
(14) شرح النهج : 9/77، رُويت بالسند المعنعن المتصل بالإمام, في: (أعلام النبوة) : 167، وفقرات منها في (النهاية) : 1/439، و كلّها في: (مستدرك الوسائل) : 1/439، ... .
(15) شرح النهج : 9/83.
(16) أساس البلاغة : (ب/ط/ن) : 25.
(17) ينظر : القاموس المحيط، (ب/ط/ن) : 1087.
(18) شرح النهج : 7/167، رويت موثقة النسبة للإمام في (الإرشاد) : 160، و (البحار) : 8/665 ... .
(19) أساس البلاغة : (س/هـ/م) : 223.
(20) ينظر : القاموس المحيط، (س/هـ/م) : 1037.
(21) ليس في كلام العرب : 332.
(22) شرح النهج:11/145،ضبطها وقيّد نسبتها للإمام؛ أبونعيم في (حلية الأولياء):2/132
... .(23) العين (هـ/ل/ك) : 3/377، والبيت في (ديوانه) : 178.
(24) القاموس المحيط : (هـ/ل/ك) : 882.
(25) شرح النهج: 14/47/4.
(26) المصدر نفسه: 4/6/7. و (6/270/9) .
(27) م. ن: 7/228/1.
(28) م. ن: 17/ 85/ 3.