الفهرس

   

الصفحة الرئيسية

 

 

 

مشكلة الفقر والغنى
في نـــهــج الـبـلاغــة

 

 

 

 

 

 


مشكلة الفقر والغنى في نظر الإمام علي (عليه السلام)

إن الفقر الذي هو عجز إنسان أو جماعة من الناس في المجتمع عن وجدان ما يوفر مستوى الكفاية في العيش - إن الفقر بهذا المعنى ظاهرة حار بها الإسلام في تشريعه ووصاياه كما سنرى ذلك فيما يأتي من أبحاث - واعتبرها شراً إنسانياً باعتباره يسبب حرمان الإنسان من أحد حقوقه الذي هو الكفاية في العيش، وشراً اجتماعياً باعتباره يعوق المجتمع عن التقدم المادي والمعنوي، واعتبر الإسلام أن المجتمع الأمثل الذي يسعى إلى تكوينه هو المجتمع الذي لا فقر فيه ولا فقراء.

ومن هنا فإننا حين نستعمل كلمة (طبقات) في سياق الحديث عن الإسلام فإنما نقصد بذلك الفئات الاجتماعية، وليس الطبقات بالمعنى الذي شاع استعماله في الأدب السياسي في العصر الحاضر، وإنما حرصنا على استعمال كلمة طبقات لأنها وردت في كلام الإمام علي بمعنى فئات اجتماعية، ولم تكن في ذلك الحين قد تضمنت معناها الذي تعنيه الآن.

***

لقد اعترف الإسلام كما اعترف الإمام بالطبقات الاجتماعية (الفئات) القائمة على أساس اقتصادي أو مهني أو عليهما معاً، وذلك لأن وجود هذه الطبقات (الفئات) ضرورة لا غنى عنها ولا مفر منها في المجتمع، فلابد أن يوجد تصنيف مهني يقوم بسدّ حاجات المجتمع المتجددة، ولابد أن يوجد أناس لديهم مال كثير وآخرون لا يملكون من المال إلاّ قليلاً لأن التحكم التام في توزيع الثروات على نحو متساوٍ أمر مستحيل إطلاقاً. وإذا اختلفت المهن وتفاوتت الثروات فلابد أن يختلف مستوى المعيشة ويتفاوت طراز الحياة المادي والنفسي وحينئذ توجد الطبقات.

وقد رأينا أن التفاوت الطبقي يصير منبعاً للصراع الطبقي إذا جعل الاقتصاد مثلاً أعلى للحياة. وإذن، فالتفاوت الطبقي الناشئ عن التفاوت الاقتصادي خطر بقدر ما هو ضروري، وإذا لم يوضع للمجتمع نظام يذهب بالخطر من هذا التفاوت ويستبقي جانب الخير فيه فإنه خليق بأن يسبب للمجتمع بلبلة تقوده إلى الدمار.

وهنا تتجلى عبقرية الإسلام وعبقرية الإمام.

فقد تدارك الإسلام هذه الثغرة فسدها بنظام من القوانين عظيم، وجاء الإمام فوضع قيوداً أخرى تحول بين التفاوت في مستوى الدخل وبين أن يخلّف في المجتمع عقابيله الضارة، وآثاره الوبيلة.

وعند الحديث عن التدابير الحكيمة التي وضعها الإسلام لوقاية المجتمع من شرور التفاوت في المستوى الاقتصادي يجيء الحديث عن المثل الأعلى للحياة في للإمام قبل كل حديث.

وحديثنا عن المثل الأعلى للحياة في الإسلام يسوقنا إلى الحديث عن المثل الأعلى للحياة عند الإمام. وما نهج البلاغة إلا انعكاس الإسلام في نفس الإمام. ومن هنا كان الحديث عن أحدهما يلزمه الحديث عن الآخر كما تستهدى العين بخيوط الشعاع على مركز الإشراق.

***

إن المثل الأعلى للحياة في الإسلام وعند الإمام هو التقوى. فقلّ أن ترد سورة في القرآن لم يرد فيها الأمر بالتقوى، تقوى الله. وقل أن ترد خطبة أو كلام في نهج البلاغة لم يرد فيه الأمر بالتقوى، تقوى الله. فالقرآن أمر بالتقوى، وفصلها، ومدح المتقين، والإمام أمر بالتقوى، ووصفها، ومدح المتقين.

قال (عليه السلام):

(أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإنها حق الله عليكم، والموجبة على الله حقكم، وأن تستعينوا عليها بالله، وتستعينوا بها على الله، فإن التقوى في اليوم الحرز والجُّنَّة (1) وفي غد الطريق إلى الجنة. مسلكها واضح، وسالكها رابح، ومستودعها حافظ، لم تبرح عارضة نفسها على الأمم الماضين والغابرين، لحاجتهم إليها غداً.. فاهطعوا بأسماعكم إليها، وكظوا بجدكم عليها، واعتاضوها من كل سلف خلفاً) (2).

وقال (عليه السلام):

(أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله.. فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم، وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم، وجلاء عشا أبصاركم، وأمن فزع جأشكم، وضياء سواء ظلمتكم.. فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعدد، نوها، واحلوّت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وسهلت له الصعاب بعد إنصابها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدّبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه الكرامة بعد إرذاذها) (3).

وقال (عليه السلام):

(.. فإن تقوى الله مفتاح سداد، وذخيرة معاد، وعتق من كل ملكة، ونجاة من كل هلكة، بها ينجح الطالب، وينجو الهارب، وتنال الرغائب) (4).

ولكن ما هي التقوى؟

إن الإمام (عليه السلام) يتعرض لوصف التقوى من داخل إذا صح التعبير. انه اكتفى - على كثرة ما قاله فيها - بوصفها من خارج : ميزاتها، وفضلها، وثمرتها، وأصحابها، أما هي بذاتها: مقوماتها، طبيعتها، فأمر لم يتعرض له الإمام (عليه السلام) وإنما تعرض له القرآن.

ولعل الإمام ترك الكلام في هذه الجهة اعتماداً على ما جاء في القرآن، واعتماداً على أن المسلمين إذ ذاك كانوا ولا شك يعون ما هي التقوى، فاكتفى بتشويقهم إلى الأخذ بها والاعتصام بحبلها. أو أن الإمام قد تكلم في هذا الموضوع وأعطاه حقه من البيان ولكن الشريف (رحمه الله) لم يقع على شيء منه، أو وقع عليه ولم يكن بين ما اختاره. وعلى أي حال ففيما قدمه لنا القرآن غنى وكفاية.

قال الله تعالى:

(..ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (5).

وقال تعالى:

(لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (6).

وقال تعالى:

(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَماوَات وَالأرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (7).

وقال الله تعالى:

(وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (8).

وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: جماع التقوى في قوله تعالى:

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) (9).

من هذه النصوص الإلهية، وغيرها أكثر منها، نعرف طبيعة التقوى: إنها الفضيلة في أرفع معانيها وأجلّ صورها.

إنها الإيمان بالله في أطهر حالاته وأسمى معانيه.

وبذل المال لمن أعوزه المال... ولكن كيف..؟ إنها بذل المال على حبه.. حب الله تعالى، فلا امتنان على المعطى ولا إفضال، ومتى؟ إنها بذله في السراء والضراء.

وهي الصبر في جميع المواطن وفي جميع الأحوال. وهي كظم الغيظ، وهي العفو عن الناس، وهي العدل فيهم والإحسان إليهم إلى غير ذلك من حميد الأخلاق وجميل الخصال.

هذه هي التقوى. فإذا حققت التقوى في نفسك: وعيت وجود الله وأمره ونهيه في كل ما تلمُّ به من فعل أو قول، وتحريت الفضيلة أنى كانت فأخذت بها وأخضعت نفسك لها، وجعلت من نفسك وجميع إمكاناتك خلية إنسانية حية، تعمل بحرارة وإخلاص على رفع مستوى الكيان الاجتماعي الذي تضطرب فيه، وصدرت في ذلك كله عن إرادة الله المتجلية فيما شرع من أحكام، تكون قد حققت في نفسك المثل الأعلى الذي نصبه الإسلام.

فالمال لا يكسب قيمة إلاّ إذا بذل حيث أجاز الله أن يبذل، وإلا إذا اتخذ وسيلة إلى رضوان الله. أما أولئك الذين لا يبذلون أموالهم فلا جدوى منهم للجماعة، ولذلك فلا مزية لهم على غيرهم من الناس الذين لا مال لهم.

والسلالة لا قيمة لها حين لا يكون صاحبها متقياً لله.

والقوة لا قيمة لها حين لا يستخدمها صاحبها في مرضاة الله.

والسلطان لا يكسب صاحبة قيمة إلا إذا كان ذا تقوى.

هناك أغنياء وفقراء، وحاكمون ومحكومون، وأقوياء وضعفاء، وأناس تحدروا من سلالات لها ماض عريق وآخرون ليس لهم ماض مذكور، ولكن كل هذا لا يرفع من صاحبه ولا يضع إلا إذا اقترن بالتقوى أو عري عنها. وتعاليم الإسلام صريحة في ذلك لا لبس فيها ولا غموض، فهي تنص على أن القطب الذي يدور عليه التفاضل ليس شيئاً غير التقوى.

قال الله تعالى:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) (10).

وقال النبي (صلى الله عليه وآله): (لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى).

وقال الإمام (عليه السلام): (لا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا) (11).

وإذن، فالقيم الاجتماعية تتفرع عن هذا الأصل، وتنبثق من هذا الينبوع.

وهكذا تكون الرغبة في الخير، ورضوان الله، ومساعدة الضعفاء، وتكريس المواهب في سبيل الجماعة تقرباً إلى الله، هي رائد كل إنسان وعى مبادئ الإسلام. وهكذا يكون المجتمع متحاباً متراحماً متآزراً متعاوناً على البر والتقوى، بدل أن يكون في صراع يؤدي به إلى التفسخ والانحلال.

هذا هو المثل الأعلى للحياة في الإسلام وعند الإمام.

***

ولكن الإسلام حين جعل الفضيلة مصدر القيمة الاجتماعية، وأراد أتباعه أن يحملوا أنفسهم على هذا المركب، صوناً للمجتمع من أخطار التفاوت الطبقي لم يغفل أمر الواقع النفسي والشعوري للإنسان.

فإن القوي الغني يتغنى بالفضيلة في كل آن، ولكنه عندما تستيقظ فيه نوازع العدوان يمضي في سبيل الشر دون أن يصغي إلى نداء فضيلة أو تقريع ضمير. وعندئذٍ تغدو الفضيلة ضلالاً أثر له في صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي.

لذلك لم يكل أمر تحقيق القيمة العليا إلى الإنسان وحده، وإنما جعل لها سنداً من القانون، ليكون لها من القوة ما يجعل الأغنياء الأقوياء، وغير الأغنياء على التمسك بها. وكان من ذلك أن ساوى بين جميع الطبقات في الحقوق والواجبات، فالجميع سواء أمام الله، والجميع سواء أمام القانون، وجريمة الغني هي جريمة الفقير، وجريمة الرفيع هي جريمة الصعلوك، لا يمتهن هؤلاء لضعفهم ولا يحابى أولئك لشرفهم.

وبهذا حال بين الطبقات العليا وبين أن تطغى وتعتز، لأنه أثبت لها أن الغنى والسلالة والماضي العريق لن تجدي شيئاً أمام القانون. وحال بين الطبقات السفلى وبين أن تشعر بالحيف والضعة والاستغلال، لأنه أثبت لها أن عدم الغنى وأن ضعة النسب لا تجعل من القانون لها عدواً، وإنما هي أدعى لأن تجعله أرفق بها، وأحنى عليها، وأرعى لشؤونها في السراء والضراء.

***

وحين تحتد الفروق الاقتصادية، فتتسع وتعمق، تغيض منابع الفضيلة من المجتمع وتسوده نوازع الحيوان.

فأنت لا تستطيع أن تطلب من جائع لا يجد القوت أن يصير فاضلاً، لأن الحرمان لا يدفع إلى الفضيلة وإنما يخلق تصورات الحرمان التي تدفع إلى التمرد والإجرام حين لا يجد المحروم اليد البارّة الوصول.

إن الجائع الذي لا يجد ما يسد جوعته وإن خشن وهان، والعاري الذي يجد للريح مثل لسع السياط، وللشمس مثل مس الحميم، والمريض الذي لا يجد ثمن الدواء ولا الخلاص من اللأواء - هؤلاء لا يستطيعون أن يتغنوا بالفضيلة حين يرون الغني الكاسي الصحيح الذي لا يعرف معنى للجوع، فالفضيلة ليست طعاماً ولا كساء ولا دواء، إن هؤلاء ينقلبون إلى قتلة ومجرمين ولصوص حين لا يجدون ما يسدون به حاجاتهم الأولية من طريق مشروع.

وهكذا يظهر إلى العيان الصراع الطبقي بالرغم من أن المثل الأعلى هو الفضيلة ومكارم الأخلاق.

وعى الإسلام هذا الواقع فلم يكل أمر صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي إلى المثل الأعلى وحده، وإنما أولى الاقتصاد ما له من الأهمية في أمر الصيانة والعلاج.

فشرع الله تعالى أحكاماً تحول دون تكوُّن الثروات بطريق غير عادل وغير مشروع وتحول بين أصحاب الثروات بعد أن تتكون لديهم الثروة بطريق مشروع وبين أن يستخدموها في استغلال الآخرين.

وشرع نظاماً للضرائب (الزكاة، الخمس) والمواريث يفتت هذه الثروات تدريجياً، ويحول بينها وبين التراكم والتعاظم، وأعطى للحاكم حق وضع اليد على ما تقضي به المصلحة العامة من أموال الأغنياء إذا قضت بذلك حاجة طارئة تعجز عن الوفاء بها المصادر التقليدية لتمويل النفقات العامة.

وشرع نظاماً للأموال العامة يغذّى من الضرائب ومصادر الثروة العامة، يضمن مستوى الكفاية في العيش لجميع الناس. وبذلك يحول بين المجتمع الإسلامي وبين أن توجد فيه ظاهرة الفقر بالمعنى الاقتصادي الاجتماعي المعروف، وإن كان هذا لا يعني أن يتساوى الناس في دخلهم وفيما يملكون، لأن هذا أمر مستحيل في أي مجتمع يتخيله الإنسان على الإطلاق. ويدخل في باب الأحلام والتصورات الطوباوية التي تاباها واقعية الإسلام.

وبذلك يشعر الفقراء أنهم ليسوا مهملين: لا عين ترعاهم، ولا يد تمسح جراحهم، وتقيلهم عثرات الزمان.. بل يشعرون أنهم ملء سمع المجتمع وبصره، فتختفي دوافع الإجرام من أنفسهم، وحينذاك يقول لهم الإسلام: إن المثل الأعلى هو الفضيلة، ويطلب إليهم أن يكونوا فضلاء... وأن يجعلوا الأرض أختاً للسماء.

***

فقد وعى الإمام أن الإنسان الجائع، المستغل، المحروم، المصفد بالأغلال لا يستطيع أن يكون فاضلاً، وأن من اللغو أن يوعظ بالوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وإن إنساناً كهذا ينقلب كافراً: كافراً بالقيم، والفضائل والإنسان.

إن معدته الخاوية، وجسده المعذّب، ومجتمعه الكافر بإنسانيته، المتنكر له، وشعوره بالاستغلال، وميسم الضعة الذي يلاحقه أنى كان - هذه كلها تجعله لصاً، وسفاحاً، وعدواً للإنسانية التي لم تعترف له بحقه في الحياة الكريمة.

ووعى أن المجتمع القائم على سيادة فريق وعبودية فريق، وعلى استغلال الأسياد للعبيد، والأحرار للمصفدين بالأغلال، مجتمع لا يمكن أن توجد فيه فضيلة ولا يمكن أن يوجد فيه فضلاء. إنه ليس إلا مجتمع لصوص ومجرمين وعبيد، تسيّر أفراده الأحقاد والمكر والاستغلال، وما كانت اللصوصية والعبودية وما إليها يوماً فضائل تشرف الإنسان.

على أساس من هذا الوعي جعل الإسلام الإصلاح الاقتصادي أساساً للإصلاح الاجتماعي.

ولقد كان من الطبيعي جداً - حتى عند المفكرين والمصلحين - في عصر الإمام وقبله أن يوجد أناس جائعون فقراء، وأن يوجد أغنياء يحارون كيف ينفقون أموالهم، فلم يكن الفقر بذاته والغنى بذاته مشكلة اجتماعية تطلب حلاً، لأنها في نظرهم أمر طبيعي لا محيد عنه. إنما المشكلة هي: كيف السبيل إلى إسكات الفقراء وحماية الأغنياء؟ فكان الإمام - بعد النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) هو أول من كشف أن الفقر والغنى مشكلة اجتماعية خطيرة، ونظر إليها على أساس أفاعيلها الاجتماعية.

إن فلسفة الفقر عنده تجتمع في هاتين الكلمتين:

(إن الله سبحانه فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير إلا بما متع به غني) (12).

و (ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع).

ومن هنا أصبح من أبرز المشاكل التي حفل بها منهجه الإصلاحي يوم وليَ الحكم، مشكلة الفقر والغنى.

ولقد كان مجتمعه إذ ذاك يعاني جراحاً عميقة بسبب هذه المشكلة، فقد وليَ الإمام الحكم والتفاوت الطبقي في المجتمع الإسلامي على أشد ما يكون عمقاً واتساعاً.

ففي العهد السابق على ولاية الإمام (عليه السلام) للحكم كانت الطريقة المتبعة في التقدير وإظهار الكرامة هي التفضيل في العطاء. وقد اتبعت هذه الطريقة في بعض الحالات بصورة خارجة عن حدود المعقول والمقبول، ففُضِّلَ من لا سابقة له في الدين ولا قِدم له في الإسلام على ذوي السوابق والأقدار.

وقد أوجد هذا اللون من السياسة المالية طبقة من الأشراف لا تستمد قيمتها من المثل الأعلى للإسلام، وإنما تستمدها من السلالة والغنى والامتيازات التي أسبغها عليها الحكم القائم، وطبقة الشعب التي ليس لديها مال، ولا امتيازات، ولا ماض عريق، وكان من عقابيل ذلك أن أحس الفقراء الضعفاء بالدونية واستشعر الأشراف الاستعلاء، وحرم الفقراء المال الذي تدفق إلى جيوب الأغنياء.

فلما ولي الإمام الحكم ألفى بين يديه هذا الإرث المخيف الذي يهدد باستئصال ما غرسه النبي في نفوس المسلمين.

وقد عالج هذا الواقع الذي سبق إليه بالتسوية بين الناس في العطاء، فالشريف والوضيع، والكبير والصغير، والعربي والعجمي، كلهم في العطاء سواء. فلم يجعل العطاء مظهراً للتفاضل بين الأفراد والأفراد والطبقات والطبقات. وبهذا أظهر للناس أن القيمة ليست بالمال، وحال بين الفقراء والضعفاء وبين الشعور بالدونية، وبين الأشراف والأقوياء وبين أن يشعروا بالاستعلاء. وأهاب بالناس أن يثوبوا إلى الله فيجعلوا التقوى مناط التفاضل ومقياس التقويم.

وقد ثارت الطبقة الأرستقراطية لسياسة المساواة المالية التي قام بها الإمام فأشاروا عليه أن يصطنع الرجال بالأموال، فقال:

(أتأمرونني أن أطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمِّ نجم في السماء نجماً، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف وإنما المال مال الله. ألا وأن إعطاء المال في غير حقه تبذير وإسراف..) (13).

ولم يكن هذا كل ما ينتظر الطبقة الأرستقراطية على يديه يوم أمسك بالزمام، لقد كانت أموال الأمة تتدفق - تحت عينيه - قبل أن يتولى الحكم إلى جيوب فريق من الناس، فأخذ على نفسه عهداً بمصادرتها، بردها إلى أهلها، وكان أن أعلن للناس يوم ولي الحكم مبدأ من جملة المبادئ التي أعدها لمحاربة الفقر الكافر في مجتمعه الموشك على الانهيار، فقال:

(ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان، وكل مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال. فإن الحق لا يبطله شيء. ولو وجدته قد تزوج به النساء، وفرق في البلدان لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه الحق فالجور عليه أضيق) (14).

وكم كان يقض مضجعه عدم التوازن في توزيع الثروات في زمانه (عليه السلام)، فتراه يصرخ أكثر من مرة، من على منبر الكوفة، بمثل هذا القول:

(.. وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، والشر فيه إلاّ إقبالاً، والشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً.. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس: هل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً؟ أو غنياً بدل نعمة الله كفراً؟ أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً؟ أو متمرداً كأن بأذنه عن سمع المواعظ وقرأ، أين خياركم وصلحاؤكم، وأحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم، والمتنزهون في مذاهبهم؟) (15).

ولا يعالج الفقر عند الإمام بالمواعظ والخطب، وإنما يعالج بحماية مال الأمة من اللصوص والمستغلين، ثم بصرفه في موارده.

وبهذا عالجه الإمام، فكان عيناً لا تنام عن مراقبة ولاته على الأمصار، وعن التعرف على أموال الأمة وطرق جبايتها وتوزيعها.

وكم من وال عزل وحوسب حساباً عسيراً لأنه خان أو ظلم أو استغل.

وكم من كتاب كتبه (عليه السلام) إلى ولاته يأمرهم أن يلزموا جادة العدل فيمن ولوا عليهم من الناس (16).

وبينما هو يأمرهم بهذا يضع عليهم العيون والرقباء ليرى مدى طاعتهم وتنفيذهم لأوامره.

لقد كان (عليه السلام)، بهذا، أول من اخترع نظام التفتيش.

ولقد كان يكتب إلى ولاته: (إن أعظم الخيانة خيانة الأمة) (17). وليس الولاة أعضاء في شركة مساهمة هدفها أن تستغل الأمة وإنما هم كما كان يكتب إليهم (خزان الرعية، ووكلاء الأمة، وسفراء الأئمة) (18).

وكون الأموال العامة هي أموال الأمة مفهوم لم يأخذ صيغته الحقة إلا على لسان الإمام (عليه السلام) وفي أعماله. لقد جاءه أخوه عقيل يطلب زيادة عن حقه فرده محتجاً بأن المال ليس له وإنما هو مال الأمة (19)، وجاءه ثان يطلب إليه أن يعطيه مالاً، بما بينهما من رابطة الحب فرده قائلاً: (إن هذا المال ليس لي ولا لك وإنما هو فيء للمسلمين) (20).

* * *

بهذا كله لم يكفل الإسلام ولا الإمام أمر التزام الفضيلة في السلوك إلى الضمير وحده وإنما جعلا لها سنداً من القانون يكفل لها أن تصير واقعاً اجتماعياً تنبني عليه العلاقات الاجتماعية والسلوك الإنساني. ولكنهما لم يجعلا القانون كل شيء في حياة الإنسان لئلا يكون آلة مسيَّرة لا تملك اختيار ما تريد، وإنما أناطا جانباً من سلوكه بملزمات الضمير بعد أن أيقظا هذا الضمير. ولم يكلا أمر صيانة المجتمع من أخطار التفاوت الطبقي إلى الفضيلة وحدها، لأنها لا تسد حاجات الإنسان التي لا يقوى بدونها على التزام الفضيلة ومكارم الأخلاق، وإنما أناطا جانباً من مهمة الصيانة بالاقتصاد لأنه هو الذي يسد حاجات الإنسان.

وهكذا، بين الضمير اليقظ والقانون الواعي لحاجات الفرد والمجتمع ينمو الإنسان المسلم، ويأخذ سبيله إلى الكمال النسبي الذي يتاح للإنسان.

 

 

 

 

 

الهوامش:

1- الجنة: الدرع الواقية.

2- نهج البلاغة - رقم الخطبة : 186.

3- المصدر السابق - رقم الخطبة : 193.

4- المصدر السابق: رقم الخطبة : 225.

5- سورة البقرة: 2-5.

6- سورة البقرة: 177.

7- سورة آل عمران: 133 - 134.

8- سورة المائدة: 8.

9- مجمع البيان في تفسير القرآن: ج 1 ص 37. سورة النحل: 90.

10- سورة الحجرات: 13.

11- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 189.

12- نهج البلاغة - باب المختار من حكم أمير المؤمنين - رقم: 328.

13- نهج البلاغة - رقم النص: ص 124.

14- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 15، وهذا الكلام جزء من خطبة خطبها في اليوم الثاني من بيعة الناس له بالخلافة، ولم يذكر الرضي (رحمه الله) النص بكامله.

15- نهج البلاغة - رقم الخطبة: 127.

16- نهج البلاغة - راجع مثلاً كتابه على الأشعث بن قيس عامل آذربيجان، رقم النص: 5، وكتابه إلى زياد بن سمية وهو متول على البصرة، رقم النص: 20 - 21، وكتابه إلى بعض عماله، رقم النص: 46، وغير ذلك كثير نجده في باب المختار من كتب أمير المؤمنين في القسم الأخير من نهج البلاغة.

17- نهج البلاغة - من عهد له إلى بعض عماله على الخراج، رقم النص: 26.

18- نهج البلاغة - من كتاب له إلى عماله على الخراج، رقم النص: 26.

19- نهج البلاغة - رقم النص: 222.

20- نهج البلاغة - من كلام له مع عبد الله بن زمعة، رقم النص: 230.

 

أعلى