|
||||
|
التربية والتعليم |
|
|
|
|
|
|
الأسرة هي الخلية الاجتماعية الأولى في نسيج المجتمع لذلك كانت محور دراسات الفلاسفة منذ القدم، وموضع اهتمام الديانات السماوية وجميع النظم والدساتير السياسية، وهي تعتبر بحق من أهم عوامل تقدم المجتمعات وتطورها واستقرارها بفعل العناصر الخيرة والفاضلة والمؤثرة التي ترفدها بها. وهي مجتمع صغير تتكون من زوج وزوجة والأولاد والخدم وربما شملت أيضاً الجدود والأحفاد والأقارب على أن يكونوا مشتركين في معيشة واحدة. ولقد لعبت الأسرة، وما تزال دوراً مهماً في تنشئة الأجيال وإعدادها. ومهما قيل عن تراجع دورها بفعل المؤسسات المختلفة التي استحدثها المجتمع لتحل محلها، فإنها ما زالت تمارس وظيفتها في التناسل والتنشئة الدينية والخلقية والاجتماعية بشكل يدعو إلى صعوبة الاستغناء عنها أو التقليل من أهميتها باعتبارها أكثر التصاقاً ومعرفة بالطفل وأدق تنظيماً وإحكاماً من سائر المؤسسات التربوية التي من المفترض أن تحل محلها. والأسرة من الفعاليات الاجتماعية الديناميكية التي تنزع إلى مسايرة التطور ولا تستنكف التأثر بالنظم والتغيرات الحضارية لتعود وتؤثر في باقي أجزاء البناء الاجتماعي. فالتفاعل بينها وبين سائر أنظمة ومؤسسات المجتمع متبادل وهي لا تفتأ تؤثر التكيف والنمو والتجديد وفي ذلك يكمن سر تقدم المجتمعات وتطورها. وإذا كان للأسرة دورها في التقدم فإنها من جهة ثانية، يمكن أن تلعب دوراً هداماً تكون نتيجته التفكك والاضطراب. ذلك أن المجتمع يتكون من مجموعة من العادات والتقاليد والأعراف والقيم والنظم والقواعد، ولا بد أن يمثلها أفراده في تصرفاتهم وعلاقاتهم بعضهم مع بعض حفاظاً على السلامة والاستقرار الاجتماعي. وعلى عاتق الأسرة تقع مهمة تزويد الأطفال بها، وتعويدهم عليها، وإلا فإن الشواذ منهم يكونون عامل هدم وتخريب وعدم استقرار. كذلك فإن أثرها في احترام قوانين المجتمع ونظمه وأحكامه، لا يقل أثراً عن اهتمامها بتزويده بالعناصر الفاعلة. وهذا الأمر يتوقف على القيم السائدة بين الآباء والأبناء، لذلك يؤكد علماء النفس الاجتماعي على ضرورة أن تتسم العلاقة فيما بينهم بالاتزان والانسجام والتعاون والاحترام المتبادل. ولا شك في أن الأسرة مسؤولة عن سلامة الأطفال النفسية وانحرافهم وشذوذهم والسبب يكمن في عدم الاستقرار العاطفي بين الآباء من جهة، وبينهم وبين الأبناء من جهة ثانية أو بني الأبناء أنفسهم. وهي من جهة أخرى، مسؤولة عن تزويدهم بالاتجاهات والنماذج السلوكية المقبولة، إذ في داخلها يتعلم الطفل قيم الأخلاق وقواعد الآداب ونماذج السلوك الحسن وأساليب الثواب والعقاب ومناحي الحق والخير والجمال والتعاون والمحبة والعمل وغير ذلك. لهذا يمكن اعتبارها إحدى العوامل الأساسية في بناء الكيان التربوي وتحقيق عملية التطبيع الاجتماعي. فالعائلة رغم كونها مؤسسة اجتماعية صغيرة، إلا أنها كبيرة الأهمية وعليها تتوقف قوة المجتمع ومنعته. ويمكن تلخيص أثرها في الطفل بأمور ثلاثة ذكرها (جون ديوي) وهي:
إن أساليب الكلام الأساسية والجانب الأكبر من المفردات اللغوية إنما تتكون في سياق الحياة داخل الأسرة. فالطفل يتعلم لغة أمه. يقول (ديوي): (أجل إن التعليم المقصود في المدارس قد يصلح من هذه العادات اللغوية أو يبدلها، ولكن ما أن يتهيج الأفراد حتى تغيب عنهم في كثير من الأحيان الأساليب الحديث التي تعلموها عن عمد، ويرتدون إلى لغتهم الأصلية الحقيقية).
إن القدوة الحسنة أفضل من النصيحة، والعمل الطيب أبلغ أثراً من الكلمة المجردة والتربوية الفاضلة إنما تكتسب برياضة النفس على العمل الصالح لا باكتساب المعلومات عنها. يقول (ديوي): (وعلى الرغم من الجهود المقصودة المستديمة في تعليم الأفراد وتقويم سلوكهم، فإن الجو والروح المحيطين بهم يبقيان أقوى العوامل المؤثرة في تكوين آدابهم. وما الآداب الاجتماعية سوى الأخلاق مصغرة، أما في السمت الأعلى من الأخلاق فالتعليم المقصود لا يكاد يكون قوي الأثر إلا على قدر مطابقته لسيرة الأفراد الذين يكوّنون بيئة الطفل الاجتماعية).
إن الطفل يأخذ أول فكرة عن الجمال والذوق من الأسرة، من خلال مشاهدته لأثاث البيت وتنسيقه، والترتيب الحاصل في الملابس التي يرتديها، أو التي يرتديها باقي أفراد أهله. كما أنه يكتسب من الأسرة، أول فكرة عن النظافة والثواب والعقاب، والحكم على الأشياء، واتخاذ القرارات وغيرها من النماذج السلوكية التي تساعده على حسن التكيف، والتفاعل مع غيره من أعضاء المجتمع الكبير الذي سينتقل إليه فيما بعد) (1). ونظراً لهذا الدور الهام الذي تلعبه الأسرة في بناء كيان الفرد والجماعة فقد عني الإسلام بدراسة شؤونها وتنظيمها وتشكيلها في صورة فاضلة وراقية، تتفق مع أحدث التشريعات وكانت عنايته بها حقيقة انفرد بها عن سائر الشرائع السماوية والأرضية. ومن يتدبر القرآن، يجد تركيزه وبجدية على ضرورة الالتزام بشروطها ومتطلباتها، بما يؤدي إلى ترابطها وتماسكها لما للطلاق من آثار سيئة عليها وعلى المجتمع ـ لذلك فقد (جعل للزواج أحكاماً، ووضع للطلاق وتعدد الزوجات قيوداً، وقرر للزوجين من الحقوق والواجبات المتبادلة ما به تحسن المعاشرة، وتقوى الرابطة وتطيب الحياة. ولا نكاد نجد في تشريع ما، أرضي أو سماوي، مثل هذه القاعدة الجليلة التي جعلها القرآن أساساً للحياة الزوجية ولفت بها الأنظار إلى ما بين الزوجين من الحقوق والواجبات، تلك القاعدة التي وردت في قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) (2).
2) موقف الإمام (عليه السلام) من الأسرة:
يشير الإمام (عليه السلام) إلى أهمية هذه المؤسسة وأثرها على الفرد والمجتمع فيقول: (أيها الناس، إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم، وهم أعظم الناس حيطة من ورائه وألمّهم لشعثه وأعطفهم عليه عند نازلة إن نزلت به ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره) (3). إلى أن يقول: (إلا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه، ولا ينقصه إن أهلكه، ومن يقبض يده عن عشيرته، فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة، وتقبض منهم عنه أيد كثيرة، ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة) (4). إن مفهوم الإمام (عليه السلام) للعائلة، لا يقتصر على الآباء والأولاد، بل هو يمتد ليشمل العشيرة بأكملها وما تتضمنه من الأحفاد والأجداد والأقارب. ونظراً للدور الهام الذي تلعبه في بناء كيان الأفراد وحمايتهم من الأخطار التي تحدق بهم، فإنه يحث الأغنياء منهم على مواساة أقاربهم الفقراء وصلتهم بالمال ويرغب إليهم هذا الأمر بالذكر الجميل والاعتضاد بالعشيرة ودوام محبتها لهم. والواقع أن الإنسان لا يستطيع الاستغناء عن عائلته وخاصة في صغره كما أن المال لا يوفر له بدلاً عنها، فهي بالنسبة إليه ضرورة ملحة طيلة حياته ووظيفتها لا تقتصر على حماية أبنائها من خطر الآخرين بل أنها تتعدى ذلك إلى أخذهم بمختلف أنواع التربية حتى يشبوا صالحين. كما أنها المكان الذي يجد فيه الطفل الرعاية اللازمة لنموه وتطوره. يقول (جون ديوي) إن بني الإنسان يولدون قليلي النضج إلى درجة أنهم لو خلوا وأنفسهم بدون توجيه الآخرين وعونهم ما تمكنوا من الحصول حتى على أيسر الكفايات اللازمة لحياتهم المادية فصغار البشر يظهرون قليلي الحظ من الكفايات الأصلية إذا ما وزنوا بصغار الحيوانات الدنيا حتى أنهم لا قبل لهم باكتساب القوى التي تكفل حصولهم على ما يسد رمقهم إلا بحياطة غيرهم، فما أشد حاجتهم للرعاية إذاً، في محيط بلغت فيه الإنسانية مبلغها من الصناعة والفن والعلم والخلق) (5). إن روابط الأسرة كما حددها الإمام (عليه السلام) تتسامى عن تلك التي جمعت بين أفراد القبيلة في الجاهلية. فالعصبية القائمة على صلة الرحم، هي من النزعات الطبيعية في البشر فرضتها الحمية على الأهل والأقارب كما يقول ابن خلدون: (وذلك أن صلة الرحم طبيعي في البشر، إلا في الأقل. ومن صلتها النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة، فإن القريب يجد في نفسه غضاضة من ظلم قريبه أو العداء عليه، ويود لو يحول بينه وبين ما يصله من المعاطب والمهالك، نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا) (6). هذه النزعة الطبيعية في البشر، تؤدي إلى (الاتحاد والالتحام) فيما بين أفراد النسب الواحد، لأنها تحملهم على (التعاضد والتناصر) وتستلزم (استماتة كل واحد منهم دون صاحبه) (7). إلا أن هذه العصبية لم تستبعد الظلم الناجم عن الغزو، ولم تتخلص من الأحقاد التي زرعت الدماء والتنافر بين القبائل المختلفة بما نجم عنها من حروب اكتوى الناس بنارها. وإذا كان لصلة الرحم دورها الهام في توثيق عرى الاتصال بين أفراد الأسرة الواحدة. فإن هذا لا يعني التغافل عما يصدر عنهم من مظالم ومساوئ يلحق ضررها بالآخرين. ولقد تدارك (عليه السلام) هذا الظلم الناجم من استغلال البعض لهذه الصلة من أجل تحقيق مآرب شخصية ولم يتسامح في أي عمل يستحق المؤاخذة ومن أي مصدر كان قريباً أم بعيداً، فلا يدعو إلا إلى الحق الذي على أساسه يفاضل بين الأعمال. فعندما تنكر عبد الله بن عباس والي البصرة لابن عمه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وقابله بالعداوة بعد الصداقة، وسرق أموال المسلمين مدعياً حقه فيما أخذ، كتب إليه الإمام يعنفه ويوبخه ويتوعده بالقتل إن لم يرجع للناس أموالهم التي سرقها، فيقول: (فاتق الله واردد إلى هؤلاء أقوم أموالهم، فإنك لم تفعل، ثم أمكنني الله منك، لأعذرن إلى الله فيك، ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النار) (8). وهكذا فالإمام علي (عليه السلام) لم تمنعه قرابته لابن عباس من أن يدفع الظلم الذي ارتكبه، إن هذا التماسك في شخصيته دفعه إلى تطبيق ما يؤمن به قولاً وعملاً، وحتى على أقرب الناس إليه. لقد أقسم أن ولديه، على قربهما منه وكرامتهما عليه، لو فعلا ما فعله ابن عباس من الخيانة، لما كانت لهما عنده هوادة في أخذ الحق منهما، لأنه لا يخشى فيه لومة لائم. فيقول: (والله لو أن الحسن والحسين فعلاً مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما) (9). لقد أراد الإمام (عليه السلام) من الإنسان أن يكون نصيراً للحق، ثابتاً عليه، فلا تأخذه فيه شفقة أو رحمة أو عاطفة أو عصبية. ومهما تكن لهذه الروابط من تأثير في النفوس فإنه لا ينبغي أن تحد من رؤية الحق ونصرته، وإذا كان للعصبية شأنها في تقوية الصلة بين أفراد العشيرة فإن الإمام (عليه السلام) يسمو بها إلى درجة تحد ممّا يلحق بها من مظالم وأحقاد ويجعلها سبباً لمكارم الأخلاق. فهو إذ يوبخ الناس على تعصبهم للباطل الذي تثور به الفتن، وتسفك بسببه الدماء، لسبٍ واهٍ، كتعصب إبليس على آدم لأصله، ويقول لهم: (ولقد نظرت فما وجدت أحداً من العالمين يتعصب لشيء من الأشياء إلا عن علة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجة تليط بعقول السفهاء غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر ما يعرف له سبب ولا علة) (10). فإنه يحذرهم من هذا الأمر الذي لا طائل منه وينبههم إلى مواقع العصبية وما ينبغي أن تكون له، وهي مكارم الأخلاق ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور، تلك التي تفاضل بها أهل المجد والشرف والنجدة من بيوتات العرب وسادات القبائل فيقول: (فإن كان لابدّ من العصبية فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الأخلاق، ومحاسن الأمور، فتعصبوا لخلال الحمد، من الحفظ للجوار والوفاء بالذمام والطاعة للبر والمعصية للكبر والأخذ بالفضل، والكف عن البغي والإعظام للقتل والإنصاف للخلق والكظم للغيظ واجتناب الفساد في الأرض) (11). فروابط العشيرة إذاً ليست العصبية العمياء، ولكنها روابط الحق والعدل والعمل الصالح ومكارم الأخلاق. وكل ما عدا ذلك فهو باطل، وما قول الإمام (عليه السلام): (فإن كان لابد من العصبية..) إلا تأكيد على أصالة قوى الشر والعدوان عند الإنسان إلى جانب قوى الخير. تلك القوى التي لو تركت دون توجيه وإرشاد لشب عليها الإنسان وأصبح من العناصر الشاذة في المجتمع. لذلك فلقد حاول أن يصرفها بطريقة تكفل السلامة النفسية. إذ لا يمكن كبت تلك القوى لأنها سوف ترتد إلى اللاشعور أو الجانب المظلم من النفس، وتصبح من الدوافع اللاشعورية والرغبات المكبوتة التي (لا تستقر ولا تهدأ بل تحاول جاهدة أن تعبر عن نفسها بشتى الصور وتنجح في ذلك حينما يغفل الرقيب فتظهر في صورة متنكرة كما في أحلام النوم كتعبير رمزي عن محتويات اللاشعور، كما تعبر عن نفسها في صورة أمراض عصابية) (12). وهكذا فالكبت وإن كان يحول دون التعبير الطبيعي والمباشر عن الدوافع اللاشعورية، إلا أنه لا يمنعها من أن تعبر عن نفسها في صور تنكرية ملتوية. كما أنه لا يمكن قمعها واستبعادها بالقوة لأنها ستعود من جديد إذا خف عليها الضغط ولم تجد من يردعها. وفي كلتا الحالتين تتحول تلك القوى إلى عقد نفسية وأمراض عصابية لها أثرها السيئ على الإنسان. لذلك فقد استبعد الإمام (عليه السلام) هذا الأسلوب السلبي، وقال بوجوب الإعلاء والتسامي بها وصرفها في أمور يرضى عنها المجتمع. فبدلاً من أن يتعصب القوم لعشائرهم لأسباب يغلب عليها الجهل والعداوة والأحقاد مع ما ينتج عن ذلك من المآسي والشرور، فليكن التعصب لما فيه خير الفرد والمجتمع معاً. وللإمام (عليه السلام) أسلوب آخر في توجيه دوافع الفرد، تمثل في مبدأ الثواب والعقاب ولقد اعتمده من أجل تشجيع الإنسان على فعل الخير ونهيه عن فعل الشر، لما في الثواب أو العقاب، المادي أو المعنوي، من أثر في إصلاح رغباته ودوافعه، وسوف نرى ذلك في مكانه. أ. العواطف وهي من أكثر الروابط فعالية بني أفراد الأسرة، فالعاطفة (نظام يتألف من عدة ميول وجدانية مركزة حول شيء ما (شخص أو جماعة أو فكرة مجردة) تكيف الشخص لاتخاذ اتجاه معين في شعوره وتأملاته وسلوكه الخارجي) (13). وهي، من هذا المنطلق، تتميز عن الميول الفطرية، بالرغم من أنها ولدت منها، كذلك فإنها تتأثر بالعوامل الاجتماعية وتنمو وتتهذب بالتفكير والتأمل والتجارب الانفعالية المختلفة، كما أنه لها أثرها في تنظيم الحياة الانفعالية للفرد، وتوجيه السلوك والدوافع الفطرية توجيهاً حسناً بحيث تصبح أكثر ثباتاً واستقراراً ممّا يساعد على التنبؤ بسلوكه. والعاطفة، وإن كانت من الروابط الهامة بين أفراد الأسرة الواحدة إلا أنه لا ينبغي أن تصل إلى حد الإفراط أو التفريط لأن كلاهما مضر ومفسد لنفسية الإنسان كما يقول (عليه السلام): (فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد) (14). إن عدم رعاية الطفل والاهتمام به وحرمانه من المحبة والعاطفة يؤدي إلى تبرمه بأسرته وانعزاله عنها وسوء الظن بها، ومن ثم التطرف في أقواله وأفعاله، كما أن إحاطته بجو من العطف المفرط المشوب بالقلق واللهفة يجبره على الارتكاس إلى طفولته الأولى حيث كان يجد لذته ويجعله اتكالياً في شتى أموره، ويبذر بذور القلق في نفسه. فالعلاقة العاطفية التي تسود جو الأسرة، لها أثرها في سلامة الطفل النفسية وفي تحديد سلوكه الاجتماعي المقبل، ذلك لأن الطفل إن كان (غير واثق من عطف والديه وكانت علاقته بهما مشوبة بالقلق والخوف، فلن يبدي استعداداً للتعاون الإيجابي مع الآخرين، وإن كانت الرابطة العاطفية التي تربطه بهما هي رابطة العطف المفرط من جانبهما والاعتماد المطلق من جانبه فلن يسعى إلى التعلق عاطفياً بأفراد من خارج الأسرة. وإنما يقنع بالارتباط الطفلي اللذيذ، ويعرض عن كل ما من شأنه أن يفض هذا الارتباط) (15). أما إذا ألف الطفل من والديه قدراً كافياً من الحب المتزن، فإنه لن يتوانى عن المشاركة في شتى أمور الأسرة، ومن ثم يصبح من العناصر المقبولة اجتماعياً بسبب هذه العاطفة المتوازنة التي كفلت الأمن والطمأنينة له، ذلك لأن (الحب الوحيد الكفيل بإشاعة الأمن في نفس الطفل هو الحب الثابت المتزن، وهو وحده الذي يطبع علاقات الطفل الاجتماعية المقبلة بطابع الثقة) (16). هذا الجو المتسم بالمحبة الصادقة والعواطف النبيلة المتزنة، هو ما يدعو إليه الإمام (عليه السلام) على أن يكون الطابع الذي يطبع علاقة الآباء بباقي أفراد أسرتهم. لقد كانت الروح الحاكمة في الأسرة التي تكلم عنها، هي روح التواضع والمحبة والصداقة والاحترام المتبادل. فالعاطفة الأبوية التي تربط بين الآباء والأبناء، ينبغي أن تتأكد بتقديم النصائح والتوجهات والمعاملة الحسنة. لذا كان من الواجب على الأبوين أن يخلقا في البيت جواً عائلياً مشبعاً بروح المودة والحب. فإذا ما درج الأولاد على هذه الروح في حياتهم البيتية، سهل عليهم نقلها إلى حياتهم الاجتماعية الواسعة، ولقد عبر (عليه السلام) عن هذه العاطفة النبيلة بقوله: (ووجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي) (17). كذلك فإن الرباط العاطفي بين الآباء له أثره على الأبناء، لأن السعادة العائلية تبعث الطمأنينة في نفس الطفل، في حين أن عدم الاستقرار العائلي له ضرره في تعقيد نفسيته وهروبه من الواقع المؤلم الذي يعيشه ممّا يسهم في سوء تكيفه الاجتماعي. فإذا عجز الآباء عن تأمين هذا الجو العاطفي، فلا مجال للتحدث عن أطفال أسوياء. لذا كانت (مودة الآباء قرابة بين الأبناء) (18). لقد دخلت كلمات الإمام (عليه السلام) إلى أعماق النفس البشرية وسبرت أغوارها وكشفت عن مكنون أسرارها، ووقفت على ما يلائمها من الفضائل والمعارف والعواطف والانفعالات ودعت إلى تنشئتها عليها حتى يستقيم نهجها وتسمو في مدارج العلم والأخلاق. ب. الحقوق والواجبات إن العيش ضمن نطاق الأسرة يفرض جملة من الحقوق والواجبات المتبادلة بين الآباء والأبناء، حيث لا يمكن بدونها حفظ كيان الأسرة وضمان استمرارها. فالآباء الذين لا يكترثون بأبنائهم ولا يعبأون برعايتهم وتربيتهم، وكذلك الأبناء الذين يظلمون آباءهم ولا يحترمونهم ولا يقدمون يد المساعدة لهم، إنما يقترفون خطأ فادحاً في ضمير الإنسانية وشرحاً واسعاً في كيان الدين والمجتمع. وكم نحن بحاجة اليوم إلى تدعيم الأسرة وتمتين وشائجها في عصر طغت على أبنائه المادية الهدامة وقل أثر الدين في النفوس، فتنكر الابن لأبيه وشغل الأب عن ابنه. ولقد أدرك الإمام (عليه السلام) هذا العصر ومنذ آلاف السنين وكشف عما يعتوره من رذائل ومفاسد فيقول: (يأتي على الناس زمان لا يقرب فيه إلا الماحل ولا يظرف فيه إلا الفاجر ولا يضعف فيه إلا المنصف يعدون الصدقة فيه غرماً، وصلة الرحم منّاً، والعبادة استطالة على الناس) (19). ونظراً لأهمية الأسرة كإحدى الركائز الثابتة في بناء المجتمعات وتقدمها فإن ما تحدث به الإمام (عليه السلام) يدعو إلى تدعيمها وتوثيق الصلة بين أفرادها من خلال ربطها بحقوق وواجبات تكفل لها الاستمرار والتقدم فجعل للأبناء حقاً على الآباء، وكذلك للآباء على الأبناء، وألزم كلاً منهما واجبات تجاه الآخر. وإذا تأكد حق القرابة والرحم فأخص الأرحام أفضلهم بذلك. إن طاعة الوالدين وبرهما من علامات المؤمن لقوله تعالى: (إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) (20)، ولقد أوصى سبحانه ببر الوالدين وصلتهما في قوله الكريم: (وَوَصَّيْنَا الإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) (21) ومعاملتهما في الدنيا بالمعروف حتى وإن خالفا قول الحق لقوله عزّ وجلّ: (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) (22)، وقوله عزّ القائل: (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) (23). وهكذا فحق الآباء على الأبناء هو البر والطاعة في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه، وحتى في هذه الحالة الأخيرة، فإن الله سبحانه يوجب الإحسان إلى الوالدين وعدم زجرهما أو التأفف منهما (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (24). أما حق الأبناء على الآباء فيتجلى في أمور ثلاثة:
ومن حق الولد على والديه أيضاً حسن اختيار مرضعته. ويرى الإمام علي (عليه السلام) أن لبن الأم هو أكثر فائدة للصبي من لبن أية مرضعة أخرى كما يقول: (ما من لبن يرضع به الصبي أعظم بركة عليه من لبن أمه) (25)، وإذا تعذر ذلك فإنه يوجب النظر في اختيار المرضعة فيقول: (انظروا من يرضع أولادكم فإن الولد يشب عليه) (26). ولذا فقد استبعد الحمقاء عن الرضاعة، لأن لبنها يؤثر على طباع الطفل، (ولا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يغلب الطباع) (27). وقد عبر عن ذلك ابن سينا في قوله: (إن من حق الولد على والديه إحسان تسميته ثم اختيار ظئرة كي لا تكون حمقاء ولا ردهاء ولا ذات عاهة فإن اللبن يعدي كما قيل) (28).
واعلموا أنه ليس على أحد بعد القرآن من فاقة، ولا لأحد قبل القرآن من غنى فاستشفوه من أدوائكم، واستعينوا به على لأوائكم، فإن فيه شفاء من أكبر الداء. وهو الكفر والنفاق والغي والضلال، فاسألوا الله به، وتوجهوا إليه بحبه ولا تسألوا به خلقه وإنه ما توجه العباد إلى الله تعالى بمثله. واعلموا أنه شافع مشفع، وقائل مصدق، وإنه من شفع له القرآن يوم القيامة شفع فيه، ومن محل به القرآن يوم القيامة صدق عليه، فإنه ينادي مناد يوم القيامة، ألا أن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله، غير حرثة القرآن، فكونوا من حرثته وأتباعه واستدلوه على ربكم واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم واستغشوا فيه أهواءكم) (30). وإذا كانت للقرآن هذه المزايا الهامة، كان لابدّ من تنشئة الطفل عليه حتى يتمثله قولاً وعملاً. وهذا ما دعا إليه ابن سينا عندما قال: (فإذا اشتدت مفاصل الصبي، واستوى لسانه وتهيأ للتلقين ووعى سمعه أخذ في تعلم القرآن وصور له حروف الهجاء ولقن معالم الدين) (31). ولقد ذكر (عليه السلام) هذه الحقوق المتبادلة بين الآباء والأبناء فقال: (إن للوالد على الولد حقاً، وإن للولد على الوالد حقاً، فحق الوالد على الولد أن يطيعه في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه، وحق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن أدبه ويعلمه القرآن) (32). ولا شك من أن المسؤولية الأولى في تربية الطفل إنما تقع على عاتق الأسرة فإذا كان العقل، كما يقول جون لوك: (صفحة بيضاء أو لوحة شمع خالية من النقش عند الميلاد) (33) مع استعداده لتقبل ما يلقى إليه، استطعنا أن نبلغ به ما نريد بتسليط المؤثرات الملائمة عليه. ولقد أظهرت الأبحاث والدراسات تأثر الطفل بصفات آبائه الخلقية والعقلية، باعتباره مطبوع على الاقتداء بهم والسيرة على نهجهم. ذلك لأن (أكثر أخلاق الطفل وسجاياه يأخذها من الوسط الذي يعيش فيه، فتنمو فيه وتترسخ لكثرة استعمالها والمداومة عليها، فترة طويلة، إلى أن تصبح عادة متأصلة في طبعه) (34). ونظراً لهذه المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتق الأسرة، فلا عجب أن يمتدحها الإمام (عليه السلام) ويوصي بها خيراً فيقول: (وأكرم عشيرتك فإنهم جناحيك الذي به تطير وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول) (35) . ويدعو إلى حسن معاملة كل فرد من أفرادها. وتتضمن أسلوب الرجل في تعامله مع زوجته وولده وخدمه باعتباره سيد الأسرة ومدبرها ومنظم شؤونها.
وفي ذلك نشير إلى موقف الإمام علي (عليه السلام) من المرأة وقضاياها وحقوقها وكيفية التعامل معها. إن موقف الإمام (عليه السلام) من المرأة هو موقف الإسلام بالذات. يقول محمد جواد مغنية (إن أقوال الإمام وآراءه، وواقعه هو واقع الإسلام وأقواله هي أقوال القرآن، لا يفترقان أبداً، حتى يردا الحوض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) كما جاء في الحديث الشريف. وبالتالي فإن الإمام لم يخلق لنفسه، وإنما وجد وخلق ليمثل الإسلام على حقيقته، فإذا فكر، أو قال، أو فعل فلا يخرج في جميع ذلك عن دائرة الإسلام) (36). لقد ساوى الإسلام بين المرأة والرجل رغم اختلافهما بيولوجياً، ولم يفاضل بينهما إلا بالتقوى كما قال سبحانه: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (37). وضمن للمرأة حقوقاً ورتب عليها واجبات لقوله عزّ وجلّ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (38) فكفل لها حق العم والكسب والعشرة الحسنة، والملكية وحق اختيار الزوج.. وهاجم الذين يفضلون الرجل على المرأة ويتشاءمون من الأنثى لقوله تعالى: (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (39). لكن المرأة هي العنصر الأضعف وكونها إنساناً لها مثل الذي عليها فإن هذا لا يمنع من أن تكون سائرة في فلك الرجل، ولقد وصفها الإسلام من خلال تصرفاتها التي تصدر عن طبيعتها وفطرتها. قال تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) (40). ولا ينقص هذا من شخصية المرأة لأن (حق القوامة مستمد من التفوق الطبيعي في استعداد الرجل، ومستمد كذلك من نهوض الرجل بأعباء المجتمع وتكاليف الحياة الأسرية) (41). وقال تعالى: (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ) (42)، وحتى أنه تعالى جعل كيد النساء أعظم من كيد الشيطان لقوله سبحانه: (فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (43). تلك هي طبيعة المرأة كما عبر عنها الإسلام في كتابه الكريم، ولم يتخلف الإمام علي (عليه السلام) عن هذه الصورة التي وضعها القرآن للمرأة. فقد حصلت على كامل حقوقها التي أقرها لها الإسلام، ولم يذكر التاريخ حادثة واحدة أهان بها الإمام المرأة أو غمط بعض حقوقها حتى اللواتي أضمرن له العداوة عملاً بوصية رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، فقال موصياً ولده الحسن (عليه السلام): (الله الله في النساء وما ملكت أيمانكم، فإن آخر ما تكلم به نبيكم أن قال: (أوصيكم بالضعيفين: النساء وما ملكت أيمانكم) (44). وليس أدل على ذلك من معاملته لعائشة التي ألّبت عليه الرجال وحشدت ضده الجيوش ودخلت معه في حرب ضروس كانت الأشد خطراً على الإسلام والمسلمين، ومع ذلك، لم يتصرف معها بما يشين كرامتها ويعدو شرفها بل أذن لها بالرحيل وجهزها بما تحتاجه من مركب وزاد ومتاع وسار في وداعها عدة أميال، وهو يدعو لها بالمغفرة. أما كلماته (عليه السلام) في حق المرأة، فهي تتراوح بين الاهتمام بها، وعدم الإساءة إليها أو التعرض لها بأذى، والكشف عن طبيعتها فيقول: (... ولا تهيجوا النساء بأذى، وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم فإنهن ضعيفات القوى والأنفس والعقول) (45) وليس هذا قدحاً في شخصية المرأة بقدر ما هو دليل على طبيعتها. لذلك فهو يحذر منهن بقوله: (فاتقوا شرار النساء وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر) (46). ومن الغريب حقاً، أن يسند ابن أبي الحديد هذا الكلام بموقف الإمام (عليه السلام) من عائشة حيث يقول: (وهذا الفصل كله رمز إلى عائشة). وليس هذا من الصواب في شيء لأن المنطق يقضي بعدم الحكم على الكل من خلال الجزء، إضافة إلى أن هذا يتنافى ومنطق الإسلام الذي يقول: (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) (47). وإذا كانت المرأة أداة للشر والفساد فإن المسؤولية في ذلك لا تقع عليها بقدر وقوعها على المجتمع الذي استغل غرائزها وضعفها وجعلها أداة للشر، ولم يهتم بتعديل هذه الغرائز وتوجيهها لما فيه خيرها وسعادتها. لقد كانت المرأة على قدر كبير من الجهل بحيث تمنعها ضآلة ثقافتها من إبداء الرأي السديد والحكم الصائب. أما اليوم فقد فتحت أمامها أبواب العلوم المختلفة ودخلت في أكثر المجالات التي دخلها الرجل وأصبحت قدرتها على المشاركة الإيجابية الفعالة في الحياة لا تقل عن قدرة الرجل، بل أصبحت تلعب دوراً هاماً في صنع الأحداث واتخاذ القرارات. فلا يمكن بعد ذلك عزلها في البيت وقصر وظيفتها على التربية فقط كما قال محمد عبده. (48) كما أن دعوة الإمام (عليه السلام) إلى عدم مشاورتها بقوله (وإياك ومشاورة النساء..) (49) لا يمكن أن ينسحب إلا على المرأة الجاهلة كما فعل النبي (صلّى الله عليه وآله)، يقول مغنية: (أما نهي النبي وعلي عن مشورة النساء، فيحمل على مشورة الجاهلة وكان أكثر النساء آنذاك في معزل عن العلم وتجارب الحياة ولا ذنب للمرأة في ذلك إذا قصر الرجل في تربيتها مع العلم بأنها من طينة الرجل، وطبيعتهما واحدة (يشتركان في المسؤولية على قدم المساواة) (50). فإذا عملنا على تثقيف المرأة وتهذيب غرائزها وتزويدها بالفضائل الخلقية والاجتماعية، لم يعد هناك من مبرر لحصرها في المنزل دون الانتفاع بمواهبها ومؤهلاتها شرط أن لا يتعارض ذلك مع واجبها المنزلي. ففي هذه الحالة يكون ضررها أكثر من الفائدة المرجوة منها، ويكون احتجابها في البيت، وقيامها على راحة زوجها وأولادها أفضل بكثير من اندماجها في المجتمع وهذا هو جهاد المرأة الحقيقي الذي عبر عنه الإمام بقوله: (جهاد المرأة حسن التبعّل) (51).
أما الولد فهو أمانة والديه، ونفسه الطاهرة خالية من كل نقش وقابلة لكل نقش، فإن عُوّد الخير نشأ عليه وإن عوّد الشر مال إليه. لذلك وجب أخذه بالتربية قبل أن تهجم عليه الأخلاق الذميمة وتستحكم منه. ونظراً لضعف قواه العقلية والجسدية فإن الشفقة واجبة عليه، فلا ينبغي الإسراف في معاقبته: (حصّن عقوبتك من الإفراط) (52) كما قال (عليه السلام). أما في مجال الحياة العامة، فإن الإمام (عليه السلام) يوصي بعدم تنشئة الولد على الرفاهية والسخاء لا، من شأن هذه التربية أن تفسده وتسبب له الهلاك لحرصه عليها. فالسخاء صفة جميلة يحمد عليها الإنسان، لكنها تصبح عادة مهلكة إذا اعتادها وتجاوزت الحد المعقول، فيقول: (لا تحمدن الصبي إذا كان سخياً، فإنه لا يعرف فضيلة السخاء، وإنما يعطي ما في يده ضعفاً) (53). وفيما يتعلق بمهنة الولد، فإنه يؤكد على ضرورة الاهتمام بميوله واهتماماته ورغباته، إلا أنه يتعلم مهنة أبيه بسرعة لشغفه في تقليده ومحاكاته في عمله، لذا فإن (من عمل عمل أبيه كفى نصف التعب) (54). ج. سياسة العبيد الرقيق ظاهرة اجتماعية عرفتها مختلف الأمم والشعوب منذ أقدم العصور فكان اتخاذ الخدم منتشراً عند اليهود والنصارى والمسلمين، ولقد واجه الإمام (عليه السلام) سوء معاملة الخدم وأكد على حقهم في الرعاية والرفق والمعاملة الحسنة فإذا كانت ظروف الحياة، وليس الطبع، قد أجبرتهم على العيش معنا، يؤدون لنا من الأعمال والخدمات الكثيرة، إن هذا لا يعني الحط من أقدارهم وهدر إنسانيتهم. لقد آمن (عليه السلام) بإنسانية الإنسان، وألقى في نفسه ما يوقظه على أصل من أصول وجوده، وهو أن طبيعة الكون جعلته حراً لا يتمرد ولا يطيع ولا يعمل ولا يقول إلا على أساس من هذا الحق الطبيعي. وهو بذلك إنما يلقي في نفسه بذور الثورة على كل ما من شأنه أن يضيق عليه ويسلبه حقه في أن يكون حراً. لذلك فهو يتوجه إليه بقوله: (لا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حراً) (55). هذا المفهوم العميق للحرية جعلت رجال الدين والإصلاح يهتمون بعتق العبيد في وقت كان يعتبر فيه الرق نظاماً طبيعياً، ويحد العبد بأنه آلة للحياة ضرورية لضرورة الأعمال الآلية المنافية لكرامة الإنسان الحر. إن عتق العبيد حاجة إنسانية فرضتها كرامة الإنسان وطبيعته الحرة. هذه الحاجة تجسدت في فكر الإمام علي (عليه السلام) وعمله ووجدانه وأصالته ووعيه بعدم أحقية الفوارق والامتيازات بين البشر، تلك التي نتجت عن عهود طويلة من الظلم والإقطاع وممارسة أبشع ألوان استغلال الإنسان لأخيه الإنسان. فليس غريباً إذن أن يعتق الإمام (عليه السلام) العديد من هؤلاء بكده وعرق جبينه كي يعيد إليهم حقهم في حياة حرة كريمة. لهذا فقد (أعتق ألف عبد من كد يده، كل منهم يعرق فيه جبينه وتحفى فيه كفه) (56) كما ذكر جعفر ابن محمد في شرح النهج. حاجة المصاحبة طبيعية بين البشر، بل وحتى في الحيوان ولكنها في البشر أولى لتشعب علاقاتهم وتنوع حاجاتهم ـ وقد اعتبرها الغزالي ثمرة حسن الخلق فقال: (اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق والتفرق ثمرة سوء الخلق، فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق، وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر. ومهما كان المثمر محموداً كانت الثمرة محمودة) (57). والمصاحبة أوصت بها الكتب السماوية والسنن النبوية، وكما كانت من وصايا الأولياء والحكماء والأدباء ورجال الإصلاح لما فيها من أثر مباشر على تماسك المجتمع وصلاحه. إذ لا حياة لقوم إلا بوحدة أبنائه وألفتهم وإنه متى تحققت هذه الوحدة والألفة، تضافرت الجهود والعقول إلى العمل لحياة أفضل، إذ لا شيء وراء الشتات سوى المذلة والهوان، ولقد حذر الإمام (عليه السلام) من الفرقة والاختلاف ودعا إلى اجتماع الكلمة ولملمة الصفوف من خلال وحدة وطنية متراصة دون اعتبار لدين أو لون أو أي اعتبار آخر في سبيل تحقيق الهدف المشترك في التقدم والتطور (فإن جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل) (58). والمصاحبة تتطلب الانسجام في الخلق والمواقف، وهذا لن يكون إلا بحسن اختيار الأخوان والتأكيد على صلاحيتهم لهذا الأمر. وبقدر ما يكون الاختيار مصيباً بقدر ما تكون المصاحبة أكثر ثباتاً واستقراراً، إذ ليس كل أحد من الناس يصلح لأن يكون صديقاً لذا فإن الإمام علي (عليه السلام) يحدد نوع المصاحبة وأثرها فيقول شعراً: فلا تصـــــحب أخـــــا الجــــهلِ وإيّــــــــــــاك وإيّـــــــــــــــــاه فكم مـــــــــن جــــــــاهل أردى حَلِيـــــــــماً حيـــــــــنَ آخـــــاه يقــــــــــاس المـــــــرءُ بالمرء إذا مـــــــا المــــــــــــرء ماشاه وللشـــــــيء مـــــن الشـــــيء مقايـــــــــيس وأشــــــــــــــباه وللقــــــــلب علــــــــى القــــلب دليل حـــــــين يلــــــقاه(59) ويقول أيضاً: إن أخـــــاك الحــــــقّ من كان معك ومن يضـــــــرّ نفســــــه لينفــــعك ومن إذا ريــــــبُ زمــــــان صدعك شتّت فـــــيه شمله ليجمعك(60) إن ندرة الصديق الوفي تقضي بوجوب المحافظة عليه واحترام كافة حقوق الصداقة وذلك من أجل ترسيخ جذورها بحيث لا يؤثر عليها أي طارئ، صغيراً كان أم كبيراً. فالصداقة وذلك من أجل ترسيخ جذورها بحيث لا يؤثر عليه أي طارئ، صغيراً كان أم كبيراً. فالصداقة صنو الوفاء، والوفاء توأم الصدق، والصدق من الإيمان، ولن يصلح إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ولقد دعا (عليه السلام) إلى نشر هذه القيمة الإنسانية السامية بين البشر لأهميتها في رص الصفوف ووحدة الكلمة ووضع الأسس الصالحة لممارستها بما يكفل لها الديمومة والاستمرار، ولن يتم لها ذلك إلا بضمان حقوقها المستندة إلى الوفاء والإخلاص والمحبة ونكران الذات كما جاء في وصية الحسن (عليه السلام): (.. ومن ظن بك خيراً فصدّق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه) (61). أما العداوة فلا معنى لها في منطق الإمام (عليه السلام)، لأنها من شيم النفوس الخبيثة الداعية إلى الحقد والكراهية. لذلك فهو يرفضها حتى في أضيق حدودها ويدعو إلى اعتماد العفو عند المقدرة تيمناً بكتاب الله القائل: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (62) فقال: (إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه) (63). في هذا الباب يدعو الإمام إلى حسن الجوار واحترام حق الجيرة لأن جيران الأسرة من عوامل هناءتها أو شقوتها وعلى قدر ما يكون بينهما من ألف أو خلف، تحلو الحياة أو تسوء، لذا فقد تعوذ الناس بالله من جار السوء، وقال (عليه السلام): (سل عن الرفيق قبل الطريق وعن الجار قبل الدار) (64). والوصية بالجار من الأمور التي دعا إليها الإسلام ووضع لها الشرائع والسنن. فقد أحل الله الجيران محلهم من ضمن الذين يتوجب الإحسان إليهم، فقال عزّ وجلّ: (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً) (65)، وقال الرسول الكريم: (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه) (66). فليس من الإسلام في شيء من يسيء معاملة جاره أو يهضم حقاً من حقوقه أو يطمع في أشيائه أو يشمت وينكل به. لذلك قال الإمام علي (عليه السلام): (وأحسن مجاورة جارك تكن مسلماً) (67). بهذا يكون الإمام علي (عليه السلام) قد صاغ نشاطات الإنسان الفكرية والعملية في قوالب اجتماعية سليمة من خلال تربية عمادها القيم والمبادئ السامية، بهدف خلق جيل يؤمن بالحق والخير والتضحية والفضيلة، (وهل التربية الاجتماعية سوى تعريف الولد بأصول المعاشرة وحسن المعاملة والأمانة والصدق والغيرية ونكران الذات ومحبة الآخرين وحسن السلوك والتعاون والتضحية) (68). |
|
|
|
|
|
|
الهوامش 1- الديمقراطية والتربية، ج1، ص20. 2- سورة البقرة، الآية 228. 3- انظر ح، ج1، ص312. 4- انظر ح، ج1، ص313. 5- الديمقراطية والتربية، ج1، ص4. 6- المقدمة، ص128. 7- المصدر نفسه، ص154. 8- انظر ح، ج16، ص168. 9- المصدر نفسه، ج16، ص168. 10- المصدر نفسه، ج13، ص166. 11- انظر ح، ج13، ص166. 12- علم النفس المعاصر، ص115. 13- علم النفس المعاصر، ص166. 14- انظر ح، ج18، ص271. 15- عبد المنعم وحلمي المليجي، النمو النفسي، دار النهضة العربية، بيروت، ط4، ص224. 16- النمو النفسي، ص220. 17- انظر ح، ج16، ص75. 18- المصدر نفسه، ج19، ص214. 19- انظر ح، ج18، ص260. 20- سورة النور، الآية 51. 21- سورة لقمان، الآية 14. 22- سورة لقمان، الآية 15. 23- سورة الإسراء، الآية 23. 24- سورة الإسراء، الآية 24. 25- مستدرك نهج البلاغة، ص171. 26- المصدر نفسه، ص170. 27- المصدر نفسه، ص171. 28- ابن سينا، السياسة، نشرة الأب لويس معلوف اليسوعي، ص1073. 29- نفسه، ص1073. 30- انظر ح، ج10، ص18-19. 31- ابن سينا، السياسة، ص1074. 32- انظر ح، ج19، ص365. 33- الديمقراطية والتربية، ج2، ص298. 34- قاسم جابر، أخوان الصفاء وآراؤهم السياسة، ص23، دراسة أعدت لنيل شهادة الماجستير في الفلسفة، 1979. 35- انظر ح، ج16، ص221. 36- علي والفلسفة، ص121. 37- سورة الحجرات، الآية 13. 38- سورة البقرة، الآية 228. 39- سورة النحل، الآيتان، 58-59. 40- سورة النساء، الآية 34. 41- مجلة عالم الفكر، م7، ع1، 1976، ص54. 42- سورة يوسف، الآية 28. 43- سورة النساء، الآية 76. 44- تحف العقول، ص140. 45- انظر ح، ج15، ص104. 46- المصدر نفسه، ج15، ص214. 47- سورة الأنعام، الآية 164. فلابدّ والحالة هذه من أن يكون هذا الكلام نابعاً من الخبرة بطبيعة المرأة والمعرفة بدقائق نفسيتها، تلك الخبرة التي استقى أصولها من الإسلام. 48- انظر م، ج1، ص129. 49- انظر ح، ج16، ص122. 50- انظر ح، ج3، ص531. 51- تحف العقول، ص79. 52- انظر ح، ج20، ص318. 53- المصدر نفسه، ج20، ص330. 54- المصدر نفسه، ج20، ص335. 55- انظر ح، ج16، ص93. 56- المصدر نفسه، ج4، ص110. 57- إحياء علوم الدين، ج2، ص157. 58- المصدر نفسه، ج2، ص171. 59- إحياء علوم الدين، ج2، ص171. 60- نفس المصدر. 61- انظر ح، ج16، ص105. 62- سورة البقرة، الآية 237. 63- المصدر نفسه، ج18، ص109. 64- المصدر نفسه، ج16، ص163. 65- سورة النساء، الآية 36. 66- إحياء علوم الدين، ج2، ص212، تحف العقول، ص140. 67- تحف العقول، ص138. 68- التربية، ص189. |