الفهرس

   

الصفحة الرئيسية

 

 

 

حـب الدنيا وتركها
في نـهج الـبـلاغة

 

 

 

 

 

 


ومن مباحث نهج البلاغة التحذير عن الاغترار بالدنيا وعبادة المادة. وما قلناه في الهدف من الزهد في الإسلام يوضح لنا مفهوم ذم الدنيا أيضاً، إذ الإسلام إنما حث على الزهد لأنه المانع عما نهانا عنه من عبادة الدنيا والمادة، وبتوضيح أي واحد من هذين المفهومين يتّضح مفهوم آخر.

ولكن، لأهمية هذا البحث في نفسه، للتأكيد الكثير من الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة على التحذير من الدنيا وعبادتها، عقدنا لذلك فصلاً مستقلاً ليتضح الموضوع أكثر من ذي قبل، ويرتفع بذلك كل إبهام فيه.

ما نبحث عنه أولاً، هو: لما اعتنى الإمام أمير المؤمنين ومن قبله رسول الله ومن بعده سائر الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين) بهذا الأمر كثيراً، فتكلموا الكثير في التحذير عن الاغترار بالدنيا وفي فنائها وزوالها وزلاتها وعثراتها وأخطار الاعتناء بجمع المال والثروة، والتوفر على النعم، والمتع المادية والانهماك بها؟ فنقول:

- الواجهة الخاصة لكلام الإمام (عليه السلام) وأخطار الغنائم على عهد الخلفاء

لم يكن هذا بمحض الصدفة، بل أن ذلك يرتبط بسلسلة من الأخطار العظيمة التي كانت قد أقبلت على العالم الإسلامي آنذاك من لدن عهد الخلفاء السابقين ولا سيما دور عثمان الذي انتهى الأمر بعده إلى الإمام (عليه السلام)، وذلك من قبل سياستهم المالية وكيفية إدارتهم لثروات الغنائم والفتوحات الإسلامية على عهدهم ونوعية توزيعهم لها وتداولها بينهم.

وكان الإمام (عليه السلام) قد أدرك هذه المخاطر فكافحها مكافحة عملية على عهده، حتى ضحى بنفسه في هذا السبيل، ومكافحة كلامية بالخطب والكتب وسائر كلماته (عليه السلام).

حظي المسلمون بفتوحات كبيرة، ممّا هطل على العالم الإسلامي بثروة كثيرة، ثروة استقرت في أيدي شخصياتها بدلاً من أن تقسم بالتساوي بين جميع الأفراد، أو تصرف في المصارف العامة لهم. واشتد هذا الأمر في زمن عثمان بقوة طاغية، ممّا أكسب أولئك الأفراد المعدودين الذين لم يكن لهم من قبل أية ثروة أو رأسمال، ثروة بغير حساب. وعملت الدنيا حينئذ عملها فأفسدت من الأمة الإسلامية أخلاقها. وكان نداء الإمام (عليه السلام) حينذاك بسبب الإحساس بهذا الخطر العظيم!

كتب المسعودي في أحوال عثمان يقول: (.. وكان عثمان في نهاية الجود والكرم والسماحة والبذل في القريب والبعيد (من بيت المال طبعاً!) فسلك عماله وكثير من أهل عصره طريقته وتأسوا بفعله. وبنى داره بالمدينة وشيدها بالحجر والكلس، وجعل أبوابها من الساج والعرعر، واقتنى أموالاً وجناناً وعيوناً بالمدينة. وذكر عبد الله بن عتبة أن عثمان يوم قتل كان له عند خازنه من المال: خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم، وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار، وخلف خيلاً وإبلاً كثيرة).

ثم كتب يقول: (... وفي أيام عثمان اقتنى جماعة من الصحابة الدور والضياع، منهم الزبير بن العوام، بني داره بالبصرة - وهي المعروفة في هذا الوقت وهو سنة 332 ينزلها التجار وأرباب الأموال وأصحاب الجهاز من البحرين وغيرهم. وابتنى أيضاً دوره بالكوفة، ومصر، والإسكندرية. وما ذكرنا من دوره وضياعه فمعلوم غير مجهول إلى هذه الغاية. وبلغ ثمن ملك الزبير بعد وفاته: خمسين ألف دينار، وخلّف الزبير ألف فرس وألف عبد وأمة، وخططاً بحيث ذكرنا من الأمصار.

وكذلك طلحة بن عبيد الله التيمي ابتنى داره بالكوفة في الكناسة، المشهورة في هذا الوقت بدار الطلحيين. وكانت غلته من العراق في كل يوم ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وبناحية الشراة أكثر ممّا ذكرنا، وشيد داره بالمدينة وبناها بالجس والآجر والساج.

وكذلك عبد الرحمن بن عوف الزهري، ابتنى داره ووسعها، وكان على مربطه مائة فرس، وله ألف بعير، وعشرة آلاف شاة من الغنم، وبلغ بعد وفاته الربع من ماله: أربعة وثمانين ألف دينار.

وابتنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق، فرفع سمكها ووسع فضاها، وجعل أعلاها شرفات.

وقد ذكر سعيد بن المسيب: أن زيد بن ثابت حين مات خلّف من الذهب والفضة ما يكسر بالفؤوس، غير ما خلّف من الأموال والضياع بقيمة: مائة ألف دينار.

وابتنى المقداد داره بالمدينة في الموضع المعروف بالجرف على أميال من المدينة وجعل أعلاها شرفات وصيّرها مجصّصة الظاهر والباطن.

ومات يعلي بن منبه وخلف خمسمائة ألف دينار، وديوناً على الناس وعقارات، وغير ذلك من التركة ما قيمته ثلاثمائة ألف دينار.

ثم قال: (وهذا باب يتسع ذكره ويكثر وصفه فيما تملك من الأموال في أيامه..)(1).

وواضح أن هذه الثروات الطائلة لا تنبع من الأرض ولا تنزل من السماء، وما لم يكن هناك إلى جانبها حقوق مضيّعة من فقراء مدقعين لا تتيسّر هذه الثروات.

فلهذا يحذر الإمام (عليه السلام) الناس عن عبادة الدنيا ويقول في الخطبة: 127: (.. وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر إلا إقبالاً، ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً، فهذا أو أن قويت عُدته، وعمّت مكيدته، وأمكنت فريسته. اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل تبصر إلا فقيراً يكابد فقراً، أو غنياً بدل نعمة الله كفراً، أو بخيلاً اتخذ البخل بحق الله وفراً، أو متمرداً كأن بإذنه عن سمع المواعظ وقراً. أين خياركم وصلحاؤكم وأين أحراركم وسمحاؤكم؟ وأين المتورعون في مكاسبهم والمتنزهون في مذاهبهم)؟

أجل! إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، وقد رزق المسلمين من سيل النعم بغير حساب، ولكن توزيعه غير العادل على أساس التمييز الطبقي هو الذي أصاب المسلمين بداء (سكر النعم)!

وكان الإمام (عليه السلام) يكافح هذا الخطر العظيم الذي كان قد أصاب الإسلام وأخذ يجر ويلاته على المسلمين، وكان يتفقد كل من كان مساهماً في إيجاد هذا الداء الوبيل! وكان (عليه السلام) يسير هو في حياته العملية الفردية الخاصة على ضد هذه السيرة غير المرضية، وحينما بلغ إلى الخلافة جعل ذلك في رأس قائمته الإصلاحية الجادة.

وكان (عليه السلام) يشير إلى هذه النقطة الهامة: (سكر النعم) ويقول: (ثم أنكم معشر العرب أغراض بلايا قد اقتربت، فاتقوا سكرات النعمة واحذروا بوائق النقمة).

ويذكّرهم عواقب هذه السكرات، ويرى أن لهم منها مستقبلاً وخيماً: (... ذاك حيث تسكرون من غير شراب، بل من النعمة والنعيم..).

قدمنا هذا الكلام هنا لتتضح لنا الواجهة الخاصة لكلمات الإمام (عليه السلام) في ذم الدنيا، وهي أنها كانت متجهة إلى ظاهرة اجتماعية خاصة في ذلك العصر العصيب.

وإذا تجاوزنا هذه الواجهة الخاصة لكلماته (عليه السلام) نجد لها - ولا شك - واجهة عامة لا تختص بذلك العصر، بل تشمل جميع الأعصار والقرون، بل هي من التعاليم التربوية العامة في الإسلام، نابعة من القرآن الكريم وكلمات الرسول العظيم (صلّى الله عليه وآله). ويجب أن تتضح لنا هذه الواجهة العامة لكلامه (عليه السلام) أيضاً بل نحن نولي في كلامنا هنا بهذه الواجهة العامة اهتماماً أكثر وأكبر، إذ هي الواجهة التي يخاطب بها الإمام (عليه السلام) جميع الناس في جميع العصور.

- الواجهة العامة لكلام الإمام

لكل مدرسة فكرية أسلوبها الكلامي الخاص، ولابد لمن يريد أن يدرك مفاهيمها كاملة من أن يتعرف على أسلوبها في البيان، ولابد لمن يريد أن يتعرف على أسلوبها من أن يدرك وجهتها الخاصة في نظرتها العامة إلى الإنسان والوجود.

وللإسلام وجهة نظره الواضحة إلى الحياة، فهو ينظر إلى الكون وحياة الإنسان بنظرة خاصة، من أصول هذه النظرة: أن لا ثنوية في العالم، فلا ينقسم العالم في نظر الإسلام إلى قسمين خير وشر، حسن وقبيح، ينبغي أن يكون وينبغي أن لا يكون، بل أن منطق الإسلام يقول: إن القول بهذا كفر ومجوسية: (اعملوا.. فكل ميسّر لما خلق له) من خير وحكمة وغاية، ولا شيء من غير غاية: (الذي أحسن كل شيء خلقه ثم هدى)(2).

إذن، فلا يمكن أن يكون ذم الدنيا في منطق الإسلام متوجهاً إلى الحياة، إذ أن منطق الإسلام المبني على أساس التوحيد الخالص بما يشمل التوحيد القوة الفاعلة في العالم، والنافي لأي شريك لله في الخلقة والتكوين، لا يمكن أن ينظر إلى العالم نظرة سيئة مقيتة، وإن فكرة (الفلك الظالم) و(ظلم الدهر) فكرة غير إسلامية.

إذن فماذا يعني ذم الدنيا في القرآن ونهج البلاغة؟

- ما هي الدنيا المذمومة

قد يقول البعض أن ذلك يعني العلاقة القلبية.

وأقول، إن أراد هؤلاء بالعلاقة القلبية الارتباط العاطفي بالدنيا، فلا يمكن أن يكون كلاماً صحيحاً، إذ أن هذه العلاقة حلقة من سلسلة من العواطف المخلوقة معه في فطرته الطبيعية الأولى، وهي من طينته في الصميم، وهي ممّا لم يكتسبه الإنسان بنفسه، وكما أنه ليس في بدن الإنسان عضو زائد خلق عبثاً، كذلك ليس في عواطفه وأحاسيسه شيء زائد عبث، بل أن عواطفه كلها مخلوقة لغاية حكيمة عبّر عنها القرآن الكريم بآيات حكمة الخالق الحكيم: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)(3). إن هذه العواطف روابط تربط الإنسان بالحياة، سعياً نحو التكامل، وكما لا نستطيع أن نحكم على العالم بالطرد واللائمة، كذلك لا نستطيع أن نعد هذه العواطف الطبيعية زائدة بدون فائدة، فإنها من أجزاء الحياة.

إذن، فليس المقصود من ذم الدنيا، ذم الحياة، ولا ذم العلاقات الطبيعية والفطرية.

بل أن المقصود من ذلك، هو ذم العلاقة القلبية الموجبة لأسر الإنسان بيد الدنيا ومن في يده شيء منها. وهذا هو الذي يسميه الإسلام، عبادة الدنيا، وهو الذي يكافحه الإسلام مكافحة شديدة والإسلام في هذا يريد أن يردّ الإنسان إلى حالته الطبيعية في ضمن ناموس الحياة، فإن الإفراط في علاقة الإنسان بالدنيا خروج عن حالته الطبيعية.

- هل الدنيا سجن المؤمن

هناك العديد من المذاهب الفلسفية تنظر إلى الحياة نظرة ملؤها الشر والغضب، وهي تحسب أن هناك نقصاً في العالم أو تناقضاً، وإن الإنسان أسمى من أن يعيش في هذه العالم، فليست هناك أية رابطة - في نظرها - تربط الإنسان بهذه الحياة إلا علاقة السجين بسجنه أو الواقع في البئر، فلا نجاة له إلا أن يتخلص من شرور هذه الحياة.. فهل الإسلام ينظر إلى الحياة بهذه النظرة أيضاً؟ كلا.

إن الإسلام - المتمثل في نهج بلاغة الإمام (عليه السلام) - يرى علاقة الإنسان بالدنيا كعلاقة الزارع بزرعه: (الدنيا مزرعة الآخرة) أو علاقة التاجر بالمتجر: (إن الدنيا متجر أولياء الله)(4) أو علاقة المسابق بميدان السباق: (ألا وإن اليوم المظمار وغداً السباق، والسبقة الجنة والغاية النار)(5) أو علاقة العابد بالمسجد: (الدنيا.. مسجد أحباء الله)(6).

ويمكننا أن نلخص القول في وجهة نظر نهج البلاغة إلى الحياة في الحكمة 131 من كلمات ردّ بها الإمام (عليه السلام) على من سمعه يذم الدنيا (غداة الندامة) وهو يحسبها (متجرمة عليه)، بناء على فكرة (الفلك الظالم) و(جور الدهر) كما يتبين هذا من مطاوي كلامه (عليه السلام):

(أيها الذام للدنيا، المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها ثم تذمها! أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟! متى استهوتك أم متى غرتك! أبمصارع آبائك من البلى أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟! كم عللت بكفيك وكم مرضت بيديك؟ أتبغي لهم الشفاء وتستوصف لهم الأطباء، لم ينفع أحدهم إشفاقك ولم تسعف فيه بطلبتك، ولم تدفع عنهم بقوتك. قد مثلت لك به الدنيا نفسك وبمصرعه مصرعك.

إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها.

مسجد أحباء الله ومهبط وحي الله، ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة وربحوا فيها الجنة.

فمن ذا يذمها وقد أذنت بينها ونادت بفراقها ونعت نفسها وأهلها؟ فمثلت لهم ببلائها البلاء، وشوقتهم بسرورها إلى السرور، راحت بعافية وابتكرت بفجيعة ترغيباً، وترهيباً، وتخويفاً، وتحذيراً.

فذمها رجال غداة الندامة، وحمدها آخرون يوم القيامة، ذكرتهم الدنيا فتذكروا، وحدثتهم فصدقوا، ووعظتهم فاتعظوا).

وخلاصة ما يستفاد من كلام الإمام (عليه السلام)، هو أنه سمع رجلاً قد اغتر بغرور الدنيا وخدع بأباطيلها، فلما ندم ذمها غداة الندامة، وهو يحسب أنها هي المتجرمة عليه، فرد الإمام: بأنك أنت المتجرم عليها، لأنك أنت المغتر بغرورها المخدوع بأباطيلها، ولكن ليست هي التي استهوتك وغرتك، بل قد أذنت ببينها ونادت بفراقها ونعت أهلها ونفسها، تخويفاً وتحذيراً وترهيباً فما تخوفت وما حذرت، بينما تذكر رجال آخرون فصدقوها واتعظوا بها، فجعلوها مسجداً ومصلى، ومكسباً ومتجراً ترددوا منه فربحوا الجنة، وسيحمدها هؤلاء يوم القيامة، وتذمها أنت يوم الندامة. فأنت المتجرم عليها لا هي المتجرمة، وليست عليها بل عليك الملامة!

إذن، فالإسلام لا يرى العالم عبثاً، ولا وجود الإنسان فيه خطأً، ولا عواطفه الفطرية غلطاً.. وإذن: فماذا يعني ذم الدنيا في نهج البلاغة؟

ونقول: من غرائز الإنسان الطبيعية غريزة التعبّد والتقديس، والسعي وراء السعادة والكمال، وما يرتبط به ويعتمد عليه أكثر من ارتباط عادي، يجعله منتهى مناه وكل أمله. وهنا إذا لم يهتد الإنسان إلى الصراط المستقيم في قدسه وأمله، فسوف يضل عن الصراط السوي ويتيه في متاهات الضلالة، سادراً في الغي يخبط في عمياء لا يهدي سبيلاً، وحينذاك تتبدل (الوسيلة بالغاية) و(الطريق بالهدف) و(وسيلة النجاة بسلاسل الأسر والعبودية) وحينئذ تتبدل حرية حركته ونشاطه ومساعيه إلى أسر وعبودية وجمود. وهذا هو الذي ينبغي أن لا يكون، وهو على خلاف نظام التكامل في الحياة، بل هو نقص ونوع من الفناء لا البقاء، وهو آفة الإنسان في معاشه، ويراه الإمام والإسلام خطراً ينبه للحذر منه. ولا شك أن الإسلام يعد الإنسان إزاء هذه الحياة بحياة أخرى أفضل منها بمراتب، ولا يرى لهذه الحياة الدنيا ما ينبغي أن تكون غاية مناه ومنتهى آماله، بل يراها مجالاً لأعمال صالحة تصبح وسيلة إلى السعادة الدائمة، ويرى الإنسان أمسى وأعز من أن يكون عبداً لها ولمن في يده شيء منها!

ولهذا نرى الإمام (عليه السلام) يؤكد عل حسن هذه الحياة، ولكن ليس ذلك إلا لمن لم يرض بها دار مقر دائم، فيقول: (ولنعم دار لمن لم يرض بها داراً..) ويكرر: (الدنيا دار مجاز لا دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم) والإنسان حر طليق، ولهذا فإن كل أسر أو قيد أو حدّ، يحدّ من شخصيته وعظمته.

- ما هي الدنيا المذمومة؟

قلنا فيما سبق: إن ما يراه الإسلام ممّا لا ينبغي أن يكون في علاقة الإنسان بالدنيا هو: أن يتعلق بها قلبه حتى يصبح أسيراً لها ولمن في يده شيء منها، ولا تسري هذه النظرية السلبية إلى الدنيا من هذا الإطار إلى حياة الإنسان فيها حتى ولو كانت حرة كريمة هادفة واعية.

وقلنا، إن الذي يحاربه الإمام والإسلام في تعاليمه وإرشاداته حرباً لا هوادة فيها هو أن يجعل المرء هذه الحياة هدفاً وغاية لا طريقاً ووسيلة.

وذلك، لأنه لو أصبحت علاقة الإنسان بهذه الحياة بصورة يكون معها طفيلياً على الحياة تابعاً لها ولمن في يده شيء منها، أصبحت الحياة له موتاً وسموماً! وحطمت كل ما في نفسه من المثل الإنسانية السامية، إذ أن قيمة كل امرئ بهدفه في الحياة، فلو لم يكن له أي هدف في الحياة سوى ملء بطنه وكانت مساعيه كلها في هذه الحدود، لم يكن له قيمة سوى ما يهدف له: (من كانت همتهم بطنه فقيمته ما يخرج من بطنه)!

إذن، فالكلام كله حول كيفية علاقة الإنسان بهذه الحياة كيف يجب أو كيف ينبغي أن تكون؟ إن هناك صورة يصبح الإنسان فيها بهدفه في (أسفل السافلين) وأخسّ موجود في الحياة: (إِنْ هُمْ إِلاَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً)(7) وتتحطم فيها جميع قيمه ومثله الإنسانية السامية، ويخرج فيها بصورة حيوانية منكوسة!

وهناك صورة أخرى لهذه العلاقة على العكس من الصورة السابقة تماماً، أي بدل أن يكون الإنسان يضحي بإنسانيته في سبيل الحياة، تنحسر هاهنا الدنيا وما فيها أمام الإنسان، ويصبح كل ما فيها في سبيل خدمة المصالح الإنسانية، ويكون كما في الحديث القدسي: (.. يا بن آدم! خلقت الأشياء لأجلك، وخلقتك لأجلي..).

وقد أتينا فيما سبق بشواهد من نهج البلاغة على هذا، وهنا نأتي بشواهد أخرى من نهج البلاغة والقرآن الكريم، ونبدأ بشواهد القرآن، فنقول:

تنقسم الآيات القرآنية الكريمة التي تتعلق بعلاقة الإنسان بالدنيا إلى قسمين:

القسم الأول: آيات تدل على فناء الدنيا وزوالها، وعدم ثباتها، وتغيرها وتنكرها، وانتقالها بأهلها حالاً بعد حال.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)(8).

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ)(9).

وبديهي أن الإنسان في حياته المادية ليس بأكثر من النباتات التي ينتظرها هذا المصير المحتوم، أراد أم كره. إذن، فلو أراد أن يكون واقعياً في نظرته إلى الحياة لا شاعراً خيالياً والإنسان إنما ينال السعادة بالواقعية لا بالأوهام والخيالات - فلابدّ له من أن يجعل هذه الحقيقة نصب عينيه، ثم لا يغفل عنها أبداً، (وكفى بالموت واعظاً لمن اتعظ).

ولكن هذا القسم من الآيات القرآنية إنما هو في الحقيقة مقدمة تمهيدية، بل صغرى وكبرى قياس واحد لنتيجة تالية في القسم الثاني من الآيات، فإن هذه الطائفة من الآيات تحاول أن تخرج الحياة الدنيا من تصاويرها هدفاً وغايةً للإنسان في الحياة، وأن تشير إلى أن هذه الحياة الزائفة الزائلة لا ينبغي أن تكون هدفاً للإنسان وغاية له، ولو كانت هي الهدف لكانت الحياة كلها فارغة جوفاً، ولكن هناك من بعد هذه الحياة حياة أخرى دائمة باقية خالدة، هي عالم الآخرة، ينبغي أن يكون هو الهدف والغاية.

والقسم الثاني من الآيات: يسلط الأضواء واضحة صريحة على مشكلة علاقة الإنسان بهذه الحياة، بما نرى فيها صريحاً، أن الذي يحكم الإسلام عليه بأن لا يكون هو: أن يتعلق الإنسان بهذه الحياة تعلق أسر وذلة وقناعة. والآيات هي:

1ـ (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً)(10).

فهذه الآية الكريمة بينما تنتقد المال والبنين بأنها ليست بأكثر من زينة في الحياة الدنيا، تجعل بمكانها الأمل الوحيد للإنسان في هذه الحياة: الباقيات الصالحات إذ هي خير ثواباً وخير أملاً، أي ترى أن تكون هي الأمل لا الزينة.

2ـ (إِنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)(11).

وهذه الآية أيضاً إنما تنتقد أن يرضى الإنسان بالحياة الدنيا ويطمئن إليها ويغفل عن آيات الله ولا يرجو لقاء الله سبحانه، فإما أن لا يغفل عن آيات الله ويرجو لقاء الله، فلا بأس.

3ـ (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)(12).

وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد من يتولى عن ذكر الله ولم يرد إلا الحياة الدنيا، فأما من لم يتول عن ذكر الله وأراد الآخرة وسعى لها سعيها، فلا بأس عليه.

4ـ (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَ مَتَاعٌ)(13).

وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يفرحون بهذه الحياة الدنيا ولا يضمرون للآخرة أي حزن أو سرور، بل لا يعدون للآخرة أي إعداد، إذ لا يعدونها في الحياة الدنيا إلا قليلاً، فأما من لا يعد الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليلاً. ولا يعد للحياة الدنيا إلا قليلاً أيضاً، بل إنما يضمر فرحته ويعد عدته ويسعى سعيه للآخرة، فلا بأس عليه أيضاً.

5ـ (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ)(14).

وهذه الآية الكريمة أيضاً إنما تنتقد الذين يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، ثم هم يغفلون بها عن الآخرة فلا يعلمون عنها أي شيء، أما من يعلم الآخرة علماً قطعياً، ويعلم واقع الحياة - كما في القسم الأول من الآيات - عن يقظة وشعور، فلا بأس عليه أيضاً.

فأنت ترى: أن الذي حكم عليه في جميع هذه الآيات بالنفي والتنفيذ وأن لا يكون، هو أن تصبح الدنيا أمل الإنسان الذي يرضاه، وزاده الذي يقنع به، وطمأنينته التي يفرح بها. وهكذا علاقة من الإنسان بالحياة هي التي تجعل الإنسان في خدمة الحياة وضحية ساقطة في ميادينها، بدلاً من أن تجعل الدنيا في خدمة الإنسان.

هذه هي نظرية الإسلام المتمثلة في القرآن الكريم في شأن علاقة الإنسان بالدنيا.

والإمام علي (عليه السلام) أيضاً يتبع نفس هذا الأسلوب القرآني في نهج البلاغة:

فنرى أن كلماته (عليه السلام) بهذا الصدد تنقسم أيضاً إلى نفس القسمين:

* قسم شرح فيه الإمام: فناء الدنيا وزوالها وتغيرها وانتقالها، بأوصاف دقيقة وتشبيهات وكنايات واستعارات بليغة.

* وفي القسم الثاني: يستنتج نفس النتيجة القرآنية السالفة:

ففي الخطبة 32 يقسم الإمام الناس إلى قسمين، أبناء الدنيا وأبناء الآخرة. ثم يرجع إلى أبناء الدنيا فيصنفهم على أربعة أصناف.

يقول (عليه السلام): (... فالناس على أربعة أصناف:

أ) منهم من لا يمنعه من الفساد إلا مهانة نفسه وكلالة حده ونضيض وفره.

ب) ومنهم المصلت سيفه والمعلن بشرّه، والمجلب بخيله ورجله، قد أشرط نفسه وأوبق دينه، لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه.

ج) ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه، وشمّر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية.

د) ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصّرته الحال عن حاله، فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة. وليس من ذلك في مراح ولا مغدى)(15).

فالإمام (عليه السلام) يعد هؤلاء الأصناف الأربعة - على رغم اختلاف وجهات نظرهم في الحياة - فرقة واحدة، هم من أهل الدنيا. وذلك، لأنهم يشتركون في وجهة واحدة هي ما عبر عنها بقوله: (.. ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمناً، وعما لك عند الله عوضاً).

إذن، فالمسالة مسألة تضحية الإنسانية في سبيل خدمة الدنيا، والعكس من ذلك.

وقد كتب (عليه السلام) في وصيته لولده الإمام الحسن (عليه السلام) أو محمد بن الحنفية - كما في تحف العقول وابن ميثم البحراني - يقول: (أكرم نفسك عن كل دنية، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك ثمناً)(16).

وفي (تحف العقول) عن الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) أنه سئل: من أعظم الناس خطراً؟ فقال (عليه السلام): (من لم ير الدنيا خطراً لنفسه)(17).

ويتضح لنا من هذه النظرة الفاحصة في القرآن ونهج البلاغة، أن الإسلام لم يبخس من قيمة الدنيا شيئاً، بل إنما استهدف من ذلك إحياء القيم والمثل الإنسانية السامية، وإن تكون الحياة في خدمة الإنسان لا الإنسان في خدمة الحياة، وبالتالي ما أراده الله إذ قال: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(18).

وفي تاريخ حياة الإمام الصادق (عليه السلام) في (بحار الأنوار): أن له (عليه السلام) من الشعر قوله:

أنا من بالنفس النفيسة ربها***وليس لها في الخلق كلهم ثمن(19)

ومن هذا القبيل أحاديث كثيرة نمسك عن نقلها هنا خوف التطويل.

- هل الدنيا والآخرة ضرتان

روى السيد الشريف الرضي (رضي الله عنه) في الجزء الثالث من نهج البلاغة في باب المختار من حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) ومواعظه، أنه قال:

(إن الدنيا والآخرة عدوان متفاوتان، وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها أبغض الآخرة وعاداها. وهما بمنزلة المشرق والمغرب وماش بينهما، كلما قرب من واحد بعد من الآخر، وهما بعد ضرتان).

وهنا يتجه أن نتساءل ما معنى هذا؟ وكيف نجمع بينه وبين ما سبق ممّا استفدناه من منطق القرآن ونهج البلاغة في شأن الدنيا؟

وللإجابة نقول: أولاً، إن من الضروري أن الإسلام لا يمنع من الجمع بين العمل للآخرة وللدنيا بمعنى الاستفادة منها، وإنما الممنوع منه في الإسلام هو الجمع بينهما بمعنى الهدف والغاية.

وبعبارة أخرى نقول، إن الاستفادة من الدنيا ليست ممّا يوجب الحرمان من نعم الآخرة قطعاً، وإنما الذي يوجب ذلك هو ارتكاب الذنوب والآثام لا الاستفادة المباحة من نعم الله الحلال في الدنيا: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(20).

والعكس صحيح أيضاً، فليس الإيمان والعمل الصالح ممّا يوجب حرمان العبد من الدنيا وما فيها أبداً، إذ كان كثير من الأنبياء والمرسلين والأئمة وعباد الله الصالحين الذين لا يشك في إيمانهم وصلاحهم متنعمين بكثير من حلال الله في الدنيا.

إذن فنقول، لنفترض أنا فهمنا من هذه الرواية ما يوهم أن بين الدنيا والآخرة عداوة ومنافرة، فإنا سنرفع اليد عنه بحكم تلك الأدلة القطعية المخالفة.

وثانياً نقول: نحن لو أمعنا النظر في هذا التعبير توصلنا إلى نقطة بليغة لا يبقى معها منافرة بين هذا التعبير مع تلك الأصول المسلّمة القطعية. ولكي تتضح لنا تلك النقطة نقدم مقدمة، فنقول:

إن علاقة الإنسان بالدنيا لا تخلو من إحدى حالات ثلاث:

1ـ أن يجعل الدنيا أكبر همّه، والآخرة - مع ذلك - نصب عينيه!

2ـ أن يجعل الدنيا أمام عينيه، والآخرة خلف ظهره.

3ـ أن يجعل الدنيا وسيلة، والآخرة غاية.

فالحالة الأولى: هي حالة العداوة والمنافرة، وهي الحالة التي يكون فيها مثلهما كمثل الضرّتين، أو المشرقين والمغربين والماشي بين هذين.

وأما الحالة الثانية: فهي - والأولى - التي ورد النهي عنها في الآيات والروايات.

وأما الحالة الثالثة: فهي - فقط - التي ارتضاها الله لنا ورسوله (صلّى الله عليه وآله).

إن المضادة بين الدنيا والآخرة إذ تجعل أحدهما هدفاً والآخر وسيلة تكون من نوع المضادة بين الناقص والكامل، فإذا كان الهدف هو الناقص لزم الحرمان عن الكامل، أما إذا كان الهدف هو الكامل لم يلزم الحرمان عن الناقص، بل لازم الاستفادة من الناقص في سبيل الوصول إلى الكامل بصورة إنسانية معقولة وسامية، كما أن الأمر كذلك في النسبة بين كل تابع ومتبوع، إذ لو كان غرض الإنسان الاستفادة من التابع لزم حرمانه عن المتبوع، أما إذا كان غرضه الاستفادة من المتبوع تابعه التابع بنفسه.

وفي الحكمة 269 من نهج البلاغة إشارة واضحة إلى هذا، حيث يقول (عليه السلام):

(الناس في الدنيا عاملان:

عامل في الدنيا للدنيا، قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلف الفقر ويأمنه على نفسه، فيفني عمره في منفعة غيره.

وعامل عمل في الدنيا لما بعدها، فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز الحظين معاً، وملك الدارين جميعاً، فأصبح وجيهاً عند الله لا يسأل الله حاجة فيمنعه).

وقد جاءت هذه النسبة بين الدنيا والآخرة: أن الآخرة هي المتبوعة وأن الدنيا هي التابعة لها، وأن تبعية الدنيا تبعية للتابع تستلزم الحرمان عن المتبوع الأصل وهو الآخر، ولكن تبعية الآخرة تبعية للمتبوع تستلزم تبعية الدنيا لها.. جاءت هذه النسبة في القرآن الكريم، في الآيات 145-148 من سورة آل عمران بالصراحة، وفي آيات، 18 و19 من سورة الإسراء، والآية 20 من سورة الشورى بتلويح كالتصريح.

- اعمل لدنياك.. واعمل لآخرتك..

وهناك حديث آخر كثر السؤال والنقاش حوله:

روي عن الرسول (صلّى الله عليه وآله) تارة، وعن الإمام (عليه السلام) أخرى، وعن ابنه الإمام المجتبى (عليه السلام) في وصيته لجنادة بن أمية أيضاً، بألفاظ مختلفة ومضمون واحد: (كن لدنياك كأنك تعيش أبداً، وكن لآخرتك كأنك تموت غداً).

فقال البعض: إن معنى هذا الحديث هو أن يتسامح الإنسان في عمل الدنيا ولا يعجل، فكلما عرض له عمل للدنيا يقول: إني أعيش هنا أبداً، فلا داعي لي أن أقوم به الآن. فسأفعله بعد، فإنه لا يفوتني... ولكنه بالنسبة إلى عمل الآخرة يقول: سأموت غداً وليس لي سوى هذا اليوم، فالوقت ضيق وسيفوتني إن لم أقم به الآن.

ولم يصدق الآخرون أن يأمر الإسلام وأئمته بالتساهل والمسامحة، ولم يروا في سيرتهم (عليهم السلام) ذلك. فقالوا: إن معنى هذا الحديث هو: أن يقول الإنسان في العمل للدنيا: إني أعيش هنا أبداً، فلا ينبغي لي أن احتقر الأعمال فأفعلها بصورة مؤقتة بحجة عدم وفاء الدنيا وعدم وفاء العمر فيها، بل يجب علي أن أقوم بها بصورة أساسية أضمن فيها المستقبل لنفسي فإني سأعيش هنا أبداً، وعلى فرض عدم بقائي بها أبداً سيستفيد من عملي الآخرون بعدي فيها. وبالنسبة إلى عمل الآخرة يقول: سأموت غداً فلا فرصة في للقيام به بعد هذا، فيصلي - مثلاً - صلاة المودع للحياة، ويصوم كذلك، ويؤدي الديون وحقوق الناس كذلك، وهكذا..

وأقول: إن هذا الحديث من ألطف الأحاديث في الدعوة إلى العمل وترك الإهمال، سواء في الأمور الدينية والأخروية أو الدنيوية.

وللمثال نقول: إذا كان الشخص يعيش في دار يعلم بأنه سوف ينتقل منها إلى دار أخرى يعيش فيها أبداً، ولكنه لا يعلم متى يكون هذا الانتقال لا اليوم ولا الشهر ولا السنة.. فهو يعيش حالة التردد في تعهد العمران بالنسبة إلى كلا الدارين، إذ لو كان يعلم أنه سينتقل من هذه الدار في القريب العاجل جداً كان يصرف همّه للعمل لتلك الدار ويهمل العمل لهذه، وبالعكس إذا كان يعلم أنه سوف لا ينتقل من هذه الدار إلا بعد لأي من الزمن فإنه سيصرف همه لتعهد العمران في الدار التي هو فيها ويهمل العمل للأخرى ويقول في نفسه: يجب عليّ الآن أن أعمل لهذه الدار أنا فيها، وأما الأخرى فسوف نصل للعمل لها فيما سيأتي من الأيام، فإن الفرص كثيرة، والأقرب يمنع الأبعد.

وفي حالة التردد - الأولى - يأتي دور هذا الحديث ليقول له: بالنسبة إلى هذه الدار التي أنت بها الآن افترض أنك تعيش فيها دهراً من الزمن، فإن كانت بحاجة إلى العمران فتعهدها بالتشييد والإتقان.. وبالنسبة إلى تلك الدار الأخرى افترض بالعكس إنك ستنتقل إليها غداً، فعجل عمرانها وتشييدها قبل الفوت وقبل الموت.

والنتيجة الحتمية لهذه النظرة إلى الحياة الدنيا والأخرى: أنه سيعمل بجد لكلا الدارين.. فلنفترض أن إنساناً مسلماً يريد أن يطلب علماً أو يؤلف كتاباً أو يؤسس مؤسسة خيرية تستغرق ردحاً من الزمن، فإن كان يعلم أن عمره لا يكفي للقيام بهذا العمل وأنه سيبقى أثراً ناقصاً، فهنا يقال له: افترض أن عمرك أطول من جميع هذه الأعمال. ولكن نفس هذا الشخص إذا أراد أن يقوم بعمل من عمال الآخرة من التوبة والصلاة والزكاة وأداء الحقوق التي عليه لله وللناس وقضاء ما فات منها، فإنه يقال له: افترض أنك تموت غداً (فعجل بالتوبة قبل الموت، وبالصلاة قبل الفوت) و(صل صلاة المودع) إذ لو كان هنا أيضاً يفترض أنه سيعيش أبداً فإنه سوف يسوّف في الأعمال حتى تبلغ به الآجال.

وتبين من هذا المثال: أن افتراض بقاء الوقت في بعض الموارد يستلزم الإقدام على العمل، وافتراض قلة الوقت يستلزم الإحجام عنه. وفي بعض الموارد الأخرى يكون الأمر على عكس هذا تماماً، أي أن افتراض بقاء الوقت يستلزم الإهمال والإحجام عن العمل، وافتراض قلة الوقت يستلزم الإقدام عليه. إذن فالفرق بين الفرضين هو الفرق ين الموردين، فاللازم أن نفترض في كل مورد ما ينتهي بالإنسان إلى الإقدام على الأعمال، سواء كان من عمل الدنيا أو الآخرة.

ويصطلح الأصوليون هنا بقولهم: إن لسان الدليل هنا إنما هو لسان التنزيل والتمثيل، فلا مانع من أن يكون التنزيلان متضادين من جهتين.

ويكون ملخص معنى الحديث هو: القول في بعض الأعمال بأصالة الحياة وبقائها ودوام العمر فيها. وفي البعض الآخر القول بأصالة عدم بقاء العمر وقلته فيها. والضابط هو: القيام بالأعمال وعدم الإهمال سواء في عمل الدنيا أم الآخرة.

وليس ما قلناه من المعنى هنا توجيهاً بلا دليل، بل أن هناك عدة روايات أخرى توضح لنا مفهوم هذا الحديث على ما قلناه هنا، وإنما وقع الخلاف فيه لعدم الالتفات إلى تلك الروايات:

1ـ فقد نقل المرحوم المحدث القمي (رحمه الله) في كتابه (سفينة البحار) في مادة (رفق): أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قال لجابر بن عبد الله الأنصاري: (إن هذا الدين لمتين، فأوغل فيه برفق.. فاحرث حرث من يظن أنه لا يموت، واعمل عمل من يخاف أن يموت غداً)(21).

2ـ وفي (الكافي) فيما أوصى به رسول الله (صلّى الله عليه وآله) علياً (عليه السلام) قال: (إن هذا الدين متين، فاعمل عمل من يرجو أن يموت هرماً، وأحذر حذر من يتخوف أنه يموت غداً)(22).

يعني: إذا عرض لك عمل نافع يحتاج القيام به إلى وقت كثير فظن أن عمرك سيطول حتى تقوم به، وإذا خطر ببالك أن الوقت كثير فأردت أن تؤخر العمل النافع فظن أنك تموت غداً، فلا تؤخر العمل ولا تفوت الفرص.

3ـ وفي (نهج الفصاحة) عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) أنه كان يقول:

(أصلحوا دنياكم، وكونوا لآخرتكم كأنكم تموتون غداً).

4ـ وفيه عنه أيضاً: (اعمل عمل امرئ يظن أنه لن يموت أبداً، وأحذر حذر امرئ يخشى أن يموت غداً).

5ـ وفيه عنه أيضاً: (أعظم الناس هماً المؤمن، يهتم بأمر دنياه وأمر آخرته).

6ـ وفي (تحف العقول) عن الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) أنه قال: (ليس منا من ترك دنياه لدينه، أو ترك دينه لدنياه).

- العبوديات والحريات

طال البحث في عبودية الدنيا والمادة في (نهج البلاغة). وقد بقي موضوع لا نستطيع أن نتعداه بلا قول فيه، وهو:

إشكال:

إذا كانت العلاقة الروحية بشيء نوعاً من المرض والمسخ للقيم الإنسانية، وموجباً للجمود والركود والوقوف عن الحركة والنشاط، فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء من المادة أو المعنى؟ من الآخرة أو الدنيا؟ من الخالق أو من المخلوق؟ ولو كان الإسلام في تحذيره عن التعلق القلبي بالدنيا والمادة ينظر إلى صيانة الشخصية الإنسانية الأصيلة و(تحريرها) عن أسر الركود والجمود والتوقف، لكان عليه أن يدعو إلى (الحرية المطلقة) وأن يعد جميع القيود أنواعاً من الكفر والجحود! كما نرى ذلك في بعض المدارس الفلسفية الحديثة التي ترى (الحرية) ركناً أساسياً في تكوين الشخصية الإنسانية، (كالوجوديين).

ويرى بعض أرباب هذه المدارس الفلسفية الحديثة: أن الشخصية في الإنسان تساوي العصيان والتمرد على جميع القيود والتحرر من كل ألوانها وأشكالها بلا استثناء، ويعدون كل قيد وانقياد من أضداد الشخصية الواقعي للإنسان، وموجباً لبعده عن واقعه الإنساني! ويقولون: إن الإنسان لا يكون إنساناً ولا يتمتع بالإنسانية إلا بمقدار ما يفقد في نفسه التسليم والتمكين والخضوع! إذ أن من خواص العلاقة والإعجاب بالشيء أن يجذب ذلك الشيء انتباهه إليه ويسلبه انتباهه إلى نفسه بل ينسيه نفسه، وبالتالي يتبدل هذا الموجود (الحي الواعي) الذي يسمى إنساناً وتتلخص شخصيته في هاتين الكلمتين: إلى موجود (أسير غافل) وعلى أثر نسيانه لذاته ينسى قيمة الإنسانية، ويقف بأسره وعلاقته عن الحركة والرقي، في نقطة الجمود والركود!

فلو كانت فلسفة مكافحة الإسلام لعبودية الدنيا والمادة هي: إحياء شخصية الإنسان المسلم، لكان عليه أن يمنع عن كل عبادة وكل قيد. بينما لا نشك أن الإسلام إنما يريد تحريره عن المادة والدنيا لتقييده بالمعنى والآخرة، وإنما يريد تركه للمخلوق لعبادة الخالق!

فالعرفان الإسلامي يرى: أنه يجب على الإنسان أن يتحرر عن قيد العالمين، ولكن يجب عليه أن يتقيد بقيد عبودية (الإله) ويجب أن يكون لوح الضمير غير مسود بأي خط أو رسم أو قلم أو رقم، إلا رقم (الواحد)، ولا ينبغي أن يتعلق خاطره بأي شيء سوى ذلك القمر المنير الذي لا يضر معه أي حزن أو ألم، وهم يعنون به: (الله)!

فالتحرر العرفاني الإسلامي لا يعالج شيئاً من مشاكل الإنسان في نظر الفلسفات الإنسانية (الوجودية) إذ هو تحرر نسبي، تحرر من أشياء لعبودية شيء آخر. والعلاقة هي العلاقة، والأسر هو الأسر، وإن اختلف السبب.

ولا شك عند المدارس الفلسفية الإنسانية في القول بأن كل شيء يربط الإنسان بنفسه هو ممّا يتناقض والشخصية الإنسانية، إذ هو يجمده ويوقفه. ومسيرة التكامل في الإنسان مسيرة لا نهاية لها فكل ركود فيها يضادها ويناقضها.

ولا بحث لنا في هذا، أي نحن أيضاً نقبل هذا الكلام بصورة عامة. إنما الكلام في أمرين:

الأول: هل أن القرآن ومعه نهج البلاغة ينظران إلى علاقة الإنسان بالدنيا هكذا؟ فهل الذي يدينه القرآن هي العلاقة الرابطة التي تجعل الدنيا أكبر الهم؟ وهذا يضاد تكامل الإنسان وحركته وتقدمه واطراده، وهذا هو السكون والركود والوقوف بل الفناء! فهل أن القرآن لا يدين جميع أنواع العلاقة بالدنيا حتى ما لا يكون منها موجباً للوقوف؟

والثاني: لو كانت العلاقة التامة بشيء بحيث تجعله هدفاً تستلزم القيد والأسر وبالتالي الجمود والركود فما الفرق بين أن يكون ذلك الشيء خالقاً أم مخلوقاً؟

إن القرآن ينفي كل عبودية ويدعو إلى الإنسانية والحرية المعنوي، ولكنه لا ينفي عبودية الله والعلاقة به، ولا يدعو إلى التحرر عن الرب بلوغاً إلى الحرية التامة المطلقة، بل إن دعوة القرآن إنما تبتنى على أساس التحرر عما سوى الله، والتمرد عن إطاعة غير الله والاستسلام لله.

إن كلمة (لا اله إلا الله) التي هي أساس بناء الإسلام، تبتني على نفي وإثبات، سلب وإيجاب، كفر وإيمان، تمرد وإذعان، فالنفي والسلب والكفر والتمرد بالنسبة إلى غير الحق المطلق، والإثبات والإيجاب والإيمان والإذعان بالنسبة إلى ذات الحق المطلق. إن أولى الشهادتين في الإسلام ليست (لا) فقط، كما أنها ليست (نعم) فحسب، بل هي مركبة من (لا) إله (إلا الله).

فلو كان تكامل الشخصية الإنسانية يوجب تحرره عن كل قيد وطاعة وتسليم وعبودية، وتوجب عصيانه لكل شيء ونفيه لكل إثبات طلباً للاستقلال بكماله الإنساني، والحرية المطلقة - كما يقول الوجوديون - فأي فرق بين أن يكون ذلك الشيء خالقاً أو غير خالق؟ وإذا كان على الإنسان أن يقبل نوعاً من الأسر والطاعة والقيد والعبودية والتوقف والركود، فما الفرق أيضاً بين أن يكون ذلك (الإله) هو (الله) أو غير (الله)؟!

أم أن هناك فرقاً بينهما إذا كان الهدف هو (الله) عما إذا كان الهدف غير (الله)؟ وإذا كان كذلك فما هو المبنى والأساس في ذلك؟ وما هو توجيهه وتفسيره؟

ونصل في مقام الإجابة هنا إلى أجلى وأرقى المعارف الإسلامية الإنسانية، وهذا البحث من الموارد التي يتجلى فيها عظمة منطق الإسلام من ناحية وضمور الأفكار الأخرى من ناحية أخرى.

هذا هو الإشكال الذي يطرح نفسه في ذهن بعض المنتمين إلى المدارس الفلسفية الحديثة.

والجواب:

ولكي نوضح الموضوع لابدّ لنا من الإشارة إلى بعض المباحث الفلسفية، فنقول: لقائل أن يقول: إن افتراض نوع من الشخصية للإنسان بصورة عامة، والإصرار على صيانة الشخصية الإنسانية وعدم تبدّلها عما هي عليها. إن هذا هو ممّا يستلزم نوعاً من توقيف حركة الإنسان نحو تكامله، إذ أن الحركة: تستلزم التغيّر والتحول والتبدّل وهي كونه شيئاً ثم كونه شيئاً آخر، إنه إنما يمكن صيانة النفس عن التبدل والتحول في ظل السكون والوقوف.

وبعبارة أخرى، إن من لوازم الحركة للتكامل هو التحول والتبدل، ولهذا عرف بعض قدماء الفلاسفة الحركة بالتغيّر.

إذن، فافتراض الشخصية للإنسان والإصرار على صيانتها وعدم تبدّلها إلى غيرها من ناحية، والتكامل له من ناحية أخرى، هو نوع من التناقض الذي لا يقبل الحل.

وقد قال بعضهم للخروج عن هذا التناقض: إن شخصية الإنسان أن لا تكون له شخصية خاصة تحده! فهو - على مصطلح الفلاسفة - لا تعيّني مطلق! فحده أن لا يكون له حد خاص يحده، ولونه أن لا يكون له لون خاص يصوره ويقيده بنفسه، وشكله أن لا يكون له شكل خاص يشكل عليه الخروج منه، وقيده أن لا يكون عليه قيد يقيده ويأسره، وماهيته أن لا تكون له ماهية! والإنسان موجود لا طبيعة له، فاقد لكل نوع من أنواع الاقتضاء الذاتي، لا لون له ولا شكل ولا ماهية، وإذا نحن حمّلناه أي حد أو قيد أو طبيعة أو لون أو شكل سلبناه شخصيته الواقعية!

وهذا الكلام أشبه بالشعر منه بالفلسفة! فإن اللاتعيينية المطلقة واللالونية واللاشكلية المطلقة إنما تمكن بإحدى صورتين:


-
إحداهما
: أن يكون ذلك الموجود منتهى الكمال الفعلي بلا نهاية، أي نوع وجوداً لا حد له، محيطاً بجميع الأزمنة والأمكنة، قاهراً لجميع الموجودات - كما أن الله هكذا - وحينئذ يكون لتكامل على هذا محالاً، إذ التكامل هو الانطلاق من النقص إلى الكمال، ولا نقص في هذا.


-
والأخرى
: أن يكون الموجود فاقداً لكل كمال وفعلية، أي يكون إمكاناً واستعداداً صرفاً، فهو في هامش الوجود وفي ظل العدم، وهذا ما لا حقيقة له ولا ماهية، فهو يقبل كل حقيقة وكل ماهية وكل تعيين. وهكذا موجود - مع أنه لا تعيّن له في ذاته - يكون موجوداً دائماً في ضمن تعين خاص، ومع أنه لا لون له في ذاته ولا شكل ولكنه يكون مستقراً إلى ظل موجود له لونه وشكله. وهذا النوع من الوجود هو الذي يسميه الفلاسفة: (الهيولى الأولية) أو (مادة المواد) وهو مستقر في مراتب الوجود المتدرجة إلى الأسفل في هامش الوجود، كما أن ذات الباري سبحانه مستقرة في مراتب الكمال الوجودي في الطرف الآخر المحيط بجميع الوجود.

والإنسان - كسائر الموجودات - مستقر في وسط هذين الطرفين، فلا يمكن أن يكون فاقداً لجميع أنواع التعيّنات. وإنما يتفاوت الإنسان عن سائر موجودات العالم بأن لا حد لتكامل الإنسان يوقفه عنه، بينما تقف سائر الموجودات عند حدودها المعينة لها فلا تستطيع أن تتعداها، من دون أن يكون للإنسان حد يقف دونه.

وعلى خلاف نظر الفلاسفة أصحاب (أصالة الماهية) الذين كانوا يرون أن ذات كل شيء تساوي ماهيته، فكانوا يقولون باستحالة التغيير الذاتي والماهوي، وكانوا يرون أن جميع التغيرات إنما يمكن تصورها والتصديق بها في عوارض الأشياء، لا ذواتها وماهياتها.. على خلاف هؤلاء نقول: أن للإنسان طبيعة وجودية خاصة، إنها كسائر الطبائع المادية الموجودة سيّالة متغيرة، مع فرق أن لا حد لحركة الإنسان.

وقد حمل بعض المفسرين في تأويلاته الخاصة في قوله سبحانه: (يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا) على وجود الإنسان وقال: هذا هو الإنسان الذي ليس له منزل معيّن ولا مقام معلوم، فكلما تقدم استطاع أن يسمو أكثر فأكثر وهكذا..

وإنما نقصد من هذا أن علماء المسلمين يرون الإنسان هكذا. ولا علينا الآن أيحق لنا أن نأوّل آيات القرآن الكريم إلى تأويلات كهذه؟ أم لا؟

وأنا أرى أن في حديث المعراج رمزاً إلى هذه الحقيقة، حيث يقف جبرئيل ويقول: إن تقدمت أنا أكثر من هذا قيد أنملة احترقت! ويتقدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو إنسان، وجبرائيل ملك.

وللعلماء بحث حول الصلوات على رسول الله وآل الأطهار وجوباً أو استحباباً. هل أن في هذه الصلوات نفعاً لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) وهو أكمل إنسان؟ فهل يمكن أن يتقرب رسول الله أكثر من الكمال الأعلى دون الله؟ أم أن نفع هذه الصلوات إنما يرجع إلينا فقط؟ وإن ذلك لرسول الله وآله طلب لتحصيل الحاصل. فبعضهم على أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) دائماً في حال التكامل والتقرب، ولا يتوقف عن هذه الحركة أبداً، كما جاء هذا في شرح الصحيفة السجادية للسيد علي خان (قدس سره).

والذي جعل الإنسان هكذا هو (اللاتعين الصرف) بل نوع من التعين الذي يعبر عنه (بالفطرة) ونحوها.

فليس للإنسان حد.. ولكن له طريق..

والقرآن يؤكد على الطريق المعيّن للإنسان الذي يعبّر عنه (بالصراط المستقيم). وليس للإنسان مرحلة توقف، بل يجب عليه إذا توصل إلى مرحلة أن ينطلق إلى مرحلة أخرى.. ولكن له (مدار معين) يجب عليه أن يتحرك في ذلك المدار المعين، فإن تكامله هو حركته في مداره الإنساني، لا في مدار آخر كمدار الكلب والخنزير مثلاً.. وليس خارجاً عن كل مدار أي ليس في هرج ومرج!

وهذا هو الانتقاد الحق على منطق (الوجوديين) الذين ينكرون كل تعين للإنسان وكل لون وشكل له، ويرون أن كل قيد - حتى قيد الطريق والمدار الخاص - يضاد إنسانية الإنسان، ويؤكدون على تمرده وعصيانه وتحرره عن جميع القيود فقط.. فإن هذا يستلزم سلب جميع المسؤوليات، ونفي جميع الأخلاقيات، والهرج والمرج.

والآن نرجع إلى كلامنا الأول، فنتساءل: هل أن حركة التكامل تستلزم نسيان الذات وفقدان الشخصية؟ وهل أن الموجود يجب عليه إما أن يسلك سبيل التكامل أو يبقى هو هو؟ والإنسان هل يجب أن يتكامل فيتحول وتتبدل شخصيته أو يبقى هو هو؟

والجواب: أن حركة التكامل الواقعي أي الحركة إلى الكمال الطبيعي، أو قل: من الطريق الطبيعي والصراط الطبيعي للخلقة وغايتها، لا تستلزم أن تتبدل شخصية الإنسان الواقعية إلى شخصية أخرى.

والشخصية الواقعية لأي موجود هي (وجوده) وليست (ماهيته)، فالتغيير في الماهية والنوعية لا يستلزم تبدل شخصيته أبداً.

ويصرح المرحوم الشيخ صدر الدين الشيرازي (المولى صدرا) - وهو بطل هذه المسألة - بأن الإنسان ليست له نوعية خاصة، وهو يدعي: أن كل موجود حينما يطوي مراحل كماله لا يبقى على نوعه الأولي الواحد بل يتبدل إلى أنواع في حين أن وجوده نفس ذلك الوجود أولي. وإن رابطة الموجود الناقص بغايته وكماله الطبيعي ليست رابطة شيء أجنبي بشيء أجنبي آخر، بل هي رابطة شيء بنفسه، رابطة شيء ضعيف بقوته، فالشيء حينما يتحرك نحو كماله يتحرك من نفسه إلى نفسه، أو قل من نفسه التي لم تصل إلى شخصيتها إلى أن تجد شخصيتها الواقعية بكمالها. فالنبات الذي يشق الأرض وينمو ويجد لنفسه عوداً وفرعاً وورقاً، لم يتحرك في سيره هذا من نفسه إلى غير نفسه، ولو كان شاعراً بنفسه لم يشعر ببعد عن نفسه أو شخصيته.

وبعد هذه المقدمات نستطيع الآن أن نصل إلى: أن بين العلاقة بالله والحركة نحوه وعبوديته والتسليم له وبين أي حركة أخرى وعلاقة أخرى وعبودية أخرى وتسليم آخر، تفاوتاً كثيراً وبعداً كبيراً كبعد المشرقين، فإن العبودية لله هي الحرية، وإن العلاقة به هي العلاقة الوحيدة التي ليس فيها جمود وتوقف، وعبودية وحيدة ليس فيها فقدان للشخصية ونسيان الذات.

والدليل على ذلك: هو أن الله سبحانه هو كمال كل موجود، وهو المعبود الفطري لجميع الموجودات: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى) إذن، فالعبودية له هي الحرية، وفقدان الشخصية فيه هو وجدان للشخصية الواقعية.

وقد توصلنا هنا إلى نقطة نستطيع معها أن نوضح ما يشير إليه القرآن الكريم: بأن نسيان الله هو نسيان للذات، وفقدان الله هو فقدان الذات، والانقطاع عن الله هو الانقطاع والسقوط.

- خسران الذات ونسيانها

إن القرآن يستعمل كلمات خاصة في شأن بعض البشر، فيقول مثلاً:

(قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)(23).

(قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ..)(24).

(نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(25).

ويفكر المتفلسف هنا ويتساءل: هل يمكن للإنسان أن يخسر نفسه؟! إذ الخسران هو الفقدان والضياع، وهو لا يكون إلا بشيئين: خاسر فاقد، والآخر مفقود ضائع. فكيف يمكن للإنسان أن يخسر نفسه ويفقدها ويضيّعها؟! أليس هذا من التناقض؟!

ثم هل يمكن للإنسان أن ينسى نفسه؟ إذ الإنسان الحي غارق في ذات نفسه، لا يرى شيئاً إلا بإضافته ونسبته إلى نفسه، فهو يلتفت إلى نفسه قبل كل شيء إذن، فما معنى نسيانه لها؟!

والتفت بعد ذلك إلى أن لهذه المسألة سابقة قديمة في المعارف الإسلامية، من الأحاديث والأدعية والعرفان والأدب العرفاني الإسلامي. وعلمت أن الإنسان قد تلتبس عليه نفسه بغيرها فيحسبها نفسه، وبما أنه يحسب غيره نفسه فما يفعله ويحسبه لنفسه يكون قد فعله لغيره في الحقيقة والواقع، ويكون قد ترك نفسه وهجرها ونسيها بل مسخها!

مثلاً: حيث يحسب الإنسان أن شخصيته الواقعية هي (شخصية الجسماني). فما يفعله، يفعله لجسمه، يكون قد ضيع نفسه ونسيها، وحسب غيره نفسه.

وللإمام (عليه السلام) في هذا المقام مقال جميل يقول فيه:

(عجبت لمن ينشد ضالته وقد أضل نفسه فلا يطلبها)(26).

ولا ينحصر ضياع النفس ونسيانها في خطأ الإنسان في هويته وماهيته، بل قد تلتبس عليه نفسه بجسمه أو بدنه البرزخي أحياناً، كما قد يتفق هذا لبعض أرباب السلوك.

وقد قلنا في الفصل السابق: أن كل موجود حينما يطوي في مسير تكامله الفطري طريق الكمال يكون في الحقيقة يسير من نفسه الضعيفة إلى نفسه القوية.

وعلى هذا فإن انحراف أي موجود عن مسير تكامله الواقعي يكون انحرافاً عن نفسه إلى غيره وهذا الانحراف يتحقق في مورد الإنسان أكثر من أي موجود آخر، لأنه حر مختار، فكل ما يختاره لنفسه غاية يكون قد جعله في الحقيقة في مكان نفسه وشخصيته الواقعية، فإن كانت غاية منحرفة يكون مبدلاً غيره بنفسه. فكل ما جاء في ذم الفناء في الماديات إنما ينظر إلى هذا الخطأ والالتباس.

إذن، فاختيار الغايات والأهداف المنحرفة عامل في خطأ الإنسان في نفسه وشخصيته الواقعية، وبالتالي ينسى شخصيته الواقعية ويفقدها.

وليس اختيار الأهداف والغايات المنحرفة موجباً لإصابة الإنسان بمرض نسيان ذاته وفقدانها فقط، بل قد يصل به الأمر أحياناً إلى أن يمسخ ماهيته الواقعية ويبدلها بذلك الهدف المنحرف.

وفي المعارف الإسلامية باب واسع في أن المرء يحشر مع من أحب.

فقد ورد في أحاديثنا: (من أحب حجراً حشره الله معه)(27).

وبالالتفات إلى المسلمات من المعارف الإسلامية التي تقول بأن ما اكتسبه الإنسان في هذه الحياة سيظهر في يوم القيامة مجسّماً، يتضح لنا أن السبب في حشر الإنسان مع ما أحب هو: أن حب الإنسان للشيء يجعله في مرحلة الغاية والهدف له، فيقع ذلك الشيء في مسير تكوين شخصية الإنسان، وتنتهي تلك الغاية المنحرفة بالإنسان بالتالي إلى تبدل واقعية الإنسان إلى ذلك الشيء.

فهذا شرطان في وجدان الإنسان لنفسه وشخصيته الواقعية:

الشرط الأول: أن لا تتبدل شخصيته الواقعية ونفسه بجسمه وجسده وبدنه.

والشرط الثاني: أن لا تتبدل غايته الواقعية وهدفه بهدف منحرف وغاية منحرفة:

ولذلك - بالإضافة إلى هذين الشرطين - شرط آخر، هو:

- من عرف نفسه فقد عرف ربه

الشرط الثالث: وهو وجدانه لخالقه وموجده وعلته الواقعية..

إذ يستحيل على الإنسان أن يدرك ويعرف شخصيته الواقعية منفصلة عن علتها وخالقها، فإن علة كل موجود مقدمة على وجود ذلك الشيء، فهي أقرب إليه من نفسه: (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)(28). و(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ)(29).

وقد أكد العرفاء المسلمون على عدم الفصل بين معرفة الله ومعرفة النفس، وقالوا بالملازمة بين معرفة النفس على ما هي عليه: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ومعرفة الحق المطلق (الله سبحانه)، وهم يخطئون الحكماء المسلمين في مسائل معرفة النفس ولا يرون كلامهم فيها كلاماً وافياً بالمعنى.

ونكتفي بالقول: بعدم الفصل بين معرفة النفس ومعرفة الخالق، كما جاء في كلام رسول الله وأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليهما: (من عرف نفسه فقد عرف ربه).

وهذا هو معنى كلام الإمام (عليه السلام) حينما سأله ذعلب اليماني: (هل رأيت ربك)؟ فقال: (أفأعبد ما لا أرى)؟ ثم يوضح مراده فيقول: (لا تراه العيون بمشاهدة العيون، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان).

وهنا نقطة جميلة نستفيدها من تعبير القرآن الكريم، هي أن الإنسان لا يكون فاقداً نفسه إذا كان واجداً ربه، ولا يكون ناسياً نفسه إذا كان غير غافل عن خالقه، إذ أن نسيان الله يلازم نسيان الذات وفقدانها وضياعها: (وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)(30).

ومن هنا يعلم أنا لماذا نقول: أن ذكر الله حياة القلوب ونورها، وطمأنينة الروح وصفاؤها، وبهجة الضمير الإنساني ورقة له وخشوع، ويقظة له وانتباه.

وما أجمل وأعمق ما قاله الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة بهذا الصدد:

(إن الله تعالى جعل الذكر جلاءً للقلوب تسمع به بعد الوقرة، وتبصر به بعد العشوة، وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله - عزت آلاؤه - في البرهة بعد البرهة وفي أزمات الفترات رجال ناجاهم في فكرهم، وكلمهم في ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة في الأسماع والأبصار والأفئدة).

- دور العبادة في الإحساس بالشخصية

والكلام في أبواب العبادات كثير بحيث إذا أردنا نحن هنا أن نبسط القول فيها كان علينا أن نخصص لها عشرات الكلمات والمقالات. فنحن نشير هنا إلى موضوع واحد من مواضيعها، وهي: تثمين العبادة من حيث إحساسها الإنسان نفسه وذاته وشخصيته، فنقول:

كما أن العلاقة بالماديات والغرق فيها تفصل الإنسان عن شخصيته الواقعية وتجعله بعيداً عن نفسه، كذلك وبنفس النسبة ترجع العبادة بالإنسان إلى نفسه وذاته وشخصيته الواقعية، فإن العبادة يقظة للإنسان وانتباهه له وهي تنقذ الإنسان الغريق والفاني في الأشياء من أعماق بحار الغفلات كما تنقذ الملائكة الغريق من لجج البحار‍ وإن الإنسان في ظل العبادة وذكر الله يرى نفسه كما هي عليه، وينتبه إلى نقصانها وانكسارها، وينظر من خلال أضواء العبادة إلى الحياة والزمان والمكان، فهناك يدرك دناءة آماله وحقارة مناه المادية المحدودة، فيحاول أن يفر منها إلى قلب الوجود!

وإني لأنظر بإعجاب كثير إلى كلمة بهذا المعنى لعالم عصرنا الشهير: آينشتاين. والذي يبعثني على العجب هو أن هذا العالم إنما هو أخصائي في الفيزياء والرياضيات العالية لا في المسائل النفسية والإنسانية والدينية والفلسفية! إنه يقسم الأديان إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: الأديان التي منبعها الخوف من حوادث الطبيعية! والنوع الثاني: الأديان التي منشأها الخصائص الاجتماعية! والنوع الثالث: الدين الواقعي - غير الوهمي - العميق والمعقول، وهو الذي يسميه: الإحساس الديني للوجود أو الخلقة. ثم يشرح إحساس الإنسان في هذا الدين الحقيقي فيقول:

(في هذا الدين: يحس الإنسان بصغر آمال وأهداف البشر، والجلال والمعظمة التي تتظاهر من ما وراء ظواهر الطبيعية في الطبيعة والأفكار. فيرى نفسه في قفص كالسجن بحيث يريد أن يطير من قفص جسمه فيدرك جميع الوجود كحقيقة واحدة..).

ويقول الدكتور ويليام جيمز: (إن التوجه إلى الخالق هو النتيجة الضرورية لإحساسه بأن أعمق أقسام وجوده الاختياري وجود من النوع الاجتماعي، ولكنه - مع ذلك - إنما يستطيع أن يجد أنيسه ومؤنسة الكامل المطلق في عالم الفكر فقط. وإن أكثر الناس - سواء بالصدف أو على الدوام - يرجعون إليه في قلوبهم وضمائرهم وأفكارهم. وأن أحقر الناس في الأرض يجد بهذا التوجه إلى الخالق نفسه الواقعية ويهبها الشخصية).

ولإقبال اللاهوري كلام قيم في تثمين العبادة من حيث إحساس الشخص بها بنفسه، لا أود تركه هنا، إنه يقول:

(إن العبادة والتوجه إلى الله بإشراقة النفس: عمل حيوي متعارف عليه، تكتشف بها جزر شخصياتنا الصغار وجودها في ضمن الإطار الكبير من الحياة)(31).

 

 

 

 

 

الهوامش:

1- المسعودي ـ مروج الذهب، ج2، ص341-343، ط مصر. وج4، ص252 - 255، ط أوربا.

2- سورة السجدة: 32.

3- سورة الروم: 21.

4- الحكمة: 131.

5- الخطبة: 28.

6- الحكمة: 131.

7- سورة الفرقان: 44.

8- سورة الكهف: 45.

9- سورة الحديد: 20.

10- سورة الكهف: 48.

11- سورة يونس: 7.

12- سورة النجم: 29-30.

13- سورة الرعد: 26.

14- سورة الروم: 7.

15- الخطبة 32.

16- تحف العقول، ص200.

17- تحف العقول، ص200.

18- سورة الإسراء: 70.

19- بحار الأنوار.

20- سورة الأعراف: 32.

21- سفينة البحار، ج1، مادة رفق.

22- بحار الأنوار، المجلد 15، قسم الأخلاق، الباب 29.

23- سورة الأعراف: 53.

24- سورة الزمر: 15.

25- سورة الحشر: 19.

26- الغرر والدرر للآمدي، ج4، ص340.

27- سفينة البحار، مادة: حب.

28- سورة ق: 16.

29- سورة الأنفال: 24.

30- سورة الحشر: 19.

31- إحياء فكر ديني.

 

أعلى