الإنسان الكامل صاحب مرتبة القلب (ي) ومثل هذا الإنسان هو صاحب رتبة القلب «إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها»(1). وقد عُرف سابقاً أن صاحب مرتبة القلب في مشهد العرفاء هو نفس مرتبة العقل المستفاد في منظر الحكماء لكن لأهمية شؤون القلب نقول: «اللّهمّ نوَّر ظاهري بطاعتك، وباطني بمحبتك، وقلبي بمعرفتك، وروحي بمشاهدتك، وسرّي باستقلال اتّصال حضرتك، يا ذا الجلال والإكرام». تعريف القلب ووجه تسميته ان الظاهر والباطن والقلب والروح والسر هي من مراتب النفس الناطقة وهي حقيقة ممتدة من الخلق إلى الأمر. في مرتبة القلب نشاهد معان كلية وجزئية، يقول العارف عن هذه المرتبة (القلب) ويقول عنها الحكيم (العقل المستفاد). ان جميع القوى الروحية والجسمية تتشعب وتتفرع عن القلب، ومن هنا كان قلباً، حيث لا يقرّ للحظة، وهو في تقلّب دائم وقبض وبسط مستمرين، كما أن مظهر الوصف اللحمي في البنية الإنسانية كذلك، فله في كلّ دقيقة عدة حالات في الانقباض والانبساط ولا سكون له للحظة. لهذا فالقلب هو المظهر الأتم لـ (كُلَّ يَوْم هُوَ فِى شَأْن). ان تقلّب القلب هو من الظهورات الإلهية والشؤونات الذاتية وان كمالات الروح وكليات العلم كلّها تستوي في هذا المحل. ومن هنا عُبر عنه بـ (مرآة العالم) والبرزخ بين الظاهر والباطن وإنسانية الإنسان. والقلب كالبدل والمبدل عنه، ففي القلب جميع التنزلات والترقيات والمدارج ومعارف الفيض الوجودي. يقول القيصري في ديباجة شرح فصوص الحكم: «الإنسان إنّما يكون صاحب القلب إذا تجلّى له الغيب وانكشف له السر وظهرت عنده حقيقة الأمر وتحقق بالأنوار الإلهية وتقلّب في الأطوار الربوبية لأنّ المرتبة القلبية هي الولادة الثانية المشار إليها بقول عيسى(عليه السلام): «لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين»(2). أحد أسماء الله تعالى هو المؤمن، والّذي جاء في آخر سورة الحشر، والإنسان المؤمن مظهر له «المؤمن مرآة المؤمن» وقلبه من السعة بحيث لا وجود لمخلوق يسعه «قال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله تعالى: ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن التقي النقي» وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «كلّ تقي ونقي إليَّ» وقال: «سلمان منّا أهل البيت» فتبصّر. العلم والعمل يصنعان الإنسان، والعلم ماء الحياة ليس لوعاء القلب حد محدود (وَإنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوَانُ) ومهما يسكب فيه من العلم والّذي هو ماؤه فهو يتّسع أكثر. فماء الحياة هو العلوم والمعارف وهي غذاء الروح (فَـلْيَـنْظُرِ الإنسَانُ إلَى طَعَامِهِ) وان طعام الإنسان من حيث هو انسان هو ما يصنع الإنسان. لهذا قال الإمام أبو جعفر(عليه السلام) في تفسير الآية لزيد الشحام ان الطعام هو «علمه الّذي يأخذه عمّن يأخذه»(3). والعلم والعمل صانعا الإنسان (إنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح) وان العلم والعمل جَنّة إذا كانا ملكوتين، ونار إذا كانت جذورهما في الدنيا. الحكمة جنة: اعتبر النبيّ الخاتم الحكمة جنّة، روى الشيخ الصدوق في المجلس 61 من أماليه بإسناده عن عليّ بن أبي طالب(عليه السلام) قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) : «أنا مدينة الحكمة وهي الجنّة وأنت يا عليّ بابها، فكيف يهتدي المهتدي إلى الجنّة ولا يهتدي إليها إلاّ من بابها» إذن فالحكمة جنّة والحكمة طعام الإنسان وقلبه مزرعة لبذور المعارف. «يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يودعوها نظرائهم ويزرعوها في قلوب أشباههم»(4). معلّمو البشر (زرّاع) ووصف الإمام في هذا الكلام معلمي البشر ووسائط الفيض الإلهي بالزرّاع ووصف القلوب المستفيضة بالمزارع «والمعرفة بذر المشاهدة» فالعلماء الكبار هم الذين يبذرون المعارف الإلهية في مزارع قلوبهم، وإذا أخضرت هذه البذور أي صارت المزارع مؤهلة والقلوب قابلة، فان هذه الحدائق الخضراء ستكون قرة عين الناظرين ونزهة أهل الولاية. ألا ترى إنّه قال: ان الأرض السبخة لا تقبل ولايتنا؟ اُنظر إلى بذور الحكمة هذه أية جنات ستتحول. قال الله تعالى في القرآن الكريم: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) وقال أيضاً (أفرأيتم ما تحرثون أأ نْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) . ان سلسلة الكلام متصلة مع بعضها ولا تقبل الانفصال والمنافاة، فهناك عدد من السفراء الالهيين معروفين بالزراع، وفي كلام الإمام وفي هذه الآية أيضاً قال (نَحْنُ الزَّارِعُونَ) فافهم. الله تعالى هو الزارع والإنسان الكامل سرّ الله وأسرار الولاية بذور والقلوب مزارع روى يونس بن ظبيان عن الإمام الصادق انّه قال: «ان الله خلق قلوب المؤمنين مبهمة على الإيمان فإذا أراد استنارة ما فيها فتحها بالحكمة وزرعها بالعلم وزارعها والقيّم عليها ربّ العالمين» وكذلك عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: «من يزرع خيراً يحصد غبطة ومن يزرع شراً يحصد ندمة، ولكلّ زارع ما زرع»(5). وروى عمر بن يسع عن شعيب الحداد قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد(عليه السلام) يقول: «إن حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبيّ مرسل أو عبد امتحن الله قلبه للإيمان أو مدينة حصينة. قال عمرو فقلت لشعيب يا أبا الحسن وأي شيء المدينة الحصينة؟ قال: فقال سألت الصادق(عليه السلام) عنها، فقال لي: القلب المجتمع»(6). ان القلب المجتمع هو المدينة الحصينة، وإن أسرار أهل الولاية لا تختفي في القرى المهجورة القديمة البوابات والأبراج، بل يجب ان تكون مدناً من المدن الّتي هي حصن الله. ليست أسرار الولاية أسلاكاً بلا روح مدفونة تحت التراب بل انّها الودائع الالهية الّتي ينبغي أن تعطى إلى اُمناء الله الذين هم مدن حصينة وصدور أمينة، في نهج البلاغة: «إِنَّ أَمْرَنا صَعْبٌ مُسْتَصْعَبٌ، لاَ يَحْتَمِلُهُ إِلاَّ عَبْدٌ مُؤْمِنٌ امْتَحَنَ اللهُ قَلْبَهُ لِلإِيمَانِ، وَلاَ يَعِي حَدِيثَنَا إِلاَّ صُدُورٌ أَمِينَةٌ، وَأَحْلاَمٌ رَزِينَةٌ»(7). وعن بصائر الدرجات عن الصادق(عليه السلام) : «إن أمرنا سرّ وسرّ في سرّ وسرّ مستسر وسرّ لا يفيده إلاّ سرّ وسرّ على سرّ وسرّ مقنع بسرّ» وقال(عليه السلام): «هو الحقّ وحقّ الحقّ وهو الظاهر وباطن الظاهر وباطن الباطن وهو السرّ والسرّ المستسر وسرّ مقنع بالسرّ». وقال(عليه السلام): «خالطوا الناس بما يعرفون ودعوهم مما ينكرون، ولا تحملوا على أنفسكم وعلينا إنّ أمرنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ ملك مقرب أو نبيّ مرسل أو مؤمن امتحن الله قلبه للإيمان». في اُصول الكافي باب بهذا العنوان «فيما جاء ان حديثهم صعب مستصعب» في الحديث الأوّل عن أبي جعفر(عليه السلام) عن الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) : «ان حديث آل محمّد صعب مستصعب... الخ» وفي الحديث الثاني عن الصادق عن السجاد(عليهما السلام) «ان علم العلماء صعب مستصعب ... الخ» وفي الحديث الثالث عن الصادق(عليه السلام): «ان حديثنا صعب مستصعب لا يحتمله إلاّ صدور منيرة أو قلوب سليمة وأخلاق حسنة» وفي بصائر الدرجات عن الباقر(عليه السلام) جاء عن المفضل قال قال أبو جعفر(عليه السلام): «إن حديثنا صعب مستصعب ذكران أجرد ولا يحتمله ملك مقرب ولا نبيّ مرسل ولا عبد امتحن الله قلبه للإيمان، أمّا الصعب فهو الّذي لم يركب بعد، وأمّا المستصعب فهو الّذي يهرب منه إذا رؤي، وأمّا الذكران فهو ذكاء المؤمنين، وأمّا الأجرد فهو الّذي لا يتعلق به شيء من بين يديه ولا من خلفه وهو قول الله: (اللهُ نَزَّلَ أحْسَنَ الحَدِيثِ)(8) فأحسن الحديث حديثنا ولا يحتمل أحد من الخلائق أمره بكماله حتى يحدّه، لأن من حد شيئاً فهو أكبر منه والحمد لله على التوفيق والانكار هو الكفر». وفي البصائر أيضاً مسنداً عن أبي الصامت قال: سمعت أبا عبدالله(عليه السلام) : انّ من حديثنا ما لا يحتمله ملك مقرب ولا نبيّ مرسل ولا عبد مؤمن قلت: فمن يحتمله؟ قال: نحن نحتمله». اذن فأحاديث أهل البيت(عليهم السلام) كلّها علوم وأسرار، وسرّ كلّ شيء حقيقته المخفية. فالحقيقة العلمية سرّ وسرّ مستسر مقنع لا يفهمها كلّ سر، وتلك الحقائق فوق مرتبة البيان اللفظي والادراك الفكري بل تُنال بالمعرفة الشهودية. وكلّ في حد ينال مرتبة منها، لكن لا تنالها كلّ يد بل (لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ). فلابدّ ان يكون القلب منيراً سليماً مجتمعاً أميناً حصيناً ليناله ويدركه اضافة إلى أن حديث البصائر من غرر الأحاديث. وهناك حديث آخر «ولا يحتمل أحد من الخلائق أمره بكماله حتى يحدّه لأ نّه من حدّ شيئاً فهو أكبر منه». اُنظر إلى بيان الإنسان الكامل فهو كامل أيضاً، فانّه لم يُنقل مثل هذه العبارات اللطيفة والمعاني الدقيقة عن غير الأئمة المعصومين لا من الصحابة ولا من التابعين ولا من علماء الأعصار والأمصار. وعاء العلم مجرد عن المادة في بيان حقيقة وتعريف وعاء المعارف هذا، قال أميرالمؤمنين(عليه السلام): «كلّ وعاء يضيق بما جعل فيه، إلاّ وعاء العلم فانّه يتسع به». أي ان ظرف العلم الّذي هو النفس الناطقة الإنسانية ليس من جنس الموجودات الطبيعية والمادية بل هو موجود من عالم ما وراء الطبيعة بحيث يتسع لكلّ ما يوضع فيها ان له مقاماً فوق التجرد. وبما ان قيمة الإنسان تقدَّر بمقدار معارفه اذن فان أفضل ظروف العلم (أي النفوس الإنسانية) هو ذلك الظرف الّذي سعته أكبر. يقول الإمام المجتبى(عليه السلام) ما مضمون حديثه: لما رأى الله تعالى كبر قلب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) اختاره. فكم هي سعة وعظمة قلب محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث يسع حقائق كتاب الله القرآن الفرقان (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ)(9) (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ)(10). في سعة القلب لقد رسم على افتتاحية الفص الشعيبي الخالي من العيب هذا الطلسم «قلب العارف بالله هو من رحمة الله وهو أوسع منها فانّه وسع الحقّ جلّ جلاله ورحمته لا تسعه». أي ان رحمة الحقّ تعالى لا تسعه، وقلب العارف بالله تسع الحقّ وأوسع منها. وكذلك على فص الحكمة الحقّة في كلمة الاسحاق رقم هذا النقش. «يقول أبو يزيد في هذا المقام لو ان العرش وما حواه ألف ألف مرة في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ به وهذا وسع أبي يزيد في عالم الأجسام بل أقول لو أنّ ما لا يتناهى وجوده يقدّر انتهاء وجوده مع العين الموجودة له في زاوية من زوايا قلب العارف ما أحسّ بذلك في علمه فإنّه قد ثبت أن القلب وسع الحقّ ومع ذلك ما اتصف بالري فلو امتلى ارتوى».
أقوال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كلّها رموز مشحونة بالمعقول ضمن كلام أميرالمؤمنين(عليه السلام): «كلّ وعاء يضيق ... الخ» يقول ابن أبي الحديد: «هذا الكلام تحته سرّ عظيم ورمز إلى معنى شريف غامض ومنه أخذ مثبتوا النفس الناطقة الحجة على قولهم»(11). نعم ان كلمات السفراء الإلهيين وحاملي الوحي مملوءة بالرموز والأسرار وروايات أهل البيت أفضل حجة على حجّيتهم وهم(عليهم السلام) أنفسهم براهين على إمامتهم كما الدليل دليل لنفسه. يقول الشيخ الرئيس في الرسالة المعراجية وفي رسالة النبوة وفي الهيات الشفاء: ان أقوال النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كلّها رموز مشحونة بالمعقول. ان ابن أبي الحديد بعد نقله كلمة أميرالمؤمنين «كلّ وعاء يضيق...». يقول: «ومحصول ذلك أنّ القوى الجسمانية يكلّها ويتعبها تكرار أفاعيلها عليها، كقوّة البصر يتعبها تكرار ادراك المرئيات، حتى ربما أذهبها وأبطلها أصلا، وكذلك قوّة السمع يتعبها تكرار الأصوات عليها، وكذلك غيرها من القوى الجسمانية، ولكنّا وجدنا القوة العاقلة بالعكس من ذلك، فإن الإنسان كلّما تكرّرت عليه المعقولات ازدادت قوّته العقلية سعة وانبساطاً واستعداداً لإدراك اُمور اُخرى غير ما أدركته من قبل، حتى كان تكرار المعقولات عليها يشحذها (يحدها ـ خ) ويصقلها فهي إذن مخالفة في هذا الحكم للقوى الجسمانية، فليست منها، لأ نّها لو كانت منها لكان حكمها حكم واحد من أخواتها، وإذ لم تكن جسمانية فهي مجردة، وهي الّتي نسميها النفس الناطقة»(12). ولكن الحقّ هو ان الكلام الكامل لأميرالمؤمنين(عليه السلام) دالّ على أن للنفس مرتبةً فوق التجرد لا أ نّها مجردة فقط كما ثبت بالبراهين القطعية: ان الإنسان هوية واجبة ذات مراتب بدءاً بمرتبة الطبع وانتهاءً إلى مرتبة ما فوق التجرد العقلي، وان له في كلّ مرتبة أحكاماً خاصة متعلقة بتلك المرتبة، في مقام الطبع تتجسم الروح بهذا المعنى اللطيف والشريف من أن البدن هو المرتبة النازلة لحقيقة الإنسان وهو في المرتبة الّتي فوقها مثال متّصل له تجرد برزخي، وان كثيراً من أدلّة تجرد النفس ناظرة إلى هذه المرتبة، كالأدلة الّتي يسوقها المرحوم الآخوند في الفصل السادس، الطرف الثاني، المسلك الخامس من الأسفار، يقول: «فصل في أن المدرك للصور المتخيلة أيضاً لابدّ أن يكون مجرداً عن هذا العالم»(13). وفي رتبة العقل له تجرد عقلي، والكثير من أدلة تجرد النفس ناظرة إلى هذه المرتبة كأدلة الآخوند في الباب السادس من الأسفار بهذا العنوان يقول: «الباب السادس في بيان تجرّد النفس الناطقة الإنسانية تجرداً تاماً عقلياً... الخ»(14) والقيد العقلي التام هو لاخراج التجرد الخالي، وهو وإن كان مجرداً لكنه ليس تاماً، كما هو من أجل اخراج التجرد العقلي فوق التام الّذي هو بالاضافة إلى تماميته أتم، فإنّه ليس للنفس الإنسانية حد تقف عنده، إذ بالإضافة إلى تجردها لا يحدها من هذه الناحية شيء، فتبصّر. هذا اضافة إلى أن القوة العاقلة شأن من شؤون النفس لا أن تكون هي النفس الناطقة. فقد بوّبنا هذه المسائل في دروس معرفة النفس الّتي هي قيد التأليف وأشبعناها برهاناً. وهذه المراتب الأربع للنفس (مرحلة ومرتبة الطبع، الخيال، مقام العقل، والشأن اللايقفي) هي من اُصول واُمهات مسائل معرفة النفس، والله ولي التوفيق. قلب عالم الإمكان وقلب القرآن وليلة القدر الإنسان الكامل هو قلب عالم الإمكان وقلب البرزخ بين الظاهر والباطن، وجميع القوى الروحية والجسمية منشعبة منه، ومنه يصلها الفيض. الإنسان الكامل الّذي هو واسطة الفيض، والّذي منه يصل الفيض إلى شعب القوى الروحية والجسمانية الاُخرى، منزله الحد المشترك بين عالم الملك والملكوت، وهو مشارك لكلّ منها بوجه، فهو كالملائكة مطلع على ملكوت السموات والأرض، وله نصيب من الربوبية، وهو كالبشر يأكل ويشرب وينكح، وإن كان لكلّ إنسان نصيب من الربوبية، لكن مرتبتها التامة هي للإنسان الكامل كما ان عبوديته أيضاً عبودية تامة. إن ادراك المراتب الخمس للقلب ضروري في هذا المقام أي القلب النفسي والقلب الحقيقي المتولد من مشيمة جمعية النفس، والقلب متولد من مشيمة الروح، أي قلب التجلي الوجودي الباطني، والقلب الجامع مسخر بين الحضرتين أي حضرة الاسم الظاهر وحضرة الاسم الباطن والقلب الأحدي الجمعي المحمدي(صلى الله عليه وآله وسلم) المبين في الفصل الخامس من فصول فاتحة (مصباح الانس) في شرح مفتاح الغيب. هذا الإنسان الكامل هو قلب عالم الامكان وهو صاحب مرتبة (كن). ان صاحب (الفتوحات المكية) في الباب 361 منه وبعد تمهيد مطالب يفيدنا في هذا المجال بقوله: «فبالإنسان الكامل ظهر كمال الصورة فهو قلب لجسم العالم الّذي هو كلّ ما سوى الله وهو بيت الحقّ الّذي قال فيه: «ووسعني قلب عبدي المؤمن» فكانت مرتبة الإنسان الكامل من حيث انّه قلب بين الله والعالم، وسمّاه بالقلب لتقليبه وتصريفه واتساعه في التقليب والتصريف ولذلك كانت له هذه السعة الالهية لأ نّه وصف نفسه تعالى بأ نّه (كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأن) واليوم هنا هو الزمن الفرد فكل يوم فهو في شؤون وليست التصريفات والتقليبات سوى هذه الشؤون الّتي هو الحقّ فيها، ولم يرد نص عن الله ولا عن رسوله في مخلوق أ نّه اُعطي «كن» سوى الإنسان خاصة، فظهر ذلك في وقت في النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في غزوة تبوك، فقال: كن أبا ذر، فكان أبا ذر». وورد في الخبر في أهل الجنّة: «انّ الملك يأتي إليهم فيقول لهم بعد أن يستأذن عليهم في الدخول فإذا دخل ناولهم كتاباً من عند الله بعد أن يسلم عليهم من الله وإذا في الكتاب لكلّ إنسان يخاطب به من الحي القيوم الّذي لا يموت إلى الحي القيوم الّذي لا يموت، أما بعد فإنّي أقول للشيء كن فيكون وقد جعلتك اليوم تقول للشيء كن فيكون». ان ليلة القدر كما جاء في روايات أهل البيت(عليهم السلام) هي قلب شهر الله وليلة مباركة، وقد نزل فيها القرآن. قال تعالى:(إنَّا أنزَلْنَاهُ فِي لَـيْلَة مُبَارَكَة) (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي اُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ). فقد نزل القرآن في قلب هذا الشهر على قلب النبيّ الخاتم(صلى الله عليه وآله وسلم) . (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بإذن الله) (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لتكون من المنذرين). وقد ورد في الروايات أن (يس) قلب القرآن، كما في تفسير نور الثقلين للحويزي عن أنس بن مالك عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «ان لكل شيء قلباً وقلب القرآن يس» وكذلك في الجامع الصغير للسيوطي ومسند أحمد بن حنبل عن معقل بن يسار عن رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في ذيل حديث انّه(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «يس قلب القرآن»(15) وكذا في الروايات أن (يس) من أسماء رسول الله. وفي تفسير المجمع «يس معناه يا إنسان بلغة طي»، فتبصّر. ان قلب شهر الله في أواخر الشهر. في باب (إنا أنزلناه) في الكافي يروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) : «يا ابن رسول الله كيف أعرف أنّ ليلة القدر تكون في كلّ سنة؟ قال: إذا أتى شهر رمضان فاقرأ سورة الدخان في كلّ ليلة مائة مرة فإذا أتت ليلة ثلاث وعشرين فإنك ناظر إلى تصديق الّذي سألت عنه». وسورة (يس) المباركة في الجزء 23 من القرآن. قال الصادق(عليه السلام): «علّموا أولادكم يس فإنها ريحانة القرآن»(16) . وفي الأمالي عن عليّ(عليه السلام)قال: «الحسن والحسين(عليهما السلام) ريحانتا رسول الله». ووردت كلمة ريحانة حول القرآن نفسه، اذن يس قلب القرآن والقرآن ريحانة نزل في قلب شهر الله على قلب عالم الإمكان مرةً واحدةً سواء أنزالا دفعياً أو تدريجياً. اذن فالإمام قرآن والقرآن إمام وكلاهما ريحانة. «وانّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض». ان ذات الحقّ غير متناهية كذلك صفاته وأفعاله وكتابه وكلّ كلماته (وَلَوْ أنَّ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَجَرَة أقْلامٌ وَالبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أبْحُر مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللهِ إنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)(17) (قُلْ لَوْ كَانَ البَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَـنَفِدَ البَحْرُ قَبْلَ أنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(18) . آيات القران خزائن إلهية القرآن غير متناه، وكلّ آية وكلمة وسورة وحرف منه خزائن «إن الآية من القرآن والسورة لتجيء يوم القيامة حتى تصعد ألف درجة»(19) عن الزهري قال: سمعت عليّ بن الحسين(عليه السلام) يقول: «آيات القرآن خزائن فكلما فتحت خزانة تنبغي لك أن تنظر ما فيها»(20). لكلّ حرف من القرآن سبعون ألف معنى روي عنه(صلى الله عليه وآله وسلم) إنّه قال: «ما من حرف من حروف القرآن إلاّ وله سبعون ألف معنى»(21). الحكمة جنّة القرآن غير متناه وله درجات وعوالم، والإنسان ظرف للعلم، وليس هناك حد يقف عنده، وهذا الظرف هو المظروف أي الحقائق القرآنية. فالقرآن حكيم (يس وَالقُرْآنِ الحَكِيمِ)وعرفت ان الحكمة جنّة فالقرآن جنّة وحكيم، وحكم الحكيم مُحكمٌ (الر كِتَابٌ اُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)(22) وبيان لكلّ شيء (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِـبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء)(23). تبيان مع التنزيل وهو التفصيل لا الانزال وهو الاجمال، والإمام الّذي هو الإنسان الكامل وقلب عالم الإمكان هو قرآن فيه تبيان كلّ شيء. درجات الجنّة على عدد آيات القرآن يوصي إمام الثقلين أبو الحسنين(عليه السلام) ابنه محمّد بن الحنفية قائلا: «عليك بتلاوة (بقراءة ـ خ ل) القرآن والعمل به... اعلم أنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن فإذا كان يوم القيامة يقال لقارئ القرآن اقرأ وارق... الحديث»(24). هذا الدستور العظيم وبهذه الفصاحة والبلاغة من نهج البلاغة، وهل له من نظير؟ ان مفاد «اقرأ وارق» هو أ نّك أي مقام بلغت توقّف عنده، ثم اقرأ وارق، والوصول إلى ذلك المقام هو الوصول الادراكي والوجودي إليه. وما أدركته من مقامات القرآن بالحكم المحكم لاتحاد الإدراك والمدرِك والمدرَك، فبنفس المقدار من القرآن اُنظر مقدار حظك من القرآن، لأن حقائق القرآن درجات ذاتك ومدارج عروجك. اذن فمعنى القراءة أيضاً قد عُلم بحسب النشآت، ولا تعجب أن يكون لكل حرف من حروف القرآن سبعون ألف معنى لأن هذه الحروف ليست حروفاً وفيها من الكلام الكثير. هذه حروف المقامات الوجودية والمراتب الطولية للقرآن الكريم، هذه هي الثلاثة والسبعون حرفاً الّتي اُشير إليها سابقاً. شكل القطاع ووجوه أحكامه الهندسية القطاع شكل هندسي من أشكال المثلثات الكروية ولهذا الشكل 497664 حكماً هندسياً، وقد كتب الخواجة نصيرالدين الطوسي كتاباً باسم (كشف القناع عن أسرار شكل القطاع) في هذا المجال. قال أميرالمؤمنين(عليه السلام):«بَلْ كَيْفَ تَعْمَهُونَ وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ؟ وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ! فأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ»(25). وقال: «فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن»(26). وللقرآن منازل كثيرة، وأحسنها منزلة القرآن الناطق (وَكُلَّ شَيْء أحْصَيْنَاهُ فِي إمَام مُبِين) فأية أسرار تنطوي عليها؟ كلام في القرآن والعترة لقد قام الكليني رضوان الله عليه بجمع الكافي من الاُصول الأربعة خلال 20 سنة، ولقد أجاد في ترتيب الكتب والأبواب مما يعكس منزلته في دراية وفهم الحديث، وقدّم الأصح على الصحيح، وجميع رواياته مسندة، ورجاله معروفون في كتب الرجال، وهذا الكتاب آية. لو أردنا أن نتحدث أكثر عن جلالة قدره ومنزلته لاحتجنا إلى رسالة أو كتاب. كتابه الأوّل هو كتاب العقل والجهل، والثاني فضل العلم، والثالث كتاب التوحيد، والرابع الحجة، تأملوا في هذه الأبواب الافتتاحية الأربعة وانظروا تبحرّه العلمي. ان جميع الكتب والأبواب والروايات في كلّ باب تجري على هذا النسق نفسه، فكتاب الحجة 130 باباً، وكلّ باب منه يتضمن روايات خاصة في الحجة ويجمعها تقريباً نفس العنوان المتخذ من مضمونها. فمثلا الباب الأوّل «باب الاضطرار إلى الحجة» والباب الخامس «أن الأرض لا تخلو من حجة» وباب آخر هو «باب الأئمة إذا شاءوا أن يعلموا علموا» وباب آخر «باب الإشارة والنص إلى صاحب الدار(عليه السلام)» وباب آخر «باب مولد الصاحب(عليه السلام)» وكتاب الكافي كاف للإمامية في الإمامة والغيبة، بل ان الصحاح والسنن وكتب الحديث العامة لوحدها تكفيهم لذلك. فإذا كان منكر الإمامة مسلماً فيجب التحدث معه عن طريق خاص وإذا لم يكن مسلماً فمن طريق آخر، كما ان الكتب الكلامية بشأن النبوة العامة موجهة إلى الدهريين والطبيعين والفرق المنكرة الاُخرى، وفي النبوة الخاصة تكون وجهة الحديث مع أصحاب الأديان كاليهود والنصارى والمجوس. ان المؤمن برسالة خاتم الأنبياء مضطر للاعتراف بعصمة أميرالمؤمنين، والمعترف بعصمته(عليه السلام) لابدّ له من الاعتراف بعصمة الأئمة الاثني عشر واحداً واحداً، وبغيبة صاحب الأمر، لأنّ وصي المعصوم معصوم، ووصي الإمام إمام، ووصي حجة الله حجة الله، ولا أدخل في هذا المقام ببحث العصمة والإمامة، وإنّما أكتفي بمقولة عن ابن متويه وهو واحد من مشاهير علماء أهل السنّة. قال الإمام أميرالمؤمنين(عليه السلام) في الخطبة 85 من نهج البلاغة في وصف وتعريف العترة: «بَلْ كَيْفَ تَعْمَهُونَ وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ؟ وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ! فأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ، وَرِدُوهُمْ وُرُودَ الْهِيمِ الْعِطَاشِ». وقال ابن أبي الحديد في شرحها: «فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن تحته سرّ عظيم وذلك أنه أمر المكلّفين بأن يجروا العترة في إجلالها واعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مجرى القرآن». ثم قال: فإن قلت فهذا القول منه يشعر بأن العترة معصومة فما قول أصحابكم في ذلك؟ قلت: نصّ أبو محمّد بن متويه ـ رحمة الله عليه ـ في كتاب الكفاية على أن عليّاً(عليه السلام) معصوم وأدلّة النصوص قد دلّت على عصمته والقطع على باطنه ومغيبه وأنّ ذلك أمر اختصّ هو به دون غيره من الصحابة»(27). كان هذا حديث ابن متويه في عصمة العترة الطاهرة(عليهم السلام) وهو حديث حقّ، فقد قال العالم المشهور من أهل السنّة في كتاب الكفاية بعبارته الشريفة: «أدلة النصوص قد دلّت على عصمته» وهذا الأمر وهذه الحقيقة أوردناهما في مطلع الرسالة وهو أن كاتب هذه السطور ثابت وبشدة على معتقده الصافي والخالص في أن الصحاح وسنن أهل السنّة حجة بالغة في إمامة وعصمة الأئمة الاثني عشر بغض النظر عن كتب الشيعة الإمامية في هذا المجال. نعم، ان العترة معصومة، والوصيّ، والّذي هو رأس سلسلة العترة معصوم وإنّه الوحيد الّذي كان معصوماً بين صحابة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وليس الآخرين، كما ان ابن متويه نطق بالحقّ من أدلة النصوص «ان ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة» فإن خليفة الله وخليفة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) والقائم مقام القرآن والنازل أحسن منازل القرآن، لابدّ أن يكون معصوماً، ولو قال ابن متويه غير هذا لقال خلاف الحقّ. حديث مع ابن أبي الحديد اننا لا نختلف مع ابن أبي الحديد عندما شرح مقولة «فأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ» بقوله: «إنّه أمر المكلفين بأن يجروا العترة الطاهرة في إجلالها واعظامها والانقياد لها والطاعة لأوامرها مجرى القرآن» مع إنّه يجب انزال العترة بأحسن منازل القرآن واعظامهم والانقياد لهم، واطاعة أوامرهم، إلاّ ان كلام الإمام حول العترة هو فوق هذا، لأن عبارة «فأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ» محفوفة بجملة تدلّ على أن العترة هم عين أحسن منازل القرآن والفاء هنا فصيحة، وسياق العبارة ان اعرفوا العترة بأ نّهم واجدي هذه المنازل وأصحابها. لقد قال(عليه السلام) في الخطبة 152 من نهج البلاغة «فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرحمن». لقد فرّع الإمام(عليه السلام) قوله: «فأَنْزِلُوهُمْ بِأَحْسَنِ مَنَازِلِ القُرْآنِ» على قوله: «كَيْفَ تَعْمَهُونَ وَبَيْنَكُمْ عِتْرَةُ نَبِيِّكُمْ؟ وَهُمْ أَزِمَّةُ الْحَقِّ، وأعلام الدين وَأَلْسِنَةُ الصِّدْقِ» أي بما أن عترة نبيكم هم بينكم أزمّة الدين وأعلام الدين وألسنة الصدق، فلذلك «أنزلوهم...». وهذا هو ما قاله أهل التحقيق من أن الإنسان الكامل قرآن ناطق أي ان الصورة الكتبية للقرآن هي الصورة الكتبية للإنسان الكامل، والصورة العينية للقرآن هي الصورة العينية للإنسان الكامل وبما أن القرآن معصوم في صوره ومنازله من كلّ خطأ، فإن المنزلين أحسن منازله معصومون كذلك. وهذا الكلام ليس مشعراً بالعصمة فحسب بل هو مبين له والباب 35 من كتاب الكافي هو حول هذا العنوان «باب إنّه لم يجمع القرآن كلّه إلاّ الأئمة(عليهم السلام) وإنّهم يعلمون علمه كلّه». اضافة إلى أن الحقائق والمعارف الصادرة عنهم(عليهم السلام) هي أصدق شاهد على انهم مبيّنون لحقائق الأسماء أي أحسن منازل القرآن. ثم قال الإمام(عليه السلام) «وردوهم ورود الهيم العطاش». ان للماء في النشأة العنصرية صورة العلم، وكما ان العلم سبب حياة الأشباح فكذلك العلم سبب حياة الأرواح، فإن الغذاء من سنخ المغتذي، لهذا فالماء يضرّ في عالم الأحلام بالعلم وقد فسر ابن عباس الماء بالعلم في قوله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماءً) بل ان المرحوم الطبرسي وفي تفسير الآية الكريمة: (وَأنْ لَوِ اسْتَـقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَـيْـنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً)(28) قال: عن بريد العجلي عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال: «معناه لأفدناهم علماً كثيراً يتعلمونه من الأئمة». وقال أيضاً: وفي تفسير أهل البيت(عليهم السلام) عن أبي بصير قال قلت لأبي جعفر(عليه السلام) قول الله (إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّـنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا)؟ قال: «هو والله ما أنتم عليه، لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً». وقال المرحوم الكليني في الباب الثلاثين من كتاب الكافي بإسناده عن الباقر(عليه السلام): «يعني لو استقاموا على ولاية أميرالمؤمنين عليّ(عليه السلام) والأوصياء من ولده وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماء غدقاً، يقول لأشربنا قلوبهم الإيمان والطريقة هي الإيمان بولاية عليّ والأوصياء». اذن فالعترة هم ماء الحياة وعيش العلم، كما ورد في الباب المائة من كتاب الكافي «إن مستقى العلم من بيت آل محمّد(عليهم السلام)». ولما كان للقرآن منازل ودرجات حتى العرش، فان العترة المحمّدية هي في أحسن وأعلى منازله ومراتبه وبما أ نّهم مرزوقون بمعرفة حقائق الأسماء العينية فهم مطّلعون على البطون والأسرار وتأويلات آيات القرآن، بل هم القرآن الناطق. «وانّ ذلك أمر اختص هو به دون غيره من الصحابة» نعم العترة معصومة وعليّ(عليه السلام) (الّذي هو رأس السلسلة في العترة) معصوم، وهو الوحيد بين أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) المختص بالعصمة، انّه خليفة الله وخليفة رسوله والقائم مقام أحسن منازل القرآن، فلابدّ أن يكون معصوماً، ولو قال ابن متويه غير هذا الجانب الحقّ... سُئل الخليل بن أحمد البصري اُستاذ سيبويه وواضع علم العروض: «ماهو الدليل على أنّ عليّاً إمام الكلّ في الكلّ؟ فقال: احتياج الكلّ إليه وغناه عن الكلّ» كذلك عنه في نفس الموضوع: «إحتياج الكلّ إليه واستغناؤه عن الكلّ دليل على انّه إمام الكلّ». يقول الشيخ الأكبر ابن عربي الحاتمي في الباب السادس من (الفتوحات المكية) في بحث الهباء «فلم يكن أقرب إليه قبولا في الهباء إلاّ حقيقة محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم) وأقرب الناس إليه عليّ بن أبي طالب(رضي الله عنه) إمام العالم وسرّ الأنبياء أجمعين». لقد كان أمير المؤمنين(عليه السلام)بين الخلق كالمعقول بين المحسوس يقول الشيخ الرئيس في الرسالة المعراجية: ان مركز الحكمة وفلك الحقيقة وخزينة العقل أميرالمؤمنين(عليه السلام) هو بين الخلق كالمعقول بين المحسوسات. هذه العترة إمام الكلّ في الكلّ، وإمام العالم، وسرّ الأنبياء أجمعين، فهم بين الخلق كالمعقول بين المحسوس، وهم أحسن منازل القرآن، أي انّهم الحكيم، وتبيان كلّ شيء، وكلّ الصفات الّتي عددناها للإنسان الكامل وتحدثنا عن بعضها إجمالا. فالإناء المنكوس الّذي ظهره إلى السماء ووجهه إلى الأرض لا تجتمع فيه ولا قطرة من الماء النازل من السماء إذا نزل عليها المطر، خلافاً لما لو كانت مفتوحةً صوب السماء فإنّ الله لا يترك الفم الجائعة بلا طعام. في الكافي بإسناده إلى أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر قال: «القلوب ثلاثة: قلب منكوس لا يعي شيئاً من الخير وهو قلب الكافر، وقلب فيه نكتة سوداء فالخير والشرّ فيه يعتلجان فأيّهما كانت منه غلب عليه، وقلب مفتوح فيه مصابيح تزهر ولا يطفأ نوره إلى يوم القيامة وهو قلب المؤمن»(29). ليس للقلب قرار ولا للتجلّي تكرار ليس للقلب توقّف، انّه متقلّب على الدوام، ولا تكرار في التجلّي، لهذا فانّ أي اسم من أسماء الله تعالى لا يتكرر، فمثلا الاسم الشريف (النور) له ظهور خاص في كلّ آن (كُلَّ يَوْم هُوَ فِي شَأن) فكلّه شأن واليوم زمان الظهور، وفي كلّ آن ظهورات وتجليات لا متناهية، وصاحب القلب أحقّ في قبول تجلّيات الحقّ، لا صاحب العقل، فهذا عقال، والقلب في تقلّب وتنوّع، فللذاكر حالة خاصة في كلّ حال وهو ذاكر اسماً بمعنىً في كلّ حال، وذلك الاسم يكون بمعنى آخر في حال اُخرى. فمثلا عندما ينادي المريض والجائع والضال الله فالأوّل يناديه بـ (يا شافي) والثاني (يا رزّاق) والثالث (يا هادي). ان نزول البركات والتجلّيات في القلب المفتوح هو من فيض قلب عالم الإمكان، وهذا معنى الهجرة أي أن تترك مدينة خلقك وتتوجه إلى مدينة اُخرى أي التوجه من عالم الطبيعة إلى ما وراءها. «لا يقع اسم الهجرة على أحد إلاّ بمعرفة الحجة في الأرض فمن عرفها وأقرّ بها فهو مهاجر»(30). فهذه الهجرة إعراض عن النشأة العنصرية، وفي هذا الاعراض بركات فيها التمثلات النورية في موطن خيال صقع للنفس الناطقة الّتي هي مظهر الاسم الشريف (المصور) والمجبولة على محاكاة الهيئات الادراكية. ان النوم والاحتضار والتنويم المغناطيسي وأشباهها ونظائرها لا موضوعية لها في حصول التمثلات، وهي ملاك إعراض النفس عن النشأة العنصرية، والأحوال هنا للتوجه التام والحضور الكامل هناك (فِي مَقْعَدِ صِدْق عِنْدَ مَلِيك مُقْتَدِر) قال الإمام الصادق(عليه السلام): «القلب حرم الله فلا تُسكن في حرم الله غير الله».
تجدد الأمثال والحركة الجوهرية ان جميع التجليات هي مظاهر ومجال متصلة وغير منقطعة كما انّه لا وجود لأي تراخ بين التجلّيين في أي اسم وعين، وان التعبير بـ (ف) و (ثم) هو لتقدم رتبة القبلي على البعدي. القلب (وخاصة قلب الإنسان الكامل) هو مرآة ظهورات التجليات المستمرة هذه، وإن ظهورات التجليات المستمرة هذه هي تجديد الخلق في كلّ آن، وهو ما لا يحس به الإنسان حتى بنفسه إذ لم يكن قبل ذلك ثم صار كائناً. يقول تعالى: (بَلْ هُمْ فِي لَبْس مِنْ خَلْق جَدِيد) ، وتجديد الخلق هذا هو تجدد الأمثال كما أشرنا سابقاً. العجيب ان الإنسان في ترقٍّ مستمر، لكنه غير ملتفت لذلك للطافة ورقّة الحجاب. ان تجدد الأمثال سار في الإنسان والعالم، سواءً العاري من المادة أو المملوء بها. ان لطافة الحجاب ورقته تعني ان الصانع (جلّت عظمته وعلا صنعه) متفرد في التصوير، ولا يمكن للغير أن يلتفت إلى تجدّد الأمثال الّتي ينشئها متتابعة، بل ان المحجوبين لا يرون ولا يتصورون إلاّ شيئاً واحداً، والحجاب هو هذه المظاهر المتكررة ذاتها، فهي حجب الذات. كما لو وقف شخص إلى جانب النهر الّذي يسير الماء فيه بسرعة، فانّه يرى صورته ثابتة في الماء مهما امتد الزمان وجرى الماء، مع ان صورته تتكرر بتكرر انعكاس الصور في الماء الجديد الّذي يسير خلق بعضه، مع اننا نعلم أن ماء النهر لا قرار له. وهكذا الصانع الماهر المصور الّذي هو كلّ يوم في شأن، له القدرة على أن يوجد تجدداً في أمثلة من الطبائع والقوى والأملاك والعقول في الموجودات بحيث يتصور انّها نفس الصور السابقة والقديمة. ان الحركة الجوهرية سارية في عالم الطبائع المادي فقط (لكاتب هذه السطور رسالة وجيزة في تجدد الأمثال وفرقها عن الحركة الجوهرية مع تحقيق وتقرير في مسائلها ومطالبها بصورة مستوفية). ذكر الحلقة في الجنّة «يا عليّ» على الرغم من أن القلب ليس له قرار ولكني أتبرك بذكر الحلقة الّتي في الجنّة واترك البحث: «في الأمالي بإسناده إلى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إنّ حلقة باب الجنّة من ياقوتة حمراء على صفائح الذهب فإذا دقّت الحلقة على الصفحة طنّت وقالت يا عليّ». حبذا لو اخترع أرباب الصناعات حلقة يكون رنينها يا عليّ. لقد تم الفراغ من تأليف هذه الرسالة في سحر ليلة الثلاثاء 22 شوال المكرم سنة 1400 هـ .ق. (دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّـتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ)
قم ـ حسن حسن زاده الآملي |
(1) نهج البلاغة. (2) مقدمة شرح القيصري في الفصوص: 57. (3) الكافي للكليني: فضل العلم 1/39. (4) نهج البلاغة. (5) اُصول الكافي: 2/308. (6) أمالي الصدوق: المجلس الأوّل 4 . (7) نهج البلاغة: الخطبة 187. (8) الزمر: 24. (9) الشعراء: 193. (10) البقرة: 97. (11) شرح النهج : 2/413 ط الحجرية. (12) شرح النهج : 19/25 ط مصر. (13) شرح النهج لابن أبي الحديد: 316 ط 1. (14) الأسفار: 4/63 ط 1. (15) مسند أحمد بن حنبل: 5/26. (16) تفسير البرهان: فضل سورة يس . (17) لقمان: 28 . (18) الكهف: 109. (19) اُصول الكافي: 2/444 رواية عن الصادق. (20) اُصول الكافي: 2/446 . (21) مجمع البحرين للطريحي في مادة: ج م ع. (22) هود: 2. (23) النحل: 90. (24) الوافي: 14/64. (25) نهج البلاغة: خطبة 58. (26) نهج البلاغة: خطبة 152. (27) شرح ابن أبي الحديد: 1/352 ط حجرية. (28) الجن: 17. (29) اُصول الكافي: 2/309. (30) نهج البلاغة: الخطبة 187. |