دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته . و هي من جلائل رسائله و وصاياه ، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام . كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم ، و في مفهوم الحكومة ،

حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور ،

من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر .

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور ، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك ، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم ، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده ، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح ، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

[ 1 ] النواصي ، جمع ناصية ، و هي : مقدّم شعر الرأس .

[ 149 ]

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت [ 1 ] . و أشعر قلبك الرحمة للرعية ، و المحبّة لهم ، و اللطف بهم . و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان : إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل [ 2 ] ، و تعرض لهم العلل ، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ [ 3 ] ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه ، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك ، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو ، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة [ 4 ] .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك [ 5 ] ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده . و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم ، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد .

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية ، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة ،

[ 1 ] الشح : البخل . يقول : انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت ، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت ، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق .

[ 2 ] يفرط : يسبق . الزلل : الخطأ .

[ 3 ] يؤتى على أيديهم : تأتي السيئات على أيديهم .

[ 4 ] بجح بالشي‏ء : فرح به . البادرة : ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل .

المندوحة : المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص .

[ 5 ] من لك فيه هوى ، أي : من تميل اليه ميلا خاصا .

[ 150 ]

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة [ 1 ] . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء ، و أكره للإنصاف ، و أسأل بالإلحاف [ 2 ] ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء ، و أبطأ عذرا عند المنع ، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر ، من أهل الخاصة [ 3 ] .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد ، و اقطع عنك سبب كلّ وتر [ 4 ] ،

و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين .

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا ، و من شركهم في الآثام ، فلا يكوننّ لك بطانة [ 5 ] فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

[ 1 ] يحجف : يذهب . يقول للحاكم : إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة ،

فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء . أما إذا رضي عليك العامة ، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل ، فسخط الخاصة مغتفر .

[ 2 ] الإلحاف : الإلحاح .

[ 3 ] يقول : ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم ، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة ، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة . فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم .

[ 4 ] الوتر : العداوة : يقول : احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم . و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا .

[ 5 ] البطانة : الخاصة .

[ 151 ]

الظّلمة [ 1 ] ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه . ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك [ 2 ] و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ ذلك ] من هواك حيث وقع . و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله [ 3 ] .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء ، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان ، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه [ 4 ] و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم [ 5 ] و تخفيفه المؤونات عنهم ، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم [ 6 ] ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

[ 1 ] الأثمة : جمع آثم . الظلمة : جمع ظالم .

[ 2 ] آثرهم : أفضلهم . مرارة الحق . صعوبته . يقول : ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك .

[ 3 ] رضهم : عوّدهم . يطروك : يطنبوا في مدحك . يبجحوك بباطل لم تفعله :

يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته .

[ 4 ] أي : أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه ، و هو استحقاق الإحسان . و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك ، و هو استحقاق العقاب .

[ 5 ] ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم . و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه ، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم .

[ 6 ] قبلهم ، بكسر ففتح : عندهم .

[ 152 ]

حسن الظنّ برعيّتك ، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده ، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده [ 1 ] .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء [ 2 ] في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك ، و إقامة ما استقام به الناس قبلك .

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك ، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما : ممّن يبطى‏ء عن الغضب ، و يستريح إلى العذر ، و يرأف بالضعفاء ، و ينبو على الأقوياء [ 3 ] و ممن لا يثيره العنف ، و لا يقعد به الضعف .

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد ، و ظهور مودّة الرعية ، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم ، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم [ 4 ] .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى ، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

[ 1 ] البلاء : الصنع ، حسنا أو سيئا .

[ 2 ] المنافثة : المحادثة .

[ 3 ] ينبو : يشتدّ و يعلو . يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء .

[ 4 ] الحيطة ، بكسر الحاء : مصدر « حاط » بمعنى : صان و حفظ ، يقول : ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم .

[ 153 ]

غيره [ 1 ] ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا ، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما .

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك [ 2 ] ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم [ 3 ] و لا يتمادى في الزلّة ، و لا تشرف نفسه على طمع ، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه [ 4 ] ،

و أوقفهم في الشّبهات [ 5 ] و آخذهم بالحجج ، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم ، و أصبرهم على تكشّف الأمور ، و أصرمهم عند اتّضاع الحق ،

ممن لا يزدهيه إطراء ، و لا يستميله إغراء ، و أولئك قليل . ثم أكثر تعاهد قضائه [ 6 ] و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك .

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا ، و لا تولّهم محاباة

[ 1 ] لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره .

[ 2 ] انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة .

[ 3 ] تمحكه : تغضبه .

[ 4 ] لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه ، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة .

[ 5 ] الشبهات ، جمع شبهة ، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص ، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح .

[ 6 ] أي : تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف .

[ 154 ]

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة [ 1 ] . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون [ 2 ] من أهل الصدق و الوفاء عليهم ، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم [ 3 ] على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية . و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه [ 4 ] عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه ،

و أخذته بما أصاب به من عمله ، ثم نصبته بمقام المذلّة ، و وسمته بالخيانة ،

و قلّدته عار التهمة .

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله ، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم . و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم ، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله . و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة . و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا .

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك .

و إن العمران محتمل ما حمّلته ، و إنما يؤتى خراب الأرض من

[ 1 ] أي : ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة ، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك ، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا .

[ 2 ] العيون : الرقباء .

[ 3 ] حدوة : سوق و حثّ .

[ 4 ] اجتمعت عليها أخبار عيونك : اتفقت عليها أخبار رقبائك .

[ 155 ]

إعواز أهلها ، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع [ 1 ] و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر .

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم ، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور ، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل .

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك [ 2 ] و حسن الظنّ منك ، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم [ 3 ] ،

و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء . و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته [ 4 ] .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا : المقيم منهم و المضطرب بماله [ 5 ] ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق ، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك . و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات ، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة ، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

[ 1 ] إشراف انفس الولاة على الجمع : تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا .

[ 2 ] الفراسة : قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر . الاستنامة : الاطمئنان إلى حسن الرأي . أي : لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء .

[ 3 ] أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم .

[ 4 ] إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك .

[ 5 ] المتردد بأمواله بين البلدان .

[ 156 ]

اللّه عليه و سلّم منع منه . و ليكن البيع بيعا سمحا : بموازين عدل ، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع [ 1 ] فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف [ 2 ] .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول :

و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم ، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى ، و كلّ قد استرعيت حقّه ،

فلا يشغلنّك عنهم بطر [ 3 ] فإنك لا تعذر بتضييعك التافه [ 4 ] لإحكامك المهمّ ، فلا تشخص همّك عنهم [ 5 ] و لا تصعّر خدّك لهم [ 6 ] و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون [ 7 ] و تحقره الرجال ،

فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم . و تعهّد

[ 1 ] المبتاع : المشتري .

[ 2 ] قارف : خالط . الحكرة : الاحتكار . نكل به : أوقع به العذاب عقوبة له . يقول :

من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها .

[ 3 ] البطر : طغيان النعمة .

[ 4 ] يقول : لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير .

[ 5 ] لا تشخص همك عنهم : لا تصرف همك عنهم .

[ 6 ] صعّر خده : أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا .

[ 7 ] تقتحمه العيون : تكره أن تنظر اليه احتقارا .

[ 157 ]

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن [ 1 ] ممّن لا حيلة له ، و لا ينصب للمسألة نفسه ، و ذلك على الولاة ثقيل ، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك ، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك ، و تقعد عنهم جندك و أعوانك [ 2 ] من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع [ 3 ] فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن [ 4 ] : « لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع » ثم احتمل الخرق منهم و العيّ [ 5 ] و نحّ عنهم الضيق و الأنف [ 6 ] .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها : منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك . و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك [ 7 ] ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه .

[ 1 ] ذوو الرقة في السن : المتقدمون فيه .

[ 2 ] أي : تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم .

[ 3 ] التعتعة في الكلام : التردد فيه من عجز و عيّ ، أو من خوف .

[ 4 ] في مواطن كثيرة .

[ 5 ] الخرق : العنف . العي : العجز عن النطق . أي : لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك .

[ 6 ] الأنف : الاستنكاف و الاستكبار .

[ 7 ] تحرج : تضيق . يقول : إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات ، و يحبون المماطلة في قضائها ، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت .

[ 158 ]

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك ، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور . و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير ، و يقبح الحسن و يحسن القبيح ، و يشاب الحقّ بالباطل . و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور ، و ليست على الحقّ سمات [ 1 ] تعرف بها ضروب الصدق من الكذب ، و إنما أنت أحد رجلين : إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك [ 2 ] من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه ؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك [ 3 ] ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة .

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول ، و قلّة إنصاف في معاملة ، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال [ 4 ] و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة [ 5 ] و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

[ 1 ] سمات : علامات .

[ 2 ] لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم ، أو في عمل تمنحهم إياه ؟

[ 3 ] يقول : و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك ، فلا حاجة للاحتجاب .

[ 4 ] احسم : اقطع . يقول : اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم ، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة .

[ 5 ] الاقطاع : المنحة من الأرض . القطيعة : الممنوح منها . الحامة ، كالطّامة : الخاصة و القرابة . الاعتقاد : الامتلاك . العقدة : الضيعة .

[ 159 ]

غيرهم فيكون مهنأ ذلك [ 1 ] لهم دونك ، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة .

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد ، و كن في ذلك صابرا محتسبا ، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع ، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه ، فإنّ مغبّة ذلك محمودة [ 2 ] .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر [ 3 ] لهم بعذرك ، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك [ 4 ] و رفقا برعيّتك و إعذارا [ 5 ] تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق .

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا ، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك . و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت [ 6 ] و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

[ 1 ] المهنأ : المنفعة الهنيئة .

[ 2 ] المغبة : العاقبة ، يقول : إن إلزام الحق لمن لزمهم ، و إن ثقل على الوالي و عليهم ،

محمود العاقبة يحفظ الدولة .

[ 3 ] الحيف : الظلم . أصحر بهم : ابرز لهم .

[ 4 ] رياضة منك لنفسك : تعويدا لنفسك على العدل .

[ 5 ] الإعذار : تقديم العذر أو إبداؤه .

[ 6 ] أصل معنى الذمة : وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها ، ثم أطلقت على معنى العهد . الجنة : الوقاية .

يقول : حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد .

[ 160 ]

و لا تختلنّ [ 1 ] عدوّك . و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل [ 2 ] و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة ، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ [ 3 ] .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام ، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله ، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك ، أو التزيّد في ما كان من فعلك [ 4 ] أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك ، فإنّ المنّ يبطل الإحسان ، و التزيّد يذهب بنور الحق ، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس .

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها ، أو التسقّط فيها عند إمكانها [ 5 ] أو الوهن عنها إذا استوضحت . فضع كلّ أمر موضعه ، و أوقع كلّ أمر موقعه .

[ 1 ] خاس بعهده : خانه و نقضه . الختل : الخداع .

[ 2 ] العلل : جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد ، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته .

[ 3 ] لحن القول : ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض . يقول : إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه ، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك .

[ 4 ] التزيّد : إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار .

[ 5 ] التسقط : يريد به هنا : التهاون .

[ 161 ]

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة [ 1 ] ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون ، فإنه مأخوذ منك لغيرك ، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم . إملك حميّة أنفك [ 2 ] و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك [ 3 ] و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة [ 4 ] و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار .

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة ، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا ،

و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك ، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها . و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه [ 5 ] .

[ 1 ] احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس ، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة .

[ 2 ] أي : أملك نفسك عند الغضب .

[ 3 ] السورة : الحدة : و الحد : البأس . و الغرب : الحد ، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه .

[ 4 ] البادرة : ما يبدر من اللسان عند الغضب ، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا ،

و السكون يطفى‏ء من لهبه .

[ 5 ] يريد من العذر الواضح : العدل ، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه ، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة .

[ 162 ]