منطقهم الصّواب و مشيهم التّواضع

روي أن صاحبا لابن أبي طالب يقال له « همام » قال له : يا أمير المؤمنين ، صف لي المتّقين حتى كأني أنظر اليهم فتثاقل الإمام عن جوابه قليلا ، ثم قال في صفة المتّقين قولا رائعا كثيرا ، هذا بعضه :

أمّا بعد ، فإن اللّه سبحانه و تعالى خلق الخلق حين خلقهم غنيا عن طاعتهم آمنا من معصيتهم ، لأنه لا تضرّه معصية من عصاه و لا تنفعه طاعة من أطاعه ، فقسم بينهم معايشهم و وضعهم من الدنيا مواضعهم ، فالمتّقون فيها هم أهل الفضائل : منطقهم الصواب و ملبسهم الاقتصاد و مشيهم التواضع ، غضّوا أبصارهم عمّا حرّم اللّه عليهم و وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم ، نزّلت أنفسهم منهم في البلاء كما نزّلت في الرّخاء [ 1 ] ، و لو لا الأجل الذي كتب عليهم لم تستقرّ أرواحهم في أجسادهم طرفة عين .

لا يرضون من أعمالهم القليل و لا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم

[ 1 ] أي انهم إذا كانوا في بلاء كانوا بالأمل في اللّه كأنهم في رخاء لا يجزعون و لا يهنون ، و إذا كانوا في رخاء كانوا من خوف اللّه و حذر النقمة كأنهم في بلاء ،

لا يبطرون و لا يتجبرون .

[ 186 ]

متّهمون ، و من أعمالهم مشفقون [ 1 ] ، إذا زكّي أحدهم [ 2 ] خاف مما يقال له ، فيقول : أنا أعلم بنفسي من غيري ، و ربّي أعلم بي مني بنفسي .

اللهمّ لا تؤاخذني بما يقولون ، و اجعلني أفضل مما يظنّون ، و اغفر لي ما لا يعلمون فمن علامة أحدهم : أنك ترى له حزما في لين ، و إيمانا في يقين ،

و قصدا في غنى [ 3 ] ، و خشوعا في عبادة ، و تجمّلا في فاقة ، و صبرا في شدّة ، و نشاطا في هدى ، و تحرّجا عن طمع [ 4 ] . يمزج الحلم بالعلم و القول بالعمل . الخير منه مأمول ، و الشرّ منه مأمون . يعفو عمّن ظلمه و يعطي من حرمه و يصل من قطعه ، بعيدا فحشه ليّنا قوله حاضرا معروفه ، لا يحيف على من يبغض و لا يأثم في من يحب . يعترف بالحقّ قبل أن يشهد عليه . لا ينابز بالألقاب [ 5 ] و لا يضارّ بالجار و لا يشمت بالمصائب و لا يدخل في الباطل و لا يخرج من الحق . نفسه منه في عناء و الناس منه في راحة . بعده عمّن تباعد عنه زهد و نزاهة ، و دنوّه ممّن دنا منه لين و رحمة . ليس تباعده بكبر و عظمة و لا دنوّه بمكر و خدعة .

[ 1 ] أي : خائفون من التقصير فيها .

[ 2 ] زكي : مدحه أحد .

[ 3 ] قصدا : اقتصادا .

[ 4 ] التحرج ، هنا : التباعد .

[ 5 ] أي : لا يدعو غيره باللقب الذي يكرهه و يشمئزّ منه .

[ 187 ]