اصناف النّاسمن خطبة له في سوء طباع الناس بزمانه : أيها الناس ، إنّا قد أصبحنا في دهر عنود و زمن كنود [ 4 ] يعدّ فيه المحسن مسيئا ، و يزداد الظالم عتوّا ، لا ننتفع بما علمنا و لا نسأل عمّا جهلنا و لا نتخوّف قارعة حتى تحلّ بنا [ 5 ] . فالناس على أربعة أصناف :
[ 1 ] الخزية : البلية تصيب الانسان فتذله و تفضحة [ 2 ] غرّر : أوقع بنفسه في الغرر ، أي : الخطر . [ 3 ] أي : قائم للصلاة . [ 4 ] العنود : الجائر . الكنود : الكفور . [ 5 ] القارعة : الخطب . [ 181 ] منهم من لا يمنعهم الفساد إلاّ مهانة نفسه و كلالة حدّه و نضيض وفره [ 1 ] . و منهم المصلت لسيفه و المعلن بشرّه ، قد أشرط نفسه و أوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه [ 2 ] . و لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا . و منهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ، و لا يطلب الآخرة بعمل الدنيا : قد طامن من شخصه و قارب من خطوه و شمّر من ثوبه و زخرف من نفسه للأمانة ، و اتّخذ ستر اللّه ذريعة إلى المعصية . و منهم من أبعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه و انقطاع سببه ، فقصرته الحال على حاله فتحلّى باسم القناعة و تزيّن بلباس أهل الزّهادة و بقي رجال غضّ أبصارهم ذكر المرجع و أراق دموعهم خوف المحشر ، فهم بين شريد نادّ و خائف مقموع و ساكت مكعوم و داع مخلص و ثكلان موجع [ 3 ] . قد أخملتهم التقيّة [ 4 ] و شملتهم الذّلّة .
[ 1 ] أي : لا يقعد بهم عن طلب الإمارة و السلطان إلا حقارة نفوسهم و ضعف سلاحهم و قلة مالهم . [ 2 ] أصلت السيف : امتشقه . أشرط نفسه : هيأها و أعدّها للشر و الفساد في الأرض . أوبق دينه : أهلكه . الحطام ، هنا : المال . ينتهزه : يغتنمه أو يختلسه . المقنب : طائفة من الخيل ، و إنما يطلب قود المقنب تعزّزا على الناس و كبرا . فرع المنبر : علاه . [ 3 ] نادّ : هارب من الجماعة الى الوحدة . المقموع : المقهور . المكعوم ، من كعم البعير ، أي : شدّ فاه لئلاّ يأكل أو يعض . الثكلان : الحزين . [ 4 ] أخمله : أسقط ذكره حتى لم يبق له بين الناس نباهة . التقية : اتّقاء الظلم بإخفاء الحال . [ 182 ] و قد وعظوا حتى ملّوا و قهروا حتى ذلّوا و قتلوا حتى قلّوا . فاتّعظوا بمن كان قبلكم ، قبل أن يتّعظ بكم من بعدكم ، و ارفضوها ذميمة فإنها رفضت من كان أشغف بها منكم |