بقاء الدّولة

من خطبة له خطبها بصفين :

أما بعد ، فقد جعل اللّه سبحانه لي عليكم حقّا بولاية أمركم ، و لكم عليّ من الحقّ مثل الذي لي عليكم ، فالحقّ أوسع الأشياء في التواصف و أضيقها في التناصف [ 6 ] ، لا يجري لأحد إلاّ جرى عليه ، و لا يجري عليه إلا جرى له .

[ 1 ] حمس : اشتد و صلب . استحر : بلغ في النفوس غاية حدّته . و قوله « انفراج الرأس » يعني انفراجا لا التئام بعده ، فإن الرأس اذا انفرج عن البدن أو انفرج أحد شقيه عن الآخر لم يعد للالتئام .

[ 2 ] يأكل لحمه حتى لا يبقى منه شي‏ء على العظم .

[ 3 ] الجوانح : الضلوع تحت الترائب . يريد ضعيف القلب .

[ 4 ] يمكن ان يكون خطابا عاما لكل من يمكّن عدوّه من نفسه . و يروى انه خطاب للأشعث بن قيس عند ما قال له : « هلاّ فعلت فعل عثمان » فأجابه الإمام بقوله هذا .

[ 5 ] فراش الهام : العظام الرقيقة التي تلي القحف .

[ 6 ] يتسع القول في وصفه حتى إذا وجب الحقّ على الانسان الواصف له ، فرّ من أدائه و لم ينتصف من نفسه كما ينتصف لها .

[ 127 ]

ثم جعل ، سبحانه ، من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض ،

فجعلها تتكافأ في وجوهها ، و يوجب بعضها بعضا ، و لا يستوجب بعضها إلا ببعض [ 1 ] . و أعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية و حقّ الرعية على الوالي ، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة و لا يصلح الولاة إلا باستقامة الرعية . فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه و أدّى الوالي اليها حقّها عزّ الحقّ بينهم ، و اعتدلت معالم العدل ، فصلح بذلك الزمان و طمع في بقاء الدولة و يئست مطامع الأعداء . و إذا غلبت الرعية واليها ، أو أجحف الوالي برعيته ، اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور فعمل بالهوى و عطّلت الأحكام و كثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل و لا لعظيم باطل فعل فهنالك تذلّ الأبرار و تعزّ الأشرار .

و ليس امرؤ و إن عظمت في الحقّ منزلته بفوق أن يعان على ما حمّله اللّه من حقّه ، و لا امرؤ و إن صغّرته النفوس و اقتحمته العيون بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه .

[ 1 ] أي : لا يستحق أحد شيئا إلا بأدائه مكافأة ما يستحقه .

[ 2 ] أي : إذا عطل الحق لا تأخذ بالنفوس وحشة أو استغراب لتعوّدها على تعطيل الحقوق و أفعال الباطل .

[ 3 ] بفوق ان يعان : بأعلى من أن يحتاج إلى الإعانة ، أي : بغنى عن المساعدة .

[ 4 ] اقتحمته : احتقرته .

[ 128 ]

هنا أجابه رجل من أصحابه بكلام طويل يكثر فيه الثناء عليه و يذكر سمعه و طاعته له .

فقال الإمام هذا القول الرائع :

و إنّ من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظنّ بهم حبّ الفخر و يوضع أمرهم على الكبر . و قد كرهت أن يكون جال في ظنّكم أني أحبّ الإطراء و استماع الثناء ، و لست بحمد اللّه كذلك ، فلا تكلّموني بما تكلّم به الجبابرة ، و لا تتحفّظوا مني بما يتحفّظ به عند أهل البادرة [ 1 ] و لا تخالطوني بالمصانعة ، و لا تظنّوا بي استثقالا في حقّ قيل لي ، فإنه من استثقل الحقّ أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطى‏ء ؟