كانوا اطول اعمارا

من خطبة له في أحوال الدنيا :

أمّا بعد ، فإني أحذّركم الدنيا ، فإنها حلوة خضرة ، حفّت بالشهوات و تحلّت بالآمال و تزيّنت بالغرور .

[ 1 ] بائن : مبتعد ، منفصل .

[ 2 ] أي : منهم من هلك عند تكسر السفينة و منهم من بقيت فيه الحياة فخلص محمولا على بطون الأمواج ، كأن الأمواج في انتفاخها كالحيوان المنقلب على ظهره و بطنه إلى أعلى . أما هذا الناجي الذي تدفعه الرياح ، فمصيره أيضا إلى الهلاك ، بعد طول العناء .

[ 190 ]

لم يكن امرؤ منها في حبرة [ 1 ] إلاّ أعقبته بعدها عبرة ، و لم يلق في سرّائها بطنا إلا منحته من ضرّائها ظهرا [ 2 ] . و حريّ إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكّرة . و إن جانب منها احلولى ، أمرّ منها جانب فأوبي [ 3 ] . لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا [ 4 ] إلا أرهقته من نوائبها تعبا و لا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف [ 5 ] كم من واثق بها قد فجعته ، و ذي طمأنينة اليها قد صرعته ،

و ذي أبّهة [ 6 ] قد جعلته حقيرا ، و ذي نخوة قد ردّته ذليلا . ملكها مسلوب ، و عزيزها مغلوب ، و موفورها منكوب ، و جارها محروب [ 7 ] أ لستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا ، و أبقى آثارا ،

و أبعد آمالا ، و أعدّ عديدا ، و أكثف جنودا تعبّدوا للدنيا أيّ تعبّد ،

و آثروها أيّ إيثار ، ثم ظعنوا عنها بغير زاد فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية ، أو أعانتهم بمعونة ، أو أحسنت لهم صحبة

[ 1 ] الحبرة : المسرة و النعمة .

[ 2 ] كنى ب « البطن » عن الإقبال ، و ب « الظهر » عن الإدبار .

[ 3 ] أوبى : صار كثير الوباء .

[ 4 ] الغضارة : النعمة و السعة . الرغب بفتح الباء الرغبة .

[ 5 ] القوادم : أربع ريشات في مقدّم جناح الطائر .

[ 6 ] الأبهة : العظمة .

[ 7 ] محروب : مسلوب المال .

[ 191 ]