الوحدة الوجوديّةو كان ما تباعد منها مضموما في وخدة طرفاها الأزل و الأبد الأدب اصالة في الفكر و الحس و الخيال و الذوق ، تربط بين صاحبها و جملة الكائنات في وحدة وجودية مطلقة . ثم تعبّر عن نفسها بحياة تحيا على أصول من هذه الوحدة ، و بأسلوب جماليّ هو تجسيم حيّ للتفاعل بين الأديب و الكون . و لما كان العلم تجزئة كان الفنّ توحيدا . و لما كان العلم ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات وجب فكّها و تذريرها ، كان الفن ينظر إلى الأشياء من حيث هي كائنات مجزّأة في ظاهرها ، موحّدة في أصولها و حقيقتها ، مما يؤول الى فكرة الشمول الكوني و الارتباط الكامل بين مختلف مظاهر الوجود و ما كان الأدب إلا بهذا الشمول و إذا كان الفلاسفة قد فطنوا الى وحدة الوجود في العصور المتأخرة ، فإن الأديب قد فطن لها منذ كان الانسان و كانت في أعماقه بذور الفن و أحاسيس الأدب . ذلك لأن دليل الفيلسوف عقله و قياسه ، و كلاها محدود بالنسبة للمركّب الانساني الحيّ . و دليل الأديب شعوره و إلهامه ، و هما انبثاق عاجل و امض عن جملة كيانه . ثم إن نظرة الفيلسوف الى الكون كوحدة متفاعلة متكاملة ، إن هي إلاّ نظرة تظلّ سطحية إذا ما قيست بنظرة الأديب . فالفيلسوف يشاهد و يراقب و يقيس ثم يسجّل . و أداته في ذلك العقل وحده ، و العقل شيء من الانسان الحي بل قل هو جانب منه . و الأديب [ 18 ] يتفاعل مع الكون و الحياة تفاعلا مباشرا مستمرا إذ يحس و يستلهم بعقله و شعوره و خياله و مزاجه و ذوقه جميعا ، أي بجملة كيانه . و هو ، إلى ذلك ، أسبق و أعمق . فالأديب أستاذ الفيلسوف : أستاذه و دليله منذ كان ، و أستاذه و دليله إلى الأبد و إذا كان هذا هو الأمر ، و هو كذلك ، فإنّ عليّ بن أبي طالب عظيم من عظماء هذه الطائفة من حيث النظرة و الأسلوب : طائفة الأدباء الخالدين الذين ينظرون إلى نجوم السماء و رمال الصحراء و مياه البحار و كساء الطبيعة فإذا هي أشياء من نفوسهم ، هذه النفوس التي تستشعر في الكون قوة وجودية واحدة جامعة كانت منذ الأزل و تبقى الى الأبد . يقول ميخائيل نعيمة الذي يمثل طاقة الفنان على الاحساس العميق بوحدة الوجود في أدبنا العربي المعاصر : « بل كيف يكون أديبا من لا يحسّ جذوره في الأزل و الأبد ، و لا يحسّ ما مضى و ما سيأتي » إن هذا الإحساس بالجمال الأسمى الذي يلف الكائنات جميعا ، على تباين مظاهرها ، بوشاح واحد ، هو ما تراه في آثار عباقرة الأدب مهما تنوّعت موضوعات هذه الآثار ، و مهما اختلفت ظروفها . فإذا أنت سمعت صوت الشاعر العظيم ينطق بلسان المسيح قائلا : « تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو ، و لكن أقول لكم إنه و لا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها » سمعت صوتا من أعظم ما سمع الكون ، و أدركت أمتع نظرة تخترق أعماق الجمال الكلّي ، و تساءلت : أنّى للتراب و الصخر و سحب السماء أن تأتي بمثل هذه الروعة و هذا الجمال ، جمال زنابق الحقل و هي تنمو ، لو لم تكن وحدة الوجود هذه و لو لم يكن الجمال مدار الوجود الواحد ، و رابطة أجزائه منذ البداية حتى النهاية ؟ و هو ، في الوقت ذاته ، مدار الفكرة و الشعور لدى الفنان : الخالق الصغير و من ذلك قول المسيح الرائع و قد جاؤوه بزانية جعلت على نفسها سبيلا بحكم شرائعهم : « من كان منكم بلا خطيئة فليرجم هذه الزانية بحجر » و إذا أنت سمعت قول الشاعر العظيم ينطق بلسان سليمان بن داود : « جيل يمضي و جيل يأتي و الأرض قائمة مدى الدهر . و الشمس تشرق و الشمس تغرب [ 19 ] ثم تسرع الى موضعها الذي طلعت منه . تذهب الريح الى الجنوب و تدور الى الشمال ، تدور و تطوف في مسيرها ثم الى مداورها تعود الريح جميع الأنهار تجري الى البحر و البحر ليس بملآن ثم الى الموضع الذي جرت منه الأنهار الى هناك تعود لتجري أيضا » و إذا سمعته أيضا يقول : « أنا وردة الشارون و سوسنة الأودية ، كالسوسنة بين الشوك كذلك خليلتي بين البنات . كالتفاحة في أشجار الغابة كذلك حبيي بين البنين . قد اشتهيت فجلست في ظله و ثمره حلو في حلقي . قد ظهرت الزهور في الأرض و وافى أوان القضب و سمع صوت اليمامة في أرضنا . « يا حمامتي التي في نخاريب الصخر و في خفايا المعاقل أريني محيّاك ، أسمعيني صوتك فإن صوتك لطيف و محيّاك جميل ، إلى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال . عد يا حبيي و كن كالظبي أو كغفر الأيلة على جبال باتر . « جميلة أنت يا خليلتي جميلة أنت و عيناك كحمامتين من وراء نقابك ، و شعرك كقطيع معز يبدو من جبل جلعاد . شفتاك كسمط من القرمز و نطقك عذب . خدّاك كفلقة رمانة من وراء نقابك . عنقك كبرج داود المبني للسلاح الذي علق فيه ألف مجنّ ، جميع تروس الجبابرة . الى أن ينسم النهار و تنهزم الظلال أنطلق إلى جبل المرّ و الى تلّ اللبّان . هلمّي معي من لبنان أيتها العروس . معي من لبنان انظري من رأس أمانة من رأس حرمون من مرابض الأسود من جبال النمور . شفتاك تقطران شهدا أيتها العروس و تحت لسانك عسل و لبن و عرف ثيابك كعرف لبنان . « عين جنّات و بئر مياه حية و أنهار من لبنان ، هبّي يا شمال و هلمّي يا جنوب انسمي على جنّتي فتنسكب أطيابها » إذا أنت سمعت ذلك و وعيته وعيا صحيحا ، أدركت ان سليمان ينهل شعره من المنهل ذاته الذي ارتوى منه المسيح و إن اختلف الموضوع . و من ذلك قول فيكتور هيغو ، أحد عظماء الفنانين الذين نبغوا بعد الثورة الفرنسية ، و هو [ 20 ] حوار بين الكواكب يرينا الشاعر به الانسان و قد ضاع و كاد يختفي هو و الأرض التي يسكنها ، لضآلتهما في سعة الكون الواحد العجيب : ما هذا الصوت التافه الضعيف الذي يهمس ؟ أيتها الأرض ، ما الغاية من دورانك ، في أفقك الضيق المحدود ؟ و هل أنت سوى حبّة من الرمل مصحوبة بذرّة من رماد ؟ أما أنا ، ففي السماء الزرقاء الشاسعة أرسم إطارا هائلا فترى المسافة المكانية ، و هي فزعة مرعوبة ، جمالي مشوّها و هالتي ، التي تحيل شحوب الليالي الى حمرة قانية ككرات من الذهب تعلو و تهبط متقاطعة في يد الحاوي ، تبعد ، و تجمع ، و تمسك سبعة من الأقمار الضخمة الهائلة و ها هي الشمس تجيب : سكوتا ، هناك في زاوية من السماوات ، ايتها الكواكب ، أنتم رعاياي هدوءا أنا الراعي و أنتم الرعية . إنكما كعربتين تسيران جنبا الى جنب للدخول من الباب . في أصغر بركان عندي ، المريخ مع الأرض يدخلان دون أن يلمسا جوانب المدخل و ها هي ذي نجوم الدب الأصغر تضيء مثل سبع أعين حيّة لها بدل الحبّات شموس و ها هو ذا طريق المجرّة يرسم غابة ناضرة جميلة مليئة بنجوم السماء أيتها الكواكب السفلى ، إن مكاني من مكانكم في درجة من البعد حتى أن نجومي المضيئة الثابتة الشبيهة بمجاميع الجزائر المتناثرة في الماء ، و شموسي الكثيرة ، ليست بالنسبة لنظركم الضعيف القاصر ، [ 21 ] في زاوية بعيدة من السماء شبيهة بصحراء حزينة يتلاشى الصوت فيها ، سوى قليل من الرماد الأحمر قد انتثر في جوف الليل » و ها هي ذي نجوم مجرّة أخرى تصوّر عوالم لا تقلّ عن تلك العوالم ، متناثرة في الأثير ، ذلك المحيط الذي لا رمال فيه و لا حصباء في جوانبه ، تذهب أمواجه و لكن لا تعود أبدا إلى شواطئه . و أخيرا ها هو الإله يتحدث : « ليس لديّ إلا أن أنفخ ، فيصبح كل شيء ظلاما [ 1 ] » و إليك ما يقوله عليّ بن أبي طالب في صفة الطاووس [ 2 ] : « و من أعجبها خلقا الطاووس الذي أقامه في أحكم تعديل ، و نضّد ألوانه في أحسن تنضيد . بجناح أشرح قصبه . و ذنب أطال مسحبه . إذا درج إلى الأنثى نشره من طيّه ، و سما به مظلاّ على رأسه . تخال قصبه مداري من فضّة ، و ما أنبت عليه من عجيب داراته و شموسه خالص العقيان و فلذ الزبرجد . فإن شبّهته بما أنبتت الأرض قلت : جنى جني من زهرة كل ربيع . و إنّ ضاهيته بالملابس فهو كموشّى الحلل أو مونق عصب اليمن . و إن شاكلته بالحليّ فهو كفصوص ذات ألوان قد نطّقت باللجين المكلّل : يمشي مشي المرح المختال ، و يتصفّح ذنبه و جناحيه فيقهقه ضاحكا لجمال سرباله و أصابيغ و شاحه « فإذا رمى ببصره الى قوائمه زقا معولا يكاد يبين عن استغاثته ، و يشهد بصادق توجّعه ، لأن قوائمه حمش كقوائم الدّيكة الخلاسية . و له في موضع العرف قنزعة خضراء موشّاة . و مخرج عنقه كالإبريق ، و مغرزها الى حيث بطنه كصبغ الوسمة اليمانية ، أو كحريرة ملبسة مرآة ذات صقال [ 1 ] نظرية الأنواع الادبية ، ترجمه عن الفرنسية الدكتور حسن عون . [ 2 ] ما تحتاج اليه من شرح المفردات و التعابير الواردة في هذه القطعة ، تجده في فصل « خلقة الطاووس » بهذا الكتاب . [ 22 ] « و مع فتق سمعه خطّ كمستدقّ القلم في لون الأقحوان أبيض يقق ، فهو ببياضه في سواد ما هنالك يأتلق . و قلّ صبغ إلاّ و قد أخذ منه بقسط و علاه بكثرة صقاله و بصيص ديباجه و رونقه فهو كالأزاهير المبثوثة لم تربّها أمطار ربيع و لا شموس قيظ . و قد ينحسر من ريشه و يعرى من لباسه فيسقط تترى ، و ينبت تباعا ، فينحتّ من قصبه انحتات أوراق الأغصان ثم يتلاحق ناميا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه : لا يخالف سالف ألوانه ، و لا يقع لون في غير مكانه . إذا تصفّحت شعرة من شعرات قصبه أرتك حمرة وردية ، و تارة خضرة زبرجدية ، و أحيانا صفرة عسجدية ، فكيف تصل الى صفة هذا عمائق الفطن ، أو تبلغه قرائح العقول ، أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين » و إليك قليلا من قوله في خلق السماء و الأرض : « فطر الخلائق بقدرته ، و نشر الرياح برحمته ، و وتّد بالصخور ميدان أرضه . ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء ، و شقّ الأرجاء ، و سكائك الهواء ، فأجرى فيها ماء متلاطما تياره متراكما زخّاره ، حمله على متن الرياح العاصفة ، و الزعزع القاصفة . ثم أنشأ سبحانه ريحا أعتق مهبّها ، و أعصف مجراها ، و أبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزخّار ، و إثارة موج البحار ، فمخضته مخض السقاء و عصفت به عصفها بالفضاء تردّ أوله إلى آخره ، و ساجيه الى مائره . . . » و أوصيك خيرا بهذه الآيات الروائع التي تتحدث بها عبقرية الإمام الى المركّب الانساني جميعا فتصوّر له كيف يستوي الجليل و اللطيف من الكائنات ، و الشمس و القمر ، و الماء و الحجر ، و الكبير و الصغير ، و الهيّن و الصعب ، في معنى الوجود . و كيف تشترك جميعا في صفة الكون فإذا هي متساوقة متعاونة في النشيد الأعظم : نشيد الوجود الواحد الذي لا يجوز فيه تعظيم الدوحة العاتية على حساب النبتة النامية ، و لا يصحّ فيه تمجيد البحر الواسع و احتقار الساقية التي تضيع مياهها بين العشب و الحصى . يقول عليّ : « لو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة إلاّ على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة . و ما الجليل و اللطيف ، و الثقيل و الخفيف ، و القوي و الضعيف ، في خلقه إلاّ سواء [ 23 ] و كذلك السماء و الهواء ، و الرياح و الماء . فانظر إلى الشمس و القمر ، و النبات و الشجر ، و الماء و الحجر ، و اختلاف هذا الليل و النهار ، و تفجّر هذه البحار ، و كثرة هذه الجبال ، و طول هذه القلال الخ . . . » ثم استمع اليه يقول : « لا تنالون نعمة إلا بفراق أخرى ، و لا يعمّر معمّر منكم يوما من عمره إلا بهدم آخر من أجله ، و لا تجدّد له زيادة في أكلة إلا بنفاد ما قبلها من رزقه ، و لا يحيا له أثر إلا مات له أثر ، و لا يتجدّد له جديد إلاّ بعد أن يخلق له جديد ، و لا تقوم له نابتة إلا و تسقط منه محصورة . و قد مضت أصول نحن فروعها » إنه الوجود الواحد يتكلم عن نفسه ، بلسانه و في خاطري هذه المشابهة بين مقطع من معلّقة امرىء القيس ، و مقاطع كثيرة من أدب ابن أبي طالب ، و هي تصبّ جميعا في معنى الوحدة الوجودية الكاملة . ثم تزيد عن ذلك بانطلاقه فذة إلى قهر الظالم و المعتدي ، و إلى نصرة الضعيف في النبت و الأرض و البهيمة و الأرض الواطئة حتى يستوي الوجود قويا بهيّا . يقول الشاعر الكوني امرؤ القيس أولا ما خلاصته : لقد قعدت لذلك البرق أرقب من أين يجيء المطر ، و يا لروعة ما رأيت لقد أقبل المطر من جهات أربع سيولا سيولا رأيته من بعيد فكان يمينه في تقديري على جبل « قطن » و يساره على جبلي « الستار » و « يذبل » . و راح الماء ينبجس شديدا هنا و هناك فتقلب سيوله الأشجار قلبا عتيّا ، و مرّ على جبل « القنان » برشاشه فأكره الوعول على النزول عنه . بعد ذلك يقول الشاعر :
و تيماء لم يترك بها جذع نخلة
[ 24 ]
كأنّ مكاكيّ الجواء غديّة فأنت ترى الى امرىء القيس كيف يلحظ أن المطر قد أسقط نخل تيماء كلّه ، و جرف أبنيتها فلم يبق منها إلا المشيد بالجنادل و الصخور . أما جبل « ثبير » المعتز بشموخه على ما حوله من الأرض الواطئة ، فقد غطاه المطر إلاّ رأسه ، فبدا كشيخ قوم ملتفّ بكساء مخطط . و تتابع الأمطار طوفانها حول الجبال ثم تلقي أثقالها جميعا في الصحارى التي ظلّت زمنا قاحلة لا نبت فيها و لا رواء ، فإذا بها تنبت عشبا و زهرا ملوّنا يشبه الثياب الملونة الحسناء التي ينشرها التاجر اليماني امام أعين الناس . و قد أحسن المطر إلى هذه الصحارى المجدبة فإذا هي رياض زاهية تغنّي بها الطير طربة سكرى أمّا الوحوش الضارية التي كانت تستبيح لنفسها افتراس الضعيف من الحيوان و الطير ، فقد ذلّها المطر و أغرقها فطفت على الماء كأنها جذور البصل البرّي . و هكذا يبدو المطر في خاطر الشاعر الجاهلي الكبير ، الذي يتابع رحلته حتى النهاية ، و كأنه يمثّل قوة الوجود المدبّرة . فهو قويّ عادل كريم ينصر الصعفاء الممثّلين بالأرض الواطئة و صغار الطير ، فيملأ الوادي بالنبت و الزهر و اللون و يدخل الفرحة على قلوب العصافير فتطرب و تغنّي . و يداعب الأقوياء الممثّلين بالجبال التي يضايقها من كل جانب و يضعف من شأنها . و يفتك بذوي البطش الممثلين بالسباع الضارية فيقهرها و يغرقها و يجعلها تافهة و هذا عليّ يحسّ أمام الغيث ما أحسّه امرؤ القيس من تمثيله القوة العادلة الكريمة ، فيقول في خاتمة حديث طويل : « فلما ألقت السحائب بعاع ما استقلّت به [ 1 ] من العبء المحمول عليها ، أخرج به من هوامد الأرض النبات [ 2 ] و من زعر الجبال الأعشاب [ 3 ] فهي تبهج بزينة رياضها [ 1 ] البعاع : ثقل السحاب من الماء . و ألقى السحاب بعاعه : أمطر كل ما فيه . [ 2 ] الهوامد من الأرض : ما لم يكن بها نبات . [ 3 ] زعر ، مجمع أزعر ، و هو : الموضع القليل النبات . [ 25 ] و تزدهي بما ألبسته من ريط أزاهيرها [ 1 ] و حلية ما سمطت به [ 2 ] من ناضر أنوارها ، و جعل ذلك بلاغا للأنام و رزقا للأنعام » ثم إن عليّا يوجز الفكرة البعيدة في ما شاهده امرؤ القيس من عمل المطر في الجبال و السباع ، بهذه الكلمة : « من تعظّم على الزمان أهانه » و إن هذه الروائع التي عبرت بنا في هذا الفصل ، لتنبع كلّها من معين واحد بالرغم من اختلاف موضوعاتها و تباين أغراضها و تباعد ظروفها . ففيها جميعا هذه الاصالة في الفكر و الحس و الخيال و الذوق ، التي تربط بين صاحبها و جملة الكائنات في وحدة وجودية مطلقة و أراك حيث رحت في أدب عليّ بن أبي طالب ، شاعرا بهذه الاصالة التي تحدوه أبدا إلى اكتناه الروابط الخفية الكامنة وراء مظاهر الحياة و الموت ، و وراء الأشكال التي تختلف على الحقيقة الواحدة الثابتة التي لا تختلف . و ما نزعته التوحيدية الجامحة إلا نزعة الأديب الحق يريد أن يركّز الوجود ، في عقله و قلبه على السواء ، على أصول لا يجوز فيها قديم و لا جديد و يتبيّن من نهج البلاغة ان نظريات ابن أبي طالب الاجتماعية و الأخلاقية ، تنبع بصورة مباشرة أو غير مباشرة من هذه النظرة الواحدة الشاملة الى الوجود . فما أقرب الموت من الحياة في سنّة الوجود . و ما أقرب طرفي الخير و الشر . و ما أكثر ما يجتمع الحزن و السرور في قلب واحد في وقت معا ، و الكسل و النشاط في جسد واحد . « فربّ بعيد هو أقرب من قريب في أدب ابن أبي طالب و ربّ رجاء يؤدي الى الحرمان ، و تجارة تؤول الى الخسران » . و ليس عجيبا أن يجوز في الناس قول ابن أبي طالب : « من حفر لأخيه بئرا وقع فيها ، و من هتك حجاب غيره انكشفت عورات بيته ، و من تكبّر على الناس ذلّ » فالدائرة الوجودية الواحدة تقضي على الناس و الأشياء و الكائنات جميعا بالخضوع لقاعدتها [ 1 ] ريط ، جمع ريطة بالفتح و هي كل ثوب رقيق ليّن . [ 2 ] سمط الشيء : علقت عليه السموط و هي : الخيوط تنظم في القلادة . [ 26 ] التعادلية التي أدركها الإمام بحدسه و عقله و حسّه على السواء ، إدراكا عجيبا لشدة ما فيه من الوضوح ثم لكثرة ما يمدّ صاحبه بالقوة على الكشف ، فإذا به يعبّر عن هذا الإدراك بكلمات تؤلف قواعد رياضية تتناول المظاهر و تنفذ منها الى ما وراءها من أصول وجودية عميقة ثابتة . و هكذا يستوي ابن أبي طالب و قمم الوجود على صعيد واحد من النظرة الى الحياة الواحدة ، و الاحساس العميق بالوجود الواحد ، فإذا بأدبه صرخات متلاحقة تنطلق من قلب عبقريّ يريد أن ينفذ إلى الأشياء حتى يرى أغوارها فيطمئن الى هذا الإدراك ، و حتى يعقل ما تباين منها ثابتا على قاعدة ، و ما اختلف منها نابعا من أصل ، و ما تباعد منها مضموما في وحدة طرفاها الأزل و الأبد [ 27 ] |