صدق الحياة

و هذا الصدق عهد منك و عليك ، لأنه روح الجمال و الحق ، و إرادة الحياة القادرة الغلاّبة لعلّ أبرز مظاهر العدالة الكونية في عالم الجماد و عالم الحياة ، و في كل ما يتّصل بطبيعة الوجود و خصائص الموجودات ، هو الصدق الخالص المطلق . فعلى الصدق مدار الأرض و الفلك و الليل و النهار . و بالصدق وحده تتلاحق الفصول الأربعة و يسقط المطر و تسطع شمس . و به كذلك تفي الأرض بوعدها حين تنبت ما عليها كلاّ في حينه لا تقديم و لا تأخير . و به تقوم نواميس الطبيعة و قوانين الحياة . و الريح لا تجري إلا صادقة ، و الدماء لا تطوف العروق إلا بصدق ، و الأحياء لا يولدون إلا بقانون صادق أمين .

هذا الصدق الخالص المطلق الذي تدور عليه قاعدة البقاء ، هو الينبوع الأول و الأكبر الذي تجري منه عدالة الكون و إليه تعود و لمّا كان عليّ بن أبي طالب شديد الملاحظة لصدق الوجود ، شديد التفاعل معه ،

فقد جعل من همّه الأوّل في الناس تهذيب الناس استنادا إل ما يعقل و يحسّ و يرى .

و التهذيب في معناه الصحيح و مدلوله البعيد ليس إلاّ الاحساس العميق بقيمة الحياة و شخصيّة الوجود . و لمّا كان هذا المعنى هو المعنى الأوحد للتهذيب العظيم ، كان الصدق مع الذات و مع كلّ موجود مادّي أو معنويّ ، هو المحور الذي يدور عليه التهذيب ، كما رأيناه محور العدالة الكونية . و بذلك ينتفي من التهذيب السليم كثير من القواعد التي تواطأ عليها

[ 62 ]

البشر دونما نظر في نواميس الوجود الكبرى ، و هم يحسبون أنّها قواعد تهذيبيّة لمجرّد اتّفاقهم عليها . و بذلك أيضا ينتفي من التهذيب السليم كلّ ما يخالف روح الحقّ و روح الخير و روح الجمال . و التهذيب على غير أصوله الكبرى تواطؤ سطحيّ على الكذب القبيح . و هو على أصوله البعيدة إحساس عميق بالصدق الجميل ، ممّا يجعله اندماجا خالصا بثوريّة الحياة الجارية الفاتحة .

لذلك كان مدار التهذيب عند ابن أبي طالب ، حماية الانسان من الكذب ، أو قل حمايته و هو حيّ من برودة الموت و حماية الانسان من الكذب تستوجب أوّل الأمر تعظيم الصدق نصّا مباشرا في كلّ حال ، و إبرازه ضرورة حياتيّة لا مفرّ منها لكلّ حيّ ، و توجيه الناس نحوه أفرادا يخلون إلى أنفسهم أو يعيشون جماعات . و في هذا الباب يبرز عليّ بن أبي طالب عملاقا يرى ما لا يراه الآخرون ، و يشير إلى ما يجهلون ، و يعمل ما لا يستطيعونه الآن و يريدهم أن يستطيعوه .

يقول عليّ : « إيّاكم و تهزيع الأخلاق و تصريفها و اجعلوا اللسان واحدا » . و تهزيع الشي‏ء تكسيره . و تصريفه قلبه من حال إل حال . يريد بذلك تذكير الصادق بالخطر الذي يتعرّض له صدقه إن هو كذب و لو مرّة واحدة . فالصادق إذا كذب مرة انكسر صدقه كما ينكسر أيّ شي‏ء وقع على الأرض مرة واحدة . و كذلك النفاق و التلوّن فهما لونان من ألوان الكذب . و يقول أيضا : « و كونوا قوما صادقين . و اعملوا في غير رياء . و أعزّ الصادق المحقّ و أذلّ الكاذب المبطل . و اصدقوا الحديث و أدّوا الأمانة و أوفوا بالعهد .

من طلب عزا بباطل أورثه اللّه ذلا بحق . إن كنت صادقا كافيناك و إن كنت كاذبا عاقبناك .

إنّ من عدم الصدق في منطقه فقد فجع بأكرم أخلاقه . ما السيف الصارم في كفّ الشجاع بأعزّ له من الصدق » . و ما هذه الآيات في الصدق إلاّ نماذج من مئات أخريات يؤلف ابن أبي طالب بها أساس دستوره الأخلاقي العظيم .

ثم اليك هذه الآية التي يكثر في نسجها نصيب العقل النافذ الواعي . يقول : « الكذب يهدي الى الفجور » . و لسنا في حاجة الى الإسهاب في إظهار ما تخفي هذه الكلمة من حقيقة تجرّ وراءها سلسلة لا تنتهي من الحقائق . كما أننا لسنا في حاجة الى الإسهاب في تصوير ما تشير إليه من حقيقة نفسية لا تزيدها الأيام إلا رسوخا . و مثل هذه الآية آيات ، منها :

« لا يصلح الكذب في جد و لا هزل ، و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثم لا يفي له » أما المعنى

[ 63 ]

الذي يشير اليه الشق الأول من هذه الآية العلوية ، فقد كان موضوع جدل كثير بين فلاسفة الأخلاق و لا سيما الأوروبيين منهم . و الواقع أن هؤلاء أجمعوا على أن الصدق حياة و الكذب موت . غير انهم اختلفوا في هل يجوز الكذب في حالة الضرورة أم لا ؟

فمنهم الموافق و منهم المخالف . و لكلّ من الفريقين حجته .

أمّا عليّ بن أبي طالب ، فيقف من هذا الموضوع الذي تثيره عبارته ، موقفا حاسما ينسجم مع مذهبه العظيم في الأخلاق ، هذا المذهب الذي نعود فنذكّر القارى‏ء بأنه منبثق عمّا أحسّه عليّ و وعاه من عدالة الكون الشاملة ، فيقول غير متردّد : « علامة الإيمان أن تؤثر الصدق حيث يضرّك على الكذب حيث ينفعك ، و أن لا يكون في حديثك فضل عن عملك » و من الواضح ان ابن أبي طالب لا يرى أن في الكذب ما ينفع و أن في الصدق ما قد يضرّ ، فيتحدث الى الناس في نطاق من مدى تصوّرهم ليبلغ كلامه منهم مبلغا ذكيا .

و تأكيدا لذلك يقول : « عليك بالصدق في جميع أمورك » . و يقول أيضا : « جانبوا الكذب فإن الصادق على شفا منجاة و كرامة ، و الكاذب على شفا مهواة و هلكة » أمّا المعنى الذي يذكره الشقّ الثاني من العبارة : « و لا أن يعد أحدكم صبيّه ثم لا يفي له » ،

فالتفاته عظيمة إلى حقيقة تربويّة تقرّرها الحياة نفسها ، كما تقرّرها الأصول النفسية التي ينشأ عليها المرء و يتدرّج . و يكفيك منها هذه الاشارة إلى أن الطفل يتربّى بالمثل لا بالنصيحة .

و هذا الرأي هو محور فلسفة جان جاك روسّو التربويّة و الصدق مع الحياة يستلزم البساطة و ينفر من التعقيد ، لأن كل حقيقة هي بسيطة بمقدار ما الشمس ساطعة و الليل بهيم . و دلالة على هذه البساطة الدافئة لأنها انبثاق حيّ و عفوي عن الصدق ، نقول إن ابن أبي طالب كره التكبّر لأنه ليس طبعا صادقا بل الكبر هو الصدق ،

فإذا بالمتكبر في رأيه شخص يتعالى على جبلته ذاتها . يقول : « لا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه » . و هو في الوقت نفسه يكره التواضع إذا كان مقصودا فإنه عند ذاك لا يكون طبعا صادقا بل الشعور بأن الانسان مساو لكل إنسان في كرامته هو الصدق . لذلك يخاطب من يقوده تواضعه إلى أن يذلّ نفسه ، قائلا له : « إياك أن تتذلّل للناس » . ثم يردف ذلك بقول أروع : « و لا تصحبنّ في سفر من لا يرى لك من الفضل عليه مثل ما ترى له من الفضل عليك »

[ 64 ]

و إني لا أعرف في مبادى‏ء المحافظين على كرامة الانسان كإنسان لا يتكبر و لا يتواضع بل يكون صادقا و حسب ، ما يفوق هذه الكلمة لابن أبي طالب أو ما يساويها قيمة :

« الإنسان مرآة الانسان » و من أقواله الدالّة على ضرورة أخذ الحياة أخذا بسيطا : « ما أقبح الخضوع عند الحاجة و الجفاء عند الغنى . الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق و التقصير عن الاستحقاق عيّ أو حسد . لا تقل ما لا تعلم . لا تعمل الخير رياء و لا تتركه حياء . يا ابن آدم ، ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك . لا ينصت للخير ليفخر به ، و لا يتكلّم ليتجبّر على من سواه . من حمّل نفسه ما لا يطيق عجز . لا خير في معين مهين » . و كأنّي بابن أبي طالب لا يترك جانبا ممّا وعاه فكره و شعوره و أمور الحياة و الانسان إلاّ أطلق فيه رائعة تختصر دستورا كاملا . و هذا ما فعله ساعة شاء أن يوجّه الناس إلى أخذ الحياة أخذا صادقا بسيطا ،

فقال هذه الكلمة الدافئة بعفويّة الحياة : « إذا طرقك إخوانك فلا تدّخر عنهم ما في البيت ،

و لا تتكلّف لهم ما وراء الباب » .

و إذ يفرغ عليّ من حديثه الكثير الدائر حول ضرورة الصدق مع الحياة بصورة مباشرة ،

ثم حول البساطة التي لا يكون صدق بدونها و لا تكون بغير صدق ، يواصل طريقه في مفاهيم التهذيب التي تتلازم في مذهبه و تترابط حتى لكأنّها صورة عن كلّ موجودات الكون ، و التي يظلّ الصدق مدارها الأوّل و إن تناولت وجوها أخرى من وجوه الأخلاق . فيوصي بأن يتغافل المرء عن زلاّت غيره فإنّ في ذلك رحمة من المتغافل و تهذيبا للمسي‏ء بالسيرة و المثل أبلغ من تهذيبه بالنصيحة أو بالبغضاء ، يقول : « من أشرف أعمال الكريم غفلته عمّا يعلم » . كما يوصي بالحلم و الأناة لأنهما نتيجة لعلوّ الهمّة ثمّ مدرجة لكرم النفس : « الحلم و الأناة توأمان ينتجهما علوّ الهمّة » . و يكره الغيبة لأنها مذهب من النفاق و الاساءة و الشرّ جميعا : « اجتنب الغيبة فإنّها إدام كلاب النار » . و الخديعة مثل الغيبة و كلتاهما من خبث السرائر : « إيّاك و الخديعة فإنّها من خلق اللئام » . و كما رأى أنّ كذبة واحدة لا تجوز لأنّ الصدق ينكسر بها ، يرى أن كل ذنب مهما كان في زعم صاحبه خفيفا قليل الشأن إنّما هو شديد لأنه ذنب ، بل إنه أشدّ وقعا على كرامة الانسان إذا

[ 65 ]

استخفّ به صاحبه ، من ذنب عظيم عاد مقترفه إلى الرجوع عنه في الحال : « أشدّ الذنوب ما استخفّ به صاحبه » . و ينهاك عليّ عن التسرّع في القول و العمل لأنه مدعاة إلى السقوط و على الانسان المهذّب ألاّ يبيح نفسه لأيّة سقطة : « أنهاك عن التسرّع في القول و العمل » .

و هو يريدك أن تعتذر لنفسك من كلّ ذنب أذنبت إصلاحا لخلقك ، و لكنّه ينبّهك تنبيها عبقريّ الملاحظة و البيان إلى أنّ الانسان لا يعتذر من خير ، فعليه إذن ألاّ يفعل ما يضطرّه إلى الاعتذار : « إيّاك و ما تعتذر منه فإنه لا يعتذر من خير » . و منعا للاشتغال بعيوب الناس و إغفال عيوب النفس ، و في ذلك ما يدعو إلى سوء الخلق و المسلك سلبا و إيجابا ، يقول علي :

« أكبر العيب أن تعيب ما فيك مثله » و « من نظر في عيب نفسه اشتغل عن عيب غيره » .

و إذا أتى القبيح من مصدر عليك أن تنكره أوّلا ، فإن لم تستطع ذلك تحتّم عليك ألاّ تستحسنه لئلاّ تصبح شريكا فيه : « من استحسن القبيح كان شريكا فيه » . و إذا كان التعاطف بين الناس ضرورة أخلاقية لأنه ضرورة وجودية على ما مرّ معنا في الفصل السابق ،

فإنّ منطق العقل و القلب يأمر بأن يكون عطفك على من أنطقك و أحسن إليك أكثر و أوسع .

و في ذلك يقول عليّ : « لا تجعلنّ ذرب لسانك على من أنطقك و بلاغة قولك على من سدّدك » . ثم يقول : « و ليس جزاء من عظّم شأنك أن تضع من قدره ، و لا جزاء من سرّك أن تسوءه » .

و يهاجم الحرص و الكبرياء و الحسد لأنّها سبيل إلى الانحدار الخلقي : « الحرص و الكبر و الحسد دواع إلى التقحّم في الذنوب » . و إذا كان الأخلاقيون القدماء يذمّون البخل فلأنه في نظرهم صفة مذمومة لذاتها . أمّا عند ابن أبي طالب الذي يرصد الأخلاق بنظرة أشمل و فكر أعمق ، فالبخل ليس مذموما لذاته قدر ما هو مذموم لجمعه العيوب كلّها ، و لدفعه صاحبه إلى كل سوءة في الخلق و المسلك . فالبخيل منافق ، معتد ، مغتاب ، حاسد ذليل ، مزوّر ، جشع ، أناني ، غير عادل . يقول علي : « البخل جامع لمساوى‏ء العيوب » .

و يطول بنا الحديث و يتّسع إذا نحن شئنا أن نورد تفاصيل مذهب ابن أبي طالب في الأخلاق و تهذيب النفس ، فهي كثيرة لم تترك حركة من حركات الانسان إلاّ صوّرتها و وجّهتها . و إذا قلت إن مثل هذا العمل طويل واسع شاقّ فإنّي أعني ما أقول . و ما

[ 66 ]

على القارى‏ء إلاّ أن يطّلع على الروائع التي أخذناها من أدب ابن أبي طالب في هذا الكتاب ،

حتى يثق بأنّ المجلّدات قد تضيق عن دراسة مذهبه في الأخلاق و تهذيب النفس ، و عمّا تستوجبه هذه المختارات من شرح و تعليق . و يكفي أن نشير إلى أنّ هذه الروائع العلويّة من أشرف ما في تراث الانسان ، و من أعظمه اتّساعا و عمقا .

على أنه لا بد لنا الآن من التلميح إلى آية الآيات في التهذيب العظيم بوصفه إحساسا عميقا بقيمة الحياة و كرامة النفس و كمال الوجود . و إنّ نفرا قليلا من المتفوّقين كبوذا و المسيح و بتهوفن و أشباههم هم الذين أدركوا أنّ آية التهذيب إنّما تكون في الدرجة الأولى بين الانسان و نفسه . و لا تكون بين الانسان و ما هو خارج عنه إلاّ انبثاقا بديهيّا طبيعيّا عن الحالة الأولى . و قد أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة إدراكا قويّا واضحا لا غموض فيه و لا إبهام . و عبّر عنها تعبيرا جامعا . يقول عليّ في ضرورة احترام الانسان نفسه و أعماله دون أن يكون عليه رقيب : « اتّقوا المعاصي في الخلوات » . و يقول في المعنى ذاته : « إيّاك و كلّ عمل في السرّ يستحى منه في العلانية . و إيّاك و كلّ عمل إذا ذكر لصاحبه أنكره » .

و إليك ما يقوله في الرابطة بين السرّ و العلانية ، أو بين ما أسميناه « آية التهذيب » و ما أسميناه « انبثاقا » عنها : « من أصلح سريرته أصلح اللّه علانيّته » .

و من بدائع حكيم الصين كنفوشيوس في تهذيب النفس هذه الكلمة : « كل على مائدتك كأنك تأكل على مائدة ملك » . و جليّ أنه يريد منك أن تحترم نفسك احتراما مطلقا غير مرهون بظرف أو مناسبة ، حتى ليجدر بك أن تتصرف حين تخلو الى نفسك كما تتصرف و أنت بين يدي ملك . و مثل هذا المعنى يقوله عليّ بن ابي طالب على هيئة جديدة : « ليتزيّن أحدكم لأخيه كما يتزيّن للغريب الذي يحب أن يراه في أحسن الهيئة » و هو يريدك في كلّ حال أن تعظ أخاك لتعينه في الانتقال من حسن إلى أحسن في الخلق و الذوق و المسلك . و لكنّ روح التهذيب الأصيل يأبى عليك أن تجرحه أو تؤذيه بنصحه علنا ، بل إنّ هذا الروح يقضي عليك أن تكون ليّنا رفيقا فلا تنصح إلاّ خفية و لا تعظ إلاّ سرّا . يقول عليّ : « من وعظ أخاه سرّا فقد زانه ، و من وعظه علانية فقد شانه » .

[ 67 ]

و أيّة كانت حالك فعليك أن تصدق مع نفسك و الحياة و الناس . فبهذا الصدق تحيا و بغيره تهلك . و به تحفظ سلامة روحك و قلبك و جسدك . و بغيره تفقدها . و بالصدق تحبّ و تحبّ و يوثق بك ، و بغيره تجلب لنفسك المقت و الكراهية و السيّئات جميعا و ير ذلك الناس تافها حقيرا . و هذا الصدق عهد منك و عليك لأنه إرادة الحياة القادرة الغلاّبة و هي إرادة تقضي عليك بأنّ تنظر في عهدك كلّ يوم . و ابن أبي طالب يقول : « على كلّ إنسان أن ينظر كلّ يوم في عهده »

[ 68 ]