الحنان العميق

و آدرك علي ان منطق الحنان أرفع من منطق القانون ، و أن عطف الانسان على الانسان و سائر الكائنات ، إنما هو حجة الحياة على الموت ، و الوجود على العدم و لم يكن موقف عليّ من المرأة ذلك الموقف الذي صوّروه إذا كان من عدالة الكون و تكافؤ الوجود أن تلتقي على صعيد واحد بوارح الصيف و معصرات الشتاء ، و أن تفنى في حقيقة واحدة السوافي و الأعاصير و النّسيمات اللّينات ،

و أن تحمل الطبيعة بذاتها ، بكلّ مظهر من مظاهرها ، قانون الثواب و العقاب ، فمن هذه العدالة أيضا و من هذا التكافؤ أن تتعاطى قوى الطبيعة و تتداخل سواء في ذلك عناصر الجماد و عناصر الحياة . و سواء في ذلك ما انبثق عن هذه أو انسلخ عن تلك .

و لما كانت صفات الانسان و أخلاقه و ميوله و أحاسيسه منبثقة عن عناصر الحياة التي تتّحد فتؤلّف ما نسميه شخصية الإنسان ، فهي متعاطية متداخلة ، تثبت ذلك الملاحظة الطويلة و الموازنة الدقيقة ثمّ قواعد العلم الحديث الذي لاحظ و وازن و أرسى مكتشفاته على أسس و أركان .

و قد مرّ معنا أنّ الانسان في مذهب عليّ بن أبي طالب هو الصورة المثلى للكون الأمثل .

و ممّا يعزى إليه هذا القول يخاطب به الانسان :

«

و تحسب أنّك جرم صغير
و فيك انطوى العالم الأكبر

[ 56 ]

فمن الطبيعيّ في مثل هذه الحال أن يلحّ عليّ في طلب كلّ ما يتعلّق بالانسان ممّا يطاله زمانه و إمكانات عصره . و من الطبيعيّ كذلك أن يلحّ في الكشف عمّا في هذا « الجرم الذي انطوى فيه العالم الأكبر » من مظاهر العدالة الكونية و تكافؤ الوجود ضمن الإطار الذي دارت آراؤه فيه .

أحسّ عليّ إحساسا مباشرا عميقا أنّ بين الكائنات روابط لا تزول إلاّ بزوال هذه الكائنات . و أنّ كلّ ما ينقص هذه الروابط ينقص من معنى الوجود ذاته . و إذا كان الانسان أحد هذه الكائنات ، فإنّه مرتبط بها ارتباط وجود . و إذا كان ذلك و هو كائن فإنّ ارتباط الكائن بشبيهه أجدر و أولى . أمّا إذا كان هذا الكائن من الأحياء ، فإنّ ما يشدّه إلى الأحياء من جنسه أثبت و أقوى . و أما الانسان رأس الكائنات الحيّة فإنّ ارتباطه بأخيه الانسان هو الضرورة الأولى لوجوده فردا و جماعة .

و حين يقرّر عليّ أنّ المجتمع الصالح هو المجتمع الذي تسوده العدالة الاجتماعية بأوسع معانيها و أشرف أشكالها ، إنّما يسن قانونا أو ما هو من باب القانون . و لكنّ هذا القانون لا ينجلي في ذهنه و لا يصبح ضرورة ، إلاّ لأنه انبثاق طبيعيّ عمّا أسميناه روح العدالة الكونية الشاملة ، التي تفرض وجود هذا القانون . لذلك نرى ابن أبي طالب ملحّا شديد الإلحاح على النظر في ما وراء القوانين ، و على رعايتها بما هو أسمى منها : بالحنان الانساني .

و ما يكون الحنان إلاّ هذا النزوع الروحيّ و الماديّ العميق إلى الاكتمال و السموّ . فهو بذلك ضرورة خلقيّة لأنه ضرورة وجودية .

الصفحة الأولى التي ينشرها عليّ من صفحات الحنان تبدأ بأن يذكّر الناس بأنهم جميعا إخوة فينعتهم ب « إخواني » نعتا صريحا و هو أمير عليهم . ثم يردف ذلك بتذكير الولاة بأنهم إخوان الناس جميع الناس ، و بأنّ هذا الإخاء يستلزم العطف بالضرورة ، قائلا إلى أمرائه على الجيوش : « فإنّ حقّا على الوالي أن لا يغيّره فضل ناله ، و لا طول خصّ به ، و أن يزيده ما قسم اللّه له من نعمه دنوّا من عباده و عطفا على إخوانه » . و ما يذكره لنفسه و للولاة بأنّهم و الناس إخوان بالمودّة و الحنان ، يعود فيقرّره بحكمة شاملة يتّجه بها الى البشر جميعا دون تفرقة أو تمييز ، قائلا : « و إنما أنتم إخوان ما فرّق بينكم إلاّ خبث السرائر و سوء الضمائر » . و هو بذلك يضع خبث السريرة و سوء الضمير في طرف ،

و حنان القلب و مودّة النفس في طرف آخر . و لمّا كان من الحقّ الوجوديّ للإنسان أن

[ 57 ]

ينعم بحنان الانسان ، فإنّ الطبيعة التي تحمل بذاتها القيم و المقاييس لا بدّ لها من التعويض على صالح ضيّعه الجيران و الأقربون و الأهل فما لفّوه برداء من حنان ، بعطف و حنان كثيرين يأتيانه من الأباعد ، فيقول عليّ : « من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد » و هو في سبيل رعاية هذه الأخوّة القائمة بالحنان الانساني ، لا يقبل حتى بالهنات الهيّنات لأنّ فيها انحرافا مبدئيا عن كرم الحنان : « أمّا بعد ، فلو لا هنات كنّ فيك لكنت المقدّم في هذا الأمر » .

و إذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يحارب المتآمرين به ،

فإنّه لا يفعل إلاّ بعد أن يراعي كلّ جوانب الحنان في نفسه و قلبه ، و بعد أن يستشير كلّ روابط الإخاء البشريّ في نفوس مقاتليه و قلوبهم . و هو إن فعل في خاتمة الأمر فإنّما يفعل مكرها لا مختارا ، حزينا باكيا لا فرحا ضاحكا ، فإذا شعوره بالنصر بعد القتال آلم و أوجع من شعور مناوئيه بالهزيمة و إذا كانت القوانين المتعارف عليها تسمح لابن أبي طالب بأن يترك المعتدين عليه ، بعد موته ، بين يدي أنصاره و بنيه يقاتلونهم و يقتصّون منهم لضلال مشوا به و إليه ، فإنّ الرأفة بالانسان و هي لديه وراء كلّ قانون ، تحمله حملا على أن يخاطب أنصاره و بنيه بهذا القول العظيم : « لا تقاتلوا الخوارج من بعدي ، فليس من طلب الحقّ فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه » .

و هو بعامل هذا الحنان العميق يربط سعادة المرء بسعادة جاره ، أي بسعادة الانسانية كلّها ، لأنّ لجار المرء جيرانا ، و ما يجوز عليه بالنسبة له يجوز عليهم بالنسبة لسائر الناس .

و من سعادته أيضا أن يطغى عليه هذا الحنان فإذا بأبناء الآخرين يحظون منه بالعطف الذي يحظى به أبناؤه : « أدّب اليتيم بما تؤدّب به ولدك » . و أنّ يستشعر الجميع روح العدالة الأساسية التي تفوق القوانين الوضعية قيمة و جمالا لأنها تحمل الدف‏ء الانسانيّ و تصل الخلق بمنطق القلب لا بمنطق الخضوع لقانون : « ليتأسّ صغيركم بكبيركم ، و ليرأف كبيركم بصغيركم » .

و إذا كان العجز عن إتيان المكرمات نقصا ، فإنّ منطق الحنان على لسان عليّ يجعل العاجز

[ 58 ]

عن اكتساب أخوّة الناس أكثرهم نقصا : « أعجز الناس من عجز عن اكتساب الإخوان » .

و يضيف عليّ إلى هذا العجز عجزا آخر هو الميل إلى المراء و الخصومة قائلا : « إيّاكم و المراء و الخصومة » بل إنّ الأولى هو لين الكلام لما فيه من شدّ الأواصر بين القلب ، منبع الحنان ،

و القلب : « و إنّ من الكرم لين الكلام » . و ليس بين نزعات القلب ما هو أدعى إلى الراحة من شعور المرء بأنّ له في جميع الناس إخوانا أحبّاء ، فإذا تألّم ابن أبي طالب من سيئات زمانه ، جعل الخبز و هو آلة البقاء ، و الصدق و هو ركيزة البقاء ، و مؤاخاة الناس في منزلة واحدة ، فقال في ناس زمانه : « يوشك أنّ يفقد الناس ثلاثا : « درهما حلالا ،

و لسانا صادقا ، و أخا يستراح إليه » .

و إذا كانت الغربة قساوة كبرى لأنها تستدعي الوحدة ، فإنّ أشدّها يكون ساعة يفقد الانسان إخوانه و أحبّاءه لأنه يفقد إذ ذاك قلوبا يعزّ بعطفها و يحيا بحنانها : « و الغريب من لم يكن له حبيب » و « فقد الأحبّة غربة » .

و لا بدّ لنا أن نشير إلى موقف ابن أبي طالب من المرأة على هذا الصعيد . فالمرأة نصف الانسان ، فهل يخلو هذا النصف من العطف على نصفه الآخر ؟ و هل النصف الآخر مدعوّ إلى أن يجور على مقاييس العدالة الكونية القاضية بحنان الانسان على الانسان ؟

لقد أوّل الكثير بعض أقوال عليّ في المرأة تأويلا شاؤوا به الطرافة و الترفيه فوق ما شاؤوا به أن يبرزوا موقف عليّ منها . فألحّوا على كلمات له قالها في ظروف كان أبرز ما فيها عداء امرأة معيّنة له و هو لم يسى‏ء و لم يأمر إلاّ بمعروف . و فاتهم أنّ مثل هذه الأقوال الخاضعة لظرف محدود بذاته ، و الرامية إلى إيضاح الأسباب في صراع بين عقليتين مختلفتين كلّ الاختلاف ، إنّما قال في بعض الرجال أشدّ منها و أقسى . و هو بذلك لا يعني الرجال قاطبة و في كلّ حالاتهم . كما أنه ، حين أطلق تلك الأقوال في المرأة ، لم يكن ليعني النساء قاطبة و في كل حالاتهن . فإن مسبّبي الويلات التي ألمّت به و بالخير عن طريقه ،

تعرّضوا لمثل هذه الأقوال سواء أ كانوا رجالا أو نسوة لهنّ قوة الرجال و نفوذهم . و هو إن هاجم هؤلاء و هؤلاء من نسوة و رجال ، فإنّما كان يهاجم فيهم مواقف معيّنة وقفوها من الحقّ و العدل و أصحابهما . و في ذلك ما ينفي الادّعاء بالإساءة إلى المرأة من قبل عليّ .

و إنّي لأسأل من يعنيهم الأمر أن يوافوني بكلمة واحدة يسي‏ء بها عليّ إلى المرأة و لم تكن

[ 59 ]

موجّهة إلى إنسان معيّن في ظرف معيّن ، أو من وحي هذا الانسان في هذا الظرف لقد هاجم المرأة عند ما كانت سببا في الفتنة ، و هاجم الرجل في مثل هذه الحال . فهو بذلك يهاجم الفتنة و حسب أمّا موقف عليّ من المرأة كإنسان ، فهو موقفه من الرجل كإنسان ، لا فرق في ذلك و لا تمييز . أ و ليس في حزنه العميق على زوجه فاطمة و قد توفّيت ، دليل على إحساسه بقيمة المرأة كإنسان له كلّ حقوق الانسان و عليه كلّ واجباته ، و في أساس هذه الحقوق و الواجبات أن ينعم بالحنان الانسانيّ و ينعم به الآخرين ؟

أ و لم يكن الناس في الجاهلية و بعد الجاهلية يتفاءلون بمولد الذكر و يفرحون ، و يتشاءمون بمولد الأنثى و يحزنون أ و لم يكن موقف الفرزدق تعبيرا عن نظرة عصره إلى المرأة ، و هو عصر متّصل بزمن ابن أبي طالب ، ساعة ماتت زوجته ، و كان يحبّها على ما زعموا ، فقال فيها هذا القول العجيب : «

و أهون مفقود ، إذا الموت ناله ،
على المرء من أصحابه ، من تقنّعا

أي أنّ أهون فقيد على المرء من أصحابه و معارفه فقيد يلبس القناع ، و يريد به المرأة .

فالمرأة في قلبه و على لسانه لا تستحقّ أن تبكى ، و لا أن يحزن عليها . لما ذا ؟ لا لشي‏ء إلاّ لأنها امرأة و عليّ ، أ لم يكن من أبناء ذلك الزمان ؟ و لكنّه كان أنفذهم تفكيرا و أشرفهم نظرا و أعمقهم إحساسا ، فقال في جملة ما قال بهذا الشأن متلوّما على أصحاب تلك العقلية الرعناء :

« و إن بعضهم يحب الذكور و يكره الإناث الخ » . إذن ، فالذكور و الإناث بمنزلة واحدة عند عليّ تجمعهم صفة الانسان و حسب .

أضف إلى ذلك أن عليا الذي يعطف على الناس عموما ، و على الضعفاء منهم خصوصا ،

يفرض على الخلق الكريم أن يكون أشدّ حنانا على المرأة لأنها مستضعفة إن لم تكن ضعيفة ،

فيقول : « و انصروا المظلوم و خذوا فوق يد الظالم المريب و أحسنوا إلى نسائكم » . و يقول في مكان آخر : « آمركم بالنهي عن المنكر و الإحسان الى نسائكم » .

[ 60 ]

و يتابع ابن أبي طالب حلقات هذا المسلك المتماسك في دعوته إلى أن يلتفّ الناس جميعا ،

ثم الناس و سائر الكائنات ، بدف‏ء الحنان ، فيقول في العلم و قد عرفنا قيمة العلم في مذهبه : « رأس العلم الرفق » . و هو لا يرى في كثرة الذنوب ما يهول أكثر من أنها مدعاة إلى القسوة بحكم تعوّدها ، و من ثمّ فهي سبب في نفور بارد يحلّ في القلوب محلّ حنان دافى‏ء ، فيقول : « ما جفّت الدموع إلاّ لقسوة القلوب ، و ما قست القلوب إلاّ لكثرة الذنوب » و إذا لم تكن من أهل الذنوب فأنت من أهل الحنان و من حقك أن تبذل بهذا الحنان كلّ ما تملك لنصرة أخيك الانسان : « فإن كنت من أخيك على ثقة فابذل له مالك و يدك ، و أعنه ، و أظهر له الحسن » .

و أخيرا يطلق عليّ مجموعة من الأقوال تدور في مدار الدعوة إلى تفاني الناس في الناس عطفا و حنانا . و هي تعتبر بحقّ من أسمى ما يملكه الانسان من تراث خلقيّ عظيم . و منها هذه الروائع : « صل من قطعك و أعط من حرمك . أحسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك . أحسن إلى من أساء إليك . عودوا بالفضل على من حرمكم الخ . . . . » و إنجازا لهذه الدعوة الكريمة يشرك ابن أبي طالب البهائم و البقاع و الناس في حقّ لها مشترك في الحنان فيقول : « اتّقوا اللّه في عباده و بلاده فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع و البهائم » و هكذا ، فإنّ عطف الانسان على الانسان و سائر الكائنات إنّما هو حجّة الحياة على الموت ، بل هو إرادة من إرادة الوجود العادل

[ 61 ]