خير الوجود و ثوريّة الحياة

لشدّ ما رأيناه يجعل ثوريّة الحياة كلاّ من خير الوجود ، و خير الوجود كلاّ من ثورية الحياة و قالت الثورة : « أنا الهادمة البانية و ليس من حقّ الوجود العادل إلاّ أن يكون خيّرا كريما . و ليس من طبيعته إلاّ العطاء . و هو لا يأخذ ما يعطيه إلاّ ليعود إلى بذله طيّبا جديدا . و خير الوجود كيان من كيانه و جوهر من جوهره . و عهد عليّ به هو هذا العهد . و إحساسه بخيره هو إحساسه بعدله لا يقلّ و لا يزيد . و على ذلك تحدّث عن هذا الخير فأكثر الحديث و قد رويناه من أقواله في خير الوجود شيئا غير قليل . و لعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة شيئا غير قليل . و لعلّ ما رويناه من تلك الروائع الصادقة نستطيع تلخيصه الآن بكلمة قالها و كأنّه يوجز بها مذهبه المؤمن بخير الوجود : « و ليس اللّه بما سئل بأجود منه بما لم يسأل » . فإذا عرفنا أنّ لفظة « اللّه » تعني في أقصى ما تعينه عند القدماء من أصحاب الأصالة الذهنية و الروحية : « مركز الوجود و الروابط الكونية ، عرفنا أيّ خير شامل عميم هو خير الوجود الذي يمنحك ما تسأل ضمن شروط ، ثمّ يعطيك فوق ما تسأل ، ثمّ يزيد و لمّا كان الانسان الذي يحسب أنّه جرم صغير ، ممثّلا لهذا العالم الأكبر على ما يقول ابن أبي طالب ، فلا بدّ أن يكون هو أيضا صورة عن الوجود بخيره كما هو صورة عنه بعدله . فإذا أعطاك الوجود فوق ما تسأله من خيره ، يكون قد بدأك لحاجة في طبيعته إلى أن يكون خيرا . و إذا كنت صورة عنه ، فأنت أحوج إلى اصطناع الخير من أهل الحاجة

[ 69 ]

إليه . و هذا ما يؤكّده عليّ بقوله هذا : « أهل المعروف إلى اصطناعه أحوج من أهل الحاجة إليه » و هذا ما يؤكّده أيضا في عبارة يرجع إليها كلّما تحدّث عن اصطناع الخير بين الناس : « و الفضل في ذلك للبادى‏ء » .

و إذ ننتقل إلى النظر في الخير و معناه على صعيد العلاقات بين الناس ، أمكننا أن نجري آراء ابن أبي طالب في المجاري التالية : « أولا ، الخير بين الناس يكمن في أن يتعاونوا و يتساندوا ، و أن يعمل واحدهم من أجل نفسه و الآخرين سواء بسواء ، و ألاّ يكون في هذا العمل رياء من جانب هذا و لا إكراه من جانب ذاك لكي « يعمل في الرغبة لا في الرهبة » على حدّ ما يقول عليّ ، ثم أن يضحّي بالقليل و الكثير توفيرا لراحة الآخرين و اطمئنان الخلق بعضهم إلى بعض ، و أن تأتي هذه التضحية مبادرة لا بعد سؤال و لا بعد قسر و إجبار . و كلّ ما من شأنه أن ينفع و يفيد ،

سواء أ كان ذلك على صعيد مادّي أو روحيّ ، كان خيرا .

ثانيا ، يرى عليّ أنّ الخير لا يأتي إلاّ عملا أولا ، ثم قولا ، لأن الانسان يجب أن يكون واحدا كالوجود الواحد ، و أن يساند بعضه بعضا وفاء لهذه القاعدة ، فإن قال فعل ،

و إن فعل قال . و من روائع ابن أبي طالب كلمة قالها في رجل يرجو اللّه في أمر و لا يعمل من أجل هذا الرجاء : « يدّعي بزعمه أنّه يرجو اللّه كذب و العظيم ما باله لا يتبيّن رجاءه في عمله ، فكلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله » أمّا إذا عملت خيرا ، فمن حقك عند ذاك أن تقول خيرا : « قل خيرا و افعل خيرا » ثالثا ، يفسح عليّ في المجال أمام قوى الخير لأن تنطلق أبعد ما يكون الانطلاق ، و ذلك بأن يجعل قبول التوبة عن الشرّ قاعدة يعمل بها . فإذا أثم المرء مسيئا إلى الآخرين ، فإنّ في التوبة بابا يلجه من جديد إلى عالم الخير إذا شاء . يقول عليّ : « إقبل عذر من اعتذر إليك ، و أخّر الشرّ ما استطعت » . و يعرف التاريخ مقدار الإساءة التي لحقت بعليّ عن طريق أبي موسى الأشعري ، و يعرف كذلك أنّ عليّا لا ينزع إلاّ عن مذهبه أيّة كانت الظروف و الصعوبات ، لذلك نراه يبعث إلى أبي موسى قائلا : « أمّا بعد ، فإنّك امروء ضلّلك الهوى ، و استدرجك الغرور ، فاستقل اللّه يقلك عثرتك ، فإنّ من استقال اللّه أقاله »

[ 70 ]

رابعا ، يؤمن عليّ بأن قوى الخير في الانسان تتداعى و يشدّ بعضها بعضا شدّا مكينا .

فإذا وجد في إنسان جانب من الخير فلا بدّ من ارتباطه بجوانب أخرى منه ، و لا بدّ من ظهور هذه الجوانب عند المناسبات . و في هذه النظرة إشارة صريحة إلى أنّ الوجود واحد متكافى‏ء عادل خيّر سواء أ كان وجودا عامّا كبيرا ، أو وجودا خاصّا مصغّرا يتمثّل بالانسان : « إذا كان في رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها » خامسا ، و مثل هذه العدوى الخيّرة بين الخلال الرائقة ، عدوى مماثلة تنتقل من الخير الى الشر بين الناس و الناس : « جالس أهل الخير تكن منهم » و « اطلبوا الخير و أهله » .

سادسا ، الإيمان العميق بأنّ في طاقة الانسان أيّا كان أن ينهج نهج الخير ، و أنّه ليس من إنسان أجدر من إنسان آخر بهذا النهج : « و لا يقولنّ أحدكم إنّ أحدا أولى بفعل الخير منّي » سابعا ، على المرء ألاّ يستكثر من فعل الخير كثيرا . بل إنّ ما يفعله من خير يظلّ قليلا مهما كان كثيرا لأنّ في الاكتفاء بقدر من الخير جحودا بخير الوجود العظيم و إنكارا لطاقة الانسان الذي ينطوي فيه العالم الأكبر . يقول عليّ في أهل الخير : « و لا يرضون من أعمالهم القليل ، و لا يستكثرون الكثير ، فهم لأنفسهم متّهمون ، و من أعمالهم مشفقون [ 1 ] » ثامنا ، لا بدّ من الإشارة إلى النظرة العميقة التي يلقيها عليّ على مفاهيم النزوع الانساني إلى ما يجعل الناس ، كلّ الناس ، في نعيم .

فإذا نحن نظرنا في آثار معظم المفكّرين الذين أعاروا شؤون الناس اهتمامهم ، رأينا أنّ لفظة « السعادة » هي التي تتردّد في هذه الآثار ، و أنّ مدلول هذه اللفظة إنّما ، هو بالذات ، مدار أبحاثهم و غاية ما يريدون . أمّا عليّ فقد استبدل بلفظة « السعادة » هذه ما هو أبعد مدى ، و أعمق معنى ، و أرحب أفقا ، و أجلّ شأنا في ما يجب أن تتصف به الطبيعة الانسانية و تصبو إليه . لقد استبدل ب « السعادة » هذه ، لفظة « الخير » فما كان يوجّه القلوب إليها بل إليه . لأنّ في السعادة ما هو محصور في نطاق الفرد ، و لأنّ الخير ليس

[ 1 ] من أعمالهم مشفقون : « خائفون من التقصير فيها

[ 71 ]

بمحصور في مثل هذا النطاق . فالخير إذن أعظم ثمّ إنّ الخير يحتوي السعادة و لا تحتويه ،

فهو أشمل أضف إلى ذلك أنّ بعض الناس قد يسعدون بما لا يشرّف الانسان ، و أنّهم قد يسعدون بما يؤذي الآخرين ، و أنّهم قد يتفهون و يترهّلون و هم يحسبون أنّهم بذلك سعداء . أمّا الخير فهو غير السعادة إذ يكون معدنها هذا المعدن . فهو السعادة منوطة بسعادة الناس جميعا . و هو الرضى عن أحوال الجسد و العقل و الضمير لذلك أكثر عليّ من استخدام هذا اللفظ في دعوته الحارّة إلى كلّ ما يرفع من شأن الانسان و لم أعثر في آثار ابن أبي طالب على لفظة « السعادة » إلاّ مرّة واحدة . و لكنّه لا يخرج بمعناها الذي يقصد عن مفهوم الخير بما يحمّلها من حدوده و معانيه . أمّا العبارة التي وردت فيها لفظة « السعادة » فهي هذه : « من سعادة الرجل أن تكون زوجته صالحة و أولاده أبرارا و إخوانه شرفاء و جيرانه صالحين و رزقه في بلده » . فانظر كيف ربط سعادة المرء بسعادة المحيطين به من أفراد عائلته ثم بسعادة إخوانه و جيرانه جميعا . بعد ذلك ناط سعادة هذا الرجل بسعادة بلاده مستندا إلى أنها بلاد تنتج الرزق لجميع أبنائها و هو واحد منهم تاسعا ، إنّ خير الوجود و خير الانسان يستلزمان ، بالضرورة ، الثقة بالضمير الانسانيّ ثقة تجعله حكما أخيرا في ما يضرّ و ينفع . و لنا في هذا الموضوع رأي نفصّله نقول :

من روائع ابن أبي طالب ما يخاطب به العقل وحده . و منها ما يخاطب به الضمير .

و أكثرها ممّا يتوجه به إلى العقل و الضمير مجتمعين . أمّا تلك التي يخاطب بها العقل ، فقل إنّها الغاية في الاصالة ، و إنّها نتيجة محتومة لنشاط العقل الذي لاحظ و دقّق و تمرّس بخير الزمان و شرّه ، و عرف من التجارب كلّ ما يكشف له عن الحقائق و يجلّيها ، فإذا هي مصوغة على قواعد هندسيّة ذات حدود و أبعاد لشدّة ما ترتبط بالحقائق ، و مظهرة في أروع إطار فنّي لشدّة ما ترتبط بالجماليّة التعبيرية ، مما يجعلها ، من حيث المادة و الشكل ،

في أصول الأدب الكلاسيكي العربي .

و في هذا النوع من الحكم الموجّه إلى العقل ، نرى عليّا يصوّر تاركا للناس أن يحكموا بما يرون . فيأخذوا إذا شاؤوا أو يتركوا . لذلك لا نرى في هذا النوع من الحكم صيغ الطلب . إنّما نرى حكما صيغت بقالب خبريّ خالص جرّد من صور الأمر و النهي جميعا .

[ 72 ]

حكما تتبلور فيها طبائع الصديق و العدوّ ، و المحسن و المسي‏ء ، و الأحمق و العاقل ، و البخيل و الكريم ، و الصادق و المنافق ، و الظالم و المظلوم ، و المعوز و المتخم ، و صاحب الحقّ و صاحب الباطل ، و مفهوم الخلق السليم و الخلق السقيم ، و شؤون الجاهل و العالم ، و الناطق و الصامت ، و الأرعن و الحليم ، و صفات الطامع و القانع ، و أحوال العسر و اليسر ،

و تقلّبات الزمان و ما لها من أثر في أخلاق الرجال ، و ما إلى ذلك من أمور لا تحصى في فصل أو باب .

أمّا تلك التي يخاطب بها الضمير ، و العقل و الضمير مجتمعين ، فإليك ما هي و ما حولها :

من الثابت أنّ الذين رأوا في الأنظمة و التشريعات وحدها سلامة الانسان و كفاية المجتمع ، قد أخطأوا خطأ عظيما . فإنّ هذه الأنظمة و التشريعات التي تعلن عن حقوق الانسان و تأمر برعايتها و المحافظة عليها ، لا يضبطها في النتيجة ، كما لا يخلص في اكتشافها و ابتداعها ، إلاّ عقل سليم و نفس مهذّبة و ضمير راق . فإنّ دنيا الناس هذه يرتبط كلّ ما فيها ، ضمن حدود معيّنة طبعا ، بأخلاق القيّمين على دساتيرها و انظمتها ، و بمدى الخير الذي يتّسع في نفوسهم أو يضيق ، بقدر ما يرتبط بضمير الجماعة التي تؤلّف ميدان هذه الأنظمة و الدساتير و تبرّر وجودها . هذا ، مع الاعتراف بأنّ الأنظمة الاجتماعية الحديثة تتفاوت تفاوتا عظيما في سماحها للقيّمين عليها بمسايرتها أو بالخروج عليها . و ذلك بحكم طبيعتها و بنسبة ما تحويه أصولها من إمكانات التنفيذ . أمّا الإنظمة و الدساتير القديمة ،

فقد كانت أكثر تأثّرا بأخلاق القيّمين عليها المشرفين على إقامة ما تقتضيه من حدود .

و لذلك أسباب ليست من موضوع حديثنا هذا .

و بالرغم من أنّ الأنظمة و التشريعات الصالحة من شأنها أن توجّه الناس و تفرض عليهم ما يؤدي إلى نفعهم فرضا ، فإنّ هذا التوجيه و هذا الفرض يظلاّن خارج حدود القيمة الانسانية إن لم يوافقهما العمل النابع من الوجدان بالذات . و في مذهبنا أنّ كلّ عمل يأتيه الانسان لا بدّ أنه فاقد الدف‏ء الانسانيّ ، و هو أثمن و أعظم ما يوافق الصنيع الانساني ، إن لم يحمل وهج الضمير و عبق النفس و إرادة العطاء على غير قسر و إكراه . و لا تنجح الأنظمة

[ 73 ]

و التشريعات في إقامة العلاقات الانسانية إلاّ بمقدار ما يمكنها أن تتوجّه إلى العقل و الضمير فتقنعهما بالخير ، فتخلق الانسجام الرائع بين إتاحة الفرصة للعمل النافع و إرادة العامل في وحدة تكفل للفرد و للجماعة الصعود في طريق الحضارة .

و ما يصدق ، بهذا الصدد ، في نطاق الأفراد و الجماعات ، يصدق كذلك في تاريخ المفكّرين و المتشرعين و العلماء و المكتشفين و من إليهم . فإنك لترى ، إذا أنت استعرضت تاريخ هؤلاء الذين خدموا الانسان و الحضارة ، أنّ العقل الذي دلّهم على الطريق الصحيح في كلّ ميدان ، لم يكن وحده في تاريخهم . فالعقل بارد ، جافّ ، لا يتعرف إلاّ إلى الأرقام و الأقسام و الوجوه ذات الحدود . فهو لذلك يدلّك على الطريق و لكنّه لا يشدّك إلى سلوكه و لا يدفعك في سهله و وعره . أما الدافع ، فالضمير السليم و العاطفة الحارة . فما الذي حمل ماركوني على العزلة القاسية و الانفراد الموحش الكئيب ، إن لم يكن الضمير الذي يحسّن له الانصراف عن مباهج الحياة الى كآبة الوحدة في سبيل الحضارة و الانسان ؟

و إن لم يكن العاطفة التي تغمر هذا الضمير السليم بالحرارة و الدف‏ء فلا يفتر أبدا .

و ما يقال في ماركوني يقال في باستور ، و غاليليو ، و غاندي ، و بتهوفن ، و بوذا ،

و أفلاطون ، و غيتي ، و في غيرهم من أصحاب المركّب الانساني القريب من الكمال .

و الدليل الإيجابي على هذه الحقيقة يستتبع دليلا سلبيا لزيادة الايضاح . فهذا ادولف هتلر ، و جانكيزخان ، و هولاكو ، و الحجاج بن يوسف الثقفي ، و قيصر بورجيا بطل كتاب « الأمير » المشؤوم لمكيافيللي [ 1 ] ، و بعض علماء الذرة المعاصرين الذين يوافقون

[ 1 ] مكيافيللي : « نابغة ايطالي عاش في عصر الرسام العظيم رافاييل ، و كان صديقا له و معينا .

و قد دفعه عقله الفذّ و خلقه الكريم الى مهاجمة أساليب الظلم و البربرية عند حكام التاريخ ،

فألف كتابه الشهير « الامير » الذي يصف فيه وقاحة أولئك الحكام ، و شخصياتهم المبتذلة ،

بطريقة غير مباشرة اذ دفع الى الناس صورة عن شخصية الامير الذي يخلو من كل ضمير و كل عقل و كل ذوق و يلجأ لشتى وسائل العنف في التقتيل و الترويع و التشريد و سائر الفظائع تثبيا لمركزه . . مشيرا إلى أنّ امارات التاريخ و العصر الذي هم فيه انما « تركزت » على هذا الاسلوب السمج . و قد أخذ مكيافيللي صفات « الامير » في كتابه هذا من شخصية قيصر بورجيا ابن اسكندر بورجيا ، صاحب المظالم المعروفة . و يطلق على المبدأ القائل باللجوء الى هذا الاسلوب توسّلا الى الحكم ثم الى تركيزه ، اسم المكيافيلية ، نسبة لمكيافيللي صاحب الكتاب .

[ 74 ]

على تجربتها على الآدميين ، أ لم يتميز هؤلاء جميعا بعقول واسعة و مدارك قد تهون أمامها مدارك الآخرين ؟ و مع ذلك ، فما كان من شأنهم إلا التقتيل و التدمير و الاعتداء على مقدسات الحضارة و مخلّفات الجهود الانسانية ، و على كرامة الحياة و الأحياء و خير الوجود ذلك أن عقولهم لم تواكبها الضمائر السليمة و العواطف الكريمة فحيث لا ضمير و لا عاطفة ، لا نفع من العقل ، بل قل إنه إلى المضرّة أقرب .

و لا أريد هنا التفصيل بين مختلف قوى الانسان من عاطفة و ضمير و عقل و ما إليها ،

فهي و لا شكّ تتفاعل و تتعاون . غير أنّ ما أردته بالعقل هو القوّة التي تعقل الأمور على صعيد يربط السبب بالنتيجة و يحكم بين العلّة و المعلول ، فيدور في نطاق من الأرقام و الحدود التي لا تتأثّر ، بحدّ ذاتها ، بالبيئة الانسانية الخاصّة و العامّة . و على هذا الضوء أجزت هذا التفصيل .

إذن ، فالعقل المكتشف لا بدّ لصاحبه من ضمير و عاطفة يدفعانه في طريق الخير .

و ما يصحّ بهذا الشأن في المشترع يصحّ في المشترع له . فالأفراد الذين يطلب إليهم أن يسيروا على هذا النظام الخيّر أو ذاك ، لا بدّ لهم من اقتناع وجدانيّ ، إلى جانب الاقتناع العقلي المجرّد ، يدفعهم في طريق التهذيب الانسانيّ الرفيع ، لبناء المجتمع الصالح . لا بدّ لهم من التمرّس بالفضائل الأخلاقيّة التي تحيط الأنظمة و التشريعات بحصون رفيعة منيعة .

لا بدّ لهم من أن يكونوا خيّرين لذلك راح عليّ يحرّك في الأفراد عواطف الخير على ما رأينا ، و يوقظ فيهم ما غشّته الأيام من الضمائر السليمة . و يعمل على إنمائها و ينصح برعايتها .

توجّه عليّ إلى الضمائر بتوصياته و خطبه و عهوده و أقواله جميعا . لأنه لم يفته أنّ لتهذيب الخلق شأنا في رعاية النظم العادلة ، و في بثّ الحرارة في المعاملات بين الناس . و لم يفته كذلك ، أن هذا التهذيب يطلب لذاته بما هو من القيم الإنسانية ، كما يطلب لحماية العدالة الاجتماعية و سننها بما هو ضبط لنوازع و توجيه لأخرى . و قد ساعده في ذلك ما أوتي من مقدرة خارقة ينفذ بها إلى أعماق الناس أفرادا و جماعات ، فيدرك ميولهم و أهواءهم ،

و يعرف طباعهم و أخلاقهم ، فيزن خيرها و شرّها ، ثم يصوّر ، و يطوّر ، و يأمر و ينهى ،

على ضوء ثقته الراسخة بالضمير الانساني الذي يتوجه اليه .

[ 75 ]

كانت ثقة ابن أبي طالب بالضمير الانساني ثقة العظماء الذين تآلف فيهم العقل النيّر و القلب الزاخر بالدف‏ء الانساني ، النابض بالحب العميق الذي لا يعرف حدودا .

كانت ثقته بهذا الضمير ثقة بوذا و بتهوفن و روسّو و غاندي و سائر العظماء الذين مدّهم القلب بنور يخبو لديه كلّ نور . و على أساس هذه الثقة أرسى ابن أبي طالب حكمه و أمثاله ، و على أساسها تترابط الأفكار و التوجيهات التي يخاطب بها وجدانات الناس .

و إذا كان للإمام علي مثل هذه الثقة بنواحي الخير في الناس ، على ما مني به على أيديهم من نكبات و فواجع ، فإنه يأبى إلاّ أن يلقي بذور هذه الثقة في قلوبهم جميعا . فهو يعرف « أنّ في أيدي الناس حقّا و باطلا ، و كذبا و صدقا » . و لكنّ الأولى بالمرء أن يفتح عينيه و قلبه على نواحي الخير هذه ، فلعلّها هي التي تنمو دون نواحي الشر . و لعلّ التعليم بالمثل و السيرة يكون أجلّ و أجدى . و قد طالما كرّر عليّ وصاياه بضرورة هذه الثقة بالضمير الانساني ، و في جملة ما يقوله : « من ظنّ بك خيرا فصدّق ظنه » . و يقول في مكان آخر :

« لا تظننّ بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا » و « ليس من العدل القضاء بالظنّ على الثقة » و « و إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله ثمّ أساء رجل الظنّ برجل لم تظهر منه خزية ، فقد ظلم » و « أسوأ الناس حالا من لم يثق بأحد لسوء ظنّه ، و لم يثق به أحد لسوء فعله » و قد أخطأ دارسو الإمام عليّ ساعة رأوا أنه متشائم بالناس شديد التشاؤم ، متبرّم بهم كثير التبرّم . و ساعة احتجّوا لرأيهم هذا بأقوال له يهاجم بها أبناء زمانه بشدّة و عنف .

أمّا رأينا نحن فعلى العكس من ذلك تماما . رأينا أنّ عليّا لم ينقض ثقته بالانسان ساعة واحدة و إنّ نقضها ببعض الناس في بعض الظروف . فمن عرف طاقة ابن أبي طالب على احتمال المكاره تأتيه من الناس ، و جلده العجيب في مقاساة الأهوال الناجمة عن الغدر و الخيانة و الفجور في الكثير من خصومه و أنصاره ، ثم ما كان من أموره معهم جميعا إذ يأخذهم بالرفق و العطف ما أمكنه أن يرفق و أن يعطف ، أقول : « من عرف ذلك أدرك أنّ عليّا عظيم التفاؤل بحقيقة الانسان ، و بفطرته التي أضلّها المجتمع في بعض أحواله . لا يختلف في ذلك عن أخيه العظيم روسّو .

[ 76 ]

و إذا كان له في ذمّ أهل الخيانة و الغدر و الظلم قول كثير ، فما ذاك إلاّ لأنه يعترف ،

ضمنا ، أنّ الانسان ممكنا إصلاحه و لو طال على ذلك الزمن . فإنّ المتفائل وحده هو الذي يزجر المسي‏ء كما يثيب المحسن أملا منه بتقويم الاعوجاج في الخلق و المسلك . و لو لم يكن لابن أبي طالب مثل هذا الأمل ، لما استطاع احتمال ما لا يحتمل من مكاره الدهر التي جرّها عليه المسيئون ، و لما صبر على ما يكره و هو إن قال في الدنيا و أهلها :

« فإنّما أهلها كلاب عاوية و سباع ضارية ، يهرّ بعضها بعضا ، و يأكل عزيزها ذليلها ،

و يقهر كبيرها صغيرها » ، فإنّما يقول ذلك لأنه قاسى من غدر الغادرين و فجور الفاجرين ما آلمه و آذاه . فوبّخهم هذا التوبيخ الموجع إيثارا منه لمن لا يفجر و لا يغدر و لا يكون كلبا عاويا و لا سبعا ضاريا و لا عزيزا يأكل ذليلا أو كبيرا يقهر صغيرا يقول ذلك ثم يحارب السبع الضاري و العزيز الظالم و الكبير الجائر كما يحارب الطبيب الجراثيم إيثارا منه لسلامة البدن و الروح ، بل إيثارا منه للحياة على الموت ، و تفاؤلا بحسن النجاة إذن ، فالإمام عليّ ، و هو الذي يحترم الحياة : « أعظم ما خلق اللّه ، و يحترم الناس الأحياء : « أجمل نماذج هذه الحياة ، عظيم الثقة بالخير الانساني . عظيم التفاؤل بالانسان يريده حرّا كما يجب أن يكون و لو لا هذه الثقة و هذا التفاؤل لما كان من أمره من الناس ما كان ، و لما قال : « لا تظنّنّ بكلمة خرجت من أحد سوءا و أنت تجد لها في الخير محتملا » ثمّ لما توجّه إلى الضمير الفرديّ و الجماعي بوصاياه التي تجمع عمق الفهم و حرارة العاطفة الى سموّ الغاية و نبل المقصد . هذه الوصايا التي أرادها حصنا منيعا للأخلاق العامّة ، و العاطفة الانسانية ،

و تركيز العمل النافع على أسس الايجابية في العقل و الضمير . و استنادا الى هذه الثقة بالضمير الانساني ، و تحصينا للعمل الخيّر الشريف ، نراه يقيم على الناس أرصادا من أنفسهم و عيونا من جوارحهم فيخاطبهم قائلا : « اعلموا أن عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم و حفّاظ صدق يحفظون أعمالكم و عدد أنفاسكم » و استنادا إلى هذه الثقة بخير الوجود و عدله ، و إلى عظمة الحياة و الأحياء ، يخاطب عليّ ابن أبي طالب أبناء زمانه بما يوقظهم على أنّ الحياة حرّة لا تطيق من القيود إلاّ ما كان

[ 77 ]

سببا في مجراها و واسطة لبقائها و قبسا من ضيائها و ناموسا من نواميسها . و أنّها لا يطيب لها البقاء في مهد الأمس . فعليهم ألاّ يحاولوا غلّها و تقييدها و إلاّ أسنت و انقلبت إلى فناء .

فالحياة جميلة ، كريمة ، حرّة ، خيّرة كالوجود أبيها ، تحفظ نفسها بقوانينها الثابتة لا بما يريد لها المتشائمون من قوانين .

و هي متجدّدة أبدا ، متطوّرة أبدا ، لا ترضى عن تجدّدها و تطوّرها بديلا و هما أسلوب تنهجه في فتوحاتها التي تستهدف خيرا أكثر و بقاء أصلح . و ملاحظة ابن أبي طالب الدقيقة العميقة للحياة و نواميسها و هي أعظم موجودات الوجود الخيّر ، مكّنت في نفسه الايمان بثوريّة الحياة المتطلّعة أبدا إلى الأمام ، المتحرّكة أبدا في اتّجاه الخير الأكثر . و ثورية الحياة أصل تحرّكها و سبب تطوّرها من حسن إلى أحسن . و لهذا كانت الحياة حرّة غير مقيّدة إلاّ بشروط وجودها . و ثوريّة الحياة أصل تحرّك المجتمع الانساني و سبب تطوّره . و لو لا هذه الخاصّة لكانت الحياة شيئا من الموت و الأحياء أشياء من الجماد .

آمن ابن أبي طالب بثوريّة الحياة إيمانا أشبه بالمعرفة ، أو قل هو المعرفة . فترتّب عليه إيمان عظيم بأنّ الأحياء يستطيعون أن يصلحوا أنفسهم و ذلك بأن يماشوا قوانين الحياة .

و يستطيعون أن يكونوا أسياد مصائرهم و ذلك بأن يخضعوا لعبقريّة الحياة . و قد سبق أن قلنا في حديث مضى إنّ ثوريّة الحياة ألصق مزايا الحياة بها و أعظمها دلالة على إمكاناتها العظيمة . و هي تستلزم من المؤمنين بها أن يعملوا على أساس من الثقة المطلقة بالتطوّر المحتوم ،

و أن ينبّهوا الخواطر إليه ، و أن يستخدموا الدليل و البرهان في زجر المحافظين عن كلّ تصرّف غبيّ يتوهّم أصحابه أنّهم يستطيعون الوقوف في وجه الحياة الثائرة المتطوّرة بثورتها .

بهذه الثقة و بهذا الايمان خاطب ابن أبي طالب الانسان بقوله : « فإنك أوّل ما خلقت جاهلا ثمّ علّمت ، و ما أكثر ما تجهل من الأمر ، و يتحيّر فيه رأيك ، و يضلّ فيه بصرك ،

ثم تبصره بعد ذلك » ففي هذا القول اعتراف بأنّ الحياة متطوّرة ، و أنّ التعلّم إنّما هو الانتفاع بما تخزن الحياة من عبقريتها في صدور أبنائها ، على ما قلنا سابقا . و فيه إيمان بالقابلية الانسانية العظيمة للتقدّم ، أو قل للخير . و ما دعوته الحارّة إلى المعرفة التي تكشف كلّ

[ 78 ]

يوم عن جديد ، و تبني كلّ يوم جديدا ، إلاّ دليل عن الايمان بثوريّة الحياة الخيّرة و إمكانات الأحياء . فالمعرفة لديه كشف و فتح لا يهدآن .

و هو بهذا الايمان و هذه الثقة يخاطب أبناء زمانه يقول : « لا تقسروا أولادكم على أخلاقكم ، فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم » . فلو لا تفاؤله العظيم بأنّ في الحياة جمالا ، و بأنّ في الناس قابليّة التطوّر إلى الخير ، لما أطلق هذا القول الذي يوجز علمه بثوريّة الحياة ، و يوجز تفاؤله بإمكانات الانسان المتطوّر مع الحياة ، كما يوجز روح التربية الصحيحة ، و يخلّص كلّ جيل من الناس من أغلال العرف و العادة التي ارتضاها لنفسه جيل سابق .

و لابن أبي طالب في هذا المعنى قول كثير منه هذه الآيات الخالدة التي يمجّد بها العمل بوصفه حقيقة و ثورة و خيرا : « من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه » و « قيمة كلّ امرى‏ء ما يحسنه » و « اعلموا أنّ الناس أبناء ما يحسنون » و « لكلّ امرى‏ء ما اكتسب » .

و من أقواله ما يدفع به المرء إلى أن يطلب التقدّم بالعمل ، و ألاّ يحجم أو يتراجع إذا هو أخفق كثيرا أو قليلا ، لأنّ الوجود الخيّر لا يحرم أبناءه ما يستحقّون . و إذا هو حرمهم فبعض الحرمان لا كلّه . و قد يسوّى الأمر في دفعة ثانية من الطلب بواسطة العمل . و من قوله في ذلك هذه الآية : « من طلب شيئا ناله أو بعضه » . و أظن أن القارى‏ء فطن الى روح هذه العبارة التي تتألق و كأنها انبثاق عن كلمة المسيح الشهيرة : « إقرعوا إقرعوا يفتح لكم » .

و لعلّ أجمل ما في المذهب العلويّ بهذا الشأن ، أنّ صاحبه كان يوحّد ثوريّة الحياة و خير الوجود نصّا كما كان يوحّدهما روحا و معنى . فلشدّ ما نراه يوحّد معنى التطوّر ،

أو ثوريّة الحياة ، بمعنى خير الوجود توحيدا لا يجعل هذا شيئا من تلك ، و لا تلك شيئا من هذا ، بل يجعل ثوريّة الحياة كلاّ من خير الوجود ، و خير الوجود كلاّ من ثورية الحياة . و إن في آياته هذه لدليلا كريما على صحة ما نقول فليس فيها ما يحتاج إلى شرح أو تعليق . و إليك نموذجا عنها : « العاقل من كان يومه خيرا من أمسه » و « من كان

[ 79 ]

غده شرّا من يومه فهو محروم » و « من اعتدل يوماه فهو مغبون » . و أخيرا إليك هذه الرائعة التي تجمع كلّ ما نحن بصدده الآن ، إلى دف‏ء الحنان العميق ، إلى جمال الفن الأصيل ، إلى إشراك الأيام بأحاسيس البشر :

« ما من يوم يمرّ على ابن آدم إلاّ قال له : « أنا يوم جديد ، و أنا عليك شهيد ،

فقل فيّ خيرا و اعمل خيرا فإنك لن تراني بعد أبد » و لسوف نسوق في هذا الكتاب روائع لابن أبي طالب ستبقى ما بقي الانسان الخيّر .

و إنّها لطائفة تؤلّف نهجا في الأخلاق الكريمة ، و الأحلام العظيمة ، و التهذيب الانسانيّ الرفيع الذي أراده انبثاقا عن ثوريّة الحياة و خير الوجود بيروت جورج جرداق

[ 81 ]