تكافؤ الوجود

و أحسّ عليّ أنّ هذا الكون العظيم متعاون متكافل فكان من ذلك أن الريح إذا اشتدّت حرّكت الأغصان تحريكا شديدا ، و إذا أجفلت قلعت الأشجار و هاجت لها العناصر ، و أنها إذا لانت و جرت فويق الأرض جريا خفيفا سكرت بها صفحات الماء و سكنت تحتها الأشياء و أدرك كذلك أن قوة الوجود الشاملة ترعى هشيم النبت بقانون ترعى به الورق الأخضر و الزرع الذي استوى على سوقه و اهتزّ للريح و أسقط ابن أبي طالب نظرية التجّار بقول تناوله من روح الوجود و كأنه يشارك به الكون في التعبير عمّا في ضميره نظرة واحدة يلقيها المرء على الكون الخارجي و أحواله : على النجوم الثابتة في سعة الوجود و الكواكب السابحة في آفاق الأبد ، و على الشمس المشرقة و السحاب العارض و الريح ذات الزفيف ، و على الجبال تشمخ و البحار تقصفها القواصف أو يسجو على صفحاتها الليل ،

[ 40 ]

تكفيه لأن يثق بأنّ للكون قانونا و أنّ لأحواله ناموسا واقعا كلّ منهما تحت الحواسّ و قائما بكل مقياس .

و نظرة واحدة يلقيها المرء على ما يحيط به من الطبيعة القريبة و أحوالها : على الصيف إذ يشتدّ حرّه و تسكن ريحه ، و الخريف إذ يكتئب غابه و تتناوح أهواؤه و تعبس فيه أقطار السماء ، و الشتاء إذ ترعد أجواؤه و تضطرب بالبروق و تندفع أمطاره عبابا يزحم عبابا و تختلط غيومه حتى لتخفي عليك معالم الأرض و السماء ، و الربيع يبسط لك الدنيا آفاقا نديّة و أنهارا غنيّة و خصبا و رواء و جنانا ذات ألوان ، كافية لأن تجعله يثق بأنّ لهذه الطبيعة قانونا و أنّ لأحوالها ناموسا واقعا كلّ منهما تحت الحواسّ و قائما بكل مقياس .

و نظرة فاحصة واحدة يلقيها المرء على هذي و ذاك ، كافية لتدلّه على أنّ هذه النواميس و القوانين صادقة ثابتة عادلة ، يقوم منطقها الصارم بهذه الصفات ، و فيها وحدها ما يبرّر وجود هذا الكون العظيم ألقى ابن أبي طالب تلك النظرة على الكون فوعى وعيا مباشرا ما في نواميسه من صدق و ثبات و عدل ، فهزّه ما رأى و ما وعى ، و جرى في دمه و مشى في كيانه و اصطخب فيه إحساسا و فكرا ، فتحرّكت شفتاه تقولان : « ألا و إنه بالحق قامت السماوات و الأرض » .

و لو حاولت أن تجمع الصدق و الثبات و العدل في كلمة واحدة ، لما وجدت لفظة تحويها جميعا غير لفظة « الحق » . ذلك لما يتّحد في مدلولها من جوهر الكلمات الثلاث و أدرك ابن أبي طالب في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلا و فرعا بين السماء و الأرض اللتين قامتا بالحقّ و استوتا بوجوده المتلازمة الثلاثة : الصدق و الثبوت و العدل ، و بين الدولة التي لا بدّ لها أن تكون صورة مصغّرة عن هذا الكون القائم على أركان سليمة ثابتة ، فإذا به يحيا في عقله و ضميره هذه المقايسة على صورة عفوية لا مجال فيها لواغل من الشعور أو لغريب من التفكير ، ثم لا يلبث أن يقول :

« و أعظم ما افترض من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية ، و حقّ الرعيّة على الوالي فريضة فرضها اللّه لكلّ على كلّ ، فجعلها نظاما لألفتهم ، فليست تصلح الرعيّة إلاّ بصلاح الولاة ، و لا يصلح الولاة إلاّ باستقامة الرعيّة . فإذا أدّت الرعيّة إلى الوالي حقّه ،

[ 41 ]

و أدّى الوالي إليها حقّها ، عزّ الحقّ بينهم ، و اعتدلت معالم العدل و جرت على أذلالها السّنن [ 1 ] فصلح بذلك الزمان و طمع في بقاء الدولة . و إذا غلبت الرعيّة واليها ،

أو أجحف الوالي برعيّته ، اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور و تركت محاجّ السّنن فعمل بالهوى و عطّلت الأحكام و كثرت علل النفوس ، فلا يستوحش لعظيم حقّ عطّل [ 2 ] و لا لعظيم باطل فعل فهنالك تذلّ الأبرار و تعزّ الأشرار و تعظم تبعات اللّه عند العباد » و أوصيك خيرا بهذا الإحكام للروابط العامة الكبرى بين عناصر الدولة على لسان علي ،

ثم بين الأعمال الخيّرة المنتجة و بين ثبوت هذه العناصر على أسس من الحق ، أو قل من الصدق و الثبوت و العدل : وجوه الحق الثلاثة التي تقوم بها السماوات و الأرض .

و أحسّ عليّ أن هذا الكون العظيم متعاون متكافل فكان من ذلك أنّ الريح إذا اشتدّت حرّكت الأغصان تحريكا شديدا ، و إذا أجفلت قلعت الأشجار و هاجت لها العناصر ،

و أنّها إذا لانت و جرت فويق الأرض جريا خفيفا سكرت بها صفحات الماء و سكنت تحتها الأشياء .

و أحسّ أن الشمس إذا ألقت على الأرض نورها بدت معالم الأرض للعيون و الأذهان ،

و إذا خلّتها خلّت عليها من الظلمة ستارا . و أنّ النبتة تنمو و تزهو و تورق و قد تثمر ، و هي شي‏ء يختلف في شكله و غايته عن أشعّة النهار و جسم الهواء و قطرة الماء و تراب الأرض ،

و لكنها لا تنمو و لا تورق إلاّ بهذه الأشعّة و هذا الجسم و هذه القطرة و هذا التراب .

و أحسّ أنّ الماء الذي « تلاطم تيّاره و تراكم زخّاره » كما يقول ، إنّما « حمل على متن الريح العاصفة و الزعزع القاصفة » . و أنّ الريح التي « أعصف اللّه مجراها و أبعد منشأها » مأمورة على بعد هذا المنشأ « بتصفيق الماء الزخّار و إثارة موج البحار ، تعصف به

[ 1 ] أذلال ، جمع ذل بكسر الذال و ذل الطريق : محجّته ، و هي جادته ، أي وسطه . و جرت السنن أذلالها ، أو على أذلالها : جرت على وجوهها .

[ 2 ] أي ، اذا عطل الحق لا تأخذ النفوس وحشة أو استغراب لتعوّدها تعطيل الحقوق و أفعال الباطل ، و لاستهانتها بما تفعل .

[ 42 ]

عصفها بالفضاء و تردّ أوّله إلى آخره ، و ساجيه إلى مائره [ 1 ] حتى يعبّ عبابه » . و من زينة الأرض و بهجة القلوب هذه النجوم و هذي الكواكب ، و ضياء الثواقب [ 2 ] و السراج المستطير [ 3 ] و القمر المنير أحسّ ابن أبي طالب من وراء ذلك جميعا أنّ هذا الكون القائم بالحقّ ، إنّما ترتبط عناصره بعضها ببعض ارتباط تعاون و تساند ، و أنّ لقواه حقوقا افترضت لبعضها على بعض ، و أنّها متكافئة في كلّ وجوهها متلازمة بحكم وجودها و استمرارها .

فأدرك في أعماقه أنّ المقايسة تصحّ أصلا و فرعا بين هذه العناصر المتعاونة المتكافئة ،

و بين البشر الذين لا بدّ لهم أن يكوّنوا متعاونين متكافئين بحكم وجودهم و استمرارهم ،

فهم من أشياء هذا الكون يجري عليهم ما يجري على عناصره جميعا من عبقريّة التكافل الذي يراه عليّ فرضا عليهم لا يحيون إلاّ به و لا يبقون . فإذا به يلفّ عالم الطبيعة الجامدة و عالم الإنسان بومضة عقل واحدة ، و انتفاضة إحساس واحدة ، ليستشفّ عدالة الكون القائم على وحدة من الصدق و الثبات و العدل ، مطلقا هذا الدستور الذي يشارك به الكون في التعبير عن ضميره ، قائلا :

« ثم جعل من حقوقه حقوقا افترضها لبعض الناس على بعض ، فجعلها تتكافأ في وجوهها ، و يوجب بعضها بعضا ، و لا يستوجب بعضها إلاّ ببعض » و من هذا المعين أيضا قول له عظيم يقرّر به أنّ دوام نعمة من النعم مرهون بما فرض على صاحبها من واجب طبيعيّ نحو إخوانه البشر ، و أن عدم القيام بهذا الواجب كاف وحده لأن يزيلها و يفنيها :

« من كثرت النّعم عليه كثرت الحوائج إليه . فمن قام فيها بما يجب عرّضها للدوام و البقاء ، و من لم يقم فيها بما يجب عرّضها للزوال و الفناء » .

[ 1 ] الساجي : الساكن . و المائر : الذي يذهب و يجي‏ء ، أو المتحرك مطلقا . و عبّ عبابه :

ارتفع علاه .

[ 2 ] الثواقب : المنيرة المشرقة .

[ 3 ] المستطير : المنتشر الضياء . و الشراج المستطير : الشمس .

[ 43 ]

ففي هذين القولين من التعبير عن عدالة الكون ، و الناس من موجوداته ، ما لا يحتاج إلى كثير من الايضاح . فحقوق العباد على لسان عليّ يكافى‏ء بعضها بعضا . فهي أشبه ما تكون بحقّ الماء على الريح ، و النبتة على الماء ، و الماء على الشمس ، و الشمس على قانون الوجود . و هذه السنّة التي تفرض على الإنسان ألاّ يستحقّ شيئا من الحقوق إلاّ بأدائه حقوقا عليه ، ليست إلاّ سنّة الكون العادلة القائمة بهذا العدل .

و لينظر القارى‏ء في هذا الأمر نظرا سديدا ثم ليقل رأيّه في ما رأى . فإنّه إن فعل أدرك لا شكّ أنّ هذه القاعدة التي بلغ ابن أبي طالب بها الى جذور العدالة الكونية ، ثابتة لا تغيّر نفسها و لا شذوذ ينقضها .

فعناصر هذا الكون لا تأخذ إلا قدر ما تعطي ، و لا يكسب بعضها إلاّ ما يخسره بعضها الآخر . فإذا أخذت الأرض من الشمس نورا و دف‏ءا ، أعطت الوجود من عمرها قدر ما أخذت . و كذلك إذا أخذت من الليل ظلاّ يغمرها . و إذا تناولت الزهرة من عناصر الكون الكثيرة ما يحييها و ينميها و يعطيها عبيرا شهيّا ، فلسوف يأخذ النور و الهواء من لونها و عطرها بمقدار ما أعطياها ، حتى إذا تكامل انعقادها و بلغت قمة حياتها ، تعاظم مقدار ما تدفعه من عمرها ، فإذا بالحياة و الموت يتنازعانها حتى تسلم إليه أوراقها و جذعها .

أما الأرض فتبتلع منها كل ما كانت قد منحتها إياه .

و البحر لا يستعيد الى جوفه إلاّ ما أعطى السماء من غيوم و البرّ من أمطار .

و كذلك الانسان في حياته الخاصة . فهو لا يحظى بلذة إلاّ بفراق أخرى يدفعها ، قاصدا أو غير قاصد ، عوضا عمّا أخذ . و هو لا يولد إلا و قد تقرّر أنه سيموت . يقول عليّ :

« و مالك الموت هو مالك الحياة » و عن هذا التوازن الحكيم في قانون الكون برحابه و أفلاكه ، و أرضه و سمائه ، و جامداته و أحيائه ، يعبّر ابن أبي طالب بهذه الكلمة التي تجمع سداد الفكر الى عنف الملاحظة إلى عبقرية البساطة : « و لا تنال نعمة إلاّ بفراق أخرى » و لينظر الناظرون في هذا القول فإنّهم إن فعلوا وثقوا بأنّه الواقع الذي يرتسم كلمات هي أشبه بالقاعدة الرياضية التي لا يمكن الخروج عليها .

[ 44 ]

أمّا في الحياة العامّة ، فليس بين شؤون الانسان شأن واحد يشذّ عن هذه القاعدة التي انتزعها عليّ بن أبي طالب من مادّة الكون العظيم . فحقّك على مجتمعك هو أن يقيّم هذا المجتمع ما تعطيه ، كميّة و نوعا ، ثم أن تأخذ منه بمقدار ما أعطيت . أمّا إذا حصلت من المكافأة على أقلّ ممّا أعطيت ، فإنّ نصيبك عند ذاك ذاهب إلى سواك ، و إن سواك يتمتّع بخير أنت صاحبه و لا شكّ ، و إنك في النتيجة مغصوب مظلوم . و أمّا إذا أخذت من المكافأة فوق ما أعطيت ، فإنّ نصيب غيرك منها ذاهب إليك ، و إن سواك من الخلق يجوع بما أكلت ،

و إنك بذلك غاصب ظالم . و وجود المظلوم و الظالم في المجتمع مفسدة له و منقصة في موازين العدالة الاجتماعية التي لا تستقيم إلاّ إذا دخلت في نطاق مريح من العدالة الكونية .

و البطل لا يمكن أن يكون قاعدة بل الحقّ هو القاعدة . و « الحقّ لا يبطله شي‏ء » في قانون الكون و هو كذلك في مذهب ابن أبي طالب .

و النظر في الساطع العظيم من مظاهر العدالة الكونية ، لم يكن ليلهي عليّا عن النظر في ما خفي منها و دقّ . و شأنه في ذلك شأن عباقرة الشعراء الذين تولّف دقائق الأشياء لديهم ،

في المادّة و المعنى ، ما تولّفه عظائمها فهم لا يفرقون فيها بين كبير و صغير ، فهي بالمنشأ واحدة و هي كذلك بالدلالة .

و ليس للذي يبهر الأنظار حساب في عقولهم و قلوبهم يعلو على حساب ما ينزوي في المخابى‏ء و بين الظلال . و ربّ نظرة تجري من الأحاسيس في كيان هؤلاء ما لا تجريه ينابيع الكلام و ربّ إشارة يدركون فيها من التصريح ما لا يرونه بألف إعلان و ربّ زهرة في كنف صخرة ينعمون لديها من الشعور بعظمة الوجود بما لا ينعمون به لدى الدوحة العاتية . بل ربّ صغير في نظرهم أجلّ من كبير ، و قليل أكثر من كثير و أرى من الموافق أن أذكر في هذا المجال نتفة من حديث طويل سقته بصدد الكلام على موقف صاحب الإحساس العظيم و الفكر المحيط من الكون الذي يستوي خفيّه و ظاهره في الدلالة على ما فيه من جليل ، قلت :

« و كأنّي بهذه الطبيعة تمثّل للشاعر جمال الحريّة التي يشتهي ، إذ ترسل الريح حين تشاء و كيف تشاء لا يهمّها أسخط الناس عليها أم رضوا قانعين و تفجّر الينابيع من

[ 45 ]

الصخر ، حين تروم ، و من رخيّ التراب ، و تجريها هادئة في السهل أو تقذف بها من أعالي الجبال . و تبرز من صدرها أشجارا و صخورا و قمما و وديانا على طريقتها التي تريد ،

لا يعنيها أن تنبت الزنابق إلى جانب الشوك أو تعلق إبر السمّ وردا أخضر العود طيّب الريح . و لا تتقيّد بمعرفة تقوم بتحقير الهشيم اليابس و تعظيم الأخضر الفينان ، و بالسخرية من صغار الهوامّ تطلّ من ثقوب الصخور ، تمجيدا لشراسة القويّ من الوحش يفترس الضعيف [ 1 ] » .

بهذه النظرة و بهذا الشعور واجه ابن أبي طالب مظاهر الوجود الواحد في الطبيعتين الصامتة و الحيّة ، و أحسّ إحساسا بديهيّا و عميقا معا بأنّ قوّة الوجود الشاملة ترعى هشيم النبت بقانون ترعى به الورق الأخضر و الزرع الذي استوى على سوقه و اهتزّ للريح .

و أنّها تعنى بالفسيل [ 2 ] الضئيل من شجر الأرض كما تعنى بالعتيّ من الدوح العظيم .

أمّا البهم و الحشرات و الغوغاء [ 3 ] و صغار الطير ، فإنّ الطبيعة لم تبذل في رعايتها نصيبا أقلّ مما تبذله في رعاية الهائل من الوحش و نسر الفضاء . فلكلّ من المخلوقات مكانه في سعة الوجود و لكلّ حقّه بهذا الوجود . لذلك لم يمنع الطود الشامخ عن ابن أبي طالب رؤية الحصاة و ذرّة التراب . و لم يفته و هو ينظر الى الطاووس أن يلتفت الى النملة المتواضعة الدابّة في خفايا الأرض بين حطامها و حصاها ، فإذا هي في الوجود خلق جليل و شي‏ء كثير .

و ما كان عليّ ليرى في الطاووس و النملة اللذين يبسطهما النهار ، شيئا يزيد في معنى الوجود و في قيمته عمّا كان يراه في الخفافيش [ 4 ] التي جعل لها الليل نهارا و قبضها الضياء الباسط لكلّ شي‏ء . و إنما كان يريد من غوامض الحكمة فيها ما يراه في عظائم المخلوقات .

و يكفي هذا المخلوق ، في نهج عليّ ، أن يكون ذا رمق أي أن يكون حيّا لتكفل له قوّة الوجود الشاملة كفلا أساسيّا ما يقيه خطر الموت قبل حينه . فإنّ العدالة الكونية ما أقامت حيّا من الأحياء إلاّ و عدلت وجوده بما يمسك عليه مدّة بقائه . و هذا ما يعنيه عبقريّ

[ 1 ] باختصار عن كتاب « فاغنر و المرأة » للمؤلف صفحة 163 164 .

[ 2 ] الفسيل : صغار الشجر .

[ 3 ] البهم : صغار أولاد الضأن و المعز . الغوغاء : صغار الجراد .

[ 4 ] راجع ، في هذا الكتاب ، روائع علي في وصف الطاووس و الخفاش .

[ 46 ]

الملاحظة الدقيقة الضابطة عليّ بن أبي طالب بقوله : « و لكلّ ذي رمق قوت ، و لكل حبة آكل » .

أمّا إذا حيل بين ذي الرمق و قوته ، و الحبّة و آكلها ، فإنّ في هذا المنع اعتداء على موازين العدالة الكونية و افتراء على قيمة الحياة و معنى الوجود . يقول عليّ : « و اللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة على أن أعصي اللّه في نملة أسلبها لبّ شعيرة ، ما فعلت » أما الاعتداء على موازين العدالة الكونية ، فإن العقاب عليه قائم بطبيعة هذه العدالة العامّة نفسها التي تقاضي الفاعل مقاضاة لا لين فيها و لا قسوة ، و إنما عدل و مجازاة .

و من ثمّ كانت النظرة العلوية الجليلة إلى معنى الحياة الواحدة بكثيرها و قليلها ، بكبيرها و صغيرها . فالعدالة الكونية التي وازنت بين الأحياء و رعتهم في مختلف حالاتهم و أقامت بينهم أعمالا مشتركة و حقوقا متبادلة و واجبات متعادلة ، لم تفرّق بين مظهر من مظاهر الحياة و آخر ، و لم تأمر بأن يعتد قويّ على ضعيف لما خصّ به القويّ من أداة العتوّ ، و لم تأذن للكثير بأن يغبن القليل حقّه بما خصّ به من صفات الكثرة . و هي من ثمّ لا تغتفر ظلم القليل بحجّة مصلحة الكثير . فالذي يغبن كائنا حيّا في نهج ابن أبي طالب فكأنّما غبن الكائنات الحيّة جميعا . و من قتل نفسا بغير حقّ فكأنّما قتل النفوس جملة . و من آذى ذا رمق فكأنّما آذى كلّ ذي رمق على وجه الأرض . فالحياة هي الحياة في نهجه و احترامها هو الأصل و عليه تنمو الفروع .

ففي نظريات عدد كبير من المفكرين و المتشرعين ، و في « آراء » معظم هؤلاء الذين يسمون أنفسهم رجال سياسة ، يجوز الاعتداء على العدد القليل من الناس في سبيل العدد الكثير .

و في حساب هؤلاء ، لا يقاس الخير إلاّ بسلامة العدد الكثير ، ثم في بلوغه ما يصبو إليه من حال . فإذا قتل بحادث اعتداء ألف من الخلق ، فالأمر فظيع . و إذا قتل ألفان فالأمر أفظع . و هكذا دواليك . أمّا إذا قتل إنسان واحد ، بمثل هذا الحادث ، فالقضيّة هيّنة و الأمر بسيط . فإنّ دفاتر تجّار الأرواح عند ذاك لا يسقط منها الكثير . أمّا جداول الضرب و عمليّات الجمع و القسمة ، فن الميسور تعديلها بعمليّة حساب بسيطة .

أمّا ابن أبي طالب فيسحق نظريات هؤلاء التجّار ، بقول يتناوله مباشرة من روح الوجود الذي لا قيمة لديه للأرقام في معنى الحياة ، بل للحياة نفسها :

[ 47 ]

« فو اللّه لو لم يصيبوا من الناس إلاّ رجلا واحدا معتمدين [ 1 ] لقتله ، بلا جرم جرّه ،

لحلّ لي قتل ذلك الجيش كلّه » .

و الواضح هنا أنّ الموضوع ليس « قتل الجيش كلّه » بل تمكين فكرة احترام الحياة في أذهان أصحاب السلطة ، و لفت أنظارهم إلى أنّ قتل نفس واحدة ، قصدا و اعتمادا ،

إنما يساوي قتل الخلق جميعا .

و لو أنّنا قسنا نظرة عليّ بن أبي طالب في هذا المجال بنظرات كثير من المفكرين الذين رأوا أنّ موازين العدالة لا تتحرك إلاّ بالقوّة و الكثرة ، لبدا لنا كيف ينحدرون حيث يسمو ، و كيف يتزمّتون و يغلظون حيث يرحب أفقه و تعلو على يديه قيم الحياة . ففيما يطبّل بعض هؤلاء و يزمّرون لما « اكتشفوه » من آراء و نظريات تبيح للقويّ أن يعتزّ بقوّته و حسب ، و للكثير أن تتّسع آماله بهذه الكثرة وحدها و في كلّ ذلك اعتداء على قانون الحياة العادل ، و على إرادة الانسان القادرة المطوّرة الخيّرة نرى ابن أبي طالب يكشف عمّا هو أسمى بمقياس الحياة نفسها لأنه حقيقة ، و بمقياس الارادة الانسانية لأنه خير ،

فيقول ببساطة العظيم : « و ربّ يسير أغنى من كثير » ثم يوضح بقول أجلّ و أجمل :

« و ليس امرؤ ، و إن عظمت في الحقّ منزلته ، بفوق أن يعان على ما حمّله اللّه من حقّه [ 2 ] و لا امرؤ ، و إن صغّرته النفوس و اقتحمته العيون [ 3 ] بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه » و في هذين القولين ينقل ابن أبي طالب للناس مظهرا من مظاهر العدالة الكونية البادية حيث أمعنت النظر ، و يقرّر حقيقة طالما خفيت عن العقول التي تحصر نفسها في أضيق نطاق .

يقرّر عليّ أنّ المظاهر البرّاقة الفضفاضة ليست في حكم الواقع الوجوديّ إلاّ غثّا من الوجود تافها لا قيمة له و لا شأن ، و قد يبهر بها العاديّون من الخلق و أهل الحماقات و الأغبياء

[ 1 ] معتمدين : قاصدين .

[ 2 ] بفوق أن يعان : أي بأعلى من ان يحتاج الى الإعانة .

[ 3 ] اقتحمته العيون : حقرته . بدون أن يعين : بأعجز من أن يساعد غيره .

[ 48 ]

و المصفّقون لكلّ لمّاع تافه فارغ ، و لكنّ هذا الانهيار لا يلبث . أن يتلاشى فجأة حين تطلّ شمس الحقيقة ، و حين يكنس نورها العظيم ما خاله العاديّون نورا و هو غشّ للعيون ،

و حين تعصف رياح الوجود العادل بعصافة التبن الخفيف . و من التاريخ و الحاضر دلائل لا تحصى على هذا الاضطراب في المقاييس لدى الأفراد و الجماعات ، و هو اضطراب يستلزم نتائج تؤذي الحضارة و الحياة و الانسان لما فيها من انحراف عن موازين العدالة الكونية .

فلو كنت تعيش في فترة من العصور الوسطى بأوروبا ، مثلا ، لشاهدت في بعض أيامك مواكب من الناس تتلوها مواكب بإحدى الساحات العامّة من هذه المدينة أو تلك ، و ذلك قصد التهليل و التصفيق لمخلوق من الناس مزركش الألبسة عاصب الرأس بالزمرّد و الزبرجد و الحجارة الكريمة المنظومة . و لشاهدت رجلا يسير على الرصيف وحيدا ، عصبيّ الخطوة عنيف النظرة ، لا يعنيه أمر المهلّلين و لا يعنيهم أمره . فهم يهتفون بحياة « عظيم » و هو إذ ذاك « ليس بعظيم » . ثم أشرقت الشمس بعد زمن فطغت على الظلمة و أبرزت الأشياء في مواضعها الحقيقية . فما ذا ترى عند ذاك ؟ ترى أنّ هؤلاء الناس المهلّلين المصفّقين و هم بهذا المقام بمنزلة اللاشي‏ء إنّما كانوا يهتفون لمخلوق تافه يدعى لويس الرابع عشر مثلا ،

أو لنذل من الأنذال يدعى شارل الخامس ، أو لصغير كلّ الصغارة يدعى شارل الأول ،

أو لغيرهم ممّن يحملون أسماء تليها أرقام . . . دلالة على الصغارة . ثم ما ذا يتّضح لك بعد ذاك ؟ يتّضح أنّ رجل الرصيف الذي لم يهلّل له القوم و لم يهتفوا بحياته ، إنّما هو عظيم حقّ يدعى موليير ، أو ملتون ، أو غاليليو . و تجري الأيام ، فإذا بأصحاب الأسماء التي تليها الأرقام ، ليسوا إلاّ التفاهة كلّها . و إذا بالمشاة على الرصيف و لا أرقام لأسمائهم ، و لا مهلّلين لهم ، ليسوا إلاّ العظمة كلّها . و يطوي النسيان التافهين ، و يطوي معهم أولئك « اللاشي‏ء » من المصفّقين الهاتفين . و يبرز هؤلاء على هامة الوجود ، و تنزلهم الإنسانية من نفسها منازل الشموس من الظلمات . و يبرز معهم نفر قليل من الخلق هم الذين فهموهم ،

و قدروهم قدرهم العظيم ، و تدفّأوا بحرارتهم كما تتدفأ الأرض بنور الظهيرة ، و أدركوا ما أدركه عليّ بن أبي طالب إذ قال : « ربّ يسير أنمى من كثير » إنها العدالة الكونية التي تزن كلّ حيّ بميزانها العظيم ، و تضعه موضعه ، لا غشّ في ذلك و لا خداع ، و لا مجاملة العدالة الكونية التي لا تهون لديها قيمة و لا تعلو تفاهة

[ 49 ]

و إن ابن أبي طالب لم يسمّ هذا « اليسير » يسيرا إلاّ لأنه هكذا كان في أنظار الناس بزمانه و في آرائهم . و لم يسمّ هذا « الكثير » كثيرا إلاّ للعلّة ذاتها . و هو يعلم أنهم مخطئون ، و أن ما يرونه يسيرا قد لا يكون كذلك . و أن ما يرونه كثيرا قد يخف في ميزان الحق . أما هو ،

فقد كان يستشعر قيمة الحياة في قوة و جلاء ، و يستشعر إمكاناتها العظيمة بجميع الأحياء ،

و يستشعر أن للكون إرادة عادلة في تقييم الحياة حيث كانت ، و في احترام الأحياء حيث هم ، فيطلق العبارات الحكيمة التي أشرنا اليها . و يطلق الكثيرات غيرها . حتى إذا غالى المغالون و أنكروا أن لليسير مثل هذه القيمة و هذه الإمكانات على النموّ ، توجّه اليهم يقول : « و إن أكثر الحق في ما تنكرون » ثم إن حقيقة أخرى يقررها عليّ بكلمته هذه : « . . . و ليس امرؤ و إن صغرته النفوس و اقتحمته العيون ، بدون أن يعين على ذلك أو يعان عليه » ، هي أن كل إنسان يمكنه أن ينفع مجتمعه و ينتفع به ، أيّة كانت موهبته ، و بالغة إمكاناته ما بلغت من الضآلة .

و في هذه النظرة الى الانسان الضئيل الحظ من المواهب ، توضيح لما في خاطر عليّ من الايمان العميق بالعدالة الكونية التي تجعل من قطرات الماء بحرا خضمّا و من ذريرات الرمال صحارى و فلوات ، كما تجعل كلّ قليل داخلا في الكثير ، و كلّ صغير مستندا للكبير .

و فيها توضيح لطبيعة الحياة الخيّرة تحنو على أبنائها و تجعل كلا منهم في إطار من خيرها فلا تغبنه و لا تقسو عليه .

و فيها الدليل على هذا الحنان العميق الذي كان عليّ يغمر به الأحياء فلا يرى فيهم إلاّ بشرا جديرين بأن يحيوا الحياة كلّها ، و يفيدوا من خيرها ، و يعاونوا و يعانوا .

و إنّك واجد صورة لهذه النظرة العلوية الواثقة بعدالة الكون و خير الحياة ، المؤمنة بإمكانات الانسان أيّا كان على أن يكون شيئا كريما ، في أدب جان جاك روسّو الذي يدور حول محور من الثقة بعدالة الطبيعة و خير الحياة .

و كأني بابن أبي طالب قد خصّ هؤلاء الذين « تصغرهم النفوس و تقتحمهم العيون » بالسهم الأوفر من اهتمامه ساعة خاطب الناس قائلا : « إنّ اللّه لم يخلقكم عبثا » أو ساعة

[ 50 ]

أبدع في وصف ثقته بالطبيعة البشرية الخيّرة مواجها الخلق بهذا الرأي الكريم : « و خلاكم ذمّ ما لم تشردوا » . أي أنكم ، جميعا ، خيّرون و نافعون أصلا و فرعا ، ما لم تميلوا عن الحقّ عامدين .

و تأكيدا لثبوت هذا الجانب من العدالة الكونية في مذهب ابن أبي طالب ، و أعني به التسوية التامّة في كلّ حقّ و واجب بين من قلّ و من كثر ، و من صغر و من كبر ،

يشير إلى أنّ مركز هذه العدالة إنّما يتساوى لديه الجميع لا فرق فيهم بين إنسان و إنسان .

فصفتهم الانسانية واحدة ، و قضيّتهم بميزان الوجود واحدة كذلك ، و هم لا يتمايزون إلاّ بما يعملون و ما ينفعون . أمّا من عمل و نفع فإنّ قانون الوجود نفسه يثيبه . و أمّا من تبطّل و بطر و اغتصب ، فإنّ هذا القانون نفسه يعاقبه بما يستحقّه . يقول عليّ : « و لا يلويه شخص عن شخص ، و لا يلهيه صوت عن صوت ، و لا يشغله غضب عن رحمة ،

و لا تولهه رحمة من عقاب » .

و بهذا الصدد نعود بشي‏ء من التفصيل على ما ذكرناه من أنّ عليّ ابن أبي طالب كشف النقاب عن العبقريّة الوجودية التي تجعل من طبيعة الأشياء ذاتها حاكما أعلى يعطي و يمنع و يعاقب و يثيب ، فإذا الكائنات تحمل ، بطبيعة تكوّنها ، القدرة على أن تقاضي نفسها بنفسها امتثالا لإرادة الكون العادلة .

يرى عليّ بن أبي طالب أنّ الوجود متكافى‏ء ما نقص منه شي‏ء هنا إلاّ و زاد فيه شي‏ء هناك . و كلا النقص و الزيادة متساويان لا زيادة إلاّ بمقدار النقص و لا نقص إلا بقدر الزيادة . و جدير بالقول أنّ النظريّة القائلة بهذا التكافؤ في أشياء الوجود ، إنّما هي إحدى النتائج الكبرى التي بلغ إليها نشاط الفكر البشري في زحفه العظيم إلى اكتشاف أسرار الكون ، كما أنّها نقطة انطلاق في هذا المجال .

و جدير بالقول أيضا أنّ عددا من المفكرين الأوائل لم يتمكّنوا من الالتفات إلى هذه الحقيقة ،

و أنّ عددا أنكروها ، و أنّ هنالك فريقا من هؤلاء المفكّرين رأوها و أدركوا كثيرا من تفاصيلها و آمنوا بها و دعوا إليها . و أبناء هذا الفريق يتفاوتون هم أيضا في قوّة الملاحظة

[ 51 ]

و قوّة التمثيل ثمّ في قوّة البيان عمّا شاهدوه و وثقوا به . فمنهم من لحظ هذا التكافؤ في بعض مظاهر الكائنات فأعلن عن ذلك إعلانا فيه بعض البيان عن الحقيقة . و منهم من رآه في مظاهر الكون الصامت جميعا و لكنه لم يستشعر له نتائج محسوسة في مجرى الوجود و لم يجد له خطّا موازيا في مظاهر الكون الحيّ . و منهم من لحظه في الطبيعة الصامتة و استشعر له نتائج محسوسة في مجرى الوجود و رأى له خطّا موازيا في الكائنات الحيّة و أعلن عنه بأجلى بيان و أوثق كلام . من هذا الفريق عليّ بن أبي طالب . بل قل إنه في طليعة هذا الفريق من المفكرين الأوائل لأنه كاد يثبت هذه النظرية على نهج سليم قويم لا يتعارض و لا يتناقض و لا مهرب لبعضه من بعض . بل قل إنّه فعل ذلك و أبدع .

و لعلّ موقف ابن أبي طالب ممّا لحظه و رآه من مظاهر التكافؤ في الوجود أجلّ من مواقف زملائه المفكّرين من الناحية العملية . و ذلك بما ألحّ عليه من تأكيد لهذه الحقيقة ،

توصّلا إلى ما يترتّب عليها من نتائج في حياة الناس أفرادا و جماعة . و هذا الواقع ينسجم كلّ الانسجام مع محور الفلسفة العلوية الذي هو : الانسان .

قلنا إنّ عليّا يرى الوجود متكافئا ما نقص منه شي‏ء هنا إلا و زاد فيه شي‏ء هناك ، و أن هذا النقص و هذه الزيادة يتساويان لا زيادة إلاّ بمقدار النقص و لا نقص إلا بقدر الزيادة .

فيقول أوّل ما يقول : منبّها الانسان إلى هذه الحقيقة عن طريق ألصق الأشياء به ، أي عن طريق وجوده ذاته :

« و لا يستقبل يوما من عمره إلاّ بفراق آخر من أجله » و هل من خاطرة في ذهن إنسان يمكنها أن تدحض هذه الحقيقة التي تعرض تعادليّة الوجود بأبسط ما يراه المرء من حال الوجود ؟ ثم هل من قاعدة رياضية من قواعد الهندسة و الجبر ألصق بالحقائق الثابتة ، و أدلّ على الواقع المطلق ، و أوجز في تبيان الثابت و المطلق ،

من هذه الآية التي يصوّر بها ابن أبي طالب تعادليّة الوجود من خلال الكائن الحيّ ، و من أيامه ؟

و إذا قال لي قائل إنّ هذه الفكرة معلومة يعرفها الناس كلّ الناس ، فعن أيّة حقيقة جديدة يكشف ابن أبي طالب في زعمك إذن ؟ قلت : إنّ الكشف عن الحقائق الخافية لا يستلزم السكوت عن الحقائق الظاهرة إذا كانت هذه أصلا لتلك ، أو تلك أصلا لهذه ،

[ 52 ]

أو إذا كان المنهج العامّ يستلزم ضبط التفاصيل سواء ما خفي منها و ما ظهر . فإنّ علي بن أبي طالب الذي تتماسك آراؤه في كلّ مذهب ، ثمّ تتماسك مذاهبه جميعا في وحدة فكريّة رائعة ، لم يقل هذا القول « المعلوم الذي يعرفه الناس كلّ الناس » ، و لم يقل بمعناه قولا أروع و هو : « نفس المرء خطاه إلى أجله » ، إلاّ ليعود و يبني على ما قاله بناء مفصّلا في إثبات نظرية تكافؤ الوجود .

فالذي قال « لا يستقبل يوما من عمره إلا بفراق آخر من أجله » « و نفس المرء خطاه إلى أجله » ، إنما قال ذلك ليعود الى الكشف عن حقيقة أبعد عن أذهان الناس و أخفى عن ملاحظتهم ، و لكنها تجري من القولين السابقين : « و لا ينال الانسان نعمة إلا بفراق أخرى » و أراك استوضحت ما في هذا القول من قوة الملاحظة ، و القدرة على الكشف ، و صراحة الفكر ، و جلاء البيان . و ضبطا لمضمون هذه العبارة في صور و أشكال تختلف مظهرا و تتحد معنى و جوهرا ، يقول عليّ : « كم من أكلة منعت أكلات » و « من ضيّعه الأقرب أتيح له الأبعد » و « ربّ بعيد هو أقرب من قريب » و « المودة قرابة مستفادة » و « من حمّل نفسه ما لا يطيق عجز » و « لن يضيع أجر من أحسن عملا » و « ما كسبت فوق قوتك فأنت فيه خازن لغيرك » . فإن في هذه العبارات ، و في عشرات غيرها ، إيجازا واضحا لتفاصيل نظرية التكافؤ الوجودي كما يراه عليّ بن أبي طالب . فهي على اختلاف موضوعاتها القريبة ، تدور في مداها و مأخذها القصيّ على محور واحد من تعادليّة الكون ،

فلا نقص هنا إلا و تعدله زيادة هناك . و العكس بالعكس .

أدرك ابن أبي طالب هذه الحقيقة الوجودية في قوة و عمق . و عاشها ، و أعلن عنها في كلّ فصل من حياته أو قول من قوله ، سواء أ كان ذلك بالأسلوب المباشر أو غير المباشر .

و هو لا يدرك هذا الوجه من وجوه العدالة الكونيّة إلاّ ليدرك وجها آخر يعكسه على شكل خاصّ ، أو قل ينبثق عنه انبثاقا ، و هو ما نحن بصدده من الكلام على أنّ الطبيعة تحمل بذاتها المقياس فتعاقب أو تثيب ، و ليس بين مظاهر العدالة الكونية ما هو أبرز من هذا المظهر في الدلالة عليها .

رأى عليّ أنّ شيئا واحدا من أشياء هذا الكون لم يوجد عبثا ، بل إنّ لوجوده غاية

[ 53 ]

و هدفا . و رأى أنّ لكلّ من الكائنات وظيفة يقوم بها ، و أنّ على كلّ جارحة من جوارح الانسان فريضة يحتجّ بها الكون العادل عليه ، و يسأله عنها ، و يحاسبه عليها . و بناء على هذا الواقع ، تكون أشياء الوجود متساوية بحكم وجودها . أمّا الصغيرة و الكبيرة فشبيهتان بهذا المقياس . يقول عليّ : « و يحاسبك على الصغيرة قبل الكبيرة » . و إنّما قال ذلك لأن الأكثرية من الناس لا يأبهون ل « الصغيرة » ، فإذا به يلفت أنظارهم إلى هذه الصغيرة بتقديمها على الكبيرة في ما تستلزم من عقاب أو ثواب ، لكي يطمئنّ إلى حدوث عمليّة التسوية بينهما في الأذهان و القلوب .

أمّا إذا احتجّ الكون على الانسان بما فرضه على جوارحه ، و سأله عنه ، و حاسبه على الصغيرة و الكبيرة ، و جازاه بما عمل خيرا كان أو شرّا ، فليس من الضروريّ في ملاحظة عليّ و في نهجه أن تتمّ عمليّة الاحتجاج و المحاسبة و المجازاة هذه خارج نطاق الانسان نفسه . و إنّ هذه العمليّة المركّبة ، الواحدة على ما فيها من تركيب ، لتتمّ أبدا كما يلحظ عليّ في حدود الكائن أيّا كان . و هكذا تتمّ في ما يتعلّق بالانسان و هو أحد الكائنات . يقول عليّ :

« إنّ عليكم رصدا من أنفسكم و عيونا من جوارحكم » . و الرصد الرقيب . و هذا الرقيب لا يألو جهدا في أن يرى و يسجّل و يعاقب أو يثيب .

و في لحظات فذّة من تألّق العقل المكتشف و الفكر النافذ ، تبدو لعيني ابن أبي طالب ألوان ساطعة من هذا الوجه من وجوه العدالة الكونية ، لا يسعك إزاءها إلاّ أن تعجب بهذا العقل و هذا الفكر . أ فلا ينطق ابن أبي طالب بلسان علماء العصر الحديث كما ينطق بلسان هذه العدالة نفسها ساعة يقرّر هذه الحقيقة : « من أساء خلقه عذّب نفسه » ثمّ ، ألا ينطق بهذين اللسانين معا إذ يقول : « يكاد المريب يقول : « خذوني » و إذ يقول أيضا : « فأكرم نفسك عن كلّ دنيّة و إن ساقك رغب فإنّك تعتاض بما ابتذلت من نفسك » و مثل هذه الآيات كثير كثير . و منها هذه الروائع : « موت الانسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل » و « لا مروءة لكذوب و لا راحة مع حسد ، و لا سؤدد مع انتقام ، و لا صواب مع ترك المشورة » . و « إذا كانت في رجل خلّة رائقة فانتظروا أخواتها »

[ 54 ]

و هكذا أدرك عليّ بن أبي طالب أنّ الكون واحد ، عادل ، ثابت في وحدته و عدله ،

جاعل في طبيعة الكائنات ذاتها قوّة الحساب و القدرة على العقاب و الثواب . و هكذا عبّر عمّا أدركه أروع تعبير .

بيد أنّ وجوها غير هذه من وجوه العدالة الكونية تفحّصها عليّ و ضبط أشكالها و ألوانها . فما هي هذه الوجوه ؟

[ 55 ]