الكبر و التّعصّب و البغيمن خطبة له طويلة تسمّى « القاصعة [ 1 ] » : و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد ، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب ، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة . فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية ، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية . و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم ، و أدخلتم في حقكم باطلهم ، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس ، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله و موطىء قدمه و مأخذ يده . فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه ، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم [ 2 ] و مصارع جنوبهم . و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر [ 3 ] كما تستعيذون به من طوارق الدهر [ 1 ] قصع فلان فلانا : حقّره . و قد سميت هذه الخطبة « القاصعة » لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي . [ 2 ] مثاوي ، جمع مثوى ، بمعنى المنزل . و منازل الخدود : مواضعها من الأرض بعد الموت . و مصارع الجنوب : مطارحها على التراب . [ 3 ] لواقح الكبر : محدثاته في النفوس . [ 146 ] و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشيء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء ، غيركم ، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة : أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله ، و طعن عليه في خلقته ، فقال : « أنا ناريّ و أنت طينيّ » و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا : « نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين » فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة ، فتعصّبوا لخلال الحمد : من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام ، و الطاعة للبرّ ، و المعصية للكبر ، و الكفّ عن البغي ، و الإعظام للقتل ، و الإنصاف للخلق ، و الكظم للغيظ ، و اجتناب الفساد في الأرض . و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات [ 1 ] بسوء الأفعال و ذميم الأعمال ، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم . أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث [ 2 ] و الفساد في الأرض : فأمّا الناكثون فقد قاتلت . و أما القاسطون فقد جاهدت [ 3 ] . و أمّا المارقة [ 1 ] المثلات : العقوبات . [ 2 ] النكث : نقض العهد . [ 3 ] القاسطون : الجائرون على الحق . [ 147 ] فقد دوّخت . و أمّا شيطان الرّدهة [ 1 ] فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره . و بقيت بقيّة من أهل البغي ، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم [ 2 ] إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا [ 3 ] . و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم : سيماهم سيما الصدّيقين ، و كلامهم كلام الأبرار ، عمّار الليل و منار النهار [ 4 ] لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون [ 5 ] و لا يفسدون : قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل. |