[1]

تمرّد إبليس

 

إبليس (أب الشياطين)، كان في صف أهل العرش، ستّة آلاف عام قضاها يتعبّد في محراب الله.

الله الكبير المتعال عندما خلق الإنسان، ونفخ فيه من روحه، أمر الملائكة بالسجود له (وَإذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إلا إبْلِيسَ أبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الكَافِرِينَ)(1) ولما سأله الله جلّ شأنه عن عدم سجوده قال: (قَالَ مَا مَنَعَكَ ألا تَسْجُدَ إذْ أمَرْتُكَ قَالَ أنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَار وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِين)(2)فقال جلّ شأنه له: (فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ)(3).

يقول الإمام عليّ(عليه السلام) في خطبة له تسمّى القاصعة وهي تتضمن ذم إبليس على استكباره وتركه السجود لآدم(عليه السلام)، وأ نّه أول من أظهر العصبية وتبع الحمية وتحذير الناس من سلوك طريقته:

الْحَمْدُ لله الَّذِي لَبِسَ الْعِزَّ وَالْكِبْرِيَاءَ، وَاخْتَارَهُمَا لنَفْسِهِ دُونَ خَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمَا حِمىً وَحَرَماً عَلَى غَيْرِهِ، وَاصْطَفَاهُمَا لِجَلاَلِهِ.

وَجَعَلَ اللَّعْنَةَ عَلَى مَنْ نَازَعَهُ فِيهِمَا مِنْ عِبَادِهِ. ثُمَّ اخْتَبَرَ بِذلِكَ مَلاَئِكَتَهُ الْمُقَرَّبِينَ، لَِيمِيزَ المُتَوَاضِعيِنَ مِنْهُمْ مِنَ الْمُسْتَكْبِرِينَ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَهُوَ الْعَالِمُ بِمُضْمَرَاتِ القُلُوبِ، وَمَحْجُوبَاتِ الْغُيُوبِ: (إنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِين فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ المَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أجْمَعُونَ) اعْتَرَضَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَافْتَخَرَ عَلَى آدَمَ بَخَلْقِهِ، وَتَعَصَّبَ عَلَيْهِ لاَِصْلِهِ. فَعَدُوُّ اللهِ إِمَامُ الْمُتَعَصِّبِينَ، وَسَلَفُ الْمُسْتَكْبِرِينَ، الَّذِي وَضَعَ أَسَاسَ الْعَصَبِيَّةِ، وَنازَعَ اللهَ رِدَاءَ الْجَبْرِيَّةِ ... إلى أن يقول: ـ

وَلكِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ بِبَعْضِ مَا يَجْهَلُونَ أَصْلَهُ، تَمْيِيزاً بِالإخْتِبَارِ لَهُمْ، وَنَفْياً لِلاْسْتِكَبَارِ عَنْهُمْ، وَإِبْعَاداً لِلْخُيَلاَءِ مِنْهُم.

فَاعْتَبِروا بِمَا كَانَ مِنْ فِعْلِ اللهِ بِإِبْلِيسَ، إِذْ أَحْبَطَ عَمَلَهُ الطَّوِيلَ، وَجَهْدَهُ الْجَهِيدَ، وَكَانَ قَدْ عَبَدَ اللهَ سِتَّةَ آلاَفِ سَنَة، لاَ يُدْرَى أمِنْ سِنِي الدُّنْيَا أَمْ مِنْ سِنِي الاْخِرَةِ، عَنْ كِبْرِ سَاعَة وَاحِدَة.

فَمَنْ بَعْدَ إِبْلِيسَ يَسْلَمُ عَلَى اللهِ بِمِثْلِ مَعْصِيَتِهِ؟ كَلاَّ، مَا كَانَ اللهُ سُبْحَانَهُ لِيُدْخِلَ الْجَنَّةَ بَشَراً بِأَمْر أَخْرَجَ بِهِ مِنْهَا مَلَكاً، إِنَّ حُكْمَهُ فِي أَهْلِ السَّماءِ وأَهْلِ الاْرْضِ لَوَاحِدٌ، وَمَا بَيْنَ اللهِ وَبَيْنَ أَحَد مِنْ خَلْقِهِ هَوَادَةٌ فِي إِبَاحَةِ حِمىً حَرَّمَهُ عَلَى الْعَالَمينَ.

فَاحْذَرُوا عَدُوَّ اللهِ أَنْ يُعْدِيَكُمْ بِدَائِهِ، وَأَنْ يَسْتَفِزَّكُمْ بِنِدَائِهِ، وَأَنْ يُجْلِبَ عَلَيْكُمْ بِخَيْلِهِ وَرَجِلِهِ(4).

 

 

 

[2]

توبة آدم(عليه السلام)

 

خلق الله آدم(عليه السلام) ووهبه المعرفة الّتي يفرق بها بين الحقّ والباطل، أسكنه سبحانه داراً أرغد فيها عيشته، وآمن فيها محلته، وحذره إبليس وعداوته.

ولكن إبليس اللعين انتهز منه غرة فأغواه، وكان الحامل للشيطان على غواية آدم حسده له على الخلود في دار المقام ومرافقته الأبرار من الملائكة الأطهار، فأدخل عليه الشك في أن ما تناول منه سائغ التناول بعد أن كان في نهى الله له عن تناول ما يوجب له اليقين بحظره عليه.

يقول أميرالمؤمنين(عليه السلام): «اغْتَرَّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ الْمُقَامِ، وَمُرَافَقَةِ الاَْبْرَارِ، فَبَاعَ الْيَقِينَ بِشَكِّهِ، وَالعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ، وَاسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلا، وَبِالاْغْتِرَارِ نَدَماً. ثُمَّ بَسَطَ اللهُ سُبْحَانَهُ لَهُ في تَوْبَتِهِ، وَلَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ، وَوَعَدَهُ المَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ، فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ الَبَلِيَّةِ، وَتَنَاسُلِ الذُّرِّيَّةِ»(5).

فقد أخرجهما مما كانا فيه وغفر خطيئتهما بعدما تابا ولم يرجعهما إلى الجنّة(6) بل أهبطهما إلى الدنيا ليحييا فيها ولو لم تكن الحياة الأرضية مع أكل الشجرة وظهور السوأة حتماً مقضياً، والرجوع إلى الجنّة مع ذلك محالا، لرجعا إليها بعد حط الخطيئة، فالعامل في خروجهما من الجنّة وهبوطهما هو الأكل من الشجرة وظهور السوأة، وكان ذلك بوسوسة الشيطان اللعين(7).

 

 

 

 

 

[3]

من أجل هدفين

 

بعد وفاة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، كان الوصي الحقيقي والخليفة الشرعي له هو أميرالمؤمنين(عليه السلام)، ولكن القوم غصبوا الخلافة منه، فأصبح أبو بكر الخليفة، حيث استمرت خلافته سنتين وأربعة أشهر، وقبل وفاته أوصى إلى عمر بن الخطاب، الّذي استمر يحكم المسلمين لأكثر من احدى عشر عاماً، ثمّ قتل، فجاء بعده عثمان عن طريق شورى الستّة الّتي عيّنها عمر، وبقي عثمان حاكماً لمدة اثني عشر عاماً، ثمّ قتل بعدها لترجع الاُمة إلى خليفتها الشرعي الإمام عليّ(عليه السلام)، الّذي امتدّت خلافته لمدّة أربعة سنوات وتسعة أشهر تقريباً، قاتل فيها الناكثين والقاسطين والمارقين كما أخبره رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم).

يقول الإمام عليّ(عليه السلام) متحدّثاً عن تلك الفترة الزمنية وذلك في خطبته المعروفة بالشقشقية:

«أَمَا وَالله لَقَدْ تَقَمَّصَها فُلانٌ، وَإِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّيَ مِنهَا مَحَلُّ القُطْبِ مِنَ الرَّحَا، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ، وَلا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَد جَذَّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَة عَمْيَاءَ، يَهْرَمُ فيهَا الكَبيرُ، وَيَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ.

فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى، فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجىً... إلى أن يقول: ـ

أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لاََلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلاََلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز!

وقام إِليه رجل من أهل السواد(8) عند بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتاباً، فأقبل ينظر فيه.

قال له ابن عباس: يا أميرالمؤمنين، لو اطَّرَدت خطبتك من حيث أَفضيتَ!

فَقَالَ : هَيْهَاتَ يَابْنَ عَبَّاس! تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ!

قال ابن عباس: فوالله ما أَسفت على كلام قطّ كأَسفي على ذلك الكلام أَلاَّ يكون أميرالمؤمنين(عليه السلام) بلغ منه حيث أراد(9).

 

 

 

 

[4]

وقت السياسة

 

لما قبض رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، واشتغل عليّ(عليه السلام) بغسله ودفنه، وبويع أبو بكر، خلا الزبير وأبو سفيان وجماعة من المهاجرين بالعباس وعليّ(عليه السلام)، لاجالة الرأي، وتكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض والتهييج، وكان ممّا قاله أبو سفيان لأميرالمؤمنين(عليه السلام): (أبسط يدك أُبايعك، فو الله إن شئت لأملأنها على أبي فضيل ـ يعني أبا بكر ـ خيلا ورجلا) فقال العباس: قد سمعنا قولكم فلا لقلّة نستعين بكم، ولا لظنّة نترك آراءكم، فأمهلونا نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الاثم مخرج يصر بنا وبهم الحقّ صرير الجدجد، ونبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها أو تبلغ المدى، وإن تكن الاُخرى، فلا لقلّة في العدد ولا لوهن في الأبد، والله لولا أن الإسلام قيد الفتك، لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلى، فحل عليّ(عليه السلام) حبوته، وقال:

«الصبر حلم، والتقوى دين، والحجة محمّد، والطريق الصراط، أيها الناس، شُقُّوا أَمْوَاجَ الفِتَنِ بِسُفُنِ النَّجَاةِ، وَعَرِّجُوا عَنْ طَريقِ الـمُنَافَرَةِ، وَضَعُوا تِيجَانَ الـمُفَاخَرَةِ. أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاح، أوِ اسْتَسْلَمَ فَأَراحَ، مَاءٌ آجِنٌ، وَلُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا، وَمُجْتَنِي الَّثمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كالزَّارعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ.

فَإِنْ أقُلْ يَقُولُوا: حَرَصَ عَلَى الـمُلْكِ، وَإنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا: جَزعَ مِنَ المَوْتِ! هَيْهَاتَ بَعْدَ اللَّتَيَّا وَالَّتِي(10)! وَاللهِ لاَبْنُ أَبي طَالِب آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ، بَلِ انْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْم لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمُ اضْطِرَابَ الاَْرْشِيَةِ في الطَّوِيِّ البَعِيدَةِ»(11).

 

 

 

[5]

جائزة الاشتراك في تحقيق الهدف

 

لما أن منَّ الله تعالى عليه ـ الإمام عليّ(عليه السلام) ـ بما هو أهله من الظفر على أصحاب الجمل، قال له بعض أصحابه: وددت أن أخي فلاناً كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك، فقال عليّ(عليه السلام):

أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟ قال: نَعَم. قالَ: فَقَدْ شَهِدنَا، وَلَقَدْ شَهِدَنَا في عَسْكَرِنَا هذَا أقَوْام في أَصْلاَبِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ، سَيَرْعُفُ بِهِمُ الزَّمَانُ، ويَقْوَى بِهِمُ الإيمان(12).

ثمّ دخل بجماعة من أصحابه إلى بيت مال المسلمين بالبصرة، فنظر إلى ما فيه من العين والورق، فأدام النظر إليه، فجعل يقول: يا صفراء ويا بيضاء، غري غيري.

ثمّ قال(عليه السلام): اقسموه بين أصحابي، خمسمائة خمسمائة، فقسموه فأصاب كلّ رجل منهم خمسمائة، فلم يزد درهماً ولا نقص درهماً! فكان عدد أصحابه اثني عشر ألفاً، وقبض(عليه السلام) على ما أصابه في معسكرهم، فباعه وقسمه أيضاً عليهم، ولم يزد لنفسه ولا لأولاده وأهل بيته عن أصحابه بشيء أبداً. ثمّ أتاه رجل من أصحابه لم يكن حاضر القسمة. فقال: يا أميرالمؤمنين، إني لم آخذ شيئاً لعدم حضوري عند القسمة، فالسبب الموجب لغيابي عنها هو كيت وكيت، فأعطاه ما أصابه من القسمة(13).

 

 

[6]

نقد شديد لحماة الباطل

 

بعد أن اجتمع طلحة والزبير وعائشة بالبصرة لمحاربة أميرالمؤمنين(عليه السلام)، تجهز لهم الإمام وأدركهم بالبصرة، وبعد أن أوسع لهم النصيحة وحذرهم الفتنة، حيث بذل محاولات كثيرة حقناً للدماء فلم ينجح النصح، انتشبت الحرب بين الفريقين واشتد القتال، وكان الجمل يعسوب جيش عائشة قتل دونه خلق كثير من الفئتين وأخذ خطامه سبعون قرشياً ما نجا منهم أحد، وانتهت الموقعة بنصر عليّ(عليه السلام) بعد عقر الجمل، ومقتل طلحة والزبير وسبعة عشر ألفاً من أصحاب الجمل وكانوا ثلاثين ألفاً، وقتل من أصحاب عليّ ألف وسبعون.

وكان ممّا قاله أميرالمؤمنين(عليه السلام) في ذم أهل البصرة: «كُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَةِ، وَأَتْبَاعَ البَهِيمَةِ، رَغَا فَأَجَبْتُم، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ.

أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ، وَعَهْدُكُمْ شِقَاقٌ، وَدِيْنُكُمْ نِفَاقٌ، وَمَاؤُكُمْ زُعَاقٌ.

المُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ، وَالشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمة مِنْ رَبِّهِ.

كَأَنِّي بِمَسْجِدكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَة، قَدْ بَعَثَ اللهُ عَلَيْها العَذَابَ مِنْ فَوْقِها وَمِنْ تَحتِها، وَغَرِقَ مَنْ في ضِمْنِها»(14).

 

 

[7]

استرداد بيت المال

 

من كلام لأميرالمؤمنين(عليه السلام) فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان:

والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق.

قال ابن أبي الحديد: وأمر ـ عليّ(عليه السلام) ـ أن ترتجع الأموال الّتي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها، فبلغ ذلك عمرو بن العاص، وكان بأيلة من أرض الشام، أتاها حيث وثب الناس على عثمان، فنزلها فكتب إلى معاوية: ما كنت صانعاً فاصنع، إذ قشرك ابن أبي طالب من كلّ مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها.

وكان هذا أول ما أنكروه من كلامه(عليه السلام)، وأورثهم الضغن عليه وكرهوا اعطاءه وقسمه بالسوية. فلما كان من الغد، غدا وغدا الناس لقبض المال، فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه: ابدأ بالمهاجرين فنادهم، وأعط كلّ رجل ممن حضر ثلاثة دنانير، ثمّ ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك، ومن يحضر من الناس كلهم، الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك.

فقال سهل بن حنيف: يا أميرالمؤمنين، هذا غلامي بالأمس، وقد أعتقته اليوم.

فقال: نعطيه كما نعطيك، فأعطى كلّ واحد منهما ثلاثة دنانير، ولم يفضل أحداً على أحد، وتخلف عن هذا القسم يومئذ طلحة، والزبير، وعبدالله بن عمر، وسعيد بن العاص، ومروان بالحكم، ورجال من قريش وغيرها.

وسمع عبيدالله بن أبي رافع عبدالله بن الزبير يقول لأبيه وطلحة ومروان وسعيد: ما خفى علينا أمس من كلام عليّ ما يريد، فقال سعيد بن العاص ـ والتفت إلى زيد بن ثابت ـ : إياك أعني واسمعي يا جارة.

فقال عبيدالله بن أبي رافع لسعيد وعبدالله بن الزبير: إنّ الله يقول في كتابه: (وَأكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ).

ثمّ إن عبيدالله بن أبي رافع أخبر عليّاً(عليه السلام) بذلك، فقال:

«والله إن بقيت وسلمت لهم لأقيمنهم على المحجة البيضاء، والطريق الواضح، قاتل الله ابن العاص! لقد عرف من كلامي ونظري إليه أمس أني أريده وأصحابه ممّن هلك فيمن هلك»(15).

 

 

[8]

ضوابط لا روابط

 

من خطبة لأميرالمؤمنين(عليه السلام) لما بويع بالمدينة:

«ذِمَّتي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ: إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ العِبَرُ عَمَّا يَدَيْهِ مِنَ المَثُلاتِ، حَجَزَتهُ التَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ الشُّبُهَاتِ.

أَلاَ وَإِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ، وَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ القِدْرِ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ، وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا. وَاللهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً، وَلا كَذَبْتُ كِذْبَةً، وَلَقَدْ نُبِّئْتُ بِهذا المَقامِ وَهذَا اليَوْمِ.

أَلاَ وَإِنَّ الخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُها، وَخُلِعَتْ لُجُمُهَا، فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ في النَّارِ.

أَلاَ وَإِنَّ التَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ، حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأُعْطُوا أَزِمَّتَها، فَأَوْرَدَتْهُمُ الجَنَّةَ. حَقٌّ وَبَاطِلٌ، وَلِكُلٍّ أَهْلٌ، فَلَئِنْ أَمِرَ البَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ، وَلَئِنْ قَلَّ الحقُّ لَرُبَّما وَلَعَلَّ، وَلَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيءٌ فَأَقْبَلَ!

شُغِلَ مَنِ الجَنَّةُ وَالنَّارُ أَمَامَهُ! سَاع سَرِيعٌ نَجَا، وَطَالِبٌ بَطِيءٌ رَجَا، وَمُقَصِّرٌ في النَّارِ هَوَى.

الَيمِينُ وَالشِّمالُ مَضَلَّةٌ، وَالطَّرِيقُ الوُسْطَى هِيَ الجَادَّةُ، عَلَيْهَا بَاقي الكِتَابِ، وَآثَارُ النُّبُوَّةِ، وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ، وَإلَيْهَا مَصِيرُ العَاقِبَةِ.

هَلَكَ مَنِ ادَّعى، وَخَابَ مَنِ افْتَرَى»(16).

بهذه الكلمات بدأ أميرالمؤمنين حكمه في المدينة، وتعتبر هذه الخطبة من جلائل خطبه(عليه السلام) ومن مشهوراتها.

 

 

 

[9]

الأشعث وتوبيخ الإمام له

 

الأشعث بن قيس من قبيلة كندة، كان من المنافقين في خلافة عليّ(عليه السلام)، وهو من أصحاب أميرالمؤمنين(عليه السلام)، كما كان عبدالله بن أبي بن سلول في أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، كلّ واحد منهما رأس النفاق في زمانه، وكان أشعث سكن الكوفة وهو عامل عثمان على آذربيجان، وكان أبا زوجة عمر بن عثمان وكتب أميرالمؤمنين(عليه السلام) إليه بعد فتح البصرة فسار وقدم على عليّ(عليه السلام) وحضر صفين، ثمّ صار خارجياً ملعوناً.

قال ابن أبي الحديد: كلّ فساد كان في خلافة الإمام عليّ(عليه السلام) وكل اضطراب فأصله الأشعث، وهو الّذي شرك في دمه(عليه السلام)، وابنته جعدة سمّت الحسن(عليه السلام)، ومحمّد ابنه شرك في دم الحسين(عليه السلام).

وروي أنّ أميرالمؤمنين(عليه السلام) كان على منبر الكوفة يخطب، فمضى في بعض كلامه شيء اعترضه الأشعث فيه، فقال: يا أميرالمؤمنين، هذه عليك لا لك، فخفض(عليه السلام) إليه بصره، ثمّ قال: «ومَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي؟ عَلَيْكَ لَعْنَةُ اللهِ وَلَعْنَةُ اللاَّعِنِينَ! حَائِكٌ ابْنُ حَائِك! مُنَافِقٌ ابْنُ كُافِر! وَاللهِ لَقَدْ أَسَرَكَ الكُفْرُ مَرَّةً وَالإسْلامُ أُخْرَى! فَمَا فَداكَ مِنْ وَاحِدَة مِنْهُمَا مَالُكَ وَلاَ حَسَبُكَ! وَإِنَّ امْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ السَّيْفَ، وَسَاقَ إِلَيْهِمُ الحَتْفَ، لَحَرِيٌّ أَنْ يَمقُتَهُ الاَْقْرَبُ، وَلاَ يَأْمَنَهُ الاَْبْعَدُ!»(17).

وقد حُمل الأشعث إلى أبي بكر موثقاً في الحديد هو والعشرة، فعفا عنه وعنهم، وزوجه أخته اُم فروة بنت أبي قحافة ـ وكانت عمياء ـ فولدت للأشعث محمّداً وإسماعيل وإسحاق.

وخرج الأشعث يوم البناء عليها إلى سوق المدينة، فما مرّ بذات أربع إلاّ عقرها، وقال للناس: هذه وليمة البناء، وثمن كلّ عقيرة في مالي، فدفع أثمانها إلى أربابها.

قال الطبري: وكان المسلمون يلعنون الأشعث ويلعنه الكافرون أيضاً وسبايا قومه، وسماه نساء قومه عرف النار، وهو اسم للغادر عندهم.

أمّا الكلام الّذي كان أميرالمؤمنين(عليه السلام) قاله على منبر الكوفة فاعترضه فيه الأشعث، فإن عليّاً(عليه السلام) قام إليه وهو يخطب، ويذكر أمر الحكمين، فقام رجل من أصحابه، بعد أن انقضى أمر الخوارج، فقال له: نهيتنا عن الحكومة ثمّ أمرتنا بها، فما ندري أي الأمرين أرشد؟

فصفق(عليه السلام) بإحدى يديه على الاُخرى، وقال: هذا جزاء من ترك العقدة.

وكان مراده(عليه السلام): هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي والحزم، وأصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم، فظن الأشعث أ نّه أراد: هذا جزائي حيث تركت الرأي والحزم وحكمت، لأن هذه اللفظة محتملة، ألا ترك أن الرئيس إذا شغب عليه جنده وطلبوا منه اعتماد أمر ليس بصواب، فوافقهم تسكيناً لشغبهم لا استصلاحاً لرأيهم، ثمّ ندموا بعد ذلك.

فلما قال له: هذه عليك لا لك، قال له: وما يدريك ما عليَّ ممّا لي، عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين!

 

 

 

[10]

نقد شديد للمتخاذلين في الجهاد

 

عندما استلم الإمام عليّ(عليه السلام) الخلافة الظاهرية، قرر أن يسير جميع المسلمين على خطّه، ولكن حبّ الرئاسة عند البعض والانحراف النفسي الّذي أصاب الكثيرين بسبب اغتصاب الخلافة من صاحبها الشرعي، أدّى إلى أن يخالف البعض الإمام ويعلنوا الحرب عليه.

وعلى رأس هؤلاء المخالفين كان معاوية بن أبي سفيان، فمعاوية الّذي كان والياً على الشام من قبل عثمان، أعلن العصيان على الإمام(عليه السلام) بعد مقتل عثمان، وبدأ يهاجم أطراف الدولة الإسلامية ويحتل المدن الواحدة تلو الاُخرى ليضمها إلى سلطانه في الشام مستغلا انشغال الإمام عليّ(عليه السلام)بحر الناكثين في البصرة.

فقد بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن، ليغير على أعمال أميرالمؤمنين(عليه السلام)، والسبب الّذي دفع معاوية على تسريح بسر بن أرطاة إلى الحجاز واليمن، ان قوماً بصنعاء كانوا من شيعة عثمان، يعظمون قتله، لم يكن لهم نظام ولا رأس، فبايعوا لعليّ(عليه السلام) على ما في أنفسهم، وعامل عليّ(عليه السلام) على صنعاء يومئذ عبيدالله بن عباس، وعامله على الجند سعيد بن نمران، فلما اختلف الناس على عليّ(عليه السلام) بالعراق، وقتل محمّد بن أبي بكر بمصر، وكثرت غارات أهل الشام، تكلموا ودعوا إلى الطلب بدم عثمان، فبلغ ذلك عبيدالله بن عباس، فأرسل إلى ناس من وجوههم، فقال: ما هذا الّذي بلغني عنكم؟ قالوا: انا لم نزل ننكر قتل عثمان، ونرى مجاهدة من سعى عليه. فحسبهم، فكتبوا إلى من بالجند من أصحابهم، فثاروا بسعيد بن نمران، فأخرجوه من الجند، وأظهروا أمرهم، وخرج إليهم من كان بصنعاء، وانضم إليهم كلّ من كان على رأيهم، ولحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم، ارادة أن يمنعوا الصدقة، والتقى عبيدالله بن عباس وسعيد بن نمران، ومعهما شيعة عليّ(عليه السلام)، فقال ابن عباس لابن نمران: والله لقد اجتمع هؤلاء، وانهم لنا لمقاربون، وان قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة، فهلم لنكتب إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) بخبرهم وقدحهم، وبمنزلهم الّذي هم به.

فكتب إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) شارحين له الحال.

فلما وصل كتابهما، ساء عليّاً(عليه السلام) وأغضبه، وكتب اليهما:

من عليّ أميرالمؤمنين إلى عبيدالله بن العباس وسعيد بن نمران: سلام الله عليكما، فإنّي أحمد اليكما الله الّذي لا إله إلاّ هو. أمّا بعد، فإنّه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة، وتعظمان من شأنها صغيراً، وتكثران من عددها قليلا، وقد علمت أن نخب أفئدتكما، وصغر أنفسكما، وشتات رأيكما، وسوء تدبيركما، هو الّذي أفسد عليكما من لم يكن عليكما فاسداً، وجزاء عليكما من كان عن لقائكما جباناً، فإذا قدم رسولي عليكما، فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم، وتدعواهم إلى حظهم وتقوى ربّهم، فإن أجابوا حمدنا الله وقبلناهم، وإن حاربوا استعنا بالله عليهم ونابذناهم على سواء، أن الله لا يحب الخائنين.

وقال عليّ(عليه السلام) ليزيد بن قيس الأرحبي: ألاترى إلى ما صنع قومك!

فقال: أن ظني يا أميرالمؤمنين بقومي لحسن في طاعتك، فإن شئت خرجت إليهم فكفيتهم، وإن شئت كتبت إليهم فتنظر ما يجيبونك. فكتب عليّ(عليه السلام) إليهم:

من عبدالله عليّ أميرالمؤمنين، إلى من شاق وغدر من أهل الجند وصنعاء.

أمّا بعد، فإني أحمد الله الّذي لا إله إلاّ هو، الّذي لا يعقب له حكم، ولا يرد له قضاء، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين. وقد بلغني تجرؤكم وشقاقكم واعراضكم عن دينكم، بعد الطاعة واعطاء البيعة، فسألت أهل الدين الخالص، والورع الصادق، واللب الراجح عن بدء محرككم، وما نويتم به، وما أحمشكم له، فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شيء منه عذراً مبيناً، ولا مقالا جميلا، ولا حجة ظاهرة، فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم، وأصفح عن جاهلكم، وأحفظ قاصيكم، وأعمل فيكم بحكم الكتاب. فإن لم تفعلوا، فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان، عظيم الأركان، يقصد لمن طغى وعصى، فتطحنوا كطحن الرحى، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربّك بظلام للعبيد. ووجه الكتاب مع رجل من همدان، فقدم عليهم بالكتاب فلم يجيبوه إلى خير، فقال لهم: إنّي تركت أميرالمؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي، في جيش كثيف، فلم يمنعه إلاّ انتظار جوابكم فقالوا: نحن سامعون مطيعون، ان عزل عنا هذين الرجلين: عبيدالله وسعيداً.

فرجع الهمداني من عندهم إلى عليّ(عليه السلام) فأخبره خبر القوم.

وكتبت تلك العصابة حين جاءها كتاب عليّ(عليه السلام) إلى معاوية يخبرونه، وكتبوا في كتابهم:

معاوي ألا تسرع السير نحونا *** نبايع علياً أو يزيد اليمانيا

فلما قدم كتابهم، دعا بسر بن أرطاة، وكان قاسي القلب فظاً سفاكاً للدماء، لا رأفة عنده، ولا رحمة، فأمره أن يأخذ طريق الحجاز والمدينة ومكة حتى ينتهي إلى اليمن، وقال له: لا تنزل على بلد أهله على طاعة عليّ إلاّ بسطت عليهم لسانك، حتى يرووا أ نّهم لا نجاء لهم، وانك محيط بهم.اكفف عنهم، وادعهم إلى البيعة لي، فمن أبى فاقتله، واقتل شيعة عليّ حيث كانوا(18).

فخرج بسر في جيشه حتى أتى إلى المدينة فدخلوها، وعامل عليّ(عليه السلام) عليها أبو أيوب الأنصاري، صاحب منزل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)، فخرج عنها هارباً، ودخل بسر المدينة، فخطب الناس وشتمهم وتهددهم يومئذ وتوعدهم، وقال: شاهت الوجوه! إن الله تعالى قال: (ضَرَبَ اللّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزْقُهَا...)وقد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم وجعلكم أهله، كان بلدكم مهاجر النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ومنزله، وفيه قبره ومنازل الخلفاء من بعده، فلم تشكروا نعمة ربّكم، ولم ترعوا حق نبيكم، وقتل خليفة الله بين أظهركم، فكنتم بين قاتل وخاذل، ومتربص وشامت... ثمّ شتم الأنصار، فقال: يا معشر اليهود وأبناء العبيد، بني زريق وبني النجار وبني سالم وبني عبد الأشهل، أما والله لأوقعن بكم وقعة تشفى غليل صدور المؤمنين وآل عثمان.

ودعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه، ونزل فأحرق دوراً كثيرة، منها دار زرارة بن حرون، ودار رفاعة بن رفاع، ودار أبي أيوب الأنصاري، وتفقد جابر بن عبدالله، فقال: مالي لا أرى جابراً! يا بني سلمة، لا أمان لكم عندي، أو تأتوني بجابر!

وقام بسر بجرائم وفضائع اُخرى في مكة واليمن وجميع الأمصار الّتي مرّ بها، ومن جرائمه قتله ابنَي عبيدالله بن العباس.

فلمّا سمع عليّ(عليه السلام) بجرائمه دعا عليه وقال: اللّهمّ إن بسراً باع دينه بالدنيا، وانتهك محارمك، وكانت طاعة مخلوف فاجر آثر عنده مما عندك. اللّهمّ فلا تمته حتى تسلبه عقله، ولا توجب له رحمتك ولا ساعة من نهار، اللّهمّ العن بسراً وعمراً ومعاوية وليحل عليها غضبك، ولتنزل بهم نقمتك وليصبهم باسك ورجزك الّذي لا ترده عن القوم المجرمين. فلم يلبث بسر بعد ذلك إلاّ يسيراً حتى وسوس وذهب عقله، فكان يهذى بالسيف، ويقول: اعطوني سيفاً أقتل به، لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ له سيف من خشب، وكانوا يدنون منه المرفقة، فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه، فلبث كذلك إلى أن مات(19).

 

[11]

بيع الدين بالدنيا

 

لما نزل عليّ(عليه السلام) الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة، كتب إلى معاوية كتاباً يدعوه إلى البيعة، أرسل فيه جرير بن عبدالله البجلي، فقدم عليه به الشام، فقرأه واغتم بما فيه، وذهبت به أفكاره كلّ مذهب، وطاول جريراً بالجواب عن الكتاب، حتى كلّم قوماً من أهل الشام في الطلب بدم عثمان، فأجابوه ووثقوا له، وأحب الزيادة في الاستظهار فاستشار بأخيه عتبة بن أبي سفيان، فقال له: استعن بعمرو بن العاص، فإنّه من قد علمت في دهائه ورأيه، وقد اعتزل عثمان في حياته، وهو لأمرك أشد اعتزالا، ألا أن يثمن له دينه فسيبيعك، فإنّه صاحب دنيا. فكتب إليه معاوية يدعوه للقدوم إلى الشام، فلما قدم عمرو قال له معاوية: يا أبا عبدالله، إنّي أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الّذي عصى الله وشقّ عصا المسلمين، وقتل الخليفة وأظهر الفتنة، وفرق الجماعة وقطع الرحم!

فقال عمرو: من هو؟

قال: عليّ.

قال: والله يا معاوية ما أنت وعليّ بحملي بعير، ليس لك هجرته ولا سابقته، ولا صحبته ولا جهاده، ولا فقهه ولا علمه. ووالله إن له مع ذلك لحظاً في الحرب ليس لأحد غيره، ولكني قد تعودت منالله تعالى احساناً وبلاء جميلا، فما تجعل لي إن شايعتك على حربه، وأنت تعلم ما فيه من الغرر والخطر؟

قال: حكمك، فقال: مصر طعمة. فتلكأ عليه معاوية.

ثمّ قال له: يا أبا عبدالله، إنّي أكره لك أن تتحدث العرب عنك أ نّك إنّما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا.

قال عمرو: دعني عنك، فقال معاوية: إنّي لو شئت أن أمنيك وأخدعك لفعلت. قال عمرو: لا، لعمر الله ما مثلي يخدع، لأنا أكيس من ذلك. قال معاوية: أدن مني أسارك، فدنا منه عمرو ليساره، فعض معاوية أذنه، وقال: هذه خدعة! هل ترى في البيت أحداً ليس غيري وغيرك!

عندما وصل الخبر إلى أميرالمؤمنين(عليه السلام) قال ضمن خطبة له:

«وَلَمْ يُبَايعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهِ عَلَى البَيْعَةِ ثَمَناً، فَلاَ ظَفِرَتْ يَدُ المبايِعِ، وخَزِيَتْ أَمَانَةُ المُبْتَاعِ، فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا، وَأعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا، فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا، وَعَلاَ سَنَاهَا، واستشعروا الصبر، فإنّه أدعى إلى النص»(20).

(1) البقرة: 34.

(2 و 3) الأعراف: 12 و13

(4) نهج البلاغة: 2/140 خ 91.

(5) نهج البلاغة: 1/20.

(6) يعتقد البعض ان الجنّة الّتي كان فيها آدم هي جنّة الخلد، وهذا القول غير سليم حيث تنفيه الكثير من الروايات منها ما روي عن أبي عبدالله(عليه السلام) بعد أن سئل عن جنّة آدم، فقال: جنّة من جنان الدنيا، يطلع عليها الشمس والقمر، ولو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبداً. نور الثقلين 1: 62.

(7) الميزان 1: 193 ـ 197.

(8) السواد: العراق، وسمي سواداً لخضرته بالزرع والأشجار.

(9) نهج البلاغة: 1/30.

(10) اللتيا والّتي: أي أبعد اللتيا والّتي أجزع! أبعد أن قاسيت الأهوال الكبار والصغار، ومنيت بكلّ داهية عظيمة وصغيرة فالتيا الصغيرة والّتي الكبيرة.

(11) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/213.

(12) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/247.

(13) الجمل: 158.

(14) نهج البلاغة: 1/44.

(15) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/270.

(16) شرح نهج البلاغة: 1/272.

(17) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 1/291.

(18) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/5.

(19) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/5.

(20) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: 2/60.