قبسات‏ من‏ نهج البلاغة

الدرس العاشر: الدنيا في نهج البلاغة -1-

 

ما هي الدنيا

يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

"وأحذركم الدنيا فإنها منزل قُلعةٍ (1) وليست بدار نجعة (2) قد تزينت بغرورها، وغرَّت بزينتها. دارها هانت على ربها، فخلط حلالها بحرامها، وخيرها بشرِّها وحياتها بموتها، وحلوها بمرها، لم يُصفها اللّه تعالى لأوليائه، ولم يضنّ‏َ بها على أعدائه. خيرها زهيد وشرها عتيد وجمعها ينفد، وملكها يُسلبُ، وعامرها يخرب" (3).

إن نظرة الإنسان للدنيا ستحدد له أهدافه وأولوياته وطرق عمله وستنعكس على مسلكيته فيها. وبالتالي فإن نظرة الإنسان للدنيا ستصنع شخصيته وتحدد مآله ومصيره.

من هنا أكثر الإمام عليه السلام من وصف الدنيا وفصل ذلك بأساليب متعددة. فكيف يقدم الإمام عليه السلام هذه الدنيا؟

 

هناك عدة صفات أساسية تتميز بها الدنيا أشار إليها الإمام عليه السلام تتلخص بما يلي:

 

الدنيا دار فناء

"فإنها منزل قلعة وليست بدار نجعة".

ويقول عليه السلام:

"ثم إن الدنيا دار فناء وعناء وغِير وعبر" (4).

فالدنيا ليست ملازمة للإنسان وإنما هي مرحلة يمر بها وجسر يعبره. وهذه المرحلة إذا قسناها بالمراحل التي يمر بها الإنسان منذ خلقه الله تعالى إلى أن يترك الدنيا ثم حياة البرزخ التي هي أطول بكثير من عمر الإنسان في الدنيا، ثم الآخرة التي سيخلد فيها، سنجد الدنيا مقابل ذلك زهيدة جداً، لا قيمة لها.

وهذا ما عبر عنه أمير المؤمنين عليه السلام في العديد من كلماته:

"وإن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها ..." (1).

"ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز ..." (2).

هذه الدنيا التي تمر بهذه السرعة والتي يخبر تعالى عنها في القرآن الكريم:

"قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ء قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فاسْأَلِ الْعَادِّينَ ء قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (3).

كم تستحق أن يلتفت إليها الإنسان ويصرف من طاقاته وإمكاناته التي أعطاه الله تعالى؟ هل تساوي نصف أو ربع أم أنها ليست شيئاً يذكر أمام المراحل الأخرى التي يعيشها؟ فلماذا يعطيها أكثر مما تستحق؟ ولماذا يتوجه إليها بكل مجهوده ويصرف فيها كل طاقاته وهو يعلم أنه سيتركها بعد لحظات؟! أليس حرياً بالعاقل أن يصرف طاقاته فيما هو أبقى له؟

أفلا قرأنا بقلوبنا هذه الكلمات النورانية لأمير المؤمنين عليه السلام:

"خيرها زهيد وشرها عتيد وجمعها ينفذ وملكها يسلب وعامرها يخرب".

ويقول عليه السلام:

"عباد اللّه أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها والمبلية لأجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها فإنما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلاً فكأنهم قد قطعوا، وأمّوا (4) علماً فكأنهم قد بلغوه... وما عسى أن يكون بقاءُ من له يو لا يعدوه وطال حثي من الموت يحدوه (5) ومزع في الدنيا حتى يفارقها رغماً، فلا تنافسوا في عز الدنيا وفخرها..." (6).

 

الدنيا دار غرور

إن من صفات الدنيا السيئة أنها دار غش وخداع. فهي تزين كل قبيح وتقدمه للإنسان بأبهى صورة. تماماً كسراب الصحراء القاحلة:

"قد تزينت بغرورها وغرت بزينتها".

هذه الزينة التي تتألف من عدة عناصر تجمعها كلمة أمير المؤمنين عليه السلام:

"فإني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حُفَّت بالشهوات وتحببت بالعاملة وراقت بالقليل وتحلَّت بالآمال وتزينَّت بالغرور، لا تدوم حبرتها (1) ولا تؤمن فجعتها غرّارة ضرّارة، حائلة (2) زائلة نافذة (3) بائدة (4) أكّالة غوّالة (5) - (6).

فقد تزينت بظاهرها "حلوة" واستدرجت الإنسان بشهواته "حفت بالشهوات" وأغفلته عن قصر عمرها وتركه لها من خلال الآمال "تحلت بالآمال".

 

الدنيا دار امتحان

إن الإنسان ممتحن في كل لحظة من لحظات هذه الدنيا وسيجد البلاء وسيجد البلاء والامتحان ومحاولات الاستدراج والمعاصي في أي موقع كان:

"فخلط حلالها بحرامها وخيرها بشرها وحياتها بموتها وحلوها بمرها لم يصفها الله تعالى لأوليائه ولم يضن بها على أعدائه".

 

الانغماس في الدنيا

الإمام علي‏عليه السلام حذر من الانغماس والغرق في الدنيا لما لها من تأثير سلبي إذا استخدمت بغير طاعة اللّه تعالى ولم يكن المأخوذ منها ما يغذي الحياة الآخرة لأنه يجب أن تكون في نظرنا وسلوكنا أنها مزرعة للآخرة وعوناً عليها فنأخذ منها ما ينسجم مع مشروعنا الأخروي والسعادة الأخروية الحقيقية. ولا نقبل عليها مع تجاهل النتائج والآثار والمآل، بل إن ذلك يرتبط بسلسلة من الأخطار الجسيمة على مستوى على الفرد والمجتمع، فيتفكك بذلك المجتمع ويعيش الأفراد فيه حالة الجشع والطمع لا ينظر إلى الأمور بواقعية ولا يقيسها بميزان العقل كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

"ومن عشق شيئاً أعشى (1) بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة ويسمع بأذن غير سميعة قد خرقت الشهوات عقله وأماتت الدنيا قلبه وولهت عليها نفسه فهو عبد لها، ولمن في يده شي‏ء منها، حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها" (2).

ويهذا يصل إلى مرحلة لم تعد تنفعه المواعظ ولا تفيده الزواجر حتى يصل إلى يوم يقول يا ليتني كنت تراباً، أو يطلب من اللّه تعالى العودة حتى يعمل صالحاً من جديد.

يقول عليه السلام:

"لا يزدجر من اللّه بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ وهو يرى المأخوذين على الغِرَّة (3) حيث لا إقالة ولا رجعة، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون" (4).

 

احذر الدنيا

كان عليه السلام يحذر الناس دائماً من هذا الزمان الذي وصلوا إليه من قلة السالكين في طريق الخير والمقبلين على الدنيا وشرورها.

يقول عليه السلام:

"وقد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير فيه إلا إدباراً، ولا الشر فيه إلا إقبالاً ولا الشيطان في هلاك الناس إلا طمعاً..." (5).

وفي مواجهة ذلك لا بد من جهاد النفس وترويضها بالأساليب المناسبة لها. فإذا وجدت نفسك قد غرقت في الدنيا حتى صارت الدنيا أكبر همك فعليك أن تتذكر الأنبياء والأولياء وموقفهم من الدنيا ومقدار استفادتهم منها.

فهذا أمير المؤمين عليه السلام يقول:

"ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضي‏ء بنور علمه، ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه (1) ومن طعمه بقرصيه (2) ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد، فواللّه ما كنزت من دنياكم تبراً (3) ولا ادخرت من غنائمها وفرا. ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا (4)، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أثاثٍ دبرة (5) ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مقرة (6)".

 

ولكم في رسول اللّه أسوة حسنة

يقول أمير المؤمنين‏ عليه السلام:

"ولقد كان في رسول اللّه صلى الله عليه وآله ما يدلك على مساوي‏ء الدنيا وعيوبها: إذ جاع فيها مع خاصته (7) وزويت عنه (8) زخارفها مع عظيم زلفته (9) فلينظر ناظر بعقله: أكرم اللّه محمداً أم أهانه، فإن قال أهانه، فقد كذب واللّه العظيم بالإفك العظيم، وإن قال: أكرمه فليعلم أن اللّه قد أهان غيره حيث بسط الدنيا له، وزواها عن أقرب الناس منه..." (10).

ويقول عليه السلام في موضع آخر:

"قد حقَّر الدنيا وصغرها وأهون بها وهوَّنها، وعلم أن اللّه زواها عنه اختياراً وبسطها لغيره احتقاراً، فأعرض عن الدنيا بقلبه وأمات ذكرها عن نفسه وأحب أن تغيب زينتها عن عينه، لكيلا يتخذ منها رياشاً (11)، أو يرجو فيها مقاماً، بلَّغ عن ربِّه معذراً ونصح لأمته منذراً. ودعا إلى الجنة مبشراً وخوَّف من النار محذِّراً" (12).

 

حال أهل الإيمان مع الدنيا

هنا نورد وصف أمير المؤمنين عليه السلام لأهل الإيمان وأولياء اللّه مع هذه الدنيا كيف تعاملوا معها وماذا كانت تعني لهم وما هو مدى وقعها في نفوسهم وهم ليسوا بأنبياء ولا أئمة، لكن بإيمانهم وثقتهم باللّه تعالى وعبادتهم الحقيقية التي تربطهم باللّه تعالى ومن خلال تفكرهم بأحوال الماضين الذين جمعوا الدنيا كهارون وقارون، علموا بأن النفس مظانها في غدٍ جدث ينقطع في ظلمته أخبارها وتغيب آثارها ولا يأخذ معه الإنسان إلا عمله الخالص للّه تعالى.

فيقول سلام اللِه عليه في وصف المتقين ونظرتهم إلى الدنيا:

"... أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها..." (1).

ويقول‏ عليه السلام في موضع آخر:

"... والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه..." (2).

ويقول‏ عليه السلام في موضع آخر يصف الزاهدين:

"... كانوا قوماً من أهل الدنيا وليسوا من أهلها، فكانوا منها كمن ليس منها، عملوا فيها بما يُبصرون، وبادروا فيها ما يحذرون، تقلب أبدانهم بين ظهراني أهل الآخرة، ويرون أهل الدنيا يعظمون موتى أجسادهم وهم أشدُّ إعظاماً لموتى قلوب أحيائهم" (3).

وأيضاً يقول عليه السلام في وصف أوليائه:

"... إن أولياء اللّه هم الذين نظروا إلى باطن الدنيا إذا نظر الناس إلى ظاهرها، واشتغلوا بآجلها إذا اشتغل الناس بعاجلها، فأماتوا منها وخشوا أن يميتهم، وتركوا منها ما علموا أنه سيتركهم، ورأوا استكثار غيرهم منها استقلالاً ودركهم بها فوتاً..." (4).

 

ثم يقول عليه السلام في موضع آخر:

"أولئك واللّه الأقلون عدداً والأعظمون عند اللّه قدراً، وصحبوا الدنيا بأبدان أوراحها معلقة بالمحل الأعلى... آه آه شوقاً إلى رؤيتهم..." (1).

هذه هي بعض أحوال أهل الإيمان مع الدنيا حيث نراهم يعيشون في هذه الدنيا ولكن تطلعهم الحقيقي إلى الحياة الأبدية الأخرى حيث رضا اللّه ورضوانه ونرى كيف يتشوق الإمام لرؤيتهم تكريماً لهم بالفوز الذي حازوه.

يقول عليه السلام:

"فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ (2) وقراضة الجلم (3) واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتعظ بكم من بعدكم وارفضوها ذميمة فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم" (4).


 

خلاصة الدرس‏

لم تكن الدنيا تعني شيئاً عند أمير المؤمنين عليه السلام وإنما هي دار ممر ومعبر إلى دار القرار وهي دار فناءٍ وعناء.

إن على القائد أن يكون المبادر دائماً إلى فعل الخيرات قبل الآخرين ومن هم تحته من المنقادين. حتى يصح أن يكون قدوة يقتدي به غير في الفعل والعمل بل على القائد في موقعه أن يتحمل أكثر من غيره كما كان أمير المؤمنين عليه السلام.

بعد أن تولى أمير المؤمنين عليه السلام السلطة كافح التحول الذي طرأ على الأمة والانحراف عن السنة بأسلوبين: الأول الأسلوب الكلامي من خلا ل المواعظ وتعميم الثقافة الإسلامية. والثاني الأسلوب العملي من خلال بسط العدل في المواساة في العطاء والمعاملة بين كل شرائح المجتمع.

أراد أمير المؤمنين عليه السلام لأهل الإيمان وأولياء اللّه أن يتعاملو مع الدنيا بالتفكر وطرح التساؤلات المنطقية. ومن خلال تفكرهم بأحوال الماضين الذين جمعوا الدنيا كهارون وقارون وكلهم علموا بأن النفس مظانها في غدٍ جدث ينقطع في ظلمته أخبارها وتغيب آثارها ولا يأخذ معه الإنسان إلا عمله الخالص للّه تعالى.

فيقول عليه السلام في وصف المتقين ونظرتهم إلى الدنيا:

"... أرادتهم الدنيا فلم يريدوها وأسرتهم ففدوا أنفسهم منها".


 

للحفظ

من أقوال أمير المؤمنين عليه السلام:

"إن الدنيا دار فناءٍ وعناءٍ وَغِيَرٍ وَعِبَرْ".

"واتعظوا بمن كان قبلكم قبل أن يتَّعظ بكم من بعدكم وارفضوها ذميمة، فإنها قد رَفَضَتْ من كان أشغف بها منكم".

"ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه. ومن طعمه بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد ...".


 

أسئلة حول الدرس‏

كيف كانت نظرة أمير المؤمنين عليه السلام إلى الدنيا؟

لماذا حذَّر الإمام عليه السلام من الدنيا؟

ماذا فعل حب الدنيا بالناس بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله؟

كيف كافح الإمام عليه السلام ظاهرة حب الدنيا بين الناس؟

كيف كانت حياة أمير المؤمنين عليه السلام أيام حكمه من حيث الترف أو الفقر؟


 

إقرأ

علي عليه السلام إمام البررة

كتاب علي عليه السلام إمام البررة، هو شرح لأرجوزة نظمها المرجع الكبير الراحل وزعيم الحوزة الدينية في النجف الأشرف السيد أبو القاسم الخوئي ‏رحمه الله.

شرح هذه الأرجوزة وحقق ما ورد فيها من الإشارات والأخبار. العلامة السيد مهدي السيد حسن الموسوي الخراساني، وقدم له العلامة السيد علي الحسيني البهشتي..

يتألف الكتاب من ثلاثة مجلدات من القطع الكبير وقد أورد فيه الشارح الأبيات بشكل متلاحق معلقا على كل بيت أو شطر بما يحمله من الأخبار أو الإشارات إلى مناقب الأمير صلوات الله وسلامه عليه. فالكتاب على هذا يتميز بعدة جوانب أهمها:

ء أنه يحتوي على مادة أدبية متميزة لمن يهوى الأدب.

ء أنّ هذه الأرجوزة قد نظمها عالم كبير ومحقق خبير وضليع كالسيد الخوئي‏رحمهم الله.

ء أن المطالع لهذا الكتاب لا بدّ وأن يخرج منه بثقافة متميزة تختص بالجوانب الولائية والخصائص الإلهية لأمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه.

مقتطفات من الأرجوزة:

هذا علي صاحب اللواء              قد خصه النبي بالإخاء

يكفيه هذا شرفاً ومفخرا             أبعد هذا شبهة ماذا ترى‏

شبّهك النبي بالسفينة                سفينة لنوحٍ القديمة

تدور دورا أو يدور الحقّ‏ُ            مداره حولك لا ينشقّ‏ُ

على أن الكتاب على طوله لا يعتبر كتابا مملا لأن غناه بالأبيات لا ترغب القارى‏ء بالقراءة فقط. بل يمكنه إذا أحب أن يحفظ أبيات هذه الأرجوزة حتى لا ينسى أي فضيلة لإمامه عليه السلام.


 

للمطالعة

الدنيا

مقتطفات من وصية للإمام علي ابن أبي طالب إلى ابنه الحسن (ع) (ء).

"من الوالد الفانِ، المقر للزمان (1)، المُدبر العمر، المستسلم للدهر الذام للدنيا، الساكن مساكن الموتى، والظاعن عنها غداً إلى المولود المؤمِّل ما لا يدرك، السالك سبيل من قد هلك، غرض الأسقام (2) ورهينة (3) الأيام ورميَّة (4) المصائب، وعبد الدنيا، وتاجر الغرور وغريم المنايا وأسير الموت وحليف الهموم، وقرين الأحزان، ونصب الآفات (5) وصريع الشهوات، وخليفة الأموات.

أما بعد، فإنّ‏َ فيما تبيّنتُ من أدبار الدنيا عني، وجموح الدهر (6) علي وإقبال الآخرة إليّ‏َ ما يَزَعُني (7) عن ذكر من سواي، والاهتمام بما ورائي(8) غيرَ أني حيثُ تفرّد بي دون هموم الناس هم نفسي، فصدفني (9) رأي وصرفني عن هواي وصرَّح لي محض أمري، فأفضى بي إلى جدٍّ لا يكون فيه لعب وصدقٍ لا يشوبه كذب ووجدتك بعضي بل وجدتك كليّ‏ِ حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي. أحْيِ قلبك بالموعظة، وأمته بالزهادة وقوه باليقين ونوره بالحكمة، وذلِّله بذكر الموت وقرره بالفناء(10) وبصرِّه فجائع الدنيا وحذره صولة الدهر وفحش تقلب الليالي والأيام واعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم فانظر فيما فعلوا وعمَّا انتقلوا وأين حلَّوا ونزلوا.

يا بني إني قد أنبأتك عن الدنيا وحالها، وزوالها وانتقالها وأنبأتك عن الآخرة وما أُعِدَّ لأهلها فيها، وضَرَبَتُ لك فيهما الأمثال، لتعتبر بها، وتحذو عليها، إنما مثل من خبر (1) الدنيا كمثل قومٍ سَفْرٍ (2) نبأ (3) بهم منزل جديب (4)، فأمّوا منزلاً خصيباً وجَنَاباً مريعاً (5) فاحتملوا وعثاء (6) الطريق وفِراق الصديق، وخشونة السَّفر وجشوبه (7) المطعم، ليأتوا سعةَ دارهم ومنزل قرارهم، فليس يجدون لشي‏ءٍ من ذلك ألماً ولا يرون نفقة فيه مغرماً، ولا شي‏ء أحبّ إليهم مما قرَّبهم من منزلهم وأدناهم من محلّهم.

واعلم يا بني أنك إنما خلقت للآخرة لا للدنيا، وللفناء لا للبقاء، وللموت لا للحياة، وأنك في منزل قُلْعة (8) ودار بلغة (9) وطريق إلى الآخرة، وأنك طريدُ الموت الذي لا ينجو منه هاربه ولا يفوته طالبه، ولا بدَّ أنه مدركه، فكن منه على حذر أن يدركك وأنت على حال سيئة، قد كنت تحدِّث نفسك منها بالتوبة فيحول بينك وبين ذلك، فإذا أنت قد أهلكت نفسك. أي بنيّ، إنِّي وإن لم أكن عُمرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عُدْتُ كأحدهم، بل كأني بما انتهى إليّ‏َ من أمورهم قد عُمِّرتُ مع أوَّلهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعهُ من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمرٍ نخيله (10) وتوخيت لك جميلة وصرفت عن مجهولة. واعلم أن أمامك عقبةً كؤوداً (11) المُخِفّ‏ُ (12) فيها أحسن حالاً من المثقل (13)، والمبطئ عليها أقبح حالاً من المسرع، وأن مهبطك بها لا محالة على جنة أو على نار، فارتد (14) لنفسك قبل نزولك، ووطِّئ المنزل قبل حلولك، فليس بعد الموت مستعتب (15) ولا إلى الدنيا منصرف" (16).


 

الهوامش‏

(1) قلعة: ليست بمستوطنة وثابتة.

(2) نجعة: طلب الكلأ في موضعه، أي ليست محط الرحال ولا مبلغ الآمال.

(3) خطبة 113.

(4) خطبة 0224.11

(1) خطبة 03.17

(2) خطبة 0128.3

(3) سورة المؤمنون، الآيات/112-0114

(4) أمّوا: قصدوا علماً.

(5) يحدوه: يسوقه.

(6) خطبة 99.

(1) حبرتها: سرورها ونعمتها.

(2) حائلة: متغيرة.

(3) نافذة: فانية.

(4) بائدة: هالكة.

(5) غوّالة: مهلة.

(6) خطبة 109.

(1) أعشى: أعمى.

(2) خطبة 10.0109

(3) الغيّرة: البعثة والغفلة.

(4) نفس المصدر السابق.

(5) خطبة 129.

(1) طمريه: ثوبان باليان.

(2) قرصيه: رغيف الشعير اليابس.

(3) تبرا: فتات الذهب والفضة قبل صياغته.

(4) طمرا: الثوب الخلق البالي.

(5) دبره: التي عقر ظهرها فقلّ‏َ أكلها.

(6) مقرة: مرَّة.

(7) أي مع خصوصية وتفضله عند اللّه.

(8) أي ابتعدت عنه.

(9) أي قربه.

(10) خطبة 160.

(11) رياشاً: اللباس الفاخر.

(12) خطبة 109.

(1) نهج البلاغة، خطبة المتقين.

(2) نهج البلاغة، ج‏3، ص‏74.

(3) نهج البلاغة، ج‏2، ص‏225.

(4) نهج البلاغة، ج‏4، ص‏101.

(1) نهج البلاغة، ج‏4، ص‏38.

(2) الحثالة: ما لا خير فيه من القشور، والقرظ: نوع من النبات يستعمل في الدباغة.

(3) الجلم: مقرض يجز به الصوف، والقراض: ما يسقط منه عند الجز.

(4) نهج البلاغة، ج‏1، ص‏79.

(ء) من وصية له عليه السلام 130.

(1) المعترف له بالشدة.

(2) هدف الأمراض ترمي إليه سهامها.

(3) المرهونة أي أنه في قبضة الأيام وحكمها.

(4) ما أصابه السهم.

(5) لا تفارقه العلل.

(6) استقصاؤه وتغلبه.

(7) يكفني ويصوّني.

(8) كناية عن الآخرة.

(9) صرفني.

(1) عرف الدنيا.

(2) المسافرون.

(3) لم يوافقهم المقام لوخامته.

(4) المقحط لا خير فيه.

(5) كثير العشب.

(6) مشقته.

(7) الجشوبة  الغلظ.

(8) أي لا يملك لنازله أو لا يدري متى ينتقل عنه.

(9) الكفاية وما يبلغ به من العيش.

(10) المختار المصفى.

(11) صعبة المرتقى.

(12) الذي خفف حمله.

(13) من أثقل ظهره بالأوزار.

(14) ارتده  ابعث رائداً من طيبات الأعمال توقفك الثقة به على جودة المنزل.

(15) الاستعتاب الاسترضاء، أي أن اللَّه تعالى لا يسترضى بعد اغضابه إلا باستئناف العمل.

(16) لا انصراف إلى الدنيا بعد الموت.

 

عودة