مدارك نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه

سم الله الرحمن الرحيم

 مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي عصم أولياءه  من  ريب الشكوك والشبهات ؛ ونوّر قلوبهم بالهدى فآمنوا بالآيات والمعجزات ، والصلاة والسلام على أشرف الكائنات وأفضل الموجودات، وآله الأئمة البررة الهداة  معادن الحكم والآداب، وينابيع الحكمة والصواب، ونسأله العصمة عن الزيغ  في الطريقة، والبراءة ممّن يريدون إطفاء نور الحق والحقيقة، إنّه مفيض النعمة وولي العصمة ( أما بعد) .

فإن كتاب نهج البلاغة من أجل الكتب الإسلامية قدراً و أكبرها شأناً ، وأنصعها برهاناً ، وأبلغها بياناً ، وأفصحها عبارة ، وأجمعها حكماً ومواعظ ووصايا ونصائح و أوامر و زواجر وخطباً ورسائل ، وإن العلوم الإلهية و المباحث الكلامية و المعارف الحكمية لم تغترف إلا من بحره ، ولم تقتطف إلا من زهره ، ولم تعرف من كلام غير[1] وقد احتذى أمثلته ونسج على منواله كل خطيب ماهر ، وبليغ واعظ ، ولكنه سبق وقصروا ، وتقدم وتأخروا ، فكم فيه من شرائف حكم ، ونفائس كلم ، وعجائب فصاحة وبلاغة ، لا تزاحمه عليها المناكب ، ولا يلحقه فيها الكادح و الجاهد .  

ألا وإنّ  هذا الكتاب لممّا تبتهج  به الشريعة  المحمديّة  وتفتخر به الأُمّة الإسلاميّة وتتمجّد بها  الشعوب العربيّة ، ولو قلت إنّه أكبر الآيات  على الدين الإسلامي لما قُلت  شططاً ، ولا نطقت غلطاً، وكيف لا ، ومصد ر هذه الحكم البوالغ والكلم النوابغ ، العلوم العقليّة والمباحث الكلاميّة والآداب الحقيقيّة لم يدخل مكتباً ولا مد رسة  ولم يتخرّج من كلّية ولا جامعة ، نشأ في عصر همجيّة وتوحش ، ودور غباوة  وجهل ، فكيف ارتقى هذا المرتقى ، وتسنّم هذه الذُ روة ، وبلغ هذا المبلغ من العلم الذي تتقاعس عنه فلاسفة الإسلام ، وتتقاصرُ د ونه جهابذةُ العلماء ، فإذا فحص البصير وجاسً خلال الديار وجدًهُ لم يد رُس إلاّ في مدرسة النبوّة ، ولم يتخرّج إلاّ من معهد الرسالة ، ولم يتربًّ في غير حجرها ، ولم يرتضع إلاّ من صفو دً رّها ، فهو يًردُ ذلك البحر المُستمدّ من العلوم الإلهيّة والمعارف الربّانيّة ، ويمتح من ذلك اليمّ الزاخر بالحكم والآداب الحقيقيّة ، وإنّهُ "ص"   ، أستاذه الفرد ، ومد رّسهُ الوحيد ،  وهو مربّيه ومؤدّبه ومثقّفه ومهذبة .

فهذا السنا الوضّاح من ذلك السنا        وهذا الشذى الفيّاح من ذلك  الوادي

فلا غروً إن كان مظهراً للعجائب ، ومنبعاً‏ للفضائل والمعارف  ، وقطباً للعبادة والزهادة ، وهو مع تلك العبادة وذلك الزهد والورًع  ودماثة الخلق ولين الجانب تراه في ميدان الكفاح وساحة النزال ذلك الفارس الضرغام الذي لا يرهبه العديد،ولا يزعجه الوئيد،  يخوض غمرات الحروب وينغمس فيها ، ثم يعود وحسامهُ يقطر مهجاً ، وصارمه ينطف دماً .

كــأنّ لعزرائيــل قــد قــال سـيفه      لـك السلم مـوفوراً ويـوم الكفالي (ورد هكذا).

ألا وإنّ من أنكرً نسبة هذا الكتاب  إليه حسداً وعناداً فهو  كمن أنكرً أكبر معجزة لهذا الدين ، وجحدً  أعظم آية من آيات ربّ العالمين ، فما ذاكً إلاّ لعمى في قلبه ، وسوء في رأيه ، وقلّة معرفــــة بشأن الإمام ، وعدم إحاطة بذاته القدسيّة:

هـــامـوا هيــامي فيه لــو أنّهمُ        قــد عــرفــوا معنـــاهُ عـــرفانـــي

وقـد تمسّكً أولئكً المُنكرون لهذا الرأي الواهي ، والزعم الكاسد بأمور ستُتلى عليكً وتَــعرف مـــا فيها من الخلل والزلل إن شـاءَ الله تعالى  .

الشيعة ومعتقدهم في نهج البلاغة ومؤلفه

إن الشيعة على كثرة فرقهم واختلاف طرقهم ،متفقون متسالمون على إن ما في نهج البلاغة هو من كلام أمير المؤمنين "ع" اعتماداً على رواية الشريف  ودرايته ووثاقته، والجميع على اختلاف العصور وتعدد القرون  لم يختلجهم في أمره  ريب ولا اعتراهم في شأنه شك ، ولم يخامرهم ظن  أو وهم في إن فيه وضعاً أو به تدليساً، حتى كاد أن يكون إنكار نسبته إليه "ع"عندهم من إنكار الضروريات  وجحد البديهيات، أللهمّ إلاّ شاذّ منهم لا يعرف ما خالف في نسبة بعضه إليه "ع"  ولعلّ جماعة من أكابر علماء أهل السنّة والجماعة ومؤرّخيهم – إن  لم يكن أكثرهم – يوافقون على صحّة تلك النسبة ولا يُبدون أدنى خلاف في ذلك ، والمخالف من متقدّميهم في نسبة بعضه إليه قليلٌ نادر ، وإنّما نشأ التشكيك والخلاف من ناشئة جديدة تسعى لنقض الحقائق الراهنة تحت ستار طلبها فأخذوا يتشبّثون لنفي ذلك بكل وسيلة ويتوصّلون إليه بكلّ ذ ريعة .

والخلاصة أنّ اعتقادنا في كتاب نهج البلاغة أنّ جميع ما فيه من الخطب والكتب والوصايا والحكم والآداب حاله كحال ما يُروى عن النبي "ص"  وعن أهل بيته في جوامع الأخبار الصحيحة وفي الكتب الدينيّة المعتبرة ، وإنّ منه ما هو قطعي الصدور ومنه ما يدخله أقسام الحديث المعروفة ، وأمّا مؤلّفه الشريف فاعتقادنا فيه أنّهُ مُنزّه  عن كُل ما يشين الرواة ويقدح في عدالتهم وأنّه لم يُنشيء شيئاً منه نفسه وأدخله في النهج  كما أنّه لم يّدخل فيه شيئاً يعلم أنّه لغير أمير المؤمنين ، بل لم يكن كحاطب ليل ، فهو لا يروي  شيئاً إلاّ بعد التثبّت ، ولا ينقُله إلاّ عًمّن يعتمد عليه من الرواة وأهل السير والتاريخ ، فجميع ما في النهج هو من كلام مولانا أمير المؤمنين "ع"  على رواية الثقة العدل ولا دخيل فيه ولا وضع .

مؤلف النهج  ووثاقته

أنا لا أريد أن أكتب سيرة المؤلف الشريف  ولا ترجمة حياته، وإنما  الذي يهمني أن أذكر  ما له من الورع والعلم والتقى والوثاقة وجلالة القدر وعلو المنزلة وطول الباع في المعارف وسعة الإطلاع  والإحاطة بمؤلفات شتى في التاريخ  والسير وغيرها ،ذهب جلها ولم يبقَ منها  إلى عصرنا إلا شيء يسير . كان رضي الله عنه كما قال الخطيب  البغدادي من أهل الفضل والعلم والأدب . وقال غيره كان المؤلف  فاضلاً [2]عالماً ورعاً  عظيم الشأن رفيع المنزلة عالي الهمة مستلزماً [3]  بالدين  وقوانينه لم يقبل من أحد  صلة ولا جائزة وقد عرف من الفقه والفرائض طرفاً قوياً،وله مصنفات عديدة  وقفنا منها على المجازات النبوية وكتاب الخصائص[4]   وعلى الجزء الخامس من تفسيره الموسوم  بحقائق التنزيل ودقائق التأويل  وهو كتاب يشهد لصاحبه بالسبق في الفضل وطول الباع في الحكمة والفلسفة والفقه وجميع العلوم العربية ،وقد صرح في هذا الكتاب  وفي كتاب  المجازات  بنسبة  كتاب النهج  إليه ، وسيأتيك ذكر ما كان في عصره من المؤلفات  التي يتيسر له الرجوع إليها متى شاء ، وبعد هذا فلا أخال أن يبقى مجال  لمنـصف  أن يسـبق وهمـه وخيالـه إلى أن  يرتـكب  مثل  هذا  المنـصف الـحـاوي لتلك الـخلال الفاضلة رذيلة الاختلاق وا لوضع ،ثم  ينسب ذلك إلى أكبر إمام في الدين فأ ن  السيد الشريف في الشرف والديانة ينزّه عن تعمّد الكذب ، وكيف يحتمل في مثله أن يُقدم على هذه الخلّة الذميمة المستهجنة ، والكذب من أعظم الكبائر الموبقة ولاسيّما على أعظم إمام في المسلمين .

إنّ  وصمة أمثال السيد  من عُلمـاء الـرواة  بغـير حُجّة ولا برهان بذلكً  ظُلمٌ  للحقيقة وخروج  عن الطريقة  وفتح  باب  لهدم  أصول الشريعة  والدين وزوال الثقة  بما  في الجوامع الصحيحة .

شروح كتاب النهج

شرح هذا الكتاب  الجليل من فطاحل العلماء و جهابذة الفن ما يناهز  الأربعين فاضلاً بشروح موجزة ومسهبة عربية وفارسية ، ولم يصدر منهم في حق جامعه أغمز أو توهين ،ولا أقل تشكيك في نسبة الكتاب إلى راويه أو المروي عنه،ومن أفاضل شراحه العلامة الشيخ محمد عبده فقد شرحه بكلمات وجيزة وقد طبع شرحه في بيروت  بالمطبعة الأدبية سنة 1307 هجري (وطبعة مكتبة الأندلس مزيداً من شروح أخرى  في سنة  1374 هجري ــ1955 ميلادي )وقد تضمنت خطبة شرحه  هذا  أوصافاً للنهج  باهرة ، وقد حثَّ فيها طالبي نفائس اللغة  أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم  ، وذكر - أن جماعة من أجلة العلماء  قد عني بشرحه ، وهذا الشارح مع طول باعه وسعة إطلاعه وحرية أفكاره لم يبن منه في شأن نسبة الكتاب شائبة تردد .ولا في صحته أدنى تشكيك.

ما عول عليه عبد الحميد في نسبة النهج إلى أمير المؤمنين

وقد عرفت مما سبق اتفاق أهل العلم ـــ إلا من شذ ـــ على إن ما في كتاب  النهج هو من كلام أمير المؤمنين "ع"  ونزيدك  هنا بملخص  ما عول عليه شارحه في (ص546  ج 2) قال : أولاً أنه لا سبيل إلى نفي كل ما في النهج  عن أمير المؤمنين "ع" لثبوت بعض التواتر ، وإذا ثبت أن بعضه من كلامه ثبت أن الجميع منه ، لاتفاق جميع أبعاضه في النفس والطريقة والمذهب والأسلوب ،ولو كان لشخصين أو أكثر لاختلفت في ذلك أبعاضه ، وتفاوتت في ذلك أجزاؤه ، ولميز أهل الذوق  والأدب وصيارفة الكلام ونقدته بين الدخيل والأصيل، كما مَيزوا في شعر أبي تمام وغيره،قلت : وكما حكموا بأن كتاب  التاج للجاحظ, لأن أسلوبه وسبكه يضاهي أسلوب الجاحظ ، وطريقته في السبك والتعبير ، وثانياً أن القائل بأن بعض النهج منحول يطرق على نفسه ما لا قبًل له به ، لأنا متى فتحنا هذا الباب وسلطنا الشكوك على أنفسنا قي هذا النحو ولم نثق بصحة كلام منقول عن رسول الله "ص" أبداً، وكذلك ما نقل عن أبي بكر وعمر من الكلام والخطب والمواعظ وكل أمر جعله هذا الطاعن مستنداً له فيما يرويه عن النبي "ص" والأمة الراشدين والصحابة التابعين والشعراء والخطباء .فلناصري أمير المؤمنين أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من النهج وغيره ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ .

شهادة نفس الكتاب بما يزيل الشك و الارتياب

إذا تلوت كتاب النهج  حق تلاوته وكنت من أهل الذوق والأدب وصيارفة الكلام كشف لك عن الحقيقة الراهنة ونطق لديك بالحجة الناصعة وصرح لك بناصع درره محكم زبره (أولاً) أنه مما لا مرية فيه ولا ريب أن ما حواه النهج من الكلام قد بلغ من البلاغة والفصاحة أقصى المراتب وركب منها أعلى ذروة السنام لا تتفاوت أبعاضه في جزالة الألفاظ وجلالة المعاني وبديع  الأسلوب وحسن السبك والانسجام والمتانة و الرصانة ، فهو كسبيكة من لجين أفرغها صائغها الحاذق فالب واحد ، قد استوت خوافيه وقوادمه وأوائله وأواخره ، قد شهد له أهل الذوق والصناعة وأئمة الفن وأدباء كل عصر بكل فضيلة باهرة ومزية فاضلة وصفة فائقة وأنه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين بعد كلام سيد المرسلين "ص" فمن يا ترى يكون أهلاً لهذا الكلام وحقيقاً به وجديراً بأن ينسب إليه غير ما سن الفصاحة لقريش إلاه والذي ليس [5]في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلامه من أشرف  الكلام وأبلغه بعد كلام الله وكلام نبيه وأغزره مادة وأرفعه أسلوباًوأجمعه لجلائل المعاني ، والذي هو [6]مشرع الفصاحة ومنشأ البلاغة ، منه ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها ،وعلى غراره حذى كل قائل خطيب، وبكلامه استعان كل واعظ بليغ ، وقد سبق وقصروا ، وتقدم وتأخروا، لأن كلامه الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي ،وفيه عبقة من الكلام النبوي ، ذاك الذي التقط الآمدي من درر كلمه وغرر حكمه سفراً ضخماً قال في خطبته جمعت يسيراً من قصير حكمه ، وقليلاً من خطير كلمه ، تخرس البلغاء عن مساجلته وتبلس الحكماء مشاكلته ، و ما أنا في ذلك ــ علم الله ــ إلا كالمغترف الشارب في البحر بكفه ، والمعترف بالتقصير وإن بالغ في وصفه ، وكيف لا وهو "ع" الشارب من الينبوع النبوي ، الحاوي بين جنبيه على العلم اللاهوتي ،إذ يقول ، وقوله الحق ، وكلامه الصدق ، على ما أدته إلينا الأئمة النّقَلة : [ إن بين جنبي لعلماً جماًلو أصبت له حملة ] إلى غير ذلك من كلام ذوي العلم ، فلا يليق بعد ما قدمنا أن ينسب هذا الكلام أو شيء منه إلى الشريف الرضي وإن بلغ ما بلغ ،وأنى للرضي وغيره هذا النمط وهذا الأسلوب ؟ قال ابن الخشاب : وقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور ، وما يقع من هذا الكلام - يعني الخطبة الشقشقية ــ في خل و لا خمر .

قلت : كما أنا قد وقفنا على شيء من رسائله في الكتاب الموسوم بالدرجات الرفيعة ،فألفيناها لا تضاهي ذلك الطراز ، ولا تستقل على عدوة ذلك المجاز ، ويمكنك أن تستعرض خطبة من نهج البلاغة وشيئاً من رسائل الشريف ن وتستجلي الديباجتبن ، وتتذوق الأسلوبين ، لترى مباينتهما لكلام النهج  ومخالفتهما لطريقته وأسلوبه ، وتقاصرها عن شأوه، وترى شعار التوليد عليه ظاهراً وأثره  فيها بينناً على أن الشريف ممن مارس كلام النهج وزاوله وألف طريقته وعرف أسلوبه وصياغته وربما سبر في أعماق خواطره فرائد كلمه وغرر فقره تزكو بها قريحته ولكنه مع هذا كله لا يقتدر أن يأتي بمثل كتبه ولا ببعض عهوده إلا ويكون مقاله بالنسبة إلى أمير المؤمنين "ع" مهوى الأخمص من القمة وسرة الوادي من رأس الذروة ؛ لا يخفى على ذي خبرة ولا يشتبه على النيقد بأول نظرة .

ثانياً:  إن مهرة الفن وصاغة البلاغة  والمشاركين في العلوم والمعارف إذا سبروا ما في النهج وتلمسوا غوره عرفوا أنه لا يتيسر إلا لذي دهاء في السياسة وخبرة في الأدب وعصمة في التقوى وبراعة في الآداب وتعمق في الفلسفة العامة وإن من انحط عن ذلك المقام العلمي ولم تتوفر تلك الملكات الكاملة ليس له من أسباب الطاقة ما يبلغه ذلك المستوى ومن أين للشريف أو غيرة بعض تلك الدرجات العلمية القدسية ؛ وإن من أولئك  الذين علموا إن لكلام أمير المؤمنين "ع" طاقة قدسية يفيض عنها ويتفجر منها الشيخ  الأستاذ محمد عبدة  فيما أورده في خطبة شرحه على النهج نوردها باختصار فإنها تتضمن تصريحاً بان كلام أمير المؤمنين بما فيه من علوم ومعارف مبدئها غريزة جبارة وفطرة سماوية شامخة لا يستطاع أن يحذى حذوه أو يؤتى بمثاله (قال) أوفى لي حكم القدر بالإطلاع على كتاب نهج البلاغة صدفة بلا تعمل فتصفحت بعض صفحاته وتأملت جملاً من عباراته فكان يخيل لي في كل مقام أن حروباً شبت وغارات شنت أن للبلاغة دولة وللفصاحة صولة وأن جحافل الخطابة وكتائب الذرابة في عقود النظام وصفوف الانتظام تنافح بالصفيح الأبلج والقويم الأملج وتمتلج المهج برواضع الحجج فتفل من دعارة الوسواس وتصيب مقاتل الخوانس فما أنا إلا والحق منتصر والباطل منكسر ومرج الشك في خمود وهرج الزيب في ركود وأن مدبر تلك الدولة وباسل تلك الصلة هو حامل لوائها الغالب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "ع" بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى  موضع  أحس بتغير المشاهد وتجول المعاهد فتارة كنت أجدني في عالم يعمره من المعاني أرواح عالية في حلل من العبارات الزاهية تطوف على تلك النفوس الزاكية  وتدنو من النفوس الصافية توحي إليها رشادها وتقوم منها مردها وتنفر بها عن مداحض المزال إلى جواد الفضل والكمال وطوراً كانت تنكشف الجمل عن وجوه باسرة وأنياب كاسرة وأرواح في أشباح النمور ومخالب النسور قد تحفزت للوثاب ثم انقضت للاختلاب فخلبت القلوب عن هواها وأخذت الخواطر دون مرماها واغتالت فاسد الأهواء  وباطل الآراء وأحياناً كنت أشهد عقلاً نورانياً لا يشبه خلقاً جسدانياً فصل عن الموكب الإلهي واتصل بالروح الإنساني فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الأعلى وسكن إلى غمار جانب التقديس بعد استخلاصه من شوائب التلبيس وأنا كأني أسمع خطيب الحكمة ينادي بإعلاء الكلمة وأولياء أمر الأمة يعرفهم مواقع الصواب ويبصرهم مواضع الارتياب ويحذرهم مزالق الاضطراب ويرشدهم إلى دقائق السياسة ويهديهم طرق الكياسة ويرفع بهم إلى منصات الرياسة ويصعدهم شرف التدبير ويشرف بهم على حسن المصير ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى هنا يحصل المقصود من نقل كلام هذا الألمعي البصير وله بقية حسنة يرجع إليها من أرادها .

ثالثاً: إنا نظرنا في كتاب النهج وتأملناه  فوجدناه متشعب الفنون مختلف الأنواع  لم يدع غرضاً دينياً إلا أصابه ولا مقصداً عالياً إلا جاء به فأجناسه مختلفة وأنواعه متشتة قد تضمن الزهد والوعظ والتحذير والتذكير والحكمة العالية والعلوم الشريفة الإلهية والحكم والآداب و الأخلاق السنن والوصايا والنصائح والسياسة والأمارة والحروب والفتن وقيادة الجيوش ونظام الأمور وغير ذلك مما يضمه ذلك السفر الجليل  الذي جمع ما لم يجمعه كتاب ولم يحوه مصنف وفي كل الأنواع والمقاصد قد بلغ حد الإعجاز من نوعه حتى كأن منشأه من المتخصصين فيه والمنقطعين إليه لم يعرف غيره ولم يمارس سواه ثم نظرنا بعد ذلك في الخطباء وأهل النثر الشعر وكتاب الرسائل والعهود والتقاليد تالدهم وطريفهم على اختلاف طبقاتهم وأعصارهم فلم نر ما في كلامهم ما يضاهي النهج أو يدانيه ولم نر فيهم من برع في سائر فنون الكلام ومقاصده ولا من خاض في تلك الأنواع المختلفة ولئن أجاد في نوع فلا يكاد يجيد في غيره فأذن لا يصلح هذا الكتاب أن يصلح إلى شخص واحد منهم ولا إلى أشخاص متعددين لتباين الناس في الطريقة ومذاهب الكلام وأساليبه وقد قلنا أن كتاب النهج كله كسبيكة مفرغة لا تختلف أبعاضه في الطريقة والأسلوب فهو كلام لا يصح العارف نسبته إلا لمتكلم واحد قد تحمل العلوم الكثيرة وعرف  الأمور الدينية والسياسية وصارت تلك الصفات من غرائزه وملكاته حتى صارت تجري على لسانه بلا تكلف ولا إمعان نظر وقد جمع أوصافاً لا تكاد تجتمع في غيره كعلم وسياسة وعبادة وشجاعة وزهادة وإمارة حكمة وسخاء وغير ذلك من الأوصاف التي تحويها متفرقة أعاظم الرجال وأبطالهم ولم نجد كما لم يجد غيرنا ممن هو أطول منا باعاً في العلم والخبرة بأحوال الرجال من حوى جميع تلك الصفات المتضادة والأخلاق المتباينة غير أمير المؤمنين "ع" حتى قيل فيه :

جمعت في صفاتك الأضداد
زاهد  حاكم  حليم  شجاع
شيم  ما جمعن في بشر  قط

 

 

فلهذا   عزت لك الأنداد
ناسك  فاتك  فقير جواد
ولا نال  مثلهـن العبـــــــاد

 

وقد ذكر الشريف الرضي (ص 11) من خطب النهج إن من عجائبه "ع" التي انفرد بها  وأمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ إذا تأمله المتأمل وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره لم يعترضه الشك في انه من كلام لا حظ له في غير الزهادة ولا شغل في غير العبادة ولا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتاً سيفه فيقط الرقاب ويجدل الأبطال ويعود ينطف دماً ويقطر مهجاً وهو مع ذلك زاهد الزهاد وبدل الأبدال وخذه من فضائله العجيبة وخصائصه التـي جمــع  بهـــابيـن الأضـداد  وألــف بهــا بين  الأشتــات  وقــال الشـارح (ص 16 ج ل) كان أمير المؤمنين ذا أخلاق متضادة  منها ما ذكره الرضي "رحمه الله" وهو التعجب وذكر ما نقلناه عنه ثم ذكر أموراً أخر نحن نذكرها بإيجاز واختصار ( منها ) أن ا لغالب على ذوي الشجاعة أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية والغالب على أهل الزهادة أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق ونفار من الناس  و أمير المؤمنين  كان أشجع الناس وأبعدهم عن ملاذ الدنيا وأكثرهم وعظاً وأشدهم اجتهاداً في العبادة وكان مع ذلك ألطف الناس أخلاقاً وأسفرهم وجهاً وأكثرهم بشراً وأبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر . ( ومنها ) أن الغالب على الشرفاء في النسب سيما إذا أضيف إليه الشرف من جهات أخرى أن يكونوا ذوي كبر وتيه وتعظم وتغطرس وكان أمير المؤمنين  "ع" أشرف الناس بعد ابن عمه "ص" مع ذلك كان أشد الناس تواضعاً لصغير وكبير وألينهم عريكة وأبعدهم عن الكبر (ومنها) أن الغالب على ذوي الشجاعة وقتل النفوس أن يكونوا قليلي العفو والصفح وحال أمير المؤمنين "ع" في العفو والصفح ومغالبة هوى النفس ظاهر ومعلوم (ومنها) أن الشجاع لا يكون جواداً كطلحة والزبير وابنه عبدا لله وعبد الملك حتى سمي رشح الحجر وحال أمير المؤمنين في السخاء والشجاعة لا يخفى على أحد هذا ،والخلاصة أن من أحاط بكلام النهج وعرف مقاصده وفنونه وما ضمته دفتاه من المعارف والكمالات وعرف أمير المؤمنين وعلو شأنه وما حوته ذاته الشريفة المقدسة جزم بنسبة كلام النهج إليه ورآه مظهراً من مظاهر ذلك المتكلم وممثلاً لشخصيته الغائبة عن العيون وإني لاقرأه وأراه كمرآة تنطبع فبه صورة قائلة على اختلاف الحالات والصفات .

رابعاً: إنا وقفنا على جملة من خطب النهج وكتبه ووصاياه وحكمه مذكورة في مصنفات كتبت قبل زمن الشريف الرضي أو في زمانه وفي مصنفات كتبت بعد زمان الشريف أو في زمانه وفي مصنفات كتبت بعد زمان الشريف ولكن المعلوم من حال الناقل انه لم يعتمد في نقله على ما في النهج بل اعتمد على مصدر آخر وهذه الجملة منها ما يوافق ما في النهج ومنها ما يخالفه في بعض الفقرات والكلمات وربما زاد على ما نقله السيد شان الخطب التي ترويها النقلة وتدونها الكتبة وسيأتي إن شاء الله ذكر ما وقفنا عليه مروياً في غير كتاب النهج,وعدم وجد مصدر غير النهج لما لم نقف له من ذلك غير ضائر ولا قادح فان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود مع انه إذا ثبت البعض أمكن دعوى ثبوت الكل لاتحاد الجميع في النفس والأسلوب كما مر بيان ذلك وعلى أي حال فوجود مصدر لتلك الجملة كاف لرد من ادعى ان كلام النهج كله لغير أمير المؤمنين "ع"  كالرضي وأخيه المرتضى.

خامساً : أن جامع النهج لو بلغ الغاية من الفصاحة والبلاغة وصارت له اليد الطولى في الوعظ والخطابة وفنون الكلام وأغراضه بحيث صار ممن يقتدر على إنشاء كلام النهج واختراعه لعدد من اكبر الخطباء والوعاظ واعظم البلغاء والكتاب ولنعته أهل العلم والخبرة بأحوال الرجال الذين ترجموا حياته لذلك ولو قرأت ما كتبوه في شأنه لم ترهم يصفونه بعد العلم وشرف النفس بغير الشعر و انه اشعر الهاشميين ولو كانت له هذه الصفة وهذه الملكة لنعت بذلك ولسارت به الركبان وظهرت له بعض الخطب والعهود والتقاليد والرسائل مع رواجها في ذلك العصر وشغف أهله بها ولأي شيء لم ينسب هذا الكتاب مؤلفه إلى نفسه ويتفوق به على أبناء جنسه ويجعله من غرر فضائله واكبر آثار محامده أترى أن حب علي"ع" وولائه قد حتم عليه أن ينزع هذه الفضيلة عن نفسه ويخلعها على مولاه وان ارتكب ذميمة الكذب واقتحم عقبة الإثم كلا فان هذا لو كان السيد ممن لا يتحرج إلى الإثم وكان أمير المؤمنين خلواً من الفضائل وصفراً من الناقب ولم يكن ممن قال فيه من سئل عنه(وما أقول في من كتم محبوه فضائله خوفاً وتقية واعداؤه بغضاً وحسداً وظهر من ذين وذين ما ملأ الخافقين)ولم يكن ممن شهد له اعداؤه بالفصاحة والبلاغة وإن كلامه دون كلام الخلق ورسوله وفوق كلام المخلوقين إن نسبة هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين مما يرفع من قدر الكتاب ويأخذ بيده ويزيد في جلالة شأنه وليس مما يرفع قدر أمير المؤمنين أو يزيد في فضله:

من كان فوق محل الشمس موضعه       فليس يرفعه شيء ولا يضع  

سادسا : إن من وقف على مواضع كتاب  النهج وقرأها بإمعان وتدبر يعرف ما لمؤلفه من التثبت في الرواية والتحري في النسبة والتحرز في الإسناد وانه لا ينسب لشخص ما نسب لغيره إلا بعد التدبر وترجيح النسبة بالشواهد والدلائل ومن كان كذلك فهو جدير بان ينزه عن تعمد إدخال أو وضع.ولرفع كلفة المراجعة أذكر بك أنه في(ص51 من طبعة بيروت) يقول:وهذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية وهي من كلام أمير المؤمنين الذي لا يشك فيه ثم يستشهد لذلك بكلام عمرو بن بحر الجاحظ؛  ويقول فيما يرويه لأمير المؤمنين ويروي ذلك عن رسول الله "ص" ؛وقع ذلك منه مكرراً في الباب الثالث من أبواب النهج وإذا كان الكلام مروياً بروايتين أشار إلى الرواية الثانية كما في الباب الثاني حيث يقول:ومن كتاب له "ع" قد تقدم ذكره بخلاف هذه الرواية ويقول في الباب الثالث (ص90) ومن الناس من ينسب هذا الكلام إلى رسول الله "ص" وكذلك الذي قبله ويقول أيضاً ويروى هذا الكلام عن النبي "ص" ولا عجب أن يشتبه الكلامان لأن مستقاهما من واحد ومفرغهما من ذنوب ويقول في أواخر الباب الثالث وهذا القول الثاني في الأظهر الأشهر من كلام النبي "ص" وقد رواه قوما لأمير المؤمنين وقال قبل ذلك (ص127) ومن الناس من يروي هذا للرسول ومما يقوي أنه من كلام أمير المؤمنين "ع"  ما حكاه تغلب عن ابن الإعرابي اهـ.

فالاطلاع على هذا الكتاب يكاد أن يشرف المرء على الإيمان بأن هذا المؤلف خرّيت هذه الصناعة وانه مبرأ عن الشين والانتقاد وأن تأليفه موضع الثقة والاعتماد.

الوقوف على جميع المصادر التي وقف عليها الشريف الرضي "قدس سره"  

لا مجال لأن يطمع طامع من أبناء عصرنا هذا أن يقف على جميع ما وقف عليه الشريف و أمثاله من أهل عصره من كتب السير والمغازي و الأدب وغير ذلك مما يمكن أن يكون مصدراً للنهج.

أولاً : لوجود كتب كثيرة ومؤلفات شتى كانت في عصر الشريف قد أخنى عليها الدهر وفرقتها يد الأيام أيدي سبا فلم يبقى منها إلى عصرنا هذا ولا من المائة واحد ويتجلى ذلك نيراً لمن راجع كتب فهارس المصنفات والمصنفين كفهرست الشيخ الطوسي وكتاب النجاشي ومعالم العلماء وغيرها وقد تهيأ له من الكتب في عصره ما لم يتهيأ في الغالب لغيره فقد كان في مكتبة أخيه علم الهدى ما يكاد يتجاوز عشرات الألوف وكفاك شاهدا أن السيد نفسه صرح ببعض مصادر كتاب النهج وليس له اليوم عين ولا اثر.

ثانيا : لأن مؤلف النهج لا يروي إلا ما يختاره ويصطفيه فيختار الأبلغ فالأبلغ والأفصح  فالأفصح بحسب ذوقه ومعرفته فربما اختار من الخطبة الطويلة فقرات معدودة وترك الباقي وربما جمع خطبة واحدة من خطب شتى أو من كلمات متفرقة في مواضع متباينة وقد صرح بذلك كله في خطبة كتابه فما كان في النهج من هذا القبيل  لا يوقف له على مصدر مطابق نعم يمكن للمتتبع أن يقف على فقرات غير متتابعة ولا متتالية كم اتفق لنا الوقوف على ذلك في بعض المواضع من النهج.

عدم وجود المصدر لبعض الخطب

ولا ينبغي لك أيها الباحث ان تعجب أو تظن الظن السيء لو فحصت الكتب التي بين أيدي أهل العصر عن مصدر لبعض خطب النهج أو كتبه فجعت صفر اليد إذا  كنت خبيرا بما كان في عصر المؤلف من الكتب والمصنفات وبما جرى عليها وانه لم يبق منها إلى عصرنا من المائة ولا عشرة ومن العشرة ولا واحد نعم لو كانت مصادر النهج ومآخذه محصورة في كتب محدودة موجودة ثم فحصت فلم تجد ذلك فيها كان لك حق النقد والطعن فعدم وجود بعض المروي  مرسلا في الٍنهج في كتب السير والتاريخ التي في الأيدي  لا يقدح في شأن الكتاب ولا يحط من قدره.

عدم مطابقة ما يروى في النهج لبعض المصادر الموجودة

قد ترى  ما يروى في النهج من خطبة أو كتاب مخالفا لما في الكتب التي في الأيدي في الزيادة والنقصان أو النظم والترتيب أو الإيجاز والإطناب أو غير ذلك فيعتريك الشك والارتياب ولكنك بعد النظر والتروي والوقوف على ما يأتي تزول عنك الحيرة وتكون من الأمر على بصيرة.

أولا : ان الروايات تختلف اشد الاختلاف ولا سيما في الخطب و أمثالها مما يؤخذ عن حفظ وسماع كما نشاهد ذلك في ما يرويه أهل السير والتاريخ من الخطب والرسائل في الكتب المتداولة فترى الجاحظ مثلا يروي الخطبة على صورة تختلف مع ما يرويه ابو جعفر الطبري وهكذا ترى السيد نفسه يروي الكلام ثم يذكر له رواية اخرى ولو أردنا أن نذكر لك الأمثلة لا تسع المجال.

ثانيا : ان اكثر ما يرويه السيد من مصادر لم نقف عليها وروايات لم تصل إلينا وما تعارف اليوم بين كتاب العصر من ذكر المصدر وتعيين موضع النقل منه لم يكن متعارفا في الأزمنة السابقة وسيما أهل السير ورواة الخطب ومنثور الكلام ومنظومة بل غاية ما يتفق لهم انهم ربما اسندوا ما ينقلونه إلى راو خاص وناقل معين واغلب ما يسطره أهل التاريخ مرسل لا يعلم من أي مخبر سمع ولا عن أي صدر اخذ فراجع كتب التاريخ التي بين أيدينا .

ثالثا : ان لمؤلف النهج طريقة في الاختيار ومنهاجا في جمع الكلام صرح به في خطبة كتابه قال وإذا جاء من كلامه"ع" الخارج في أثناء حوار أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها وقررت القاعدة عليها بسبته إلى أليق الأبواب به واشدها ملامحة لغرضه وربما جاء فيما اختاره من ذلك فصول غير متسقة ومحاسن كلم غير منتظمة لأني أورد النكت واللمع ولا اقصد التتالي والنسق,فإذا عرفت منهاج الشريف وطريقته وعرفت انه لا يروي إلا ما يختاره من الخطبة والخطب المتعددة وانه قد يروي الخطبة قد جمعها من كلمات متشتتة وفقرات كل فقرة منها في موضع على حده فلا تستغرب عدم وقوفك على مصدر لبعض الخطب تذكر فيه بتمامها ولا عدم موافقة ما يرويه في النهج للمنقول في المصادر التي في الأيدي إلا في بعض الفقرات.

رابعاً : لما كان جامع النهج بالمنزلة الرفيعة من العلم والوثاقة والورع والتدين صح الاعتماد على نقله والأخذ بخبره ولم نحتج إلى التبين في أنبائه ولم يكن الرجوع إلى غيره عند اختلاف النقل أولى بل لعل روايته هي الأصح والأرجح لأنه ارفع شأناً من أن يعتمد المراسيل ويحكم بالشيء من غير دليل وهو بكلام جده اعرف وبه ابصر واخبر.

المنكرون والمشككون

 الذين أنكروا ان كلام النهج كله من كلام أمير المؤمنين طوائف من الناس وهذه الطوائف لا تعدو أشخاصا من المسلمين و أشخاصا  من المسيحييين والطبيعيين ولا أهمية للفريقين الأخيرين لأن المسيحيين لا يرون في الغالب إلا كتب بعض طوائف المسلمين فينسجون على منوالهم ويقتصون آثارهم وفيهم من يختار ما فيه الوقيعة والتوهين وإن كان من أقوالهم الواهية و أما الطبيعيون فيشاركون هؤلاء فيما ذكرناه وينفردون عنهم بأن شعارهم الجحد والإنكار والطعن في الكتب المقدسة عند المسلمين ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً,وقد رأيت إن الداعي لإنكاره دون سائر الكتب التي ألفها المؤلفون وجمعها الجامعون من الوقائع والسير و الأخبار والأحاديث وغيرها فانه تتلقى بالقبول وان كان الجامع مجهول الحال غير معروف بالصدق والعدالة هو أحد أمور كل واحد منها حمل فريقا من الناس على ذلك.

(الأول) ما يوجد في الكتاب مما يتنافى مع مذهب المنكر ويقدح في عقائده ولا يمكنه الالتزام به ولا تأويله وصرفه عن ظاهره فلا يسعه إلا الإنكار.

(الثاني) أن يكون المنكر مريض القلب فيدعوه مرض قلبه إلى أن يجحد أي مكرمة أو محمدة تضاف إلى إمام ديني أو تنسب إلى رئيس روحي.

(الثالث) الجهل بمقام من تنسب إليه مندرجات ذلك الكتاب وعدم عرفان قدره وعظم شأنه فيستبعد المنكر صدور تلك الحكم البالغة والخطب الباهرة بديهة وارتجالا من رجل مقسم القلب مشتغل بالأمور السياسية والحروب الداخلية.

(الرابع) حب الشذوذ والافتتان بالمخالفة قد يكون لأمر سياسي وقد يكون من الغرائز في بعض النفوس.

(الخامس) عدم الوقوف على مصادر ما فيه من الخطب وغيرها مع عدم معرفة منهاج الشريف الرضي في جمعه ورواياته.وأيا ما كان مثير الإنكار وباعثه فلا يدحض الحجة ولا يدفع البرهان وسأوافيك بكلمات المنكرين والشاكين واذكر لك حججهم ولا نتطرق إليها من الخلل والزلل وأرجو منك أيها الناظر أن لا تقودك عصبية أو جامعة مذهبية إلى ظلم إنصافك ووجدانك واسترقاق حرية ضميرك وكان من الممكن أن نختصر ونقتصر ونورد خلاصة حجج المنكرين وأقوالهم ولكن تنكبنا هذه الجادة و أوردنا الحجج والأقوال بنصها وفصها تخلصا من الشبهة وابتعادا عن التهم والله الموفق وعليه الاتكال.

كلمات لبعض الشاكين والمنكرين

قال ابن خلكان في ترجمة الشريف المرتضى:اختلف الناس في كتاب نهج البلاغة المجموع من كلام الإمام علي بن أبي طالب هل هو جمعه أم جمع أخيه الرضي وقد قيل انه ليس من كلام علي و إنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه والله اعلم,قلت أما ما ذكره من الخلاف في كون النهج من جمع المرتضى أو الرضي فهو في غاية السقوط والوهن ولا ينبغي أن يلتف إليه كيف وقد صرّح جماعة من أهل العلم بنسبته إلى الرضي بدون تردد أو تشكيك والأمامية قاطبة متفوقون على ذلك على اختلاف طبقاتهم في خطبة كتاب النهج صراحة بذلك قال مؤلفه:(ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة F يشتمل على محاسن أخبارهم إلى أن يقول وسألوني بعد ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين إلخ)وكتاب الخصائص من مؤلفات الرضي المشهورة ونص على ذلك الشريف الرضي أيضا في كتابه الموسوم بالمجازات النبوية وفي الجزء الخامس من تفسيره الذي سماه بدقائق التأويل وحقائق التأويل وهو كتاب جليل ولم اقف على من صرح بنسبة النهج إلى المرتضى من علماء أهل السنة سوى أفراد معدودين كاليافعي في تأريخه والصلاح الصفدي والحسن بن سليمان على ما نقل عنهم ولعل منشأ الاشتباه ما ذكره بعض أهل التاريخ من ان الرضي قد يلقب بالمرتضى تعريفاً له بلقب جده إبراهيم وقال صاحب كتاب آداب اللغة العربية في صفحة 195 منه واشهر خطباء ذلك العصر الأمام علي بن أبي طالب فقد جمعت خطبه في كتاب نهج البلاغة جمعها الشريف المرتضى المتوفي سنة 436هـ ولم يذكر مستنده في هذا النقل ولعل ذلك الاشتباه سرى إليه.

و أما الأمر الذي ذكره ابن خلكان وهو القول بأنه ليس من كلام علي "ع" فهو الأمر المهم الذي عقد هذا الكتاب لتمحيصه وقد علمت ان القول بذلك شاذ نادر ولا يعتمد عليه في قبال إجماع علماء الفريقين وما سلف من الحجج والإمارات وتعبير ابن خلكان عن ذلك بالقيل مشعر بتمريضه فالعمدة في المقام ذكر المنكرين التي وقفنا عليها وبيان دلالتها على ذلك.

الذهبي واحتجاجه على السلب

قال في ميزان الاعتدال في ترجمة الشريف المرتضى انه هو المتهم بوضع كتاب نهج البلاغة ثم قال ومن طالع كتابه نهج البلاغة جزم بأنه مكذوب على أمير المؤمنين ففيه السب الصريح والحط على السيدين أبي بكر وعمر وفيه من التناقض والأشياء الركيكة والعبارات التي من له معرفة بنفس القرشيين الصحابة وبنفس غيرهم ممن بعدهم من المتأخرين جزم بان أكثره باطل آه . ولا يمكن أن يصدر من أمير المؤمنين سب أو تظليم لهما ولا نسبة اغتصاب الأمر أليهما فانه لا تجوز غيبة المسلم ولا سبه ولا نسبة المحرم إليه فضلاً عن الصحابة الكرام.فيلزم من نسبة ذلك إليه أما الطعن فيه أو فيهما هذا حاصل الاحتجاج ولا يخفى أن ما ذكر لا يقضي إلا بأن ما اشتمل عليه ذلك من كلام النهج مدسوس فيه ولا يقضي بأن جميع ما في النهج من المواعظ والحكم والوصايا والآداب مختلق موضوع فدليله أخص من دعواه ويلزمه أن يجزم بأن جميع ما ورد عن الصحابة من قدح بعضهم في بعض وسب بعضهم بعضاً مختلق موضوع وهو أمر لا يمكنه الالتزام به وكأنه أراد بما فيه السب والحط في الخطبة الشقشقية وأمثالها وهي مما ثبت أنها بخصوصها من كلام أمير المؤمنين "ع" وقد تعرض لذلك ابن أبي الحديد في شرحه ويأتي إن شاء الله التعرض لذلك ولو كان في سندها طعن أو غمز أو في متنها دس أو وضع لما احتاج الشارح المذكور إلى ارتكاب التعسف الظاهر والتأويل البعيد قال في (ص496ج2) من شرحه واعلم أنه قد تواترت الأخبار عنه "ع" بنحو من هذا القول (يعني قوله اللهم أستعديك على قريش) بنحو قوله ما زلت مظلوماً منذ قبض رسول الله "ص" حتى يوم الناس هذا وقوله اللهم أجز قريشاً فأنها منعتني حقي وغصبتني أمري فجزي قريشاً عني الجوازي فانهم ظلموني حقي واغتصبوني سلطان ابن أمي(عمي ح ل)وقوله وقد سمع صارخاً ينادي أنا مظلوم فقال هلم فلنصرخ معاً فإني ما زلت مظلوماً وقال بعد أن ذكر أمثال هذه إن أصحابنا يحملون ذلك كله على ادعائه الأمر بالأفضلية والأحقية وهو الحق والصواب،فان حمله على الاستحقاق بالنص تكفير أو تفسيق لوجوده المهاجرين والأنصار،ولكن الأمامية والزيدية حملوا هذه الأقوال على ظواهرها وارتكبوا أمراً صعباً.وقال في(ص52 ح ل) و أما أصحابنا فلهم أن يقولوا انه لما كان أمير المؤمنين هو الأفضل والأحق وعدل عنه إلى ما لا يساويه في فضل ولا يوازيه في جهاد وعلم ولا يماثله في سؤدد ولا شرف ساغ إطلاق هذه الألفاظ(يعني بها التي في الخطبة الشقشقية) ونقل عن الأمامية من الشيعة أنها تجري هذه الألفاظ على ظواهرها وتذهب إلى أن النبي "ص" نص على أمير المؤمنين وأنه غصب حقه(قلت) أما ما نقله عن الأمامية من أنهم يجرون هذه الألفاظ وأمثالها مما اشتمل على تظلمه وغصب حقه واعتداء قريش على ظواهرها فالظاهر انهم.كذلك لأنهم يذهبون إلى أن الإمامة لا تكون إلا بالنص وانه "ص" نص على أمير المؤمنين بالخلافة والإمامة نصاً جلياً وأنه قد ظلم وغصب وبايع قهراً وإكراهاً وقد تواترت الأخبار عندهم عنه "ع" وعن أولاده وأهل بيته بذلك حتى صار أمراً غير فابل للإنكار ولا صالح للتأويل فيكون وجود الخطبة الشقشقية و أمثالها في النهج مما يؤكد النسبة ويؤيد صدوره منه عندهم وأما الصحابة(وهم الذين قبض رسول الله "ص" عنهم وهم على ما يقال مائة وأربعة عشر ألف صحابي آخرهم موتاً أبو الطفيل عامر بن وائلة مات سنة 100 من الهجرة فحكمهم عندهم حكم غيرهم من المسلمين في العدالة والفسق وان الصحبة تزيد المتقي منهم شرفاً ومنزلة ولا توجب بمجردها النجاة إلا مع الإيمان والتقوى وحفظ وصية رسول الله "ص" في أهل بيته،فهم يوالون من مات على ذلك ويبرؤون ممن عادى أهل بيته ويعادونه ويسكتون عمن جهل حاله و أما  أهل السنة فيوجبون الكف و الإمساك عن جميع الصحابة وعما شجر بينهم واعتقاد العدالة والإيمان فيهم جميعاً وحسن الظن بهم قاطبة،ولتحقيق الحق وكشف الحقيقة مقام آخر فان المهم هنا إثبات أن ما اشتمل من كتاب النهج على تظلمه "ع" وغصب حقه هو من كلام أمير المؤمنين وقد عرفت أن ابن أبي الحديد يوافق على ذلك ولكنه يصرف الألفاظ عن ظواهرها بلا صارف ويحملها على ما لا يساعد عليه مساعد مع أن منع الحق الثابت بالأفضلية والأحقية ينافي الإيمان والعدالة فما فر منه فقد وقع فيه،و أما دعوى الذهبي أن ذلك مكذوب عليه "ع" فهي دعوى واهية وأنى له بتكذيب ما ورد عن أمير المؤمنين في غير النهج وعن ذريته الطاهرة من أمثال ما ورد فيه وقد بلغ حد التواتر المعنوي ومن المحقق انه قد وقع بين الصحابة تساب وتشاجر ونزاع وتخاصم وحط واغتياب ولا يمكن إنكار جميع ذلك وتكذيبه.و أما باقي كلام الذهبي فهو مما لا ينبغي أن يعرج عليه أو يلتفت إليه وآخره ينقض أوله ولقد تذكرت قوله تعالى وإذا مروا باللغو مروا كراماً فسكت عن الكلام.

بعض المشككين وحججه

قال في نهج البلاغة ما يشك الناقد البصير فيه كما يشك في كثير مما يسند إلى رسول الله "ص" من الأحاديث والأخبار لمباينة بعضه لأسلوب الصدر الأول بوفرة أسجاعه وتوليد ألفاظه كالأزلية والكيفية ولعزو العلماء بعضه قبل أن يكون جامع النهج إلى غيره ولما فيه مما كان كرم الله وجهه أعلى قدراً وأدق نظراً من أن يفوه به كبعض المطاعن والمغامز التي كان ينكرها على أصحابه إذا سمعهم يسبون أهل الشام فكيف به وكالذي جاء في آخر القاصعة وفي الخطبة التي يخبر بها عما يكون من أمر التتار والخطبة التي يومي بها إلى الحجاج ونحو ذلك مما لا يتفق وأسلوبه الحر المحقق وكلامه الحكيم في شيء.

أقول ظاهر كلامه هو القدح في بعض ما تضمنه كتاب النهج لا في جميعه,وان ذلك من جهة المتن لا من جهة السند ولكنها ترجع إليه.وما ذكره من مباينة ذلك لأسلوب الصدر الأول بأمرين هما وفرة أسجاعه وتوليد ألفاظه فيقال له:أما وفرة الأسجاع فهي ممنوعة وعلى فرض تسليمها فهي غير موجبة لمباينة أسلوب الصدر الأول ولا قادحة في فصاحة الكلام إذا جاءت عفواً من غير تكلف ولا تعسف,فأما عدم قدحها في الفصاحة والبلاغة فهو أمر لا مرية فيه,وقد عد السجع والازدواج من محسنات الكلام,و أما عدم المباينة فلورود أمثال ما يسميه في النهج سجعاً في كلام العرب وفي الخطب التي قبل الإسلام.وقد ورد كثيرا في القرآن الكريم وان منع بعض من تسميته سجعاً احتراماً لكلامه تعالى,وورد في كلام النبي وكلام صحابته من ذلك ما لا يخفى على الخبير.ولو أردنا بسط الكلام في هذا لا تسع المجال فراجع إن شئت شرح ابن أبي الحديد صفحة 41(ج ل) فانه ذكر إن قوماً عابوا السجع وادخلوا خطب أمير المؤمنين في جملة ما عابوه إلى آخر ما فصله.وراجع كتاب الصناعتين لأبي هلال العسكري صحيفة 199 وكتاب المثل السائر صحيفة71 وغيرها من كتب الفن لتتضح لك صحة جميع ما ادعيناه.و أما دعوى توليد بعض الألفاظ الواردة في النهج كالأزلية والكيفية فهي كدعوى التوليد في ألفاظ وردت في كلام عربي يوثق بعربيته وفي ذلك ما لا يخفى فان المولد هو ما يوجد في كلام من لا يحتج بكلامه من الألفاظ المحدثة التي لم يذكرها أهل اللغة,و أما ما يوجد في الكلام العربي الذي عليه يعتمد واليه يستند فلا معنى لوصفه بالتوليد فما يوجد في الكتاب الكريم وفي كلامه "ص" وكلام صحابته M لا يحتاج في شانها إلى كلام كتب اللغة أهل اللسان.وقد روى جميع ما في النهج راوٍ ثقة معتمد من أئمة العربية عن عربي صراح لا تقل روايته في القبول والاعتبار عما يرويه بعض أهل اللغة عن إمريء القيس ونحوه من العرب,ومع ذلك فقد تسلم طوائف كثيرة من المسلمين على اختلاف مذاهبهم ونحلهم على قبول المروي في النهج وصحة نسبته,أ فيصح بعد هذا كله أن يقول قائل فيما رواه ذلك الثبت الخبير عن أفصح العرب ان فيه لفظاً مولداً كلا ولم لا نشك فيما رواه فلان وفلان من أهل اللغة عن شاعر عربي ثم نحكم بأن لفظاً في كلامه مولداً وننفي كون ذلك للعرب.وهذا ولكن الإنصاف ان وجود لفظ لا وجود له في اللغة في كلام يشك فيه انه للعرب يزيد الشك ولكني لا ادري وليتني دريت بالذي آثار الشك في نفس ذلك الكاتب وسبب ذلك له وحيث انا لسنا على شك نرى ان كل ما في النهج من مفردات الألفاظ ومركباتها مما يحتج به ويصلح شاهداً ودليلاً ولا نعبأ بما في أساس البلاغة ولا بما في (صفحة320)من شفاء الغليل من أن الأزل والأزلية كله خطأ لا اصل له في كلام العرب ولا يصح ذلك في اشتقاق ولم يسمع وان اولع به أهل الكلام.

بعد ورود هذه الكلمة في كلام افصح العرب ولعل صدور مثل هذا الكلام من جهة عدم الاطلاع والإحاطة ولا يقبل اجتهاد اللغوي في قبال النص العربي ولذا جعل ابن أبي الحديد قول أمير المؤمنين "ع" (وقد ارعدوا) حجة على الاصمعي لما أنكر ذلك وزعم انه لا يقال الارعد وابرق على أن الصحاح والقاموس والمجمع قد ذكرت فيها هذه الكلمة وشرح معناها وهي اصح واثبت من الأساس والشفاء وعليها المعول واليها المرجع,و أما الكيفية فيجري فيها ما جرى في أختها وقد ذكرها الفيومي في المصباح قال:وكيفية الشيء حاله وصفته و أما عزو بعض ما في النهج إلى غيره فهو غير قادح فان كثيرا مما ينسب إلى شخص ينسب إلى غيره على رواية أخرى والمعول على اصح الروايتين وأصحهما لعلها هي رواية النهج فقوله(قبل أن يكون صاحب النهج)كلام لم نجد له فائدة كثيرة و أما قوله ولما فيه من المطاعن والمغامز فهي عمدة ما استند إليه الذهبي في نفي كون ما في النهج من كلام أمير المؤمنين "ع" وقد قدمنا الكلام على ذلك ونوهنا بما تعتقده فرق المسلمين في ذلك ونزيد الأمر هنا إيضاحا فنقول ان أمير المؤمنين "ع" كان يكره ان تكون شيعته و أصحابه سبابين شتامين وكان ينهاهم عن ذلك لأنهم كانوا لا يعرفون مواضع السب ومواقع الشتم والأحوال والأوقات والمصالح والمفاسد التي قد تترتب على ذلك فربما وقع شيء من ذلك في غير موقعه وحل في غير موضعه وربما ترتب عليه فساد أو عناد أو إصرار على ظلم أو باطل كما انه من الممكن ان يترتب عليه إقلاع عن باطل أو انقياد إلى هدى وإنصات إلى حجة,وعليه فيكون الطعن والغمز والسب والشتم مما ينقسم باعتبار المصالح والدواعي والأغراض والأسباب والآثار والأحوال و الأزمان إلى الأحكام الخمسة التكليفية وأمير المؤمنين ابصر بمواقع ذلك واعلم وابر واتقى وليس لنا والحال كما عرفت ان نقطع على كلام نشك في نسبته إليه بوجود طعن فيه أو لعن أو غمز أو تظلم ان ذلك ليس من كلامه وان نسبته إليه باطلة ولولا ما تضمنه كلامه"ع" وكلام عترته الهداة لما اتضح الحق و أهله واستبان الضلال من الهدى وامتاز الولي من الغوي والشقي من السعيد,ثم ان المعروف عنه "ع" كراهة أن يكون أصحابه سبابين شتامين يكثر منهم السب والشتم ويتكرر منهم ويكون لهم عادة ثابتة وسجية راسخة بحيث يصدر منهم ذلك لأدنى موجب وأهون سبب وبحيث يكونون معروفين بهذه الصفة القبيحة والخصلة المستهجنة.

و أما ما جاء في آخر الخطبة المعروفة بالقاصعة فليس هو إلا حديث الشجرة التي دعاها رسول الله "ص" والحديث الوارد فيه كثير مستفيض ذكره المحدثون في كتبهم والمتكلمون في معجزاته "ص" والأكثرون[7]رووا الخبر فيها على الوضع الذي جاء في خطبة أمير المؤمنين ومنهم من يروي ذلك مختصراً ولا أعلم جهة القدح التي يوجبها ذكر هذه المعجزة في هذه الخطبة حتى اعرج عليها وانشر بساط البحث فيها كما اني لا اعلم ان ذلك لم صار مما كان كرم الله وجهه أعلى قدراً وأدق نظراً من أن يفوه به واني ليسبق ألي من كلام هذا الكاتب معنى أنزهه وكل مسلم عنه.و أما الخطبة التي يخبر بها عما يكون من أمر التتار والخطبة التي يومي بها إلى الحجاج وغيرهما من خطبه المشتملة على الأخبار عن المغيبات.فلا ينبغي أن يستغرب ذلك ولا يستنكره إلا من لم يعرف قدر أمير المؤمنين ومقامه وانه باب مدينة العلم وانه إلى ما يضيق عنه نطاق الحصر ولا غرو ان لم يصدر أمثال ذلك من أحد الصحابة فانه قد امتاز عنهم بأمور كثيرة خصه "ص" بها وله معه خلوات لم تتهيأ لغيره وقد استفاد من علومه ما لم يستفده غيره ولا أحاط به سواه وقد اخبره بما سيكون بعده من الحوادث والوقائع والماجريات وقد صرح "ع" بذلك للكلبي بقوله يا أخا كلب ليس هو بعلم غيب و إنما  هو تعلم من ذي علم وكان "ع" كثيرا ما يخبر بالمغيبات والحوادث قبل وقوعها فلا يستغرب من الكلام المنسوب إليه إذا اشتمل على ذلك بل لعل ذلك مما يؤيد نسبته إليه ويؤكدها والغيب لا يعلمه إلا الله تعالى ولكنه يعلمه لمن يشاء من عباده الصالحين,هذا ان قصد الكاتب هذا المعنى وان قصد معنى آخر فلفظه قاصر عن أفادته.

وأما قوله في آخر كلامه (مما لا يتفق وأسلوبه الحر وكلامه الحكيم في ذلك) فلا يخفى ان معرفة الأساليب إنما تكون لأهل الذوق والخبرة التامة بعلمي المعاني والبيان والأنس الكامل بذلك الكلام وليس كل من اشتغل بنحو وصرف حتى تمكن من تقويم لسانه يكون من أهل الذوق وممن يصلح لانتقاد الكلام والتمييز بين أساليبه قال ابن أبي الحديد في شرحه (ص235ج2) إن أهل الذوق الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر وصارت لهم بذلك دربة وملكة تامة فإلى أولئك ينبغي أن ترجع في معرفة الكلام ان كنت عادماً لذلك من نفسك,ولعل هذا الكاتب من هؤلاء وممن مارس كلام أمير المؤمنين وانس به حتى صار عارفاً بأساليبه ومقتدراً على معرفة ما يوافق أسلوبه الحر وما لا يوافقه.

فجر الإسلام ونهج البلاغة

جاء في كتاب فجر الإسلام – وهو كتاب لا يخلو من تخرص – وظنون وحدس وتخمين ما نصه في ص178 ونسبوا إليه (يعني إلى أمير المؤمنين)ما في نهج البلاغة وهو يشتمل على كثير من الخطب والأدعية والكتب والمواعظ والحكم وقد شك في مجموعها النقاد قديما وحديثا كالصفدي وهوار واستوجب هذا الشك أمور ما في بعضه من سجع منمق وصناعة لفظية لا تعرف لذلك العصر كقوله:(اكرم عشيرتك فانهم جناحك الذي به تطير واصلك الذي إليه تصير) وما فيه من تعبيرات إنما حدثت بعد أن نقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية وبعد أن دونت العلوم كقوله (الاستغفار على ستة معان والإيمان على أربعة دعائم)وكالذي فيه وصف الدار وتحديده بحدود هي أشبه بحدود الموثقين كقوله:(وتجمع هذه الدار حدود أربعة الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات الخ) هذا إلى ما فيه من معان دقيقة منمقة على أسلوب لم يعرف إلا في العصر العباسي كما ترى في وصف الطاووس.انتهى ما له دخل من كلامه في المقام وظاهره الشك في نسبة كلام النهج إلى أمير المؤمنين بل لعل الظاهر منه بعد إمعان النظر فيه الجزم بالعدم وعلى أي حال فاللازم البحث والنظر في كلماته,أما قوله وقد شك في مجموعها النقاد ففيه ان هذا غير ضائر بعد ان تيقنه جمهور العلماء قديماً وحديثاً وأهل التاريخ والأدب والسير والمغازي من جميع فرق المسلمين وبعد ان رواه الثقة الثبت المعتمد الذي لا مغمز فيه وقد تلقاه بالقبول اكثر طوائف المسلمين بلا تشكيك ولا تردد وفيهم من هو اغزر من الصفدي وهوار علما وأوسع إحاطة وأطول باعا في الخبرة والاطلاع وما يعمل تشكيك هذين مع جزم الجم الغفير من فطاحل العلم وخريتي الصناعة ولو كان تشكيك الشاذ وتردد النادر ذا قيمة وأهمية لما اتسع لكاتب ولا لمؤرخ ما اتسع له من إثبات الوقائع ونسبتها لأحد ولما تسنى لصاحب الفجر نفسه أن يكتب هذا الكتاب الضخم فان كثيرا من منسوباته لا يسلم من مشكك في النسبة أو قادح فيها بل أو متيقن للخلاف واما ما ذكره من موجبات الشك ومثيراته فهو على ما يزعم أمور.

الأول – ما يوجب فيه من سجع منمق وصناعة لفظية وقد تقدم منا الكلام على ذلك وذكرنا ان القرآن المجيد قد اشتمل على كثير من الفواصل ومن الصناعة اللفظية وأنواع البديع ويوجد مثل ذلك في خطب العرب قبل الإسلام وبعده.

الثاني – ما فيه من تعبيرات إنما حدثت بعد ان نقلت الفلسفة اليونانية إلى العربية وبعد ان دونت العلوم يعني:والتدوين والنقل لم يكونا إلا بعد انقضاء عصر الصحابة وتصرمه وهذا الأمر كالأمر الثالث الذي ذكره من اشتماله على معان دقيقة وأساليب لم تعرف إلا في العصر العباسي مرجعها إلى أمر واحد بل مرجع الأمور الثلاثة إلى انه قد اشتمل على ما يشابه كلام العرب في صدر الإسلام وكلام الصحابة الذين في عصره وهذه الدعوى تحتاج إلى إحاطة تامة واستقرار كامل ولا يكفي فيها الحدس واستقرار موارد جزئية على ان أهل العصر الواحد لا يجب ان تتفق أساليب كلامهم ومناهجهم في الكتاب والعبارة إلى زمن انقراضهم كما هو المشاهد لنا فأنا نشأنا وللشعر والنثر وكتابة الكتب والرسائل منهج وطريقة يسير عليها الكتاب والشعراء,و أخيراً تغير ذلك المنهاج وتبدلت تلك الطريقة وهجر ذلك الاستعمال في الشعر والنثر والكتب والرسائل ومنشأ ذلك إما تبدل الأذواق والأميال لسبب من الأسباب أو حصول الرقي بواسطة انتشار العلوم أو غير ذلك من الدواعي والأغراض وربما يوجد في أهل عصر واحد من ينفرد بطريقة ويختص بأسلوب لا يوجد في كلام الفرد الآخر من أهل ذلك العصر فعليك بالتروي في هذا المجال وإمعان النظر فيه فانه يحتمل من المقال اكثر مما حررناه لكن الوقت لم يتسع لبسط القول فيه,ولا ينبغي الحكم على كلام بأنه ليس لأهل العصر الفلاني إلا إذا اشتمل على شيء يجزم بأنه لا يوجد في كلام أهله على اختلاف طبقاتهم وتباين أذواقهم ومعارفهم وهو أمر يحتاج إلى استقرار تام وإحاطة كاملة بأحوال الرجال وتفاوت مراتبهم في الكمال,بعد فمما لا شك فيه ان الإسلام قد اثر في لغة أهله وفي نظمها وتراكيبها أثرا بيناً وادخل فيها أمورا لم تكن قبله كما ان القرآن المجيد قد علم قراءه من الصناعة اللفظية ودقائق المعاني وبديع الأساليب شيئا لم تعرفه عامة أهل العصر من العرب وأهل البوادي والوبر وكذلك السنة الشريفة على انه من الممكن ان لم يكن من المحقق الثابت ان في الصحابة من العلماء الكبار المطلعين على الفلسفة اليونانية وغيرها المحيطين بالعلوم وكيفية تدوينها قبل انتشارها في عصرهم بل وفي العصور المتأخرة وقبل تداولها بين الناس,وكان كاتب الفجر ينظر إلى الناس بعين واحدة من غير تفرقة بين الآحاد ولا ميزة بين الأشخاص فلا يفرق بين الذرة والطود ولا بين عالم صحابي أحاط بالعلوم وثقفته يد النبوة وتخرج من الكلية الإلهية وبين إعرابي بدوي درج بين مراتع الوحش ومنابت القطر وكان عصر النبوة يجمع بين الفريقين وكلامهم يتفاوت بقدر تفاوت أشخاصهم ثم يقال له بعد هذا كله ان احتمال الوضع والدس لو كان له مجال لكان بما هو أشبه بكلام أهل ذلك العصر أولى وأحرى لأن أهل الوضع غالبا لهم معرفة تامة بأساليب كلام من يريدون أن ينسبوا إليه ما ليس له فلا ينسبون ما لا يعرف إلا في العصر العباسي مثلاً إلى من تقدم على ذلك العصر لأنه من نقض الغرض وتفويت المقصود كما لا يخفى على كل ذي بصيرة.

و أما قوله(كما ترى في وصف الطاووس)فهو قول بين الوهم فانك لا ترى أي ميزة بين الخطبة الطاووسية وبين غيرها من الخطب تخص بالذكر وينوه عنها كشاهد على الدعوى فان من انس بكلام النهج وعرف أساليبه لا يجد فرقاً بينه وبين غيرها في تنميق الألفاظ والتفنن في الأوصاف ودقائق المعاني وبدائع النظم وحسن الانسجام.نعم ربما اعترض شاك أو مرتاب فقال أين العرب وهذا الطائر ومتى رآه أمير المؤمنين "ع" وأصحابه حتى يقول في هذه الخطبة(أحيلك من ذلك على معانيه)مشيراً إلى حاله في سفاده ورؤية ذلك إنما تكون لمن تكثر الطواويس عنده ويطول مكثها لديه وقد ذكر هذا الاعتراض شارح النهج في(ص484ج2)وأجاب عنه بأن أمير المؤمنين "ع" لم يشاهد الطواويس بالمدينة بل بالكوفة وكانت يومئذ تجبى إليها ثمرات كل شيء وتأتي إليها هدايا الملوك ورؤية المسافدة مع وجود الذكر والأنثى غير مستبعدة وهذا كله من الجهل بمقام أمير المؤمنين وفضله ومبلغه من العلم.

المقتطف ونهج البلاغة

كتب في المقتطف في (ص248 من المجلد الـ42)تحت عنوان(عهد الإمام علي وكتاب السلطان بايزيد الثاني)ما نورد منه هنا الشيء الذي له دخل بالخطة التي نتوخاها قال: (لا يخفى أن عهد الإمام علي هذا وارد في نهج البلاغة ونهج البلاغة كله مظنون في نسبته إلى الإمام علي ويقال انه من وضع الشريف الرضي وليس هذا محل البحث في ذلك ولكن هذه النسخة المخطوطة نحو خمسمائة سنة(يعني بها كتاب السلطان المذكور وهو كتاب كتب فيه عهد الإمام إلى مالك الأشتر حين ولاه مصر سنة 858هـ)تدل على ان البعض من كتاب العربية يستحلون أن يقحموا أقوالهم وآراءهم بين أقوال غيرهم وأرائه وينسبونها إليه ومن كان كذلك لا يكبر عليه أن يؤلف كتاباً وينسبه إلى غيره مبالغة في إكرامه وإثباتا لغرض يقصده بل قد استحل كتابنا ورواتنا سامحهم الله ما هو اعظم من ذلك فوضعوا الشيء الكثير من الأحاديث وجعلوها أركانا تبنى عليها المعاملات كما استحل الرواة قبلهم نظم الأشعار ونسبتها إلى الجاهلية ليبيعوها من الخلفاء والأمراء) قال:وقد نشرنا فيما يلي بضع صفحات من هذا العهد كما هو في نسخة السلطان بايزيد التي عندنا وكما هو في نهج البلاغة المطبوع في مصر وذلك في حقلين متقابلين لإظهار ما في الثاني(نهج البلاغة)من الزيادات المقحمة فيه ثم نقل ما في النهج وما في نسخة السلطان بايزيد في أربعة صفحات تقريبا ثم عقب ذلك بقوله: (ترى من ذلك ان الذين تطاولوا على صورة هذا العهد التي كانت متعارفة منذ خمسمائة سنة وزادوا فيها هذه الزيادات الكثيرة زادوها غير متعمدين ضراً ولعلنا لو وقع لنا نسخة خطب قبلها بخمسمائة سنة لرأينا في نسختنا(يعني نسخة السلطان بايزيد) من الزيادات الشيء الكثير حتى نصل إلى النسخة الأولى التي نسبت إلى الإمام (علي)فلا نجدها ربع ما هي الآن وسواء كتب هذا العهد الإمام(علي)نفسه أو كتبه آخر ونسبه إليه فيبعد عن التصديق أن يكتبه مطولاً مسهباً على هذه الصورة التي نراه فيها الآن وأهل ذلك العصر كان يعوزهم القرطاس حتى انهم كانوا يكتبون على الجلود والعظام وما وجد مكتوباً من عهودهم نراه في غاية الإيجاز والعهد في صورته الحاضرة لا يكتبه إلا رجل متأنق حرفته صوغ الكلام لا أمير مشغول بالحرب والجهاد كما كان الإمام(علي)وقس عليه كل الخطب المنسوية إليه والأشعار التي قيل أنه نظمها ثم ختم هذه المقالة الشنيعة التي حط فيها من كرامة رجال الدين والأدب بقوله:( والنصائح التي فيه من أبلغ وأحكم ما كتبه الحكماء والفلاسفة في كل عصر وما أحراها أن تكون مرشداً لكل من ولي أمر الناس)هذا نص ما كتبه المقتطف في(الجزء الثالث من المجلد 42(1مارس)آذار سنة 1913- الموافق25 ربيع الأول سنة 1331هـ)وفي هذه المقالة جملة أمور مهمة منها ما يمكن للمنكر أن يتمسك به ويستند إليه ومنها أمور أخر يلزم كشف الحقيقة عنها استطراداً وسنشير إلى جميع ذلك إن شاء الله قوله(نهج البلاغة كله مظنون إلخ).إن هذا القائل لا خبرة له بمثل هذه الموضوعات ولا قيمة لكلامه فيها وقد ذكر انه لا محل للبحث في نسبة النهج ولكن الناظر في كلامه يرى أنه لم يترك في الكنانة سهماً إلا رماه قوله: (لكن النسخة المخطوطة تدل على أن البعض من كتاب العربية يستحلون أن يقحموا أقوالهم إلخ)هذا الكلام في غاية السقوط والوهن والدلالة بأقسامها ممنوعة اشد المنع كما سيتضح لك ذلك،أن المقتطف قايس بين العهد الذي في النهج والعهد الذي في نسخة السلطان المخطوطة سنة858 فوجد أن نسخة النهج أبسط وأطول من نسخة السلطان فاستنتج من ذلك أن هذه الزيادات إنما حدثت من سنة858 إلى زمن طبع نسخة النهج في مصر أو بيروت سنة1307 وبنى على هذا الأساس ما بنى وفرع على هذا الأصل ما فرع ولم يلتفت إلى أن نسخة النهج أقدم وأسبق تأريخاً من نسخة عهد السلطان لأن نسخة النهج التي طبع عليها كتبت سنة400 وهي متلقاة من جامعها الشريف يداً بيد وعصراً بعد عصر ولو كان فيها إقحام أو زيادة لنبه على ذلك أحد الشراح على كثرتهم أو أحد أهل العناية بهذا الكتاب من رواته وحامليه وفي إحدى مكتبات النجف الاشرف ألان نسخة من النهج مخطوطة سنة 706 ونسخة العهد فيها مطابقة للعهد المذكور في نسخة النهج المطبوعة ثم ان عبد الحميد شارح النهج قد شرح العهد المذكور على الصورة الموجودة في النسخة المطبوعة وقد توفي عبد الحميد سنة 655 وكذا شارح النهج الفيلسوف الحكيم بن ميثم المتوفي سنة 679 ومن هذا كله يتضح أن نسخة السلطان إما مختصرة من نسخة النهج أو أنها نسخت على رواية أخرى فان روايات الخطب والعهود تختلف اشد الاختلاف وصاحب المقتطف رأى نسخة السلطان فكأنه ظفر بالوحي المنزل والحقيقة الراهنة,وقد راقه حسن خطها وبديع زبرجها ونسبتها إلى السلطان بايزيد وهذه أمور عرضية لا تزيد الكتاب قيمة أدبية ورفعة شأن وإنما المجدي في ذلك أن يكون الكتاب مصححاً مقروءاً على الأساتذة مطابقاً لاصل معتبر نقل منه بشهادة أهل الفضل بجميع ذلك,ونسخة السلطان لم تحو صفة من هذه الصفات وعلى فرض صحتها فلا يمكن الحكم والجزم بان نسخ العهد في العصر الثمانمائة في جميع نسخ النهج مطابقة لنسخة السلطان وصاحب المقتطف لم ير غير تلك النسخة ولم يبحث عن النسخ من زمن الأربعمائة إلى زمن خط نسخة السلطان بل استكشف نسخة السلطان من ان جميع النسخ المنسوخة من الثمانمائة إلى الأربعمائة الذي هو زمن فراغ مؤلف النهج منه كلها مطابقة وموافقة لنسخة السلطان وان مصدرها هو نفس نهج البلاغة دون غيره من المصادر وكل هذه الأمور لم تثبت ودون إثباتها خرط القتاد واحتمال كونها في الواقع كذلك لا يوجب الجزم والحكم وهذا اظهر من أن يخفى.ثم ان هذا الكاتب الكبير الذي نرى له الميزة على أترابه والتفوق على أقرانه بعد أن حكم بالزيادة والإقحام في العهد المذكور من بعض الكتاب حكم بمثل ذلك على جميع كتاب العربية بأنهم يستحلون إقحام أقوالهم بين أقوال الغير ونسبتها إليه وقد علمت ان اصل الزيادة غير محققة بل محققة العدم وعلى فرض تحققها فلا معنى للحكم على جميع الكتاب بواسطة ثبوت ذلك لفرد منهم على فرض ثبوته فيا قراء المقتطف وأنصاره هل يتسع لمقتطفكم بمثل هذه الأسس الواهية أن يصم جميع كتاب العربية بالتدليس وتشويه الحقائق وفيهم أهل الورع والدين والفضيلة والكمال وهم جديرون بان ينزهوا عن الكذب والغش ويبرؤوا عن التدليس والوضع ولا يستحلوا الكذب والباطل ولعمر الحق ان هذا أمر لم نعرفه في كاتب عربي ولا شاعر إسلامي أو جاهلي والذين يقولون شعراً وينسبونه لغيرهم أشخاص معروفون ساقطون لا يعتمد عليهم ولا يوثق بهم ولا تكاد تجد طائفة من أهل العلوم والآداب من سائر الملل والأديان إلا وتجد فيهم أفرادا ساقطين لا يؤبه بهم ولا يعول عليهم ثم ان كاتب المقتطف لم يقتنع بذلك المقدار من وصم كتاب العرب ورواة الشعر بما يوجب القدح فيهم والحط من شأنهم حتى ارتقى إلى رواة الأحاديث والأخبار التي عليها تدور رحى الديانة الإسلامية فنسبهم إلى الوضع والاختلاق والتدليس وهو افتراء بلا امتراء وكذب وبهتان.كيف يستحل رواة الأحاديث أن يكذبوا على الله تعالى أو على رسوله أو على أحد أئمة الدين وأن يدخلوا في الدين ما ليس منه والكذب عندهم من الكبائر الموبقة والمحرمات الفضيعة.نعم يوجد بعض الكذابين والوضاعين في الرواة وهم معروفون وقد كتب علماء المسلمين في معرفة رجال الحديث ومقدار ما لهم من الوثاقة والصدق وفي أحوال المدلسين والوضاعين وفي الأحاديث الموضوعة كتبا تفوق الحصر وليس في جميع المسلمين من يستحل الوضع:والواضع منهم يعلم انه قد اقدم على ما لا يحل له كالعاصي الذي يرتكب بعض المحرمات والآثام قوله(ولعلنا لو وقع لنا نسخة خطت قبلها بخمسمائة سنة إلخ)لا وقع لهذا الترجي عندنا أصلا وقد وقعت لنا نسخ من نهج البلاعة وفيها صورة العهد المنوه عنه وقد خطت قبل نسخة السلطان بأكثر من مائة سنة والان توجد نسختان منها أحدهما في النجف الاشرف والثانية في بغداد عند فاضل نجفي قوله(ويبعد عن التصديق أن يكتبه مطولا مسهبا على هذه الصورة أهل ذلك العصر كان يعوزهم القرطاس) إعواز القرطاس كان في مبدأ الإسلام قبل أن ينتشر في الأفاق وتكثر فتوحاته وتتسع بلاده و أما في زمن ظهور خلافة أمير المؤمنين "ع" فلم يكن الأمر كذلك فإن المسلمين قد فتحوا بلاداً كثيرة وملكوا دول الأكاسرة والقياصرة فلم يكن يعوزهم ذلك قال ابن أبي الحديد في (ص484 ج2).(وكانت الكوفة يومئذ(يعني يوم كان فيها أمير المؤمنين)تجبى لها ثمرات كل شيء وتأتي إليها هدايا الملوك من الأفاق)على انه قد وجد من الكتب السماوية والصحف الدينية ما هو أطول من هذا العهد قوله(والعهد في صورته الحاضرة لا يكتبه إلا رجل متأنق حرفته صوغ الكلام لا أمير مشغول بالحرب والجهاد كما كان الأمير علي وكذا الخطب المنسوبة إليه)ان كاتب المقتطف لا يعرف قدر أمير المؤمنين"ع" ولا يدري ما له من القيمة والمنزلة ولا يعلم ما جبله الله عليه من الفصاحة والبلاغة وما أتاه من العلم والحكمة و إنما يراه كرجل عادي ولو تكلمنا معه على هذا الفرض وعلى مبلغه من العلم فيه لقلنا فيه ان عليا من افصح بيت في العرب واعلاهم ذروة في البلاغة وقد منح لسانا طلقا وفكرة وقادة وفهماً ثاقبا وقد ربي ودرج مع افصح من نطق بالضاد حتى صارت الفصاحة من غرائزه وملكاته فلا يتكلم إلا بالفصيح والأفصح والبليغ والابلغ ولا يحتاج في صوغ الألفاظ ونظمها إلى تأنق ولا أعمال فكر وروي بل تنقاد له أزمة الكلام العالي طوعا بلا تكلف وتجري معه صعابه طبعا وعادة فلا يشغله حرب ولا جهاد ولا يصده جدال ولا جلاد,وقد فات هذا الكاتب ان الحروب والفتن مما تنبه الخواطر وتهيج النفوس وتدعو الأمير والقائد إلى استنهاض والاستنفار وإثارة العزائم والوعد والوعيد والحث والتهييج والوعظ والإرشاد واقامة الحجة والبرهان وغير ذلك من المقاصد والإغراض وكان بنبغي ان ينتشر عنه "ع" من الخطب والمقالات والكتب والرسائل والحكم والنصائح اكثر مما تناقلته الصحف واثبتته الرواة لأن أيام خلافته الظاهري أكثرها أيام أمور هائلة تشحذ اللسان وتصقل الأفكار والخواطر وكان "ع" يصرف أيام حياته وأوقات صحته ونشاطه في الأمور التي نوهنا عنها لا يشغله عن أمر الإصلاح الديني والنجاح الحقيقي وإعلاء كلمة الحق وإزهاق الباطل لذة من لذائذ الدنيا ولا شهوة من شهواتها بسنانه ولسانه واقواله وافعاله يعترف له بذلك المبغض والودود والوامق والحسود ومن قرأ كتب التاريخ يقف على ذلك.واما قوله: (لا يكتبه إلا رجل متأنق حرفته صوغ الكلام)فهو كلام رجل قليل الخبرة بأحوال العرب وبما منحهم الله من الفصاحة وعلمهم من البيان,والعرب كانت ترتجل الشعر الرجز والقصيد وتقوله بداهة وبلا روية وقد ذكر ابن ظافر من ذلك شيئا كثيرا وإذا كان الشعر وهو اشد كلفة واكثر قيودا من النثر المسجوع مما ترتجله العرب وتقوله بلا روية ولا يعجزها أمره ولا يأبى عليها صعبه وان لم يكن لها ذلك حرفة ولا عمله صنعة فكيف بالنثر المسجوع وهو أهون من النظم واقل كلفة واسهل مؤونة افيستبعد بعد هذا من إمام البلاغة ومالك أزمة الفصاحة الذي يقول فيه عدوه (لو جمعت السن الناس فجعلت لسانا واحدا لكفاها لسان (علي)(ان يرتجل الكلام المنثور الذي يتفق فيه السجع,ولا يستبعد ارتجال الشعر والخطب من أذناب العرب وصعاليكهم,واما خطبه في التوحيد والعدل والمباحث الإلهية التي لم تعرف إلا من كلامه "ع" كما نبـّه على ذلك عبد الحميد في شرحه(ص120 من ج2)وعد ذلك من اعظم فضائله ومميزاته على أقرانه فلا ينبغي أن يرتاب فيها من علم مقام أمير المؤمنين"ع" وعلم ما استمده من علوم(من لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).

صاحب دائرة المعارف المصرية ونقده

قال في مادة(آلك)ص468 : (إن ما روي عن علي "رضي الله عنه"حظه من عدم الثقة حظ سابقه لأن هذه الجملة منقولة عن نهج البلاعة(يعني بها جملة قدم ذكرها في كلام نقله عن النيسابوري في تفسيره)وقد حكم نقدة الكلام ان هذا الكتاب ليس له بل تقوله عليه المتقولون وقد غرى أهل البطالة قديما وحديثا بنسبته إليه "رضي الله عنه"ما لم يقله ترويجا لبضائعهم)انتهى كلامه.ولا يخفى عليك ان ارتيابه وعدم وثوقه بل حجته على مرامه ملفقة من تقليد محض ودعاوى بلا بينة فلا يحتاج منكرها إلى حل ولا نقض ولا معارضة ولعل مراده بنقدة الكلام بعض من تقدمت الإشارة إليهم ممن ذكرنا حجته ووهنا أدلته وهم أفراد معددودون لا يقاسون بغيرهم من أرباب الفضيلة الذين حكموا بنسبة ما في الكتاب إلى أمير المؤمنين "ع" في العلوم والمعارف وطول الباع في التاريخ والآداب.

و أما ترويج البضائع فكان الأولى أن يكون بالنسبة إلى النبي "ص" فان ذلك أروج للبضاعة ولو لم يكن ذلك بالنسبة إلى غيره من الصحابة الكرام ليته أبان الوجه في ذلك.

من اعتقد ان في النهج دخيلا

ذهب جماعة من المتأخرين إلى ان في النهج دخيلا منهم صاحب كتاب(ترجمة علي بن أبي طالب "ع" )[8] قال في (ص125) : (إنا نعتقد ان فيه(نهج البلاغة)دخيلا وفي(ص132)على أنا نحس ريبة في هاتين الخطبتين:الخطبة المسماة بالقاصعة وخطبة الأشباح,ونرجح ان فيهما دخيلاً من وضع الشيعة والصوفية حداهم إلى سده مغالاتهم في حب الإمام وحرصهم على أن يرفعوه مكانا علياً يقرب من درجة الرسول).أقول:ان الدخيل الذي يرجحه هذا الكاتب بل يعتقد أما أن يكون من الشريف الرضي أو من غيره(أما)كونه من الشريف فنحن لا نوافق عليه ولا نحتمله أصلا وقد مر فيما تقدم ما هو كبرهان على امتناع صدوره من الشريف ولما كان هذا الكاتب يوافقنا على ذلك كما يأتي فيما نذكره من كلامه فلا حاجة إلى إقامة الدليل هنا على ذلك. (وأما)إذا كان من غيره فلا يخلو الأمر من أن يكون ذلك أما بعد زمن الشريف وبعد ظهور كتاب نهج البلاغة أو قبله بان يكون في الخطب وغيرها مما رواه السيد دخيل وكلام موضوع لغير أمير المؤمنين "ع" أما احتمال أن يكون بعد ظهور كتاب النهج ووقوعه في الأيدي فهو ممتنع كسابقه لان ما اتفقت عليه نسخ النهج الموجودة الآن لا تخالف النسخة الأصلية التي أظهرها السيد وأخذت و أخذت منه يدا بيد وخلفا عن سلف وقد ذكر بعض أهل العلم والفضيلة ان نسخة عصر الشريف موجودة والتي وشحت بخطه الشريف مشهورة آه . وحيث ان هذا الاحتمال مما لا يوفق عليه الكاتب أيضا فلا حاجة إلى إطالة الكلام في شانه.(وأما)أن يكون ذلك في الخطب الموجودة قبل ظهور النهج وان السيد رواها مع ما فيها من الدخيل والكلام الموضوع من غير تمحيص ولا تدبر بل بمجرد وجودها منسوبة إلى أمير المؤمنين "ع" أياً  كان الناسب والراوي وهذا الاحتمال هو الذي اختاره صاحب الكتاب(كتاب ترجمة علي)(قال)في الكتاب المذكور(ص159): (وصفوة الرأي إنا نعتقد ان الشريف قبل كل ما نمي إليه من كلام الإمام معتمدا في ذلك على رواية الرواة دون ان يتوخى التمحيص الدقيق لا عن قصر نظر أو قلة اضطلاع بصناعة الأدب وانما صرفه عن ذلك باعث الحب الشديد لجده والافتتان ببلاغته أيما افتتان فوقع فيما جمعه الصحيح والمشوب أما انه انتحل بعضه فذلك ما لا نرى السبيل إلى اتهامه به سهلاً آه.

وفي كلامه هذا من النقد والمؤاخذة ما سنبديه ان خفي عليك(وقد تلخص)بعد ضم هذا الكلام إلى ما نقلناه عنه سابقا انه يعتقد أن فيما رواه السيد في النهج دخيلا من وضع الشيعة والصوفية والسيد رواه بلا تمحيص ولا تحقيق وأن الحامل للواضع والناقل لما فيه الوضع هو الحب(والحب يعمي ويصم)هذا رأيه ومعتقده ونحن نمحصه ونحلله قوله (ان الدخيل من وضع الشيعة والصوفية)ان الدس في الخطب البليغة التي هي في أقصى مراتب الفصاحة والمحتوية على كنوز علوم الحكمة والمعرفة ليس كالدس والإدخال في الحديث والرواية فان لك لا يقتدر عليه كل من عرف اللغة العربية ومارس الأدب والشعر ولا نعرف شيعيا أو صوفيا قبل زمن الشريف أو في عصره بلغ في الفصاحة والبلاغة شأوا يقتدر به أن يساجل أمير المؤمنين "ع" في فصاحته ويأتي بمثل كلامه ويدخله فيه فلا يعرف ولا يتميز حتى يخفى أمره على صيارفة الكلام ونقدته ولو كان في الشيعة أو في الصوفية من لديه هذه القدرة لاشتهر أمره وعرف خبره ولعد من أعاظم الخطباء و أكابر الحكماء هذا السيد الرضي مع علمه و أدبه ومعرفته باللغة وفنون العربية وبلوغه في الشعر والأدب رتبة صحت ان يقال فيه انه اشعر قريش لم يرض أهل العلم ان ينسب إليه بعض ما في النهج لانه وان بلغ ما بلغ لا يستطيع ان يأتي بمثل ما في النهج من الخطب والكتب والوصايا والعهود ولقد نقل عن ابن الخشاب لما قيل له في بعض خطب النهج ان كثيرا من الناس يقولون أنها من كلام الرضي أنه قال أنى للرضي ولغير الرضي هذا النفس وهذا الأسلوب قد أوقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنه في الكلام المنثور وما يقع مع هذا الكلام في خل ولا خمر فقل لي أي رجل من الشيعة أو الصوفية؟افضل من الرضي في الأدب واقدر منه على إنشاء كلام يضاهي كلام أمير المؤمنين يعرفه هذا الكاتب المترجم ويجوز صدور الدخيل منه ولا نعرفه نحن ولا غيرنا من أهل التراجم والخبرة التامة بأحوال الرجال ولا أعلم من أراد بالصوفية الصوفية من الشيعة أم أهل السنة ؟والظاهر انه أراد صوفية الشيعة وهم على قلتهم وعدم معروفيتهم في تلك الأزمنة وعدم عنايتهم بالنثر والشعر العربيين أكثرهم ليسوا من أهل اللسان العربي فكيف يحتمل المحتمل انهم ادخلوا من كلامهم في خطب النهج شيئا وصاغوا من فرائده عقودا وهل هذا إلا كاحتمال أن بعض الأوربيين صنعوا بعض لامية أمري القيس أو ميمية ابن أبي سلمى.ثم ان المغالاة في حب الإمام إنما تدعو إلى أن يختلقوا له كرامات أو معجزات غير منقولة أو يفتعلوا أحاديث في فضله غير مأثورة ولا تقضي بأن يدخلوا في كلامه ما ليس منه ليقال انه خطيب ماهر وهم يرونه افضل المخلوقات بعد أخيه المصطفى "ص" وان نسبة الكتاب إليه مما تزيد الكتاب شرفا وتغلي قيمته وهو لا يزداد بذلك مرتبة ونبلى.

من كان فوق محل الشمس موضعه                  فليس يرفعه شيئا ولا يضع

وكيف يكون إدخال بعض الفقرات في كلامه مما يرفعه مكانا عليا يقرب به من درجة الرسول وكيف ساغ له أن يجوز الكذب على من احب عليا ووالاه وعليا ممن يمقت الكذب واهله ولا يرضى بالقليل منه واليسير ثم انه كيف خفي ذلك على الشريف الرضي مع تبحره بالعلم وثقافته الأدبية ومزاولته لكلام جده ومعرفته بنفسه وأسلوبه ثم ان ذلك لو خفي على السيد أو أخفاه عليه حبه لجده كما يزعم كاتب الترجمة فكيف خفي ذلك على جميع شراح النهج وهم اكثر من أربعين شارحا وفيهم من فيهم من العلماء وأرباب الفضيلة وكيف خفي ذلك على جامعي كلام أمير المؤمنين ممن تقدم على عصر السيد وممن تأخر عنه وهم عدد كثير وجم غفير فلم يسمع عن أحد منهم انه احتمل أن في كلامه "ع" دخيلا أو وضعا والخطب الافظع أن يجعل ذلك السيد الورع البر ممن يميل مع الهوى ويقهره هوى نفسه وميل عواطفه إلى ما لا يليق به وبأمثاله من أهل التقوى والفضيلة.

نظرة في كلمات المترجم

ولنعرج بعد هذا على كلمات لهذا المترجم أوردها في كتابه هذا قال في(ص122)(ومبعث هذه الشكوك)وذكر شكوكا ستة:الأول:خلو الكتب الأدبية والتاريخية التي ظهرت قبل الشريف من كثير مما في النهج وقد أجاب عنه بما يزيله كما أنا قد تعرضنا لذلك فيما تقدم وبقي هنا ما لا باس بان نلفت إليه النظر وهو:

أولا:ان ما ذكره من خلو الكتب لابد وان يريد به خلو الكتب الموجودة بين أيدينا اليوم واما الكتب التي كانت في عصر الشريف وقد أخنى عليها الدهر فلم يعلم خلوها من ذلك فان مكتبة أخيه المرتضى كانت تشمل على ألوف من المجلدات وكتب الصاحب إسماعيل بن عباد كان يحتاج لحملها إلى مئات من الإبل.وحكي عن الشيخ الرافعي أن كتبه اكثر من مائة ألف مجلد,ويحكى عن بعض علماء الحجاز انه رأى بمصر مجموعا من كلام علي في نيف وعشرين مجلدا إلى غير ذلك مما يغني عنه الرجوع إلى الكتب التي تبحث عن هذا الشأن وقد كانت هذه الكتب عينا ثم أثرا ثم لا عين ولا اثر.

ثانيا:ان ما بأيدينا اليوم من كتب الشيعة من الجوامع وكتب الآداب والسنن والأخلاق والمواعظ غير خال مما في النهج وأما التالف من كتبهم فهو فوق حد الإحصاء فكم ألفوا وصنفوا ولكنها كانت في زوايا الكتمان و أعماق الخفاء منع من إظهارها خوف الهلاك والعطب فلا يطلع عليها ولا يستمد منها إلا النادر منهم.

ثالثا:ان المصادر التي بالأيدي اليوم لم تؤلف لذلك الغرض الذي ألف له الشريف كتاب النهج من جمع كلام شخص وتدوينه فلا يكون عدم ذكرها لشيء من كلامه دليلا على عدم وجوده في مصدر آخر لم تصل إليه أيدينا اليوم.و أما الشك الثاني فقد أورده وأجاب عنه.

الثالث,يخالج نفوسنا الشك في عهد الاشتر من حيث طوله وإسهابه لاعتبارات نورده لك:

الأول:إن الخلفاء عهدوا إلى ولاتهم فلم يؤثر عنهم ذلك الأسباب في عهودهم أقول:ان الإطناب والإيجاز والمساواة لا يحتاج فيها إلى ان تؤثر عن النبي "ص" أو عن أحد خلفائه الراشدين ولم يكن أحدها مرسوماً في الإسلام بحيث يجب اتباعه بل هي تابعة لما تقتضيه المصلحة وتفرضه الحاجة وربما كانت أحوال وغايات لا بد فيها من ذلك وشتان ما بين زمانه "ع" وأزمنة الخلفاء والقياس لو قيل به في شيء فالقول به هاهنا أوهى من بيت العنكبوت(ثم أن هاهنا ملاحظة)يجب أن يستلفت النظر إليها وبها تندفع الشكوك التي يستثيرها الإسهاب في عهد أو خطبة وهي ان السيد الشريف ربما لفق الخطبة الواحدة من خطب يختار فصولها وفقرات يضم بعضها إلى بعض وربما كان ذلك من خطب شتى وكلمات متشتتة فيجمع ما يختاره ويجعله كخطبة واحدة وقد ألمعنا إلى ذلك فيما سلف ووجدت شراح النهج الشارح الفاضل والشارح العلامة والأستاذ محمد عبده نبهوا على ذلك في شرح قوله(فقمت بالأمر حين فشلوا)قال الشيخ محمد عبده في شرحه ص55 هذا الكلام ساقه الرضي كأنه قطعة واحدة لغرض واحد وليس كذلك بل هو قطع غير متجاوزه كل قطعة منها في معنى غير ما للأخرى وهو أربعة فصول(إلى آخره)أقول وهذا الأمر ربما يستفاد من خطبة كتاب النهج فانه "رحمه الله" قد نبه على ذلك فيها وبين عذره فلا اعتراض عليه وإذا تم هذا الأمر كان من الجائز أن يكون الشطر الأوفى من العهد لمالك والسيد قد ضم إليه جملاً وفصولا من عهود أخرى لأمير المؤمنين "ع" كانت لمالك أو لغيره من الولاة ويجري مثل هذا في الخطب التي يكون الإسهاب فيها مثيرا للشك من أمثاله.

الثاني:ان الإمام ولى محمدا وغيره ولم يعهد لهم بمثل هذا العهد(أقول)وهذا في الوهن كسابقه وجوابه يظهر مما حررناه في جوابه.

الثالث:قال في(ص130)إن مالك بن الحارث الاشتر الذي كتب له ذلك العهد كان الإمام إلى آخر ما سطره وملخصه ان مالكا كان موضع ثقة من أمير المؤمنين "ع" فلا يحتاج إلى التوصية والى الإسهاب في الحيطة وان محمد ابن أبي بكر أولى بهذا العهد من الاشتر(أقول) ان مالكا كما ذكر وفوق ذلك ولكن الحال اقتضت أن يكتب له الإمام "ع" هذا العهد ليقرأه على الناس فيعلموا ما لأمير المؤمنين من الحكمة واليقظة والعناية بأمور الرعية وغير ذلك فان مصر لما سار إليها الاشتر كانت مختلة الأمر قد أفسدها معاوية بكتبه ودسائسه فاحتاج ذلك إلى كتاب يقرأ على أهلها يعلمون منه شدة عنايته بالرعية والعطف على ضعفائها ورعاية شؤونهم وقد ذكر المترجم في آخر هذا البحث انه يرى العهدين(عهد الاشتر وعهد طاهر بن الحسين لابنه عبد الله)يجريان في سبيل واحد أسلوبا وغرضا وروحاً(أقول)ولكن أين الثرى وأين الثريا ونحن لا نستبعد ان اكثر كتاب العهود كانوا يقرؤون عهود أمير المؤمنين"ع" ويجعلونها قدوة وإماما فينسجون على منوالها ويطبعون على غرارها ولكن الأديب البصير إذا انصف يرى الفرق واضحا جليا ويشهد لذلك قول السيد في خطبة النهج وعلى أمثلته حذا كل خطيب وبكلامه استعان كل واعظ بليغ.

وقال في(ص131)(ويستوقفنا أيضا من طوال خطبه خطبتان هما أطول ما اثر عنه بعد عهد الاشتر(القاصعة وخطبة الأشباح) إلى أن قال ونحن لا نقول ان هذا القدر من الطول في الخطب غير مقبول عقلاً,ولكنا نقول إن المعروف في ذلك العهد والمتداول بين أيدينا من خطب النبي وخطب أبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية لا يبلغ هذا الحد,بل ولا نصفه)(أقول)إن المسلمين الذين كانوا في عهده "ص" ما عدا أفرادا منهم لم يتأهلوا لاستماع الخطب الطويلة المشتملة على العلوم والمعارف ودقائق الحكم والنبي "ص" اعلم و أدرى بما يقتضيه الحال من الإطناب في الخطب والإيجاز فيها وبما يليق أن يودع خطبه من العلوم والمعارف والآداب,والذي اعتقده ان مثال هاتين الخطبتين لا يمكن أن يصدر من النبي "ص" أو من أمير المؤمنين,وما كنت أظن أن حال أمير المؤمنين وحال غيره مما يخفى على أهل الكمال والأدب وذوي الخبرة بأحوال الرجال.وكان "ع" مدة خلافة الخلفاء التي تنيف على العشرين سنة منقطعا إلى التعليم والإرشاد ونشر العلوم والمعارف وبث الآداب والأخلاق,وهو بحر العلم المتلاطم والعرفان,فلا يستبعد من مثله أمثال ما روي عنه وأسند إليه.

وقال في(ص132)واعتقادنا ان عليا انفرد بأنه اخطب الخطباء بعد الرسول لا يحملنا على التسليم بأنه انفرد بطول الخطب دونهم

(أقول)إن اعتقادنا انه كما انفرد بأنه أخطب الخطباء بعد الرسول انفرد بطول الخطب والإطناب فيها لطول باعه وسعة اطلاعه وفراغه من الأمور الشاغلة برهة من الزمان إذ لعل هذه الخطب مما أنشأه قبل زمن خلافته والظاهر ان الغالب هو التلازم بين الاعتقادين .

وقال في(ص133) ثم اقرأ ما ورد فيها من قصة الشجرة وما في تضاعيف هذه القصة مما يرمي إلى إظلال علي بما أظل الرسول.

(أقول)الإظلال بالظاء المعجمة من الظل وقد تضمنت الخطبة ان الشجرة ظللت النبي "ص" وعلياً,ولا أرى أي مانع من ان تكون الشجرة ظلالاً للرسول ولعلي إذا كان معه بل لو كان غير علي "ع" معه "ص" لجاز أن تظلله الشجرة,ولعل هذا المترجم أراد بكلامه هذا غير المعنى الذي فهمناه,وقد مر الكلام على ذلك,وان حديث الشجرة رواه اكثر الناس.

(وقال)ثم تدبر الخطبة الثانية إلى غير كلامه,وحاصله انها اشتملت على كلمات لم تعرف إلا بعد نشأة العلوم وذلك بعد عصر علي "ع" .

(أقول)إن علياً كان مدينة العلم ومن الجائز أن يكون قد عرفها دون غيره قبل انتشارها ومنه أخذت ومن كلماته عرفت على ان من الممكن منع ما ادعاه من انها لم تعرف إلا بعد عصر علي ويؤيد ذلك إن الدخيل في كلامه لابد وأن يكون مما يمكن نسبته إلى صاحب ذلك الكلام وهو من جنس كلامه لأن إدخال غير ذلك مما ينافي غرض المدخل ومطلوبه.

وقوله: (على أن بعض جملها لا تتجلى فيه روح الإمام)لا يعلم ما أراد بالروح هنا وهي دعوى يمكن لغيره أن يدعي خلافها وقوله: (هو بأسلوب متفلسفة القرن الرابع أشبه)لعل هذا الأسلوب وقع في كلام أمير المؤمنين أولا وان أهل القرن الرابع نسجوا على منواله.ثم ان المترجم ذكر الشك الرابع في (ص134) وانه لا سبيل لاتهام الرضي بانتحال الخطبة(الشقشقية)لانها كانت معروفة قبل مولد الرضي من اكثر من طريق,ثم قال ولكنا مع ما نرى فيها من جزالة اللفظ وروعة الأسلوب التي تغرينا أن ننظمها مع كلام علي في سلك نتراجع حين يبدو لنا شبح الشك مائلا فيها أجل يستوقفنا منها(ثم ذكر الأمور التي تستوقفه)وهي ما اشتملت عليه الخطبة من التعرض لأكابر الصحابة(وأقول)لا يمكن إنكار ما وقع بين الصحابة من التنازع والتخاصم وكتب التاريخ مشحونة منه وذلك مما يستلزم الطعن والقدح بين المتخاصمين غالبا وقد ذكر هذا المترجم في(ص140)ما روي من شديد كلامه "ع" بشان معاوية وابن العاص,وقال في(ص42) هذا الكلام واشباهه(يعني كلاماً للإمام "ع" نقله فيهما)نلتمس لعلي فيه العذر وان هو إلا نفثة مصدور الخ,وعلى هذا فلا ينبغي أن يستوقفه ما في الخطبة بل يلتمس لعلي فيه العذر كما التمسه في غيرها ثم اخذ يذكر ما استوقفه من الخطبة وهو التعريض أولا بعمر ثم بمن بعده وبمن قبله ونعتهم بصفات يرجع من أراد الوقوف عليها إلى كتب السير والتاريخ وكان على المترجم أن يقول يستوقفني ما اشتملت عليه من التعريض ولا يتصدى لذكر أمور سترها أولى من نشرها والأعجب من ذلك انه يقول بملي فمه ويكتب بقلمه ص37 من كتابه (ترجمة علي بن أبي طالب)مطبعة العلوم سنة 1350فلقد كان في أخلاق عمر وألفاظه جفاء ظاهر وعنجهية ظاهرة وان أصلحها بزعمه حيث وصفها بان السامع لها يحسبها انه أراد بها ما لم يكن قد أراد فقد كان الواجب عليه أن لا يذكر ذلك وان يحسن الأدب مع اكبر أئمته واعظم أقطاب مذهبه والحرية التي تتباهى بإظهارها كتبة هذا العصر لا ينبغي ان تتجاوز الأدب والاحترام مع رؤساء دينهم.

وقال قبل هذا وذلك إلى انه ورد في نهج البلاغة نفسه كلام لعلي يثني فيه على عمر إذ يقول(لله بلاد فلان)فهل يسوغ مع هذا الثناء ان يرميه بتلك التهمة النكراء.

وأقول:نقل عن شاذ لا يعرف إلى أنه دخيل في النهج وآخر إلى انه من التقية واستصلاح العمريين وأوله ثالث بما لا ينافي ما في الخطبة ونقول على فرض المعارضة بين الكلامين وأن أحدهما ساقط عن الاعتبار في البين ان الترجيح لكلام الخطبة لانه مروي بأكثر من طريق وهو مشهور معروف معتضد بما في النهج وغيره مما روي عن أمير المؤمنين من تظلمه من قريش ومن اعتدائها عليه وغصبه حقه ولعل اشتمال الخطبة على ذلك مما يؤيد صدورها عن الإمام في نظر بعضهم و أما الكلام فهو خبر مرسل لا شهرة تؤيده ولا حديث يعضده هذا ما ذكروه هنا والله تعالى اعلم بحقائق الأحوال ونوايا الرجال.

وقال في (ص143)فهاك اقرأ خطبته التي يذكر فيها ابتداء خلق السماء والأرض وانظر قوله فيها أول الدين ومعرفته إلى قوله فاعل لا بمعنى الحركات والاله الخ تر أن هذا الأسلوب قصي عن نهج الإمام ومسلكه إلى أن قال وهذا الأسلوب المنطقي لم يعهد في كلام العرب ولم يستعمله العلماء إلا بعد ترجمة المنطق والعلوم الدخيلة وذلك عصر لم يدركه الإمام.وأقول لقد قرانا كلام أمير المؤمنين في غير النهج وأحطنا بالكثير منه في كتب لا إنها وصلت إلى المترجم بل ولا إلى سمعه فل نر أسلوب هذه الخطبة قصياً عن نهج الإمام ومسلكه ولا أظن ان المترجم اطلع على غير النهج من كلام أمير المؤمنين "ع" وعلم منه النهج والمسلك حتى يحكم بان هذا الأسلوب قصي عنهما ولا نعلم أي كلام للعرب قبل الإسلام وقف عليه لم يعهد فيه هذا الأسلوب وهم لم يخوضوا هذه المباحث ولم يصل إلينا شيء من كلامهم فيها وهذا المسلك والمنهج لو لم يكن معروفاً قبل أمير المؤمنين فلا يستبعد منه أن يكون هو المبتكر له ومنه تخذ وعلى مثاله احتذي.

وقال في(ص148)اقرأ هذه النبذة وتفهمها جيداً تحكم غير مرتاب انها من وضع عالم من علماء الكلام لا من كلام الإمام.

وأقول:ليته أشار إلى هذا العالم ولو في ضمن جماعة محصورين وهذا العالم لابد وأن يكون من الشيعة في زمان السيد أو قبله وجميع من نعرفه من الشيعة على كثرة أدبائهم وكتابهم لا نعرف أحداً يليق  أن ينسب إليه هذا الكلام بل لا تصح نسبته لغير أمير المؤمنين ولا يقتدر عليه سواه.

وقال أيضا في(ص147)وشيء آخر ننبهك إليه وهو قوله وكل قائم في سواه معلول فان علماء اللغة يخطئون الكلاميين في استعمال كلمة معلول ثم كلمة الأزل والأزلي والأزلية لا اصل لها في كلام العرب.

وأقول:أما كلمة الأزل فقد قدمنا الكلام عليها وذكرنا نصوص اللغويين فيها وان هذه اللفظة لو وجدت في كلام أي عربي لكانت حجة على علماء اللغة فضلاً عن كلام أمير المؤمنين "ع" وقد احتج الفاضل عبد الحميد على صحة أن يقال ابرق وارعد بقوله "ع" أبرقوا وأرعدوا.

وأما كلمة معلول فالكلام فيها طويل الذيل والقول الذي لا يتطرقه ريب أن يقال ان هذه اللفظة بمادتها وهيئتها موجودة في كلام العرب بمعنى يمكن التجوز فيه لأن باب المجاز واسع فإذا انتفى كون العلة لغة بمعنى السبب أمكن.يقال ان إطلاقها عليه من باب المجاز لأن السبب يؤثر في المسبب كتأثير العلة والمرض في البدن فاستعير له هذا اللفظ وقال في شرح القاموس العلة بالكسر معنى يحل بالمحل فيتغير به حال المحل وسمي المرض علة لأن بحلوله يتغير الحال من القوة إلى الضعف الخ وعلى هذا تكون العلة بمعنى المؤثر والمغير فيكون إطلاقها على السبب حقيقة.

ثم ان المترجم ذكر ان من بواعث الشك ما في النهج من كلام مسجع وفقر قصار ومن صناعة بديعية ونظام منسق لا يأتي عفو الخاطر وبديهة الارتجال.وقد تقدم منا الجواب.ويظهر ان المترجم كلما ازداد كلام النهج حسناً واشتمل على المحسنات البديعية يزداد بعداً عن احتمال صدوره عن الإمام وكانه لم يعلم ان كلامه إنما امتاز عن كلام غيره بما حوى من المحاسن والمحسنات وبذلك تفوق على كلام الخطباء ولو كان عاطلاً مثل كلام أهل عصره لما كان له ما كان.

ثم ذكر ان بعض المروي في النهج قد يوجد منسوباً لغيره ولا يستبعد أن يكون ذلك مأخوذا من كلامه "ع" أو من بعض من يرويه عنه من أصحابه ورواية السيد سيدة الروايات لأنه صيرفي الكلام ونيقده وهو اعرف بكلام جده وأسلوبه.

ثم ختم المترجم كتابه بكلام ابن أبي الحديد وجعله ممن يتعصب للنهج ويرى ان جميعه للإمام وبعد أن أورده بتمامه قال في آخر صفحة من كتابه(ص162)واعتقادنا ان نزوع ابن أبي الحديد هذه النزعة لانه ألف كتابه ذلك الوزير مؤيد الدين بن العلقمي وزير المستعصم العباسي وكان ابن العلقمي رئيس الشيعة في عصره انتهى كلام المترجم.

أقول:وهذا منه غير لائق في مثل عبد الحميد الذي لا يخفى على أمثال الأستاذ المترجم فضله وكماله فانه قد انتصر في موارد من كتابه لاهل السنة والجماعة وقد أنكر النص الصريح على خلافة أمير المؤمنين ولم يلحظ ابن العلقمي ولا غيره,ثم ان هذا المترجم الفاضل قد يعرض في مواضع من هذا الكتاب للشيعة,وينطق بما يجرح العواطف ويثير الشحناء والتفرقة بلا سبب موجب ولا اضطرار ملجأ ونحن في عصر يجب فيه التآلف والتناصر بين فرق المسلمين المحمديين ليكونوا يداً واحدة على أعدائهم الذين أحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم وملكوا أزمة بلادهم وأوطانهم ولا لوم على المترجم وحده فان له أمثالا في مصر وفي سوريا وفلسطين فلا زالت مؤلفاتهم وكتبهم تأتينا فلا نرى مصنفاً لهم خاليا من وخز أو طعن أو همز أو لمز ولا يثمر ذلك إلا البغضاء والنفرة والعداء والوحشة ولقد كان يقع بين علماء المسلمين في الأزمنة السابقة ردود ونقود وتعرض للمذاهب والأديان ذلك حيث كان المسلمون في عزة ومنعة وحيث كانوا يأملون أن يهتدي مهتد أو يتبصر متبصر أما ألان وقد علمنا ان ما اجهدوا به أفكارهم وأقلامهم لم يرجع به سني عن تسننه ولا شيعي عن تشيعه بل كل من الفريقين ثابت على مبادئه الدينية لا يردعه برهان ولا يصده دليل فالتعرض للمذاهب والأديان والحط من كرامة بعض دون بعض حيث لا يرجى بذلك إقلاع عن عقيدة ولا رجوع عن نحله لغو وعبث وضرب في حديد بارد(ونصيحتي)اليوم للعلماء والكتاب أن يطووا بسائط التعرض للأديان والمذاهب ولا ينظروا إلى ما جرى بين علماء الفرق من الرد والنقد والطعن والسباب فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ويكون واجبهم اليوم أم تحترم كل فرقة الأخرى ولا تتعرض لها إلا بما يوجب التعاطف والتكاتف ويكون الجميع يداً واحدة في حفظ كلمتي الشهادة وإعلاء منارها وليحترزوا من كيد الأعداء ودهائهم وخدعهم فانهم(يمزجون السم بالعسل ويسرون حسوا[9]في ارتغاء) والله حسبنا ونعم الوكيل.


[1] قال ابن أبي الحديد ص120 ج2 : إن التوحيد و العدل و المباحث الشريفة الإلهية ما عرفت إلا من كلام هذا الرجل ( يعني أمير المؤمنين "ع" ) وإن كلام غيره من أكابر الصحابة لم يتضمن شيئاً من ذلك أصلاً ولا كانوا يتصورونه ولو تصوروه لذكروه وهذه الفضيلة عندي من اعظم فضائله "ع" .   

[2] من الخلاصة للعلامة .

[3] إبن أبي الحديد في ص  3  ج 1.

[4] يوجد في مكتبتنا.

[5] من  كلام  محمد عبده في خطبة شرحه على النهج .

[6] من كلام السيد الرضي في خطبه .

[7] شرح ابن أبي الحديد ص256ج3.

[8] هو الأستاذ احمد زكي صفوة باشا أستاذ اللغة العربية بدار العلوم العليا.

[9] مثل يضرب لمن يظهر أمرا ويريد به غيره.