فصل ( لولا علي ما خلقت الجنة )
ثم
رفع مقامه بين النبيين والمرسلين ، إلا من هو منه في المقام مقام الألف المعطوف من اللام ، فقال : لولا علي ما خلقت جنتي ( 1 ) ، ولم
يقل لولا النبيين ما خلقت جنتي ، وذلك لأن النبيين جاؤوا بالشرائع ، والشرائع فرع من
الدين ، والتوحيد أصله ، والفرع مبني على الأصل ، والأصل مبني على الولاية ،
فالأصل والفرع من الدين مبني على حب علي ، فحب علي هو الدين والإيمان ، والجنة
تنال بالإيمان ، والإيمان ينال بحب علي ، فلولا حب علي لم يكن الإيمان ، فلم تكن
الجنة ، فلولا علي لم يخلق الله جنته ، فاعلم أن الإيمان بالنبيين والمرسلين لا
ينفع إلا بحب علي .
فصل أحبط
أعمال العباد بغير حبه ، فقال : لئن أشركت ليحبطن عملك ( 2 ) وكيف يشرك بالرحمن من
هو الأمان والإيمان ؟ ومعناه أنك إن ساويت بعلي أحدا من أمتك فجعلت له في الخلق
مثلا وشبها ، فلا عمل لك ، والخطاب له ، والمراد أمته .
فصل ثم جعل دخول الجنة بحبه وطاعته ، ودخول النار ببغضه ومعصيته ، فقال : لأدخلن
الجنة من أطاعه وإن عصاني ، ولأدخلن النار من عصاه وإن أطاعني ، وهذا رواه صاحب
الكشاف وقد مر ذكره . ‹ صفحة 188 ›
ثم أبان
من فضل وليه ما لم ينكره إلا من تولى وكفر ، فقال ( : قل لو كان البحر مدادا
لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ) ( 1 ) والكلمة
الكبرى علي بن أبي طالب عليه السلام وتحتها باقي الكلمات ، ثم أبان من فضله ما هو
أعلى وأكبر لمن تولى واستكبر ، فقال : ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر
يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ( 2 ) والكلمات كلها حروف الكلمة
الكبرى وداخلة تحتها ، وفائضة عنها ، وهي فائضة عن ذات الحق كفيض سائر الأعداد عن
الواحد ، ومبدأ الكلمات عن الألف ، الذي أبداه عالم الغيب وأبدى عنه سائر الحروف
والكلم ، فهو عليه السلام ألف الغيب ، وعين الوحدانية الكبرى ، التي أعرض عنها من
أدبر وتولى .
فصل ( علي السر في فواتح
السور )
ثم
إن الله سبحانه أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وآله أن عليا معه في السر المودع في
فواتح السور ، والاسم الأكبر الأعظم الموحى إلى الرسل من السر ، والسر المكتوب على
وجه الشمس والقمر والماء والحجر ، وأنه ذات الذوات ، والذات في الذات ، في الذات
للذات ، لأن أحدية الباري متنزهة عن الأسماء والصفات ، متعالية عن النعوت
والإشارات ، وأنه هو الاسم الذي إليه ترجع الحروف والعبارات ، والكلمة المتضرع بها إلى الله سائر البريات ، وأنه الغيب المخزون بين اللام
والفاء والواو والهاء والكاف والنون ، فقال سبحانه : ( حم عسق
كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك ) ( 3 ) قال الصادق : ( عسق
) فيها سر علي فجعل اسمه الأعظم مرموزا في فواتح القرآن وتحفه ( 4 ) . وإليك ‹
صفحة 189 › الإشارة بقوله : لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب ( 1 ) ، ومعناه لا صلاة
للعبد ولا صلة له بالرب ، إلا بحب علي ومعرفته .
فصل ثم إن
الملك العظيم الرحمن الرحيم ، صرح بهذا الشرف العظيم ، في الذكر الحكيم ، فقال في
السورة التي هي قلب القرآن ( يس ) ، وإنما سميت قلب القرآن لأن باطنها محتو على سر
محمد وعلي لمن عرف ، فقال سبحانه : يس * والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين ( 2 ) ،
والياء والسين اسم محمد ظاهرا وباطنا ، والياء والسين اسم علي لأن الولاية باطن
النبوة ، فقال : يا حبيبي يا محمد بحق اسمك واسم علي الظاهر والباطن في الياء
والسين ، إنك رسولي بالحق إلى سائر الخلق ( 3 ) .
ثم
صرح لنا أن الولي هو المحيط بكل شئ ، فهو محيط بالعالم
، والله من ورائهم محيط ، فقال : وكل شئ أحصيناه في
إمام مبين ( 4 ) فأخبرنا سبحانه أن جميع ما جرى به قلمه
وخطه في اللوح المحفوظ في الغيب ، أحصيناه في إمام مبين ، وهو اللوح الحفيظ لما في
الأرض والسماء ، هو الإمام المبين وهو علي ، فاللوح المحفوظ علي ، وهو أعلى وأفضل
من اللوح بوجوده . ( الأول ) لأن اللوح وعاء الخط وظرف السطور ، والإمام محيط
بالسطور وأسرار السطور ، فهو أفضل من اللوح . ( الثاني ) لأن اللوح المحفوظ بوزن
مفعول ، والإمام المبين بوزن فعيل ، وهو بمعنى فاعل ،
فهو عالم بأسرار اللوح ، واسم الفاعل أشرف من اسم المفعول ، ( الثالث ) أن الولي
المطلق ولايته شاملة للكل ، ومحيط بالكل واللوح داخل فيها فهو دال على اللوح
المحفوظ وعال عليه ، وعالم بما فيه ، ثم قال : علي صراط مستقيم ، أي يدل ويهدي إلى
الصراط المستقيم الممتحن به سائر الخلائق ، وهو حب علي
لأنه هو الغاية والنهاية . ‹ صفحة 190 ›
فصل ثم ذكر
في آخر هذه السورة آية فيها اسم الله الأعظم فقال : ( سلام قولا من رب رحيم ) ( 1
) ويخرج من تكسير حروفها السبيل ( 2 ) السلام أنا هو محمد ، ثم دلنا بعد هذا
المقام عظيم لنبيه على مقام آخر فيها لوليه ، وأنه هو كلمة الجبار ومنبع سائر
الأسرار ، ومطلع فائض الأنوار ، فقال : إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن
فيكون ( 3 ) ، فجعل وجوده الوجود ( 4 ) ، والموجود بين حرفي الأمر وهما الكاف
والنون ، وباطن الكاف والنون الاسم المخزون المكنون ، لمن عرف هذا السر المصون ،
وإليه الإشارة بقوله : ألا له الخلق والأمر ( 5 ) والخلق والأمر ( 6 ) هما العين
والميم ( 7 ) ، وذلك لأن ظهور الأفعال عن الصفات ، وتجلي الصفات عن الذات . ‹ صفحة
191 ›
ثم
إن الله سبحانه بشر رسوله بأنه قد رحم أمته ، وغفر ذنوبهم ، وأكمل دينهم ، وأتم
نعمته عليه ونصره ، وجعل هذه المقامات والكرامات والعطيات
كلها لعلي عليه السلام ، ونزل ذلك في آية واحدة من كتابه سبحانه وتعالى على رسوله
وعلى أمته ، فقال : ( إنا فتحنا لك فتحا مبينا ) ( 1 )
والفتح كان على يد علي ، ثم قال : ( ليغفر لك الله ما
تقدم من ذنبك وما تأخر ) ( 2 ) قال ابن عباس : إن الله حمل رسوله ذنوب من أحب عليا
من الأولين والآخرين إكراما لعلي فيحملها عنهم إكراما لهم فغفرها الله إكراما
لمحمد صلى الله عليه وآله ثم قال : ( ويتم نعمته عليك ) يعني بعلي ، وإليه الإشارة
والبشارة بقوله : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) ( 3 ) ثم قال : (
وينصرك الله نصرا عزيزا ) ( 4 ) وكان النصر في سائر المواطن بأسد الله الغالب
وسيفه الضارب ، ( ويهديك صراطا مستقيما ) . فهذا علي به
الفتح ، وعلى يده النصر وبحبه الغفران والآمال ، فكمال الدين وتمام النعمة على
المؤمن ، وبه الهداية وهو
الغاية والنهاية . وقلت : يا من به نصر الإله نبيه *
والفتح كان بعضده وبعضبه وكمال دين محمد بولائه * وتمام
نعمته عليه بحبه وذنوب شيعته غدا مغفورة * يرضى الإله لأنهم من حزبه والحافظ البرسي يا مولى الورى * يرجوك في يوم المعاد لذنبه ‹ صفحة 192
›
فصل ( وصف علي عليه السلام
في القرآن أعظم من وصف الأنبياء )
ثم
إن الله سبحانه وصف أنبياءه بأوصاف ووصف ولي نبيه بأعلى منها ، فقال في نوح : (
إنه كان ) عبدا شكورا ( 1 ) وقال في علي : ( وكان سعيكم مشكورا ) ( 2 ) وأين
الشاكر من مشكور السعي ؟ ووصف إبراهيم بالوفاء فقال : ( وإبراهيم الذي وفى ) ( 3 )
وقال في علي : ( يوفون بالنذر ) ( 4 ) ووصف سليمان بالملك فقال : ( وآتيناهم ملكا
عظيما ) ( 5 ) وقال في علي : ( وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا ) ( 6 ) ووصف
أيوب بالصبر فقال : إنا وجدناه صابرا ( 7 ) وقال في علي : وجزاهم
بما صبروا ( 8 ) ووصف عيسى بالصلاة والزكاة فقال : ( وأوصاني بالصلاة والزكاة ( 9
) وقال في علي : ( ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا ) ( 10 ) ووصف محمدا
بالعزة فقال : العزة لله ولرسوله ( 11 ) وقال في علي : وما لأحد عنده من نعمة تجزى
إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى ) ( 12 ) وقال في علي : ( إنما وليكم الله
ورسوله والذين آمنوا ( 13 ) ووصف الملائكة بالخوف فقال : ( يخافون ربهم من فوقهم
ويفعلون ما يؤمرون ) ( 14 ) وقال في ‹ صفحة 193 › علي : ( إنا نخاف من ربنا ) ( 1
) ووصف ذاته المقدسة بصفات الألوهية فقال : ( وهو يطعم
ولا يطعم ) ( 2 ) وقال في علي : ويطعمون الطعام على حبه ( 3 ) .
فصل ثم أمر
الله نبيه الكريم ورسوله الرؤوف الرحيم أن يرفعه إلى
المقام الكريم في التشريف والتعظيم ، فقال بعد أن بالغ في بليغ المقام : لو كانت
السماوات صحفا والبحار مددا والغياض أقلاما لنفد المداد
وفنيت الصحف وعجز الثقلان أن يكتبوا معشار فضل علي وهذا مر ذكره لكن أعدناه ثانيا
للحاجة إليه .
فصل ثم دل
على فضله النبي كما دل عليه الرب العلي فبين أن الأعمال لا توزن يوم المآل ولا
يبلغ بها الآمال إلا بحبه فقال : لو أن أحدكم صف قدميه
بين الركن والمقام ، يعبد الله ألف عام ، ثم ألف عام صائما نهاره قائما ليله فكان
له ملء الأرض ذهبا فأنفقه وعباد الله ملكا فأعتقهم ثم قتل بعد هذا الخير الكثير
شهيدا بين الصفا والمروة ثم لقي الله يوم القيامة جاحدا لعلي حقه لم يقبل الله له
صرفا ولا عدلا وزج بأعماله في النار . هذا أيضا مر ذكره .
فصل
ثم دل سبحانه على قرب عارفيه ومواليه من حضرة ربه وباريه فقال في حقه الرسول بعد
بليغ المقال : ( لو لم أخف لقلت ) ( 4 ) وهذا كمال المبالغة وغاية الشرف لأن ما لم
يقل أعظم مما قيل ، وهذا مثل قوله سبحانه بعد أن مدح الجنة ووصفها فقال : ( فلا
تعلم نفس ما أخفي لهم ) ( 5 ) وإذا كانت الجنة وهي دارة علي لا توصف فكيف يوصف
صاحب الدار .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
‹ هامش ص 187 › ( 1 ) - وفي لفظ : ( لولانا لم يخلق الله الجنة ولا
النار ولا الأنبياء ) البحار : 26 / 349 ح 23 . ( 2 ) - الزمر : 65 . ‹ هامش ص 188
› ( 1 ) - الكهف : 109 . ( 2 ) - لقمان : 27 . ( 3 ) - الشورى : 3 . ‹ هامش ص 189
› ( 1 ) - صحيح مسلم : 1 / 295 ح 595 كتاب الصلاة . ( 2 ) - يس : 1 . ( 4 ) - يس :
12 . ‹ هامش ص 190 › ( 1 ) - يس : 58 . ( 2 ) - كذا في المطبوع ا لسابق ، ولكنه
جاء في النسخة الخطية ( السيد ) . ( 3 ) - يس : 82 . ( 4 ) - في النسخة الخطية
وجود الجود . ( 5 ) - الأعراف : 54 . ( 6 ) - في المخطوطة ( في الأمر ) . ( 7 ) -
في المخطوطة ( العين في الميم ) . ‹ هامش ص 191 › ( 1 ) الفتح : 1 . ( 2 ) الفتح :
2 . ( 4 ) المائدة : 3 . ( 4 ) الفتح : 3 . ‹ هامش ص 192 › ( 1 ) الإسراء : 3 . (
2 ) الإسراء : 19 . ( 4 ) النجم : 37 . ( 4 ) الإنسان : 7 . ( 5 ) النساء : 54 . (
7 ) الإنسان : 20 . ( 7 ) ص : 44 . ( 8 ) الإنسان : 12 . ( 01 ) مريم : 31 . ( 01
) الإنسان : 26 . ( 11 ) المنافقون : 8 . ( 12 ) الليل : 19 . ( 13 ) المائدة : 55
. ( 14 ) النحل : 50 . ‹ هامش ص 193 › ( 1 ) الإنسان : 10 . ( 3 ) الأنعام : 14 .
( 3 ) الإنسان : 8 . ( 4 ) وهو قوله : ( لولا أني أخاف . . . لقلت اليوم فيها فيك
مقالة لا تمر بملأ إلا أخذوا تراب نعليك ) البحار : 25 / 284 ح 35 . ( 5 ) السجدة
: 17 .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
وأما مقامه
عند الملائكة المقربين ورفعته عند جبرائيل الأمين فإنه كان يلزم ركاب علي إذا ركب
ويسير معه إذا سار ويقف إذا وقف ويكبر إذا كبر ويحمل إذا حمل لأنه خادمه والخادم
يدين بطاعة المخدوم ، وهو مع رفعته في السماء وحمله للرسائل إلى الأنبياء فإنه
فقير علي لأنه وقف ببابه سائلا فقال : ( مسكينا ويتيما وأسيرا ) فهذا سر الأسرار ،
وآية الجبار ، الذي ينفد عند عد فضائله رمل القفار ، وورق الأشجار ، فلأنه إمام
الأبرار ، ووالد السادة الأطهار ، وقسيم الجنة والنار ، سنان النبوة ، ولسان
الفتوة ، وختام الرسالة ، وبيان المقالة ، ينبوع الحكمة ، وباب الرحمة ، يعسوب
الدين والحكمة ، ومعدن الطهارة والعصمة ، مريخ الانتقام وكيوان
الرفعة والاحتشام ، كاسر قناة الغواية ، وسفينة النجاة والهداية
وصاحب الخلافة والألوية من البداية إلى النهاية ، وقلت : يا أيها المولى الولي ومن
له * الشرف العلي ومن به أنا واثق لا أبتغي مولى سواك
ولا أرى * إلا ولاك ومن عداك فطالق عين العلى بك أشرقت أنوارها * صار الصفى من بحر جودك دافق يا كاف الكل يا هاء الهدى * يا فلك
نوح واللواء الخافق من قبل خلق الخلق أنت رضيتني * عبدا
وما أنا عبد سوء آبق ونقلت من صلب إلى صلب على * صدق الولا
وأنا المحب الصادق كم يعذلوني في هواك تعنفا * أنا عاشق أنا عاشق أنا عاشق هذه شمة من أزهار أسرار إمام الأبرار ورشحة
من نثار زخار منبع الأسرار ، فقل للمنكر والمرتاب
والكفور : موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور .
آل
محمد صلوات الله عليهم أجمعين صفات الديان ، وصفوة
المنان ، وخاصة الرحمن وسفراء الغيب والقرآن ، فليس للخلق على عظمتهم نسبة ، ولا
بعظيم جلالهم معرفة ، فمعرفة العامة لعلي أنه ‹ صفحة 195 › فارس الفرسان ، وقاتل
الشجعان ومبيد الأقران ، ومعرفة الخاصة له أفضل من فلان وفلان ، فلذلك إذا سمعوا
أسراره أنكروا واستكبروا وذهلوا وجهلوا وهم في جهلهم غير ملومين لأنهم لو عرفوا أن
محمدا هو الواحد المطلق ، وأن عليا هو العلي المطلق ، فلهما الولاية على الكل ،
والسبق على الكل ، والتصرف في الكل ، لأنهما العلة في وجود الكل ، فلهما السيادة
على الكل ، لكنهما خاصة إله الكل ، وعبدي إله الكل ، ومختاري
معبود الكل ، سبحانه إله الكل ، ورب الكل ، وفالق الكل ، ومفضل محمد وعلي على الكل
، والمستعبد بولايتهم وطاعتهم الكل ، فمن عرف من مراتب الإبداع والاختراع هذا
القدر وتدبره ، عرف مقام آل محمد وخبره ، وإليه الإشارة بقوله : ( ولو ردوه إلى
الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) ( 1 ) لكنهم ردوه وما دروه فأنكروه وما عرفوه ومن جاءهم بشئ
منه كذبوه وكفروه ، وهذا شأن أهل الدعوى أنهم لم يزالوا منغمسين في حياض التكذيب ،
فيا وارد السراب دون الشراب ، والقانع بالعذاب دون الغلل
العذاب ، هذا إبليس ( لعنه الله ) عدو الرحمن وهو يجري مجرى الدم في كل إنسان
ويعلم خواطر القلوب ووساوس الصدور وهواجس النفوس ، وإليه الإشارة بقوله : ( أومن
ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) ( 2 ) ، وهو محيط بالخلائق مع جنوده ،
وهذه صفات الربوبية ، فانظر إلى المنافق والمرتاب والمعدم إذا ذكرت خواص إبليس قال
مسلم ، وإذا ذكرت خواص علي أنكر واستعظم وطعن في قائلها وتوهم ، وهو أحق بالطعن
وأوصم ، ثم يزعم بعد ذاك أنه آمن وأسلم ، كلا والليل إذا أظلم والصبح إذا تبسم ،
فيا مدعي اليقين وهو منغمس في شكه ، ويا طالب الخلاص وهو مرتبط في شرك شكه ، هذا جامسب ( 3 ) الحكيم ، قد وضع كتاب القرانات
، وتحدث فيه على المغيبات ، وذكر فيه ظهور الأنبياء إلى آخر الدهر ، وتاريخ هذا
الكتاب 2211 سنة ، وقد ذكر فيه الملوك والدول من أيام زرادشت
إلى انقراض العالم ، وتحدث فيه على الغيب فما أخطأ . ‹ صفحة 196 ›
وهذا
سطيح أيضا قد نطق بالمغيبات ، وذكر ملة الإسلام قبل
وصولها ، وتحدث على حوادث الدهر إلى أيام المهدي ، والكتابان مشهوران ( 1 ) يتداولهما الملوك والعلماء ، ولم يخطئوا في النقل عنهم ، فأما
أخبار سطيح فقد رواها كعب بن الحارث ، قال : إن ذا يزن
الملك أرسل إلى سطيح لأمر لا شك فيه ، فلما قدم عليه
أراد أن يجرب علمه قبل حكمه ، فخبأ له دينارا تحت قدمه ، ثم أذن له فدخل ، فقال له
الملك : ما خبأت لك يا سطيح
؟ فقال سطيح : حلفت بالبيت والحرم ، والحجر الأصم ،
والليل إذا أظلم ، والصبح إذا تبسم ، وكل فصيح وأبكم ، لقد خبأت لي دينارا بين
النعل والقدم ، فقال الملك : من أين علمك هذا يا سطيح ؟
فقال : من قبل أخ لي جني ينزل معي إذا نزلت ، فقال الملك : أخبرني عما يكون في
الدهر ؟ فقال سطيح : إذا غارت الأخيار ، وغازت الأشرار ، وكذب بالأقدار ، وحمل المال بالأوقار ، وخشعت الأبصار لحامل الأوزار ، وقطعت الأرحام ،
وظهر الطعام لمستحلي الحرام في حرمة الإسلام ، واختلفت الكلمة ، وغفرت الذمة ،
وقلت الحرمة ، وذلك منذ طلوع الكوكب ، الذي يفزع العرب ، وله شبه الذنب ، فهناك
تنقطع الأمطار ، ثم تقبل البرر ( الهزبرخ
) بالرايات الصفر على البرازين البتر ، حتى ينزلوا مصر
، فيخرج رجل من ولد صخر ، فيبدل الرايات السود بالحمر ، فيبيح المحرمات ، ويترك
النساء بالثدايا معلقات ، وهو صاحب نهب الكوفة ، قرب
بيضاء الساق مكشوفة ، على الطريق مردوفة ، بها الخيل محفوفة ، قد قتل زوجها ، وكثر عجزها ، واستحل فرجها
، فعندها يظهر ابن النبي المهدي ، وذلك إذا قتل المظلوم بيثرب وابن عمه في الحرم ،
وظهر الخفي فوافق الوسمي ، فعند ذلك يقبل المشوم بجمعه المظلوم ، فيطاهي
الروم ويقتل القروم ، فعندها ينكسف
كسوف إذا جاء الزخوف وصف الصفوف ، ثم يخرج ملك من اليمن
من صنعاء وعدن أبيض كالشطن ، اسمه حسين أو حسن ، فيذهب
بخروجه غمر الفتن ، فهناك يظهر مباركا زكيا ، وهاديا مهديا ، وسيدا علويا ، فيفرح
الناس إذا أتاهم بمن الله الذي هداهم ، فيكشف بنوره الظلماء ، ويظهر به الحق بعد الخفاء ، ويفرق الأموال في الناس بالسواء ، ويغمد السيف فلا يسفك الدماء ، ويعيش ‹ صفحة 197 ›
الناس في البشر والهناء ، ويغسل بماء عدله عين الدهر من القذى ، ويرد الحق على أهل
القرى ، ويكثر في الناس الضيافة والقرى ، ويرفع بعدله الغواية والعمى ، كأنه كان
غبارا فانجلى ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا ، والأيام حبا ، وهو علم الساعة بلا امتراء
( 1 ) . هذا كلام سطيح وإخباره بالغيب في قديم الأيام ،
وليس بنبي ولا إمام ، وأنت بالمرصاد في تكذيب أحاديث علي وعترته
، تكذب ما نطقوا به من الغيب . أليس هو القائل وقوله
الحق : ( إن بين جنبي علما جما آه لو أجد له حملة ) ( 2 ) ، وقوله : لقد احتويت
على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطوي ( 3 ) . وليس ذلك
علم الشرع ، وإلا لوجب عليه تعليمه ، ولكن غامض الأسرار
التي قال فيها : ( ولكن أخاف أن تكفروا بي وبرسول الله
صلى الله عليه وآله ) ( 4 ) . وقد روى أبو عبيدة الحذاء ، عن أبي جعفر عليه السلام
رحمهم الله عليه السلام ( أنه قال : إن أحب أصحابي إلي أمهرهم وأفقههم في الحديث ،
وإن أسوأهم وأكثرهم عنتا ومقتا الذي إذا سمع الحديث يروى إلينا وينقل عنا لم يعقله
عقله ، ولم يقبله قلبه ، واشمأز من سماعه وكفر به وجحده
، وكفر من رواه ودان به ، فصار بذلك كافرا بنا وخارجا
عن ولايتنا ( 5 ) .
فصل ومن
ذلك ما رواه صاحب الأمالي عن ابن عباس ، عن رسول الله
صلى الله عليه وآله أنه قال : ( يا علي إن الله أكرمك كرامة لم يكرم بها أحدا من خلقه ، زوجك الزهراء من فوق عرشه ، وأكرم محبيك
بدخول الجنة بغير حساب ، وأعد لشيعتك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ووهب لك حب المساكين في الأرض ، فرضيت بهم شيعة ، ورضوا بك إماما ،
فطوبى لمن أحبك ، وويل لمن أبغضك . يا علي أهل مودتك كل أم أو أب حفيظ ، وكل ذي طمرين لو أقسم على الله لأبر قسمه . يا علي شيعتك تزهر لأهل
السماء كما تزهر الكواكب لأهل الأرض ، تفرح بهم ‹ صفحة 198 › الملائكة ، وتشتاق
إليهم الجنان ، ويفر منهم الشيطان . يا علي محبوك جيران الله في الفردوس الأعلى .
يا علي أنا ولي لمن والاك ، وعدو لمن عاداك . يا علي حربك حربي وسلمك سلمي . يا
علي بشر أولياءك أن الله قد رضي عنهم ورضوا بك . يا علي شيعتك حزب الله وخيرة الله
من خلقه . يا علي أنا أول من يحيى وأول من يكسى ، غدا تحيى إذا حييت ، وتكسى إذا
كسيت ) ( 1 ) . ‹ صفحة 199 ›
اعلم
بعد ثبوت هذه الشواهد ، وصدق الشاهد بهذه المشاهد ، أن أهل الإسلام افترقوا على
ثلاث وسبعين فرقة ، وسيأتي تفصيلها فيما بعد في مكانه ، وأصل هذه الثلاث والسبعين
ثلاثة : الأشعرية ، والمعتزلة ، والإمامية
. والأشعرية ، والمعتزلة أنكروا الإمامة من أصول الدين
، وأثبتها الإمامية الاثنا
عشرية من الشيعة ، لأن الله اختار محمدا واختار شيعة آل محمد صلى الله عليه وآله ،
وآل محمد سفينة النجاة . فالشيعة كسفينة النجاة راكبون وراءهم ، قالوا إن الإنسان
لو آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ، ووالى عليا وعترته
، فإنه ناج بالإجماع ، لأن خلافة الرجلين لم يأت بها
الكتاب ولا السنة ، لكنها بزعمهم إجماع من الناس ، وما لم يأمر الكتاب ولا السنة باتباعه فلا يضر جهله ، لكنه لو عرف الأول ووالاه ، ولم يعرف
عليا وعاداه ، فإنه هالك بالإجماع ، وإليه الإشارة بقوله : فمن تبعني فإنه مني ( 1
) ، وإليه الإشارة بقوله : ( أنت مني وأنا منك ) ( 2 ) ، ( حزبك حزبي وشيعتك شيعتي ) ( 3 ) ، فمن كان من علي كان من محمد عليهما السلام ،
ومن كان من شيعة محمد كان من حزب الله الناجي .
. . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹
هامش ص 195 › ( 1 ) النساء : 38 . ( 2 ) الزخرف : 18 . ( 3 ) في المطبوع جامبست . ‹ هامش ص 196 › ( 1 ) في المخطوط والمطبوع والكتابين
مشهورين . ‹ هامش ص 197 › ( 1 ) بحار الأنوار : 51 / 162 بتفاوت بسيط . ( 2 ) تقدم
الحديث . ( 3 ) في المصادر في الطوي البعيدة ، نهج
البلاغة : 52 الخطبة 5 ، والتذكرة الحمدونية : 1 / 91 ح
166 . ( 5 ) بحار الأنوار : 25 / 365 ح 6 . ( 6 ) نهج البلاغة : 250 الخطبة 175 .
‹ هامش ص 198 › ( 1 ) فضائل الصحابة لأحمد : 2 / 663 ح 1131 ، وكنز العمال : 13 /
156 ح 36482 والطرائف : 1 / 108 . ‹ هامش ص 199 › ( 1 ) يوسف : 108 . ( 2 ) فتح
الباري بشرح صحيح البخاري : 7 / 90 ح 3707 والطرائف : 1 / 103 بتحقيقنا . ( 3 )
بحار الأنوار : 40 / 53 ح 88 و : 25 / ح 6 . ( 4 ) بحار الأنوار : 37 / 346 ح 3
ضمن حديث طويل .
. . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومما يعاضد هذا ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لرجل من
همدان وقد تعلق بثوبه وقال : حدثني حديثا جامعا أنتفع به ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : حدثني رسول الله
صلى الله عليه وآله : إني أورد أنا وشيعتي الحوض ،
فيصدرون رواء ، ويمرون مبيضة وجوههم ، ويرد أعداؤنا ظماء
مظمئين مسودة وجوههم ، خذها إليك قصيرة من طويلة يا أخا همدان
، أنت مع من أحببت ، ولك ما كسبت ، ألا وإن شيعتي يناديهم الملائكة يوم القيامة : من أنتم ؟ فيقولون :
نحن العليون ، فيقال لهم : أنتم آمنون ادخلوا الجنة مع
من كنتم توالون ( 4 ) . وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : إذا كان يوم
القيامة نادى مناد : يا أهل الموقف هذا علي بن أبي ‹ صفحة
200 › طالب عليه السلام خليفة الله في أرضه وحجته على عباده ، فمن تعلق بحبه في
الدنيا فليتعلق به اليوم ، ألا من ائتم بإمام فليتبعه
اليوم وليذهب إلى حيث يذهب ( 1 ) . يؤيد هذا قوله عليه السلام : كما تعيشون تموتون
( 2 ) ، وكما تموتون تبعثون ، وكما تبعثون تحشرون . والإنسان مع من أحب ، وشيعة
علي عاشوا على حبه فوجب أن يموتوا عليه ، فوجب أن يبعثوا عليه . أصدق الحديث وحب
علي الصراط المستقيم ، والنجاة من العذاب الأليم . فالشيعة على الصراط المستقيم ،
وهذه فرقة النجاة ، وشيعة الحق أجمعوا على أن الإمامة فرض واجب تعيينه على الله
ورسوله لإجماع الناس على الحق ، وميلهم عن الباطل ، مع وجود السياسة الشرعية
والسياسة الإلهية ، وحيث إن الإمام المعصوم فيهم فالإجماع فيهم ، واستدلوا بقوله
صلى الله عليه وآله : ( من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية ) ( 3 ) .
فتعين لصدق البرهان أن الحق معهم ، وأن الباطل في الطرف الآخر.
فصل ( الاختلاف بعلي لا
بالنبي )
لكن هؤلاء
أهل الحق والنجاة لم يثبتوا للإمام إلا أنه معصوم واجب الطاعة ، وأنه أفضل من فلان
وفلان ، فهم في فصول التوحيد الداخلة تحت جنسه وبحضرته الجليلة والخفية لم يختلفوا
، وكذا في أبحاث النبوة وسرائرها وغامض البحث عنها ، وأما في فصول الإمامة الداخلة
تحت جنسها العالي وأنواعها ، فإنهم ينكرون الأكثر من ذلك ويكتفون منها بما ذكر ،
وينسبون الباقي إلى قول الغلاة ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله : ( ما
اختلفوا في الله ولا في وإنما اختلفوا فيك يا علي ) . ( 4 ) فإذا قلت لهم : ما
التوحيد وما جنسه . ما فصوله . ما القدر الواجب من معرفته ؟ قالوا : أما الجنس من
التوحيد فإن تعرف أن الله تعالى موجود واجب الوجود ، وإذا كان واجب الوجود فهو هو هو والذي هو لم يزل ولا يزل ، وأما فصل التوحيد فالسلب
والإيجاب ، أما الإيجاب فلن تثبت للحي المعبود ‹ صفحة 201 › من الصفات ما يجب
إثباته ، وأما السلب فإن تنفي عن ذاته المقدسة ما يجب نفيه ، كل ذلك بالدليل ، ومن
لم يعرف من التوحيد هذا القدر فليس بموحد !
فصل إذا
قلت لهم يوما النبوة ما جنسها ؟ وما فصولها وما الواجب من معرفتها ؟ قالوا : إن
النبي المرسل هو المبعوث إلى الناس كافة ، المخبر عن الوحي السماوي بواسطة الملك ،
وأما فصولها فالعصمة وطهارة المولد ، وأنه لا نبي بعده . ‹ صفحة 203 ›
وكل
ما يجب اعتقاده من فصول التوحيد ونبوة محمد صلى الله عليه وآله يجب اعتقاده في باب
الإمامة ، لأن القول في الإمامة كالقول في التوحيد والنبوة ، لأن الإمامة جامعة
للتوحيد والنبوة ، فمن أنكر شيئا مما يوجب عليه إثباته من باب التوحيد فليس بمؤمن
، وكذا من أنكر شيئا مما وجب عليه إثباته في باب الإمامة فليس بموال ، لأن إنكار
الجزء من الواجب كإنكار الكل ، فما لنا [ نأخذ طرفا من ] خصائص العصمة ، وسندها عن
المعصوم ، الذي يجب تصديقه فيما صح نقله عنه ، ثم نصدق بعضها وننكر بعضها ، بغير
مرجع فنصدق ما أدركته عقولنا ، وننكر ما غاب عنا معرفته . ثم نقول لقصور أفهامنا عن إدراك ذلك ، يكفينا في باب الإمامة أن نعرف أن
الإمام معصوم مفترض الطاعة ، فهلا كفانا هذا في باب التوحيد أن نعرف وجوب الوجود
للحق سبحانه وتعالى ، ولا نحتاج في باقي الصفات ، وكيف لم يجز هذا في باب التوحيد
؟ ويجوز في الإمامة ، ونقول في الدعاء المنقول عنهم عليهم السلام ( اللهم إني
أدينك بدينهم وولايتهم والرضى بما فضلتهم به ، غير منكر ولا مستكبر ) ( 1 ) . والتفضيل هنا ليس هو
القدر الذي به الاشتراك من النبوة والولاية بينهم وبين
من تقدم من الأنبياء والأولياء ، ولكنه الأمر الذي لم يختص به
سواهم مما بهر عيون العقول فأعماها ، ورمى مقاتل الأفهام
فأصماها ، ثم إذا تليت علينا آيات فضلهم بما لا تناله أيدي أفهامنا
أنكرنا واستكبرنا ، فنحن إذا مع تعبدنا بأقوالهم مع تخالج الشكوك في اعتقادها
نتعبد بما لا نعرف ، أو بما لا نعتقد ، والتعبد بغير المعرفة ضلال ، وبغير
الاعتقاد وبال ، لأن من استكبر فقد أنكر ، ومن أنكر لم يرض ، ومن لم يرض لم يطع ،
ومن لم يطع لم يوال ، ومن لم يوال لا دين له ، ومن لا دين له فهو كافر ، فمن أنكر
من لوازم الإمامة وأسرارها ما يجب المولى المطلق إثباته مما وردت به النصوص عنهم ولو حرفا واحدا فهو كافر . ‹ صفحة 204 ›
وبيان
المدعى أنا نقول في تعريف الإمامة وبيان جنسها وفصولها : الإمامة رئاسة عامة . هذا
جنس يقتضي فصولا أربعة : التقدم ، والعلم ، والقدرة ، والحكم ، وإذا انتقصت هذه
الفصول انتقص الجنس ، فلا تعريف ، إذا فلا معرفة ، فلا رياسة عامة فلا إمامة ، وهي
رياسة عامة ، فالولي هو المتقدم العام الحاكم المتصرف على الإطلاق بالنسبة إلى
الخلق . أما تقدمه فلأن الولاية هي العلة الغائية في كمال الأصول والفروع ،
والمعقول والمشروع ، فلها التقدم بالفرض والتأخر بالحكم ، لأن الولي المطلق هنا هو
الإنسان الذي يلبسه الله خلعة الجمال والكمال ، ويجعل قلبه مكان مشيئته وعلمه ،
ويلبسه قباء التصرف والحكم ، فهو الأمر الإلهي في العالم البشري ، فهو كالشمس
المنيرة التي جعل الله فيها قوة النور والحياة ، والإشراق والإحراق ، فهي الضوء
لأهل الدقور ، وإليه الإشارة بقولهم : ( الحق مقاماتك
وآياتك وعلاماتك ، لا فرق بينها وبينك ) ( 1 ) . التأنيث في الضمير راجع إلى ذواتهم التي هي صفات الحق والجمال المطلق ، وقوله : ( إلا
أنهم عبادك ) ( 2 ) ، الضمير هنا عائد إلى أجسادهم المقدسة ، وهياكلهم المعصومة
المطهرة التي هي وعاء الأمر الإلهي ، وجمال النور القدسي . وسبب الفرق والنفي موجب
لثبات خواص الربوبية لهم ، لأن الرب القديم جل جلاله حكم عدل نافذ الحكم ، غني عن
الظلم ، لا يتوهم ولا يتهم ، والولي المطلق كذلك . وهذه الصفات كلية ، والكلي لا
يمنع من وقوع الشركة ، لأنه مقول على كثيرين مختلفين بالحقائق ، فالله سبحانه حكمه
في العدل وعدله وغناه عن الظلم لذاته من غير استفادة ، والولي عدله وحكمته وعصمته
خص من الله وتأييد له بتلك القوى الإلهية والصفات الربانية ، وإليه الإشارة بقولهم
: ( إلا أنهم عبادك وخلقك ) ( 2 ) ، لأن هذا الاستثناء فارق بين الرب والعبد ، لأن
الرب المعبود سبحانه علمه وقدرته ، وقدمه وغناه عن خلقه ، غير مستفاد من إله آخر
بل هي صفات ذاته ، لأن واجب الوجود وجوب ‹ صفحة 205 › وجوده يقتضي صفات الألوهية ، والإمام الولي قدرته وعلمه وحكمه وتصرفه في العالم
من الله اختاره ، فقدمه وارتضاه فحكمه ، ما اختار وليا جاهلا قط ، فوجب له بهذه
الولاية العامة التقدم والعلم والتصرف ، والحكم والعصمة عن الخطأ والظلم . أما
التقدم فلأن الولي حجة الله ، والحجة يجب أن يكون قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق
، وأما العلم فلأن الولي هو العلم المحيط بالعالم ، فلا يخفى عليه شئ مما غاب وحضر إذا لو خفي عنه شئ
لجهل وهو عالم ، هذا خلف . دليله : ما رواه المفضل بن عمر عن أبي عبد الله عليه
السلام أنه قال : يا مفضل ، إن العالم منا يعلم حتى تقلب جناح الطير في الهواء ،
ومن أنكر من ذلك شيئا فقد كفر بالله من فوق عرشه ، وأوجب لأوليائه الجهل ، وهم حلماء علماء أبرار أتقياء . ( 1 ) وذلك أن الولي لا يجوز أن
يسأل عن شئ وليس عنده علمه ، ولا يجوز أن يسأل عن شئ ولا يعلمه ، والقرآن قد شهد له بذلك ، وإليه الإشارة بقوله
: ( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ) ( 2 ) ، والمراد به الولي . ولفظ العموم هنا مخصص للأولياء ، وليس في العطف
تباعد وتراخ ، وكلما يجري في العالم الذي أبرزه الله إلى الوجود من عالم الغيب
والشهادة أخبر القرآن أن الله يراه ورسوله ووليه ، ومن أصدق من الله حديثا . وإليه
الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله : إنك تسمع ما أسمع ، وترى ما أرى ( 3 ) ، فقوله
( تسمع ما أسمع ) هذا جار في الأوصياء كافة ، وقوله : ( ترى ما أرى ) ، هذا مقام
خص به علي عليه السلام . وإليه الإشارة بقوله : ( هذا
كتابنا ينطق عليكم بالحق ) ( 4 ) ، والكتاب علي ، ومنه قوله : ( ولدينا كتاب ينطق
بالحق ( 5 ) ، والكتاب الناطق هو الولي ، وإليه الإشارة بقوله : وما تعملون من عمل
إلا كنا عليكم شهودا ( 6 ) ، وذلك لأنه ليس بين الله وبين رسوله سر ، وكيف وهو
بالمقام الأعلى ‹ صفحة 206 › والمكان الأدنى ؟ وليس بينه وبين رسول الله ووليه سر
، وهذا رمز ، وحله أن ليس بينهم وبين الله واسطة من الخلق ، ولا أول في السبق ،
ولا أقرب إلى حضرة الحق ، لأنهم الخلق الأول والعالم الأعلى ، والكل تحت رفعتهم ،
لأن الأعلى محيط بالأدنى في ضرورة الولي يعلمه ، وإليه الإشارة فكل ما أبرزه الله
من الغيب وبسطه قلمه في اللوح المحفوظ فإن النبي والولي يعلمه ، وإليه الإشارة
بقوله صلى الله عليه وآله : ( إن الله أطلعني على ما شاء من غيبه وحيا وتنزيلا
وأطلعك عليه إلهاما ، وإن الله خلق من نور قلبك ملكا فوكله باللوح المحفوظ ، فلا
يخط هناك غيب إلا وأنت تشهده ( 1 ) . فالنبي والولي
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
‹ هامش ص 199 › ( 1 ) يوسف : 108 . ( 2 ) فتح الباري بشرح صحيح
البخاري : 7 / 90 ح 3707 والطرائف : 1 / 103 بتحقيقنا . ( 3 ) بحار الأنوار : 40 /
53 ح 88 و : 25 / ح 6 . ( 4 ) بحار الأنوار : 37 / 346 ح 3 ضمن حديث طويل . ‹ هامش
ص 200 › ( 1 ) الجواهر السنية للحر العاملي : 272 . ( 2
) عوالي اللئالي : 4 / 72 .
( 3 ) غيبة النعماني : 80 - 86 . ‹ هامش ص 203 › ( 1 )
بحار الأنوار : 86 / 9 ح 8 ولا يوجد فيه : بدينهم بل : بطاعتهم . ‹ هامش ص 204 › (
1 ) البحار : 95 / 393 ، والإنسان الكامل : 128 . ( 2 ) إقبال الأعمال : 3 / 214 .
والبحار 95 / 393 ‹ هامش ص 205 › ( 2 ) التوبة : 105 . ( 3 ) تقدم الحديث . ( 4 )
الجاثية : 29 . ( 5 ) المؤمنون : 63 . ‹ هامش ص 206 › ( 1 ) في البحار : 26 / 4 ح
1 : ( أنا صاحب اللوح المحفوظ ألهمني الله علم فيه ) . ( 2 ) وذلك لقرب الناس في
زمن النبي ص إلى الجاهلية ولسعيه إلى تثبيت الإسلام وقواعده . ( 3 ) ظاهر الآية
نسبة العجلة إلى النبي وهو ينافي عظمته صلى الله عليه وآله وسلم وتوضيح ذلك : أن
الناس في الجاهلية الجهلاء ، ولن تتحمل نسبة العلم إلى النبي ص بلا توسط الوحي
بينه وبين الله ، إما لأن الأنبياء يوحى إليهم عادة . وإما لقرب عهدهم بالجاهلية
وعدم معرفتهم المعرفة الحقيقية للنبي الأعظم ، حتى أنهم كانوا ينادونه من وراء
الحجرات باسمه . وهم مع أنه ص أبرز لهم مسألة الوحي ، كذبوه وقالوا : هذا من عنده
، أو من عند سليمان الفارسي . فكيف لو لم يبرز لهم الوحي وجبرائيل عليه السلام ؟
وما يشير إلى ذلك أن النبي ص عندما كان يأتيه الوحي ، كان يقول جاء جبرائيل ، وذهب
جبرائيل ، وأخبرني جبرائيل عن الله تعالى ، وما شابه ذلك وما ذاك إلا للتأكيد أن
هناك إلها ودينا وإسلاما ورسالة من السماء . ومن هنا نفهم الآيات والروايات التي
تحدثنا أن النبي ص لم يكن يعطي الجواب حتى ينزل الوحي ، فهو كان يعلم الجواب ،
ولكن يريد أن يغرز في نفوسهم فكرة الوحي من السماء . قال تعالى : ( ولا تعجل
بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) طه : / 114 فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم
قبل أن ينقضي الوحي من السماء عليه ، كان مستعدا أن يقرأ على الناس القرآن ، بل
تقدم علمه للقرآن منذ عالم الأنوار . ونسبة العجلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم
لم يكن المراد بها حتى أن التوقيت غير مناسب ، بل
لإبراز أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم بالقرآن وآياته قبل أن ينزل
عليه جبرائيل ، وبالتالي تكون الآية دليلا على ما نذكره وذكرناه سابقا أن جبرائيل
كان يذكره بالقرآن تذكيرا لا يجتمع مع النسيان . إن قيل : يحتمل في الآية أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعجل بالقرآن فيتلو الآية الأولى أو مطلعها قبل أن
يكملها جبرائيل أو قبل أن ينتهي من السورة . قلنا : فعل النبي الأعظم صلى الله
عليه وآله وسلم هذا إما مع التفاته إلى بقية الآيات التي يكملها جبرائيل ، وإما مع
عدم التفاته لها . فعلى الأول لا معنى للنهي عن العجلة . وعلى الثاني يكون النبي مفوتا للوحي ومضيعا لبعض الآيات ، ولا قائل به إلا من سفه قوله قال الشيخ الطبرسي
في الآية : لا تحرك به لسانك لتجعل قراءته بل كررها
عليهم ليتقرر في قلوبهم فإنهم غافلون عن الأدلة ، ألهاهم حب العاجلة فاحتاجوا إلى
زيادة تنبيه وتقرير ( مجمع البيان : 10 / 603 مورد الآية - القيامة : 16 ) . وقال
سيد المفسرين : ويؤول المعنى إلى أنك تعجل بقراءة ما لم ينزل بعد ، لأن عندك علما
في الجملة ، لكن لا تكتف به واطلب من الله علما جديدا
بالصبر واستماع بقية الوحي . وهذه الآية مما يؤيد ما ورد من الروايات أن للقرآن
نزولا دفعة واحدة غير نزوله نجوما على النبي صلى الله عليه وآله وسلم فلولا علم ما
منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم ينزل منه بعد معنى ( تفسير الميزان
: 14 / 215 مورد الآية - طه : 114 ) . وقد أبطل السيد الطباطبائي
نسبة عجلة النبي ص في القراءة قبل انتهاء جبرائيل . ( تفسير الميزان : 20 / 110
مورد الآية - القيامة : 16 ) . * أقول : عندي أن معنى الآية : أن النبي ص كان يقرأ
القرآن على الناس أو كان يبلغ بعض أحكامه ومعانيه للناس مرة واحدة ، وذلك قبل أن
ينزل الوحي عليه به وقبل أن ينقضي إليه ، فجاء الخطاب
الإلهي ليقول : لا تعجل في تبليغ القرآن ، وأبلغه للناس حتى قبل نزول جبرائيل به ، أبلغهم إياه بالتأني ليفهموه ويعلموا به ، ولك أن تقرأه عدة مرات على
الناس ولا داعي للعجلة والاقتصار على المرة ، فإن قلوبهم لم تلن بعد ، واشكر الله
( وقل رب زدني علما ) لما أتاك علم القرآن قبل أن ينزل به
جبرائيل . وبذلك ننفي محذور نسبة العجلة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
ويشير إليه ما روي عن ابن عباس ضمن حديث طويل عن رسول الله قال صلى الله عليه وآله
وسلم : ( ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) قال : وسألني ربي فلم أستطع أن
أجيبه فوضع يده بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد ، فوجدت بردها بين ثديي فأورثني علم
الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى ، فعلم أخذ علي كتمانه إذ علم أنه لا يقدر على
حمله أحد غيري ، وعلم خيرني فيه ، وعلمني القرآن فكان جبريل عليه السلام يذكرني به ، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام والخاص من أمتي . ولقد
عاجلت جبرايل عليه السلام في آية نزل بها علي ، فعاتبي ربي وأنزل علي : ( ولا تجعل بالقرآن من قبل
أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ) ( المواهب اللدنية
: 2 / 381 - 382 بحث الإسراء والمعراج - الرابع الأخير منه ، ولوامع أنوار الكواكب
الدري : / 118 بتفاوت ) . وفي الحديث الشريف ( في قاب قوسين علمني الله القرآن
وعلمني الله علم الأولين ) ( لما مع أنوار الكوكب الدري : 1 / 117 - 118 ) * هذا
هو الهدف من التركيز على جبرائيل ، ورأينا كيف أن النبي مع نص القرآن أنه ( وحي
يوحى ) نجد أن عمر ومن يدين بدينه ، كيف كذبوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوم
الوفاة وقالوا : إن الرجل ليهجر . فكيف لو لم يكن التركيز على الوحي وجبرائيل ؟
. . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
مطلعان على علم الغيب ، لكن النبي لا ينطق به
إلا مع الأمر لأنه الرسول ( 2 ) ، وإليه الإشارة بقوله : ( ولا تعجل بالقرآن من
قبل أن يقضى إليك وحيه ) ( 3 ) ، وأما الولي في النطق بالغيب مطلق ‹ صفحة 208 ›
العنان ، وهذا الحديث يشهد للولي أنه عالم بكل العالم لأن العالم أول الموجودات
وأعلاها ، وفيه علم سائر الأشياء ومبدؤها ومنتهاها ، وإذا كان موكلا باللوح وعالما
بما في اللوح ، وواليا على اللوح ، فهو عالم بما تحت اللوح ضرورة ، والعالم بأجمعه تحت اللوح فهو إذا عالم بسائر العالم ، ودال على سائر
المعالم ، دليل ذلك قولهم الحق : ( ما منا إمام إلا وهو عالم بأهل زمانه ) ( 1 ) .
فالعلم فيهم ومنهم وعنهم ، والقرآن عندهم وإليهم ، ودين الله الذي ارتضاه لأنبيائه
ورسله وملائكته منهم وعنهم ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه شهادة لهم : وما يعزب عن
ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب
مبين ( 2 ) والكتاب المبين هم وعندهم ومنهم وعنهم . يؤيد هذه المقولات البينات ، قوله صلى الله عليه وآله : أول ما خلق الله اللوح ،
ثم خلق القلم ، ثم أشار إلى نهر في الجنة أن أجمد فجمد وصار مدادا ، ثم قال له :
أكتب . فقال : ربي وما أكتب ؟ فقال : ما كان ، وما هو كائن إلى يوم القيامة ( 3 ) .
واشترط فيه البداء وهو النسخ يمحو الله ما يشاء ويثبت
وعنده أم الكتاب وصار علم اللوح إلى النبي صلى الله عليه وآله ثم إلى الأوصياء إلى
آخر الدهر ، وذلك لأن ما في اللوح إن كان الخلق لا يحتاجون إليه فما الفائدة في
سطره ؟ وإن كان محتاجا إليه وهو محجوب عنهم فالحكمة لا تقتضي حجب الفوائد ، وإن
كان غير محجوب فإما أن يعلمه الخاص دون العام أو كلاهما معا ؟ فإن علمه الخاص
فخاصة الله وآل محمد ، وإن علمه العام فما يعلمه العام ، فالخاص بعلمه أولى ، وإلى
هذا المعنى أشار ابن أبي الحديد فقال : علام أسرار الغيوب ومن له خلق الزمان ودارت
الأفلاك ‹ صفحة 209 › الجوهر النبوي لا أعماله ملق ولا توحيده إشراك ( 1 ) فصل
وإلى هذا المعنى أشار بقوله في خطبة التطنجية : ولقد
علمت ما فوق الفردوس الأعلى وما تحت الأرض السابعة السفلى ، وما بينهما وما تحت
الثرى ، كل ذلك علم إحاطة لا علم إخبار ، ولو شئتم لأخبرتكم بآبائكم أين كانوا ،
وأين صاروا اليوم ( 2 ) . ‹ صفحة 211 ›
فصل ( علم الإمام عليه
السلام بما كان ويكون )
وإيضاح هذا
المشكل أن الله سبحانه لما أراد أن يخلق هذا العالم خلق اللوح والقلم وكتب فيه من
الغيب ما يتعلق بهذا العالم وبذلك ، ورد الأثر من قوله : جف القلم بما هو كائن ( 1
) وقوله : فرغ الله من حساب خلقه ، ثم بعث إليهم من الهداة والولاة ، وأوحى إلى كل
نبي ورسول ما يحتاج إليه أهل زمانه من العقائد والشرائع ، مما قضاه وقدره مما يعرف
منه ويعبد ، حتى ختم الوجود بمحمد كما افتتح به الوجود
، والفاتح الخاتم يجب أن يكون عنده علم ما كان وما يكون ، لأنه منه البداية وإليه
النهاية ، لأن الواحد أول العدد ومنتهاه ، فوجب أن يكون عنده علم ما كان وما يكون
، مما كتب في اللوح وإلا لزم العبث أو الظلم . فجملة ما صار إلى الأنبياء وما خفي
عنهم مما كتب اللوح ، وجرى به القلم صار إلى سيد
الأولين والآخرين ، وجميع ما صار إليه وحيا وإلهاما ومشاهدة في المقام الأعلى
والخطاب الرباني بغير واسطة صار إلى وصية القائم بدينه أمير المؤمنين عليه السلام
، ثم إلى عترته الأبرار وخلفائه الأطهار ، وقد صرح
القرآن بذاك من قوله : ( وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين ) ( 2 )
ودل عليه قوله الحق : أعطيت ألف مفتاح من العلم يفتح كل مفتاح ألف باب ، يفضي كل
باب إلى ألف عهد ، وصار ذلك في الأوصياء من بعدي إلى آخر الدهر ( 3 ) . فمن أنكر
بعد هذا الشاهد الحق علم الغيب للإمام ، وخالف بعدما وضح من البرهان المبين ، فقد
كذب بالقرآن ، وكفر بالرحمن ، وكفى بجهنم سعيرا .
فصل يؤيد
هذا المدعى والشاهد قوله سبحانه : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر ، وقوله : ( فيها
يفرق كل أمر حكيم ) ( 4 ) ، قال : فيها يقدر الله ما يكون من الحق والباطل في تلك
السنة ، وله فيها المبدأ ‹ صفحة 212 › والمشية ، يعني النسخ يقدم ما يشاء ويؤخر ما
يشاء ، من الأعمار والأرزاق والبلايا ، ثم يوحيها إلى
الروح الأمين ، فينزل بها إلى الرسول ثم يلتفت الرسول
إلى أمير المؤمنين ثم إلى الأوصياء حتى ينتهي إلى صاحب الأمر والزمان ويشترك له
فيها البداية والمشية ، لأن حكمه حكم الله ، ومقامه مقامه ، فهو مالك ومملوك ،
لأنه سيد الخلق وعبد الحق ، وليلة القدر باقية والحجة باقية ، وأمر ليلة القدر في
كل سنة ينتهي إليه ، لأن ما دامت الدنيا باقية فليلة القدر باقية لا تزول ،
والمشية والحكم الإلهي لا يزول ، والولي باق لا يزول ، ووصول الغيب إليه باق لا
يزول ، ولا يزول ، صدق القرآن ودوام حكم الرحمن ، وهذا مقام الولي المطلق . وعن
محمد بن سنان عن المفضل عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال له : يا مفضل من زعم
أن الإمام من آل محمد يغرب ( 1 ) عنه شئ من الأمر
المختوم يعني مما كتب العلم على اللوح ، فقد كفر بما نزل على محمد ، وإنا لنشهد
أعمالكم ولا يخفى علينا شئ من أمركم ، وإن أعمالكم
لتعرض علينا ( 2 ) . وإذا كانت الروح وارتاض البدن
أشرقت أنوارها ، وظهرت أسرارها ، وأدركت عالم الغيب ، ولا ينكر هذا إلا الجاهل
البليد فكيف تنكر أنت إحاطة روح الأرواح بعالم الغيب ؟ وإذا قيل لك : إن عليا يعلم الغيب ، وإذ كان الفضل بالعلم والسبق ،
وكان في العباد من هو أسبق ، من آل محمد إلى العلم بأعمال العباد ، فهو أفضل من آل
محمد صلى الله عليه وآله وسلم . ‹ صفحة 213 ›
فصل ( عرض الأعمال على آل محمد
)
( 1 )
المؤمن من الشيعة منهم من يرى أن الأعمال تعرض على النبي والولي ، ومنهم من لا يرى
ذلك ، ومنهم من يرى أنها تعرض على الولي دون النبي ، وتلك خاصة خص الله بها وليه ، ومنهم من يرى أنه يشهدها ويعلمها ، وهذا مقام
التحقيق لا مقام التقليد ، فنقول للمعتقد : الأعمال تعرض على النبي والولي ، ثم
ترفع إلى حضرة الرب العلي ، ومع عرضها فإن كان الإمام لا يعلمها إلا بعد العرض ،
فما الفرق بين الإمام والمأموم ؟ بل يكون في الرعية من هو أعلم منه ، فأين الإمامة
التي تعريفها أنها رياسة عامة ؟ وأين عمومها إذن ؟ وإن كان يعلمها قبل العرض فما
الفائدة في عرض ما يعلمه ؟ وكذا القول في رفع الأعمال إلى حضرة الربوبية ، فإن كان
الرب لا يعلمها إلا إذا رفعت إليه ، كان العبد أعلم من الرب وهو محال ، لأن الرب
سبحانه عالم بأعمال عباده ، ومحيط بها وحافظ لها وقيوم
عليها ، ولا يخفى عليه شئ في الأرض ، ولا في السماء ،
فما الفائدة إذا في عرض ما الله ورسوله ووليه أعلم به ؟
والجواب عنه : أن الفائدة في عرضها على الله أن كثرة الأعوان تدل على عظمة السلطان
. وأما الفائدة في عرضها على الولي ، فإن ذلك على سبيل الطاعة والتعظيم ، لأنه ما
من أمر ينزل من السماء ويصعد من الأرض إلا ويعرض على الولي لتعلم الملائكة أن الله
حجة في أمره ، وأنه مطاع ‹ صفحة 214 › الأمر ، وأن أهل السماوات والأرض متعبدون (
خ ل مستعبدون ) بخدمته وحبه وطاعته ، وسبحان من استعبد أهل السماوات والأرض بولاية
محمد وآل محمد عليهم السلام . يشهد بذلك ما رواه محمد بن سنان عن الصادق عليه
السلام أنه قال : إن لنا مع كل ولي إذن سامعة ، وعين ناظرة ، ولسان ناطق ( 1 ) .
يؤيد ذلك ما رواه ابن بابويه عن الصادق عليه السلام أنه
قال : ما من مؤمن يموت إلا ويحضره محمد وعلي فإذا رآهما استبشر ( 2 ) . وهذا عند
أهل التحقيق من أصل العقائد ، لأن المؤمن إذا مات رأى حق اليقين ووصل إلى الله وحق
اليقين ، لأنهم أمر الله الذي يحضره المؤمن عند احتضاره ، فيحول بين الشيطان وبينه
، فيموت على الفطرة ، وإذا مات على الفطرة دخل الجنة . اعترض جاهل فقال : إذا
كانوا يحضرون المؤمن عند موته فإذا مات ألف مؤمن في لحظة واحدة فكيف السبيل ؟ قلت
له : فيجب الاعتقاد والاعتراف بحضورهم عند كل واحد واحد
منهم لصدق وعدهم لشيعتهم وإعانته عند كربة الموت وتفريج همه ، وطرد الشيطان عنه ،
والوصية لملك الموت فيه ، فلا يلتفت إلى الوهم ، لضعف العقل السخيف والفهم ويقول :
وكيف يحضر الجسم الواحد في الزمن الواحد في أمكنة متعددة ( 3 ) ؟ وإذا اعترضك الشيطان فرده بقوله سبحانه : ( وكان الله على ‹ صفحة
215 › وأجاب الشيخ بدر الدين الزركشي عن سؤال له في آن
واحد من أقطار متباعد مع أن رؤيته صلى الله عليه وآله وسلم حق بأنه صلى الله عليه
وآله وسلم سراج ونور وشمس في هذا العالم ، مثال نور في العوالم كلها ، وكما أن
الشمس يراها من في المشرق والمغرب في ساعة واحدة وبصفات مختلفة ، فكذلك النبي صلى
الله عليه وآله وسلم ولله در القائل كالبدر من أي النواحي جئته يهدي إلى عينيك
نورا ثاقبا ( المواهب اللدنية : 2 / 297 خصائص رسول
الله صلى الله عليه وآله وسلم ) .
. . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹
هامش ص 206 › ( 1 ) في البحار : 26 / 4 ح 1 : ( أنا صاحب اللوح المحفوظ ألهمني
الله علم فيه ) . ( 2 ) وذلك لقرب الناس في زمن النبي ص إلى الجاهلية ولسعيه إلى
تثبيت الإسلام وقواعده . ( 3 ) ظاهر الآية نسبة العجلة إلى النبي وهو ينافي عظمته
صلى الله عليه وآله وسلم وتوضيح ذلك : أن الناس في الجاهلية الجهلاء ، ولن تتحمل
نسبة العلم إلى النبي ص بلا توسط الوحي بينه وبين الله ، إما لأن الأنبياء يوحى
إليهم عادة . وإما لقرب عهدهم بالجاهلية وعدم معرفتهم المعرفة الحقيقية للنبي
الأعظم ، حتى أنهم كانوا ينادونه من وراء الحجرات باسمه . وهم مع أنه ص أبرز لهم
مسألة الوحي ، كذبوه وقالوا : هذا من عنده ، أو من عند سليمان الفارسي . فكيف لو
لم يبرز لهم الوحي وجبرائيل عليه السلام ؟ وما يشير إلى ذلك أن النبي ص عندما كان
يأتيه الوحي ، كان يقول جاء جبرائيل ، وذهب جبرائيل ، وأخبرني جبرائيل عن الله
تعالى ، وما شابه ذلك وما ذاك إلا للتأكيد أن هناك إلها ودينا وإسلاما ورسالة من
السماء . ومن هنا نفهم الآيات والروايات التي تحدثنا أن النبي ص لم يكن يعطي
الجواب حتى ينزل الوحي ، فهو كان يعلم الجواب ، ولكن يريد أن يغرز في نفوسهم فكرة
الوحي من السماء . قال تعالى : ( ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه ) طه
: / 114 فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل أن ينقضي الوحي من السماء عليه ، كان
مستعدا أن يقرأ على الناس القرآن ، بل تقدم علمه للقرآن منذ عالم الأنوار . ونسبة
العجلة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن المراد بها
حتى أن التوقيت غير مناسب ، بل لإبراز أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يعلم
بالقرآن وآياته قبل أن ينزل عليه جبرائيل ، وبالتالي تكون الآية دليلا على ما
نذكره وذكرناه سابقا أن جبرائيل كان يذكره بالقرآن تذكيرا لا يجتمع مع النسيان .
إن قيل : يحتمل في الآية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يستعجل بالقرآن
فيتلو الآية الأولى أو مطلعها قبل أن يكملها جبرائيل أو قبل أن ينتهي من السورة .
قلنا : فعل النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هذا إما مع التفاته إلى بقية
الآيات التي يكملها جبرائيل ، وإما مع عدم التفاته لها . فعلى الأول لا معنى للنهي
عن العجلة . وعلى الثاني يكون النبي مفوتا للوحي ومضيعا
لبعض الآيات ، ولا قائل به إلا من سفه قوله قال الشيخ الطبرسي في الآية : لا تحرك به
لسانك لتجعل قراءته بل كررها عليهم ليتقرر في قلوبهم فإنهم غافلون عن الأدلة ،
ألهاهم حب العاجلة فاحتاجوا إلى زيادة تنبيه وتقرير ( مجمع البيان : 10 / 603 مورد
الآية - القيامة : 16 ) . وقال سيد المفسرين : ويؤول المعنى إلى أنك تعجل بقراءة
ما لم ينزل بعد ، لأن عندك علما في الجملة ، لكن لا تكتف به
واطلب من الله علما جديدا بالصبر واستماع بقية الوحي . وهذه الآية مما يؤيد ما ورد
من الروايات أن للقرآن نزولا دفعة واحدة غير نزوله نجوما على النبي صلى الله عليه وآله
وسلم فلولا علم ما منه بالقرآن قبل ذلك لم يكن لعجله بقراءة ما لم ينزل منه بعد
معنى ( تفسير الميزان : 14 / 215 مورد الآية - طه : 114 ) . وقد أبطل السيد الطباطبائي نسبة عجلة النبي ص في القراءة قبل انتهاء جبرائيل
. ( تفسير الميزان : 20 / 110 مورد الآية - القيامة : 16 ) . * أقول : عندي أن
معنى الآية : أن النبي ص كان يقرأ القرآن على الناس أو كان يبلغ بعض أحكامه
ومعانيه للناس مرة واحدة ، وذلك قبل أن ينزل الوحي عليه به
وقبل أن ينقضي إليه ، فجاء الخطاب الإلهي ليقول : لا تعجل في تبليغ القرآن ،
وأبلغه للناس حتى قبل نزول جبرائيل به ، أبلغهم إياه
بالتأني ليفهموه ويعلموا به ، ولك
أن تقرأه عدة مرات على الناس ولا داعي للعجلة والاقتصار على المرة ، فإن قلوبهم لم
تلن بعد ، واشكر الله ( وقل رب زدني علما ) لما أتاك علم القرآن قبل أن ينزل به جبرائيل . وبذلك ننفي محذور نسبة العجلة إلى النبي صلى
الله عليه وآله وسلم . ويشير إليه ما روي عن ابن عباس ضمن حديث طويل عن رسول الله
قال صلى الله عليه وآله وسلم : ( ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى ) قال :
وسألني ربي فلم أستطع أن أجيبه فوضع يده بين كتفي بلا تكييف ولا تحديد ، فوجدت بردها
بين ثديي فأورثني علم الأولين والآخرين وعلمني علوما شتى ، فعلم أخذ علي كتمانه إذ
علم أنه لا يقدر على حمله أحد غيري ، وعلم خيرني فيه ، وعلمني القرآن فكان جبريل
عليه السلام يذكرني به ، وعلم أمرني بتبليغه إلى العام
والخاص من أمتي . ولقد عاجلت جبرايل عليه السلام في آية
نزل بها علي ، فعاتبي ربي وأنزل علي : ( ولا تجعل
بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما ) ( المواهب اللدنية : 2 / 381 - 382 بحث الإسراء والمعراج - الرابع
الأخير منه ، ولوامع أنوار الكواكب الدري : / 118 بتفاوت ) . وفي الحديث الشريف (
في قاب قوسين علمني الله القرآن وعلمني الله علم الأولين ) ( لما مع أنوار الكوكب
الدري : 1 / 117 - 118 ) * هذا هو الهدف من التركيز على جبرائيل ، ورأينا كيف أن
النبي مع نص القرآن أنه ( وحي يوحى ) نجد أن عمر ومن يدين بدينه ، كيف كذبوا النبي
صلى الله عليه وآله وسلم يوم الوفاة وقالوا : إن الرجل ليهجر . فكيف لو لم يكن
التركيز على الوحي وجبرائيل ؟ ‹ هامش ص 208 › ( 1 ) بحار الأنوار : 48 / 110 ح 15
بتفاوت . ( 2 ) يونس : 61 . ( 3 ) بحار الأنوار : 57 / 361 - 368 ح 5 . ‹ هامش ص
209 › ( 2 ) راجع بحار الأنوار : 60 / 259 - 268 . ‹ هامش ص 211 › ( 1 ) بحار
الأنوار : 28 / 48 ح 14 بلفظ : بما فيه . ( 2 ) النمل : 75 . ( 3 ) بحار الأنوار :
27 / 160 ح 9 والحديث طويل . ( 4 ) الدخان : 4 . ‹ هامش ص 212 › ( 1 ) في البحار :
25 / 175 ح 1 : ( الإمام لا يعزب عنه شئ ) . ( 2 ) راجع
أمالي المفيد : 196 مجلس 23 وتفسير القمي : 1 / 277 . ‹
هامش ص 213 › ( 1 ) عن علي بن موسى الرضا عليه السلام قال لمن سأله أن يدعو له : (
أولست أفعل ؟ والله إن أعمالكم لتعرض علي في كل يوم
وليلة ) ( أصول الكافي : 1 / 219 عرض الأعمال على النبي ح 4 ) . وعن أبي عبد الله
الصادق عليه السلام : ( تعرض الأعمال على رسول الله صلى الله عليه وآله كل صباح )
. وفي رواية : ( اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون قال عليه السلام : هم
الأئمة ) ( أصول الكافي : 1 / 219 عرض الأعمال على النبي ح 2 - 1 ) . وأخرج
البخاري في الأدب المفرد عن أبي ذر أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله :
( عرضت علي أعمال أمتي - حسنها وسيئها - فوجدت محاسن
أعمالهم ) ( الأدب المفرد : 80 ح 231 باب إماطة الأذى ) . وأخرج الحارث والبزار عن رسول الله صلى الله عليه وآله : ( حياتي خير لكم
تحدثون ونحدث لكم وموتي خير لكم تعرض علي أعمالكم ) ( المطالب العالية : 4 / 22 ح
3853 ) . ‹ هامش ص 214 › ( 1 ) البحار : 47 / 95 ح 108 و : 26 / 269 ح 6 والحديث
طويل ( 2 ) سوف نفصل ذلك عما قريب و ( 3 ) الصحيح إمكان حضورهم عليهم السلام في آن
واحد عند أكثر من ميت وفي أكثر من مكان : جوز ابن العربي رؤية النبي محمد ص بجسمه
وروحه وبمثاله الآن و ( الحاوي للفتاوى : 2 / 450 ) وقال تاج الدين السبكي لمن سأله عن رؤية القطب في أكثر من مكان : الرجل
الكبير ( القطب ) يملأ الكون . وأنشد بعضهم : كالشمس في كبد السماء وضوؤها * يغشى
البلاد مشارقا ومغاربا (
الحاوي للفتاوي : 2 / 454 ) . وصرح السيوطي بإمكان رؤية
الأنبياء يقظة . ( الرسائل العشرة : 18 ، وشرح الشمائل المحمدية : 2 / 246 ) .
وقال في الذخائر المحمدية : إن رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ممكن لعامة أهل
الأرض في ليلة واحدة . ( الذخائر المحمدية : 146 ) .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
هذا ، وتواتر حديث : ( من رآني فقد رآني فإن
الشيطان لا يتمثل مكاني - لا يستطيع أن يتمثل بي - لا
يتكون في صورتي - لا يتشبه بي ) ( المواهب اللدنية : 2 / 293 إلى 301 ذكر خصائصه وذكر جملة من المصادر )
. وفي لفظ : ( ( من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ) ( المعجم الكبير : 19 /
297 ح 660 منه ) . وقال العلماء في معناة : هو في
الدنيا قطعا ولو عند الموت لمن وفق لذلك . ( الذخائر المحمدية : 147 ) . ومعلوم
أنه يتفق رؤية أكثر من شخص للنبي الأعظم في وقت واحد . وروى الإمام الرضا عليه
السلام عن رسول الله ص : ( من رآني في منامه فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل في
صورتي ولا في صورة أحد من أوصيائي ) ( كشف الغمة : 3 / 120 فضائل الرضا ، والأنوار
النعمانية : 4 / 54 ) . وقال القاضي أبو بكر ابن العربي
: رؤيته ص بصفة المعلومة إدراك على الحقيقة ، ورؤيته على غير صفته إدراك للمثال ،
فإن الصواب أن الأنبياء لا تغيرهم الأرض ، ويكون إدراك الذات الكريمة حقيقة ،
وإدراك الصفات إدراك المثال . ( المواهب الدنية : 2 / 294 خصائص النبي ص ، وإرشاد
الساري : 14 / 502 كتاب التعبير باب من رأى النبي في المنام ) . وقال القسطلاني : فإن قلت : كثير ما يرى على خلاف صورته المعروفة
ويراه شخصان في حالة واحدة في مكانين ، والجسم الواحد لا يكون إلا في مكان واحد ؟
أجيب : بأنه في صفاته لا في ذاته ، فتكون ذاته عليه الصلاة والسلام مرئية ، وصفاته
متخيلة غير مرئية ، فالإدراك لا يشترط فيه تحديق الأبصار ولا قرب المسافة ، فلا
يكون المرئي مدفونا في الأرض ولا ظاهرا عليها ، وإنما يشترط كونه موجودا . ( إرشاد
الساري : 14 / 503 كتاب التعبير باب من رأى النبي في المنام ) . ومن حال كثير من
العلماء وقصصهم يعلم إمكان رؤية النبي وأهل ، بيته ، وكما ذكر ذلك في محله . (
راجع المواهب الدينية : 2 / 297 - 301 ، وينابيع المودة : 2 / 551 - 554 ، وكشف
الغمة : 1 / 239 - 383 وإلزام الناصب : / 340 إلى 427 ، ودلائل الإمامة : 237 إلى
288 و 294 إلى 320 معاجز المهدي ومن رآه ، وإعلام الورى
: 396 - 425 ، وإرشاد الساري : 14 / 504502 كتاب التعبير ، باب من رأى النبي في
المنام ) . قالا الشيخ المرسي : لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين . ( المواهب اللدنية
: 2 / 300 خصائص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ) . وبذلك يتضح إمكان رؤية آل محمد
: الآن وفي كل مكان ، وتقدم أنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، بلحمهم وجسدهم وروحهم .
وهذا يدل أن الإمام حاضر عند كل إنسان لا يغيب عنه شخص من الأشخاص ، لذا ورد عن
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : ( إن للشمس وجهين وجه يلي أهل السماء ووجه يلي
أهل الأرض ، فالإمام مع الخلق كلهم لا يغيب عنهم ولا يحجبون عنه ) ( بحار الأنوار
: 27 / 9 ح 21 ومشارق أنوار اليقين : 139 ) . وعن الإمام الصادق عليه السلام : (
الحجة قبل الخلق ومع الخلق وبعد الخلق ) ( كمال الدين : 1 / 221 باب 22 ح 5
والإنسان الكامل : 87 ) . ‹ صفحة 216 › كل شئ مقتدرا (
1 ) . ‹ صفحة 217 ›
فصل ( الإمام مع الخلق لا
يغيب عنهم )
إذا
كانوا عالمين بأوليائهم فهم عالمون بأعدائهم من غير شك
، لدلالة الأعلى على الأدنى ، لأن الولي على الكل يجب أن يكون عالما بالكل ، وإلا
لكان رقيبا على البعض دون البعض ، والغرض عموم رياسته ، فالواجب عموم علمه وإحاطته
، وإلا لم يكن رئيسا مطلقا ، وهو رئيس مطلق ، هذا خلف . وقد ورد عن أبي عبد الله
عليه السلام أنه قال : إن لله اثني عشر ألف عالم ، كل عالم أكبر من السماوات
والأرض ، وأنا الحجة عليهم ( 1 ) . ولا يكون الحجة حجة على قوم إلا من يعلمهم
ويشهدهم ، وإلا لم يكن حجة ، وهو حجة ، فهو عالم برعيته ، لأنه عين الله الناظرة
في عباده ، وعين الله مطلعة على سائر العباد ، فهو في العالم كالشمس لأنه نور الحق
في الخلق ، وشعاعه مطل على سائر العالم ، وهو حجاب الله في عالم الصور ، وإليه
الإشارة ، يقول الرسول صلى الله عليه وآله : ( علي لا يحجبه عن الله حجاب ) ( 2 )
وهو السر والحجاب ، فالإمام نور إلهي وسر رباني ، وتعلقه بهذا الجسد عارضي ، دليله
قوله سبحانه : وأشرقت الأرض بنور ربها ( 3 ) ، ونور الرب هو الإمام الذي بنوره
تشرق الظلم ، ويستضئ سائر العالم . يعضد هذا التفسير ما ورد عن النبي صلى الله
عليه وآله أنه قال : ( إن للشمس وجهين ، وجه يلي أهل السماء ، ووجه يلي أهل الأرض
) ( 4 ) ، فالإمام مع الخلق كلهم لا يغيب عنهم ، ولا يحجبون عنه ، بل هم محجوبون
عنه ، وليس هو بمحجوب ، لأن الدنيا عند الإمام كالدرهم في يد الإنسان يقلبه كيف
شاء . وعنهم عليهم السلام : إن الله يعطي وليه عمودا من نور بينه وبينه يرى فيه
سائر أعمال العباد ( 5 ) ‹ صفحة 218 › كما يرى الإنسان شخصه في المرآة من غير شك ،
كما رواه إسحاق بن عمار عن أبي الحسن موسى عليه السلام رحمه الله أنه الرجل قلت :
يا سيدي ما سمعت مثل هذا الكلام ، فقال عليه السلام : هذا كلام قوم من أهل الصين
وليس كلام أهل الصين كله هكذا ، ثم قال : أتعجب من هذا ؟ قلت : نعم ، قال : سأريك
ما هو أعجب ، إن الإمام يعلم منطق الطير ومنطق كل ذي روح ، لا يخفى على الإمام شئ ( 1 ) . فهم صلوات الله عليهم يشهدون الخلق عند الحياة
وعند الممات ، لأنهم العالمون عن الله بكل موجود ومفقود ، كما ورد عن النبي صلى
الله عليه وآله أنه مر على قبر فقال : أف ، أف ، فقيل : يا رسول الله ماذا ؟ فقال
: إن صاحب هذا القبر سأل عني فأمسك ، فأففت عليه . ( 2
) ومن ذلك ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لكميل بن زياد وقد مر معه
في جبانة فأسرع السير فقال له : ( خفف الوطي يا كميل
فإنهم يسمعون صرير نعالك ( 3 ) . وعلم الإمام بهم ليس ظن ولا تقليد ، ولكنه علم
إحاطة وتحقيق ( 4 ) ، فعلم الله محيط بالمعلومات ، وعلمهم نافذ في طبقات السماوات
، لأن السماوات والأرض وما فيها خزانة الله خلقها لأجلهم وسلمها إليهم ، فعندهم
مفاتيح علمها وغيبها لا بل هم مفاتيح الغيب ، وإليه الإشارة بقوله : ( وعنده مفاتح
الغيب ) ( 5 ) لأن الولي المطلق هو الذي بيده مفاتيح الولاية ، بل هو مفتاح
الولاية ، يؤيد ذلك قوله سبحانه : ( صراط الله الذي له ما في السماوات وما في
الأرض ) ( 6 ) ، وهذا صريح ، قال الصادق عليه السلام : صراط الله علي جعله الله
أمينه على علم ما في السماوات وما في الأرض ، فهو أميره على الخلائق وأمينه على
الحقائق ( 7 ) . يؤيد هذا التفسير قول أمير المؤمنين في خطبة التطنجية
: ( لو شئت أخبرتكم بآبائكم وأسلافكم ممن كانوا وأين كانوا ، وأين هم الآن وما
صاروا إليه ؟ فكم من آكل منكم لحم ‹ صفحة 219 › أخيه وشارب برأس أبيه ، وهو يشتاقه ويرتجيه ، هيهات إذا كشف المستور وحصل ما في الصدور ، وأيم الله لقد كررتم كرات وكم بين كرة وكرة من آية وآيات ) .
ويجب من عموم علمه عموم إحاطته لأنه وجه الله الذي منه يؤتى ، والسبب المتصل بين
الأرض إلى السماء ، وإليه الإشارة بقوله : ( فأينما تولوا فثم وجه الله ) ( 1 ) ،
والشمس المنيرة التي لا يحتجب من ضوئها شئ أبدا ،
والاسم الجاري الساري في كل شئ ، فهم إلى طرف الموجودات
مولاها ومعناها ، وإلى حضرة الأحدية عبدها ووليها
وخليفتها وعليها ، وإليه الإشارة بقوله : ( إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين
يديه ومن خلفه رصدا ( 2 ) ، قال أبو جعفر عليه السلام : ( الرصد التعلم من النبي )
( 3 ) ، وقوله : من بين يديه ، يعني يلقي في قلبه الإلهام ليعلم النبي أنه قد بلغ
رسالات ربه ، وأحاط علي بما لديه من العلم وأحصى كل شئ
عددا ( 4 ) ، قال : علم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، حتى معرفة كل إنسان
باسمه ونسبه ، ومن يموت موتا ومن يقتل قتلا ، ومن هو من أهل الجنة ، ومن هو من أهل
النار ( 5 ) . وإليه الإشارة بقوله : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ( 6
) ، وإنما رآه بمرآة إني جاعلك للناس إماما ( 7 ) فرآه بعين الولاية ، لأن النبي
قد يحجب عن الملكوت لأن الوحي منه يأتيه ، والولي لا يحجب عن الملكوت ، فالنبي
ينتظر الغيب والولي ينظر في الغيب ، وليس الولي بهذا المقام أعلى من النبي بل هو
في سائر المقام تلميذه ، وتحت مرتبته ، وفيضه عنه ، وعلمه عنه ، وقد يكون للولي ما
ليس للنبي وإن كان من أتباعه ، كقصة الخضر وموسى ، وهذا إشارة إلى الإلهام ، وإليه
الإشارة بقوله : ولقد نظرت في ملكوت السماوات والأرض فما غاب عني شئ مما كان قبلي ، ولا شئ مما هو
كائن بعدي ( 8 ) . فذلك حق لأن الولي المطلق لو جهل شيئا لجهل من ولاه ، ولو ‹
صفحة 220 › علم شيئا دون شئ لاتصف بالعلم تارة وبالجهل
أخرى ، فكان جاهلا وهو عالم ، هذا خلف ، ولو جهل لارتفعت الولاية والعصمة ، ما
اتخذ الله وليا جاهلا قط ، فيلزم لو جهل عدم الولي أو كونه جاهلا وهو محال ، فيكون
عالما بالكل وهو المطلوب ، وإليه الإشارة بقول ابن أبي الحديد في مدحه له عليه
السلام:
. . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
‹
هامش ص 216 › ( 1 ) ملحق . ‹ هامش ص 217 › ( 1 ) تقدم الحديث . ( 2 ) بحار الأنوار
: 40 / 96 ح 116 . ( 3 ) الكهف : 45 . ( 4 ) بحار الأنوار : 27 / 9 ح 21 وفيه يضئ
لأهل السماء - الأرض . ( 5 ) الهداية الكبرى : 240 باب
7 ، وبصائر الدرجات : 435 ح 3 باب أنه يرى ما بين المشرق والمغرب . ‹ هامش ص 218 ›
( 1 ) الأنوار النعمانية : 1 / 33 ، والهداية الكبرى : 171 باب 2 . ( 4 ) فصلناه في كتابنا علم آل
محمد . ( 5 ) الأنعام : 59 . ( 6 ) الشورى : 53 . ( 7 ) بحار الأنوار : 25 / 170 ح
38 بتفاوت . ‹ هامش ص 219 › ( 1 ) البقرة : 115 . ( 2 ) الجن : 27 - 28 . ( 3 )
بحار الأنوار : 36 / 89 / ح 16 وفيه التعليم والحديث طويل . ( 4 ) الجن : 27 - 28
. ( 5 ) وفيه رواية عن الإمام الباقر ، راجع البحار : 26 / 14 ح 2 . ( 6 ) الأنعام
: 75 . ( 7 ) البقرة : 124 . ( 8 ) بحار الأنوار : 26 / 141 ح 14 عن أمالي المفيد
بتفاوت . ‹ هامش ص 220 › ( 1 ) الإمام علي للهمداني ط
طهران . ( 2 ) بحار الأنوار : 26 / 153 ح 41 بتفاوت . ( 4 ) نفحات السرار باختصار 4 / 316 وفي لفظ عن رسول الله صلى الله عليه
وآله : ( معاشر الناس ما من علم إلا علمنيه ربي وأنا
علمته عليا ) تفسير نور الثقلين : 4 / 379 ومناقب ابن المغازلي
: 50 ح 73 . ( 1 ) الإمام علي للهمداني ط م طهران
. . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وذو المعجزات الباهرات أقلها * الظهور على مستودعات السرائر ( 1 )
دليله قوله الحق : ( أنا الهادي بالولاية ) ( 2 ) فهو عليه السلام غيب الله
المكتوب ، وعلمه المنصوب ، وخزانة غيبه في سماواته وأرضه ، ووارث أسرار نبيه ، فهو
الإمام المبين الذي كلفه الله هداية الخلق ، وقضى فيه كل شئ
فكل علم نزل إلى النبي صلى الله عليه وآله فهو عنده ومنه وفيه ، وإليه الإشارة
بقوله صلى الله عليه وآله : ( أنت مني وأنا معك سري وعلانيتي ، وأنت روحي التي بين
جنبي ، لحمك لحمي ، ودمك دمي ، وما أفرغ جبرائيل في صدري حرفا إلا وقد أفرغته في
جوفك ) ( 3 ) ( 4 ) . وهذا كلام عظيم يصرح لعلي بالتشريف والتعظيم ، والتفضيل
والتقديم ، حيث هو قسيم بنعمة النبي الكريم ، وشقيق نور الرؤوف
الرحيم ، فهو منه في النور والروح والطينة ، والظاهر والباطن ، ولا فوق هناك إلا
النبوة ، وهو الآيات والمقامات والكلمات التامات ، والأنوار الباهرات تقصر القول
عن معرفة أسرارها ، وتعمى عيون الأفهام عن بوارق أنوارها ، سر الرحمن الرحيم ، وما يلقاها إلا ذو حظ
عظيم ، ومن أنكر أن الإمام يعلم الغيب أنكر إمامته ، ومن أنكر إمامته لا يبالي محو
المحكم من كتاب الله أو جحد نبوة الأنبياء ، وزعم أنه ليس إله في السماء ، فوجب أن
يعلم الولي أهل ولايته أحياء وأمواتا ، وإلا لكان عالما في وقت دون وقت وهو محال ،
لأن الولي هو الإنسان الكامل ، فكيف يكون كاملا ناقصا ، هذا خلف ؟ ‹ صفحة 221 ›
فصل ( حضور آل محمد عند كل
ميت )
أما علمه
بهم عند الموت فدليله قوله لحارث همدان : يا حارث ، قال
: نعم يا مولاي ، فقال : ( لو قد بلغت نفسك التراقي
لتراني حيث تحب ) ( 1 ) . وهذا إشارة إلى حضوره عند الموتى . ( 2 ) ‹ صفحة 222 ›
وأما علمه بهم بعد الموت فدليله قوله للأصبغ بن نباتة في نجف الكوفة : ( يا أصبغ إن في هذا الظهر أرواح كل
مؤمن ومؤمنة ، فلو كشف لك ما كشف لي لرأيتهم خلقا
يتحدثون على منابر من نور ) ( 1 ) ، وذلك حق لأن الولي إذا أحاط علما بالأحياء وجب
أن يحيط علما بالأموات ، وإلا لامتنع الأول لامتناع الثاني ، لكن الأول غير ممتنع
فالثاني كذلك ، لأن العلم الذي أيد به وعلم به للأحياء به علم الموتى ، وإليه
الإشارة بقوله : ( قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ ) ( 2 ) ،
والكتاب الحفيظ ، هو الولي وعلمه عنده وذلك لأن اللوح المحفوظ فيه سطور غيب الله ،
واللوح الحفيظ في الأرض هو المستودع لغيب الله وإليه الإشارة بقوله : بل هو قرآن
مجيد * في لوح محفوظ ( 3 ) ، والولي حافظ للذكر وعالم بتأويله وتنزيله ، فاللوح
المحفوظ بالحقيقة هو الولي ، ‹ صفحة 223 › فمن أنكر علم الولي بأهل ولايته
ومشاهدته لأعمالهم فقد كذب القرآن وكفر بالرحمن . فصل وكذا من خصص علمه بوقت دون
وقت ، وشئ دون شئ ، فقد قضى
للولي بالجهل ، فيلزم من تكذيب الثاني تكذيب الأول ، ومن تصديق الأول تصديق الثاني
، لعدم التخصيص ، فيلزمه إذا التصديق بما كذب ، والتكذيب بما صدق ، ومن الأول يلزم
الكفر ، ومن الثاني يلزم الارتداد وفساد الاعتقاد ، لكن الأول صادق ، والثاني كذلك
. ‹ صفحة 225 ›
فصل ( قدرة آل محمد
التكوينية )
( 1 ) .
أما القدرة فإن الولي المطلق قدرته كأعلمه : وعلمه محيط : فقدرته كذلك لأن قلب
الولي مكان هامش ) * ( 1 ) قد فصلنا ذلك في كتابنا الولاية التكوينية ونجمل هنا
فنقول : الولاية التكوينية قدرة يمنحها الله لخاصة أوليائه الذين يتقربون من الله
تعالى تقربا يصبح سبحانه وتعالى سمعهم وأبصارهم وأيديهم . كما في حديث التقرب
بالنوافل المستفيض : ( لا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته
كنت سمعه وبصره ولسانه ويده ورجله ، ففي يسمع ، وبي
يبصر ، وبي ينطق ، وبي يبطش
، وبي يمشي ) ( جامع الأسرار : 204 ح 393 ، وله ألفاظ
أخرى ( المعجم الأوسط : 10 / 163 ح 9348 ، وكنز العمال 7 / 770 ح 27 213 ، وأصول
الكافي : 2 / 352 ح 7 ، وعلل الشرائع : 1 / 227 باب 162 ) . قال الشيخ حسن زاده آملي : بل إن هذا الشخص ، ولأن الحق يكون عينه التي يرى وأذنه
التي بها يسمع ، وعين جوارحه وقواه الروحية والجسمية ،
فإن تصرفه الفعلي أيضا يكون كالحدس والجذبة الروحية ، حتى يصير قوله وفعله واحدا ،
ولا يحتاج إلى الامتداد الزماني في حركاته وانتقالاته ،
بل يصير محلا لمشيئة الله ومظهرا ل ( إنما قولنا لشئ
إذا أردناه أن نقول له كن فيكون ) حيث يتحد عندها القول والفعل ( الإنسان الكامل :
173 ) . وقال الخواجة نصير الدين الطوسي : العارف إذا انقطع عن نفسه واتصل بالحق
رأى كل قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات
، وكل علم مستغرق في علمه الذي لا يعزب عنه شئ من
الموجودات ، وكل إرادة مستغرقة في إرادته التي يمتنع أن يتأتى عليها شئ من الممكنات . بل كل وجود فهو صادر عنه فائض عن لدنه فصار
الحق حينئذ بصره الذي به يبصر وسمعه الذي به يسمع وقدرته التي بها يفعل
وعلمه الذي به يعلم ووجوده الذي به
يوجد ، فصار العارف حينئذ متخلقا بأخلاق الله في الحقيقة ( شرح الإشارات والتنبيهات
: 3 / 389 عن السير إلى الله : 79 ) . وقال الإمام الخميني قدس سره : ( فإن للإمام
عليه السلام مقاما محمودا ودرجة سامية وخلافة تكوينية تخضع لولايتها وسيطرتها جميع
ذرات هذا الكون ، وإن من ضروريات مذهبنا أن لأئمتنا
مقاما لا يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل ، وبموجب ما لدينا من الروايات والأحاديث
فإن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام كانوا قبل هذا العالم
أنوارا ، فجعلهم الله بعرشه محدقين وجعل لهم من المنزلة والزلفى
ما لا يعلمه إلا الله ) ( الحكومة الإسلامية : 52 ) . ‹ صفحة 226 › مشية الرب العلي
، ولسانه منبع حكمته ، يفعل ما يريد الله ، ويريد ما يفعل .
فصل وأما
الحكم المطلق فكما مر ، لأن الولاية لها الحكم من البداية إلى النهاية ، لأن
الولاية علم اليقين وحق اليقين ، لا ينسخ ولا يتغير ولا يتبدل بتغير الزمان ، ولا
ينسخ كنسخ الشرائع والأديان ، ولا يختم لأنه ختم الأكوان ، ولا تسبق لأن لها السبق
بالكون والمكان ، فعهدها مأخوذ من الأزل ولم يزل ، يتسلمها ولي من ولي ورضي من رضي
إلى يوم القيامة ، لأن الرب الملك الحق المبين أخذ لها العهد على أسماء قبل خلق الأرضين والسماوات ، وهي الختم والكمال لكل دين ، ولها الحكم
عند نصب الموازين ، وويل للمكذب بيوم الدين ، وإلى هذا البرهان المبين الإشارة من
قول الصادقين : سبحانه من خلق السماوات والأرضين ، وما
سكن في الليل والنهار بمحمد وآل محمد صلى الله عليه وآله . ‹ صفحة 227 ›
هذا كلام الحجة
، وكلام الحجة حجة ، فقوله لمحمد وآل محمد هذا لام التمليك والتخصيص ، لأن من خلق الشئ لأجله فهو له في الدنيا والآخرة ، لهم خلقت وإليهم سلمت
، فدل بهذا الصريح أن ملك الدنيا والآخرة وحكم الدنيا والآخرة لا بل الدنيا
والآخرة لهم على غير مشارك ولا منازع ، إن الكل عبيدهم وملكهم ( 1 ) ، وهم سادة
الكل ومواليهم ، سبحان من استعبد أهل السماوات والأرض بولاية محمد وآل محمد . وهذا
مصرح أن الكل لهم وعبيدهم ، وأن لهم السيادة والسؤدد على جميع الخلائق ، فالخلائق
عبيدهم وهم عبيد الله ونواب مملكته ، وخاصة حضرته وخزنة غيبه ، وقوام خلقه . وإلا
لزم كذب المعصوم أو تكذيبه ، والأول محال والثاني كفر مثبت . إن الدنيا والآخرة
ملكهم ومليكهم ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله : ( سبحان من يملكها
محمدا وآل محمد وشيعتهم ) ( 2 ) ، فتساوى طرفا الحكم والملك في الدارين لديهم
وإليهم لعدم الترجيح والتخصيص ، فمن اعتقد أن ملك الدنيا والآخرة لهم آمن بالخصوص
الإلهية والنصوص الإمامية ، ومن أنكر الطرفين كفر
بالقرآن ، وكذب أولياء الرحمن ، ومن صدق طرفا وكذب طرفا بعد ثبوت الطرفين لهم لزمه من إنكار الثاني إنكار الأول ، ومن تصديق الأول تصديق
الثاني ، لكن تكذيب الأول كفر فالثاني كذلك ، وتصديق الأول إيمان فالثاني كذلك ،
وتصديق الثاني إيمان فتكذيب الأول كفر ، فمن صدق الأول وكذب الثاني لزمه التكذيب بالصدق أو التصديق بما وجب تكذيبه ، فيلزمه من
ذلك الكفر بالإيمان والإيمان بالكفر . فبان بواضح البرهان الذي لا ينقض ، والحق
الذي لا يدحض ، أن لهم ملك الدنيا والآخرة ، وحكم الدنيا والآخرة ، والإنكار لذلك
كفر لصدق دليله ، والشك فيه شرك لوضوح سبيله ، والريب فيه ارتداد لصحة تأويله ،
والتصديق به نجاة لبرد مقبله ، ومن كذب بما وجب تصديقه
من الدين فقد كفر بوحي رب العالمين ، وذلك لأن الكتاب والعترة
حبلان ‹ صفحة 228 › متصلان ، وإليه الإشارة بقوله : ( خلفت فيكم الثقلين كتاب الله
وعترتي أهل بيتي ، إن تمسكتم بهما
لن تضلوا ، أنبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض ) ( 1 ) . ‹
صفحة 229 › قوله : حتى يردا علي الحوض شريد وطريد ، لأن الكتاب يعرف الأمة فضل
الأئمة ووجوب طاعتهم ، والعترة تشهد للكتاب بأنه الحق ،
فالكتاب نبذ وحرف وترك ، والعترة قتلوا وشردوا وطردوا
فهما صاحبان شريدان طريدان لا يأويهما أحد ، ولم يسترشد
بهما ضال حتى يردا الحوض شاكيين إلى الله ورسوله ،
فكلما يجب من التصديق للكتاب يجب للعترة ، وفي الكتاب
علم كل شئ ، وبيان كل شئ ،
وكذا يجب أن يكون عند العترة لأنهم تراجمة
القرآن ، وسر غيب الرحمن ، فعندهم
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
‹ هامش ص 220 › ( 1 ) الإمام علي للهمداني
ط طهران . ( 2 ) بحار الأنوار : 26 / 153 ح 41 بتفاوت . ( 4 ) نفحات السرار باختصار 4 / 316 وفي لفظ عن رسول الله صلى الله عليه
وآله : ( معاشر الناس ما من علم إلا علمنيه ربي وأنا
علمته عليا ) تفسير نور الثقلين : 4 / 379 ومناقب ابن المغازلي
: 50 ح 73 . ( 1 ) الإمام علي للهمداني ط م طهران ‹
هامش ص 221 › ( 1 ) بحار الأنوار : 6 / 179 ح 7 ، وبشارة المصطفى : 5 ح 4 ورسائل
المرتضى : 3 / 133 ( 2 ) قال الإمام الصادق عليه السلام : ( إذا بلغت نفس أحدكم
هذه قيل له : أما ما كنت تحزن من هم الدنيا وحزنها فقد أمنت منه ويقال له : أمامك رسول
الله وعي وفاطمة عليهم السلام ) . ( بحار الأنوار : 6 / 184 ح 17 باب ما يعلين
المؤمن والكافر عند الموت ، والكافي : 3 / 134 ح 10 ) . وعن أمير المؤمنين علي
عليه السلام قال : ( قال رسول الله ص : والذي نفسي بيده لا تفارق روح جسد صاحبها
حتى يأكل من ثمر الجنة أو من شجر الزقوم ، وحتى يرى ملك الموت ويراني ويرى عليا
وفاطمة والحسن والحسين ، فإن كان يحبنا قلت : يا ملك الموت ارفق
به فإنه كان يحبني وأهل بيتي وأن كان يبغضني ويبغض أهل
بيتي قلت : لا ملك الموت شدد عليه فإنه كان يبغضني ويبغض أهل بيتي ، لا يحبنا إلا
مؤمن ولا يبغضنا إلا منافق شقي ) ( أهل البيت ، توفيق أبو علم : 68 - 69 الباب
الثاني ، وبشارة المصطفى : 6 ح 7 مع تفاوت بسيط ) . عن أسماء بنت عميس قالت : إنا لعند علي بن أبي طالب عليه السلام بعد ما
ضربه ابن ملجم إذ شهق شهقة ، ثم أغمي عليه ثم أفاق فقال : ( مرحبا مرحبا الحمد لله الذي صدقنا وعده ، وأورثنا الجنة ) . فقيل له
: ما ترى ؟ قال : ( هذا رسول الله ص وأخي جعفر وعمي حمزة وأبواب السماء مفتحة
والملائكة ينزلون يسلمون علي ويبشروني . وهذه فاطمة عليه السلام قد طاف بها وصائفها من الحور ، وهذه
منازلي في الكنة . لمثل هذا فليعمل العاملون ) ( ربيع
الأبرار : 4 / 208 ذيل باب الموت وما يتصل به من ذكر
القبر والنعش ) . وعن الفضل بن يسار عن أبي جعفر الباقر وجعفر الصادق عليهم السلام
أنهما قالا : ( حرام على روح أن تفارق جسدها حتى ترى الخمسة : محمد وعليا وفاطمة
وحسنا وحسينا ) ( كشف الغمة : 2 / 40 مناقب أمير المؤمنين عليه السلام ) وروى ابن أعثم رؤية معاوية عند موته لأمير المؤمنين عليه السلام قال :
( ثم رحل معاوية عن ذلك المكان حتى صار إلى الشام فدخل منزله ، واشتد عليه مرضه
وكان في مرضه يرى أشياء لا تسره ، فكان يشرب الماء الكثير فلا يروى ، وكان ربما
غشي عليه اليوم واليومين ، فإذا أفاق من غشوته ينادي
بأعلى صوته : ( ما لي وما لك يا بن أبي طالب إن تعاقب
فبذنوبي وإن تغفر فإنك غفور رحيم ) ( الفتوح لابن أعثم
: 2 / 61 ذكر انصراف معاوية عن مكة وما يلي به في سفره
من المرض وخبر وفاته ) . وعن سليم في خبر طويل فيه ندم الخليفة الأول والثاني عند
الموت جاء فيه : فقال له عمر : يا خليفة رسول الله لم تدعو بالويل والثبور . قال
أبو بكر : هذا رسول الله ومعه علي بن أبي طالب يبشرانني بالنار ومعه الصحيفة التي
تعاهدا عليها في الكعبة وهو يقول صلى الله عليه وآله : ( لقد وفيت بها وظاهرت على ولي الله فأبشر أنت وصاحبك بالنار في أسفل
السافلين ) ( إرشاد القلوب : 2 / 392 خبر وفاة أبي بكر ومعاذ ) . وعن نخلة بنت عبد
الله قالت : رأيت بعد أن قتل زيد بن علي وصلب بثلاثة أيام فيما يرى النائم كأن
نسوة من السماء نزلن عليهن ثياب حسنة حتى أحدقن بجذع زيد بن علي ، ثم جعلن يندبنه
وينحن عليه كما ينوح النساء في المأتم . قالت : ونظرت إلى امرأة قد أقبلت وعليها
ثوب لها أخضر يلمع منه نور ساطع حتى وقفت قريبا من أولئك النساء ، ثم رفعت رأسها
وقالت : ( يا زيد قتلوك يا زيد صلبوك يا زيد سلبوك يا زيد إنهم لن تنالهم شفاعة
جدك عليه الصلاة والسلام غدا في يوم القيامة ) . قالت نخلة : فقلت لإحدى النسوة
تلك : من هذه المرأة الوسيمة من النساء ؟ فقالوا : هذه فاطمة بنت رسول الله صلى
الله عليه وآله ( الفتوح لابن الأعثم : 3 / 295 ذيل خبر
زيد بن علي ) . ‹ هامش ص 222 › ( 1 ) ق : 4 . ( 2 ) البروج : 22 . ‹ هامش ص 227 ›
( 1 ) بحار الأنوار : 33 / 68 ح 398 . ( 2 ) تهذيب الأحكام : 3 / 98 ، والبحار :
95 / 139 . ‹ هامش ص 228 › ( 1 ) قال رسول الله ص : ( إني تارك فيكم الثقلين
خليفتين كتاب الله حبي ممدود ما بين السماء إلى الأرض وعترتي
أهل بيتي ، وإنهما لن يفترقا حتى يرد علي الحوض ) ( مسند أحمد : 5 / 181 - 182 -
189 و 4 / 367 ط . م وه / 492 ح 18780 و 6 / 232 - 244 ح 21068 - 21145 ط . ب ،
وبحار الأنوار : 23 / 107 ، وفضائل الصحابة لأحمد : 2 / 585 - 602 572 - ح 990 -
1032 - 968 - 786 ) وله ألفاظ كثيرة ( مجمع الزوائد : 1 / 170 ط . مصر وبقية الروائد في تحقيق مجمع الزوائد : 413 ح 784 عن ابن ثابت ،
ونزل الأبرار : 32 و 52 الباب الأول عن زيد وحذيفة بن أسيد والمعجم الأوسط : 4 /
262 - 328 ح 3463 - 3566 عن أبي سعيد ، والفردوسي : 1 / 66 ح 194 ط . كتب و 98 ح
197 ط كتاب أبو سعيد ، والبيان والتعريف في أسباب ورود الحديث : 1 / 370 ح 437 عن
زيد ومشارق الأنوار : الفصل السادس من الباب الثالث ، وتخليص المتشابهة : 1 / 62
رقم 78 عن أبي سعيد و 2 / 690 ح 1150 ، وأخبار قزوين : 3 / 465 ، والسنن الكبرى للبيهقي : 2 / 148 و : 7 / 30 ، والمطالب العالية : 4 / 65 ح
3972 ، . أمالي الشجري : 1 / 143 - 149 - 152 - 154 - 115 و 415 ، ومسند البزار : 3 / 89 ح 864 ، وحليه الأولياء : 9 / 64 ، وتاريخ
بغداد : 8 / 443 ترجمه زيد بن الحسن القريشي ، وأهل
البيت في المكتبة العربية : 280 ، ومسند شمس الأخبار : 1 / 126 أبو سعيد ،
والمعرفة والتاريخ : 1 / 536 إلى 538 عدة ، ومسند أبي يعلى : 2 / 297 ح 1021 ،
والمنتخب من مسند عبد بن حميد : 108 ح 240 عن زيد بن ثابت و 114 ح 265 عن زيد بن
أرقم ، ومشكاة المصابيح : 3 / 1735 - 1732 - 1735 ح 6144 - 6131 - 6143 باب فضائل
علي عن زيد وجابر ، مصابيح السنة : 4 / 185 - 189 ح 4815 - 4816 . والمصنف لابن
أبي شيبة : 6 / 313 - 371 ح 31670 - 32077 و 7 / 411 ح 36942 ، وصحيح مسلم : 15 /
وأسد الغابة 2 : 12 ترجمة الإمام الحسن 7 ، وج 3 : 147 ترجمة عبد الله بن حنطب و 92 ترجمة عامر بن ليلى ، وتحفة الإشراف : 2 / 278 ح
2615 ، وجلاء الأفهام : 121 الفصل الرابع - معنى الآل ،
وتفسير المحرر الوجيز : 1 / 36 المقدمة والطبقات الكبرى 2 : 150 ذكر ما قرب لرسول
الله من أجل ، ومستدرك الصحيحين : 3 : 109 - 533 كتاب معرفة الصحابة ، وصحيح
الترمذي 5 : 663 - 662 كتاب المناقب ح 3786 ، و 351 باب التفسير ط . مصر - دار
الحديث ، وخصائص النسائي : 85 ، والمعجم الكبير للطبراني 3 : 65 - 66 - 67 ،
والعقد الفريد 4 : 53 كتاب الخطب - خطبة الرسول في حجة الوداع ، والدر المنثور 2 :
60 مورد آية ( واعتصموا بحبل الله ) آل عمران 103 وج 6 : 7 - 306 ، وتفسير الرازي
8 : 162 مورد آية ( واعتصموا ) ، وتاريخ اليعقوبي 2 :
212 ذيل خلافة علي 7 ه وكنز العمال : 1 / 172 ح . 870 و 379 ح 1650 ، و 384 ح 1667
وما بعدهم - باب الاعتصام بالكتاب والسنة - ، وبحار الأنوار : 36 / 331 - 338 -
373 ، وكفاية الأثير : 87 - 91 - 128 - 137 - 163 - 261 ) ‹ هامش ص 229 › ( 1 )
سوف يأتي توضيحه من المصنف في الفصل ما بعد اللاحق . وكذلك في ما بعد لاحق اللاحق
.
. . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
علم كل شئ وإلا لما كانا حبلين متصلين ،
ولما قال : ( كهاتين ) ، وقرن إحدى إصبعيه إلى الأخرى ، ثم بين أن علم القرآن
عندهم وأنهم مساوين للكتاب في الشرف والطاعة ، فقال : ( ولا أقول كهاتين فأفضل هذه
على الأخرى ) ، فمن آمن بكل الكتاب وأنكر حرفا منه لم يكن مؤمنا لأن اللازم له في
الاعتقاد تصديق الكل ، أو إنكار الكل ، لكن إنكار الكل كفر ، وتصديق الكل إيمان .
فصل وكذا
القول في العترة فمن أنكر حرفا من أقوالهم أو رد حديثا
من أحاديثهم أو شك في شئ من أمرهم أو استعظم حديثا من
سرائرهم ، فقد أنكر الكل ، فبان بهذه البراهين الموجبة لحق اليقين أن عليا حاكم
يوم الدين ، ومالك يوم الدين ( 1 ) ، وولي يوم الدين ، بأمر رب العالمين . ‹ صفحة
230 ›
فصل ( الولاية المطلقة
والمقيدة )
وبيان ذلك
أن الملك والتملك والحكم والتحكم ، والولاية والتولية إما أن يكون على الإطلاق أو
بالتقيد ، فمالك يوم الدين الرحمن الرحيم مطلقا هو الله الذي لا إله إلا هو الذي
كل شئ ملكه ومملوكه ، وهو الرب الذي تفتتح الفاتحة
بحمده وتعديد صفاته ، وتختمها بالتضرع إليه ، وأما الحاكم في ذلك اليوم بالولاية
عن أمر الله ورسوله أمير المؤمنين وذلك لأن ولايته حبل ممدود وعهد مأخوذ من الأزل
إلى الأبد غير محدود ، فهو لما كان مالك الدنيا وأهلها ، وحاكمها ووليها ، فكذا هو
مالك الآخرة وحاكمها ووليها ، لأن ولايته عروة لا انفصام لها ، ودولة لا انقضاء
لها ، وإليه الإشارة بقوله : ( فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ) ( 1 )
وهو ولاية علي وحكمه لا انقطاع لها ، دليله قوله سبحانه : ( أليس الله بأحكم الحاكمين ) ( 2 ) ، قال علي بن إبراهيم في تفسيره :
أمير المؤمنين أحكم الحاكمين ، فهنا إطلاق وتقييد ، أما أمير المؤمنين عليه السلام
فهو حاكم يوم الدين ومالكه وواليه ، وصاحب الحساب عن أمر الله وأمر رسوله ، ومالك
يوم الدين مطلقا من غير تقييد ولاية ، ولا إذن والله رب العالمين رب الدنيا
والآخرة ، وإله الدنيا والآخرة ، وخالق الدنيا والآخرة . فصل وهذا مثل قول المتكلم
: الله واجب الوجود حي ، والإنسان حال وجوده أيضا واجب الوجود حي ، فأشركا في لفظ
الوجود وامتازا بفصل الإمكان والوجوب ، فالرب سبحانه حي واجب الوجود لذاته ،
والإنسان حي واجب الوجود لغيره ، فكذا إذا قلنا علي مالك يوم الدين وحاكم يوم
الدين ، وأنت تعلم أنه ولي الله وخليفته ، والولي له الحكم فلا يحتاج العقل السليم
إذن مع معرفة الحكم المقيد إلى قرينة أخرى . ( تنبيه ) كما أنه إذا قيل : فلان
مالك ديوان العراق وحاكم ديوان العراق على الإطلاق ، فيذهب ‹ صفحة 231 › العقل
السليم إلى أنه هو السلطان ولا يحتاج إلى قرينة أخرى تميزه بل إطلاق اللفظ يدل على
أنه هو الوزير وصاحب الدفتر ، وكذا إذا قلت علي مالك يوم الدين ، فلا يذهب ذهن
المؤمن الموحد العارف بالله ، إلى أن عليا هو الله لا إله إلا الله ، بل إنه ولي
الله ، والولي وهو الوالي فله الولاية والحكم بأمر الله الذي حكمه وولاه ، وفوض إليه أمره وارتضاه ، فيا عجبا كيف يرضاه الله
وأنت لا ترضاه ( أم يحسدون الناس على ما أتاهم الله من فضله ) ، ثم تدعي بعد ذلك
أنك تعرفه وتتولاه ، وأنت والله الكاذب في دعواه ، فأنت كما قيل : ( ويدعي وصلها
من ليس يعرفها * إلا بأسمائها في ظاهر الكتب ) فأنت في أمر علي لم ترض برضى الله ، ومن لم يرض برضى الله
، فعليه لعنة الله ، ألم تعلم يا منكر الحق بجهله ومدعي العرفان وليس من أهله أن
الدنيا والآخرة لهم خلقت ، وبهم خلقت ، ومن أجلهم خلقت ، وإليهم سلمت ، والله غني
عن العالمين ، وما هو بهم ولهم ولأجلهم ، فهو مالكهم وملكهم من غير مشارك ولا
منازع ، وثبوت ذلك من قول المعصوم ، ووجوب تصديق قوله واعتقاده ، لأن من رد على
الولي فقد رد على الرب العلي ومن رد على العلي كفر ، فمن رد على الحجة المعصوم فقد
كفر ، فها قد صرح الدليل أن من أنكر ولاية علي وحكمه في الدنيا والآخرة فقد كفر ،
ومن أنكر أحد الطرفين فهو واقف بين جداري الكفر والإيمان ، فإما أن يعتقد الطرفين
فيؤمن ، أو ينكر الطرفين فيكفر ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لرجل قال له :
أنا أحبك وأهوى فلان ، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : أنت الآن أعور فإما أن
تعمى ، أو تبصر ( 1 ) ؟ فمن شاء فليؤمن ، ومن شاء فليكفر ، ( 2 ) وما أنت عليهم
بمسيطر . ( 3 )
فصل وبيان
هذا البرهان أنه تعالى أمر نبيه يوم الدار أن يجمع بني عبد المطلب ويدعوهم إلى
الله ، فمن سبق منهم إلى تصديقه وأجاب دعوته وصدق رسالته ، ورأى نصرته ، كان له
بذلك أربعة عهد من الله ورسوله ، ويكون أخاه وصهره ، والحاكم بعده فما أجاب دعوته
غير علي فبايعه ونصره وفداه ، ووفى بعهد الله فخاض في رضاه الحتوف
، وقتل في طاعته الألوف ، وكشف عن دينه الكربات ‹ صفحة
232 › وكسر الرايات ، وأخرج الناس من الظلمات ، ولما قبض رسول الله صلى الله عليه
وآله تواثبت الضباع على الأسد المناع ، والولي المطاع ، فعوت على الهزبر الكلاب ،
وصار ملك أبي تراب ، الذي صفي سبحانه بحد الحساب ، والقرضاب
، إلى . . . الذي لم يحمر له حسام يوم الضراب ، ولا مر
في ملمة ( 1 وخاب ، ولم يدع إلى كريهة فأجاب . فوجب في عدل الكريم الوهاب ، من باب
( أوفوا بعهدي أوفي بعهدكم ) أن يوليه يوم القيامة عوضا عن حقه الممنوع في الدنيا
حكم يوم الحساب ، وإليه الإشارة بقوله : ( ويؤت كل ذي فضل فضله ) ( 2 ) لأن
المواهب الربانية والتحف الإلهية ، إما أن تكون استحقاقا أو تفضلا ، وكلاهما
حاصلان لأمير المؤمنين عليه السلام ، أما الاستحقاق فإن الله أوجد فيه من الأسرار
الإلهية ، والقوى الربانية ، والخواص الملكية ما لم يوجد في غيره من البشر ، حتى
تاه ذو اللب في معناه وكفر ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وآله : ( خلقت أنا
وعلي من جنب الله ولم يخلق منه غيرنا ) ( 3 ) ، وجنب الله معناه علم الله ، وحق
الله له كإحياء الأموات والأخبار بالمغيبات ، وتكلم أذياب
الفلوات ، وإغاضة ماء الفرات
، ورجوع الشمس له بعد الغياب ، وإظهار وإيراد المعجبات ، وأما التفضل فإن الله
يختص برحمته من يشاء ، ففرض الله إليه وأمر العباد وجعله الحاكم يوم المعاد ، فهو
حاكم يوم الدين ، ومالك يوم الدين ، وولي يوم الدين ، ولا ينكر هذا الحق المبين ، إلا
من ليس له حظ من الإيمان واليقين ، ومن لا إيمان له كافر فوجب على من شم حقائق
الإيمان استنشاق نسيم أزهار هذه الأشجار ، والتصديق لهذه الآثار ، ومن أنكرها ولو
حرفا منها فقد عارض زكام الكفر خيشوم إيمانه فليداووه بسعوط
التصديق ، ولكن ذاك في حقق التحقيق ، ومن أعرض عن واضح الدليل ، فقد ضل عن سواء
السبيل . ‹ صفحة 233 ›
اعترض
معترض من أهل التقليد ، وممن هو عن إدراك التحقيق بعيد ، فقال : إذا قلنا مالك يوم
الدين علي ، وحاكم يوم الدين علي ، يلزم أن يكون الرحمن الرحيم أيضا عليا ، فقلت له
: ليس الأمر كما ذهب إليه وهمك ، وقصر عن إدراكه فهمك ، لأنا لا ندعي أن عليا مالك
يوم الدين من هذه الآية ، لأنا إذا قلنا : الحمد لله رب العالمين فإنا نشهد أن
جميع المحامد بجوامع الكلم من كل مادح وحامد ، فإنها لله رب العالمين يستحقها
ويستوجبها الرحمن الرحيم ، ويجري عليها عدلا وقسطا ، مالك يوم الدين الذي طوق
بإحسانه أهل سماواته وأرضه ، أخرجهم بلطفه من كتم العدم ، وأفاض عليهم من سحائب
كرمه فوائض النعم ، ووسعهم بجوده وعفوه ومنه ، فهو مالك يوم الدين الذي كل شئ ملكه ومملوكه ، فله الملك للعباد ، والعدل في المعاد ،
لكنه يملك من أراد ، وإن تقطعت أكباد ذوي العناد . وإذا قلنا إياك نعبد وإياك
نستعين نقر بأن الموصوف بهذه الصفات هو المعبود الحق . فنقول : هناك ( اهدنا الصراط المستقيم ) نسأل بعد الحمد لواجب الوجود ، ومفيض الكرم والجود ، أن يهدينا إلى حب علي لأنه الصراط المستقيم
صراط الذين أنعمت عليهم ، وهم آل محمد صلى الله عليه وآله الذين لأجلهم خلق الكون
والمكان غير المغضوب عليهم ، وهم ( أي المغضوب عليهم ) أعداؤهم الذين يبدل الله
صورهم عند الموت ، ( ولا الضالين ) وهم شيعة أعدائهم .
فصل لما رأينا
الله سبحانه قد أدخل نبيه ووليه في صفاته ، وخص محمدا وعليا بعظيم آياته ، فقال في
وصف نبيه الكريم : لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم
بالمؤمنين رؤوف رحيم ( 1 ) وقال في حق وليه : وإنه في
أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ( 2 ) فهو الحاكم الحكيم ، لأن العلو هو الحكم ، فهو
العالي على العباد ، والحاكم يوم التناد ، لأن كل حاكم عال ‹ صفحة 234 › من غير
عكس ، وكل حاكم يوم الدين مالك من غير عكس ، فهو حاكم يوم الدين ومالك يوم الدين ،
بنص الكتاب المبين ، لأن من حكم في شئ ملكه ، وإليه
الإشارة بقوله : ( أو ما ملكتم مفاتحه ) ( 1 ) ومفاتيح الجنة والنار بيده فهو
المالك ليومئذ والحاكم إذا ، ومن كذب هذا وأنكر سيرى
برهانه حين يبشر الله أكبر ، والحاكم يوم البعث حيدر ، ولعنة الله على من أنكر ،
وقوله : حكيم لأنه قسيم الجنة والنار ( 2 ) لأن حبه إيمان وبغضه كفر ، وهو يعرف
وليه وعدوه فهو إذا يقسم وليه إلى النعيم وعدوه إلى الجحيم ، من غير سؤال فهو
العلي الحكيم .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
‹ هامش ص 229 › ( 1 ) سوف يأتي توضيحه من المصنف في الفصل ما بعد
اللاحق . وكذلك في ما بعد لاحق اللاحق . ‹ هامش ص 230 › ( 1 ) البقرة : 256 . ( 2
) التين : 8 . ‹ هامش ص 231 › ( 1 ) بحار الأنوار : 27 / 78 ح 16 . ‹ هامش ص 232 ›
( 1 ) كذا في النسخة الخطية ، في المطبوع بلفظ مسلم . ( 2 ) هود : 3 . ( 3 ) في
بحار الأنوار : ( خلقنا الله جزءا من جنب الله ) - 24 / 192 ح 8 . ‹ هامش ص 233 ›
( 1 ) التوبة : 128 . ( 2 ) الزخرف : 4 . ‹ هامش ص 234 › ( 1 ) النور : 61 . ( 3 )
كذا في المخطوط ، وفي المطبوع : 1011 . ( 4 ) كذا في المطبوع أما في المخطوط
فالعدد 242 .