خاتمة لمباحث الحقيقة و المجاز

اعلم انّك بعد ما احطت خبرا بما قدّمناه في تعريف الحقيقة و المجاز تعريف جواز الواسطة بينهما نظرا إلى أنّهما لما كانا أمرين وجوديين غير مجتمعين في محل واحد من جهة واحدة و لم يكونا متضايفين ، يكون التّقابل بينهما تقابل التّضاد ،

و مقتضاه جواز خلوّ المحلّ عن الضدّين كما لا يخفى ، فعلى هذا يجوز عدم اتّصاف اللفظ بشي‏ء ، من الحقيقة و المجاز بلا إشكال ، و قد اشتهر التّمثيل لذلك في كلام

[ 50 ]

الاصوليّين باللفظ قبل أن يكون مستعملا في الموضوع له و غيره ، فانه لا يكون حقيقة و لا مجازا لظهور اعتبار الاستعمال في حدّيهما .

قال بعض المحققين : إنّ المراد من ذلك أنّ اللفظ حين الوضع قبل أن يكون مستعملا ليس بحقيقة و لا مجاز ، لا أنّ المستعمل حال عدم الاستعمال خارج عنهما بل هو حينئذ حقيقة و مجاز حقيقة بالنّسبة إلى ما وضع له و استعمل فيه ، مجاز بالنسبة إلى ما استعمل فيه و لم يوضع له ، ألست تقول في الأسد إنّه حقيقة في الحيوان المفترس مجاز في الرّجل الشجاع و هكذا في كلّ لفظ لفظ فعلى هذا فما من حقيقة و لا مجاز إلا و قد كان قبل الاستعمال واسطة انتهى .

و ربّما عدّ منها الألفاظ التي يقصد بها أنفسها لا معانيها الموضوعة لها ، كما يقال : ضرب فعل ماض و من حرف جرّ و أين حرف استفهام ، فانّها ليست بحقيقة و لا مجاز ، لانتفاء الوضع و التّأويل فيها ، بل إنّما اطلق اللفظ ليحضر في ذهن السّامع ثم يحكم عليه بشي‏ء من لوازمه .

قال السّيد المحقق الكاظمي في شرح الوافية فهو بهذا الاستعمال لا يتّصف باسميّة و لا فعليّة و لا افراد و لا تركيب و لا حقيقة و لا مجاز ، لأخذ المعنى في ذلك كله اه .

و ربّما يعدّ منها الأعلام الشّخصيّة كما عده العلامة الحلي ( قده ) في النّهاية و المحقق الكاظمي و الامدي و ربّما حكى عن الرّازي و البيضاوي و غيرهما ، و استدلوا عليه بأنّ الحقيقة إنّما يكون عند استعمال اللفظ فيما وضع له أوّلا ، و المجاز في غير ما وضع له أولا ، و ذلك يستدعي كون الاسم الحقيقي و المجازي موضوعا في وضع اللغة لشي‏ء قبل هذا الاستعمال و أسماء الأعلام ليست كذلك فان مستعملها لم يستعملها فيما وضعها أهل اللغة له أوّلا ، و لا في غيره ، لأنّها ليس لها وضع سابق ، مضافا إلى أنّ مستعملها لم يلاحظ في مسمّياتها علاقتها لمسمّياتها اللغوية ، فلا تتّصف بشي‏ء من الحقيقية و المجازية .

[ 51 ]

اقول : و الانصاف ان ذلك لا يخلو عن اشكال ، لأن مقتضى حصرهم الأقسام الحقيقة في الثّلاثة المشهورة أعني اللغوية و الشرعيّة و العرفية و إن كان يفيد خروجها عنها كخروجها عن المجاز .

اما الشرعية فواضح . و اما اللغوية فلأن واضعها واضع اللغة و معلوم أنّ الأعلام ليست كذلك ، إذ لكلّ منها واضع مخصوص على أنّ الحقيقة اللغوية إنما وضعها واضع اللغة لتأليف محاورات أهل اللغة ، و لا يختصّ باناس دون اناس ، و هذه ليست كذلك ، مع أنّها لا تختصّ بلغة دون لغة و لا تزال تتجدّد . و امّا العرفية العامة فلانّها بالاشتهار و التعيّن و الاعلام بالتشخيص و التعيين و العرفية ليس لها واضع معيّن بخلاف الاعلام .

و امّا العرفية الخاصّة فلتصريحهم بأنّ الوضع فيها من قوم أو فريق يشتركون في فنّ أو صنعة ، و الأعلام ليست كذلك ، لكون الوضع فيها من واحد غالبا مضافا إلى أنّ العرفية الخاصّة إنّما تكون حقيقة لو كان المستعمل لها من أهل ذلك الاصطلاح ، فان الفعل مثلا إذا استعمله غير النّحاة فيما يقابل الاسم و الحرف يكون مجازا ، لكونه مستعملا في غير ما وضع له في اصطلاح التّخاطب ، بخلاف الأعلام فانّها لا تختص باصطلاح دون اصطلاح ، و لكنّها معذلك كله لا يبعد القول بكونها حقيقة لصدق حدّه عليها ، فلا بدّ أن تجعل قسما رابعا و تسمّى بالحقيقة العلميّة .

و لذلك أورد العميدي في شرح التّهذيب على القائلين بالخروج بأن أكثر الأعلام منقولة عن معان وضعها لها أهل اللّغة ، و ما مثّل به و هو زيد و عمرو موضوعان لغة فانّ زيدا مصدر زاد و عمرا مصدر عمر ، و كونها مستعملة لا فيما وضعها له أهل اللغة و لا في غيره محال ، لاستحالة ثبوت واسطة بين هذين القسمين .

قال : و الحقّ إنّ الأعلام بعد استعمالها حقايق بالنّظر إلى وضعها الجديد ،

و أمّا بالنّظر إلى اللغة فليس حقايق و لا مجازات و إن كانت منقولات عن معان وضعها لها أهل اللغة ، لأنّ واضعها أعلاما لم يستعملها في معانيها اللغوية ، و لم يلاحظ في مسمّياتها علاقتها بالمسمّيات اللغوية ، و قبل استعمالها ليست حقايق و لا

[ 52 ]

مجازات فيما هي أعلام عليه مطلقا انتهى .

مع أنّه يمكن ادخالها في العرفيّة الخاصّة ، إذ الظاهر أنّه لا يعتبر فيها صدور الوضع عن قوم أو طايفة كما توهمه بعضهم ، بل يكفي صدوره من بعض و لو واحدا ،

كيف و الحقيقة الشّرعيّة على القول بثبوتها ليست ، الاّ من العرفية الخاصّة ، مع أنّ واضعها ليس الاّ الشّارع .

و امّا القول بأنّ العرفيّة الخاصّة إنّما تكون حقيقة إذا كان المستعمل من أهل الاصطلاح فممنوع ، بل الظاهر أنّه إذا استعمله في كلام أهل ذلك الاصطلاح غيرهم ممّن تابعهم في ملاحظة ذلك الوضع كان حقيقة كما هو الشّأن في جميع الحقايق ، من غير فرق هذا كله في الأعلام الشّخصيّة ، و أمّا الأعلام المغلبة في العرف العام كالبيت و النّجم ، أو في العرف الخاصّ كالكتاب لكتاب سيبويه فمن العرفيّة العامّة و الخاصّة بلا ريب ، كما أنّ الأعلام الجنسيّة كاسامة و ثعالة لا كلام في أنّها من الحقايق اللغوية .