لما ذكر عليه السّلام كيفيّة خلق السّماوات السّبع و تزيينها بزينة الشّمس و القمر و الكواكب ، أشار بعد ذلك إلى سكّانها و حالات السّاكنين فيها و صفاتهم و أصنافهم المختلفة باختلاف الصّفات ، و أقسامهم الكثيرة بكثرة الشّئون و الحالات فقال عليه السّلام :
( ثم فتق ما بين السّماوات العلى ) المستفاد من كلام الشّارح البحراني أن كلمة ثمّ هنا للتّرتيب الذّكري حيث قال : فان قلت : لم أخر ذكر فتق السّماوات و إسكان
-----------
( 1 ) المجلسى ره منه .
[ 5 ]
الملائكة لها عن ذكر إجراء الشّمس و القمر و تزيينها بالكواكب و معلوم أنّ فتقها متقدّم على اختصاص بعضها ببعض الكواكب ؟ قلت : إنّ إشارته إلى تسوية السماوات إشارة جمليّة ، فكأنّه قدّر أوّلا أن خلق السّماوات كرة واحدة كما عليه بعض المفسرين ، ثم ذكر علياهنّ و سفلاهن لجريانهما مجرى السّطحين الدّاخل و الخارج لتلك الكرة ، ثم أشار إلى بعض كمالاتها و هي الكواكب و الشّمس و القمر جملة ،
ثم بعد ذلك أراد التّفصيل فأشار إلى تفصيلها و تمييز بعضها عن بعض بالفتق و إسكان كلّ واحدة منهنّ ملاء معيّنا من الملائكة ، ثم عقب ذلك بتفصيل الملائكة ، و لا شك أن تقديم الاجمال و تعقيبه بالتفصيل أولى في الفصاحة انتهى .
أقول : ظاهر كلمة ثمّ و ظاهر سياق كلامه عليه السّلام أنّها هنا للتّرتيب الحقيقي فيستفاد منهما أن خلق السّماوات بعد خلق الشّمس و القمر و الكواكب ، و بعد جعلها سببا ، و دعوى معلوميّة تقدّم الفتق على اختصاص بعضها ببعض الكواكب ممنوعة إذ لم يقم دليل على التقدّم ، بل يمكن أن يكون السّماوات السّبع مرتتقة مطبقة مخلوقة فيها الكواكب ، ثم فصّل بينها بالهواء و نحوه ، كما روي نظيره في مجمع البيان عن ابن عبّاس في تفسير الآية الشّريفة :
« أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقًا فَفَتَقْناهُما » .
حيث قال : المعنى كما كانتا ملتزقتين منسدّتين ففصّلنا بينهما بالهواء ، عن ابن عبّاس و غيره انتهى .
فان قيل : قد مضى في ثالث تنبيهات الفصل السّابق في حديث أبي جعفر عليه السّلام ما يدل على بطلان هذا التّفسير ، حيث أمر الشامي بالاستغفار عن زعم كون المراد بالرّتق و الفتق الالتصاق و الانفصال إلى آخر ما مضى .
قلت : ما ذكرناه هنا من مجمع البيان إنّما هو على سبيل التّنظير ، ضرورة أنّ كلامنا في فتق السّماوات ، و تفسير ابن عبّاس كالحديث السّابق ناظران إلى
[ 6 ]
فتق السّماء و الأرض ، و أحدهما غير الآخر ، و بطلان احتمال الالتصاق بين السّماء و الأرض بدليل خاص لا يوجب بطلان احتمال الالتصاق في السّماوات السّبع .
و الحاصل أنّه لا دليل على كون ثمّ في كلامه عليه السّلام للترتيب الذكري بخصوصه بل يحتمل ذلك و كونها للترتيب المعنوي ، و على أى تقدير ففي كلامه عليه السّلام دلالة على بطلان مذهب الفلاسفة من تماس الأفلاك و عدم الفصل بينهما بهواء و نحوه .
و كيف كان فلما خلق اللّه سبحانه السّماوات و فصّل بعضها عن بعض ( ملأهنّ أطوارا من ملائكته ) و أسكنهم فيها على وفق ما يقتضيه تدبيره و حكمته ،
و للنّاس في ماهية الملائكة آراء متشتّة و أهواء مختلفة .
فمنهم من قال : إنّها أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكلات بأشكال مختلفة كاملة في العلم و القدرة على الأفعال الشّاقة ، مسكنها السّماوات ، رسل اللّه إلى أنبيائه و امناءه على وحيه يسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون ، و لا يعصون اللّه ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون ، نسبه في شرح المقاصد إلى أكثر الامة و الفخر الرّازي إلى أكثر المسلمين .
و منهم من قال : إنّها هي هذه الكواكب الموصوفة بالاسعاد و الانحاس ،
المسعدات ملائكة الرّحمة ، و المنحسات ملائكة العذاب ، و هو مذهب عبدة الأوثان .
و منهم من قال : إنّهم متولّدون من جوهر النّور لا على سبيل التناكح ، بل على سبيل تولد الضوء من المضيء ، و الحكمة من الحكيم ، كما أنّ الشّياطين متولدون من جوهر الظلمة حسب تولد السّفه من السّفيه ، و هو رأى معظم المجوس و الثّنويّة المثبتين للأصلين حسب ما مر تفصيله في شرح الفصل السّابع من فصول الخطبة ، و هذه الأقوال متّفقة في كون الملائكة أشياء متحيزة جسمانية .
و منهم من قال : إنّهم في الحقيقة هي الأنفس النّاطقة بذاتها المفارقة للأبدان
[ 7 ]
على نعت الصّفا و الخيريّة ، كما أنّ الشّياطين هي الأنفس النّاطقة على وصف الخباثة و الكدرة ، و هو قول طائفة من النّصارى .
و منهم من ذهب إلى أنّها جواهر قائمة بأنفسها و مخالفة بنوع النّفوس النّاطقة البشريّة من حيث الماهيّة و أكمل منها قوة ، و أكثر علما ، و إنّما النفوس البشريّة جارية منها مجرى الأضواء بالنسبة إلى الشّمس ، ثمّ إنّ هذه الجواهر على قسمين منها ما هي بالنّسبة إلى أجرام الأفلاك و الكواكب كنفوسنا النّاطقة بالنسبة إلى أبداننا و منها ما هي أعلى شأنا من تدبير أجرام الأفلاك ، بل هي مستغرقة في معرفة اللّه و محبّته ، و مشتغلة بطاعته ، و هذا القسم هم الملائكة المقرّبون ، و نسبتهم إلى الملائكة الذين يدبّرون السّماوات كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا الناطقة ،
و هذان القسمان اتّفقت الفلاسفة على إثباتهما .
و منهم من أثبت نوعا آخر و هي الملائكة المدبّرة لأحوال هذا العالم السفلي ثم قالوا : إنّ المدبرات إن كانت خيرات فهم الملائكة ، و إن كانت شريرة فهم الشّياطين ، و هذه الأقوال الأخيرة متّفقة في نفي التّحيز و الجسمية عنها هذا .
و قال المحدّث المجلسي طاب ثراه في البحار : اعلم أنه اجتمعت الاماميّة بل جميع المسلمين إلاّ من شذّ منهم من المتفلسفين الذين أدخلوا أنفسهم بين المسلمين لتخريب اصولهم و تضييع عقايدهم : على وجود الملائكة ، و أنّهم أجسام لطيفة نورانية اولي أجنحة مثنى و ثلاث و رباع و أكثر قادرون على التّشكل بالاشكال المختلفة ، و أنّه سبحانه يورد عليهم بقدرته ما شاء من الأشكال و الصّور على حسب الحكم و المصالح ، و لهم حركات صعودا و هبوطا ، و كانوا يراهم الأنبياء و الاوصياء عليهم السّلام ، و القول بتجرّدهم و تأويلهم بالعقول و النّفوس الفلكية و القوى و الطبايع و تأويل الآيات المتظافرة و الأخبار المتواترة تعويلا على شبهات واهية و استبعادات وهميّة ، زيغ عن سبيل الهدى ، و اتّباع لأهل الهوى و العمى انتهى .
ثمّ إنّ للملائكة أقساما لا تحصى حاصلة من اختلافهم في النّعوت و الصّفات ،
و تفاوتهم في المراتب و الدّرجات ، فمنهم الكرّوبيون و منهم الرّوحانيون و منهم
[ 8 ]
المدبّرون و منهم الحافظون و منهم المسبحون و منهم الصّافون و منهم أمناء الوحى و سفراء الرسل و منهم الخزنة للجنان و منهم الزّبانية للنيران إلى غير ذلك ، و قد أشار إلى جملة منها الامام سيّد السّاجدين و زين العابدين عليه السّلام في دعاء الصّحيفة في الصلاة على حملة العرش و كل ملك مقرّب ، و أمّا الامام عليه السّلام فقد قسمهم هنا إلى أقسام أربعة و فصّلهم بكلمة من ، و الظاهر أنّ القسمة ليست حقيقية ، بأن يكون بين الأقسام تباينا و انفصالا حقيقيا ، ضرورة جواز اتّصاف بعض هذا الأقسام بالأوصاف الثّابتة لغيره ، و جواز اجتماع اثنين منها ، أو ثلاثة أو جميع الأربعة في نوع واحد أو فرد واحد كما قال عليه السّلام في الصّحيفة السّجادية :
« أللّهم و حملة عرشك الّذين لا يفترون من تسبيحك ، و لا يسأمون من تقديسك » .
حيث أثبت لحملة العرش كونهم مسبحين و قد فصل 1 هنا حيث قال عليه السّلام : و مسبّحون لا يسأمون ، و منهم الثّابتة اه و قد علم ممّا ذكرنا أنّ هذه القسمة ليست أيضا بعنوان منع الجمع ، فبقي كونها بعنوان منع الخلوّ ، أو جميع أصناف الملائكة من المذكورين هنا و غيرهم يمكن دخوله في قوله عليه السّلام : و مسبّحون لا يسأمون ، إذ ما من ملك إلاّ و هو مسبّح له سبحانه كما قال سبحانه حكاية عنهم : و نحن نسبح بحمدك ، غاية الأمر أنّ بعضا منهم متّصف مع ذلك بصفة اخرى أوجبت جعله قسما برأسه فافهم .
و ممّا ذكرنا يظهر ما في كلام القطب الرّاوندي على ما حكى عنه الشّارح المعتزلي من جعله حفظة العباد و السّدنة لأبواب الجنان مع امناء الوحى قسما واحدا و ارجاعه الأقسام الأربعة إلى الثلاثة ، كما يظهر منه أيضا ما في كلام الشّارح البحراني من جعله امناء الوحى و ألسنة الرّسل و المختلفين بالقضاء و الأمر ،
داخلين في الأقسام السّابقة على هذا القسم في كلامه عليه السّلام ، لما عرفت من أنّ
-----------
( 1 ) اى بين المسبحين و بين حملة العرش منه
[ 9 ]
تفصيله في الأقسام باعتبار اختلاف الصّفات ، لا باعتبار القسمة الحقيقية ، و معه لا داعى إلى تقليل الأقسام و إرجاع بعضها إلى بعض و إدخالها فيه ، و إن كان المقصود بيان أن حفظة العباد و السدنة للأبواب كما أنّ فيهم وصف الحافظة و السدانة كذلك فيهم وصف الامانة .
فنقول : إنّ فيهم وصف المسبحية أيضا فما الدّاعى إلى جعلهم مع الامناء بخصوصهم قسما واحدا ، و كذلك نقول : إنّ اتّصاف امناء الوحى و ألسنة الرّسل و المختلفين بالقضاء و الأمر ، بكونهم مع ذلك أيضا سجودا لا يركعون مثلا لا يوجب إدخالهم في هذا القسم ، لانّا نقول : إنّهم متّصفون مع ذلك بكونهم حفظة العباد أيضا فانّ جبرئيل مثلا مع كونه أمين الوحى كان حافظا لابراهيم عليه السّلام مثلا عند إلقاء النّار ، و ليوسف عليه السّلام في غيابة الجبّ و نحو ذلك .
إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى شرح الكلام و توضيح الأقسام التي أشار إليها بقوله : ( فمنهم ) أى القسم الأوّل منهم ( سجود لا يركعون ، و ركوع لا ينتصبون ،
و صافّون لا يتزايلون ، و مسبحون لا يسأمون ) يعني أنّ بعضا منهم ساجد لا يرفع رأسه من السجود ليركع ، و منهم من هو راكع لا يقوم من ركوعه ، و منهم صافّون للعبادة لا يتفارقون من مكانهم ، و منهم مسبحون لا يملّون من تسبيحهم ، كما قال سبحانه حكاية عنهم :
« وَ ما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ ، وَ إِنّا لَنَحْنُ الصّآفُّونَ ، وَ إِنّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ » .
إشارة إلى تفاوت مراتبهم و درجاتهم في العبادة ، أى ما منّا أحد الاّ له مقام معلوم في العبادة و المعرفة و الانتهاء إلى أمر اللّه في تدبير العالم ، و إنّا لنحن الصافّون في اداء الطاعة و منازل الخدمة ، و إنّا لنحن المسبحون المنزّهون اللّه عمّا لا يليق به .
و قيل : إنّ المراد بالصّافين القائمون صفوفا في الصلاة ، و عن الكلبي صفوف
[ 10 ]
الملائكة في السماء كصفوف أهل الدّنيا في الأرض ، و عن الجبائي المعنى صافون بأجنحتنا في الهواء للعبادة و التّسبيح ، و المراد بالمسبحين القائلون سبحان اللّه على وجه التعظيم للّه هذا .
و ينبغي أن يعلم أنّ المراد بالسجود و الرّكوع و الصّف و التسبيح في كلامه عليه السّلام ما هو المتبادر منها ، أعني وضع الجبهة على ما يصحّ السجود عليه في الأوّل ،
و الانحناء في الثّاني ، و القيام في خط مستطيل في الثّالث ، و قول سبحان اللّه و نحوه في الرابع ، و أنكر الشّارح البحراني ذلك و لا بأس بنقل عبارته لتوضيح مارامه .
قال : ثمّ إنّ السّجود و الرّكوع و الصّف و التسبيح عبادات متعارفة من الحقّ و متفاوتة في استلزام كمال الخشوع و الخضوع ، و لا يمكن حملها على ظواهرها المفهومة منها ، لأنّ وضع الجبهة على الأرض و انحناء الظهر و الوقوف في خط واحد و حركة اللّسان بالتسبيح امور مبنيّة على وجود هذه الآلات التي هي خاصة ببعض الحيوانات ، و بالحري أن يحمل تفاوت المراتب المذكورة لهم على تفاوت كمالاتهم في الخضوع و الخشوع لكبرياء اللّه و عظمته ، إطلاقا للفظ الملزوم على لازمه على أنّ السجود في اللّغة هو الانقياد و الخضوع كما مر .
إذا عرفت ذلك فنقول : يحتمل أن يكون قوله منهم سجود إشارة إلى مرتبة الملائكة المقربين ، لأن درجتهم أكمل درجات الملائكة ، فكانت نسبة عبادتهم و خضوعهم إلى خضوع من دونهم كنسبة خضوع السجود إلى خضوع الرّكوع .
فان قلت : إنّه قد تقدّم أنّ الملائكة المقرّبين مبرؤون عن تدبير الأجسام و التعلّق بها ، فكيف يستقيم أن يكونوا من سكّان السّماوات و من الأطوار الذين ملئت بهم .
قلت : إنّ علاقة الشّيء بالشّيء و إضافته إليه يكفي فيها أدنى مناسبة بينهما ،
و المناسبة هنا حاصلة بين الأجرام السّماويّة و بين هذا الطور من الملائكة ، و هي مناسبة العلّة للمعلول ، و الشّرط للمشروط انتهى ، و أشار بقوله : فان قلت : إنه قد تقدّم
[ 11 ]
اه ، إلى ما ذكره سابقا من أن المقرّبين هم الذّوات المقدّسة عن الجسمية و الجهة ،
و عن حاجتها إلى القيام بها و عن تدبيرها اه .
أقول : و أنت خبير بما فيه .
أما اولا فلأنّ صرف الألفاظ المذكورة عن معانيها الظاهرة فيها حسب ما اعترف به 1 لا وجه له ، بل قد قام الأخبار المتواترة على المعنى الظاهر ، مثل ما رواه في البحار عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : إنّي أرى ما لا ترون ، و أسمع ما لا تسمعون إنّ السّماء أطت 2 و حقّ لها أن تئط ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ و ملك واضع جبهته ساجد اللّه .
و عن ابن جبير أنّ عمر سأل النبي صلّى اللّه عليه و آله عن صلاة الملائكة فلم يرد عليه شيء فأتاه جبرئيل فقال إنّ أهل سماء الدّنيا سجود إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي الملك و الملكوت ، و أهل السّماء الثّانية ركوع إلى يوم القيامة يقولون : سبحان ذي العزة و الجبروت ، و أهل السّماء الثّالثة قيام إلى يوم القيامة يقولون : سبحان الحيّ الذى لا يموت .
و في الأنوار عن الصّادق عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مررنا ليلة المعراج بملائكة من ملائكة اللّه عزّ و جل ، خلقهم اللّه كيف شاء ، و وضع وجوههم كيف شاء ليس شيء من أطباق وجوههم إلاّ و هو يسبح اللّه و يحمده من كلّ ناحية بأصوات مختلفة أصواتهم مرتفعة بالتّسبيح و البكاء من خشية اللّه ، فسألت جبرئيل عنهم ، فقال : كما ترى خلقوا إنّ الملك منهم إلى جنب صاحبه ما كلّمه قط : و لا رفعوا رؤوسهم إلى ما فوقهم ، و لا خفضوا رؤوسهم إلى ما تحتهم ، خوفا من اللّه و خشوعا ، فسلّمت عليهم فردّوا علىّ ايماء برؤوسهم ، و لا ينظرون إلىّ من الخشوع ، فقال لهم جبرئيل : هذا محمّد نبيّ الرحمة أرسله اللّه إلى العباد رسولا و نبيّا ، و هو خاتم الأنبياء و سيّدهم ، قال :
-----------
( 1 ) اى بالظهور منه
-----------
( 2 ) ناله كرد منه
[ 12 ]
فلمّا سمعوا ذلك من جبرئيل أقبلوا علىّ بالسّلام ، و بشّروني و أكرموني بالخير لي و لامّتي .
قال الشّارح : إنّه جاء في الخبر أنّ حول العرش سبعين ألف صفّ قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتّهليل و التكبير ، و من ورائهم مأة ألف صفّ قد وضعوا الايمان على الشّمائل ما منهم أحد إلاّ و هو يسبّح إلى غير ذلك ، ممّا يقف عليه المتتبّع ، فانّ نصّ الرّواية الأولى أنّ سجود الملائكة إنّما هو بوضع الجبهة ، و المستفاد من تخصيص السّاجدين بالسّماء الدّنيا و الرّاكعين بالثّانية ، و القائمين بالثّالثة ، في الرّواية الثّانية أنّ المراد من كلّ من الألفاظ المذكورة معانيها المتعارفة ، إذ لو اريد المعنى الذي ذكره الشّارح لزم أن يكون السّاجدون الذين هم أكمل خشوعا ، أدنى درجة و أسفل مكانا من الرّاكعين الذين هم أدنى خشوعا منهم ، و هكذا و هو كما ترى .
و منه يظهر أيضا فساد ما ذكره الشّارح في شرحه من جعل السّاجدين عبارة عن المقرّبين ، و الراكعين عبارة عن حملة العرش ، و الصّافين عبارة عن الحافّين حول العرش ، بملاحظة أنّ زيادة الخشوع يوجب ارتفاع الدّرجة ، و السّاجد أعلى خشية من الرّاكع فيكون أعلى درجة منه ، و الرّاكع أكمل خشوعا من الصّافين فيكون أعلى مقاما منهم .
وجه ظهور الفساد أنّ ما ذكره من قبيل الاستدلال بالعقل ، و لا عبرة به في مقابل النصّ الدّال على الخلاف ، و أمّا الرّواية الثّالثة فقد استفيد منها أنّ تسبيح الملائكة إنّما هو برفع الأصوات و تكلّمهم بحركة اللّسان ، حيث إنّهم ردّوا السّلام أوّلا على النّبي بالايماء ، ثم تعرض عليهم جبرئيل بالتكلّم فسلّموا عليه صلّى اللّه عليه و آله و بشروه ، و أمّا الرّواية الرّابعة فقد دلت على أنّ صفّ الملائكة إنّما هو بالقيام ،
كما دلّت على تسبيحهم برفع الأصوات هذا .
و ممّا ذكرناه عرفت أيضا ما في تخصيص الجوارح و الآلات ببعض الحيوات ،
[ 13 ]
و إنكار ثبوتها في حقّ الملائكة على ما هو المستفاد من ظاهر كلامه ، فانّ هذا عجب غاية العجب ، ضرورة أنّ الملائكة لهم أيد و أرجل و عواتق و أبصار و وجوه و أجنحة إلى غير ذلك من الجوارح المثبتة لهم في الآيات و الأخبار و الآثار ، بل كان أن يكون ضروريا ، غاية الأمر أنّ جوارحهم ليس من قبيل جوارحنا كثيفة ،
بل نورانية لطيفة ، و الظاهر أنّ ما ذكره من فروعات مذهب الفلاسفة المستندة إلى الأوهام السخيفة و العقول النّاقصة و الاستبعادات الوهميّة حسبما عرفت سابقا ، و لا يعباء بها قبال الأدلّة القاطعة و البراهين السّاطعة .
و أما ثانيا فلأنّه لقائل أن يقول : إنّه إذا لم يكن خضوع الملائكة و خشوعهم بعنوان السّجدة و الرّكوع و القيام و التّسبيح و نحو ذلك من العناوين المتصوّرة في عبادات البشر ففي ضمن أىّ عنوان يخضعون و يخشعون ؟
و إن كان المراد بالخضوع التكويني ، ففيه أنّ الخضوع التكويني عامّ لجميع الموجودات ، و لا اختصاص له بالملائكة ، إذ كلّ شيء خاضع له و مقهور تحت قدرته ، قال :
« و إن من شيء إلاّ يسبّح بحمده » و إن اريد الخضوع التكليفي كما هو الظاهر فلا بدّ و أن يكون التكليف في ضمن عنوان من العناوين ، و الثّابت في الأخبار أنّ عبادتهم إنّما هو في ضمن واحد من العناوين المذكورة ، و لم يثبت عنوان آخر وراء تلك العناوين من الأدلّة النّقلية و العقل لا مسرح له فيها .
هذا كلّه مضافا إلى قوله سبحانه :
« فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاّ إِبْليسَ » .
فانّ ذلك مقيد للعموم من جهات عديدة ، فيدلّ على سجود جميع أصناف الملائكة
[ 14 ]
و آحادهم و حينئذ نقول : إنّ سجدتهم لآدم إمّا أن يكون بالعنوان المتعارف الذي هو وضع الجبهة كما هو الظاهر ، ففيه دلالة على هدم جميع ما قاله الشّارح ، و إمّا أن يكون عبارة عن مجرّد إظهار التّواضع فهو خلاف الظاهر أولا من حيث إنّهم أظهروا التّواضع لآدم ، و اعترفوا بفضيلته حين أنبأهم بالأسماء و ثانيا من حيث إن حكاية حال قوم لقوم بألفاظ مخصوصة يوجب إرادة المعاني المتعارفة عند المحكيّ لهم من هذه الألفاظ ، و لا ريب أنّ المتبادر من السّجدة هو المعنى الشرعي ، هذا كلّه مضافا إلى إفادة بعض الأخبار 1 كون سجودهم بالعنوان المتعارف ، و بعد التّنزل نقول : إنّ أكثر المفسرين احتملوا إرادة كلّ من المعنيين ، فلو لم يتصوّر في حقهم وضع الجبهة لما احتملوا ذلك بل جعلوا الآية نصّا في المعنى الآخر .
و أما ثالثا فانّ احتماله كون المراد بالسّجود الملائكة المقرّبون نظرا إلى كون درجتهم أكمل الدّرجات كما أنّ خضوع السّجودي أفضل الخضوعات ممنوع ، لما قد مرّ في الرّواية السّابقة من أنّ أهل السّماء الدّنيا هم السّاجدون ، و أنّه ليس في السّماء موضع أربع أصابع إلاّ و فيها ملك ساجد ، مع أنّ المقرّبين عنده أرفع درجة من حملة العرش الذين هم أعلى درجة من أهل السّماء الدّنيا بمراتب ، و من أهل ساير السّماوات أيضا .
و أما رابعا فانّ المستفاد من الايراد الذي أورده على نفسه من كون المقرّبين منزّهين عن تدبير الأجسام اه ، و تقريره في الجواب ذلك حيث لم يتعرّض لردّه مضافا إلى تصريحه سابقا بما ذكره في الايراد حسب ما حكيناه عنه : انّ المقربين عنده منزّهون عن الجهة و الجسميّة و تدبير الأجسام و التعلّق بها كما هو رأى الفلاسفة الذي بيّناه سابقا ، و على ذلك فنقول إنّ جبرئيل هل هو ملك مقرّب أم لا ؟
فان قال : لا ، و لا أظنّه قائلا به ، فقد ردّ قوله سبحانه في وصفه :
-----------
( 1 ) هو رواية الصادق عليه السّلام منه
[ 15 ]
« إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَريمٍ ، ذي قوَّةٍ عِنْدَ ذي الْعَرْشِ مَكينٍ ،
مُطاعٍ ثَمَّ أَمينٍ » .
فانّ المكانة هو القرب كما صرّح به المفسّرون ، و قوله عليه السّلام في الصحيفة السجادية :
و جبرئيل الأمين على وحيك ، المطاع في أهل سمواتك ، المكين لديك المقرّب عندك » .
و الأخبار الكثيرة الدالة على ذلك ، مثل ما راه عليّ بن ابراهيم في حديث المعراج قال جبرئيل : أقرب الخلق إلى اللّه أنا و إسرافيل إلى غير ذلك ممّا لا حاجة إلى ذكره .
و إن قال نعم و هو الظاهر من كلامه بل صريحه في ذيل قوله : و منهم امناء على وحيه ، فنقول : إنّه كيف لا يكون في جهة و مكان و لقد قال سبحانه :
« وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى » .
و قال : « وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْاُفُقِ الْمُبينِ » .
و كيف يمكن انكار جسميّته و قد ملاء ما بين الخافقين بأجنحته ، و كيف ينكر تدبيره الأجسام مع أنّه كان ناصرا للنبي صلّى اللّه عليه و آله في غزواته ، و مصاحبا معه في خلواته ،
و قالعا لبلاد قوم لوط ، و مهلكا بصيحته لثمود ، و قد وصفه اللّه بكونه مطاعا في السّماوات و معناه أن يطاع له في الأمر و النّهى ، و معلوم أن الأمر و النّهي إنّما يكونان لتدبير الامور .
و أما خامسا فانّ ما ذكره من كفاية أدنى الملابسة في صحّة الاضافة مسلّم ،
إلاّ أنّ هذا الجواب يدفعه ما مرّ في الرواية ، من أنّه ليس في السّماء موضع أربع أصابع إلاّ و فيها ملك ساجد ، و مثله ، الرّواية الاخرى ، فانّهما صريحتان في سكون الملائكة السّاجدين في السّماء بعنوان الحقيقة لا بعنوان المجاز .
و أما سادسا فانّ قوله : و المناسبة حاصلة بين الأجرام السّماوية و بين هذا
[ 16 ]
الطور من الملائكة ، و هي مناسبة العلّة للمعلول ، و الشرط للمشروط ، ممّا لا يفهم معناه . إذ العلّة الفاعلي للسّماوات هو اللّه سبحانه ، و العلة المادّي هو الماء أو الدّخان أو الزّبد أو نور محمّد صلّى اللّه عليه و آله على ما مرّ ، و لا عليّة للملائكة في شيء منها ، و القول بأنّه سبحانه علّة العلل و إنّ العلّة للسّماوات العقول المجرّدة ، هو مذهب الفلاسفة الباطل عند الاماميّة .
و كيف كان فقد وضح و ظهر أنّ الملائكة المشغولين بطاعة اللّه على أصناف أربعة : منهم سجود ، و منهم ركوع ، و منهم صفوف لا يتفارقون عن صفّهم و منهم مسبحون لا يملّون من تسبيحهم بل يتقوّون به ، كما قال سبحانه :
« فَالَّذينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ باللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ » .
( لا يغشيهم نوم العيون ) الظاهر رجوع الضمير إلى الصّنف السّابق ، و الظاهر اطراد الأوصاف في الجميع .
ثمّ مفاد كلامه عليه السّلام عدم غشيان النّوم للملائكة و علّله الشّارح البحراني ( ره ) بأنّ غشيان النّوم لهم مستلزم لصحة النّوم عليهم ، و اللازم باطل في حقهم ، فالملزوم مثله ، أمّا الملازمة فظاهرة ، و أمّا بطلان اللازم فلأنّ النّوم عبارة عن تعطيل الحواسّ الظاهرة عن أفعالها ، لعدم انصباب الرّوح النّفساني اليها ، أو رجوعها بعد الكلال و الضعف ، و الملائكة السّماويّة منزّهون عن هذه الأسباب و الآلات ، فوجب أن يكون النّوم غير صحيح في حقهم فوجب أن لا يغشيهم .
و عن القطب الرّاوندي أنّ معنى قولهم لا يغشيهم نوم العيون يقتضي أنّ لهم نوما قليلا لا يغفلهم عن ذكر اللّه ، فامّا الباري سبحانه فانّه لا تأخذه سنة و لا نوم أصلا مع أنّه حيّ ، و هذه هي المدحة العظمى .
و أورد عليه الشّارح المعتزلي بقوله : و لقائل أن يقول : لو ناموا قليلا لكانوا زمان النّوم و إن قلّ غافلين عن ذكر اللّه ، لأنّ الجمع بين النّوم و بين الذّكر « ج 1 »
[ 17 ]
يستحيل ، ثمّ قال ، و الصّحيح أنّ الملك لا يجوز عليه النّوم كما لا يجوز عليه الأكل و الشّرب ، لأنّ النّوم من توابع المزاج و الملك لا مزاج له ، و أمّا مدح الباري بأنّه لا تأخذه سنة و لا نوم فخارج عن هذا الباب ، لأنّه يستحيل عليه النّوم استحالة ذاتية لا يجوز تبدّلها ، و الملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا بأن يخلق في أجزاء جسميّة رطوبة و يبوسة و حرارة و برودة يحصل من اجتماعها مزاج و يتبع ذلك المزاج النّوم ، فاستحالة النّوم عليه إنّما هي ما دام ملكا ، فهو كقولك : الماء بارد ، أى ما دام ماء لأنّه يمكن أن يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا لأنّه ليس حينئذ ماء ،
و الباري جلّت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير ، فاستحال عليه النّوم استحالة مطلقة مع أنّه حيّ ، و من هذا نشأ التمدّح انتهى .
و ظاهره كما ترى إنكار صحة النّوم عليه مطلقا و استحالته في حقّه ، لأنّ تجويزه له مع الخروج عن حقيقته الملكية ممّا لا يقابل بالانكار و خارج عن محلّ الكلام ، و أمّا المستفاد من الكلام المحكي عن الرّاوندي فهو أنّه يعرضهم حالة السنة و هو أوّل النّعاس و لا يعرضهم النوم الموجب للغفلة .
و يمكن الاستشهاد عليه بما رواه الصدوق باسناده عن داود العطار ، قال :
قال لي بعض أصحابي : أخبرني عن الملائكة أينامون ؟ فقلت : لا أدري ، فقال :
يقول اللّه عزّ و جلّ :
« يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ » .
ثم قال : ألا اطرقك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام فيه بشيء ؟ قلت : بلى ، فقال : سئل عن ذلك فقال : ما من حيّ إلاّ و هو ينام ما خلا اللّه وحده عزّ و جلّ : فقلت : يقول اللّه عزّ و جل يسبّحون اللّيل و النّهار لا يفترون ، فقال : أنفاسهم تسبيح هذا .
و به ظهر الجواب عمّا أورده الشّارح المعتزلي بأنّهم لو ناموا قليلا لكانوا زمان النّوم غافلين ، كما ظهر به وجه الجمع بين قوله عليه السّلام : لا يغشيهم نوم العيون ،
و بين الرّواية المرويّة في العلل لمحمد بن عليّ بن إبراهيم بن هاشم ، قال : سئل
[ 18 ]
أبو عبد اللّه عليه السّلام عن الملائكة يأكلون و يشربون و ينكحون ، فقال : لا ، إنهم يعيشون بنسيم العرش ، فقيل له : ما العلّة في نومهم ؟ فقال : فرقا بينهم و بين اللّه عزّ و جلّ ،
لأنّ الذي لا تأخذه سنة و لا نوم هو اللّه .
و حاصل الجمع أن يحمل النوم في هذه الرّواية و ما شابهها من الأخبار المثبتة له ، على النوم القليل المعبر عنه بالسنة الغير المانعة عن الذكر و التسبيح .
و في قوله لا يغشيهم نوم العيون على النوم الغالب الموجب للغفلة ، و لا يبعد استفادة هذا المعنى من قوله : لا يغشيهم ، كما ذكره الرّاوندي بأخذه من الغشي الموجب لتعطيل القوى المحركة ، إلاّ أنه خلاف الظاهر ، و الظاهر أنه مأخوذ من غشيته إذا أتيته ، فلا دلالة فيه من حيث الوضع ، و إنما الدّلالة باقتضاء الجمع الذي ذكرناه ، و عليه فالمعنى أنه لا يأتيهم نوم العيون الموجب للغفلة ، كما يأتي غيرهم .
و هذا نظير ما روي في خواص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، من أنه كان ينام عينه و لا ينام قلبه انتظار اللوحى الالهي ، فالنوم و إن اعتراه ، لكنه لا يعطله عن مراقبة ربه سبحانه كما يعطل غيره و اللّه العالم ( و لا سهو العقول ، و لا فترة الأبدان ، و لا غفلة النسيان ) الفرق بين السهو و النسيان و الغفلة : أن السهو هو عزوب الشيء و انمحاؤه عن القوّة الذاكرة مع ثبوته في الحافظة بحيث يلحظ الذّهن عند الالتفات إليه ، و النسيان هو ذهابه عنهما معا بحيث يحتاج في تحصيله إلى كسب جديد ، و الغفلة أعمّ منهما ، و لما كان هذه الامور الثلاثة من عوارض القوى الانسانية صحّ سلبها عن الملائكة ، لعدم وجود تلك المعروضات فيهم كما في الانسان ، و سلب الأعمّ و إن كان مستلزما لسلب الأخص إلاّ أنّه عليه السّلام جمع فيهما لزيادة التّوكيد .
و أمّا سلب فتور الأبدان فلأنّ الفتور هو وقوف الأعضاء البدنية عن العمل بسبب تحلّل الأرواح البدنية و ضعفها و رجوعها للاستراحة ، و كلّ ذلك من توابع المزاج الحيواني ، فلا جرم صحّ سلبه عنهم ، وفاقا لقوله سبحانه : يسبّحون الليل و النّهار لا يفترون .
( و ) القسم الثّاني ( منهم امناء على وحيه ) الحافظون له مؤدّين إيّاه إلى رسله
[ 19 ]
جمع الأمين و هو الحافظ لما كلّف بحفظه على ما هو عليه ليؤدّيه إلى مستحقّه ،
قال سبحانه :
« ذي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكينٍ ، مُطاعٍ ثَمَّ أَمينٍ » روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل : ما أحسن ما أثنى عليك ربّك : ذي قوّة عند ذي العرش اه فما كانت قوّتك ؟ و ما كانت أمانتك ؟ فقال : و أمّا قوّتي فانّي بعثت إلى مداين لوط و هي أربع مداين في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذّراري ، فحملتهم من الأرض السّفلى حتّى سمع أهل السّماوات أصوات الدّجاج و نباح الكلاب ، ثمّ هويت بهنّ . و أمّا أمانتي فانّي لم اومر بشيء فعدلت إلى غيره ، و في رواية اخرى فعدوته إلى غيره .
و امّا امناء الوحى فقد اشير إليهم في جملة من الأخبار .
مثل ما رواه في الاختصاص باسناده عن ابن عبّاس ، قال عبد اللّه بن سلام للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيما سأله : من أخبرك ؟ قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله : جبرئيل ، قال : عمّن ؟ قال :
عن ميكائيل ، قال : عمّن ؟ قال عن إسرافيل ، قال : عمّن ؟ قال : عن اللّوح المحفوظ ،
قال : عمّن ؟ قال : عن القلم ، قال : عمّن ؟ قال : عن ربّ العالمين ، قال : صدقت .
و نظيره ما رواه الصّدوق في العيون باسناده عن علي بن هلال ، عن عليّ بن موسى الرّضا ، عن موسى بن جعفر ، عن جعفر بن محمّد ، عن محمّد بن عليّ ،
عن عليّ بن الحسين ، عن الحسين بن عليّ ، عن عليّ بن أبي طالب ، عن النّبي عليهم السّلام ، عن جبرئيل ، عن ميكائيل ، عن إسرافيل ، عن اللّوح ، عن القلم ، قال اللّه عزّ و جلّ : ولاية عليّ بن أبي طالب حصني ، و من دخل حصني أمن من عذابي .
و في بعض الأخبار أنّ جبرئيل قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في وصف إسرافيل : هذا حاجب الرّبّ ، و أقرب خلق اللّه منه ، و اللّوح بين عينيه من ياقوتة حمراء ، فاذا تكلّم الرّبّ بالوحى ضرب اللّوح جبينه ، فنظر فيه ثمّ ألقى إلينا نسعى به في السّماوات و الأرض .
[ 20 ]
و لعلّ الاختلاف فيها محمول على اختلاف الكيفيات ، أو بحسب اختلاف المقامات ، و المستفاد من الرّواية الأخيرة كظاهر الاولى كون اللوح ورقا ، كما أنّ مفاد الثّانية كونه ملكا ، و كلاهما ممّا ورد في الأخبار كالقلم ، و قد ظهر من هذه الأخبار كيفيّة تلقّي الوحي .
و في رواية اخرى بنحو آخر ، و هو ما روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لجبرئيل :
من أين تأخذ الوحى ؟ قال : آخذه من اسرافيل ، قال : من أين يأخذه إسرافيل ؟
قال : يأخذه من ملك فوقه من الرّوحانيّين ، قال : ممّن يأخذه ذلك الملك ؟ قال :
يقذف في قلبه قذفا هذا .
و قال الشّارح البحراني : يشبه أن يكون هذا القسم 1 داخلا في الأقسام السّابقة من الملائكة ، و إنّما ذكره ثانيا باعتبار وصف الامانة على الوحى و الرسالة ثم أورد على نفسه بقوله فان قلت : كيف يصحّ أن يكون هذا القسم داخلا في السّجود ، لأنّ من كان أبدا ساجدا كيف يتصوّر أن يكون مع ذلك متردّدا في الرّسالة و النّزول و الصّعود ، مختلفا بالأوامر و النّواهي إلى الرّسل ، و أجاب بقوله قلت : انّا بيّنا أنّه ليس المراد بسجود الملائكة هو وضع الجبهة على الأرض بالكيفيّة التي نحن عليها ، و إنّما هو عبارة عن كمال عبوديتهم للّه و خضوعهم تحت قدر قدرته ، و الامكان و الحاجة تحت ملك وجوب وجوده ، و معلوم أنّه ليس بين السّجود بهذا المعنى و بين تردّدهم بأوامر اللّه و اختلافهم بقضائه على وفق مشيّته و أمره منافاة ، بل كلّ ذلك من كمال عبوديتهم و خضوعهم لعزّته و اعترافهم بكمال عظمته انتهى .
أقول : و فيه بعد الغضّ عمّا أوردنا عليه سابقا في إدخال هذا القسم في القسم السّابق ، مضافا إلى ما ذكرناه أيضا من منع كون السّجود بمعنى الخضوع المطلق حسبما مرّ تفصيلا بما لا مزيد عليه ، أنّه جعل السّاجدين عبارة عن المقرّبين الذين
-----------
( 1 ) اى امناء الوحى منه
[ 21 ]
حكم فيهم بكونهم منزّهين عن الجسميّة و الجهة و سكون السّماوات و تدبير الأجسام و على ذلك فنقول له : هب أنّ السّجود بالمعنى الذي ذكرت لا ينافي الرّسالة و التردّد صعودا و هبوطا ، و الوساطة بين الحقّ و الرّسل و الاختلاف بالقضاء و الامور ، إلاّ أنّ تنزّههم عن الأصاف المذكورة ينافي هذه الأمور قطعا كما هو ظاهر لا يخفى .
( و ) لما كان الملائكة وسايط بين الحقّ سبحانه و بين رسله في تأدية خطاباته إليهم مفصحين لهم عن مكنون علمه حسن التّعبير عنهم بأنّهم ( ألسنة إلى رسله ) تشبيها لهم باللّسان المفصح عمّا في الضّمير و إنّما احتيج الى الواسطة في تبليغ الخطابات و تأديتها ، لأنّ التّخاطب يقتضي التّناسب بين المتخاطبين ، فاقتضت الحكمة توسط الملك ليتلقّف الوحى بوجهه الذي في عالم الملكوت تلقّفا روحانيّا ،
و يبلغه بوجهه الذي في عالم الملك و الحكمة إلى النبي ، لأن من خواص الملك أن يتمثل للبشر فيراه جسما ، فربّما ينزل الملك إلى الصورة البشرية ، و ربّما يترقى النّبيّ إلى رتبة الملكيّة و يتعرّى عن كثرة البشريّة فيأخذ عنه الوحى ( و مختلفون لقضائه و أمره ) من الاختلاف بمعنى التردّد ، و في وصف الأئمة في بعض الخطب الآتية و في الزّيارة الجامعة : و مختلف الملائكة ، اى محل تردّدهم و يأتي توضيح ذلك في الفصل الآخر من فصول الخطبة المأة و الثامنة إن شاء اللّه .
و المراد بالقضاء إمّا الحكم و هو أحد معانيه العشرة ، فيكون عطف الأمر عليه من قبيل عطف الخاصّ على العامّ و إمّا بمعنى الأمر كما فسّر به قوله :
« وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً » و على ذلك فالعطف للتّفسير و التّبيين ، و على التّقديرين فالمراد بالأمر الأمر التكليفي هذا .
و لكن الأظهر أنّ المراد بالقضاء هو ما يساوق القدر ، و بالأمر الامورات
[ 22 ]
المقدّرة الحادثة في العالم السّفلي ، فيكون المعنى و مختلفون بمقتضياته و مقدراته ،
و إنّما جعلنا المصدر بمعنى المفعول ، لأنّ القضاء بمعنى المصدري عبارة عن إبداع الحقّ سبحانه صور الموجودات و جميع الأشياء معقولة مفصّلة محفوظة عن التّغير في اللّوح المحفوظ ، و هو امّ الكتاب و يسمّى بالعلم الملزم ، و معلوم أنّ هذا المعنى ممّا قد فرغ عنه ، و لا يتصوّر تردّد الملائكة و تدبيرهم فيه ، و إنّما تدبيرهم في المقتضيات الموجودة على طبق ما في اللّوح المحفوظ .
توضيحه أنّ القضاء كما عرفت عبارة عن إبداعه سبحانه لصور الموجودات الكلّية و الجزئية التي لا نهاية لها من حيث هي معقولة في العالم العقلي و هو امّ الكتاب ثمّ لمّا كان ايجاد ما يتعلّق منها بموادّ الأجسام في موادها و إخراج المادّة من القوة إلى الفعل غير ممكن إلاّ على سبيل التّعاقب و التدرّج ، لامتناع قبولها لتلك الكثرة دفعة ، و كان الجود الالهي مقتضيا لايجادها و لتكميل المادّة بابداعها فيها و إخراج ما فيها من قبول تلك الصّور من القوّة إلى الفعل ، قدّر بلطيف حكمته وجوده زمانا لا ينقطع ليخرج فيه تلك الامور من القوّة إلى الفعل واحدا بعد واحد ، فيصير في جميع ذلك موجودة في موادّها و المادّة كاملة بها ، فالمقتضيات عبارة عن وجود هذه الأشياء مفصلة واحدا بعد واحد في موادها السّفلية الخارجية بعد أن كانت ثابتة في صحايفها العلوية بأيدي 1 المدبّرات ، و إلى هذا أشار سبحانه في قوله :
« وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ » و إلى هذا القسم من الملائكة أشار في قوله سبحانه :
« فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً » روى في مجمع البيان عن عبد الرحمان بن سابط أنّ المراد بالمدبّرات جبرئيل و ميكائيل و ملك الموت و إسرافيل يدبرون أمور الدّنيا فأما جبرئيل فموكل
-----------
( 1 ) متعلق بالوجود ، منه .
[ 23 ]
بالرّياح و الجنود و أما ميكائيل فموكل بالقطر و النّبات و أما ملك الموت بقبض الأنفس و أما اسرافيل فهو يتنزّل بالأمر عليهم ، و التدبير ليس منحصر في الأربعة حسبما تعرفه في الأخبار الآتية ، و إنّما ذكرناه لتوضيح معنى الآية ، كما أنّ الامور الواقعة فيها التّدبير لا تنحصر فيما ذكر و ستعرفه أيضا و قد ظهر بما ذكرنا معنى القضاء و المقتضيات و الملائكة المختلفون بالقضاء .
و أما القدر فهو دون مرتبة القضاء ، إذ هو عبارة عن صور جميع الموجودات في لوح المحو و الاثبات على الوجه القابل للتّغيير ، و إلى ذلك الاشارة في قوله سبحانه :
« يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ » قال الصّادق عليه السّلام بعد ما سئل عنه عن هذه الآية : إن ذلك الكتاب كتاب يمحو اللّه فيه ما يشاء و يثبت فمن ذلك 1 الذي يردّ الدّعاء القضاء ، و ذلك الدّعاء مكتوب عليه الذي يردّ به القضاء حتّى إذا صار إلى أم الكتاب لم يغن الدّعاء فيه شيئا .
و حاصل ما ذكرنا كله يرجع إلى جعل المراد بالقضاء في كلامه عليه السّلام الامور المحتومة ، و بالأمر الأمور الموقوفة و نظيره ما روى عن الصادق عليه السّلام ، قال : هما أمر ان موقوف و محتوم ، فما كان من محتوم أمضاه ، و ما كان من موقوف فله فيه المشيّة يقضي فيه ما يشاء هذا .
و يحتمل أن يكون المقصود من قوله عليه السّلام : بقضائه و أمره ، أنّهم مختلفون باظهار قضائه و أمره إلى النّبي و الائمة عليهم السّلام ، و إلى ذلك وقع الاشارة في وصف الأئمة عليه السّلام بأنّهم مختلف الملائكة ، أى محلّ اختلافهم كما في الأخبار المتظافرة ، و قد عقد في الكافي بابا في ذلك ، و هو باب أن الأئمة معدن العلم و شجرة النّبوة و مختلف الملائكة ، و إليه الاشارة في قوله سبحانه :
« تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ »
-----------
( 1 ) يعنى من قبيل المحو و الاثبات الحديث الذى ورد يرد الدعاء القضاء ، فيض .
[ 24 ]
قال الصّادق عليه السّلام : إذا كان ليلة القدر نزلت الملائكة و الرّوح و الكتبة إلى السّماء الدّنيا فيكتبون ما يكون من قضاء اللّه في تلك السّنة فاذا أراد اللّه أن يقدّم شيئا أو يؤخّره أمر الملك أن يمحو ما يشاء ، ثمّ أثبت الذي أراد .
قال القمي تنزّل الملائكة و روح القدس على إمام الزّمان و يدفعون اليه ما قد كتبوه .
و يشهد به ما رواه في الكافي عن الباقر عليه السّلام قال : قال اللّه عزّ و جلّ في ليلة القدر :
« فيها يُفْرَقُ كلُّ أَمْرٍ حَكيمٍ » يقول : ينزل فيها كلّ أمر حكيم ، و المحكم ليس بشيئين إنّما هو شيء واحد ، فمن حكم بما ليس فيه اختلاف فحكمه من حكم اللّه عزّ و جلّ ، و من حكم بأمر فيه اختلاف فرأى أنّه مصيب فقد حكم بحكم الطاغوت إنّه لينزل في ليلة القدر إلى وليّ الأمر تفسير الامور سنة سنة يؤمر فيها في أمر نفسه بكذا و كذا ، و في أمر النّاس بكذا و كذا ، و أنّه ليحدث لولي الأمر سوى ذلك كلّ يوم علم اللّه عز ذكره الخاصّ و المكنون و العجيب المخزون مثل ما ينزل في تلك اللّيلة من الأمر ثم قرء .
« وَ لَوْ أَنَّ ما في الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِه سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزيز حَكيمٌ » و فيه أيضا عن حمران ، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال : يقدّر في ليلة القدر كلّ شيء يكون في تلك السّنة إلى مثلها من قابل من خير و شرّ و طاعة و معصية و مولود و أجل و رزق ، فما قدر في تلك السّنة و قضي فهو المحتوم ، و للّه عزّ و جلّ فيه المشيّة .
و المراد حسبما ذكرنا إظهار تلك المقادير للملائكة ، و إظهارهم لها إلى
[ 25 ]
النّبي و الأئمة عليهم السلام في تلك الليلة ، و إلاّ فالمقادير كما عرفت من الأزل إلى الأبد ثابتة في أم الكتاب هذا و بقي الكلام في أنّ المختلفين بالقضاء و الأمرهم بعض الملائكة أو جميعهم ،
قال النّيسابوري : قوله تعالى : تنزّل الملائكة ، يقتضي نزول كلّ الملائكة إما إلى السّماء الدّنيا و إمّا إلى الأرض ، و هو قول الأكثرين ، و على التّقديرين فانّ المكان لا يسعهم إلاّ على سبيل التّفاوت و النّزول فوجا فوجا كأهل الحجّ ، فانّهم على كثرتهم يدخلون الكعبة أفواجا انتهى كلامه على ما حكي عنه .
و لكن الظاهر من كلمة منهم في كلام الامام عليه السّلام هو أنّ المتّصفين بهذا الوصف بعض الملائكة ، و هو الظاهر ممّا روي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل قال : إذا أتت ليلة القدر فيهبط من الملائكة إلى وليّ الأمراه ، و المستفاد من الأخبار الكثيرة أنّ جبرئيل من هذه الجملة ، و نصّ الآية الشريفة كون روح القدس منها أيضا ،
و قد يفسّر بالرّوح الأمين و هو جبرئيل ، و لكن الظاهر أنّه غيره كما يدلّ عليه ما روي عن الصّادق عليه السّلام ، قال : إنّ الرّوح أعظم من جبرئيل إنّ جبرئيل من الملائكة و الرّوح هو خلق أعظم من الملائكة ، أليس يقول اللّه تبارك و تعالى : تنزّل الملائكة و الروح .
و في شرح الصّحيفة قال : أتى رجل عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يسأله عن الرّوح أليس هو جبرئيل ؟ فقال له : جبرئيل من الملائكة و الرّوح غير جبرئيل ، فقال له :
لقد قلت عظيما من القول ، ما أحد يزعم أن الرّوح غير جبرئيل ، فقال له علي عليه السّلام :
إنك ضال تروي عن أهل الضّلال ، يقول اللّه تبارك و تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله :
« أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ » و الرّوح غير جبرئيل .
و عنه عليه السّلام أيضا انّ له سبعين ألف وجه ، و لكلّ وجه سبعون ألف لسان ،
لكلّ لسان سبعون لغة يسبّح اللّه تعالى بتلك اللغات كلّها ، و يخلق اللّه تعالى من
[ 26 ]
تسبيحه ملكا يطير مع الملائكة ، و لم يخلق اللّه أعظم من الرّوح غير العرش ، و لو شاء أن يبلغ السّماوات السّبع و الأرضين السّبع بلقمة واحدة لفعل ، فسبحان من هو على كلّ شيء قدير ، و مثلهما في البحار .
( و ) القسم الثّالث ( منهم الحفظة لعباده ) ظاهر العبارة أنّ المراد بهم حفظة العباد من المعاطب و المهالك لا الحفظة عليهم يحفظون على العبد عمله ، فهم من اشير اليهم في قوله :
« لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِه يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ » روى في المجمع عن علي عليه السّلام أنّهم ملائكة يحفظونه من المهالك حتّى ينتهوا به إلى المقادير .
و في الصّافي عن عليّ بن إبراهيم ، عن الصّادق عليه السّلام إنّ هذه الآية قرئت عنده ، فقال لقاريها : ألستم عربا ؟ فكيف يكون المعقّبات من بين يديه و إنّما المعقّب من خلفه ، فقال الرّجل جعلت فداك : كيف هذا ؟ فقال : إنّما نزلت له : معقّبات من خلفه ، و رقيب من بين يديه يحفظونه بأمر اللّه ، و من ذا الذي يقدر أن يحفظ لشيء من أمر اللّه و هم الملائكة الموكلون بالنّاس ، و مثله عن العيّاشي .
و عنه أيضا عن الباقر عليه السّلام من أمر اللّه يقول بأمر اللّه من أن يقع في ركي 1 ،
أو يقع عليه حايط ، أو يصيبه شيء حتّى إذا نزل القدر خلوا بينه و بينه يدفعونه إلى المقادير و هما ملكان يحفظانه بالليل ، و ملكان يحفظانه بالنّهار يتعاقبانه ( و السّدنة لأبواب جنانه ) أى المتولون لأبواب الجنان بفتحها و إغلاقها و إدخال من اذن لهم بالدّخول .
أقول : أمّا الجنان فعلى ما اشير إليه في القرآن ثمان : جنة النّعيم و جنة الفردوس و جنة الخلد و جنة الماوى و جنة عدن و دار السّلام و دار القرار و جنة عرضها السّماوات و الأرض ، و في بعض كتب الأخبار تسمية الأخيرة بالوسيلة .
-----------
( 1 ) الركى هو البئر منه
[ 27 ]
و أمّا أبوابها فثمانية أيضا على ما في بعض كتب الأخبار : الباب الاول اسمه التّوبة و الثانى الزكاة و الثالث الصّلاة و الرابع الأمر و النهى و الخامس الحجّ و السادس الورع و السابع الجهاد و الثامن الصّبر .
و في الصّافي عن الخصال ، عن الصّادق عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ عليهم السّلام قال : إنّ للجنّة ثمانية أبواب : باب يدخل منه النّبيّون و الصّديقون ،
و باب يدخل منه الشّهداء و الصّالحون ، و خمسة أبواب يدخل منها شيعتنا و محبّونا ، فلا أزال واقفا على الصّراط أدعو و أقول ربّ سلّم شيعتي و محبّي و أنصاري و أوليائي و من تولاّني في دار الدّنيا ، فاذا النداء من بطنان 1 العرش قد اجيبت دعوتك ، و شفعت في شيعتك و يشفع كلّ رجل من شيعتي و من تولاني و نصرني و حارب من حاربني بفعل أو قول في سبعين ألفا من جيرانه و أقربائه ،
و باب يدخل منه ساير المسلمين ممّن يشهد أن لا إله إلاّ اللّه و لم يكن في قلبه مثقال ذرة من بغضنا أهل البيت .
و عن الباقر عليه السّلام أحسنوا الظنّ باللّه و اعلموا أنّ للجنّة ثمانية أبواب عرض كلّ باب منها مسيرة أربعمائة سنة .
و أمّا سدنتها و خزّانها فقد اشير إليه في سورة الزّمر ، قال سبحانه :
« وَ سيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتّى إذا جآؤُها وَ فُتِحَت أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدينَ » و في الأنوار في حديث المحشر فاذا أتوا إلى رضوان اللّه و هو جالس على باب الجنّة و معه سبعون ألف ملك ، مع كلّ ملك سبعون ألف ملك فينظر إليهم و هم في أقبح صورة من سواد البدن و طول الشّعر و كونهم عزلا 1 بلا ختان ، فقال لهم : كيف تدخلون الجنّة و تعانقون
-----------
( 1 ) اى وسطه منه
-----------
( 2 ) و عزل عزلا من باب تعب اذا لم يختن ، مجمع البحرين
[ 28 ]
الحور العين على هذه الهيئة ؟ فيأمر جماعة من الملائكة الواقفين أمامه فيذهبون بالمؤمنين إلى عين ماء عند جدار الجنّة ، و هي عين الحياة فاذا اغتسلوا فيها صار وجه كلّ واحد منهم كالبدر في تمامه و تسقط شعورهم و غلفهم 1 و تبيضّ قلوبهم من النّفاق و الحسد و الكذب و الرّذائل و الأوصاف الذّميمة حتّى لا يتحاسدوا في الجنّة بعلوّ الدّرجات و التّفاوت في المراتب ، فيصير كلّ واحد منهم بصورة ابن أربعة عشر سنة ، و يعطى حسن يوسف ، و صوت داود ، و صبر أيوب ، فاذا أتوا إلى باب الجنّة وجدوا على بابها حلقة تطنّ 2 عند كلّ من يدخلها و يقول في طنينها : يا علي ، لكنها تطنّ عند كلّ داخل بطنين خاصّ ليس كالطنين الآخر ،
فيعرف بذلك الطنين أهل المؤمن في منازله و خدمه و حور العين إن هذا فلان فيأتون لاستقباله هذا .
و قد اشير إلى طايفة من السّدنة و الأبواب في حديث الجنان و النوق من روضة الكافي ، و هو ما رواه الكليني عن عليّ بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن محبوب عن محمّد بن اسحاق المدني عن أبي جعفر عليه السّلام ، قال : إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئل عن قول اللّه :
« يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً » فقال : يا عليّ إنّ الوفد لا يكونون إلاّ ركبانا ، اولئك رجال اتّقوا اللّه فأحبّهم اللّه عزّ ذكره و اختصهم و رضي أعمالهم فسمّاهم المتّقين .
ثم قال له : يا علي أما و الذي فلق الحبّة و برىء النّسمة إنّهم ليخرجون من قبورهم ، و إنّ الملائكة لتستقبلهم بنوق من نوق العزّ عليها رحائل الذّهب مكلّلة بالدّر
-----------
( 1 ) و غلف غلفا من باب تعب اذا لم يختن فهو اغلف و الانثى غلفاء و الجمع غلف من باب احمر ، مصباح اللغة
-----------
( 2 ) طن الذباب و غيره يطن من باب ضرب طنينا صوت ، مصباح .
[ 29 ]
و الياقوت و جلائلها 1 الاستبرق و السّندس و خطمها 2 جندل الأرجوان ، تطير بهم إلى المحشر مع كلّ رجل منهم ألف ملك من قدامه و عن يمينه و عن شماله يزفونهم 3 زفّا حتّى ينتهوا بهم الى باب الجنّة الأعظم و على باب الجنّة شجرة إنّ الورقة منها ليستظلّ تحتها ألف رجل من النّاس ، و عن يمين الشّجرة عين مطهرة مزكية ، قال :
فيسقون منها فيطهر اللّه بها قلوبهم من الحسد ، و يسقط عن أبشارهم الشّعر و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ :
« وَ سَقيهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً » من تلك العين المطهرة .
قال : ثم يصرفون إلى عين أخرى عن يسار الشّجرة فيغتسلون فيها و هى عين الحياة فلا يموتون أبدا .
قال : ثمّ يوقف بهم قدام العرش و قد سلموا من الآفات و الأسقام و الحرّ و البرد أبدا ،
قال : فيقول الجبار جلّ ذكره للملائكة الذين معهم : احشروا أوليائي إلى الجنّة و لا توقفوهم مع الخلايق ، فقد سبق رضائي عنهم و وجبت رحمتي لهم و كيف اريد أن أوقفهم مع أصحاب الحسنات و السيّئات .
قال ، فتسوقهم الملائكة إلى الجنّة ، فاذا انتهوا إلى باب الجنّة الأعظم ضرب الملائكة ضربة تصرّ صريرا يبلغ صوت صريرها كلّ حوراء أعدّها اللّه عزّ و جلّ لأوليائه في الجنان ، فيتباشرون بهم إذا سمعوا صرير الحلقة ، فيقول بعضهم لبعض :
قد جائنا أولياء اللّه ، فيفتح لهم الباب فيدخلون الجنّة ، و تشرف عليهم أزواجهم من
-----------
( 1 ) جمع جلال بكسر الجيم و هو جمع جل بالضم منه
-----------
( 2 ) جمع خطام چو بهائى كه در بينى شتران ميگذارند بجهت فرمانبردارى ملا خليل .
-----------
( 3 ) الزف بردن جمعى كسى را بسوى كسى از روى مثل بردن عروس سوى داماد ملا خليل .
[ 30 ]
الحور العين و الآدميّين ، فيقلن : مرحبا بكم ، فما كان أشدّ شوقنا إليكم و يقول لهنّ أولياء اللّه : مثل ذلك .
فقال علي عليه السّلام : يا رسول اللّه أخبرنا عن قول اللّه عزّ و جلّ :
( غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ ) بماذا بنيت يا رسول اللّه ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله : يا علي تلك غرف بناها اللّه عزّ و جلّ لاوليائه بالدّر و الياقوت و الزّبرجد ، سقوفها الذّهب ، محبوكة بالفضة ، لكلّ غرفة منها ألف باب من ذهب ، على كلّ باب منها ملك موكل به ، فيها فرش مرفوعة بعضها فوق بعض من الحرير و الدّيباج بألوان مختلفة ، و حشوها المسك و الكافور و العنبر ،
و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ .
( وَ فُرُشٌ مَرْفُوعَةٌ ) إذا دخل المؤمن إلى منازله في الجنّة و وضع على رأسه تاج الملك و الكرامة البس حلل الذّهب و الفضة و الياقوت و الدّر المنظومة في الاكليل 1 تحت التاج .
قال : و البس سبعين حلّة حريرا بألوان مختلفة و ضرب مختلفة منسوجة بالذّهب و الفضّة و اللّؤلؤ و الياقوت الأحمر ، فذلك قول اللّه عزّ و جلّ :
( يُحَلَّوْنَ فيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤٍ وَ لِباسُهُمْ فيها حَريرٌ ) فاذا جلس المؤمن على سريره اهتزّ سريره فرحا ، فاذا استقر لوليّ اللّه عزّ و جلّ منازل له في الجنان استاذن عليه الملك الموكل بجناته ليهنّيه بكرامة اللّه عزّ و جلّ اياه ، فيقول له خدّام المؤمن من الوصفاء و الوصايف : مكانك 2 ، فانّ وليّ اللّه قد اتّكأ على أريكته 3 و زوجته الحوراء تهيّأ له فاصبر لولي اللّه .
قال : فتخرج عليه زوجته الحوراء من خيمة لها تمشى مقبلة و حولها و صايفها و عليها سبعون حلة منسوجة بالياقوت و اللؤلؤ و الزّبرجد هي من مسك و عنبر
-----------
( 1 ) هو العصابة منه
-----------
( 2 ) اى الزم مكانك
-----------
( 3 ) هو المتكاء منه
[ 31 ]
و على رأسها تاج الكرامة ، و عليها نعلان من ذهب مكلّلتان بالياقوت و اللؤلؤ ،
شراكهما ياقوت أحمر ، فاذا دنت من وليّ اللّه فهمّ أن يقوم إليها شوقا ، فتقول له : يا وليّ اللّه ليس هذا يوم تعب و لا نصب و أنت لي .
قال : فيعتنقان مقدار خمسمأة عام من أعوام الدّنيا لا يملّها و لا تملّه .
قال : فاذا فتر بعض الفتور من غير ملالة نظر إلى عنقها ، فاذا عليها قلائد من قصب من ياقوت أحمر ، وسطها لوح صفحته درّة مكتوب بها : أنت يا وليّ اللّه حبيبى و أنا الحوراء حبيبتك إليك تناهت نفسي و إلىّ تناهت نفسك ، ثمّ يبعث اللّه إليه الف ملك يهنّونه بالجنّة و يزوّجونه بالحوراء .
قال : فينتهون إلى أوّل باب من جنانه « جناته خل » ، فيقولون للملك الموكل بأبواب جنانه : استاذن لنا على وليّ اللّه فان اللّه بعثنا إليه تهنية ، فيقول لهم الملك :
حتّى أقول للحاجب فيعلّمه مكانكم .
قال : فيدخل الملك إلى الحاجب و بينه و بين الحاجب ثلاث جنان حتّى ينتهي إلى أوّل باب ، فيقول للحاجب : إنّ على باب العرصة ألف ملك أرسلهم ربّ العالمين ليهنّئوا وليّ اللّه ، و قد سألوني أن آذن لهم ، فيقول الحاجب : إنّه ليعظم علىّ أن أستأذن لأحد على ولي اللّه و هو مع زوجته الحوراء .
قال : و بين الحاجب و بين وليّ اللّه جنّتان .
قال : فيدخل الحاجب إلى القيم ، فيقول : له إنّ على باب العرصة ألف ملك ،
أرسلهم ربّ العزّة يهنّون وليّ اللّه فاستأذن لهم فيقدم القيم إلى الخدّام ، فيقول لهم : إنّ رسل الجبار على باب العرصة ، و هم ألف ملك ، أرسلهم يهنّون وليّ اللّه فأعلموه بمكانهم ، فيعلمونه فيؤذن للملائكة فيدخلون على ولي اللّه ، و هو في الغرفة و لها ألف باب ، و على كلّ باب من أبوابها ملك موكل به ، فاذا أذن للملائكة بالدخول على ولي اللّه فتح كلّ ملك بابه الموكل به .
قال : فيدخل القيم كلّ ملك من باب من أبواب الغرفة ، فيبلّغون رسالة الجبار
[ 32 ]
جلّ و عزّ ، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ :
( وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ ) من أبواب الغرفة ،
( سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدّارِ ) قال : و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ :
( وَ إذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعيماً وَ مُلْكاً كَبيراً ) يعني بذلك ولي اللّه و ما هو فيه من الكرامة و النّعيم و الملك العظيم الكبير ، إنّ الملائكة من رسل اللّه عزّ ذكره يستأذنون عليه فلا يدخلون إلاّ باذنه فذلك الملك العظيم الكبير الحديث .
( و ) القسم الرّابع ( منهم الثابتة في الأرضين السّفلى أقدامهم ) و عن بعض النّسخ في الارض السّفلى اقدامهم قال في البحار : و هو أظهر ، و الجمع على الأوّل إمّا باعتبار القطعات و البقاع ، أو لأن كلاّ من الأرضين السّبع موضع قدم بعضهم و الوصف على الأوّل بالقياس إلى ساير الطبقات ، و على الثّاني بالقياس إلى السّماء ( و المارقة ) أى الخارجة ( من السّماء العليا ) و هي السّابعة ( أعناقهم و الخارجة من الأقطار ) اى من جوانب الأرض أو جوانب السّماء ( أركانهم ) و هذا إشارة إلى ضخامتهم و عرضهم ( و المناسبة لقوايم العرش أكتافهم ) و المراد بالتّناسب إمّا القرب أو الشّباهة في العظم ، فان العرش على عظمه حسبما تعرفه في الأخبار الآتية و كفى بذلك كونه محيطا بجميع المخلوقات و كون الأرضين و السّماوات جميعا و ما فيها عنده كحلقة في فلاة ، له أربع قوائم .
كما رواه في البحار ، عن الدّرّ المنثور ، عن حماد قال : خلق اللّه العرش من زمرّدة خضراء ، و له أربع قوائم من ياقوتة حمراء ، و خلق له ألف لسان ، و خلق في الأرض ألف أمة يسبّح اللّه بلسان العرش .
« ج 2 »
[ 33 ]
و فيه أيضا من روضة الواعظين ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جده عليهم السّلام أنّه قال : في العرش تمثال ما خلق اللّه من البرّ و البحر ، و هذا تأويل قوله :
( وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ ) و إنّ بين القائمة من قوائم العرش و القائمة الثّانية خفقان الطير المسرع مسير ألف عام ، و العرش يكسى كلّ يوم سبعين ألف لون من النّور لا يستطيع أن ينظر إليه خلق من خلق اللّه ، و الأشياء كلّها في العرش كحلقة في فلاة ، و إنّ للّه تعالى ملكا يقال له : خرقائيل له ثمانية عشر ألف جناح ، ما بين الجناح إلى الجناح خمسمأة عام ،
فخطر له خاطر هل فوق العرش شىء ، فزاده اللّه تعالى مثلها أجنحة اخرى ، فكان له ستّ و ثلاثون ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمأة عام ، ثمّ أوحى اللّه اليه أيّها الملك طر ، فطار مقدار عشرين ألف عام لم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش ،
ثم ضاعف اللّه له في الجناح و القوة و أمره أن يطير ، فطار مقدار ثلاثين ألف عام لم ينل أيضا فاوحى اللّه إليه أيّها الملك لو طرت إلى نفخ الصّور مع أجنحتك و قوّتك لم تبلغ إلى ساق عرشي فقال الملك :
سبحان ربّي الأعلى و بحمده ، فأنزل اللّه عزّ و جلّ : ( سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلى ) فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله : اجعلوها في سجودكم .
و من إكمال الدين باسناده عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، قال : قال ابن عبّاس : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول : إنّ للّه تبارك و تعالى ملكا يقال له : دردائيل ، كان له ستّة عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح هواء ، و الهواء كما بين السّماء و الأرض ، فجعل يوما يقول في نفسه 1 : أ فوق ربّنا جلّ جلاله شيء ؟ فعلم اللّه تبارك و تعالى ما قال ، فزاده أجنحة مثلها ، فصار له اثنان و ثلاثون الف جناح ، ثم أوحى اللّه عزّ و جل
-----------
( 1 ) لعله كان ذلك محض خطور البال بغير شك لئلا ينافى العصمة ، مجلسى طاب ثراه
[ 34 ]
إليه ، فطار مقدار خمسمأة عام فلم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش ، فلما علم اللّه عزّ و جلّ اتعابه أوحى إليه أيّها الملك عد إلى مكانك ، فأنا عظيم فوق كل عظيم ،
و ليس فوقي شيء و لا أوصف بمكان ، فسلبه اللّه عزّ و جلّ أجنحته و مقامه من صفوف الملائكة ، فلمّا ولد الحسين عليه السّلام هبط جبرئيل في ألف قبيل من الملائكة لتهنية النبي صلّى اللّه عليه و آله فمرّ بدردائيل ، فقال له : سل النبيّ بحق مولوده أن يشفع لي عند ربّي ، فدعا له النّبي صلّى اللّه عليه و آله بحق الحسين عليه السّلام فاستجاب اللّه دعائه و ردّ عليه أجنحته و رده إلى مكانه هذا .
و يحتمل أن يكون المراد بالمناسبة في كلامه عليه السّلام التّماسّ ، فالمراد بهم حملة العرش ، بل هذا هو الظاهر بملاحظة أنّ الأوصاف المذكورة في كلامه عليه السّلام قد اثبتت في الأخبار الكثيرة على هؤلاء الطائفة .
مثل ما روي عن ابن عبّاس في تفسير قوله تعالى :
( وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ) قال : يقال : ثمانية صفوف من الملائكة لا يعلم عدّتهم إلاّ اللّه ، و يقال ثمانية أملاك رؤسهم تحت العرش في السّماء السّابعة ، و أقدامهم في الأرض السّفلى ، و لهم قرون كقرون الوعلة ، ما بين أصل قرن أحدهم إلى منتهاه خمسمأة عام .
و عن الخصال باسناده عن حفص بن غياث ، قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول :
إنّ حملة العرش ثمانية ، لكل واحد منهم ثمانية أعين ، كلّ عين طباق الدّنيا .
و عن تفسير الامام عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : انّ اللّه لمّا خلق العرش خلق له ثلاثمأة و ستين ألف ركن ، و خلق عند كلّ ركن ثلاثمأة الف و ستين الف ملك لو أذن اللّه لأصغرهم فالتقم السّماوات السبع و الأرضين السّبع ما كان بين لهواته إلاّ كالرملة في المفازة الفصفاصة 1 ، فقال لهم اللّه : يا عبادي احملوا عرشي هذا فتعاطوه فلم يطيقوا حمله و لا تحريكه ، فخلق اللّه عزّ و جلّ مع كلّ واحد منهم واحدا فلم يقدروا أن يزعزعوه ، فخلق اللّه مع كلّ واحد منهم عشرة فلم يقدروا أن يحرّكوه ، فخلق اللّه بعدد كلّ واحد منهم مثل جماعتهم فلم يقدروا أن يحرّكوه ، فقال اللّه عزّ و جل
-----------
( 1 ) الواسعة جوهرى .
[ 35 ]
لجميعهم : خلوه علىّ امسكه بقدرتي ، فخلوه فأمسكه اللّه عزّ و جلّ بقدرته ، ثم قال لثمانية منهم احملوه أنتم ، فقالوا : يا ربّنا لم نطقه نحن و هذا الخلق الكثير و الجمّ الغفير فكيف نطيقه الآن دونهم ؟ فقال عزّ و جل : لانّي أنا اللّه المقرب للبعيد و المذلل للعبيد و المخفف للشّديد و المسهّل للعسير أفعل ما أشاء و أحكم ما أريد أعلمكم كلمات تقولونها يخف بها عليكم ، قالوا و ما هي ؟ قال : تقولون :
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم و لا حول و لا قوة إلا باللّه العلي العظيم و صلى اللّه على محمّد و آله الطيبين فقالوها ، فحملوه ، فخفّ على كواهلهم كشعرة نابتة على كاهل رجل جلد قوي فقال اللّه عزّ و جلّ لساير تلك الأملاك : خلوا على هؤلاء الثمانية و طوفوا أنتم حوله و سبّحوني و مجدوني و قد سوني ، فأنا اللّه القادر على ما رأيتم و على كلّ شيء قدير و عن وهب قال حملة العرش اليوم أربعة فاذا كان يوم القيامة أيدوا بأربعة آخرين ملك منهم في صورة إنسان يشفع لبني آدم في ارزاقهم و ملك في صورة نسر يشفع للطير في أرزاقهم و ملك في صورة ثور يشفع للبهايم في أرزاقها 1 و ملك في صورة الأسد يشفع للسّباع في أرزاقها ، فلمّا حملوا العرش وقعوا على ركبهم 2 من عظمة اللّه ، فلقّنوا لا حول و لا قوة إلاّ باللّه ، فاستووا قياما على أرجلهم .
و عن ابن زيد قال لم يسمّ من حملة العرش إلاّ إسرافيل .
و عن هارون بن رئاب ، قال : حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت ضخيم ،
يقول أربعة منهم :
سبحانك و بحمدك على حلمك بعد علمك ، و أربعة منهم يقولون :
سبحانك و بحمدك على عفوك بعد قدرتك . هذا و لا ينافي هذه الأخبار ما وردت في الأخبار الأخر من أنّ حملة العرش ثمانية أربعة من الأولين ، و هم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى عليهم السّلام ، و أربعة
-----------
( 1 ) و فى الخصال عن الصادق عليه السّلام و نكس الثور راسه منذ عبد بنو اسرائيل العجل : منه
-----------
( 2 ) جمع ركبة كغرف و غرفة ، منه
[ 36 ]
من الآخرين ، و هم محمّد و عليّ و الحسن و الحسين صلوات اللّه عليهم . لأنّ العرش في الأخبار الأولة الجسم المحيط بالمخلوقات ، و في هذه الأخبار هو العلم لانّه أحد معانيه كما عرفته في شرح الفصل الخامس من فصول هذه الخطبة و صرّح بما ذكرناه الصّدوق في اعتقاداته حيث قال : و إنّما صارت هؤلاء حملة العرش الذي هو العلم ،
لأنّ الانبياء الذين كانوا قبل نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله على شرايع الاربعة من الاولين :
نوح و إبراهيم و موسى و عيسى ، و من قبل هؤلاء الأربعة صارت العلوم إليهم ، و كذلك صار العلم بعد محمّد و عليّ و الحسن و الحسين إلى من بعد الحسين من الأئمة عليهم السّلام .
( ناكسة دونه ) أى دون العرش ( أبصارهم ) إما لكثرة نور العرش كما يدلّ عليه ما روي عن ميسرة ، قال : ثمانية أرجلهم في التخوم 1 و رؤوسهم عند العرش لا يستطيعون أن يرفعوا أبصارهم من شعاع النّور ، و إما لزيادة الخوف كما روي عنه أيضا قال : حملة العرش أرجلهم في الأرض السّفلى و رؤوسهم قد خرقت العرش و هم خشوع لا يرفعون طرفهم و هم أشدّ خوفا من أهل السّماء السّابعة و أهل السّماء السّابعة أشدّ خوفا من السّماء التي تليها و السّماء التي تليها أشدّ خوفا من التي تليها ، و في دعاء الصحيفة السّجادية على داعيه أفضل السّلام و التحيّة في وصف الملائكة :
« الخشّع الأبصار فلا يرومون النّظر إليك ، النّواكس الأذقان الّذين قد طالت رغبتهم فيما لديك » .
و في التّوحيد باسناده عن وهب عن ابن عباس عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال : إنّ للّه تبارك و تعالى ملائكة ليس شيء من أطباق أجسادهم إلاّ و هو يسبّح اللّه عزّ و جلّ و يحمده بأصوات مختلفة لا يرفعون رؤوسهم إلى السّماء و لا يخفضونها إلى أقدامهم من البكاء و الخشية ( متلفعون تحته ) أى تحت العرش ( بأجنحتهم ) روى الشّارح البحراني عن وهب قال : إنّ لكلّ ملك من حملة العرش و من
-----------
( 1 ) تخوم الارض حدودها ، منه
[ 37 ]
حوله أربعة أجنحة امّا جناحان فعلى وجهه مخافة أن ينظر الى العرش فيصعق و امّا جناحان فيلفون ( فيهفون خل ) 1 بهما ليس لهم كلام إلاّ التسبيح و التّحميد .
و في الأنوار روى أنّ صنفا من الملائكة لهم ستّة أجنحة فجناحان يلفّون بهما أجسادهم و جناحان يطيرون بهما في أمر من أمور اللّه و جناحان مرخيان على وجوههم حياء من اللّه و حينئذ فكلّ جناحين لغرض مخصوص ، و به يظهر فائدة الجناح الثّالث المشار اليه في قوله سبحانه :
« أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ » .
ثمّ إن هذا في جانب القلّة ، و أمّا في جانب الكثرة فيزيد اللّه سبحانه فيهم ما يشاء و هو على كلّ شيء قدير ( مضروبة بينهم و بين من دونهم ) من الملائكة أو البشر أو الجنّ أو الأعمّ ( حجب العزّة و أستار القدرة ) المانعة عن إدراك ذواتهم و الاطلاع على شئوناتهم .
و توضيحه بالتّمثيل انّ ملوك الدّنيا إذا بلغوا في العزّ و العظمة مرتبة الغاية القصوى لا يصل إلى حضور خواصّه فضلا عن ذاته إلاّ الأوحدي من النّاس ، و لا يراهم إلاّ من كان له معهم علقة شديدة و وسيلة قوية ، و الحاجب عن ذلك ليس الا هيبة السّلطنة و قدرة الملك و عظمته و إذا كان هذا حال خواص السّلطنة العارية و الملوك الذين هم في الحقيقة مملوك ، فشأن خواص الحضرة الرّبوبيّة و ملك الملوك أعلى و استناد الحايل عن إدراك مقاماتهم و درجاتهم إلى حجب العزّة و أستار القدرة أحرى ( و لا يتوهمون ربّهم بالتّصوير ) لكونهم منزّهين عن الادراكات الوهميّة و الخيالية فى حق مبدئهم و خالقهم جلّت عظمته ، لأنّ عقولهم صافية غير مشوبة بالتّوهمات و التخيّلات ( و لا يجرون عليه صفات المصنوعين ، و لا يحدّونه بالاماكن ، و لا يشيرون اليه بالنظاير ) لأنّ إجراء الصّفات و التّحديد بالأماكن و الاشارة بالنّظاير إنما هو من مخترعات الواهمة و المتخيّلة المختصّتين بذوات الأمزجة العنصرية الغير
-----------
( 1 ) هف الطاير اذا اخفق ، منه
[ 38 ]
الجائزتين في حقّ الملائكة السّماوية و مقرّبي الحضرة الرّبوبيّة ، هذا تمام الكلام في شرح حال الملائكة حسبما اقتضاه المقام و يأتي شطر منه عند شرح بعض الخطب الآتية المقتضية لذلك كخطبة الأشباح و غيرها ، و اللّه الموفّق و المعين .