و بيان
[ 194 ]
جملة من القابه و أسمائه .
فاقول : اعلم هداك اللّه إلى الصّراط المستقيم ، و ثبّتك على المنهج القويم ،
أنّ القرآن لما كان اصله مكتوبا :
« في كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ » بلا صحائف و لا أوراق ، لكونه قبل وجود الأنفس و الآفاق ، و كنا في ابتداء وجودنا ضعفاء العقول ، ضعفاء الأبصار و لم يكن تصل قوة أنظارنا إلى أطراف هذه الأرقام ،
و أكناف هذه الكلمات العظام ، لتعاظم حروفها ، و تعالى كلماتها ، و تباعد أطرافها و حافاتها ، لا جرم تضرعنا إليه سبحانه بلسان احتياجنا و استعدادنا ، و قلنا : إلهنا ارحم على قصورنا ، و لا تؤيسنا عن روحك و رحماتك ، و اهدنا سبيلا إلى مطالعة كلماتك ، و وصولا إلى رضوانك و جنّاتك ، فتلطف سبحانه بنا بمقتضى عنايته الشّاملة ، و حكمته الكاملة و رحمته الواسعة ، و قدرته البالغة ، فاعطى لنا نسخة مختصرة من أسرار كتبه الجامعة ، و انموزجا وجيزا من معاني كلماته التّامة و هو القرآن الكريم و الصّراط المستقيم ، و التّنزيل من العزيز الرّحيم ،
نزّله على النّبي الأمين ، لانجاء العباد من سلاسل تعلّقات النّفس ، و وساوس الشّيطان اللّعين ، فلو كشف نقاب العزّة عن وجهه ، و رفع جلباب العظمة و الكبرياء عن سرّه ،
لشفى كلّ عليل ، و روى كلّ غليل ، و داوى كلّ مريض القلب بعلل الأخلاق الذميمة ،
و أسقام الجهالات المهلكة ، و أنجى المقيدين بسلاسل التعلّقات ، و المزيّنين بحبّ الأهل و الأولاد و الشّهوات ، و هو مع عظمة قدره و علوّ منزلته و سموّ مكانه ،
قد تلبّس بلباس الحروف و الأصوات ، و اكتسى بكسوة الألفاظ و العبارات ، رحمة منه سبحانه على العباد ، و شفقة على خلقه و تقريبا إلى أفهامهم و مداراة معهم ،
و منازلة إلى اذواقهم ، و إلاّ فما للتّراب و ربّ الأرباب ، ففي كلّ حرف منه ألف رمز و إشارة ، و فيكلّ لفظ ألف سرّ و كناية .
و لذلك قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فيما رواه في الكافي باسناده إلى الصّادق عليه السّلام عن
[ 195 ]
آبائه ، عنه صلّى اللّه عليه و آله : أيّها النّاس إنّكم في دار هدنة و أنتم على ظهر سفر 1 و السّير بكم سريع و قد رأيتم اللّيل و النّهار و الشّمس و القمر يبليان 2 كلّ جديد و يقربان كلّ بعيد و يأتيان بكل موعود ، فأعدّوا الجهاز 3 لبعد المجاز قال :
فقام المقداد بن الأسود ، فقال يا رسول اللّه : و ما دار الهدنة ؟ قال : دار بلاغ و انقطاع فاذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن ، فانّه شافع مشفّع و ماحل 4 مصدق من جعله أمامه قاده إلى الجنّة و من جعله خلفه ساقه إلى النار و هو الدّليل يدلّ على خير سبيل و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل ، و هو الفصل 5 ليس 6 بالهزل ، و له ظهر و بطن ، فظاهره حكم ، و باطنه علم ، ظاهره أنيق 7 و باطنه عميق له تخوم 8 و على تخومه تخوم 9 ، لا تحصى عجائبه ، و لا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة ، و دليل على المعرفة لمن عرف الصّفة ،
فليجل 10 جال بصره ، و ليبلغ الصّفة نظره ، ينج من عطب و يتخلص من نشب 11 فانّ التفكر حياة قلب البصير كما يمشى المستنير في الظلمات بالنّور ، فعليكم بحسن التخلص و قلة التربص هذا .
و لغاية عظمته و منتهى جلالته سمّي بأسماء مختلفة و لقّب بألقاب كثيرة ،
-----------
( 1 ) التنكير اشارة الى ما هو به و عظمته و هيبته
-----------
( 2 ) اى يفنيان م
-----------
( 3 ) جهاز السفرا هبة السفر و ما يحتاج إليه فى قطع المسافة م
-----------
( 4 ) قال الطريحى فى الحديث من محل به القرآن يوم القيامة صدق اى سعى به يقال محل بفلان اذا قال عليه حولا يوقعه فى مكروه انتهى ، فعلى هذا يكون قوله و ما حل اشارة الى سعاية القرآن فى يوم الحساب ممن ضيعه و نبذه وراء ظهره ، منه
-----------
( 5 ) اى الفاصلة بين الحقّ و الباطل م
-----------
( 6 ) اى ليس فيه من الهزلات الشعرية مل
-----------
( 7 ) اى حسن معجب م
-----------
( 8 ) تخم الارض حده و الجمع تخوم كفلس و فلوس م
-----------
( 9 ) و فى بعض النسخ له نجوم و على نجومه نجوم و قد فسره المجلسى فى عين الحيوة بالائمة « ع » م
-----------
( 10 ) من جال يجول دار ، م
-----------
( 11 ) هو من قولهم نشب فى الشيء اذا وقع فيما لا مخلص منه ، مجمع
[ 196 ]
لأنّ الشيء كلما ازداد جلالة و رفعة ازداد نعتا و وصفا :
فمنها الكتاب قال تعالى : « ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فيهِ » و منها القرآن : « إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَريمٌ » و منها الفرقان لكونه فارقا بين الحقّ و الباطل ، قال سبحانه :
« وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ » و منها النّور ، لأنّه نور عقليّ ينكشف به أحوال المبدء و المعاد و يترا أى منه حقائق الأشياء ، و يهتدى به في ظلمات برّ الاجسام و بحر النفوس و يظهر به للسالكين إلى الدار الاخرى طريق الجنة و طريق النار ، قال تعالى :
« قَدْ جآئَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ و كِتابٌ مُبينٌ يَهْدي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ و يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلىَ النُّورِ » .
و منها الحكمة ، قال تعالى : « و يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ » و هي عبارة عن أفضل علم بأحكم معلوم و لا يوصف بها إلاّ المتجرّدون عن جلباب البشريّة ، و المنسلخون عن لباس هذا الوجود الكوني و لذلك قال سبحانه بعد قوله :
و يعلّمهم الكتاب و الحكمة :
« ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظيمِ » و منها الرّوح ، قال تعالى : « يُلْقِي الرُّوحَ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِه لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ » و منها الحقّ ، لأنّه ثابت لا يتغيّر أبدا من حقّ الأمر إذا ثبت ، و لأنّه صادق مطابق للواقع لا يعتريه شكّ و ريب ، قال تعالى .
« بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتيهُمْ مِنْ نَذيرٍ »
[ 197 ]
و منها الهدى ، لأنّه يهدى إلى الصّراط المستقيم ، قال تعالى :
« هُدىً لِلمُتَّقينَ ، و ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدي بِه مَنْ يَشاءُ » و منها الذّكر ، « إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ و لِقَوْمِك وَ سَوْفَ يُسْئَلُونَ » سمّي به لأنّه يتذكر به امور الآخرة و أحوال المبدء و المعاد .
و منها النّبأ العظيم ، لأنّه يخبر عن عالم الغيب و المغيبات ، قال :
« بَلْ هُوَ نَبَأٌ عَظيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ » و منها الشّفاء ، لأنّه يقع به الشّفاء على الأمراض النّفسانيّة و الأسقام الباطنية قال تعالى :
« قُلْ هُوَ لِلَّذينَ آمَنُوا هُدىً و شِفاءٌ » و منها الرّحمة ، قال تعالى : « وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ » و منها العليّ الحكيم ، قال تعالى : « وَ إِنَّهُ في أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكيمٌ » أمّا كونه عليّا فلأنّ أصله من العالم العلوي ، و أمّا كونه حكيما فواضح .
و منها التّنزيل و منها البشير النّذير و منها العزيز و منها الموعظة الحسنة و منها المجيد إلى غير ذلك من الألقاب و الأسماء و لا شكّ أنّ كثرة الأسامى و الأوصاف تدلّ على عظم شأن المسمّى و الموصوف ، و اللّه العالم بجلالة شأن كلامه و رفعة مرتبة كتابه و مقامه .