اعلم أنّ المراد بهذه الخطبة تعليم رسوم الحرب و آدابها و الارشاد إلى كيفيّة المحاربة و القتال ، إذ في مراعاتها و الملازمة عليها رجاء الفتح و الظفر من اللّه المتعال فقوله ( معاشر النّاس استشعروا الخشية ) أى اجعلوا الخوف و الخشية من اللّه سبحانه شعارا لكم لازما على أنفسكم لزوم الشّعار على الجسد ( و تجلببوا السّكينة ) أى اتّخذوا الوقار و الطمأنينة في السّير و الحركة غطاء لكم محيطا بكم إحاطة الجلباب بالبدن .
( و عضّوا على النّواجذ ) و هذا الأمر إمّا محمول على الحقيقة لأنّ العضّ يورث تصلّب الأعضاء و العضلات فتكون على مقاومة السّيف أقدر و يكون تأثيره فيه أقلّ ، و يشهد به ظاهر التّعليل بقوله ( فانّه ) أى العضّ ( أنبا للسّيوف عن الهام ) و إمّا كناية عن شدّة الاهتمام بأمر الحرب أو الصّبر و تسكين القلب و ترك الاضطراب فانّه أشدّ ابعادا لسيف العدوّ عن الرأس و أقرب إلى النّصر ( و أكملوا اللأمة ) و المراد باكمالها على التفسير الأوّل أعنى كونها بمعنى الدّرع هو أن يراد عليها البيضة و السّواعد و نحوهما ، و على التفسير الثاني اتخاذها كاملة شاملة للجسد ( و قلقلوا السّيوف في اغمادها قبل سلّها ) ليسهل السّل وقت الحاجة ، فانّ طول مكثها في الاغماد ربّما يوجب الصّداء فيصعب السّل وقت الاحتياج ( و الحظوا الخزر ) لأنّ النّظر بمؤخّر العين أمارة الغضب كما أنّ النّظر بتمام العين إلى العدوّ علامة الفشل ( و اطعنوا الشّزر ) لأنّ الطعن عن اليمين و الشّمال يوسع المجال على الطاعن و أكثر المناوشة للخصم في الحرب يكون عن يمينه و شماله ، و يمكن أن تكون الفايدة أنّ احتراز العدوّ عن الطعن حذاء الوجه أسهل و الغفلة عنه أقلّ ( و نافحوا بالظبا ) قيل : المعنى قاتلوا بالسّيوف و أصله أن يقرب أحد المتقابلين إلى الآخر بحيث يصل نفح كلّ منهما أى ريحه و نفسه إلى صاحبه ، و قيل : أى ضاربوا بأطراف السّيوف و فايدته أنّ مخالطة العدوّ و القرب الكثير منه يشغل عن
[ 26 ]
التّمكّن من حربه ، و أيضا لا يؤثّر الضّرب مع القرب المفرط كما ينبغى ( و صلوا السّيوف بالخطا ) يعنى إذا قصرت السّيوف عن الضّريبة فتقدّموا تلحقوا و لا تصبروا حتّى يلحقكم العدوّ ، و هذا التّقدم يورث الرّعب في قلب العدوّ ، و إلى ذلك ينظر قول حميد بن ثور الهلالى :
و وصل الخطا بالسّيف و السّيف بالخطا
إذا ظنّ أنّ المرء ذا السيف قاصر
و قال آخر :
نصل السّيوف إذا قصرن بخطونا
يوما و نلحقها إذا لم تلحق
و قال آخر :
و إذا السّيوف قصرن طوّلها لنا
حتّى تناول ما نريد خطانا
و قال رابع :
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
خطانا إلى أعدائنا فتضارب
و روى عنه عليه السّلام أنّه قيل له في بعض الغزوات : ما أقصر سيفك ؟ قال عليه السّلام :
اطوله بخطوة ( و اعلموا أنّكم بعين اللّه ) يراكم و يسمع كلامكم و يعلم أعمالكم و يشهد أفعالكم ، و هذا تمهيد للنّهى عن الفرار و تنبيه على أنّ اللّه سبحانه ينصرهم و يحفظهم ( و ) أنّه يجب عليهم التّثبت و الثّبات ( مع ابن عمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ) الذي طاعته كطاعته و حربه كحربه ( فعاودوا الكرّ ) أى الحملة و الرّجوع عند التّحرف للقتال أو التّحيز إلى فئة أو عند الفرار جبنا لو اتّفق و المراد لا تقصروا على حملة واحدة لليأس عن حصول الغرض بل عاودوا و احملوا كرّة بعد اخرى ( و استحيوا من الفرّ فانّه ) أى الفرار قبيح من جهتين :
إحداهما أنّه ( عارفي الأعقاب ) يعنى أنّه عار في عاقبة الأمر و يتحدّث النّاس به في مستقبل الزّمان ، هذا على كون الاعقاب جمع عقب بالضّم ، و أمّا على كونها جمع عقب بفتح العين فالمعنى أنّه عار في أولادكم يعيرون به بعدكم و من هنا روي أنّ أعرابيّا رأى رجلا من أولاد أبي موسى الأشعرى يمشي و يتبختر في مشيه ، قال :
ماله كان أباه غلب عمرو بن العاص في التّحكيم
-----------
( 1 ) فاعل طول ، منه .
[ 27 ]
( و ) الجهة الثانية أنّه ( نار يوم الحساب ) أى يوجب استحقاق النّار لكونه من المعاصي الكبيرة كما يشير إليه قوله سبحانه : و من يولّهم يومئذ دبره إلاّ متحرّفا لقتال أو متحيّزا إلى فئة فقد باء بغضب من اللّه و مأويه جهنّم و بئس المصير ( و طيبوا عن أنفسكم نفسا ) أى طيّبوا أنفسكم متجاوزين عن نفوسكم الزّايلة و وطنوا قلوبكم على بذلها في سبيل اللّه و ارضوا به للحياة الباقية و اللذات الدّائمة ( و امشوا إلى الموت مشياسحجا ) سهلا بدون تكلّف .
( و عليكم بهذا السّواد الأعظم ) أى معظم القوم المجتمعين على معاوية ( و الرّواق المطنب ) اراد به مضرب معاوية و كان في قبة عالية بأطناب عظيمة ، و حوله من أهل الشّام و صناديدهم مأة ألف كانوا تعاهدوا أن لا ينفرجوا عنه أو يقتلوا ( فاضربوا ثبجه ) أى وسطه ( فانّ الشّيطان كامن في كسره ) المراد بالشّيطان إمّا معاوية أو عمرو بن العاص ، و إطلاق الشيطان عليهما لشباهتهما بالشيطان في الاضلال عن سبيل اللّه سبحانه ، و الاظهر أنّ المراد به معناه الحقيقي لأنّ المعاوية كان بارزا في الصدر لا كامنا في الكسر إلاّ أن يكون ذلك لبيان جبنه و لا ينافي إرادة الحقيقة قوله ( قد قدّم للوثبة يدا و أخّر للنكوص رجلا ) لأنّ إبليس كان من رفقاء معاوية و أصحابه كان يثب لوثوبهم و يرجع برجوعهم ، و يمكن أن يراد بوثبته طمعه في غلبة أصحاب معاوية و تحريصه لهم على القتال ، و بالنكوص ما يقابله ( فصمدا صمدا حتى ينجلى لكم عمود الحقّ ) أى اقصدوهم قصدا و اصبروا على الجهاد إلى أن يظهر لكم نور الحق .
قال المجلسي : عمود الحق لعلّه للتشبيه بالفجر الأوّل ، و فيه اشعار بعدم الظهور لأكثر القوم كما ينبغي ( و أنتم الأعلون ) أى الغالبون على الأعداء بالظفر أو بأنكم على الحقّ ( و اللّه معكم ) لأنكم أنصاره ( و لن يتركم أعمالكم ) أى لا ينقصكم اللّه جزاء أعمالكم و هذه اللفظة اقتباس من الآية الشريفة في سورة محمّد و هو قوله سبحانه :
إِنَّ الَّذين كَفرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبيل اللَّهِ ثمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ
[ 28 ]
فَلنْ يَغفِرَ اللَّهُ لَهُمْ فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السِّلْمِ وَ أَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ .