قوله : لم ترك العيون فتخبر عنك ، في بعض النسخ تخبر بالنصب و هو الأظهر و في بعضها بالجزم ، و الأوّل مبنىّ على كونه منصوبا بان مضمرة وجوبا بعد الفاء السببيّة المسبوقة بالنفى ، و الثانى مبنىّ على جعل الفاء لمجرّد عطف ما بعدها على ما قبلها ، فيكون ما بعدها شريكا لما قبلها في الاعراب .
قال في التصريح : و لك في نحو ما تأتيني فاكرمك أن تقدّر الفاء لمجرّد عطف لفظ الفعل على لفظ ما قبلها فيكون شريكه في اعرابه فيجب هنا الرّفع لأنّ الفعل الذي قبلها مرفوع و المعطوف شريك المعطوف عليه و كأنّك قلت ما تأتيني فما اكرمك فهو شريكه فى النفى الداخل عليه .
و إن تقدّر الفاء أيضا لعطف مصدر الفعل الذى بعدها على المصدر المؤل ممّا قبلها ، و لكن يقدّر النفى منصبّا على المعطوف عليه و ينتفى المعطوف لأنه مسبّب عنه و قد انتفى ، و المعنى ما يكون منك اتيان فكيف يكون منّى إكرام .
و قوله عليه السّلام : لا يفلتك ، من باب الحذف و الايصال أى لا يفلت منك على حدّ قوله :
استغفر اللّه ذنبا لست محصيه
ربّ العباد اليه الوجه و العمل
أى من ذنب ، و قوله : سبحانك ما اعظم ما نرى ، سبحانك منصوب على المصدر و عامله محذوف وجوبا ، أى أسبّح سبحانا فحذف الفعل لسدّ المصدر مسدّه و تبعه اللاّم أيضا في الحذف تخفيفا فاضيف المصدر إلى كاف الخطاب ، و هذه اللفظة واردة في هذا المقام للتعجّب كما في قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في رواية أبي هريرة : سبحان اللّه إنّ المؤمن لا ينجس ، صرّح به في التوضيح ، و معنى التعجّب انفعال يعرض للنّفس عند الشعور بأمر يخفى سببه ، و لهذا قيل : إذا ظهر السّبب بطل العجب ، و يشترط أن يكون المتعجّب منه عادم النظير أو قليل النّظاير ، فما يكثر نظائره في الوجود لا يستعظم
[ 309 ]
فلا يتعجّب منه .
قوله عليه السّلام ما اعظم ما نرى ، تأكيد للتعجّب ، فانّ ما في ما أعظم تعجّبة أيضا و ماء الثانية موصولة ، و قد طال التشاجر بين علماء الأدبيّة في ماء التّعجب و صيغة أفعل بعدها بعد اتفاقهم على اسميتها و كونها مبتدء ، فالمحكىّ عن سيبويه و جمهور البصرييّن أنّها نكرة تامّة بمعنى شيء و ابتدء بها على نكارتها لتضمّنها معنى التّعجب .
قال الرّضيّ ( ره ) : فانّ التعجّب كما ذكرنا إنّما يكون فيما يجهل سببه فالتنكير يناسب معنى التعجّب ، فكان معنى ما أحسن زيدا ، في الأصل شيء من الأشياء لا أعرفه جعل زيدا حسنا ، ثمّ انتقل إلى إنشاء التعجّب و انمحى عنه معنى الجعل فجاز استعماله في التعجّب عن شيء يستحيل كونه جعل جاعل ، نحو ما أقدر اللّه و ما أعلمه ، و ذلك لأنه اقتصر من اللفظ على ثمرته و هى التعجّب من الشيء سواء كان مجعولا و له سبب أولا ، فما مبتداء و افعل فعل ماض خبره و فيه ضمير راجع إلى ما هو فاعله و المنصوب بعده مفعوله ، فعلى ذلك يكون فتحة أفعل فتحة بناء فاعراب ما أحسن زيدا مثل اعراب زيد ضرب عمرا حرفا بحرف . 1 و قال الأخفش في أحد قوله إنّ ما موصولة بمعنى الذي و ما بعدها من الجملة الفعلية صلة لها لا محلّ لها من الاعراب ، أو نكرة موصوفة بمعنى شيء و ما بعدها صفة لها ، فمحلّها رفع تبعا لمحلّ ما ، و على التقديرين فالخبر محذوف وجوبا أى الذي أحسن زيدا أو شيء أحسن زيدا موجود أو شيء عظيم .
و استبعدوه بأنّ فيه التزام وجوب حذف الخبر مع عدم ما يسدّ مسدّه ، و بأنه ليس فيه معنى الابهام اللاّيق بالتعجّب ، و أيضا إذا تضمّن الكلام افهاما و ابهاما فالمعتاد تقدّم الابهام ، و فيما ذكره يكون الأمر بخلاف ذلك إذ فيه تقديم الافهام بالصّلة أو الصفة و تأخير الابهام بالتزام حذف الخبر .
-----------
( 1 ) و مذهب السيبويه ضعيف من وجه و هو أنّ استعمال ماء نكرة غير موصوفة نادر نحو فنعماهى على قول و لم يسمع مع ذلك مبتداء ، شرح الرضى
[ 310 ]
و ذهب الفرّاء و ابن درستويه و ربما عزّى إلى الكوفيّين إلى أنّ ما استفهامية ما بعدها خبرها .
قال نجم الأئمة و هو قوىّ من حيث المعنى ، لأنّه كان جهل سبب حسنه فاستفهم عنه ، و قد يستفاد من الاستفهام معنى التعجّب نحو : ما أدراك ما يوم الدّين و أتدرى من هو ، و للّه درّه أىّ رجل كان قال و للّه غنيّا خيرا أيّما فتى .
و ربما يضعف بأنّ فيه نقل من الاستفهام إلى التعجّب و النقل من انشاء إلى انشاء مما لم يثبت ، هذا .
و بقى الكلام في أفعل و قد ظهر من كلام البصريّين أنه فعل ماض و فتحته فتحة بناء للزومه مع ياء المتكلم نون الوقاية نحو ما أفقرنى إلى رحمة اللّه و ما أحوجنى اليها ، و قال الكوفيّون غير الكسائي 1 إنه اسم و فتحته فتحة اعراب كفتحة عندك في زيد عندك ، و يؤيد قولهم تصغيرهم اياه 2 في نحو ما احيسنه و ما اميلحه قال الشاعر :
يا ما اميلح غزلانا شددن لنا
و اعتذروا عن فتحة الخبر بأنّ مخالفة الخبر للمبتداء تقتضى نصبه و أحسن إنّما هو في المعنى وصف لزيد لا لضمير ما ، فلذلك كان منصوبا ، بيان ذلك . أنّ الخبر إذا كان فى المعنى هو المبتداء كاللّه ربّنا أو مشبه به نحو : أزواجه امّهاتهم ، ارتفع ارتفاعه ، و إذا كان مخالفا له بحيث لا يحمل عليه حقيقة أو حكما خالفه في الاعراب كما في زيد عندك ، و الناصب له عندهم معنوىّ و هو معنى المخالفة التي اتّصف بها ،
و لا حاجة على قولهم إلى شيء يتعلّق به الخبر ، و امّا انتصاب زيدا فلمشابهة المفعول به ، لأنّ ناصبه وصف قاصر فأشبه نصب الوجه في قولك زيد حسن الوجه هكذا قال في التوضيح و شرحه .
-----------
( 1 ) فانه وافق البصريّين فى القول بكونه فعلا ، منه .
-----------
( 2 ) و اجيب بأن التصغير فى افعل شاذ و وجه تصغيره انه اشبه الاسماء عموما لجموده و انه لا مصدر له و اشبه افعل التفضيل خصوصا بكونه على وزنه و بدلالته على الزيادة ، منه
[ 311 ]
و قال نجم الأئمة بعد حكاية هذا المذهب أعنى مذهب الكوفيّة في أفعل و كونه اسما كأفعل التفضيل : و لو لا انفتاح أفعل التعجّب و انتصاب ما بعده انتصاب المفعول به لكان مذهبهم جديرا بأن ينصر .
و قد اعتذروا لفتح آخره بكونه متضمنّا لمعنى التعجّب الذى كان حقيقا بأن يوضع له حرف كما مرّ في بناء اسم الاشارة ، فبنى لتضمنه معنى الحرف و بنى على الفتح لكونه أخفّ .
و اعتذروا لنصب المتعجّب منه بعد افعل بكونه مشابها للمفعول لمجيئه بعد افعل المشابه لفعل مضمر فاعله فموقعه موقع المفعول به فانتصب انتصابه فهو نحو قوله :
و لدنا بعده بذناب 1 عيش
اجبّ الظّهر ليس له سنام
بنصب الظهر ، و هو ضعيف ، لأنّ النّصب في مثل أجبّ الظهر و حسن الوجه توطئة لصحة الاضافة إلى ذلك المنصوب و لا يضاف أفعل إلى المتعجّب منه هذا .
و قوله عليه السّلام لم يخلقوا من ماء مهين ، حرف من ابتدائية نشويّة ، و قوله :
و انّهم على مكانهم ، جملة مستأنفة و خبر إن الجملة الشرطية الآتية أعني قوله :
لو عاينوا آه ، و على في قوله : على مكانهم ، للاستعلاء المجازى ، و المعنى أنهم حالكونهم مستقرّين على مكانهم المعيّن لهم منك و منزلتهم الموجودة لهم عندك لو عاينوا ما خفى عليهم لحقّروا أعمالهم .