إنّ هذا الكلام قاله أمير المؤمنين عليه السّلام بعد انقضاء أمر صفّين و النهروان في بعض غارات أهل الشام على أطراف العراق ، ( و قد جمع النّاس و حضّهم ) أى حثّهم ( على الجهاد فسكتوا مليّا ) أى ساعة طويلة ( فقال عليه السّلام ) توبيخا لهم على تثاقلهم ( ما بالكم أمخرسون أنتم ) فلا تنطقون ( فقال قوم منهم يا أمير المؤمنين عليه السّلام ان سرت ) إلى العدوّ ( سرنا معك فقال عليه السّلام : ما بالكم لا سددتم لرشد و لا هديتم لقصد ) دعاء عليهم بعدم الاستقامة و السّداد لما فيه الصّلاح و الرّشاد و عدم الاهتداء للقصد أى الأمر المعتدل الذي لا يميل إلى أحد طرفي الافراط و التفريط .
( أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج ) استفهام على سبيل التوبيخ و الانكار ،
و الاتيان باسم الاشارة للتحقير كما في قوله تعالى : « أ هذا الذي يذكر آلهتكم »
-----------
( 1 ) بطلا صفة لمحذوف أى نطقا بطلا أى باطلا و الاقارع جمع اقرع و هو الذي ذهب شعر رأسه من آفة ، منه .
[ 106 ]
( انما يخرج في مثل هذا رجل ممّن ارضاه من شجعانكم و ذوى بأسكم ) و شجاعتكم .
ثمّ أشار عليه السّلام إلى وجوه الفساد في خروجه بنفسه بقوله ( و لا ينبغي لى أن أدع الجند و المصر و بيت المال و جباية الأرض ) أى جمع ما فيها و خراجها ( و القضاء بين المسلمين ) و فصل خصوماتهم ( و النظر في حقوق المطالبين ) و دفع ظلاماتهم و غير ذلك مما فيه نظام الدولة و انتظام المملكة و مهام العباد و قوام البلاد ( ثم اخرج في كتيبة أتبع ) في كتيبة ( أخرى أتقلقل ) أى أضطرب ( تقلقل القدح في الجفير الفارغ ) من السهام ، و الغرض التّشبيه في اضطراب الحال و الانفصال عن الجنود و الاعوان بالقدح الذي لا يكون حوله قداح تمنعه من التّقلقل و لا يستقرّ مكانه .
و قال الشارح البحراني : شبّه خروجه معهم بالقدح في الجفير ، و وجه الشّبه أنّه كان قد نفد الجيش و أراد أن يجهّز من بقي من النّاس في كتيبة اخرى فشبّه نفسه في خروجه في تلك الكتيبة وحده مع تقدم أكابر جماعة و شجعانها بالقدح في الجفير الفارغ في كونه يتقلقل ، و في العرف يقال للشريف إذا مشى في حاجة ينوب فيها من هو دونه و ترك المهام التي لا تقوم إلاّ به ترك المهمّ الفلاني و مشى يتقلقل على كذا ، و الأشبه ما ذكرنا ( و إنما أنا قطب الرّحى تدور علىّ و أنا بمكاني ) شبّه عليه السّلام نفسه بالقطب و امور الامارة و الخلافة المنوطة عليه بالرحى و وجه الشّبه دوران تلك الامور عليه دوران الرّحى على القطب كما أشار إليه بقوله : تدور علىّ ، و هو من قبيل التشبيه المجمل المقرون بذكر وصف المشبّه به كما في قولها : هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها .
و قوله ( فاذا فارقته استحار مدارها و اضطرب ثفالها ) إشارة إلى الغرض من التشبيه و هو فساد الامور المذكورة و اضطرابها بمفارقته عليه السّلام لها و انتقاله عليه السّلام عن مكانه ، و كذلك يبطل الغرض المقصود من الرّحا بارتفاع قطبها و انتفائه ، و معنى استحار مدارها على تفسير الشّارح المعتزلي اضطراب دورانها و خروجه عن الحركة
[ 107 ]
المستديرة إلى المستقيمة ، و على ما قدّمنا من عدم مجىء الاستحارة بمعنى الاضطراب فالأنسب أن يكون كناية عن الوقوف عن الحركة و يكون اضطراب ثفالها كناية عن عدم تأتى الغرض المطلوب منه .
و لما نبّه على فسادر أيهم أكّد ذلك بالقسم البارّ و قال ( هذا لعمر اللَّه الرأى السّوء ) ثمّ أقسم باستكراهه لهم و استنكافه منهم و نفرة طبعه عن البقاء معهم إلاّ أنّ له مانعا عن ذلك و هو قوله ( و اللَّه لو لا رجائي ) لقاء اللَّه ب ( الشهادة عند لقائى العدوّ لو قدحمّ ) و قدّر ( لي لقائه لقرّبت ركابي ثمّ شخصت عنكم ) و فارقتكم غير متأسّف عليكم ( فلا أطلبكم ) سجيس اللّيالي ( ما اختلف جنوب و شمال ) تبرّما من سوء صنيعتكم و قبح فعالكم و مخالفتكم لأوامرى حالكونكم ( طعّانين ) على النّاس ( عيّابين ) عليهم ( حيّادين ) ميّالين عن الحقّ ( روّاغين ) عن الحرب روغ الثّعلب ( و انّه لاغناء ) و لا نفع ( في كثرة عددكم مع قلّة اجتماع قلوبكم ) و نفاقكم ( لقد حملتكم على الطريق الواضح التى لا يهلك عليها ) أى كائنا عليها أو بسببها ( إلاّ هالك من استقام ) و اعتدل و لزم سلوكها ( ف ) مرجعه ( إلى الجنّة ) بنفس مطئنّة ( و من زلّ ) و عدل عنها ( ف ) مصيره ( إلى النّار ) و بئس القرار .