الوجه الثانى

أن يقال : إنّ الغيب على قسمين : قسم هو غيب عند الكلّ ، و قسم هو غيب عند بعض شهادة عند آخر ، و الأول قد يعبّر عنه بالعلم المكفوف و هو مختصّ باللّه سبحانه و عليه يحمل الأدلّة الدّالّة على أنّ الغيب للّه ، و الثاني هو المعبّر عنه بالعلم المبذول و عليه يحمل الأدلّة المثبتة لعلهم بالغيب و هذه القسمة مستفادة من أخبار كثيرة مثل ما في البحار من بصائر الدّرجات باسناده عن بشير الدهان قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إنّ للّه علما لا يعلمه أحد غيره ، و علما قد علمه ملائكته و رسله فنحن نعلمه .

و عن سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال إنّ للّه علما علّمه ملائكته و أنبيائه و رسله فنحن نعلمه ، و علما لم يطّلع عليه أحد من خلق اللّه و عن سدير قال : سمعت حمران بن أعين يسأل أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالى : بديع السّموات و الأرض ، قال أبو جعفر عليه السّلام إنّ اللّه ابتدع الأشياء كلّها على غير مثال كان ، و ابتدع السّموات و الأرض و لم يكن قبلهنّ سموات و لا أرضون ، أما تسمع لقوله تعالى : و كان عرشه على الماء ، فقال حمران : عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا ، فقال له أبو جعفر عليه السّلام : إلاّ من ارتضى من رسول فانّه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ، و كان اللّه و محمّد ممّن ارتضاه ، و أمّا قوله عالم الغيب فانّ اللّه تبارك و تعالى عالم بما غاب عن خلقه ممّا يقدّر من شي‏ء و يقضيه في علمه ، فذلك يا حمران علم موقوف عنده إليه فيه المشيّة فيقضيه إذا أراد و يبدو له فلا يمضيه ، فأمّا العلم الذي يقدّره اللّه و يقضيه و يمضيه فهو العلم الذي انتهى إلى رسول اللّه ثمّ إلينا و رواه في الكافي عن سدير نحوه إلاّ أنّ فيه بعد قوله : و يقضيه في علمه ، قبل أن يخلقه و قبل أن يفضيه إلى الملائكة و في البحار من البصائر أيضا عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : إنّ للّه

[ 221 ]

علمين : علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّ هو من ذلك يكون البداء ، و علم علّمه ملائكته و رسله و أنبيائه و نحن نعلمه قال العلامة المجلسيّ : قوله : من ذلك يكون البداء ، أى إنّما يكون البداء فيما لم يطّلع اللّه عليه الأنبياء و الرّسل حتما لئلاّ يخبروا فيكذبوا هذا .

و ربما يظهر من بعض الأخبار أنّه قد يخرج من العلم المخزون إليهم عليهم السّلام ما لا يخرج إلى غيرهم ، و هو ما رواه في البحار من البصائر عن ابن هاشم عن البرقي رفعه قال : قال أبو عبد اللّه عليه السّلام إنّ للّه علمين ، علم تعلمه ملائكته و رسله ، و علم لا يعلمه غيره ، فما كان ممّا يعلمه ملائكته و رسله فنحن نعلمه ، و ما خرج من العلم الذى لا يعلم غيره فالينا يخرج و يدلّ على ذلك ما قدّمناه في تحقيق معنى السّر في شرح الفصل الرّابع من فصول الخطبة الثانية فليراجع إليه و قال بعض الأعلام في توضيح المرام : اعلم أنّ المراد بالغيب ما غاب عن الحسّ ،

فاذا قيل غيب اللّه يراد به ما غاب عن بعض خلقه أو عن كلّهم ، لأنّ اللّه سبحانه لم يغب عنه غائبة فلا يكون عنده غيب ، و أمّا خلقه فلهم غيب و شهادة ، و قد يكون غيب في امكان عند بعض شهادة عند بعض آخر ، و قد يكون غيب عند الكلّ أمّا الأوّل هو الغيب الذي ارتضاهم عليهم السّلام له ، و هو غيب عند غيرهم و شهادة عندهم و أمّا الثّاني و هو ما كان غيبا عند كلّ الخلق فهو ما دخل في الامكان و أحاطت به المشية إلاّ أنّه لم تتعلّق به تعلّق التكوين ، و هذا لا يتناهي و لا ينفد أبد الآبدين و ذلك هو خزائنه التى لا تفنى و لا يتصوّر فيها نقص بكثرة الانفاق ، فهو عزّ و جلّ ينفق منها كيف يشاء ، و الذي ينفق منه في أوقات الانفاق و أمكنته ينزل من الغيب ،

إلى البيوت التي ارتضاهم لغيبه و ينزّل من أبوابها ما يشاء .

و ذلك المخزون منه محتوم ، و منه موقوف فالمحتوم منه ما لا يمكن تغييره و هو كون ما كان فانّه لا يمكن بعد أن كان ألاّ يكون ، و منه ما يمكن تغييره و لكنّه

[ 222 ]

وعد ألاّ يغيّره و هو لا يخلف الميعاد و قال تعالى في محتوم الخير : فلا كفران لسعيه و إنّا له لكاتبون ، و في محتوم الشرّ : و لكن حقّ القول منّى لأملئنّ جهنّم من الجنّة و النّاس أجمعين ، و هذا المحتوم لو شاء غيّره و محاه و الموقوف مشروط فيكون كذا إن حصل كذا و إن لم يحصل كذا لكان كذا و كذا ، و الشّرط هو السّبب و أما المانع فقد يكون في الغيب و الشّهادة ، و قد يكون في الغيب و لا يكون في الشهادة ، لأنّه إذا وجد في الشهادة وجد في الغيب و لا يلزم العكس .

فإذا وجد المقتضى فان وجد المانع منه فان اعتدلا فهو الموقوف كما ذكر و إن رجّح أحدهما فالحكم له فاذا وجد المقتضى و فقد المانع فان فقد في الغيب و الشّهادة حتم وجوده ،

فان تمّت قوابله وجد و وصل إليهم علمه لأنّه ممّا شاء ، و إن انتظرت جاز في الحكمة الاخبار به فيخبر به على جهة الحتم و لا بدّ أن يكون إلاّ أنّه قبل كونه في الصّفحة الثّانية من اللّوح ، و هذا عندهم عليهم السّلام و منه ما كان و منه ما يكون ، و إلى هذا القسم أشاروا في أخبارهم أنّ عندنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة و إن فقد المانع في الغيب خاصّة جاز في الحكمة الاخبار به فيخبر به من غير حتم ، و هذا قد يكون و قد لا يكون ، و الفائدة في الاخبار به مع أنّه سبحانه لا يكذّب نفسه و لا يكذّب أنبيائه و رسله و حججه هى اظهار التّوحيد بالخلق و الأمر و الاستقلال بالملك و إرشاد الخلق إلى اعتقاد البداء ، لأنّه ما عبد اللّه شي‏ء أفضل من البداء أى إثبات البداء للّه تعالى ، و هذا بجوز للحجج الاخبار به لا على سبيل الحتم بل عليهم أن يعرفوا من لا يعرفوا إنّ اللّه يفعل ما يشاء و إنّه يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب و لهذا قالوا عليهم السّلام ما معناه إذا أخبرناكم بأمر فكان كما قلنا فقولوا :

صدق اللّه و رسوله ، و إن كان بخلاف ذلك فقولوا : صدق اللّه و رسوله توجروا مرّتين و ليس عليهم أن يعرفوا من لا يعرف هذا في خصوص الواقعة ، لأنّ ذلك

[ 223 ]

يوجب الشّك في تصديقهم عند أكثر النّاس ، و قد يلزمهم من ذلك التقول على اللّه لانه سبحانه لم يأمر بذلك في كلّ واقعة ، و انكان قد يأمر بذلك كما في وعد موسى بين ثلاثين و أربعين في معرض التقرير و الهداية و البيان و قد يلزم من البيان خلاف المقصود من الاخبار ، و هذا القسم قد يكون يوجد مانعة في الشهادة كالصدقة في دفع البلاء المبرم يعني الذي ابرم في الغيب لعدم المانع هناك و الدّعاء في ردّ البلاء و قد ابرم ابراما كذلك ، و كبعض الأفعال بل و كلّ الطّاعات و تفصيل ذلك يطول .