الفصل الاول في تمجيد اللّه سبحانه باعتبار عموم قدرته و نفاذ أمره و عظمة سلطانه

و هو قوله ( و انقادت له ) أى للّه تعالى السّابق ذكره في أوّل الخطبة أسقطه السيّد ( ره ) على عادته ( الدّنيا و الآخرة بأزمّتها ) أراد به نفوذ أمره سبحانه فيهما و كونه مالكا لأمرهما و دخولهما في ذلّ الامكان و الافتقار إليه تعالى على سبيل الاستعارة بالكناية ،

تشبيها لهما بالحيوان السّلس المنقاد لصاحبه الذي بيده زمامه المتمكّن من التّصرف فيه كيف شاء ، و ذكر الأزمّة تخييل و الانقياد ترشيح .

( و قذفت ) أى ألقت ( إليه السّماوات و الأرضون مقاليدها ) و هو كناية عن قدرته و حفظه لها و أنّه لا يملك أمرها و لا يتمكّن من التّصرف فيها غيره ، و هو اقتباس من قوله سبحانه في سورة الزّمر : له مقاليد السّموات و الأرض ، قال الزّمخشري : أي هو مالك أمرها و حافظها ، و هى من باب الكناية 1 لأنّ حافظ

-----------
( 1 ) يعنى أنّ حافظ الخزائن يلزمه أن يكون مالك المقاليد فذكر اللاّزم أعنى ملك المقاليد و اريد الملزوم اعنى حفظ الخزائن كما فى زيد كثير الرماد ، منه .

[ 306 ]

الخزائن و مدبّر أمرها هو الّذي يملك مقاليدها ، و منه قولهم : فلان القيت إليه مقاليد الملك ، و هى المفاتيح ، و في مجمع البيان يريد مفاتيح السّموات و الأرض بالرّزق و الرّحمة عن ابن عبّاس و قتادة ، و قيل خزائن السّموات و الأرض يفتح الرّزق على من يشاء و يغلقه عمّن يشاء عن الضّحاك ، و قال في تفسير قوله : له مقاليد السّموات و الأرض يبسط الرّزق لمن يشاء و يقدر انّه بكلّ شي‏ء عليم في سورة الشورى : أى مفاتيح أرزاق السّماوات و الأرض و أسبابها فتمطر السّماء بأمره و تنبت الأرض باذنه عن مجاهد ، و قيل معناه خزائن السّماوات و الأرض عن السّدي يوسّع الرّزق لمن يشاء و يضيق على من يشاء على ما يعلمه من المصالح .

قال الشّارح البحراني ( ره ) بعد ما حكى عن ابن عبّاس كون المقاليد بمعنى المفاتيح : و عن اللّيث كونه بمعنى الخزائن :

أقول : لفظ القذف مجاز 1 في تسليمها و انقيادها بزمام الحاجة و الامكان إلى قدرته مع جميع ما هى سبب في وجوده في هذا العالم ممّا هو رزق و رحمة للخلق و كذلك لفظ المفاتيح على رأى ابن عبّاس استعارة للأسباب المعدّة للأرزاق و الرّحمة ، و تلك الأسباب كحركات السّماوات و اتّصالات بعض الكواكب ببعض و كاستعدادات الأرض للنّبات و غيره ، و وجه الاستعارة أنّ هذه الأسباب باعدادها الموادّ الأرضية يفتح بها خزائن الجود الالهي كما يفتح الأبواب المحسوسة بمفاتيحها و كلّها مسلّمة إلى حكمه و جريانها بمشيّته ، و على قول اللّيث فلفظ الخزائن استعارة في موادّها و استعداداتها ، و وجه الاستعارة أنّ تلك الموادّ و الاستعدادات يكون فيها بالقوّة و الفعل جميع المحدثات من الأرزاق و غيرها كما يكون في الخزائن ما يحتاج إليه انتهى .

و هو تحقيق نفيس إلاّ أنّ الأظهر أنّ المقاليد إن جعلت بمعنى المفاتيح يكون كلامه من باب الاستعارة بالكناية ، حيث شبّه السّماوات و الأرضون بخزائن الملك بجامع أن فيها ما يحتاج إليه الخلق كما يكون في الخزائن ما يحتاج إليه ، و يكون

-----------
( 1 ) من باب مجاز المرسل للتلازم بين القذف و الانقياد ، منه .

[ 307 ]

ذكر مقاليدها تخييلا ، و ذكر القذف ترشيحا ، و في نسبة القذف إليها نكتة خفيّة و هي الاشارة إلى أنّها لتمكينها التام لبارئها فكأنّها باختيارها ألقت و سلّمت مفاتيحها إليه سبحانه ، و على هذا فالمقاليد بمعناها الأصلي و ليس استعارة كما زعمه الشارح و أمّا إن جعلت بمعنى الخزائن فهو كما قال الشّارح استعارة لما فيه من الموادّ و الاستعدادت فافهم جيّدا .

( و سجدت له بالغدوّ و الآصال الأشجار النّاضرة ) أراد به خضوع التكوين و ذلّ الامكان كما قال سبحانه : أ لم تر أنّ اللّه يسجد له من في السّموات و من في الأرض و الشّمس و القمر و النجوم و الجبال و الشّجر و الدّواب .

( و قدحت له من قضبانها النّيران المضيئة ) نسبة القدح إلى الأشجار من باب التوسّع و المجاز العقلي ، لكون الأشجار سببا ماديّا ، و المراد أنّ تلك الأشجار أورت النّار و استخرجتها من أمر اللّه سبحانه و اقتضاء مشيّته ، و فيه إشارة إلى كمال القدرة لأنّ إخراج النّار من الشّجر الأخضر الذي يقطر منه الماء أعجب كما قال تعالى في سورة يس : الّذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فاذا أنتم منه توقدون ،

و في سورة الواقعة : أفرأيتم النّار التى تورون ء أنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشؤن نحن جعلناها تذكرة و متاعا للمقوين .

قال الفخر الرّازي : في شجرة النار وجوه :

أحدها أنّها الشّجرة التى تورى النّار منها بالزند و الزّندة كالمرخ .

و ثانيها الشجرة الّتي تصلح لا يقاد النّار فانها لو لم تكن لم يسهل إيقاد النار لأنّ النّار لا تتعلّق بكلّ شي‏ء كما تتعلّق بالحطب .

و ثالثها اصول شعلها و وقود شجرتها ، و لو لا كونها ذات شعل لما صلحت لانضاج الأشياء ، و في ذلك تذكرة و متاع للمقوين ، أي للّذين يوقدونه فيقوونه و يزيدونه .

( و آتت اكلها بكلماته الثّمار اليانعة ) النّاضجة ، و المراد بكلماته قدرته و مشيته المعبّر عنهما بلفظ كن ، قال الشّارح البحراني : و إطلاق الكلمات عليها

[ 308 ]

استعارة وجهها نفوذ تلك الأحكام في المحكومات كنفوذ الأوامر القوليّة في المأمورات و أراد بايتاء الثّمار دخولها طوعا في الوجود المعبّر عنه بقوله تعالى فيكون .