الاول فى خلقة النملة

قال الدميرى في كتاب حيوة الحيوان : النمل معروف الواحدة نملة و الجمع أنمال ، و أرض نملة ذات نمل ، و النملة بالضمّ النميمة يقال رجل نمل أى نمام ، و ما أحسن قول الأوّل :

اقنع بما تلقي بلا بلغة
فليس ينسى ربّنا النملة

إن أقبل الدّهر فقم قائما
و إن تولّى مدبرا نم له

قال : و سميت النملة نملة لتنمّلها و هو كثرة حركتها و قلّة قوائمها ، و النمل لا يتزاوج و لا يتلاقح إنّما يسقط منه شي‏ء حقير في الأرض فينمو حتى يصير بيظتا ثم يتكوّن منه ، و البيض كلّه بالضاد المعجمة إلاّ بيض النمل فانّه بالظاء المشالة و النمل عظيم الحيلة في طلب الرّزق فاذا وجد شيئا أنذر الباقين يأتون إليه ، و قيل انما يفعل ذلك منه رؤساؤها ، و من طبعه أنّه يحتكر في أيّام الصيف للشتاء ، و له في الاحتكار من الحيل ما أنه إذا احتكر ما يخاف إنباته قسّمه نصفين ما خلا الكسفرة فانه يقسّمها أرباعا لما ألهم من أنّ كلّ نصف منها ينبت ، و إذا خاف العفن على

[ 34 ]

الحبّ أخرجه إلى ظاهر الأرض و نشره ، و أكثر ما يفعل ذلك ليلا في ضوء القمر و يقال : إنّ حياته ليست من قبل ما يأكل و لا قوامه ، و ذلك إنه ليس له جوف ينفذ فيه الطعام و لكنه مقطوع نصفين ، و إنّما قوته إذا قطع الحبّ في استنشاق ريحه فقط و ذلك يكفيه .

أقول : و ظاهر كلام أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الخطبة أعنى قوله عليه السّلام في مجاري أكلها و من شراسيف بطنها يدلّ على فساد زعم هذا القائل ، و التجربة أيضا تشهد بخلافه ، فانا قد شاهدنا كثيرا أنّ الذّر و هي صغار النمل تجتمع على حبوبات الطعام و نحوها و يأكلها حتّى يفنيها بتمامها .

قال الدميرى : و قد روى عن سفيان بن عيينة أنه قال : ليس شي‏ء يخبا قوته إلاّ الانسان و العقعق و النمل و الفار ، و به جزم في الاحياء في كتاب التوكل ، و عن بعضهم أنّ البلبل يحتكر الطعام و يقال : إنّ للعقعق محابي إلاّ أنّه ينساها ، و النمل شديد الشم ، و من أسباب هلاكه نبات أجنحته فاذا صار النمل كذلك أخصبت العصافير لأنّها تصيدها في حال طيرانها ، و قد أشار إلى ذلك أبو العتاهية بقوله :

فاذا استوت للنمل أجنحة
حتى تطير فقد دنا عطبه

و كان الرشيد يتمثل بذلك كثيرا عند نكبة البرامكة .

و هو يحفر قرية بقوائمه ، و هي ستّ فاذا حفرها جعل فيها تعاويج « تعاريخ خ » لئلاّ يجرى إليها ماء المطر ، و ربما اتخذ قرية فوق قرية لذلك و إنما يفعل ذلك خوفا على ما يدّخره من البلل .

قال البيهقي في الشعب : و كان عدى بن حاتم الطائي يفتّ الخبز للنمل و يقول : إنهنّ جارات و لهنّ علينا حقّ الجوار .

و سيأتي في الوحش عن الفتح بن خرشف الزاهد انّه كان يفتّ الخبز لهنّ في كلّ يوم فاذا كان يوم عاشوراء لم تأكله .

و ليس في الحيوان ما يحمل ضعف بدنه مرارا غيره على انّه لا يرضى بأضعاف الأضعاف حتّى أنّه يتكلّف حمل نوى التمر و هو لا ينتفع به و إنما يحمله على حمله

[ 35 ]

الحرص و الشره و هو يجمع غذاء سنين لو عاش و لا يكون عمره أكثر من سنة .

و من عجايبه اتخاذ القرية تحت الأرض و فيها منازل و دهاليز و غرف و طبقات معلقات تملاءها حبوبا و ذخاير للشتاء ، و منه ما يسمّى الذرّ الفارسي و هو من النمل بمنزلة الزنابير من النحل ، و منه أيضا ما يسمّى بنمل الأسد سمّى بذلك لأنّ مقدمه يشبه وجه الأسد و مؤخره يشبه النمل .

و روى البخارى و مسلم و أبو داود النسائى عن أبي هريرة عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال : نزل نبيّ من الأنبياء عليهم السّلام تحت شجرة فلذعته ، فأمر بجهازه فاخرج من تحتها و أمر بها فاحرقت بالنار فأوحى اللّه تعالى إليه هلاّ نملة واحدة .

قال أبو عبد اللّه الترمذي في نوادر الأصول : لم يعاتبه على تحريقها و إنما عاتبه بكونه أخذ البري‏ء بغير البري‏ء ، و هذا النّبي هو موسى بن عمران عليه السّلام و أنّه قال يا ربّ تعذّب أهل قرية بمعاصيهم و فيهم الطايع ، و كأنّه أحبّ أن يريه ذلك من عنده فسلّط عليه الحرّ حتّى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلّها و عندها قرية نمل فغلبه النوم فلما وجد لذّة النوم لذعته نملة فدلكهنّ بقدمه فأهلكهنّ و أحرق مسكنهنّ فأراه تعالى الآية في ذلك عبرة لما لذعته نملة كيف اصيب الباقون بعقوبتها ، يريد أن ينبّهه على أنّ العقوبة من اللّه تعالى تعمّ الطايع و العاصي ، فتصير رحمة و طهارة و بركة على المطيع ، و شرّا و نقمة و عدوانا على العاصي ، و على هذا ليس في الحديث ما يدلّ على كراهة و لا حظر في قتل النّمل ، فانّ من أذاك حلّ لك دفعه عن نفسك و لا أحد من خلق اللّه أعظم حرمة من المؤمن و قد أبيح لك دفعه بضرب أو قتل على ماله من المقدار ، فكيف بالهوام و الدّواب التي قد سخّرت للمؤمن و سلّط عليها .

قال الدميري : و روى الطبراني و الدار قطني أنّه قال : لما كلّم اللّه موسى عليه السّلام كان يبصر دبيب النملة على الصفاء في اللّيلة الظلماء من مسيرة عشرة فراسخ .

قال : و روى أنّ النملة التي خاطبت سليمان أهدت إليه نبقة 1 فوضعها عليه السّلام في كفّه فقالت :

-----------
( 1 ) النبقة بالنون المكسورة ثم الباء الساكنة حمل السدر ، ق

[ 36 ]

أ لم ترنا نهدى إلى اللّه ماله
و إن كان عنه ذاغني فهو قابله

و لو كان يهدى للجليل بقدره
لقصر عنه البحر حين يساجله

و لكنّنا نهدى إلى من نحبّه
فيرضى بها عنّا و يشكر فاعله

و ما ذاك إلاّ من كريم فعاله
و إلاّ فما في ملكنا من يشاكله

فقال سليمان عليه السّلام : بارك اللّه فيكم فهو بتلك الدعوة أكثر خلق اللّه ، انتهى ما أهمّنا نقله من كتاب حيوة الحيوان .

أقول : و من عجيب قصّة النمل ما جرى له مع سليمان عليه السّلام و قد اخبر به سبحانه في كتابه العزيز قال تعالى في سورة النمل و حشر لسليمان جنوده من الجنّ و الانس و الطير فهم يوزعون . حتّى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيّها . النّمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان و جنوده و هم لا يشعرون . فتبسّم ضاحكا من قولها و قال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التى أنعمت علىّ و على والديّ و أن أعمل صالحا ترضيه و أدخلني برحمتك في عبادك الصّالحين .

قال الطبرسيّ « أتوا على واد النمل » هو واد بالطايف و قيل بالشام « قالت نملة » أى صاحت بصوت خلق اللّه لها ، و لما كان الصوت مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول ، و قيل : كانت رئيسة النّمل « لا يحطمنّكم » أى لا يسكرنّكم « سليمان و جنوده و هم لا يشعرون » بحطمكم أو وطئكم فانهم لو علموا بمكانكم لم يطأوكم .

و هذا يدلّ على أنّ سليمان و جنوده كان ركبانا و مشاة على الأرض و لم تحملهم الريح ، لأنّ الريح لو حملتهم بين السّماء و الأرض لما خافت النملة أن يطأوها بأرجلهم و لعلّ هذه القصّة كانت قبل تسخير اللّه الريح لسليمان عليه السّلام .

فان قيل : كيف عرفت النّملة سليمان و جنوده حتّى قالت هذه المقالة ؟

قلنا : إذا كانت مأمورة بطاعته فلا بدّ و أن يخلق اللّه لها من الفهم ما تعرف به امور طاعته ، و لا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما تستدرك به ذلك و قيل : إنّ ذلك كان منها على سبيل المعجز .

« فتبسّم ضاحكا من قولها » و سبب ضحكه التعجب لأنّه رأى ما لا عهد له به

[ 37 ]

و قيل انه تبسّم بظهور عدله حتّى عرفه النمل ، و قيل : إنّ الريح أطارت كلامها إليه من ثلاثة أميال حتّى سمع ذلك فانتهى إليها و هى تأمر النمل بالمبادرة ، فتبسّم عليه السّلام من حذرها ، هذا .

قال بعض أهل العلم : إنّ النملة تكلّمت بعشرة أنواع من البديع قولها : يا نادت ، أيّها ، نبّهت ، النمل ، سمّت ، ادخلوا ، أمرت ، مساكنكم ، نعتت ، لا يحطمنّكم حذرت ، سليمان ، خصّت ، و جنوده ، عمّت ، و هم ، أشارت ، لا يشعرون ، اعتذرت .

و في البحار من تفسير عليّ بن إبراهيم « و حشر لسليمان جنوده من الجنّ و الانس و الطير » قعد على كرسيّه و حملته الرياح على واد النمل و هو واد ينبت الذّهب و الفضة ، قد وكّل اللّه به النمل و قول الصّادق عليه السّلام : إن للّه واديا ينبت الذّهب و الفضة قد حماء اللّه بأضعف خلقه و هو النمل لو رامه البخاتي ما قدرت عليه ، فلما انتهى سليمان إلى وادى النمل قالت نملة الآية .

و في البحار من العيون و العلل بسنده عن داود بن سليمان الغازي قال :

سمعت عليّ بن موسى الرّضا عليه السّلام يقول عن أبيه موسى بن جعفر عن أبيه جعفر ابن محمّد عليهم السّلام في قوله عزّ و جلّ « فتبسّم ضاحكا من قولها » .

قال : لما قالت النملة « يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنّكم سليمان و جنوده » حملت الريح صوت النملة إلى سليمان و هو مارّ في الهواء و الريح قد حملته فوقف و قال : علىّ بالنملة .

فلما اتى بها قال سليمان : يا أيّتها النملة أما علمت أنّي نبيّ اللّه و أنّي لا أظلم أحدا ؟ قالت النّملة : بلى ، قال سليمان : فلم حذّر تنيهم ظلمي ؟ و قلت : يا أيّها النمل ادخلوا مساكنكم ؟ قالت النملة : خشيت أن ينظروا إلى زينتك فيفتتنوا بها فيبعدوا عن ذكر اللّه .

ثمّ قالت النملة : أنت أكبر أم أبوك داود ؟ قال سليمان : بل أبي داود ، قالت النملة : فلم زيد في حروف اسمك حرف على حروف اسم أبيك داود ؟ قال سليمان عليه السّلام : ما لى بهذا علم ، قالت النملة : لأنّ أباك داوى جرحه بودّ فسمّى داود و أنت

[ 38 ]

يا سليمان أرجو أن تلحق بأبيك .

ثمّ قالت النّملة : هل تدرى لم سخّرت لك الرّيح من بين ساير المملكة ؟

قال سليمان : ما لي بهذا علم ، قالت النّملة : يعني عزّ و جلّ بذلك لو سخّرت لك جميع المملكة كما سخّرت لك هذه الرّيح لكان زوالها من يدك كزوال الريح « فتبسّم ضاحكا من قولها » .

قال العلاّمة المجلسي ( ره ) معنى التعليل الذي ذكره النملة أنّ أباك لما ارتكب ترك الأولى و صار قلبه مجروحا بذلك فداواه بودّ اللّه و محبّته فلذا سمّى بداود و اشتقاقا من الدواء بالودّ ، و أنت لما ترتكب بعد و أنت سليم منه سمّيت سليمان فخصوص العلتين للتسميتين صارتا علّة لزيادة اسمك على اسم أبيك .

ثمّ لما كان كلامها موهما لكونه من جهة السّلامة أفضل من أبيه استدركت ذلك بأنّ ما صدر منه لم يصر سببا لنقصه بل صار سببا لكمال محبّته و تمام مودّته و أرجو أن تلحق أنت أيضا بأبيك في ذلك ليكمل محبّتك .

و في حيوة الحيوان عن الثعلبي و غيره أنّها كانت مثل الذئب في العظم و كانت عرجاء ذات جناحين .

و في تفسير مولا فتح اللّه من كشف الغمّة : كانت مثل الدّيك ، و من زاد المسير : كانت بعظم نعجة ، و من كشف الأسرار سألها سليمان عليه السّلام عن مقدار جيشها فقالت أربعة آلاف قائد ، و لكلّ قائد أربعون ألف نقيب ، و لكلّ نقيب أربعون ألفا و في روضة الصفا قال لها سليمان عليه السّلام أما علمت أنّي نبيّ اللّه لا أرضى بظلم أحد ؟ قالت : نعم ، قال : فلم حذرتهم ؟ قال : يلزم على السائس أن ينصح قومه ، و أيضا فقد خفت من جنودك أن يحطمنّهم من حيث لا يشعرون ، فاستحسن عليه السّلام قولها .

ثمّ قال لها تلطّفا : سلطانك أعظم أم سلطاني ؟ قالت : بل سلطاني ، قال :

فكيف ذلك ؟ قالت : لأنّ سريرك على الريح و سريرى كفك .

ثمّ قال : جندك أكثر أم جندي ؟ قالت : بل جندي ، قال من أين هذا ؟ قالت فارجه حتّى أعرض عليك بعض جيشي ، فصاحت عليهم أن اخرجوا من حجراتكم

[ 39 ]

حتّى ينظر إليكم نبيّ اللّه ، فخرج سبعون ألف فوج لا يعلم عددهم إلاّ اللّه قال عليه السّلام :

هل بعد ذلك ؟ قالت : لو خرج كلّ يوم مثلها إلى سبعين عاما لم تنفدوا ، ثمّ لما أراد المسير أهدت إليه نصف رجل جراد و اعتذرت كما قال الشاعر :

أهدت سليمان يوم العرض نملته
تأتى برجل جراد كان في فيها

ترنمت بفصيح القول و اعتذرت
إنّ الهدايا على مقدار مهديها