اعلم أنّه عليه السّلام لما أمر فى الفصل السابق بالاعتبار بحال إبليس و بما فعل اللّه به من الطرد و الابعاد و الاحباط لعمله ، اتبعه بهذا الفصل و أمر فيه بالتحذّر عن متابعته ، و بيّن فيه شدّة عداوته و حثّ على ملازمة التواضع و التذلّل فقال ( فاحذروا عباد اللّه ) من ( عدوّ اللّه ) إبليس ( أن يعديكم بدائه ) أى أن يجعل داءه مسريا إليكم فتكونوا متكبّرين مثله ( و أن يستفزّكم ) أى يستخفّكم ( بخيله و رجله ) قال تعالى « و استفزز من استطعت منهم بصوتك و اجلب عليهم بخيلك و رجلك » .
قال الطبرسي : الاستفزاز الازعاج و الاستنهاض على خفّة و اسراع ، و أصله القطع فمعنى استفزّه استزلّه بقطعه عن الصّواب أى استزلّ من استطعت منهم و أضلّهم بدعائك و وسوستك ، من قولهم صوت فلان إذا دعاه ، و هذا تهديد في صورة الأمر و قيل : بصوتك ، أى بالغنا و المزامير و الملاهي ، و قيل كلّ صوت يدعى به إلى الفساد فهو من صوت الشيطان .
و أجلب عليهم بخيلك 1 و رجلك الاجلاب السوق بجلبة و هى شدّة الصوت أى أجمع عليهم ما قدرت عليه من مكايدك و أتباعك و ذرّيتك و أعوانك ، فالباء مزيدة و كلّ راكب أو ماش في معصية اللّه من الانس و الجنّ فهو من خيل إبليس و رجله و قيل : هو من أجلب القوم و جلبوا ، أى صاحوا أى صح بخيلك و رجلك فاحشرهم عليهم بالاغواء ، انتهى .
-----------
( 1 ) أى صح عليهم بفرسانك و راجليك فانّ الخيل قد يطلق على الفرسان ، و منه قوله :
يا خيل اللّه اركبى ( منه )
[ 286 ]
( فلعمري لقد فوق لكم سهم الوعيد ) قال المحدّث العلاّمة المجلسي « ره » أى وضع فوق سهمه على الوتر ، و الظاهر أنّه جعل فوق بمعنى أفوق ، و إلاّ فقد عرفت في بيان اللّغة أنّ معنى فوقت السّهم جعلت له فوقا ، و على إبقاء التفويق على معناه الأصلي يكون كناية عن التهيّؤ و الاستعداد .
( و أغرق إليكم بالنزع الشديد ) أى استوفي مدّ القوس و بالغ في نزعها ليكون مرماه أبعد و وقع سهامه أشدّ .
( و رماكم من مكان قريب ) لأنّه يجرى من ابن آدم مجرى الدّم في العروق كما ورد في الحديث النبويّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كنّى عليه السّلام به عن أنّ سهامه لا تخطى ( و قال ) ما حكاه عنه عزّ و جلّ في سورة الحجر ( ربّ بما اغويتني لازيّننّ لهم في الأرض و لاغوينّهم أجمعين ) إلاّ عبادك منهم المخلصين ، أى أقسم باغوائك إيّاى لازيّننّ لهم المعاصي في الدّنيا التي هي دار الغرور ، فالمراد بالأرض هي الدّنيا كما في قوله تعالى « و لكنّه أخلد إلى الأرض » و على كون الباء للسببيّة فالمعنى بسبب إغوائك إيّاى أفعل بهم ذلك .
فان قلت : ظاهر الاغواء هو الاضلال فكيف جاز نسبته إلى اللّه ؟
قلت : على إبقائه على ظاهره فلا بدّ من حمله على أنّ ابليس كان جبرىّ المذهب .
و أدلّة العدليّة بوجوه : أحدها أنّ المراد به التخيّب أى بما خيّبتني من رحمتك لاخيبنّهم بالدّعاء إلى معصيتك .
و ثانيها أنّ معناه بما أضللتني من طريق جنّتك لاضلنّهم بالدّعاء إلى معصيتك و ثالثها أنّ معناه بتكليفك إيّاى بالسجود لآدم الذى وقعت به في الغىّ لاضلنّهم أجمعين إلاّ عبادك الذين أخلصوا العبادة للّه و انتهوا عمّا نهوا عنه .
و قوله ( قذفا بغيب بعيد ) أى قال إبليس ذلك رميا بأمر غايب متوهّم على بعد خفيت اماراته و شواهده أى رميا بأمر بعيد المرمى غايب عن النظر .
قال الشارح المعتزلى : و العرب تقول للشيء المتوهّم على بعد : هذا قذف
[ 287 ]
بغيب بعيد ، و القذف في الأصل رمى الحجر و أشباهه و بالغيب الأمر الغايب و هذه اللفظة من الألفاظ القرآنيّة قال تعالى في كفّار قريش « و يقذفون بالغيب من مكان بعيد » أى يقولون هذا سحر أو هذا من تعليم أهل الكتاب أو هذه كهانة و غير ذلك مما كانوا يرمونه .
قال الطبرسيّ في تفسير هذه الآية : أى يرجمون بالظنّ فيقولون لا جنّة و لا نار و لا بعث ، و هذا أبعد ما يكون من الظنّ و قيل معناه : يرمون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالظنون من غير يقين ، و ذلك قولهم هو ساحر و هو شاعر و هو مجنون ، و جعله قذفا لخروجه في غير حقّ ، و قيل : معناه و يبعدون أمر الاخرة فيقولون لأتباعهم : هيهات هيهات لما توعدون ، و ذلك كالشيء يرمى في موضع بعيد المرمي .
( و رجما بظنّ مصيب ) يعني أنّ قوله : لاغوينّهم أجمعين كان رجما بظنّ قد أصاب فيه و طابق الواقع كما يشهد به قوله سبحانه و لقد صدّق عليهم إبليس ظنّه فاتّبعوه إلاّ فريقا من المؤمنين و ما كان له عليهم من سلطان قال أمين الاسلام الطبرسيّ : المعنى أنّ إبليس كان قال : لاغوينّهم و لاضلنّهم و ما كان ذلك عن علم و تحقيق و إنما قاله ظنا فلما تابعه أهل الزيغ و الشرك صدّق ظنّه و حقّقه .
و في بعض النّسخ و رجما بظنّ غير مصيب قال الشارح المعتزلي : و هذه الرّواية أشهر .
أقول : و وجّه بوجوه أحسنها و أصوبها وجهان أحدهما أنّ قوله : لاغوينّهم بمعنى الشرك أو الكفر و الذين استثناهم بقوله إلاّ عبادك اه المعصومون من المعاصي ، و معلوم أنّ هذا الظنّ غير مصيب لأنّه ما أغوى كلّ البشر غير المخلصين الغواية التي هي الشرك و الكفر و إنما أغوى بعضهم به و بعضهم بالفسق فقط ، فيكون ظنّه أنه قادر على إضلال البشر كلّهم بالكفر ظنّا غير مصيب .
و ثانيهما أنّ إبليس لما ظنّ أنه متمكّن من إجبارهم على الغىّ و الضّلال ، فقال :
[ 288 ]
لاغوينّهم ، مريدا به الاغواء بالجبر و سلب الاختيار حكم عليه السّلام بخطائه .
و يوضح ذلك ما ذكره الطبرسي في قوله « و ما كان له عليهم من سلطان » أى و لم يكن لابليس عليهم من سلطنة و لا ولاية يتمكن بها من اجبارهم على الغىّ و الضلال ،
و انما كان يمكنه الوسوسة فقط كما قال « و ما كان لى عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لى » .
فان قلت : قوله « و ما كان لي عليكم من سلطان » يدلّ على أنّه لم يكن مراده بقوله : لاغوينّهم ، الاجبار و أنّه لم يكن ظانا بالقدرة على إجبارهم .
قلت : قوله لاغوينّهم ، إنما قاله في بدء خلقته بتوهّم التمكّن من إجبارهم ،
و قوله : و ما كان لي عليكم من سلطان إنما يقوله يوم القيامة كما يشهد به سابق الآية ،
قال سبحانه و قال الشيطان لما قضى الأمر إنّ اللّه وعدكم وعد الحقّ و وعدتكم فاخلفتكم و ما كان لي عليكم من سلطان إلاّ أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم .
فمحصّل الجواب أنّه لا منافاة بين كونه في أوّل الأمر ظانا بالتمكن من الاجبار ،
و بين معرفته في آخر الأمر بعدم تمكنّه منه و بكونه خاطئا في ظنّه .
و قوله ( صدّقه به أبناء الحمية و اخوان العصبيّة و فرسان الكبر و الجاهلية ) تأكيد لقوله رجما بظنّ مصيب يعني أنّ إبليس ظنّ أنه يغويهم و كان هؤلاء قدغووا و ضلّوا بالحميّة و الجاهلية و التعصّب و التكبّر ، فكان ضلالهم ذلك تصديقا فعليّا منهم لابليس في ظنّه و فى قوله : لاغوينّهم ، و موجبا لاصابة ظنّه .
و على الرواية المشهورة أعني رجما بظنّ غير مصيب ، فيكون هذه الجملة في معرض الاستدراك ، يعني أنّه قال ما قال لا على وجه العلم بل على سبيل الظنّ و الحسبان و المصيب للحقّ هو العلم دون التوهّم أو الظنّ ، لكن اتّفق وقوعهما لتصديق أبناء الحميّة فيه و وقوع الغواية منهم .
و على هذا فالأولى أن يجعل جملة صدّقه اه استينافا بيانيا لا صفة لظنّ
[ 289 ]
فافهم جيّدا .
( حتّى إذا انقادت له ) الطايفة ( الجامحة ) منكم و هم الذين تقدّم ذكرهم أى أبناء الحميّة و العصبيّة و الكبر و وصفهم بالجموح لخروجهم و تمرّدهم عن انقياد ربّهم المالك لهم و لكلّ شيء ( و استحكمت الطماعية ) أى الطمع ( منه فيكم ) بسبب مزيد انقيادكم له و اسراعكم إلى إجابة دعوته ( فنجمت ) أى ظهرت ( الحال من السّر الخفى إلى الأمر الجلى ) أى خرج ما بالقوّة إلى الفعل و إذ شاع آثار إغوائه ( استفحل سلطانه عليكم ) أى قوى و اشتدّ و صار فحلا ( و دلف بجنوده نحوكم ) أى نهض بهم إليكم ( فأقحموكم و لجات الذلّ ) أى ادخلوكم من غير رويّة غير ان الذّلة ( و أحلّوكم ورطات القتل ) أى أنزلوكم في مهالك القتل و الهلاكة ( و أوطأوكم اثخان الجراحة ) أى جعلوا اثخان الجراحة واطئا لكم ، و قد مرّ تفصيل معناه في بيان الاعراب و المراد به كثرة وقع جراحات جنود ابليس فيهم و كونهم مقهورين مغلوبين منكوبين بوقوع الجراحات .
و فصّل كثرتها بقوله ( طعنا في عيونكم و حزّا ) أى قطعا ( في حلوقكم و دقا لمناخركم ) و هو كناية عن صدماتهم و احاطتها بالأعضاء جميعها ، فيكون ذكر العيون و الحلوق و المناخر من باب التمثيل و المراد بها ما يصيبهم من الصدمات و الجراحات من أبناء نوعهم بسبب القتل و القتال ، و لما كان منشاها جميعا هو إغواء إبليس و جنوده نسبها إليهم ، و لا يخفى ما في نسبة الطعن إلى العيون و الحزّ إلى الحلوق و الدقّ إلى المناخر من حسن الخطابة و صناعة البلاغة .
( و قصدا لمقاتلكم ) أى قصدوا قصدا لمحالّ قتلكم تحريصا على القتل ( و سوقا بخزائم القهر إلى النار المعدّة لكم ) أى ساقوكم سوقا إلى النّار المهيّاة لكم بالخزائم القاهرة لكم على السياق ، أو أنهم ساقوكم إليها بها بالقهر و الغلبة .
و التعبير بالخزائم دون الازمة تشبيها لهم بالناقة الّتي تقاد بالخزامة لا الخيل المقاد بالزمام ، لأنّ الناقة إذا ما تقاد بالخزامة تكون أشدّ انقيادا و أطوع لقائدها من الخيل الّذى يقاد بالزّمام .
[ 290 ]
و للاشارة إلى هذه النكتة أتى بلفظ القهر و استعار لفظ الخزائم للمعاصي و السيّئات و شهوات النفس الأمّارة المؤدّية إلى النّار ، و المراد أنّ إبليس و جنوده زيّنوا الشهوات و السيّئات في نظرهم فرغبوا فيها و ركبوها فكان ذلك سببا لتقحمهم في النار و سخط الجبار .
( فأصبح أعظم في دينكم جرحا و أورى في دنياكم قدحا ) أى صار أكثر إخراجا للنار من حيث إخراجه لها أو من حيث الطعن في دنياكم و الثاني أظهر .
أما جرحه في الدّنيا « في الدين ظ فمعلوم لأنّ جميع الصّدمات و المضارّ الدينية من الجرائم و الآثام من إغواء هذا الملعون .
و أمّا الايراء و قدحه في الدّنيا فلا لها به نار الفتنة و الفساد و نايرة الحسد و البغضاء و العناد بين الناس الموجب للقتل و القتال و تلف الأنفس و الأموال و نحوها فجميع المضارّ الدينية و أغلب المضار الدنيويّة عند أهل النظر و الاعتبار من ثمرات هذه الشجرة الملعونة .
فلذلك كان جرحه و قدحه أعظم و أشدّ ( من الذين أصبحتم لهم مناصبين و عليهم متألّبين ) أى من أعدائكم الذين نصبتم لهم العداوة و بالغتم فى عداوتهم ، و تجمّعتم أى اجتمعتم من ههنا و ههنا على قتلهم و قتالهم و استيصالهم دفعا لشرّهم عنكم .
و لما نبّه عليه السّلام على أنّه عدّو مبين و أعظم المعاندين و أنّ ضرره عايد إلى الدّنيا و الدّين أمرهم بصرف عزيمتهم و همّتهم إلى عداوته فقال :
( فاجعلوا عليه حدّكم ) أى حدّتكم و سورتكم و بأسكم و سطوتكم ( و له جدّكم ) أى سبلكم و جهدكم ، ثمّ أقسم بالقسم البار تهييجا و إلهابا و تثبيتا لهم على العداوة له فقال :
( فلعمر اللّه لقد فخر على أصلكم ) أى على أبيكم آدم خيث امتنع من السجود له و قال « خلقتنى من نار و خلقته من طين » ( و وقع فى حسبكم و دفع في نسبكم ) أى عاب حسبكم و حقّر نسبكم و هو الطين حيث قال ءأسجد لمن خلقت طينا . قال أرأيتك هذا الذى كرّمت علىّ لان أخّرتن إلى يوم القيامة لأحتنكنّ ذرّيّته إلا
[ 291 ]
قليلا ( و أجلب بخيله عليكم و قصد برجله سبيلكم ) أى صاح بفرسانه فاحشرهم عليكم بالاغواء و قصد مع راجليه سبيلكم ليزيغوكم عن الجادّة الوسطى .
( يقتنصونكم بكلّ مكان ) أى يتصيّدونكم و يجعلون ربق الذّلّ في أعناقكم ( و يضربون منكم كلّ بنان ) أى يضربون أطراف أصابعكم و يستقصون فى أذاكم و استيصالكم ( لا تمتنعون ) من ضربهم ( بحيلة و لا تدفعون ) ضرّهم ( بعزيمة ) و الحال انكم ( فى حومة ذلّ و حلقة ضيق و عرصة موت و جولة بلاء ) شرح لحالهم فى الدّنيا ، أى أنتم فى معظم ذلّ و دايرة ضيق ، لأنّ دار الدّنيا لا اتّساع فيها و معرض موت و مجال بلاء لا منجى منه .
فاذا كان شأن أبليس في عداوتكم هذا الشأن من الفخر على الأصل و الوقع فى الحسب و الدفع في النسب و الاجلاب بالخيل و القصد بالرجل و غير ذلك من الامور المتقدّمة الدالة على كونه مجدّا في العداوة .
( ف ) خدوا منه حذركم و تحرّزوا من مصائده و ( اطفئوا ما كمن ) و استتر ( في قلوبكم من نيران العصبية ) و الحميّة ( و أحقاد الجاهليّة فانما تلك الحميّة ) و النخوة ( تكون في المسلم من خطرات الشيطان و نخواته و نزغاته و نفثاته ) أى وساوسه المحرّكة للفساد يعني ما استتر في قلوبكم من التعصّب و التكبّر و الحقد و الحسد نار محرقة لكم في الدّنيا و الآخرة فاطفئوها و اجتهدوا في إطفائها بماء التذلّل و التواضع و الاصلاح ، لأنّ منشأها جميعا هو الشيطان اللعين الّذي هو عدوّكم المبين ، فانّه يوسوس في صدوركم و يوقع في اخاطركم النّخوة و الحميّة و العصبيّة و ينزغ أى يفسد بينكم و بين اخوتكم المؤمنين و ينفث أى ينفخ في قلوبكم و في دماغكم ريح النخوة و الغرور و الاستكبار .
فان قلت : لم قال تلك الحميّة تكون في المسلم من خطرات الشيطان مع أنّ الحميّة في الكافر أيضا من خطراته فأىّ نكتة في الاتيان بهذا القيد ؟
قلت : لما أمر المخاطبين باطفاء نيران العصبيّة و الاستكبار معلّلا بأنها من وساوس ابليس و خطراته أتى بهذا القيد من باب الالهاب لأنّ المسلم بما له من داعية
[ 292 ]
الاسلام أسرع قبولا للموعظة و أحقّ بالانتصاح و الارتداع و التجنّب من سلوك مسالك الشيطان ، فكأنه قال : إن كنتم مسلمين فاتّقوا من متابعته و توقوا من اقتفاء آثاره كما تقول : إن كنت مؤمنا فلا تظلمني ، قال تعالى حكاية عن مريم ( ع ) « قالت انّي أعوذ بالرّحمن منك ان كنت تقيّا » ( و اعتمدوا ) اى اقصدوا ( وضع ) تيجان ( التذلّل ) الّذى جعلتموها تحت أقدامكم ( على رؤوسكم و ) تعمّدوا ( القاء ) قلانس ( التعزّز ) الّتي جعلتموها على رؤوسكم ( تحت أقدامكم ) و لا يخفى على أهل الصّناعة لطافة هذه العبارة و شرافتها و عظم خطرها للّه درّ قائلها .
( و ) اعتمدوا ( خلع ) أطواق ( التكبّر من أعناقكم و اتّخذوا ) التذلّل و ( التّواضع مسلحة و ثغرا بينكم و بين عدوّكم إبليس و جنوده ) .
و لما أمرهم باتخاذ المسلحة علّله بقوله ( فانّ له من كلّ امّة ) من الجنّ و الانس ( جنودا و أعوانا و رجلا و فرسانا ) تنبيها على كثرة جنوده و أعوانه المقتضية للجدّ في اتّخاذها توقّيا من طروقهم و اغتيالهم على غفلة هذا ، و قد مضى بيان فضل التواضع و الأخبار الواردة فيه في شرح المختار المأة و السابع و الأربعين .
ثمّ ذكّرهم بقصة ابن آدم عليه السّلام لكونها في مقام التذكرة و الاعتبار أقوى تحذيرا و تنفيرا من التعزّز و الاستكبار فقال :
( و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن امّه ) أى لا تكونوا مثل قابيل الّذى تكبّر على أخيه هابيل .
و إنما قال ابن امّه مع كونهما من أب و أمّ لأنّ الأخوين من أمّ أشدّ حنوا و محبة و تعاطفا من الأخوين من الأب لأنّ الأمّ هي ذات الحضانة و التربية ، و لذلك قال هارون لأخيه موسى عليهما السّلام مع كونه أخاه لأبيه و أمّه : ابن امّ إنّ القوم استضعفوني ،
فذكر الامّ لكونه أبلغ في الاستعطاف ، فمقصوده عليه السّلام أنّ قابيل مع كون هابيل ابن امّه المقتضي للعطوفة و المحبة تسلّط عليه الشيطان فأنساه محبّة الاخوة فتكبّر عليه و قتله بوسوسته إليه ، فكونوا من ابليس و عداوته في حذر و لا تكونوا مثل قابيل
[ 293 ]
الّذى لم يتوقّ منه بل اتّبعه و تكبّر .
( من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ) بمنزلة استثناء منقطع أى غير ( ما الحقت العظمة ) و الكبرياء ( بنفسه من عداوة ) نشأت من ( الحسد و قدحت ) أى اخرجت ( الحميّة ) و التعصّب ( في قلبه من نار ) انقدت من ( الغضب و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر ) المؤدّى إلى قتل أخيه ( الّذى أعقبه اللّه به الندامة ) لا ندم التوبة بل ندم الحيرة أو شفقة على موت أخيه لا على ارتكاب الذنب ( و ألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة ) لأنّ من سنّ سنّة سيّئة كان له مثل و زمن عمل بها كما أنّ من سنّ سنّة حسنة كان له مثل أجر من عمل بها ، فهو لما كان أوّل من سنّ القتل فلا يقتل مقتول إلى يوم القيامة إلاّ كان له فيه شركة ، هذا .
و قد تقدّم في شرح الفصل الرابع عشر من المختار الأوّل كيفيّة قتل قابيل هابيل اجمالا ، و لنورد هنا باقتضاء المقام بعض ما لم يتقدّم ذكره هناك من الآيات و الأخبار الواردة في هذا الباب .
فأقول : قال اللّه عزّ و جلّ في سورة المائدة :
و اتل عليهم نبأ ابنى آدم بالحقّ إذ قرّبا قربانا فتقبّل من أحدهما و لم يتقبّل من الآخر قال لأقتلنّك 1 قال إنما يتقبّل اللّه من المتّقين . لئن بسطت إلىّ . يدك لتقلّنى ما أنا بباسط يدى إليك لأقتلك إنّى أخاف اللّه ربّ العالمين . إنّى أريد أن . تبوء بإثمى و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزآء الظالمين . فطوّعت له . نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين . فبعث اللّه غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يوارى سوأة أخيه قال يا ويلتي أعجزت أن اكون مثل هذا الغراب فاوارى سوأة أخى فأصبح من النادمين روى عليّ بن ابراهيم عن أبيه عن الحسن بن محبوب عن هشام بن سالم عن أبي حمزة الثمالي عن ثوير بن أبى فاخته قال : سمعت عليّ بن الحسين عليهما السّلام يحدّث رجلا من قريش : لما قرّب ابنا آدم قرّب أحدهما أسمن كبش كان في ضانه
-----------
( 1 ) توعده بالقتل لفرط حسده له على تقبّل قربانه ، منه .
[ 294 ]
و قرّب الآخر ضغثا من سنبل فتقبّل من صاحب الكبش و هو هابيل و لم يتقبّل من الآخر و هو قابيل فغضب قابيل فقال لهابيل : و اللّه لأقتلنّك ، فقال هابيل إنّما يتقبّل اللّه من المتّقين . لئن بسطت إلىّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدى إليك لاقتلك . انّي أخاف اللّه ربّ العالمين . انّي أريد أن تبوء باثمى و اثمك فتكون من اصحاب النّار . و ذلك جزآء الظالمين . فطوّعت له نفسه قتل أخيه فلم يدر كيف يقتله حتّى جاء إبليس لعنه اللّه فعلّمه فقال ضع رأسه بين حجرين ثمّ اشدخه فلما قتله لم يدر ما يصنع به ، فجاء غرابان فأقبلا متضاربان حتى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ثم حفر الذى بقي الأرض بمخالبه و دفن فيه صاحبه ، قال قابيل يا ويلتي أعجزت أن اكون مثل هذا الغراب فاوارى سوءة أخى فأصبح من النادمين فحفر له حفيرة و دفن فيها فصارت سنّة يدفنون الموتى .
فرجع إلى أبيه فلم يرمعه هابيل فقال له آدم : أين تركت ابني ؟ قال له قابيل :
ارسلتنى عليه راعيا ؟ فقال آدم عليه السّلام ، انطلق معى إلى مكان القربان ، و أحسّ قلب آدم عليه السّلام بالذى فعل قابيل :
فلما بلغ مكان القربان استبان قتله فلعن آدم عليه السّلام الأرض التي قبلت دم هابيل ،
و أمر آدم أن يلعن قابيل و نودى قابيل من السّماء لعنت كما قتلت أخاك ، و لذلك لا تشرب الأرض الدّم فانصرف آدم عليه السّلام فبكى على هابيل أربعين يوما و ليلة .
فلما جزع عليه شكى ذلك إلى اللّه فأوحى اللّه إليه انّى واهب لك ذكرا يكون خلفا من هابيل فولدت حوّا غلاما زكيّا مباركا ، فلما كان اليوم السابع أوحى اللّه إليه يا آدم إنّ هذا الغلام هبة منّى لك فسمّه هبة اللّه ، فسمّاه آدم هبة اللّه .
و روى القميّ عن أبيه ، عن عثمان بن عيسى ، عن أبي أيّوب ، عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال : كنت جالسا معه في المسجد الحرام فاذا طاووس « أى طاووس اليماني » في جانب الحرم يحدّث حتى قال : أ تدرى أىّ يوم قتل نصف الناس ؟ فأجابه أبو جعفر عليه السّلام فقال أو ربع الناس يا طاووس ، فقال : أو ربع النّاس ، فقال : أ تدرى ما صنع بالقاتل ؟ فقلت : إنّ هذه المسألة .
فلما كان من الغد غدوت على أبى جعفر عليه السّلام فوجدته قد لبس ثيابه و هو قاعد
[ 295 ]
على الباب ينتظر الغلام أن يسرج له ، فاستقبلنى « فاستعجلني خ » بالحديث قبل أن أسأله فقال :
إنّ بالهند أو من وراء الهند رجل معقول برجل واحدة يلبس المسح موكل به عشرة نفر كلما مات رجل منهم أخرج أهل القرية بدلا فالناس يموتون و العشرة لا ينقصون يستقبلون بوجهه الشمس حين تطلع يديرونه معها حتى تغيب ثمّ يصبّون عليه في البرد الماء البارد و في الحرّ الماء الحارّ .
قال : فمرّ عليه رجل من الناس فقال له : من أنت يا عبد اللّه ؟ فرفع رأسه و نظر إليه ثم قال : إما أن تكون أحمق الناس و اما أن تكون أعقل الناس ، إنى لقائم ههنا منذ قامت الدنيا ما سألني أحد من أنت غيرك ، ثمّ قال عليه السّلام : يزعمون أنه ابن آدم .
و في الصافى من الاحتجاج قال طاووس اليماني لأبي جعفر عليه السّلام : هل تعلم أىّ يوم مات ثلث الناس ؟ فقال عليه السّلام : يا عبد اللّه لم يمت ثلث الناس قط إنما أردت ربع الناس قال : و كيف ذلك ؟ قال : كان آدم و حوّا و قابيل و هابيل فقتل قابيل هابيل فذلك ربع الناس ، قال : صدقت .
قال أبو جعفر عليه السّلام هل تدرى ما صنع بقابيل ؟ قال : لا ، قال : علّق بالشمس ينضح بالماء الحارّ إلى أن تقوم الساعة و روى القمّي باسناده عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السّلام قال : جاء رجل النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال : يا رسول اللّه رأيت أمرا عظيما ، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : و ما رأيت ؟ قال :
كان لي مريض و نعت له ماء من بئر بالأحقاف يستشفى به في برهوت ، قال :
فانتهيت و معى قربة و قدح لآخذ من مائها و أصب في القربة ، و إذا بشيء قد هبط من جوّ السّماء كهيئة السّلسلة و هو يقول : يا هذا الساعة أموت ، فرفعت رأسى و رفعت إليه القدح لاسقيه فاذا رجل في عنقه سلسلة ، فلما ذهبت انا و له القدح اجتذب حتّى علق بالشمس ، ثمّ أقبلت على الماء أغرف إذ أقبل الثانية و هو يقول العطش العطش اسقنى يا هذا السّاعة أموت ، فرفعت القدح لاسقيه فاجتذب منّى حتّى علق بالشمس حتّى فعل ذلك ثالثة و شددت قربتى و لم أسقه .
[ 296 ]
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذاك قابيل بن آدم عليه السّلام قتل أخاه و هو قول اللّه عزّ و جلّ و الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلاّ كباسط كفّيه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو ببالغه و ما دعاء الكافرين إلاّ في ضلال .
و في البحار من تفسير العياشى عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السّلام قال : إنّ قابيل ابن آدم عليه السّلام معلّق بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها و حميمها إلى يوم القيامة ، فاذا كان يوم القيامة صيّره اللّه إلى النّار .
و فيه من الخصال عن رجل من أصحاب أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : سمعته يقول :
إنّ أشدّ الناس عذابا يوم القيامة لسبعة نفر : أوّلهم ابن آدم الذى قتل أخاه ، و نمرود الذى حاجّ إبراهيم في ربّه ، و اثنان في بني اسرائيل هوّدا قومهم و نصّراهم ،
و فرعون الذى قال : أنا ربّكم الأعلى ، و اثنان من هذه الامّة .
قال العلاّمة المجلسىّ « ره » الاثنان من هذه الامّة أبو بكر و عمر .
و فيه من علل الشرائع عن حماد بن عثمان ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : كانت الوحوش و الطير و السّباع و كلّ شيء خلق اللّه عزّ و جلّ مختلطا بعضه ببعض ، فلما قتل ابن آدم أخاه نفرت و فزعت فذهب كلّ شيء إلى شكله .