ألا و قد أمعنتم في البغي ، و أفسدتم في الأرض ، مصارحة للّه بالمناصبة ، و مبارزة للمؤمنين بالمحاربة ، فاللّه اللّه في كبر الحميّة ،
و فخر الجاهليّة ، فإنّه ملاقح الشّنآن ، و منافخ الشّيطان الّلاتي خدع بها الامم الماضية ، و القرون الخالية ، حتّى أعنقوا في حنادس جهالته ،
و مهاوي ضلالته ، ذللا عن سياقه ، سلسا في قياده ، أمرا تشابهت القلوب فيه ، و تتابعت القرون عليه ، و كبرا تضايقت الصّدور به .
ألا فالحذر الحذر عن طاعة ساداتكم و كبرائكم الّذين تكبّروا
[ 299 ]
عن حسبهم ، و ترفّعوا فوق نسبهم ، و ألقوا الهجينة على ربّهم ، و جاحدوا اللّه ما صنع بهم ، مكابرة لقضائه ، و مغالبة لالائه ، فإنّهم قواعد أساس العصبيّة ، و دعائم أركان الفتنة ، و سيوف اعتزاء الجاهليّة .
فاتّقوا اللّه و لا تكونوا لنعمه عليكم أضدادا ، و لا لفضله عندكم حسّادا ، و لا تطيعوا الأدعياء الّذين شربتم بصفوكم كدرهم ، و خلطتم بصحّتكم مرضهم ، و أدخلتم في حقّكم باطلهم ، فهم أساس الفسوق ،
و أحلاس العقوق ، اتّخذهم إبليس مطايا ضلال ، و جندا بهم يصول على النّاس ، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم ، و دخولا في عيونكم ، و نفثا في أسماعكم ، فجعلكم مرمى نبله ، و موطىء قدمه و مأخذ يده .
فاعتبروا بما أصاب الامم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه وصولاته و وقايعه و مثلاته ، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم ، و مصارع جنوبهم ،
و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر ، كما تستعيذون به من طوارق الدّهر .
فلو رخّص اللّه في الكبر لأحد من عباده لرخّص فيه لخاصّة أنبيائه و أوليائه ، و لكنّه ( لكنّ اللّه خ ) سبحانه كره إليهم التّكابر ،
و رضي لهم التّواضع ، فألصقوا بالأرض خدودهم ، و غفّروا في التّراب
[ 300 ]
وجوههم ، و خفضوا أجنحتهم للمؤمنين ، و كانوا قوما مستضعفين ،
و قد اختبر هم اللّه بالمخمصة ، و ابتلاهم بالمجهدة ، و امتحنهم بالمخاوف و مخضهم بالمكاره ، فلا تعتبروا الرّضا و السّخط ، بالمال و الولد ، جهلا بمواقع الفتنة و الإختبار في مواضع الغنى و الإقتار ، فقد قال تعالى :
أ يحسبون أنّما نمدّهم به من مال و بنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون .
فإنّ اللّه سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم ، و قد دخل موسى بن عمران و معه أخوه هارون عليهما السّلام على فرعون و عليهما مدارع الصّوف ، و بأيديهما العصيّ ،
فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه و دوام عزّه ، فقال : ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العزّ و بقاء الملك و هما بما ترون من حال الفقر و الذّلّ ، فهلاّ ألقي عليهما أساورة من ذهب ، اعظاما للذّهب و جمعه ،
و احتقارا للصّوف و لبسه .