ينبنى أن نورد هنا شطرا من قصّة بعث موسى عليه السّلام إلى فرعون اللّعين .
قال المحدّث العلاّمة المجلسى قدّس اللّه روحه في المجلّد الخامس من البحار :
قال الثعلبي : قال العلماء بأخبار الماضين :
لما كلّم اللّه موسى و بعثه إلى مصر خرج و لا علم له بالطريق ، و كان اللّه تعالى يهديه و يدلّه و ليس معه زاد و لا سلاح و لا حمولة و لا شيء غير عصاه و مدرعة صوف و قلنسوة من صوف و نعلين ، يظلّ صائما و يبيت قائما و يستعين بالصيد و يعول الأرض حتى ورد مصر ، و لما قرب من مصر أوحى اللّه إلى أخيه هارون يبشّروه بقدوم موسى عليه السّلام و يخبره أنّه قد جعله لموسى وزيرا و رسولا معه إلى فرعون ، و أمره أن يمرّ يوم السّبت لغرّة ذى الحجة متنكرا إلى شاطى النيل ليلقى في تلك الساعة بموسى قال : فخرج هارون و أقبل موسى عليه السّلام فالتقيا علي شط النيل قبل طلوع الشمس فاتفق أنه كان يوم ورود الأسد الماء ، و كان لفرعون أسد تحرسه في غيضة محيطة
[ 319 ]
بالمدينة من حولها ، و كانت ترد الماء غبّا ، و كان فرعون إذ ذاك في مدينة حصينة عليها سبعون سورا في كلّ سور رساتيق و أنهار و مزارع و أرض واسعة ، في ربض 1 كلّ سور سبعون ألف مقاتل .
و من وراء تلك المدينة غيضة تولى فرعون غرسها بنفسه و عمل فيها و سقاها بالنيل ثمّ أسكنها الأسد ، فنسلت و توالدت حتى كثرت ، ثمّ اتخذها جندا من جنوده تحرسه ، و جعل خلال تلك الغيضة طرقا تقضى من يسلكها إلى باب من أبواب المدينة معلومة ليس لتلك الأبواب طريق غيرها فمن أخطأ وقع في الغيضة فأكلته الأسد ، و كانت الاسود إذا وردت النيل ظلّ عليها يومها كلّها ، ثمّ تصدر مع اللّيل .
فالتقى موسى و هارون عليهما السّلام يوم ورودها فلما أبصرتهما الأسد مدّت أعناقها و رؤوسها إليهما و شخصت أبصارها نحوهما و قذف اللّه في قلوبها الرّعب فانطلقت نحو الغيضة منهزمة هاربة على وجوهها تطأ بعضها بعضا حتى اندست في الغيضة ، و كان له ساسة يسوسونها و ذادة يذودونها و يشلونها 2 بالناس ، فلما أصابها ما أصابها خاف ساستها فرعون و لم يشعروا من أين أتوا .
فانطلق موسى و هارون عليهما السّلام في تلك المسبعة حتى وصلا إلى باب المدينة الأعظم الذى هو أقرب أبوابها إلى منزل فرعون ، و كان منه يدخل و منه يخرج ،
و ذلك ليلة الاثنين بعد هلال ذى الحجة بيوم ، فأقاما عليه سبعة أيام فكلّمهما واحد من الحراس و زبرهما و قال لهما : هل تدريان لمن هذا الباب ؟ فقال : إنّ هذا الباب و الأرض كلّها و ما فيها لربّ العالمين و أهلها عبيد له ، فسمع ذلك الرّجل قولا لم يسمع مثله قط و لم يظنّ أنّ أحدا من الناس يفصح بمثله ، فلما سمع ما سمع أسرع إلى كبرائه الذين فوقه فقال لهم : سمعت اليوم قولا و عاينت عجبا من رجلين هو أعظم عندى و أفظع و أشنع مما أصابنا في الأسد ، و ما كانا ليقدما على ما أقدما عليه الاّ بسحر عظيم ، و أخبرهم القصّة ، فلا يزال ذلك يتداول بينهم حتّى انتهى إلى فرعون .
-----------
( 1 ) ربض المدينة بالتحريك ما حولها ، م .
-----------
( 2 ) اشليت الكلب على الصيد أغريته ، م .
[ 320 ]
و قال السّدى : سار موسى عليه السّلام بأهله نحو مصر حتى أتاها ليلا فتضيف امّه و هى لا تعرفه و إنما أتاهم في ليلة كانوا يأكلون فيها الطفيشل 1 و نزل في جانب الدار ،
فجاء هارون فلما أبصر ضيفه سأل عنه امّه فأخبرته أنّه ضيف ، فدعاه فأكل معه فلما أن قعد تحدّثا فسأله هارون فقال : من أنت ؟ قال : أنا موسى ، فقام كلّ واحد منهما إلى صاحبه فاعتنقه فلما أن تعارفا قال له موسى : يا هارون انطلق معى الى فرعون فانّ اللّه عزّ و جلّ قد أرسلنا إليه ، فقال هارون : سمعا و طاعة ، فقامت امّهما فصاحت و قالت : انشد كما اللّه أن تذهبا إلى فرعون فيقتلكما ، فأبيا و مضيا لأمر اللّه سبحانه فانطلقا إليه ليلا ، فأتيا الباب و التمسا الدّخول عليه ليلا ، فقرعا الباب ففزع فرعون و فزع البواب ، و قال فرعون : من هذا الذى يضرب بابى الساعة فأشرف . عليهما البّواب فكلّمهما موسى : أنا رسول ربّ العالمين فأتى فرعون فأخبره و قال : إنّ هنا إنسانا مجنونا يزعم أنه رسول ربّ العالمين .
و قال محمد بن إسحاق بن يسار : خرج موسى عليه السّلام لما بعثه اللّه سبحانه حين قدم مصر على فرعون هو و أخوه هارون حتّى وقفا على باب فرعون يلتمسان الاذن عليه و هما يقولان : إنا رسول « لا » ربّ العالمين فأذنوا بنا هذا الرّجل ، فمكثا سنتين يغدوان إلى بابه و يروحان لا يعلم بهما و لا يجترى أحد أن يخبره بشأنهما حتّى دخل عليه بطال له يلعب عنده و يضحكه فقال له : أيّها الملك إنّ على بابك رجلا يقول قولا عظيما عجيبا يزعم أنّ له إلها غيرك ، فقال : ببابى ؟ ادخلوه ، فدخل موسى و معه هارون على فرعون ، فلما وقفا عنده قال فرعون لموسى : من أنت ؟ قال : أنا رسول ربّ العالمين ، فتأمّله فرعون فعرفه .
فقال له : « أ لم نربّك فينا وليدا و لبثت فينا من عمرك سنين . و فعلت فعلتك الّتي فعلت و أنت من الكافرين » معناه على ديننا هذا الّذى تعيبه قال : فعلتها إذا و انا من الضّالين المخطئين و لم أرد بذلك القتل ففررت منكم لمّا خفتكم فوهب
-----------
( 1 ) كسميدع نوع من المرق .
[ 321 ]
لي ربّي حكما أى نبوّة و جعلني من المرسلين ثمّ أقبل موسى ينكر عليه ما ذكر فقال و تلك نعمة تمنّها علىّ أن عبّدت بني اسرائيل أى اتّخذتهم عبيدا تنزع أبناءهم من أيديهم تسترق من شئت أى إنّما صيّرني إليك ذلك قال فرعون و ما ربّ العالمين . قال ربّ السّموات و الأرض و ما بينهما ان كنتم موقنين . قال فرعون لمن حوله ألا تستمعون » إنكارا لما قال « قال » موسى ربّكم و ربّ آبائكم الأوّلين . قال فرعون إنّ رسولكم الّذي ارسل إليكم لمجنون يعني ما هذا الكلام صحيح إذ يزعم أنّ لكم إلها غيرى « قال موسى ربّ المشرق و المغرب و ما بينهما ان كنتم تعقلون . قال » فرعون لموسى « لئن اتّخذت إلها غيرى لأجعلنّك من . المسجونين . قال أ و لو جئتك بشيء مبين » تعرف به صدقي و كذبك و حقّي و باطلك . « قال فرعون فات به ان كنت من الصادقين . فألقي عصاه فإذا هي ثعبان مبين » فاتحة فاها قد ملأت ما بين سماطي فرعون واضعة لحييها الأسفل في الأرض و الأعلى في سور القصر حتّى رأى بعض من كان خارجا من مدينة مصر رأسها ، ثمّ توجهت نحو فرعون لتأخذه فارفض عنها النّاس و زعر عنها فرعون و وثب عن سريره و أحدث حتّى قام به بطنه في يومه ذلك أربعين مرّة و كان فيما يزعمون أنه لا يسعل و لا يصدع و لا يصيبه آفة مما يصيب الناس و كان يقوم في أربعين يوما مرّة و كان اكثر ما يأكل الموز لكيلا يكون له ثقل فيحتاج إلى القيام به و كان هذه الأشياء ممّا زيّن له أن قال ما قال لأنّه ليس له من الناس شبيه .
قالوا : فلما قصدته الحيّة صاح يا موسى انشدك باللّه و حرمة الرضاع إلاّ أخذتها و كففتها عنّى و إنى او من بك و ارسل معك بني اسرائيل ، فأخذها موسى فعادت عصا كما كانت ثمّ نزع يده من حبيبه فأخرجها بيضاء من الثلج لها شعاع كشعاع الشمس ، فقال له فرعون : هذه يدك فلما قالها فرعون أدخلها موسى جيبه ثمّ أخرجها الثانية لها نور ساطع في السماء تكلّ منها الأبصار و قد أضآءت ما حولها يدخل نورها في البيوت و يرى من الكوا من وراء الحجب ، فلم يستطع فرعون النظر اليها ، ثمّ ردّها موسى إلى جيبه ثمّ أخرجها فإذا هي على لونها الأوّل .
[ 322 ]
قالوا : فهمّ فرعون بتصديقه فقام اليه هامان و جلس بين يديه فقال له : بينا أنت اله تعبد إذا أنت تابع لعبد ، فقال فرعون لموسى : أمهلني اليوم الى غدو أوحى اللّه تعالى إلى موسى أن قل لفرعون إنك إن آمنت باللّه وحده عمرتك في ملكك و رددت شابا طريا ، فاستنظره فرعون ، فلما كان من الغد دخل عليه هامان فأخبره فرعون بما وعده موسى من ربّه فقال هامان : و اللّه ما يعدل هذا عبادة هؤلاء لك يوما واحدا و نفخ في منخره ثمّ قال له هامان أنا أردك شابا ، فأتا بالوسمة فخضبه بها فلما دخل عليه موسى فرآه على تلك الحالة هاله ذلك ، فأوحى اللّه إليه لا يهولنك ما رأيت فانه لا يلبث الاّ قليلا حتّى يعود إلى الحالة الاولى .
و في بعض الروايات أنّ موسى و هارون عليهما السّلام لما انصرفا من عند فرعون أصابهما المطر في الطريق فأتيا على عجوز من أقرباء امّهما و وجّه فرعون الطلب في أثرهما ، فلما دخل عليهما اللّيل ناما في دارها و جائت الطلب إلى الباب و العجوز منتبهة ، فلمّا أحسّت بهم خافت عليهما فخرجت العصا من صبر 1 الباب و العجوز تنظر ، فقاتلهم حتّى قتلت منهم سبعة أنفس ثمّ عادت و دخلت الدار ، فلما انتبه موسى و هارون عليهما السلام أخبرتهما بقصّة الطلب و نكاية العصا منهم فآمنت بهما و صدقتهما .
ثمّ قال الثعلبي : قالت العلماء بأخبار الأنبياء : إنّ موسى و هارون وضع فرعون أمرهما و ما أتيا به من سلطان اللّه سبحانه على السحر و قال للملاء من قومه إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما فما ذا تأمرون أ أقتلهما ؟ فقال العبد الصالح خربيل مؤمن آل فرعون : « أ تقتلون رجلا أن يقول ربّي اللّه و قد جاءكم بالبينات من ربّكم إلى قوله فمن ينصرنا من بأس اللّه إن جاء قال فرعون ما اريكم إلاّ ما ارى و ما أهديكم إلاّ سبيل الرّشاد . و قال الملاء من قوم فرعون أرجه و أخاه . و ابعث في المدائن حاشرين . يأتوك بكلّ سحّار عليم » و كانت لفرعون مدائن فيها
-----------
( 1 ) الصبر بالكسر شق الباب ، لغة
[ 323 ]
السحرة عدّة للامر إذا حزيه . 1 و قال ابن عبّاس : قال فرعون لما رأى من سلطان اللّه فى اليد و العصا : إنا لا نغالب موسى إلاّ بمن هو مثله ، فأخذ غلمانا من بني اسرائيل فبعث بهم إلى قرية يقال له الغرماء يعلّمونهم السحر كما يعلّمون الصبيان الكتاب في الكتاب فعلّموهم سحرا كثيرا و واعد فرعون موسى موعدا ، فبعث فرعون إلى السحرة فجاء بهم و معهم معلّمهم ،
فقالوا له : ماذا صنعت ؟ فقال : قد علّمتهم سحرا لا يطيقه سحر أهل الأرض إلاّ أن يكون أمر من السماء فانّه لا طاقة لهم به ، ثمّ بعث فرعون الشرطي في مملكته فلم يترك ساحرا في سلطانه إلاّ أتى به .
و اختلفوا فى عدد السحرة الذين جمعهم فرعون .
فقال مقاتل : كانوا اثنين و سبعين ساحرا اثنان منهم من القبط و هما رأسا القوم و سبعون من بنى اسرائيل .
و قال الكلبى كانوا سبعين ساحرا غير رئيسهم و كان الّذى يعلّمهم ذلك رجلين مجوسيّين من أهل نينوى .
و قال السّدى كانوا بضعا و ثلاثين ألفا .
و قال عكرمة سبعين ألفا .
و قال محمّد بن المنكدر ثمانين ألفا .
فاختار منهم سبعة آلاف ليس منهم إلاّ ساحر ماهر ، ثمّ اختار منهم سبعمأة ،
ثمّ اختار من اولئك السبعمأة سبعين من كبرائهم و علمائهم .
قال مقاتل و كان رئيس السحرة اخوين بأقصى مداين مصر ، فلما جائهما رسول فرعون قالا لامّهما دلّينا على قبر أبينا ، فدلّتهما عليه فأتياه فصاحا باسمه فأجابهما فقالا : إنّ الملك وجّه الينا أن نقدم عليه لأنه أتاه رجلان ليس معهما رجال و لا سلاح و لهما عزّ و منعة و قد ضاق الملك ذرعا من عزّهما و معهما عصا إذا ألقياها لا يقوم لها شيء تبلع الحديد و الخشب و الحجر ، فأجابهما أبوهما انظر إذا هما ناما
-----------
( 1 ) حزيه الامر اى اصابه ، لغة
[ 324 ]
فان قدرتما أن تسلا العصا فسلاها ، فانّ الساحر لا يعمل سحره و هو نائم ، و إن عملت العصا و هما نائمان فذلك أمر ربّ العالمين و لا طاقة لكما به و لا للملك و لا لجميع أهل الدّنيا ، فأتياهما في خفية و هما نائمان ليأخذا العصا فقصدتهما العصا .
قالوا : ثمّ واعدوه يوم الزينة و كانوا يوم سوق عن سعيد بن جبير ، و قال ابن عباس كان يوم عاشورا و وافق ذلك يوم السّبت في أوّل يوم من السنة و هو يوم النيروز و كان يوم عيد لهم يجتمع اليه الناس من الآفاق ، قال عبد الرّحمن بن زيد بن اسلم و كان اجتماعهم للميقات بالاسكندرية و يقال بلع ذنب الحيّة من وراء البحيرة يومئذ .
قالوا : ثمّ قال السحرة لفرعون « أئنّ لنا لأجرا إن كنّا نحن الغالبين .
قال فرعون نعم و انكم إذا لمن المقرّبين » عندى في المنزلة ، فلما اجتمع النّاس جاء موسى عليه السّلام و هو متّكي على عصاه و معه أخوه هارون حتّى اتا الجمع و فرعون في مجلسه مع أشراف قومه فقال موسى للسحرة حين جاءهم « ويلكم لا تفتروا على اللّه كذبا فيستحكم بعذاب و قد خاب من افترى » فتناجي السحرة بينهم و قال بعضهم لبعض ما هذا قول ساحر فذلك قوله تعالى فتنازعوا أمرهم بينهم و أسرّوا النجوى فقالت السحرة لنأتينّك اليوم بسحر لم تر مثله ، و قالوا بعزّة فرعون إنّا لنجن الغالبون و كانوا قد جاؤا بالعصىّ و الحبال تحملها ستّون بعيرا .
فلما أبوا إلاّ الاصرار على السّحر قالوا لموسى : إما أن تلقى و إما أن نكون أوّل من ألقى ، قال بل ألقوا أنتم فألقوا حبالهم و عصيّهم فاذا هي حيّات كأمثال الجبال قد ملأت الوادى يركب بعضها بعضها تسعى ، فذلك قوله تعالى يخيّل اليه من سحرهم انها تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى و قال و اللّه ان كانت لعصيّا في أيديهم و لقد عادت حيّات و ما يعدّون عصاى هذه أو كما حدث نفسه فأوحى اللّه تعالى اليه « لا تخف انك انت الأعلى . و ألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر و لا يفلح الساحر حيث أتى » .
ففرّج عن موسى و ألقى عصاه من يده فاذا هى ثعبان مبين كأعظم ما يكون أسود مدلهم على أربع قوائم غلاظ شداد و هو أعظم و أطول من البختى و له ذنب يقوم
[ 325 ]
عليه فيشرف فوق حيطان المدينة رأسه و عنقه و كاهله لا يضرب ذنبه على شيء إلاّ حطمه و قصمه و يكسر بقوائمه الصخور الصمّ الصّلاب و يطحن كلّ شىء و يضرم حيطان البيوت بنفسه نارا ، و له عينان تلتهبان نارا و منخران تنفخان سموما ، و على مفرقه كأمثال الرّماح ، و صارت الشعبتان له فيما سعته اثنا عشر ذراعا ، و فيه أنياب و اضراس و له محيح و كشيش و صرير و صريف فاستعرضت ما القى السحرة من حبالهم و عصيّهم و هي حيّات في عين فرعون و أعين الناس تسعى تلقفها و تبتلعها واحدا واحدا حتّى ما يرى في الوادى قليل و لا كثير مما ألقوا ، و انهزم الناس فزعين هاربين منقلبين ، فتزاحموا و تساقطوا و وطيء بعضهم بعضا حتّى مات منهم يومئذ في ذلك الزحام و مواطىء الأقدام خمسة و عشرون ألفا ، و انهزم فرعون فيمن انهزم منخوبا 1 مرعوبا عازبا عقله و قد استطلق بطنه في يومه ذلك أربعمأة مرّة ثمّ بعد ذلك إلى أربعين مرّة في اليوم و الليلة على الدوام إلى أن هلك .
فلما انهزم الناس و عاين السحرة ما عاينوا و قالوا لو كان سحرا لما غلبنا و لما خفى علينا أمره ، و لئن كان سحرا فأين حبالنا و عصيّنا ، فالقوا سجّدا و قالوا آمنا بربّ العالمين ربّ موسى و هرون ، و كان فيهم اثنان و سبعون شيخا قد انحنت ظهورهم من الكبر و كانوا علماء السحرة و كان رئيس جماعتهم أربعة نفر سابور و عادور و حطحط و مصّفادهم الذين آمنوا و رأوا ما رأوا من سلطان اللّه ثمّ آمنت السحرة كلّهم .
فلما رأى فرعون ذلك اسف و قال لهم متجلّدا « ء أمنتم له قبل أن آذن لكم انّه لكبيركم الّذى علّمكم السحر فلا قطعنّ ايديكم و ارجلكم من خلاف و لاصلبنّكم في جذوع النخل و لتعلمنّ ايّنا اشدّ عذابا و ابقى . فقالوا لن نؤثرك على ما جائنا . من البيّنات و الّذى فطرنا فاقض ما انت قاض انّما تقضي هذه الحياة الدّنيا . انّا آمنّا بربّنا ليغفر لنا خطايانا و ما اكرهتنا عليه من السحر و اللّه خير و ابقى » فقطع ايديهم و أرجلهم من خلاف و صلبهم على جذوع النّخل و هو أوّل من فعل ذلك فأصبحوا سحرة كفرة و امسوا شهداء بررة و رجع فرعون مغلوبا معلولا ،
-----------
( 1 ) المنخوب الجبان الذى لا فؤاد له ، م .
[ 326 ]
ثمّ أبى إلاّ إقامة على الكفر و التمادى فيه فتابع اللّه تعالى بالآيات و أخذه و قومه بالسنين إلى أن أهلكهم .
و خرج موسى عليه السّلام راجعا إلى قومه و العصا على حالها حيّة تتبعه و تبصبص حوله و تلوذ به كما يلوذ الكلب الألوف بصاحبه و الناس ينظرون إليها ينخزلون و يتضاغطون حتّى وصل موسى عليه السّلام عسكر بنى اسرائيل و أخذ برأسها فاذا هى عصاه كما كانت أوّل مرّة ، و شتّت اللّه على فرعون أمره و لم يجد على موسى سبيلا ،
فاعتزل موسى في مدينته و لحق بقومه و عسكروا مجتمعين الى أن صاروا ظاهرين كافرين و الحمد للّه ربّ العالمين .