اعلم أنّ ظاهر قوله : فلا شفيع يشفع و لا حميم يدفع ، عموم انتفاء الانتفاع بالشفيع و الحميم يوم القيامة على ما هو مقتضى القاعدة الاصولية المقرّرة من إفادة النّكرة في سياق النفى للعموم ، لكن الأدلة القاطعة من الكتاب و السّنة قد قامت
[ 201 ]
على التخصيص أمّا القرابة فقد ورد في الأخبار الكثيرة المستفيضة أنّ كلّ سبب و نسب منقطع يوم القيامة إلاّ سبب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نسبه .
و أمّا الشفاعة فلا خلاف بين علماء الاسلام بل صار من ضرورىّ دين سيّد الأنام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يشفع يوم القيامة لامّته بل لساير الامم أيضا .
و إنّما الخلاف في أنّ الشّفاعة هل هى لطلب مزيد الأجر و جلب زيادة المنفعة فمختصّة بالمؤمنين المطيعين المستحقّين للثّواب فقط ، أو لدفع مضرّة العقوبة أيضا فتعمّ المجرمين المستحقّين للعقاب .
فأكثر العامّة على عدم اختصاصها بأحد الفريقين ، و ذهب الخوارج و الوعيديّة من المعتزلة إلى اختصاصها بالفرقة الاولى .
و الذى ذهبت إليه أصحابنا الاماميّة رضوان اللّه عليهم من دون خلاف بينهم هو عدم الاختصاص ، و قالوا : إنّه تنال الشفاعة للمذنبين من الشيعة و لو كان من أهل الكباير و الذى دلت عليه أخبارهم أيضا عدم اختصاص الشفيع برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بل الأئمّة الهداة من ذرّيته و كذا ابنته الصّديقة الكبرى سلام اللّه عليها و عليهم تترى أيضا شفعاء دار البقاء بل المستفاد من بعض الأخبار أنّ علماء الشّيعة و الصالحين منهم أيضا يشفعون .
إذا عرفت ذلك فلا بأس بايراد بعض الآيات و الأخبار الواردة في هذا الباب فأقول :
قال أمين الاسلام في مجمع البيان في تفسير قوله تعالى عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً معناه يقيمك ربك مقاما محمودا يحمدك فيه الأَوّلون و الآخرون ،
و هو مقام الشّفاعة تشرف فيه على جميع الخلايق تسأل فتعطى و تشفع فتشفع .
و قد أجمع المفسّرون على أنّ المقام المحمود هو مقام الشّفاعة ، و هو المقام الذى يشفع فيه للنّاس ، و هو المقام الذى يعطى فيه لواء الحمد فيوضع في كفّه و يجتمع تحته الأنبياء و الملائكة فيكون أوّل شافع و أوّل مشفّع .
و قال عليّ بن إبراهيم في تفسير هذه الآية :
حدّثنى أبي عن الحسن بن محبوب عن سماعة عن أبيعبد اللّه عليه السّلام قال : سألته
[ 202 ]
عن شفاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة قال يلجم الناس يوم القيامة بالعرق فيقولون انطلقوا بنا إلى آدم عليه السّلام يشفع لنا ، فيأتون آدم عليه السّلام ، فيقولون اشفع لنا عند ربك فيقول : إنّ لى ذنبا و خطيئة فعليكم بنوح عليه السّلام ، فيأتون نوحا فيردهم إلى من يليه ،
و يردّهم كلّ نبيّ إلى من يليه حتّى ينتهوا إلى عيسى عليه السّلام فيقول : عليكم بمحمّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، فيعرضون أنفسهم عليه و يسألونه فيقول : انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنّة و يستقبل باب الرّحمن و يخرّ ساجدا فيمكث ما شاء اللّه فيقول اللّه :
ارفع رأسك و اشفع تشفّع و سل تعط ، و ذلك قول اللّه عزّ و جل عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً .
و روى عليّ بن إبراهيم أيضا عن أبيه عن محمّد بن أبي عمير عن معاوية و هشام عن أبيعبد اللّه عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم : لو قد قمت المقام المحمود لشفعت في أبي و امّى و عمّي و أخ كان لى في الجاهليّة .
و فى الصافى عن العياشي عن أحدهما عليهما السّلام في هذه الآية قال : هى الشّفاعة .
و فيه عن روضة الواعظين عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال : هو المقام الذى أشفع لامّتي .
قال و قال صلّى اللّه عليه و آله إذا قمت المقام المحمود تشفّعت في أصحاب الكباير من امّتي فيشفعنى اللّه فيهم ، و اللّه لا تشفعت فيمن أذى ذرّيتى و قال الطبرسيّ في قوله تعالى و لا تنفع الشفاعة عنده إلاّ لمن أذن له إنّه لا تنفع الشّفاعة عند اللّه إلاّ لمن رضيه اللّه و ارتضاه و أذن له في الشفاعة مثل الملائكة و الأنبياء و الأولياء ، و يجوز أن يكون المعنى إلاّ لمن أذن اللّه في أن يشفع له فيكون مثل قوله و لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى و إنّما قال سبحانه ذلك ، لأنّ الكفار كانوا يقولون نعبدهم ليقرّبونا إلى اللّه زلفى و هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه ، فحكم اللّه ببطلان اعتقاداتهم .
و فى تفسير علىّ بن إبراهيم في هذه الآية قال : لا يشفع أحد من أنبياء اللّه و رسله يوم القيامة حتّى يأذن اللّه له إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانّ اللّه قد أذن له الشّفاعة من قبل يوم القيامة و الشفاعة له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و للأئمة من ولده ، ثمّ بعد ذلك للأنبياء صلوات
[ 203 ]
اللّه عليهم و على محمّد و آله قال : حدّثنى أبي عن ابن أبى عمير عن معاوية بن عمّار عن أبي العبّاس المكبّر قال :
دخل مولى لامرأة عليّ بن الحسين عليهما السّلام على أبيجعفر عليه السّلام يقال له أبو أيمن فقال : يا أبا جعفر تغترّون الناس و تقولون شفاعة محمّد شفاعة محمّد ، فغضب أبو جعفر عليه السّلام حتّى تربد وجهه ثمّ قال : ويحك يا أبا أيمن أغرّك أن عفّ بطنك و فرجك أما لو قد رأيت أفزاع القيامة لقد احتجت إلى شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و يلك فهل يشفع إلاّ لمن وجبت له النّار ، ثمّ قال : ما أحد من الأوّلين و الآخرين إلاّ و هو محتاج إلى شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام : إنّ لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الشفاعة في امّته و لنا شفاعة في شيعتنا ، و لشيعتنا شفاعة في أهاليهم ، ثمّ قال عليه السّلام : و إنّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة و مضر ، و إنّ المؤمن ليشفع حتّى لخادمه و يقول : يا ربّ حقّ خدمتى كان يقينى الحرّ و البرد .
و قال الطبرسيّ فى قوله عزّ و جلّ لا يملكون الشفاعة إلاّ من اتّخذ عند الرّحمن عهداً أى لا يقدرون على الشفاعة فلا يشفعون و لا يشفع لهم حين يشفع أهل الايمان بعضهم لبعض ، لأنّ تلك الشفاعة على وجهين : أحدهما أن يشفع للغير ،
و الآخر أن يستدعى الشفاعة من غيره لنفسه ، فبيّن سبحانه أنّ هؤلاء الكفار لا تنفذ شفاعتهم لغيرهم و لا شفاعة لهم لغيرهم ، ثمّ استثنى سبحانه فقال : إلاّ من اتّخذ عند الرّحمن عهدا ، أى لا يملك الشفاعة إلاّ هؤلاء ، و قيل : لا يشفع إلاّ لهؤلاء و العهد هو الايمان و الاقرار بوحدانيّة اللّه تعالى و تصديق أنبيائه ، و قيل : هو شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أن يتبرّء إلى اللّه من الحول و القوّة و لا يرجو إلاّ اللّه .
و فى الصافى من الكافي عن الصادق عليه السّلام إلاّ من دان اللّه بولاية أمير المؤمنين و الأئمّة عليهم السّلام من بعده فهو العهد عند اللّه .
و فيه من الجوامع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال لأصحابه ذات يوم :
[ 204 ]
أ يعجز أحدكم أن يتّخذ كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا ؟ قالوا : و كيف ذاك ؟ قال : يقول : اللّهمّ فاطر السّموات و الأرض عالم الغيب و الشّهادة إني أعهد إليك بأنّى أشهد أن لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك و أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبدك و رسولك و أنّك إن تكلني إلى نفسى تقربنى من الشرّ و تباعدنى من الخير ، و أنّى لا أثق إلاّ برحمتك ، فاجعل لى عندك عهدا توفينه يوم القيامة إنّك لا تخلف الميعاد ، فاذا قال ذلك طبع عليه بطابع وضع تحت العرش ، فاذا كان يوم القيامة نادى مناد أين الذين لهم عند اللّه عهد فيدخلون الجنّة .
و قال الطبرسيّ في قوله تعالى فما لنا من شافعين و لا صديق حميم في الخبر المأثور عن جابر بن عبد اللّه قال : سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول : إنّ الرّجل يقول في الجنّة ما فعل صديقى و صديقه في الجحيم ، فيقول اللّه تعالى : أخرجوا له صديقه إلى الجنّة ، فيقول من بقى في النّار : فما لنا من شافعين و لا صديق حميم .
و قال و روى العياشيّ عن حمران بن أعين عن أبيعبد اللّه عليه السّلام قال : و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا ، و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا ، و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا حتّى يقول النّاس :
فما لنا من شافعين و لا صديق حميم فلو أنّ لنا كرّة فنكون من المؤمنين ، و في رواية اخرى حتّى يقول عدوّنا .
و عن أبان بن تغلب قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفع فيهم حتّى يبقى خادمه فيقول و يرفع سبّا بتيه : يا ربّ خويدمى كان يقيني الحرّ و البرد ، فيشفع فيه .
و فى الصافى من المحاسن عن الصادق عليه السّلام الشّافعون الأئمّة و الصّديق من المؤمنين ، و اللّه لنشفعنّ من المذنبين في شيعتنا حتّى يقول أعداؤنا إذا رأوا ذلك :
فما لنا من شافعين و لا صديق حميم .
و فيه من الكافي عن الباقر عليه السّلام و انّ الشّفاعة لمقبولة و لا تقبل في ناصب ،
و إنّ المؤمن ليشفع في جاره و ما له حسنة فيقول : يا ربّ جارى كان يكفّ عنّى الأذى فيشفع فيه فيقول اللّه تبارك و تعالى : أنا ربّك و أنا أحقّ من كافي عنك فيدخله
[ 205 ]
اللّه الجنّة و ماله حسنة ، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع لثلاثين إنسانا فعند ذلك يقول أهل النار : فما لنا من شافعين و لا صديق حميم و لنقتصر بذلك في هذا المقام و نسأل اللّه سبحانه بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله الكرام عليهم السّلام أن يثبتنا على القول الثّابت في الحياة الدّنيا ، و أن يخرجنا منها إلى الدّار الأخرى بموالاة أئمّة الهدى ، و أن لا يحرمنا من شفاعتهم الكبرى يوم لا ينفع مال و لا بنون و لا يدفع صديق حميم إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم ، إنّه الغفور الرحيم ذو الفضل العظيم .