الثانى من اغلاط الغزالى دعويه أنه يستفيد من الملائكة و الأنبياء و مشاهدته لهم على وجه القطع كلما يريد .

و على ذلك الغلط جرت سيرة الصوفية فانك ترى كثيرا منهم يستندون ما يأفكون إلى الأنبياء و الرسل ، و يدّعون رؤيتهم إما بالكشف و الشهود ، و إما في المنام ، بل ربما يترقّي بعضهم و يدّعى رؤية اللّه تعالى ظاهرا بحسّ البصر ، و لا بأس بنقل بعض خرافاتهم .

فأقول : من أعظم مشايخ هذه الفرقة محيى الدّين الملحد و الغزالي الناصب و قد نقلنا من كلام الأوّل فيما سبق كثيرا .

و أعظم مما مرّ كلّه ما نقله أبو الفتح محمّد بن مظفر الدّين المعروف بالشيخ المكي في كتابه المسمى بالجانب الغربي في حلّ مشكلات ابن العربى قال فى محكىّ كلامه من خاتمة الكتاب المذكور عند ذكر كراماته .

و منها أنّ الشيخ يعنى محيى الدّين قال : كان محبوبى يتجسّد لى كما أنّ جبرئيل يكون مجسّدا لرسول اللّه و أنا لا أقدر على النظر إليه ، و كان يتكلّم بى و أنا أسمع كلامه و أفهمه ، و كان مشاهدته يمنعنى من الغذاء عدّة أيام ، و كلما احضرت المائدة كان يقف فى جانب منها و يقول بلسان أسمعه : تأكل و أنت تشاهدنى ، و كان ذلك مانعا لى من الطعام ، و ما كنت أجد ما كان بى من الجوع و كان النظر إليه عوضا عن الغذاء و الماء ، و هكذا كان حالى فى أكثر الأيام لا أذوق فيها شيئا و لا يكون محبوبى غايبا عن نظرى ، و كان يقوم لقيامى و يقعد

[ 300 ]

لقعودى ، انتهى .

و هذه منه دعوى مشاهدة الرّب تعالى و تقدّس بالصورة الجسمية بعين الكشف و لا يبعد أنّ شيطانه تجسّد له ليحكّم إغواءه و يشدّد إضلاله حسبما نشير الى تفصيله تحقيقا إنشاء اللّه .

و أما رؤيته للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد ادّعاه في ديباجة الفصوص حيث قال :

أما بعد فانى رأيت رسول اللّه فى مبشرة 1 اريتها فى العشر الآخر من المحرّم لسنة سبع و عشرين و ستّمأة بمحروسة دمشق و بيده كتاب فقال لى : هذا كتاب فصوص الحكم خذه و اخرج به إلى الناس ينتفعون به ، فقلت : السمع و الطاعة للّه و لرسوله و اولى الأمر منّا . 2 و ادّعى أيضا رؤيته و رؤية ساير الأنبياء جميعا فى الفصّ الهودى قال هناك :

و اعلم أنه لما اطلعنى الحقّ و أشهدني أعيان رسله و أنبيائه كلّهم البشريين من آدم إلى محمّد صلوات اللّه عليهم أجمعين فى مشهد 3 أقمت فيه بقرطبة 4 سنة ستّ و ثمانين و خمسمأة ما كلّمنى أحد من تلك الطايفة إلاّ هود عليه السّلام فانه أخبرنى بسبب جمعيتهم و رأيته رجلا ضخما فى الرّجال حسن الصورة لطيف المحاورة عارفا بالامور كاشفا لها .

قال القيصرى : قيل : كان سبب جمعيتهم إنزاله مقام القطبيّة ليكون قطب الأقطاب فى زمانه و كلام هود عليه السّلام بشارته انه خاتم الولاية المحمدية و وارث الأنبياء و المرسلين كما ذكره من نفسه فى مواضع من فتوحاته تصريحا و تلويحا .

و أما رؤية الغزالى للرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقد نقل عن شرح المثنوى انه قال :

إنّ الامام أبا حامد الغزالى المشهور قال لأخيه أحمد الغزالى يوما : نعم الفقيه أنت لو اجتهدت فى الشريعة أكثر من هذا ، فقال له الشيخ أحمد : و نعم

-----------
( 1 ) أى رويا مبشرة .

-----------
( 2 ) أى من جنسنا و أهل ديننا ، شرح الفصوص

-----------
( 3 ) أى مقام حصل هذا الشهود فيه ، قيصرى .

-----------
( 4 ) مدينة ببلاد المغرب

[ 301 ]

العالم أنت لو اهتممت في الحقيقة أكثر من هذا ، فقال الامام : ازعم أنّ لي السّبق في مضمار الحقيقة ، فقال الشّيخ : متاع التّصوّر و الحسبان ليس كثير رواج في سوق الاسرار ، فقال : و ليكن بيننا حكم ، فقال الشيخ : و حكم هذا الطريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال الامام : و كيف لنا به صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى نرى مكانه و نسمع بيانه ،

قال : و لما يجد حظّا من الحقيقة من لم يره حيث أراد و لم يسمع من أسراره و حقايقه فاشتعل من أثر هذا الملام نائرة الغيرة في باطن الامام .

ثمّ إنّهما جعلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حكما لأنفسهما و افترقا ، حتّى إذا جاء اللّيل أخذ كلّ منهما طريق تعبّده .

فبالغ الامام في التّضرّع و البكاء و التّوسّل إلى أن سخنت عيناه ، فرأى أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل عليه مع رجل من أصحابه و بشّره بشرف المعرفة بهذا الأمر و كان على يدى ذلك الصحابي طبق من الرّطب ، ففتح عن طرف منه و أعطاه من ذلك تميرات ، فلما أفاق الامام رأى تلك التّميرات موجودة في يده على خلاف ساير مناماته ، فقام مبتهجا مسرورا إلى حجرة أخيه ، و جعل يدقّ الباب بقوّته فاذا هو يقول من وراء الباب : لا ينبغي مثل هذا العجب و الّدلال على تميرات معدودة .

فزاد تحيّر الامام من دهشة هذا القول : فلمّا دخل على أخيه فقال : و كيف علمت ما لحقني من التشريف ؟ فقال الشّيخ : و لم يعطك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما أعطاك حتّى لم يعرضه علىّ سبع مرّات ، و إن لم تصدّقني في ذلك فقم إلى رفّ الحجرة و انظر ماذا ترى .

فلمّا قام الامام رأى ذلك الطّبق الّذي كان على يدى الصّحابي هناك و قد نقص من طرف منه بمقدار تلك التّميرات ، فعلم أنّ ما بلغه منه أيضا كان من بركات أنفاس الشّيخ .

ثمّ إنّه أخذ في طريقة السّير و السّلوك و استكشاف أسرار الحقايق إلى أن صار مقتدى أصحاب الطريقة بلا كلام ، انتهى .

[ 302 ]

أقول : هذه القصة إمّا مجعولة من ناقلها ، أو من المنامات الشّيطانية و إلاّ فكيف يتصوّر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنايته و موادّته لمن حادّ اللّه و رسوله ؟

و قد منع اللّه سبحانه المؤمنين من موادّتهم و قال : لا تجد قوما يؤمنون باللّه و اليوم الآخر يوادّون من حادّ اللّه و رسوله و لو كانوا آبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم .

و من أعظم محادّة للّه تعالى و لرسوله من النّاصب المتعنّت ؟ و قد علمت نصب أبي حامد الغزالي بما لا مزيد عليه و نصب أخيه أحمد يعلم ممّا ذكره القاضي نور اللّه في مجالس المؤمنين عند ترجمة أخيه أبي حامد ، بل قد علمت سابقا كفره و الحاده حيث حكينا عنه تعصّبه لابليس عليه اللّعنة و تسميته له : بسيّد الموحّدين و غير ذلك من ترّهاته .

و كم للصّوفية من دعوى أمثال تلك المكاشفات و ادّعاء مشاهدة النّبيّ و الأئمة عليهم السّلام إما بالرّؤية أو بالرّؤياء .

و أعظم من ذلك دعوى رؤساء كلّ طبقة و الكملين منهم على زعمهم تجلّى الرّب تقدّس و تعالى فيهم و معاينتهم له سبحانه بالكشف و الشهود ، مع أنّ بعضهم مؤمن و بعضهم ملحد و بعضهم شيعي و بعضهم سنّى و الشيعي أيضا بعضهم إمامي و بعضهم غير إمامي ، و السنّي بعضهم ناصبي و بعضهم غير ناصبي .

على أنّ كلاّ من هذه الفرق على اختلاف مذاهبهم و لعن بعضهم بعضا و تبرّى بعضهم من بعض مشاربهم في السير و السلوك و الرّياضات و الأوراد و الأذكار و العبادات المبتدعة أيضا مختلفة .

فبعضهم جلاليّ ، و بعضهم خاكساريّ ، و بعضهم نقشبنديّ ، و بعضهم طيفوريّ و بعضهم نعمة اللهيّ ، و بعضهم ذهبي ، و بعضهم سفاريّ إلى غير هذه من سلاسلهم الكثيرة ، و كلّ سلسلة يخطى‏ء السلسلة الاخرى ، فلو كانت هذه المكاشفات التي يدّعيها الكلّ صحيحة صادقة لصحّت مذاهب هذه الفرق كلّها و لم تكن الناجية

[ 303 ]

منحصرة في واحدة .

مع ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في الحديث الذى رواه الكلّ : إنّ امة موسى افترقت بعده على احدى و سبعين فرقة فرقة منها ناجية و سبعون في النار ، و افترقت امة عيسى بعده على اثنتين و سبعين فرقة فرقة منها ناجية و احدى و سبعون في النار و انّ امتي ستفترق بعدى على ثلاث و سبعين فرقة فرقة منها ناجية و اثنتان و سبعون في النار .

فعلم بذلك كلّه أنّ ما يدّعون كلّه تدليس و تلبيس و تمويه و تخريق و تزويق 1 كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا و وجد اللّه عنده فوفّاه حسابه و اللّه سريع الحساب .

فان قيل : سلّمنا هذا كلّه و لكن يستبعد جدا اتّفاق هؤلاء على كثرتهم على الكذب في دعوى المعاينة .

قلت : هو كذلك و لكن مرجع تلك الدّعوى إلى أحد أمور :

الاول أنهم بما اعتادوه من تحمل المشاقّ و الرياضات المبتدعة و الجلوس في بيت مظلم أربعين يوما و التزام ترك الحيوانى و نحو ذلك ربما يحصل لهم خبط و تغير مزاج مضافا إلى شرب بعضهم للبنج و نحوه من الأدوية المسبتة ، فيوجب ذلك الاختراعات الخيالية فيتوهّم المتخيّل محسوسا مع أنه لا أصل له كالسراب الذى يراه الناظر من بعد ماءا .

و قد أشار الى ذلك النفيسى فى شرح الأسباب حيث قال : و قد يبلغ الفساد فى بعضهم إلى حدّ يظنّ أنه يعلم الغيب و كثيرا ما يخبر بما سيكون قبل كونه ، و قد يبلغ الفساد في بعضهم إلى حدّ يظنّ أنه صار ملكا ، و قد يبلغ فى بعضهم إلى أعلا من ذلك فيظنّ أنه الحقّ تعالى عن ذلك ، و اكثرهم يرون انهم يلزمون التقوى و حسن السيرة بتوحّشهم و انصرافهم عن الناس ، و قال بعد شطر من كلامه :

-----------
( 1 ) موه الشى‏ء طلاه بذهب أو فضة و تحته نحاس أو حديد ، و التخريق كثرة الكذب و التزويق التحسين و التزيين ( منه ) .

[ 304 ]

قد عرض هذا المرض لكثير من الفلاسفة كأفلاطون و نظرائه .

و قال الطبرى : قد رأيت جماعة من الأفاضل تفرّدوا بأنفسهم و تركوا الاشتغال بغير العلوم و لزموا مجانبة الناس فاحترقت أخلاطهم و حدث بهم الماليخوليا ، منهم الفارابى فانه كان لا يختلط بالناس و يتجنبّهم و اذا عاب إنسانا عابه بأنه يجالس العامة و السوقة ، فحدث به ضرب من الماليخوليا كان يخرج إلى السوق و يقعد و يهذي بالمنطقيات و يلعب به الصبيان و السوقة ، انتهى مجملا .

الثانى أنهم لانحرافهم عن النهج القويم و عدولهم عن الصراط المستقيم و أخذهم بالبدعات و ركوبهم للضلالات ، شملهم من اللّه الخذلان ، و ترى لهم الشيطان و تجسّم فى نظرهم و حضر فى مجلسهم و تكلّم معهم و خاطبهم ، فأسمعهم و تلاطف بهم تثبيتا لما أسّسوه من بنيان الزّيغ و الضلال ، و تشييدا لما أقاموه من أركان الوزر و الوبال و قد أشار إلى ذلك الشيخ على سبط الشهيد الثانى قدّس اللّه روحهما فى محكى كلامه من كتابه المسمّى بالسهام المارقة من أغراض الزّنادقة حيث قال : نعم لا يبعد أنّ الشيّاطين تترائى لهم في صور مختلفة فربّما يغويهم الشيطان و يقول لهم : أنا امامكم بل أنا إلهكم ، و حضور الجنّ و الشّياطين عند أهل الرّياضيات و التسخير و غيرهم شايع مشهور و لا بعد فيه من جهة العقل و النّقل .

و فى الأحاديث تكرّرت تشكّل الجنّ بأشكال بني آدم فاستبعاد هذا أو نفيه نفي و استبعاد لكمال قدرته تعالى و ردّ لأحاديث أهل بيت العصمة عليهم السّلام .

قال : و حكى فى بلادنا جماعة عن رجل قريب من هذا العصر أنّ أباه كان يخبر بأخبار البلاد المتباعدة و ما يقع بها و يرسل كتابات يصل من مثل الشّام إلى مكّة في أوقات يسيرة يعلم ذلك من تاريخها ، و كان الناس يتعجّبون من ذلك و نحوه ، فلمّا توفّي الأب أخبر الولد أنّ بعد وفات أبيه جاء شخص بصورة عبد أسود طويل فقال له : أنا كنت خادما لأبيك فى حياته فان أردت أن أكون لك كما كنت لأبيك فعلت

[ 305 ]

إن تقوم بشرط كان بيني و بينه ، و هو أنّي شرطت عليه أن يسجد لي دون اللّه فقبل و فعل ، فامتنع الولد من ذلك فانصرف و لم يره بعده نقل جماعة و أظنّ أنّ بعضهم حكى أنّه أدرك ذلك الولد .

قال « ره » و لا بعد أيضا في أنّه يحصل لهم خبط و تغيّر مزاج بحيث يرون ما يوهم مثل ما يدّعون ، و قد ينضمّ إلى ذلك تناول كثير من التّراكيب المغيّرة للمزاج الباعثة على مثل ذلك و نحوها من المغيّرات ، انتهى كلامه رفع مقامه .

أقول : ما قاله قدّس سرّه من ترائي الشّياطين لهم في صور مختلفة فهو نصّ الكتاب الكريم و الأخبار الكثيرة الدّالّة على ظهورهم و ترائيهم لأولياء الضّلال قال سبحانه : هل انبئكم على من تنزّل الشّياطين . تنزّل على كلّ أفّاك أثيم .

يلقون السمع و أكثرهم كاذبون أى تنزّل الشّياطين على كلّ كذّاب فاجر كثير الاثم .

قال الطبرسي : يلقون السّمع معناه أنّ الشّياطين يلقون ما يسمعونه إلى الكهنة و الكذابين و يخلطون به كثيرا من الأكاذيب و يوحونه إليهم .

و في الصّافي أي الأفّاكون يلقون السّمع إلى الشّياطين فيتلقون منهم ظنونا و امارات لنقصان علمهم فيضمون اليها على حسب تخيّلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها ، انتهى .

و لعمرى أنّ الصّوفيّة هم أظهر مصاديق هذه الآية ، و كذا الآية الاخرى في سورة الجاثية و هو قوله تعالى ويل لكلّ أفّاك اثيم . يسمع آيات اللّه تتلى عليه . ثمّ يصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها فبشّره بعذاب اليم . و إذا علم من آياتنا شيئا . اتّخذها هزوا اولئك لهم عذاب مهين . و من ورائهم جهنّم و لا يغني عنهم ما كسبوا شيئا و لا ما اتّخذوا من دون اللّه أولياء و لهم عذاب عظيم .

و من أحاط خبرا بما قدّمناه من افك ابن العربى و أباطيله الكثيرة كدعويه رؤية النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تجلّي الحقّ فيه و إسرائه الى السّماء و تلقّيه الأحكام من المعدن الّذى يأخذ منه الملك الّذى يوحى به إلى الرّسل ، و ادّعائه أنّه خاتم الولاية

[ 306 ]

و استهزائه بآيات اللّه و تأويله لها على المعاني الباطلة و تصحيحه لعبادة من دون اللّه من الأصنام و الأوثان إلى غير ذلك ممّا قدمناه نقله منه ، عرف أنّ ذلك الملحد أظهر أظهر مصاديق تلك الآية .

و أما الاخبار فمنها ما رواه في الكافي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في حديث طويل قال : ليس من يوم و ليلة إلاّ و جميع الجنّ و الشياطين تزور أئمة الضّلال و يزور امام الهدى عددهم من الملائكة حتّى إذا أتت ليلة القدر فيهبط فيها من الملائكة إلى وليّ الأمر خلق اللّه أو قال قيض اللّه عزّ و جلّ من الشّياطين بعددهم ، ثمّ زاروا اولى الضّلالة فأتوه بالافك و الكذب حتّى لعلّه يصبح فيقول : رأيت كذا و كذا فلو سئل ولىّ الأمر عن ذلك لقال رأيت شيطانا اخبرك بكذا و كذا حتّى يفسّر له تفسيرا و يعلمه الضّلالة .

و منها أنّ الحسن البصرى و هو رئيسهم مرّ به أمير المؤمنين بعد حرب الجمل و هو يتوضّأ فقال عليه السّلام : يا حسن اسبغ الوضوء ، فقال يا أمير المؤمنين لقد قتلت بالأمس اناسا يشهدون أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمّدا عبده و رسوله و يصلّون الخمس و يسبغون الوضوء ، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدوّنا ؟ فقال : و اللّه صدّقنّك يا أمير المؤمنين لقد خرجت في أوّل يوم فاغتسلت و تحنّطت و صببت عليّ سلاحي و أنا لا أشّك في أنّ التخلّف عن امّ المؤمنين كفر فلمّا انتهيت إلى موضع من الخريبة نادا مناديا حسن إلى أين ارجع فانّ القاتل و المقتول في النّار ، قال عليّ عليه السّلام : صدقت ، أفتدرى من ذلك المنادى ؟ قال :

لا ، قال عليه السّلام : أخوك ابليس و صدقك أنّ القاتل و المقتول منهم في النّار .

و قد مرّ رواية ذلك الحديث بتمامه من الاحتجاج عن ابن عبّاس في شرح المختار الثالث عشر فليراجع هناك .

و يفهم منه أنّ الشياطين ربّما ينادون أولياءهم و يخاطبونهم من غير أن يظهروا لهم .

و يدل على ذلك ما قدّمنا روايته في التّذييل الثاني من شرح الفصل الثاني

[ 307 ]

من فصول المختار المأة و الحادى و الثمانين عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قصّة أصحاب الرّس بعد ما ذكر أنّه كانت لهم اثنتي عشرة قرية و في كلّ منها صنوبرة يعبدونها .

قال عليه السّلام و قد جعلوا في كلّ شهر من السّنة في كلّ قرية عيدا يجتمع اليه أهلها فيضربون على الشّجرة الّتي فيها كلّة من حرير فيها أنواع الصّور ، ثمّ يأتون بشاة و بقر يذبحونها قربانا للشجرة و يشعلون فيها النّيران بالحطب ، فاذا سطع دخان تلك الذّبايح و قتارها في الهواء و حال بينهم و بين النّظر إلى السّماء خرّوا سجّدا يبكون و يتضرّعون إليها أن ترضي عنهم ، فكان الشياطين يجى‏ء فيحرّك أغصانها و يصيح من ساقها صياح الصّبى أن قد رضيت عنكم فطيبوا نفسا فيرفعون رؤوسهم عند ذلك إلى أن قال عليه السّلام : حتّى إذا كان عيد قريتهم العظمى اجتمع اليه صغيرهم و كبيرهم فضربوا عند الصنوبرة و العين سرادقا من ديباج عليه من أنواع الصّور و جعلوا له اثنى عشر بابا كلّ باب لأهل قرية منهم و يسجدون للصّنوبرة خارجا من السّرادق و يقرّبون لها الذبايح أضعاف ما قرّبوا للشجرة في قربتهم ، فيجي‏ء ابليس عند ذلك فيحرّك الصّنوبرة تحريكا شديدا و يتكلّم من جوفها كلاما جهوريّا ،

و يعدهم و يمنّيهم بأكثر ما وعدتهم و منّتهم الشياطين كلّها ، فيرفعون رؤوسهم عن السجود و لهم من الفرح و النشاط ما لا يفيقون و لا يتكلّمون الحديث ، و الأخبار في هذا المعنى كثيرة و لا حاجة إلى الاطالة .

الثالث تعمّد بعضهم في الكذب و الافك و ادّعائه ما ليس له أصل أصلا .

فانهم لانحرافهم عن جادّة الشريعة و ضلالهم عن الحقّ و اضلالهم كثيرا من العوام كالأنعام و الرّعاع الدين يصغون إلى كلّ ناعق بما أظهروه من خوارق العادات التي نشير إلى منشئها إنشاء اللّه ، نسبوا إلى أنفسهم ما لا أصل له من رؤية الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام ، تثبيتا لمتابعيهم المفتتن بهم على ما اعتقدوه في حقّهم من مقام القطبية و الولاية .

و نظير ذلك ما نقل من أنّ أبا الطيب المتنبي الشاعر المعروف ادّعى لنفسه النّبوة بحبسه للمطر ، فافتتن به كثير من أهل أطراف الشّام .

[ 308 ]

نقل عن الخطيب التبريزى أنّه قال في شرح ديوان أبي الطّيب ، قال أبو عبد اللّه معاذ بن إسماعيل اللاذقي ، قدم المتنبّي اللاذقيّة في سنة نيّف و عشرين و ثلاثمأة ،

وضوى 1 إلىّ فأكرمته و عظمته لما رأيت من فصاحته و حسن سمته ، فلما تمكّن الانس بيني و بينه و خلوت معه فى المنزل اغتناما لمشاهدته و اقتباسا من أدبه و أعجبني ما رأيت ، قلت و اللّه إنك لشابّ خطر تصلح لمنادمة ملك كبير ، فقال لي : ويحك أتدرى ما نقول ؟ أنا نبيّ مرسل ، فظننت أنه يهزل ، ثم ذكرت أني لم احصل عليه كلمة هزل منذ عرفته ، فقلت له : ما تقول ؟ فقال : أنا نبيّ مرسل ، فقلت له :

مرسل إلى من ؟ قال : إلى هذه الامّة الضّالّة المضلّة ، فقلت تفعل ماذا ؟ قال :

املئها عدلا كما قد ملئت جورا ، فقلت : بماذا ؟ قال : بإدرار الأرزاق و الثواب العاجل و الآجل لمن أطاع و أتى ، و ضرب الأعناق و قطع الأرزاق لمن عصى و أبى فقلت : إنّ هذا أمر عظيم أخاف منه عليك و عذلته على قوله ، فقال بديها :

أيا عبد الاله معاذ أنّى
خفيّ عنك في الهيجا مقامي

القطعة ، فقلت له : ذكرت أنّك نبيّ مرسل إلى هذه الامّة أفبوحي يوحى إليك ؟ قال : نعم قلت : فاتل علىّ شيئا من الوحى إليك ، فأتى بكلام ما مرّ بسمعي أحسن منه ، فقلت : و كم اوحى عليك من هذا ؟ فقال : مأة عبرة و أربع عشر عبرة ،

فقلت : و كم العبرة ؟ فأتى بمقدار أكبر الآى من كتاب اللّه تعالى ، فقلت : ففي كم مدّة اوحى اليك ؟ قال : جملة واحدة ، قلت : فاسمع في هذه العبرات كلّ طاعة في السّماء فما هي قال : حبس المدرار لقطع أرزاق العصاة و الفجار قلت : أتحبس من السماء قطرها ؟ قال : أى و الّذى فطرها أفما هي معجزة ؟ فقلت : بلي و اللّه ، قال : فان حبست ذلك عن مكان تنظر اليه و لا تشكّ فيه هل تؤمن بي و تصدّقني على ما أتيت به من ربّي ؟ قلت : اى و اللّه ، قال : سأفعل فلا تسألني عن شي‏ء بعدها حتّى آتيك بهذه المعجزة و لا نظهر شيئا من هذا الأمر حتّى يظهر ، و انتظرت ما وعدنيه من غير أن أسأله .

فقال لي بعد أيّام : أتحبّ أن تنظر الى المعجزة الّتي جرى ذكرها ؟ فقلت :

-----------
( 1 ) أى أتى ليلا . م .

[ 309 ]

بلى و اللّه ، فقال لي : إذا أرسلت احد العبيد فاركب معه و لا تؤخّر و لا يخرج معك أحد قلت : نعم .

فلما كان بعد أيام تغيّمت السماء في يوم من أيّام الشتاء و إذا عبده قد أقبل فقال : يقول اركب للوعد ، فبادرت بالرّكوب معه و قلت أين ركب مولاك ؟ قال :

إلى الصحراء ، و لم يخرج معه أحد غيرى و اشتدّ وقع المطر فقال : بادربنا حتّى نستكنّ معه من هذا المطر فانّه ينتظرنا بأعلى تلّ لا يصيبه فيه المطر ، قلت : و كيف عمل قال : أقبل ينظر إلى السماء أوّل ما بدء السحاب الأسود و هو يتكلّم بما لا أفهم ثمّ أخذ السّوط فأدار به في موضع ستنظر اليه من التّل و هو يهمهم و المطر ممّا يليه و لا قطرة منه عليه .

فبادرت معه حتّى نظرت اليه و اذا هو على تلّ على نصف فرسخ من البلد فأتيته و إذا هو قائم ما عليه من ذلك المطر قطرة واحدة و قد خضت في الماء إلى ركبتي الدّابّة و المطر فى أشدّ ما يكون ، و نظرت إلى مأتى ذراع في مثلها من ذلك التّل يابس ما فيه ندى و لا قطرة مطر ، فسلمت عليه فردّ علىّ فقال لي : أترى ؟ قلت :

ابسط يدك فاني اشهد أنّك رسول اللّه ، فبسط يده فبايعته بيعة الاقرار بنبوّته .

ثمّ قال لي : ما قال هذا الخبيث لما دعى بك يعني عبده فشرحت له ما قال لي في الطريق لما استخبرته ، فقتل العبد و قال و قد جاوز حدّ الاساءة :

أيّ محلّ ارتقي أيّ عظيم اتّقى .

و كلّ ما قد خلق اللّه و ما لم يخلق
محتقر في همّتي كشعرة في مفرقي

و أخذت بيعته لأهلي ، ثمّ صحّ بعد ذلك أنّ البيعة قد عمّت كلّ مدينة بالشّام ، و ذلك بأصغر حيلة تعلّمها من بعض العرب و هي صدحة المطر يصرفه بها عن أيّ مكان أحبّ بعد أن يحوى عليه بعصا و ينفث بالصّدقة الّتي لهم و رأيت لهم كثيرا منهم بالسّكون و حضرموت و السّاسك من اليمن يفعلون هذا و لا يتعاظمونه حتّى أنّ أحدهم يصدح عن غنمه و ابله و بقره و عن القرية من القرى ،

فلا يصيبها من المطر قطرة و يكون المطر ممّا يلي الصّدقة ، و هو ضرب من السحر ،

[ 310 ]

و رأيت لهم من السّحر ما هو أعظم من هذا و سألت المتنبّي بعد ذلك هل دخلت السّكون ؟

فقال : نعم و والدى منها أما سمعت قولي ؟

أمنسي السّكون و حضرموتا
و والدتي و كندة و السبيعا

فقلت : و من ثمّ استفاد ما جوّزه على طغام أهل الشّام ، و جرت له أشياء بعد ذلك من الحروب و الحبس و الانتقال من موضع إلى موضع حتّى حصل عند سيف الدّولة ، انتهى .

أقول : و إلى مثل ذلك يرجع خرافات أكثر رؤساء الفرق الثلاث الضالّة المضلّة :

الصّوفيّة ، و الشيخيّة ، و البابيّة خذلهم اللّه جميعا هذا كلّه تحقيق ما يتعلّق بالمكاشفة بعنوان الشهود و الرّؤية و العيان .

و أمّا الكشف بالرّؤيا و المنام و عليه مدار أكثر دعاوى المتصوّفة و أباطيلها حيث إنّ أعظم بضاعتهم : اريت البارحة و قد جرت عادتهم على أنّهم ينقلون ما يرون في المنام إلى مرشديهم فيعبّره على ما هو مناسب لمذاق التّصوّف .

فتحقيق الكلام فيه ما أفاده المفيد قدّس اللّه سرّه .

فقد روى في البحار من كنز الفوايد للكراجكي قال : وجدت لشيخنا المفيد رضي اللّه عنه في بعض كتبه أنّ الكلام في باب رؤيا المنامات غزير ، و تهاون أهل النّظر به شديد ، و البليّة بذلك عظيمة ، و صدق القول فيه أصل جليل .

و الرّؤيا في المنام تكون من أربع جهات :

إحداها حديث النفس بالشي‏ء و الفكر فيه حتّى يحصل كالمنطبع في النفس فيخيّل إلى النّائم ذلك بعينه و أشكاله و نتايجه ، و هذا معروف بالاعتبار .

و الجهة الثانية من الطباع و ما يكون من قهر بعضها لبعض ، فيضطرب له المزاج و يتخيّل لصاحبه ما يلايم ذلك الطبع الغالب من مأكول و مشروب و مرئي و منكوح و ملبوس و مبهج و مزعج ، و قد ترى تأثير الطبع الغالب في اليقظة و المشاهد حتّى أنّ من غلبت عليه الصفراء و يصعب عليه الصعود إلى المكان العالى يتخيّل إليه وقوعه منه و يناله من الهلع و الزّمع ما لا ينال غيره ، و من غلبت عليه السوداء يتخيّل به أنّه

[ 311 ]

قد صعد في الهواء و ناجته الملائكة و يظنّ صحّة ذلك حتّى أنّه ربما اعتقد في نفسه النّبوّة و أنّ الوحي يأتيه من السّماء و ما أشبه ذلك .

و الجهة الثالثة ألطاف من اللّه عزّ و جلّ لبعض خلقه من تنبيه و تبشير و اعذار و انذار ، فيلقي في روعه ما ينتج له تخيلات امور تدعوه إلى الطاعة و الشكر على النعمة و تزجره عن المعصية و تخوّفه الآخرة و يحصل له بها مصلحة و زيادة فايدة و فكر يحدث له معرفة .

و الجهة الرّابعة أسباب تأتي من الشيطان و وسوسته يفعلها الانسان يذكّره بها امورا تحزنه و أسبابا تغمّه و تطمعه فيما لا يناله أو تدعوه على ارتكاب محظور يكون فيه عطبه ، أو تخيّل شبهة في دينه يكون منها هلاكه ، و ذلك مختصّ بمن عدم التوفيق لعصيانه و كثرة تفريطه في طاعات اللّه ، و لن ينجو من باطل المنامات و أحلامها إلاّ الأنبياء و الأئمة صلوات اللّه عليهم و من رسخ في العلم من الصالحين .

و قد كان شيخي رضي اللّه عنه قال لي : كلّ من كثر علمه و اتّسع قلّة مناماته فان رأى مع ذلك منامات و كان جسمه من العوارض سليما فلا يكون منامه إلاّ حقّا ،

و يريد بسلامة الجسم عدم الامراض المهيّجة للطّباع و غلبة بعضها على ما تقدّم به البيان ، و السّكران أيضا لا يصحّ له منام و كذلك الممتلي من الطعام لأنّه كالسّكران .

و لذلك قيل : إنّ المنامات قلّ ما يصحّ في ليالي شهر رمضان ، فأمّا منامات الأنبياء فلا يكون إلاّ صادقة و هى وحى فى الحقيقة و منامات الأئمة جارية مجرى الوحى و إن لم تسمّ وحيا و لا تكون قطّ إلاّ حقّا و صدقا و إذا صحّ منام المؤمن لأنّه من قبل اللّه كما ذكرناه .

و قد جاء في الحديث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انّه قال : رؤياء المؤمن جزء من سبعة و سبعين جزء من النّبوة .

و روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال : رؤيا المؤمن تجرى مجرى كلام تكلّم به الرّب عنده فأمّا وسوسة شياطين الجنّ فقد ورد السّمع بذكرها ، قال اللّه تعالى : من شرّ الوسواس الخنّاس الّذى يوسوس فى صدور النّاس من الجنّة و النّاس و قال : و انّ الشياطين

[ 312 ]

ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم و قال : شياطين الجنّ و الانس يوحى بعضهم الى بعض زخرف القول غرورا و ما ورد به السّمع فلا طريق إلى دفعه .

فأمّا كيفيّة وسوسة الجنّى للانسى فهو إنّ الجنّ أجسام رقاق لطاف فيصحّ أن يتوصّل أحدهم برقّة جسمه و لطافته إلى غاية سمع الانسان و نهايته فيوقّر فيه كلاما يلبّس عليه إذا سمعه و يشبّه عليه بخواطره ، لأنه لا يرد عليه ورود المحسوسات من ظاهر جوارحه و يصحّ أن يفعل هذا بالنائم و اليقظان جميعا و ليس هو فى العقل مستحيلا .

و روى جابر بن عبد اللّه أنه قال : بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخطب إذ قام اليه رجل فقال : يا رسول اللّه إنى رأيت كأنّ رأسى قد قطع و هو متدحرج ، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم :

لا تحدث بلعب الشيطان بك . ثمّ قال : إذا لعب الشيطان بأحدكم فى منامه فلا يحدّثنّ به أحدا .

و أما رؤية الانسان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو أحد الأئمة عليهم السّلام في المنام ، فانّ ذلك عندى على ثلاثة أقسام :

قسم أقطع على صحّته ، و قسم أقطع على بطلانه ، و قسم أجوّز فيه الصحّة و البطلان فلا أقطع فيه على حال .

فأما الذى أقطع على صحّته فهو كلّ منام رأى فيه النبيّ أو أحد الأئمة عليهم السّلام و هو فاعل لطاعة أو آمر بها و ناه عن معصية أو مبيّن بقبحها ، و قائل لحقّ أو داع اليه ، و زاجر على باطل أو ذامّ لمن هو عليه .

و أما الذى أقطع على بطلانه فهو كلّما كان ضدّ ذلك لعلمنا أنّ النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الامام صاحبا حقّ و صاحب الحقّ بعيد عن الباطل .

و أما الذى اجوّز فيه الصحّة و البطلان فهو المنام الذى يرى فيه النبىّ و الامام و ليس هو آمرا و لا ناهيا ، و لا على حال يختصّ بالدّيانات مثل أن يراه راكبا أو ماشيا أو جالسا و نحو ذلك .

فاما الخبر الذى يروى عن النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قوله : من رآنى فقد رآنى فانّ

[ 313 ]

الشيطان لا يتشبّه بى ، فانه إذا كان المراد به المنام يحمل على التخصيص دون أن يكون في كلّ حال ، و يكون المراد به القسم الاوّل من الأقسام الثلاثة لأنّ الشيطان لا يتشبّه بالنبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى شى‏ء من الحقّ و الطاعات .

و أما ما روى عنه من رآنى نائما فكأنما رآنى يقظانا ، فانّه يحتمل الوجهين .

أحدهما أن يكون المراد به روياء المنام ، و يكون خاصّا كالخبر الأوّل على القسم الأوّل الّذي قدّمناه .

و الثاني أن يكون أراد رؤية اليقظة دون المنام ، و يكون قوله : نائما حالا للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ليست حالا لمن رآه ، فكأنّه قال : من رآني و أنا نائم فكأنّما رآني و أنا منتبه ، و الفائدة في هذا المقام أن يعلّمهم بأنّه يدرك في الحالتين إدراكا واحدا فيمنعهم ذلك إذا حضروا عنده و هو نائم أن يغيظوا فيما لا يحسن أن يذكروه بحضرته و هو منتبه .

و قد روى عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه غفى ثمّ قام يصلّى من غير تجديد وضوء ، فسئل عن ذلك فقال : إنّى لست كأحدكم تنام عيناى و لا ينام قلبى ، و جميع هذه الرّوايات اخبار آحاد ، فان سلمت فعلى هذا المنهاج .

و قد كان شيخى رضى اللّه عنه يقول : إذا جاز من بشر أن يدّعى في اليقظة أنّه إله كفرعون و من جرى مجراه مع قلّه حيلة البشر و زوال اللبس في اليقظة فما المانع أن يدّعى ابليس عند النّائم بوسوسته له انّه نبيّ مع تمكّن ابليس بما لا يتمكّن عنه البشر و كثرة اللّبس المعترض في المنام .

و ممّا يوضح لك أنّ من المنامات الّتي يتخيّل للانسان أنّه قد رأى فيها رسول اللّه و الأئمة صلوات اللّه عليهم ما هو حقّ و منها ما هو باطل :

أنّك ترى الشّيعى يقول : رأيت في المنام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه أمير المؤمنين علىّ بن أبيطالب عليه السّلام يأمرنى بالاقتداء به دون غيره و يعلمنى أنّه خليفة من بعده و أنّ أبا بكر و عمر و عثمان ظالموه و أعداؤه ، و ينهانى من موالاتهم و يأمرنى بالبراءة منهم و نحو ذلك ممّا يختصّ بمذهب الشيعة .

[ 314 ]

ثمّ يرى النّاصبى يقول : رأيت رسول اللّه فى النّوم و معه أبو بكر و عمر و عثمان و هو يأمرنى بمحبّتهم و ينهانى عن بغضهم و يعلمنى أنّهم أحقّاء فى الدّنيا و الآخرة و أنّه معهم في الجنّة و نحو ذلك ممّا يختصّ بمذهب النّاصبيّة .

فنعلم لا محالة أنّ أحد المنامين حقّ و الآخر باطل فأولى الأشياء أن يكون الحقّ منهما ما ثبت الدّليل فى اليقظة على صحّة ما تضمّنه ، و الباطل ما أوضحت الحجّة عن فساده و بطلانه ، و ليس يمكن الشّيعى أن يقول للناصبى : إنك كذبت فى قولك إنّك رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأنه يقدر أن يقول له مثل هذا بعينه .

و قد شاهدنا ناصبيّا تشيّع و أخبرنا فى حال تشيّعه بأنه يرى منامات بالضدّ مما كان يراه فى حال نصبه ، فبان بذلك أنّ أحد المنامين باطل و أنه من نتيجة حديث النفس أو من وسوسة إبليس و نحو ذلك ، و أنّ المنام الصحيح هو لطف من اللّه سبحانه لعبده على المعنى المتقدّم وصفه .

و قولنا فى المنام الصحيح : إنّ الانسان رأى فى نومه النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنما معناه انه كان قد رآه ، و ليس المراد به التحقيق فى اتصال شعاع بصره بجسد النبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أىّ بصر يدرك به حال نومه ، و إنما هى معان تصوّرت فى نفسه تخيّل له فيها امر لطف اللّه تعالى له به قائم مقام العلم ، و ليس هذا بمناف للخبر الذى روى من قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم :

من رآنى فقد رآنى ، لأنّ معناه فكأنما رآنى و ليس يغلط فى هذا المكان إلاّ من ليس له من عقله اعتبار ، انتهى كلامه رفع اللّه تعالى فى أعلا عليّين مقامه .

و انما نقلناه بطوله لاشتماله على فوايد جمة و فيه قلع أساس منامات الصوفية حيث إنهم يستندون أكثر أباطيلهم إلى الرّؤياء و المنام ، فان كانوا صادقين فى أصل الرّؤياء فانّما هى من أضغاث الأحلام و عمل الشيطان .

و كفى بذلك شاهدا أنّ محيى الدّين حسبما نقلناه عنه سابقا نسب كتاب الفصوص الذى هو من كتب الضلال يقينا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذكر فى أوّل الكتاب أنه رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فى المنام بمحروسة دمشق و بيده كتاب فقال له : هذا كتاب فصوص الحكم خذه و اخرج به إلى الناس ينتفعون به ، و قد ذكر في الكتاب المذكور

[ 315 ]

مضافة إلى ساير أباطيله منامات كلّها مخالفة لدين الاسلام و شريعة سيد الأنام كما يعرفه من رجع إليه من ذوى البصاير و الأفهام .