المعنى

اعلم أنّ الغرض من هذه الخطبة الشريفة الثّنفير عن الدّنيا و التّحذير منها و التّنبيه على مساويها و مخازيها الموجبة للنّفرة و الحذر ، قال عليه السّلام ( دار بالبلاء محفوفة ) أى حفّت بالمكاره و البليّات و أحاطت بها من كلّ جانب الآلام و الآفات و في نسبة محفوفة إلى الدّار توسّع و المراد كون أهلها محفوفة بها .

( و بالغدر معروفة ) قال الشّارح البحراني : استعار لفظ الغدر عمّا يتوهّم الانسان دوامها عليها من أحوالها المعجبة له كالمال و الصحّة و الشّباب فكأنّه في مدّة بقاء تلك الأحوال قد أخذ منها عهدا فكأن التغيّر العارض لها المستلزم لزوال

[ 324 ]

تلك الأحوال أشبه شي‏ء بالغدر ، انتهى .

أقول : مراده عليه السّلام أنّها مشهورة بالغدر و الخداع ، معروفة بالمكر و الغرور غير مختفية حيلتها و مكيدتها على أهل البصيرة ، لأنّها بكونها حلوة خضرة محفوفة بالشهوات و مهيّاة للآمال و الامنيّات ، أعجبت النّاس بشهواتها العاجلة و تحبّبت إليهم بلذّاتها الحاضرة ، و تزيّنت بالغرور ، فاغترّ بها كلّ من كان غافلا عن مكيدتها و افتتن بحبّها كلّ من كان جاهلا بحقيقتها ، حتّى إذا أوقعتهم في حبائل محبّتها أبدت ما كان مضمرا في باطنها من مكرها و حيلتها ، فلم يكن امرء منها في حبرة إلاّ أعقبته بعدها عبرة و لم يلق من سرّائها بطنا إلاّ منحته من ضرّائها ظهرا ، و لم ينل أحد من غضارتها رغبا إلاّ أرهقته من نوائبها تعبا ، فكم من واثق بها قد فجعته ، و ذى طمأنينة قد صرعته ، و ذى ابهة قد جعلته حقيرا ، و ذى نخوة قد ردّته ذليلا .

و كفى في ايضاح غدرها ما قاله بعض قدماء أهل الحقيقة و البصيرة من أنها الآخذة ما تعطى و المورثة بعد ذلك التبعة ، السالبة لمن تكسو و المورثة بعد ذلك العرى ، الواضعة لمن ترفع و المورثة بعد ذلك الجزع ، التاركة لمن يعشقها و المورثة بعد ذلك الشقوة ، المغوية لمن أطاعها الغدّارة بمن أئتمنها ، هي المحبوبة التى لا تحبّ أحدا ، الملزومة التي لا تلزم أحدا يوف لها و تغدر ، و يصدق لها و تكذب و ينجز لها فتخلف ، هى المعوّجة لمن استقام بها ، و المتلاعبة بمن استمكنت منه بيناهى تطعمه إذ حولته مأكولا ، و بيناهى تخدمه إذ جعلته خادما ، و بيناهى تضحكه إذ ضحكت منه ، و بيناهى تشتمه إذ شتمت منه ، و بيناهى تبكيه إذ بكت عليه ، و بيناهى قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة ، و بينا هو فيها عزيز إذ أذلّته ، و بينا هو فيها مكرّم إذ أهانته ، و بينا هو فيها معظم إذ حقرته ، و بينا هو فيها رفيع إذ وضعته ،

و بينا هى له مطيعة إذ عصته ، و بينا هو فيها مسرور إذ أحزنته ، و بينا هو فيها شبعان إذ أجاعته ، و بينا هو فيها حىّ إذ أماتته .

فافّ لها من دار هذه صفتها تضع التاج على رأسه غدوة ، و تعفّر خدّه بالتراب

[ 325 ]

عشية ، و تحلى الأيدى بالأسورة عشيّة ، و تجعلها في الأغلال غدوة ، و تقعد الرّجل على السرير غدوة ، و ترمى به في السجن عشيّة ، تفرش له الدّيباج عشيّة ، و تفرش له التراب غدوة ، و تجمع له الملاهى و المعازف غدوة ، و تجمع عليه النوائح و النوادب عشيّة ، تحبّب إلى أهله قربه عشيّة ، و تحبّب إليهم بعده غدوة ، تطيب ريحه غدوة ،

و تنتن ريحه عشيّة .

فهو في كلّ ساعة متوقّع لسطوتها غير آمن غدرها و خديعتها ، غير ناج من بلائها و فتنها ، تمتّع نفسه من أحاديثها ، و عينه من أعاجيبها ، و يده من جمعها ،

ثمّ يصبح باكى العينين ، صفر اليدين ، في أودية الندامة و الحسرة و الخذلان حيران .

و من ذلك كلّه علم أنها ( لا تدوم أحوالها ) بل يصير حياتها موتا و غناؤها فقرا و فرحها ترحا ، و صحتها سقما ، و قوّتها ضعفا ، و عزّها ذلا ، إلى غير هذه من حالاتها المتبدّلة المتغيّرة .

( و لا تسلم نزالها ) أى لا تسلم النازل في تلك الدّار من آلامها و آفاتها و صدماتها بل هو في كلّ آن مترقّب لإصابة مكروه ، و جل من كلّ بلاء .

فانّ كلّ ذى جسد فيها لا ينفكّ جسده من أنّ الحرّ يذيبه ، و البرد يجمده و السّموم يتخلّله ، و الماء يغرقه ، و الشّمس تحرقه ، و الهواء يسقمه ، و السّباع يفترسه ، و الطّير تنقره ، و الحديد يقطعه ، و الصّدم يحطمه .

ثمّ هو معجون بطينة من ألوان الأسقام و الأوجاع و الأمراض ، فهو مرتهن بها مترصّد لها دائما ، لكونه مخلوقا من الأخلاط الأربعة الّتي لو غلب أحدها على الآخر أحدث أنواعا من المرض ألا ترى إنّ أصحّ الأخلاط و أقربها إلى الحياة هو الدّم ، فاذا خرج عن حدّ الاعتدال يموت صاحبه بموت الفجأة و الطّاعون و الاكلة و السّرسام .

هذا كلّه مع ماله من مقارنة الآفات السّبع الّتى لا يتخلّص منها ذو جسد ،

و هى الجوع ، و الظّماء ، و الحرّ ، و البرد ، و الخوف ، و الجوع « و المرض ظ » و الموت .

[ 326 ]

أحوالها ( أحوال مختلفة ) إن جانب منها اعذوذب و احلولى أمرّ منها جانب فأوبى ، لم تطل على أحد فيها ديمة رخاء إلاّ هتنت عليه مزنة بلاء ، و لم يمس امرء منها في جناح أمن إلاّ أصبح على قوادم خوف .

( و تارات متصرّفة ) يعني أنّ حالاتها تتغيّر بأهلها تارة بعد اخرى ، و مرّة بعد مرّة ، فانّها تنقل أقواما من الجدب إلى الخصب و من الرّجلة إلى الرّكب ،

و من البؤس إلى النّعمة ، و من الشدّة إلى الرّخاء ، و من الشّقاء إلى الرّاحة ،

ثمّ تنقلب بهم فتسلبهم الخصب و تنزع منهم النّعمة و الرّاحة .

و محصّله أنّها دار تصرّف و انتقال و تقلّب من حال إلى حال صحّتها تتبدّل بالسّقم ، و شبابها بالهرم ، و غناها بالفقر ، و فرحها بالتّرح ، و سرورها بالحزن ،

و عزّها بالذّل ، و أمنها بالخوف .

بينا ترى المرء فيها مغتبطا محبورا و ملكا مسرورا في خفض و دعة و نعمة و لذّة و أمن وسعة ، في بهجة من شبابه و حداثة من سنّه ، و بهاء من سلطانه ، و صحّة من بدنه إذا انقلبت به الدّنيا أسرّ ما كان فيها قلبا ، و أطيب ما كان فيها نفسا ،

و أقرّ ما كان فيها عينا ، و ألذّ ما كان فيها عيشا ، فأخرجته من ملكها و غبطتها و خفضها و دعتها و بهجتها ، فأبدلته بالعزّ ذلاّ ، و بالسّرور حزنا ، و بالنّعمة نقمة ،

و بالغنى فقرا ، و بالسّعة ضيقا ، و بالشّباب هرما ، و بالشّرف ضعة و بالحياة موتا .

ففارق الأحبّة و فارقوه ، و خذله إخوانه و تركوه ، و صار ما جمع فيها مفرّقا و ما عمل فيها متبّرا ، و ما شيّد فيها خرابا و صار اسمه مجهولا ، و ذكره منسيّا ،

و حسبه خاملا ، و جسده باليا ، و شرفه وضيعا ، و نعمته وبالا ، و كسبه خسارا ، و ورث أعداؤه سلطانه ، و استذلّوا عقبه ، و استباحوا حريمه ، و تملّكوا أمواله ، و نقضوا عهده و ملكوا جنوده ، فافّ و تفّ لدار حالها هذا ، و شأن ساكنها ذلك ، وفّقنا اللّه تعالى للزّهد فيها و الاعراض عنها .

و بما ذكرنا ظهر أنّ ( العيش فيها مذموم ) و أراد بالعيش التّرفّه فيها و التنعّم بلذّاتها و الالتذاذ بشهواتها و إنّما كان مذموما لكونه شاغلا عن التّوجّه

[ 327 ]

إلى الحقّ و عن الالتفات إلى الآخرة ، و معقّبا للنّدم و الحسرة الطّويلة و العذاب الشّديد يوم القيامة .

قد وقع ذمّه في كتاب اللّه تعالى و على ألسنة الأنبياء و الرّسل متجاوزا عن حدّ الاحصاء قال تعالى اعلموا أنّما الحيوة الدّنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد كمثل غيث أعجب الكفّار نباته ثمّ يهيج فتراه مصفرّاً ثمّ يكون حطاماً و في الآخرة عذاب شديد و قال أيضا من كان يريد الحيوة الدّنيا و زينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون . أولئك الّذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار و حبط ما صنعوا فيها و باطل ما كانوا يعملون و قد وقع تشبيه المتنعّم باللّذات الدّنيويّة و المتلذّذ بشهواتها الملهية له عن التّوجّه إلى عاقبة أمره و الالتفات إلى مآل حاله في كلام الحكماء برجل حمل عليه فيل مغتلم ، فانطلق مولّيا هاربا ، فاتّبعه الفيل فغشيه حتّى اضطرّه إلى بئر فتدلّى فيها و تعلّق بغصنين نابتين على شفير البئر ، فاذا في أصلهما جرذان يقرضان الغصنين أحدهما أبيض و الآخر أسود ، فلمّا نظر إلى تحت قدميه فاذا رؤوس أربع أفاع قد طلعن من جحرهن ، فلمّا نظر إلى قعر البئر إذا تنين فاغر فاه نحوه يريد التقامه ، فلما رفع رأسه إلى أعلى الغصنين إذا عليهما شي‏ء من عسل النّحل فألهاه ما طعم منه و ما نال من لذّة العسل و حلاوته عن الفكر في أمر الأفاعي اللواتى لا يدرى متى يبادرونه ، و ألهاه عن التّنين الّذي لا يدرى كيف مصيره بعد وقوعه في لهواته أما الفيل فهو الأجل ، و أمّا البئر فالدّنيا المملوّة من الآفات و البلايا و الشرور و أمّا الغصنان فالعمر ، و أمّا الجرذان فالليل و النّهار يسرعان في قطع العمر ، و أمّا الأفاعي الأربعة فالأخلاط الأربعة الّتي هي السّموم القاتلة من المرّة و البلغم و الرّيح و الدّم الّتي لا يدرى صاحبها متى تهيج به ، و أمّا التّنين الفاغر فاه ليلتقمه فالموت الرّاصد الطالب ، و أمّا العسل الّذى اغترّ بأكله فما ينال النّاس من عيش الدّنيا و لذّتها و شهوتها و نعيمها و دعتها من لذّة الطّعام و الشّراب و اللباس و الشم و اللّمس و البصر ، هذا هو العيش المذموم .

[ 328 ]

و بقباله العيش الممدوح و هو العيش الهني‏ء الّذي اشير إليه في الحديث القدسي المرويّ في البحار من إرشاد القلوب للّديلمي عن أمير المؤمنين عليه السّلام إنّ اللّه تعالى شأنه قال للنّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المعراج في جملة مخاطباته : يا أحمد هل تدرى أىّ عيش أهني و أىّ حياة أبقى ؟ قال : اللهمّ لا ، قال : أمّا العيش الهني‏ء فهو الّذى لا يفتر صاحبه عن ذكرى و لا ينسى نعمتي و لا يجهل حقّى ، يطلب رضائي في ليله و نهاره ، و أمّا الحياة الباقية فهى الّتي تعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدّنيا و تصغر في عينه و تعظم الآخرة عنده و يؤثر هواى على هواه ، و يبتغى مرضاتي ، و يعظّم حقّ عظمتي ، و يذكر عملي به ، و يراقبنى بالليل و النّهار عند كلّ سيّئة أو معصية ، و ينقى قلبه عن كلّ ما أكره ، و يبغض الشيطان و وساوسه ، و لا يجعل لابليس على قلبه سلطانا و لا سبيلا ، فاذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّا حتّى اجعل قلبه لي و فراغه و اشتغاله و همّه و حديثه من النّعمة الّتي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقى و أفتح عين قلبه و سمعه حتّى يسمع بقلبه و ينظر بقلبه إلى جلالي و عظمتي ، و أضيّق عليه الدّنيا و أبغّض إليه ما فيها من اللذات ، و أحذّره من الدّنيا و ما فيها كما يحذّر الرّاعى على غنمه مراتع الهلكة فاذا كان هكذا يفرّ من النّاس فرارا ، و ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء ، و من دار الشيطان إلى دار الرّحمن ، يا أحمد لأزيننّه بالهيبة و العظمة ، فهذا هو العيش الهنى‏ء و الحياة الباقية ، و هذا مقام الرّاضين ، الحديث ( و الأمان فيها معدوم ) لأنها إذا كانت بالبلاء محفوفة و بالخديعة موصوفة مختلفة الحالات متصرّفة التارات حسبما عرفت تفصيلا و توضيحا فكيف يؤمن من بوائقها و يطمئنّ من طوارقها ، و كيف يسلم من فجعتها و يستراح من خدعتها ،

و يتخلّص من غيلتها ؟ .

فهى غرارة ضرارة حائلة زائلة نافذة بائدة أكالة غوّالة حيّها بعرض موت و صحيحها بعرض سقم ، ملكها مسلوب ، و مالها منهوب ، و عزيزها مغلوب ،

و موفورها منكوب ، كيف لا و قد رايتها تنكرها لمن أمن بها و دان لها و اطمئنّ إليها حتّى ظعنوا عنها لفراق الأبد هل زوّدتهم إلاّ السغب ، أو أحلّتهم إلاّ الضنك ،

[ 329 ]

أو نوّرت لهم إلاّ الظلمة ، أو أعقبتهم الاّ الحسرة و الندامة ، فبئست الدّار لمن لم يتّهمها و لم يكن فيها على وجل .

( و انما أهلها فيها أغراض مستهدفة ترميهم بسهامها ) قال الشارح البحراني استعار لفظ الأغراض و رشح بذكر الاستهداف و كذلك استعار لفظ الرّمى لايقاع المصائب بهم و رشح بذكر السهام .

أقول : بل هو استعارة مكنية تخييلية ترشيحية فانّه عليه الصلاة و السلام شبه الدّنيا بنبال ينصب غرضا و يتّخذ هدفا يرمى إليه بسهامه ، فطوى عن ذكر المشبّه به و ذكر المشبّه كما هو شأن الاستعارة المكنية ، و أثبت له ما هو من لوازم المشبّه به تخييلا و هو الأغراض و السهام ، و رشح بذكر ما هو من ملايمات المشبّه به و هو الرّمى و الاستهداف .

و محصّل المراد أنّ الناس في الدّنيا بمنزلة أغراض منصوبة للهدفية ترمى الدّنيا إليهم بسهامها أى مصائبها و محنها و آلامها قال الشاعر :

رماني الدّهر بالارزاء حتّى
فؤادى في غشاء من نبال

فصرت إذا أصابتنى سهام
تكسّرت النصال على النصال

و قوله عليه السّلام ( و تفنيهم بحمامها ) ترشح آخر أى تهلكهم بموتها .

ثمّ ذكرهم بالاعتبار بأحوال السلف الماضين و ما جرت عليهم من تقلّبات الدّنيا و تصاريفها و تنكّر حالاتها و اغتيالها لهم و ما صار إليه عاقبة أمورهم ايضاحا بذلك لما قدّمه سابقا من غدر الدّنيا و عدم دوام أحوالها و سلامة نزالها و انتفاء الأمان فيها و إفنائها بحمامها و تنبيها به على أنّ الباقين فيها سيحلقون بالماضين و يحذون حذوهم و ينقلون من القصور إلى القبور ، و يبدّلون السّرور بالويل و الثّبور .

فقال عليه السّلام ( و اعلموا عباد اللّه أنكم و ما أنتم فيه من هذه الدّنيا ) من متاعها و حطامها و زبرجها و زخارفها ( على سبيل من قد مضى قبلكم ) من أهل الدّيار الخالية و الربوع الخاوية ( ممّن كان أطول منكم أعمارا ) منهم عوج بن عناق كان جبارا عدو اللّه و للاسلام ، و له بسطة في الجسم و الخلق

[ 330 ]

و كان يضرب يده فيأخذ الحوت من أسفل البحر ثمّ يرفعه إلى السّماء فيشويه في حرّ الشّمس و كان عمره ثلاثة آلاف و ستمأة سنة .

و منهم عاد قوم هود فقد كانت بلادهم في البادية و كان لهم زرع و نخل كثير و لهم أعمار طويلة فعبدوا الأصنام و بعث اللّه إليهم هودا يدعوهم إلى الاسلام و خلع الأنداد فأبوا .

و منهم شداد بن عاد الّذى بنى ارم ذات العماد في عدّة ثلاثمأة سنة و كان عمره تسعمأة سنة قال في إكمال الدّين : وجدت في كتب معمر أنّه ذكر عن هشام بن سعيد الرّحال ، قال : إنّا وجدنا حجرا بالاسكندريّة مكتوبا فيه : أنا شدّاد بن عاد أنا شيّدت إرم ذات العماد الّتي لم يخلق مثلها في البلاد ، و جنّدت الأجناد و شددت بساعدى الواد .

و منهم لقمان بن عاد و كان من بقيّة عاد الاولى فقد روى أنّه عاش ثلاثة آلاف و خمسمأة سنة .

و منهم فرعون ذو الأوتاد قال في مجمع البيان : قال الضحّاك : انّه عاش أربعمأة سنة و كان قصيرا ذميما و هو أوّل من خضب بالسّواد .

و منهم عمرو بن عامر الملقّب بمزيقيا و ماء السّماء ملك أرض سبا فقد عاش ثمانمأة سنة أربعمأة سنة سوقة في حياة أبيه و أربعمأة سنة ملكا و كان يلبّس كلّ يوم حليتين في سنّى ملكه فاذا كان بالعشىّ مزق الحليتين حتّى لا يلبسهما أحد غيره سمّى مزيقيّا و سمّى بماء السّماء أيضا لأنّه كان حياة أينما نزل كمثل ماء السّماء .

و منهم أبو هبل بن عبد اللّه بن كنانة عاش ستمأة سنة .

و منهم جلهمة بن اود و يقال له طىّ و اليه تنسب قبيلة طىّ كلّها ، و كان له ابن أخ يقال له : بجابر بن ملك بن اود ، و قد عاش كلّ منهما خمسمأة سنة .

و منهم عبيد بن الأبرص عاش ثلاثمأة سنة فقال :

فنيت و أفنانى الزّمان و أصبحت
لدىّ بنو العشرون هنّ الفواقد

و منهم عزيز مصر الّذى كان في زمن يوسف و أبوه و جدّه و هم الوليد بن

[ 331 ]

الرّيان بن ذوسع و كان عمر العزيز سبعمأة سنة و عمر الرّيان ألف و سبعمأة سنة و عمر ذوسع ثلاثة آلاف سنة .

و منهم الضحّاك صاحب الحيّتين عاش ألفا و مأتى سنة .

و منهم افريدون العادل عاش فوق ألف سنة .

و منهم الملك الذى أحدث المهرجان فقد زعمت الفرس انّه عاش ألفى سنة و خمسمأة .

إلى غير هؤلاء من المعمّرين الّذين لا نطول بذكرهم ، و انّما ذكرنا هؤلاء تاييدا لما قاله أمير المؤمنين عليه السّلام و ايضاحا له ، لأنّ هؤلاء مع كونهم أطول أعمارا قد كانوا ( أعمر ديارا و أبعد آثارا ) أيضا حسبما أشرنا إليه .

و المراد ببعد الآثار بعدها عن أن يقتدر على مثلها المخاطبون الّذين خاطبهم عليه السّلام بهذه الخطبة و كفى بذلك شاهدا بناء الهرمين بمصر ، و هما إلى الآن باقيان و قد بناهما عزيز مصر وليد بن الرّيان كما نقله تفصيلا الصّدوق في كتاب اكمال الدّين و قد اشير الى بعد آثار بعض من تقدّم ذكرهم في قوله تعالى ألم تر كيف فعل ربّك بعاد . إرم ذات العماد . الّتي لم يخلق مثلها في البلاد . و ثمود الّذين . جابوا الصخر بالواد . و فرعون ذى الأوتاد . الّذين طغوا في البلاد . فأكثروا . فيها الفساد . فصبّ عليهم ربّك سوط عذاب .

قال أمين الاسلام الطّبرسي : الآية خطاب للنّبى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تنبيه للكفّار على ما فعله سبحانه بالامم السّالفة لما كفرت باللّه و بأنبيائه و كانت أطول أعمارا و أشدّ قوّة و عاد قوم هود .

و اختلفوا في إرم على أقوال :

أحدها أنّه اسم قبيلة و قيل إنّه جدّ عاد و هو عاد بن عوص بن إرم بن سام ابن نوح .

و ثانيها أنّه اسم بلد و هو دمشق و قيل : هو مدينة الاسكندريّة و قيل مدينة شدّاد بن عاد فلمّا أتمّها و أراد أن يدخلها أهلكه اللّه بصيحة نزلت من السّماء

[ 332 ]

و ثالثها أنّه لقب عاد و قوله « ذات العماد » معناه ذات الطول و الشدّة و قيل : ذات الأبنية العظام المرتفعة ، و قال ابن زيد ذات العماد في احكام البنيان « التي لم يخلق مثلها » أى مثل أبنيتها « في البلاد و ثمود الذين جابوا الصخر بالواد » أى قطعوا الصخر و نقبوها بالوادى الذين كانوا ينزلونه و هو وادى القرى .

قال ابن عباس : كانوا ينحتون الجبال فيجعلون منها بيوتا كما قال تعالى و تنحتون من الجبال بيوتاً فارهين « و فرعون ذى الأوتاد » قال عليّ بن إبراهيم القمّي عمل الاوتاد التي أراد أن يصعد بها إلى السماء .

و قال الطبرسي قيل في معناه أقوال :

أحدها أنه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها .

و الثاني انه كان يعذّب بالأوتاد و ذلك أنه إذا غضب على أحد و تد يديه و رجليه و رأسه على الأرض و الثالث أنّ معناه ذو البنيان و البنيان أوتاد .

و الرّابع أنه ذو الجموع و الجنود الكثيرة بمعنى أنهم يشدّدون ملكه و يقوّون أمره كما يقوّى الوتد الشي‏ء .

و الخامس أنه سمّى ذو الأوتاد لكثرة جيوشه السائرة في الأرض و كثرة أوتاد خيامهم فعبر بكثرة الأوتاد عن كثرة الأجناد و كيف كان فقد ظهر بذلك كلّه أنّ السلف الماضين كانوا طويلة الأعمار عامرة الدّيار بعيدة الآثار من أن يصفها الواصفون أو يقوى على إتيان مثلها الغابرون و مع اتّصافهم بهذه الابهة و العظمة و القوّة و الجلال :

( أصبحت أصواتهم هامدة ) و هذه الجملة استينافية بيانية فانه لما نبّه المخاطبين على أنهم على سبيل من قد مضى قبلهم فكان لقائل أن يستفهم و يقول : كيف كان حال الماضين و مآل أمرهم ؟ أجاب عليه السّلام بأنّ أصواتهم العالية الجهورية بالأمر

[ 333 ]

و النّهى و الحكم و الالزام صارت ساكتة ذاهبة الاثر بالمرّة .

( و رياحهم راكدة ) قال الشارح البحراني : ركود رياحهم كناية عن سكون أحوالهم و خمول ذكرهم بعد العظمة في الصّدور انتهى .

و الأظهر أن يراد أنّ أعاصيرهم العاصفة الشديدة الهبوب التى كانت تهب بالرّتق و الفتق و السّياسات صارت ساكنة .

( و أجسادهم بالية ) بعد بضاضتها و نضارتها ( و ديارهم خالية ) من أهلها بعد عمارتها ( و آثارهم عافية ) مندرسة بعد عظمتها و جلالتها .

( فاستبدلوا بالقصور المشيدة ) المجصّصة الرّفيعة البنيان المحكمة القواعد و الأركان ( و النمارق الممهّدة ) أى الوسائد المهيئة للمتكئين ( الصخور و الأحجار المسنّدة ) اى المستندة بعضها إلى بعض أو أنها كانت لهم سنادا ( و القبور اللاّطئة الملحدة ) أى اللاصقة بالأرض المعمول لها اللّحد ( التى قد بنى بالخراب فناؤها ) أى على الخراب ، و المراد خراب نفس القبور و تسرّع انهدامها ، و انما نسب البناء إلى الفناء و لم يقل قد بنيت بالخراب ، لأنّه من باب الكناية باقتضاء البلاغة و قد عرفت في ديباجة الشرح في مبحث الكناية أنّهم يقصدون إثبات شي‏ء لشي‏ء فيتركون التصريح باثباته له و يثبتونه لمتعلّقه كما في قول الشّاعر :

إنّ المروّة و السّماحة و الندى
في قبّة ضربت على ابن الحشرج

جعل الأوصاف الثلاثة في قبّة الممدوح و كنى به عن ثبوتها له و قول الآخر في وصف الخمر

صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسّها حجر مسّته سرّاء

كنى عن نفى الحزن عنها بنفيها عن ساحتها و هو أبلغ من التّصريح به و يحتمل أن يكون المراد خراب الأبدان المدفونة فيها و فناؤها بالبلى ( و شيّد بالتراب بناؤها ) و في وصفها بذلك أى بكون شيدها التراب دون الجصّ ايماء إلى هوانها و هوان من دفن فيها .

[ 334 ]

( فمحلّها مقترب و ساكنها مغترب ) يحتمل أن يكون المراد أنّ محلّ القبور و مكانها قريب من الأحياء و لكن ساكنها غريب عنهم ، و أن يكون المراد أنّ محلّ كلّ منها قريب من الآخر و لكن ساكنوها غرباء ، يعني أنّهم تدانوا في خططهم و قربوا في مزارهم و بعدوا في لقائهم .

( بين أهل محلّة موحشين ) أى ذوى وحشة ليس بينهم مودّة و لا الفة و على كون موحشين بصيغة المفعول فالمعنى استيحاش الاحياء منهم ، و حاصله أنّهم لا يستأنسون بأحد و لا يستأنس بهم أحد لا من الأحياء و لا من الأموات ( و أهل فراغ متشاغلين ) أى فراغ من الأمور الدّنيويّة متشاغلين بالامور البرزخيّة من السؤال و الجواب و الثواب و العقاب .

( لا يستأنسون بالأوطان ) كاستيناس الاحياء بأوطانهم ( و لا يتواصلون تواصل الجيران ) كتوصّل أهل الدّنيا بجيرانهم ( على ما بينهم من قرب الجوار و دنوّ الدّار ) و حاصله أنّهم جيران لا يتأنسون و أحياء لا يتزاورون ، بليت بينهم عرى التّعارف ، و انقطعت منهم أسباب التّواصل ، فكلّهم و حيدوهم جميع ، و بجانب الهجران و هم جيران ( و كيف يكون بينهم تزاور ) و تأنّس ( و قد طحنهم بكلكله البلى ) استعارة بالكناية شبّه البلى بالجمل الضّروس الّذى يرضّ و يدقّ ما يركب عليه بكلكله أى صدره فأثبت له الكلكل تخييلا ، و الطحن ترشيحا ، و الجامع أنّ البلى يجعل الأجساد أجزاء دقاقا مثل الدّقيق و الطّحين ، و كذلك يجعل الضّروس بكلكله ما برك عليه عند الصّيال ، و محصّله استبعاد تزاورهم مع اضمحلال أجسامهم و انحلالها بالبلى و كونهم ممزّقين كلّ ممزّق ( و أكلتهم الجنادل و الثرى ) استعارة تبعيّة كما في قولهم : نطقت الحال ،

و المراد إفناؤها لهم ، فاستعار لفظ الاكل للافناء أى كيف يكون بينهم تزاور و قد أفنتهم الجنادل و التّراب هذا .

و لا يخفى عليك أنّ إنكار التّزاور و التأنس إمّا مخصوص بغير المؤمنين

[ 335 ]

أو محمول على التزاور بالأجساد ، و هو الأظهر ، لأنّ المستفاد من الأخبار الكثيرة ثبوت التّزاور بين أرواحهم ، و قد مضت عدّة منها في أواخر التّذييل الثالث من شرح الفصل السّابع من فصول الخطبة الثانية و الثّمانين فليراجع ثمّة .

و رويت هنا مضافا إلى ما سبق من البحار من المحاسن عن ابن محبوب عن إبراهيم بن إسحاق الجازى قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام أين أرواح المؤمنين ؟

فقال : أرواح المؤمنين في حجرات الجنّة يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يتزاورون فيها و يقولون ربّنا أقم لنا السّاعة لتنجز لنا ما وعدتنا ، قال : قلت :

فأين أرواح الكفار ؟ فقال : في حجرات النّار يأكلون من طعامها و يشربون من شرابها و يتزاورون فيها و يقولون : ربّنا لا تقم لنا السّاعة لتنجز لنا ما وعدتنا .

و من المحاسن أيضا عن ابن فضّال عن حماد بن عثمان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : ذكر الأرواح أرواح المؤمنين فقال : يلتقون ، قلت : يلتقون ؟ قال : نعم يتسائلون و يتعارفون حتى إذا رأيته قلت فلان .

و فيه من الكافي باسناده عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام إنّ الأرواح في صفة الأجساد في شجر الجنة تعارف و تسائل ، فاذا قدمت الرّوح على الأرواح تقول :

دعوها فانها قد أقبلت من هول عظيم ، ثمّ يسألونها ما فعل فلان و ما فعل فلان ، فان قالت لهم : تركته حيا ارتجوه ، و إن قالت لهم : قد هلك ، قالوا : قد هوى هوى و الاخبار في هذا المعنى كثيرة و لا حاجة إلى الاطالة .

ثمّ إنه عليه السّلام لما ذكر المخاطبين بشرح أحوال الماضين و عظم ما حلّ بهم من احوال القبر و دواهيه عقّب عليه السّلام ذلك بالتنبيه على قرب لحاقهم بهم فقال ( و كأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه ) أى انتقلتم من ذروة القصور إلى وهدة القبور و بدّلتم النمارق الممهّدة بالأحجار المشيدة ، و دار الانس و العيش و السعة ببيت الوحدة و الوحشة و الضيق و الغربة ( و ارتهنكم ذلك المضجع ) أى أخذكم أخذ المرتهن لرهنه ( و ضمّكم ذلك المستودع ) أى ضغطكم القبر الذى هو محلّ الاستيداع

[ 336 ]

قال الشارح البحراني : و اطلق عليه لفظ المستودع باعتبار كونهم سيخرجون منه يوم القيامة ، انتهى .

و قد تقدّم بيان ضغطة القبر تفصيلا و تحقيقا مع الأخبار الواردة فيها في التذييل الثالث من شرح الفصل السابع من الخطبة الثانية و الثمانين و لا حاجة إلى الاعادة .

ثمّ ذكرّهم عليه السّلام بدواهي القيامة و أفزاعها فقال ( فكيف بكم لو تناهت بكم الأمور ) أى الامور البرزخية ( و بعثرت القبور ) أى قلب ترابها و بعث الموتى الذين فيها و جدّدوا بعد اخلاقهم و جمعوا بعد افتراقهم لنقاش الحساب و معاينة الجزاء و هذه اللفظة من ألفاظ الكتاب العزيز قال سبحانه إذا السّماء انفطرت .

و إذا الكواكب انتثرت . و إذا البحار فجّرت . و إذا القبور بعثرت . علمت نفس . ما قدّمت و أخّرت و قال أيضا أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور . و حصّل ما في . الصّدور . إنّ ربّهم بهم يومئذ لخبير أى بحث عن الموتى فاخرجوا عنها يعني عند البعث .

( هنا لك تبلو كلّ نفس ما أسلفت و ردّوا إلى اللّه موليهم الحقّ و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون ) اقتباس من الآية الشّريفة في سورة يونس أى في ذلك المقام يعني مقام البعث تختبر كلّ نفس ما قدّمت من عمل فتعاين نفعه و ضرّه ، و قرء بعضهم تتلو أى تقرء من التلاوة أو تتبع من التّلو ، و ردّوا إلى اللّه موليهم الحقّ أى إلى ربّهم الصّادق ربوبيّته المتولّي لأمرهم على الحقيقة لا ما اتّخذوه مولى و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، أى ضاع عنهم ما كانوا يدعونه أنّهم شركاء اللّه و أنّهم تشفع لهم روى فى البحار من كتاب مطالب السّؤول عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال :

انظروا إلى الدّنيا نظر الزّاهدين فيها فانّها و اللّه عن قليل تشقى المترف ، و تحرّك السّاكن ، و تزيل الثّاوى ، صفوها مشوب بالكدر ، و سرورها منسوج بالحزن ،

و آخر حياتها مقترن بالضعف ، فلا يعجبنّكم ما يغرّنكم منها فعن كثب تنقلون

[ 337 ]

عنها ، و كلّ ما هو آت قريب ، و هنا لك تبلو كلّ نفس مأ اسلفت و ردّوا إلى اللّه موليهم الحقّ و ضلّ عنهم ما كانوا يفترون .