« حكم الحكمين و اجتماعهما و ما جرى فى ذلك »

و اعلم ان التحكيم كان برأى عمرو بن العاص حين رأى ان دلائل الفتح و النصر لأهل العراق أعنى عسكر علىّ عليه السّلام ظهرت و دلائل الخذلان و الادبار على أهل الشام و هم عسكر معاوية قد وضحت و كان ذلك عقيب ليلة الهرير و هى ليلة عظيمة يضرب بها المثل فرفع أهل الشام برأى عمرو مصاحف اعتصاما من سيوف أهل العراق حين رأوا ان عسكر العراق غلبوا عليهم .

فلا بد لنا الا ان نذكر ما جرى بينهما فى الصفين لأن عدّة من كتبه عليه السّلام يأتي فى ذلك من بعد ما مضت عدّة من الخطب فى ذلك من قبل و سنشير إلى مواضعها و مداركها إنشاء اللّه تعالى و نحن نذكر ما اورده فى ذلك أبو جعفر الطبرى فى تاريخه و نصر بن مزاحم فى كتاب الصفين و المسعودى فى مروج الذهب حتى يتبيّن شأن الحكمين و خديعة عمرو بن العاص لابى موسى الأشعرى و غير ذلك مما تسمعه .

فى تاريخ أبى جعفر محمّد بن الجرير الطبرى : و في هذه السنة يعنى السنة السادسة و الثلاثين وجّه علىّ عليه السّلام عند منصرفه من البصرة إلى الكوفة و فراغه من الجمل جرير بن عبد اللّه البجلى إلى معاوية يدعوه إلى بيعته ، و كان جرير حين خرج علىّ إلى البصرة لقتال من قاتله بها بهمدان عاملا عليها كان عثمان استعمله عليها فلما قدم علىّ الكوفة منصرفا اليها من البصرة كتب اليهما يأمرهما بأخذ البيعة له على من قبلهما من النّاس و الانصراف اليه ففعلا ذلك و انصرفا اليه .

فلما أراد علىّ توجيه الرسول إلى معاوية قال جرير بن عبد اللّه ابعثنى اليه فانّه لى ودّ حتّى آتيه فأدعوه إلى الدخول فى طاعتك فقال الاشتر لعلىّ لا تبعثه فو اللّه إنى لأظن هواه معه فقال علىّ دعه حتّى ننظر ما الّذى يرجع به الينا فبعثه اليه و كتب معه كتابا يعلمه اجتماع المهاجرين و الانصار على بيعته و نكث طلحة و الزبير و ما كان من حربه اياهما و يدعوه إلى الدخول فيما دخل فيه المهاجرون و الانصار من طاعته .

[ 218 ]

فشخص اليه جرير فلما قدم عليه ماطله و استنظره و دعا عمرا 1 فاستشاره فيما كتب به اليه فأشار عليه أن يرسل إلى وجوه الشام و يلزم عليا دم عثمان و يقاتله بهم ففعل ذلك معاوية و كان أهل الشام لما قدم عليهم النعمان بن بشير بقميص عثمان الّذى قتل فيه مخضبا بدمه و باصابع نائلة زوجته 2 مقطوعة بالبراجم اصبعان منها و شى‏ء من الكف و اصبعان مقطوعتان من اصولهما و نصف الابهام ، وضع معاوية القميص على المنبر و كتب بالخبر إلى الاجناد و ثاب اليه الناس و بكوا سنة و هو على المنبر و الاصابع معلقه فيه .

و آلى الرجال من أهل الشام ألا يأتوا النساء و لا يمسهم الماء للغسل إلا من احتلام و لا يناموا على الفرش حتّى يقتلوا قتلة عثمان و من عرض دونهم بشى‏ء او تفنى ارواحهم فمكثوا حول القميص سنة و القميص يوضع كل يوم على المنبر و يجلّله احيانا فيلبسه و علق فى اردانه اصابع نائلة .

فلما قدم جرير بن عبد اللّه على علىّ فاخبره خبر معاوية و اجتماع أهل الشام معه على قتاله و انهم يبكون على عثمان و يقولون ان عليا قتله و آوى قتلته و انهم لا ينتهون عنه حتّى يقتلهم او يقتلوه .

فقال الاشتر لعلىّ قد كنت نهيتك ان تبعث جريرا و اخبرتك بعداوته و غشه و لو كنت بعثتنى كان خيرا من هذا الّذى اقام عنده حتى لم يدع بابا يرجو فتحه الافتحه و لا بابا يخاف منه إلا اغلقه .

فقال جرير لو كنت ثمّ لقتلوك لقد ذكروا انك من قتلة عثمان . فقال الاشتر لو أتيتهم و اللّه يا جرير لم يعينى جوابهم و لحملت معاوية على خطة اعجله فيها عن الفكر و لو اطاعنى فيك أمير المؤمنين لحبسك و اشباهك فى محبس لا تخرجون منه حتّى

-----------
( 1 ) و هو عمرو بن العاص .

-----------
( 2 ) يعنى ان نائلة كانت زوجة عثمان و هى احدى زوجاته و نسبها كما قاله الطبرى فى تاريخه : هى نائلة ابنة الفرافصة بن الاحوص بن عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم ابن عدى بن جناب بن كلب . و لذا يقال لها نائلة الكلبية .

[ 219 ]

تستقيم هذه الامور فخرج جرير بن عبد اللّه إلى قرقيساء و كتب إلى معاوية فكتب اليه يأمره بالقدوم عليه و خرج أمير المؤمنين علىّ عليه السّلام فعسكر بالنخيلة و قدم عليه عبد اللّه بن عبّاس بمن نهض معه من أهل البصرة .

و استخلف عبد اللّه بن عباس على البصرة ثمّ سارمنها إلى الكوفة فتهيأ فيها إلى صفين فاستشار النّاس فى ذلك فاشار عليه قوم ان يبعث الجنود و يقيم و اشار آخرون بالمسير فأبى إلاّ المباشرة فجهّز الناس .

و قال المسعودى فى مروج الذهب و كان سير على عليه السّلام من الكوفة الى صفين لخمس خلون من شوال سنة ست و ثلاثين و استخلف على الكوفة أبا مسعود عقبة بن عامر الانصارى .

فبلغ ذلك معاوية فدعا عمرو بن العاص فاستشاره فقال أمّا إذ بلغك انّه يسير فسر بنفسك و لا تغب عنه برأيك و مكيدتك . قال أمّا إذا يا أبا عبد اللّه فجهز النّاس فجاء عمرو فحضّض النّاس و ضعف عليّا و أصحابه و قال : إن أهل العراق قد فرقوا جمعهم و اوهنوا شوكتهم و فلّوا احدهم ثمّ إن أهل البصرة مخالفون لعليّ قد وترهم و قللهم و قد تفانت صناديدهم و صناديد أهل الكوفة يوم الجمل و إنّما سار في شرذمة قليلة منهم من قد قتل خليفتكم فاللّه اللّه في حقّكم ان تضيّعوه و في دمكم ان تبطلوه و كتب في اجناد أهل الشام و عقد لواءه لعمرو فعقد لوردان غلامه فيمن عقد و لابنيه عبد اللّه و محمّد و عقد عليّ لغلامه قنبر ثمّ قال عمرو :

هل يغنين وردان عنى قنبرا
و تغني السكون عنى حميرا

إذا الكماة لبسوا السّنوّرا

فبلغ ذلك عليّا عليه السّلام فقال :

لأصبحنّ العاصى بن العاصى
سبعين ألفا عاقدى النواصى

مجنّنين الخيل بالقلاص
مستحقين حلق الدّلاص

فلمّا سمع ذلك معاوية قال ما أرى ابن أبى طالب إلاّ قد وفى لك فجاء معاوية يتأنى فى مسيره و كتب إلى كلّ من كان يرى أنه يخاف عليّا او طعن عليه و من

[ 220 ]

اعظم دم عثمان و استعواهم اليه .

فبعث علىّ زياد بن النضر الحارثى طليعة فى ثمانية آلاف و بعث معه شريح ابن هانى فى أربعة آلاف و خرج علىّ من النخيلة بمن معه فلما دخل المدائن شخص معه من فيها من المقاتلة و ولى على المدائن سعد بن مسعود الثقفى عم المختار بن أبى عبيد و وجه علىّ من المدائن معقل بن قيس فى ثلاثة آلاف و أمره أن يأخذ على الموصل حتّى يوافيه .

قال المسعودى فى مروج الذهب و قد تنوزع فى مقدار ما كان مع على عليه السّلام من الجيش فمكثّر و مقلّل و المتفق عليه من قول الجميع تسعون ألفا و قال رجل من أصحاب على عليه السّلام لما استقروا ممايلى الشام من ابيات كتب بها إلى معاوية .

اثبت معاوى قد اتاك الحافل
تسعون ألفا كلّهم مقاتل

عما قليل يضمحلّ الباطل

و سار معاوية من الشام و قد تنوزع فى مقدار من كان معه فمكثّر و مقلّل و المتفق عليه من قول الجميع خمس و ثمانون ألفا .