قال الطبري قال أبو مخنف و حدثني تميم بن الحارث الأزدى عن جندب بن عبد اللّه قال إنا لما انتهينا إلى معاوية وجدناه قد عسكر في موضع سهل افيح قد اختاره قبل قدومنا إلى جانب شريعة في الفرات ليس في ذلك الصقع شريعة غيرها و جعلها في حيزة و بعث عليها أبا الاعور يمنعها و يحميها فارتفعنا على الفرات رجاء أن نجد شريعة غيرها نستغنى بها عن شريعتهم فلم نجدها فأتينا عليّا عليه السّلام فاخبرناه بعطش النّاس و أنا لا نجد غير شريعة القوم قال فقاتلوهم عليها فجاءه الاشعث بن قيس الكندي فقال أنا اسير إليهم فقال له عليّ عليه السّلام فسر إليهم فسار و سرنا معه حتى إذا دنونا من الماء ثاروا في وجوهنا ينضحوننا بالنبل و رشقناهم و اللّه بالنبل ساعة ثمّ اطعنّا و اللّه بالرماح طويلا ثمّ صرنا آخر ذلك نحن و القوم إلى السيوف فاجتلدنا بها ساعة .
ثمّ ان القوم اتاهم يزيد بن أسد البجلي ممدا في الخيل و الرجال فأقبلوا نحونا فقلت في نفسى فأمير المؤمنين لا يبعث إلينا بمن يغني عنّا هؤلاء فذهبت و التفت فاذا
[ 225 ]
عدة القوم أو اكثر قد سرحهم إلينا ليغنوا عنا يزيد بن اسد و أصحابه عليهم شبث بن ربعي الرياحى فو اللّه ما ازداد القتال الاشدة و خرج إلينا عمرو بن العاص من عسكر معاوية في جند كثير فاخذ يمدّ أبا الاعور و يزيد بن اسد و خرج الاشتر من قبل عليّ عليه السّلام في جمع عظيم فلما رأى الأشتر عمرو بن العاص يمدّ أبا الاعور و يزيد بن أسد امدّ الاشعث ابن قيس و شبث بن ربعي فاشتدّ قتالنا و قتالهم فما أنسى قول عبد اللّه بن عوف بن الأحمر الأزدى :
خلّوا لنا ماء الفرات الجاري
أو اثبتوا لجحفل جرّار
لكلّ قرم مستميت شاري
مطاعن برمحه كرار
ضرّابها مات العدى مغوار
قال أبو مخنف و حدثني رجل من آل خارجة بن التميمي أن ظبيان بن عمارة جعل يومئذ يقاتل و هو يقول :
هل لك يا ظبيان من بقاء
فى ساكن الأرض بغير ماء
لا و إله الأرض و السماء
فاضرب وجوه الغدر الأعداء
بالسيف عند حمس الوغاء
حتّى يجيبوك إلى السّواء
قال ظبيان فضربناهم و اللّه حتّى خلونا و اياه و قال محمّد بن محنف بن سليم فقاتلناهم فما أمسينا حتى رأينا سقاتنا و سقاتهم يزدحمون على الشريعة و ما يؤذي انسان انسانا ، و قال أبو الحسن عليّ بن الحسين بن عليّ المسعودي في مروج الذهب : و عليّ عليه السّلام بدور في عسكره بالليل فسمع قائلا و هو يقول :
أ يمنعنا القوم ماء الفرات
و فينا الرماح و فينا الحجف
و فينا عليّ عليه السّلام له صولة
إذا خوّفوه الردى لم يخف
و نحن غداة لقينا الزبير
و طلحة خضنا غمار التلف
فما بالنا الامس اسد العرين
و ما بالنا اليوم شاء النجف
قال أبو مخنف و حدثنى يوسف بن يزيد عن عبد اللّه بن عوف بن الأحمر قال لما قدمنا على معاوية و أهل الشّام بصفين وجدناهم قد نزلوا منزلا اختاروه مستويا
[ 226 ]
بساطا واسعا أخذوا الشريعة فهى في أيديهم .
و قال المسعودي في مروج الذهب و عسكر معاوية في موضع سهل افيح اختاره قبل قدوم عليّ عليه السّلام على شريعة لم يكن على الفرات في ذلك الموضع اسهل منها للوارد إلى الماء و ما عداها اخراق عالية و مواضع إلى الماء وعرة و وكل أبا الاعور السلمي بالشريعة مع أربعين ألفا و كان على مقدمته .
و قال أبو مخنف و قد صفّ أبو الاعور السلمي عليها الخيل و الرجال و قد قدّم المرامية امام من معه و صف صفا معهم من الرّماح و الدرق و على رؤوسهم البيض و قد اجمعوا على أن يمنعونا الماء ففزعنا إلى امير المؤمنين فخبرناه بذلك فدعا صعصعة ابن صوحان فقال له ائت معاوية و قل له انا سرنا مسيرنا هذا إليكم و نحن نكره قتالكم قبل الاعذار إليكم و إنك قدمت إلينا خيلك و رجالك فقاتلتنا قبل أن نقاتلك و بدأتنا بالقتال و نحن من رأينا الكف عنك حتّى ندعوك و نحتج عليك و هذه اخرى قد فعلتموها قد حلتم بين النّاس و بين الماء و الناس غير منتهين أو يشربوا فابعث إلى أصحابك فليخلّوا بين النّاس و بين الماء و يكفوا حتّى ننظر فيما بيننا و بينكم و فيما قدمنا له و قدمتم له و إن كان أعجب إليك أن نترك ما جئنا له و نترك النّاس يقتتلون على الماء حتّى يكون الغالب هو الشارب فعلنا .
فقال معاوية لأصحابه ما ترون فقال الوليد بن عقبة امنعهم الماء كما منعوه عثمان بن عفان حصروه أربعين صباحا يمنعونه برد الماء و لين الطعام ، اقتلهم عطشا قتلهم اللّه عطشا ، فقال له عمرو بن العاص خلّ بينهم و بين الماء فان القوم لن يعطشوا و أنت ريّان و لكن بغير الماء فانظر ما بينك و بينهم فاعاد الوليد بن عقبة مقالته .
و قال المسعودي : و وكل معاوية أبا الاعور السلمي بالشريعة مع أربعين ألفا و كان على مقدمته و بات عليّ عليه السّلام و جيشه في البر عطاشا قد حيل بينهم و بين الورود إلى الماء فقال عمرو بن العاص لمعاوية ان عليا لا يموت عطشا هو و تسعون الفا من أهل العراق و سيوفهم على عواتقهم و لكن دعهم يشربون و نشرب فقال معاوية لا و اللّه
[ 227 ]
أو يموتوا عطشا كما مات عثمان .
و قال عبد اللّه بن أبي سرح امنعهم الماء إلى الليل فانهم ان لم يقدروا عليه رجعوا و لو قد رجعوا كان رجوعهم فلا امنعهم الماء منعهم اللّه يوم القيامة .
فقال صعصعة انما يمنعه اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة الكفرة الفسقة و شربة الخمر ضربك و ضرب هذا الفاسق يعنى الوليد بن عقبة قال فتواثبوا اليه يشتمونه و يتهدّدونه فقال معاوية كفوا عن الرجل فانّه رسول .
قال أبو مخنف و حدّثني يوسف بن يزيد عن عبد اللّه بن عوف بن الأحمر أن صعصعة رجع الينا فحدثنا عما قال لمعاوية و ما كان منه و ما ردّ فقلنا فما رد عليك فقال لما اردت الانصراف من عنده قلت ما ترد على ؟ قال معاوية سيأتيكم رأيي فو اللّه ما راعنا إلا تسريته الخيل إلى أبى الاعور ليكفهم عن الماء قال فأبرزنا عليّ عليه السّلام إليهم فارتمينا ثمّ اطّعنا ثمّ اضطربنا بالسّيوف فنصرنا عليهم فصار الماء في ايدينا فقلنا لا و اللّه لا نسقيهموه فأرسل إلينا عليّ أن خذوا من الماء حاجتكم و ارجعوا إلى عسكركم و خلّوا عنهم فان اللّه عزّ و جلّ قد نصركم عليهم بظلمهم و بغيهم .
و قال المسعودى في مروج الذهب : قال معاوية لعمرو بن العاص يا أبا عبد اللّه ما ظنك بالرجل ( يعني بالرجل عليّا عليه السّلام ) أتراه يمنعنا الماء لمنعنا اياه و قد انحاز بأهل الشام إلى ناحية في البر نائيا عن الماء فقال له عمرو لا ان الرجل جاء لغير هذا و انه لا يرضى حتّى تدخل في طاعته او يقطع حبال عاتقك فارسل اليه معاوية يستأذنه في وروده مشرعته و استقاء الناس من طريقه و دخل رسله عسكره فأباحه على كلّ ما سأل و طلب منه .
أقول انظر إلى سيرة ولي اللّه الأعظم أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام مع النّاس حتّى مع الاعداء بعين المعرفة و البصيرة و إلى دأب معاوية أيضا حتّى يتبين لك الفرق بين رجل الهي و بين الّذي استحوذ عليه الشيطان و تردّى في هواه ، حيث ترى ان معاوية قدم أوّلا و اختار منزلا مستويا بساطا واسعا و اخذ الشريعة و منع عليّا عليه السّلام و أصحابه الماء مع أن النّبي صلّى اللّه عليه و آله جعل النّاس في الماء و الكلاء و النار شرعا سواء
[ 228 ]
و لما غلب عليّ عليه السّلام و عسكره عليهم خلوا بينهم و بين الماء ثمّ وعظ عليّ عسكره بان الظالم و الباغي منكوب و مغلوب لا محالة و إن كان له جولان في برهة من الزمان حيث قال عليه السّلام فان اللّه عزّ و جل قد نصركم عليهم بظلمهم و بغيهم .
و أمّا منع النّاس عثمان من الطعام و الشراب و حصرهم اياه أربعين صباحا او أكثر فيأتي كلامنا فيه في المباحث الآتية مع أن أمير المؤمنين علي عليه السّلام قد انكر منع الماء و الطعام على عثمان و أنفذ من مكن من حمل ذلك لانه كان فى الدار من الحرم و النسوان و الصبيان من لا يحل منعه من الطعام و الشراب .
و قال ابن قتيبة الدينورى فى كتابه الامامة و السياسة المعروف بتاريخ الخلفاء :
و بعث عثمان إلى علىّ عليه السّلام يخبره انه منع الماء و يستغيث به فبعث اليه على عليه السّلام ثلاث قرب مملوءة ماء فما كادت تصل اليه ، فقال طلحة ما أنت و هذا ؟ .
و العجب من هؤلاء الطغام كيف تمسكوا بالاباطيل و الاضاليل فخدعوا أتباعهم و من تتبع فى الاثار و الأخبار يرى بعين اليقين أن معاوية لم يلف شيئا يستضل و يستغوى به النّاس إلاّ أن يتمسك بتلك الأقوال كما استمسك بها سخلته يزيد لما اراد أن يحرض النّاس فى قتل حسين بن على عليهما السّلام و العجب أن معاوية منع أمير المؤمنين عليّا عليه السّلام و أصحابه من الماء و لما استولى عليه السّلام عليهم خلى بينهم و بين الماء و يزيد بن معاوية منع حسين بن على و اشياعه من الماء و هم سقوا قومه و ارووهم من الماء حتّى رشفوا خيلهم حذو النعل بالنعل .
قال الطبرى فى حديث اقبال الحسين بن على عليهما السّلام إلى كربلاء و مجىء الحرّ مع قومه اليه فى أثناء الطريق باسناده عن عبد اللّه بن سليم و المذرى المشمعل الأسديين قالا اقبل الحسين عليه السّلام حتّى نزل شراف فلما كان فى السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا ثمّ ساروا منها فرسموا صدر يومهم حتّى انتصف النهار ثمّ إن رجلا قال اللّه اكبر فقال الحسين عليه السّلام اللّه أكبر ما كبرت ؟ قال رأيت النخل فقال له الاسديان إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط قالا فقال لنا الحسين عليه السّلام فما تريانه رأى ؟ قلنا نراه رأى هوادى الخيل فقال و أنا و اللّه أرى ذلك . فقال الحسين عليه السّلام
[ 229 ]
أمالنا ملجأ نلجأ اليه نجعله فى ظهورنا و نستقبل القوم من وجه واحد ؟ فقلنا له بلى هذا ذو حسم إلى جنبك تميل إليه عن يسارك فإن سبقت القوم إليه فهو كما تريد .
قال فأخذ إليه ذات اليسار قال و ملنا معه فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادى الخيل فتبيّناها و عدلنا فلمّا رأونا و قد عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنتهم اليعاسيب و كان راياتهم أجنحة الطير . قال فاستبقنا إلى ذى حسم فسبقناهم إليه فنزل الحسين عليه السّلام فأمر بأبنيته فضربت و جاء القوم و هم ألف فارس مع الحرّ بن يزيد التميمي اليربوعي حتّى وقف هو و خيله مقابل الحسين عليه السّلام في حرّ الظهيرة و الحسين و أصحابه معتمون متقلّدوا أسيافهم . فقال الحسين عليه السّلام لفتيانه اسقوا القوم و ارووهم من الماء و رشفوا الخيل نر شيفا فقام فتيانه فرشفوا الخيل ترشيفا فقام فتية و سقوا القوم من الماء حتّى أرووهم و اقبلوا يملؤن القصاع و الأتوار و الطّساس من الماء ثمّ يدنونها من الفرس فاذا عبّ فيه ثلاثا أو أربعا او خمسا عزلت عنه و سقوا آخر حتّى سقوا الخيل كلها .
ثمّ قال : قال علىّ بن الطعّان المحاربى كنت مع الحرّ بن يزيد فجئت فى آخر من جاء من أصحابه فلمّا رأى الحسين عليه السّلام ما بى و بفرسى من العطش قال أنخ الراوية و الراوية عندى السقاء ثم قال يا ابن أخى أنخ الجمل فأنخته فقال اشرب فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء فقال الحسين عليه السّلام اخنث السقاء اى اعطفه قال فجعلت لا أدرى كيف أفعل قال فقام الحسين عليه السّلام فخنثه فشربت و سقيت فرسى .
إلى أن قال الطبرى باسناده عن حميد بن مسلم الازدى قال :
جاء من عبيد اللّه بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد : أمّا بعد فحل بين الحسين و أصحابه و بين الماء و لا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقى الزكى المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان . قال فبعث عمر بن سعد عمرو بن الحجاج على خمسمأة فارس فنزلوا على الشريعة و حالوا بين حسين و أصحابه و بين الماء أن يسقوا منه قطرة و ذلك قبل قتل الحسين بثلاث . قال و نازله عبد اللَّه بن أبى حصين الأزدى و عداده في بجيلة فقال يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنه كبد السماء و اللّه لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشا ، فقال حسين عليه السّلام اللّهم اقتله عطشا و لا تغفر له أبدا . قال حميد بن مسلم و اللّه لعدته بعد ذلك فى مرضه فو اللّه الّذي لا إله إلاّ هو لقد رأيته يشرب حتّى بغر ثمّ
[ 230 ]
يقيء ثمّ يعود فيشرب حتّى يبغر فما يروى فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ غصّته يعنى نفسه .
و أقول لا يخفى على الباحث فى السير و الآثار أن دأب بنى هاشم كان على تأليف قلوب النّاس و الاخذ بايديهم و ايصال الخير اليهم و افشاء المعروف فيهم و كانوا من بيت علم و حلم و كرم و سخاوة بحيث يؤثرون النّاس فى شدائد الاحوال على انفسهم و خصال صفاتهم لا يحصى و أن شيمة بنى اميّة كانت على ضدّ ما كان فى بنى هاشم و كانوا عبيد الدنيا و اسرة الهوى . و لنعد إلى القصة .