و اعلم انّما حداني على الاتيان بتلك الأخبار و البحث عنها ما رأيت فيها من احتجاجات أنيقة مشتملة على براهين كلية عقلية في اثبات المطلوب ، لا من حيث انّها أخبار أردنا ايرادها في المقام و التمسك بها تعبدا ، كما أن الآيتين وافيتان للرشاد و السّداد لو تدبّرنا فيهما بالعقل و الاجتهاد و المرجوّ أن ينظر فيها القارى الكريم الطالب للرشاد حق النظر و يتدبّر فيها حق التدبر لعله يوفق بالوصول إلى الدين الحق فان الدين الحقّ واحد قال عزّ من قائل : « و ما ذا بعد الحقّ إلاّ الضلال و لا تتّبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله » . ثمّ ليعلم أن الآيات و الأخبار في الدلالة على ذلك أكثر منها و لكنّا اكتفينا بها روما للاختصار .
أمّا الآيتان فاوليهما قوله عزّ و جلّ ( البقرة الآية 119 ) : « و إذ ابتلى إبراهيم
[ 50 ]
ربّه بكلمات فأتمهنّ قال إنّي جاعلك للنّاس إماماً قال و من ذرّيتي قال لا ينال عهدى الظالمين » .
أقول : الامام هو المقتدى به كما يقال إمام الصلاة لأنّه يقتدى به و يأتم به و كذلك يقال للخشبة الّتي يعمل عليها الاسكاف امام من حيث يحذو عليها و للشاقول الّذي في يد البناء إمام من حيث إنّه يبنى عليه و يقدر به و لا كلام في ان الامام الّذي نصبه اللّه تعالى لعباده مقتدى به في جميع الشريعة و به يهتدون و الامام هادى النّاس بأمر اللّه تعالى و كفى في ذلك شاهدا قوله تعالى في كتابه الكريم : « و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلاّ جعلنا صالحين . و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا » ( الأنبياء 73 ) و قوله تعالى : « و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون » ( السجدة 24 ) حيث قرن الإمامة بالهداية الّتي هي بأمر اللّه تعالى أى الامام يهدى النّاس إلى سواء السبيل بأمره تعالى و سنوضح ذلك مزيد ايضاح .
ثمّ انّه ذكر غير واحد من المفسرين كالنيسابورى و صاحب المنار و غيرهما أن المراد بالامامة الرسالة و النّبوة و قال الأوّل : الأكثرون على أن الامام ههنا النّبي لأنّه جعله إماما لكلّ النّاس فلو لم يكن مستقلاّ بشرع كان تابعا لرسول و يبطل العموم ، و لأن اطلاق الامام يدلّ على أنّه إمام في كلّ شيء و الّذي يكون كذلك لا بدّ أن يكون نبيّا ، و لأن اللّه تعالى سمّاه بهذا الاسم في معرض الامتنان فينبغي أن يحمل على أجل مراتب الامامة كقوله تعالى « و جعلناهم ائمة يهدون بأمرنا » لا على من هو أدون ممن يستحق الاقتداء به في الدين كالخليفة و القاضي و الفقيه و امام الصلاة و لقد أنجز اللّه تعالى هذا الوعد فعظّمه في عيون أهل الأديان كلّها و قد اقتدى به من بعده من الأنبياء في اصول مللهم ثمّ أوحينا اليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا و كفى به فضلا أن جميع امة محمّد صلّى اللّه عليه و آله يقولون في صلاتهم : اللّهم صل على محمّد و آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم . ( انتهى ) أقول : الصواب أن إبراهيم عليه السّلام فاز بالامامة بعد ما كان نبيّا و الامامة في الآية غير النبوّة و ذلك لوجهين : الأوّل أن جاعل عمل في قوله تعالى إماما اعني
[ 51 ]
إن اماما مفعول ثان لقوله جاعلك و اسم الفاعل انّما يعمل عمل الفعل و ينصب مفعوله و لا يضاف اليه إذا كان بمعني الحال أو الاستقبال و أما إذا كان بمعني الماضي فلا يعمل عمل الفعل كذلك و لا يقال زيد ضارب عمرا أمس نعم إذا كان صلة لأل فيعمل مطلقا كما حقق في محلّه .
حكى انّه اجتمع الكسائي و أبو يوسف القاضي عند الرشيد فقال الكسائي :
أبا يوسف لو قتل غلامك فقال رجل أنا قاتل غلامك بالإضافة ، و قال آخر أنا قاتل غلامك بالتنوين فأيهما كنت تأخذ به ؟ فقال القاضي كنت أخذتهما جميعا . فقال الكسائي أخطأت إنّما يؤخذ بالقتل الّذي جرّ دون النصب . و الوجه فيه أن اسم الفاعل المضاف بمعنى الماضي فيكون إقرارا و غير المضاف يحتمل الحال و الاستقبال أيضا فلا يكون إقرارا . و ما نحن فيه من قبيل الثاني كما لا يخفى .
و بالجملة إذا كان اسم الفاعل يعمل عمل فعله إذا لم يكن بمعني الماضي فالآية تدل على انّه تعالى جعل ابراهيم إماما إما في الحال أو الاستقبال و على أى حال كانت النّبوة حاصلة له قبل الامامة فلا يكون المراد بالامامة في الآية النبوة .
و في الكافي عن الصادق عليه السّلام و في الوافي ص 17 م 2 ) قال إنّ اللّه تبارك و تعالى اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتخذه نبيّا و أن اللّه اتخذه نبيّا قبل أن يتخذه رسولا و أن اللّه اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا و أن اللّه اتخذه خليلا قبل أن يتخذه ( أن يجعله خ ل ) إماما فلما جمع له الأشياء قال إنّي جاعلك للناس إماما فمن عظمها في عين إبراهيم قال و من ذريتي قال لا ينال عهدى الظالمين قال لا يكون السفيه إمام التقى . انتهى فرتب هذه الخصال بعضها على بعض لاشتمال كلّ لاحق منها على سابقه مع زيادة حتى انتهى إلى الإمامة المشتملة على جميعها فهى أشرف المقامات و أفضلها .
و فيه أيضا قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات : فنبيّ منبأ في نفسه لا يعد و غيرها ، و نبيّ يرى في النوم و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة و لم يبعث إلى أحد و عليه إمام مثل ما كان إبراهيم على لوط عليهما السّلام ، و نبيّ يرى
[ 52 ]
في منامه و يسمع الصوت و يعاين الملك و قد ارسل إلى طائفة قلّوا أو كثروا كيونس قال اللّه تعالى ليونس : و أرسلناه إلى مأة ألف أو يزيدون و قال : يزيدون ثلاثين ألفا و عليه إمام ، و الّذى يرى في منامه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة و هو إمام مثل اولى العزم و قد كان إبراهيم عليه السّلام نبيّا و ليس بامام حتّى قال اللّه إنّي جاعلك للناس إماما قال و من ذريّتي فقال اللّه لا ينال عهدى الظالمين من عبد صنما او وثنا لا يكون إماما .
الوجه الثاني ان الآية تدلّ على أن اللّه تعالى لما ابتلاه و اختبره بانواع البلاء جعله إماما و من ابين البلاء له ذبح ولده إسماعيل كما قال تعالى « فبشرناه بغلام حليم . فلما بلغ معه السعى قال يا بنيّ إنّي أرى في المنام أنى أذبحك فانظر ماذا ترى إلى أن قال إن هذا لهو البلاء المبين » ( الصافات 107 ) و وهبه اللّه إسماعيل في كبره كما قال في السورة المسماة باسمه « الحمد للّه الّذى وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق ان ربّي لسميع الدعاء » ( إبراهيم : 43 ) فكان عليه السّلام نبيّا قبل أن كان إماما .
و كذلك نقول : إن مما ابتلاه اللّه تعالى به قضيّة ابتلائه بالأصنام و قال اللّه تعالى :
و اذكر في الكتاب إبراهيم إنّه كان صديقا نبيّا . إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع و لا يبصر و لا يغني عنك شيئا إلى أن قال : فلمّا اعتزلهم و ما يعبدون من دون اللّه وهبنا له إسحق و يعقوب و كلا جعلنا نبيّا ( مريم : 51 ) فنصّ اللّه تعالى بانّه كان حين يخاطب أباه صديقا نبيّا و قال في الآية الأولى و إذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمهن قال إنّي جاعلك للنّاس إماما فلم يكن حين ابتلائه بالأصنام إماما بل كان نبيّا و رزق الإمامة بعد ذلك .
فاذا ساقنا الدليل إلى أن الإمامة في الآية غير النّبوة فنقول كما في المجمع :
ان المستفاد من لفظ الامام أمران : أحدهما انّه المقتدى به في أفعاله و أقواله ، و الثاني انّه الّذي يقوم بتدبير الأمة و سياستها و القيام بامورها و تأديب جناتها و تولية ولاتها و إقامة الحدود على مستحقيها و محاربة من يكيدها و يعاديها ، فعلى الوجه الأوّل
[ 53 ]
لا يكون نبيّ من الأنبياء إلاّ و هو إمام ، و على الوجه الثاني لا يجب في كلّ نبيّ أن يكون إماما إذ يجوز أن لا يكون مأمورا بتأديب الجناة و محاربة العداة و الدفاع عن حوزة الدين و مجاهدة الكافرين .
ثمّ إنّ معنى الإمامة في الآية ليس مجرد مفهوم اللفظ منها بل هي الموهبة الالهية يهب لمن يشاء من عباده الصابرين الموقنين كما قال عز من قائل و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون ( السجدة : 24 ) و إنّما اطلق الصبر و لم يذكر متعلقه بأنّهم صبروا فيماذا ؟ ليعمّ صبرهم في أنواع البلاء . فالامامة هي الولاية من اللّه تعالى لهداية النّاس بأمر اللّه تعالى الّتي توجب لصاحبها التصرف في العالم العنصرى و تدبيره باصلاح فساده و اظهار الكمالات فيه لاختصاص صاحبها بعناية الهية توجب له قوة في نفسه لا يمنعها الاشتغال بالبدن عن الاتصال بالعالم العلوى و اكتساب العلم الغيبي منه ، فبذلك التحقيق و بما بيناه في أبحاثنا الماضية يظهر جواب ما استدلّ النيسابورى و غيره على ان المراد بالإمام هو النّبيّ .
ثمّ ان الآية تدلّ على أن الإمام الهادى للناس بأمره تعالى يجب أن يكون منصوصا من عند اللّه تعالى حيث قال تعالى : إنّي جاعلك للناس إماماً كما لا يخفى على من له أدنى دربة في اساليب الكلام . و العجب من النيسابورى حيث قال في تفسيره : ثمّ القائلون بأن الإمام لا يصير إماما إلاّ بالنصّ تمسكوا بهذه الآية و أمثالها من نحو : إنّي جاعل في الأرض خليفة يا داود إنا جعلناك خليفة ، و منع بأن الإمام يراد به ههنا النّبيّ سلمنا ان المراد به مطلق الإمام لكن الآية تدلّ على ان النصّ طريق الإمامة و ذلك لانزاع فيه إنّما النزاع في انّه لا طريق للامامة سوى النصّ و لا دلالة في الآية على ذلك انتهى . و بما حققناه و بيّناه في المقام يظهر لك أن كلامه هذا في غاية السقوط . نعم انّه أنصف في المقام و قال :
و في الآية دليل على انّه عليه السّلام كان معصوما عن جميع الذنوب لأنّه لو صدرت عنه معصية لوجب علينا الاقتداء به و ذلك يؤدّى إلى كون الفعل الواحد ممنوعا منه مندوبا إليه و ذلك محال .
[ 54 ]
قوله تعالى : و من ذريتي قال لا ينال عهدى الظالمين . عطف على الكاف من جاعلك و ان شئت قلت : و من ذريتي تتعلق بمحذوف تدل عليه كلمة جاعلك و من للتبعيض أى اجعل بعض ذريتي إماما كما يقال ساكرمك فتقول و زيدا و إنّما طلب الإمامة لبعض ذريته لعلمه بان كلّهم لا يليق بها لأن ناسا غير محصورين لا يخلو فيهم من ظالم غالبا قال اللّه تعالى : سلام على إبراهيم . كذلك نجزى المحسنين . إنّه . من عبادنا المؤمنين . و بشرناه باسحق نبيّاً من الصالحين . و باركنا عليه و على إسحق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين ( الصافات 115 ) .
و أفاد بعض المفسرين انّه قد جرى إبراهيم على سنة الفطرة في دعائه هذا فان الانسان لما يعلم من أن بقاء ولده بقاء له يحبّ أن تكون ذريته على أحسن حال يكون هو عليها ليكون له حظ من البقاء جسدا و روحا . و من دعاء إبراهيم الّذي حكاه اللّه عنه في السورة المسماة باسمه ربّ اجعلني مقيم الصلوة و من ذرّيتي ( إبراهيم : 40 ) و قد راعي الأدب في طلبه فلم يطلب الإمامة لجميع ذرّيته بل لبعضها لأنه الممكن ، و في هذا مراعاة لسنن الفطرة أيضا و ذلك من شروط الدعاء و آدابه فمن خالف في دعائه سنن اللّه في خليقته او في شريعته فهو شريعته فهو غير جدير بالاجابة بل هو سييء الأدب مع اللّه تعالى لأنه يدعوه لأن يبطل لأجله سنته الّتي لا تتبدّل و لا تتحوّل أو ينسخ شريعته بعد ختم النّبوة و اتمام الدين .
و العهد في الآية الإمامة الّتي اعطاها اللّه تعالى إبراهيم و إنّما سميت تلك الرياسة الالهية عهد اللّه لاشتمالها على كلّ عهد عهد به اللّه تعالى إلى بني آدم كقوله تعالى و لقد عهدنا إلى آدم من قبل و إذ أخذنا من النبيّين ميثاقهم .
و من عظمها و شرافتها في عين إبراهيم سأل الإمامة لبعض ذريته فأجابه اللّه تعالى بأن الإمامة عهده و لا يناله الظالمون يقال : نال خيرا ينال نيلا أى أصاب و بلغ منه . و بين اللّه تعالى انّ عهده ذو مقام منيع و درجة رفيعة لا يصل اليه يد الظالم القاصرة .
و أيضا دلّت الآية على أن بعض ذريته الظالم لا ينال عهد اللّه لأن الظالم ليس
[ 55 ]
بأهل لأن يقتدى به فلم ينف اللّه تعالى الإمامة عن ذريته مطلقا و إلاّ لكان يقول :
لا ينال عهدى ذرّيتك مثلا بل ذكر المانع من النيل إلى ذلك المنصب الالهي مطلقا و هو الظلم و ذلك كما ترى أن اللّه جعل الإمامة في بعض أولاده و احفاده كاسماعيل و إسحاق و يعقوب و يوسف و موسى و هارون و داود و سليمان و أيّوب و يونس و زكريا و يحيى و عيسى و الياس ثمّ أفضلهم و أشرفهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و اللّه تعالى اثنى عليهم في الكتاب بثناء مستطاب . فالآية تدلّ على ان الإمامة الّتي جعلها لابراهيم عليه السّلام لا ينالها من كان ظالما من ذرّيته فعلم من الآية أمران : أحدهما أن الإمامة لا يكون إلاّ في ذرّيته ، و الثاني انّه لا ينالها من عند اللّه من هو موصوف بالظلم منهم . فعلم أن كلّ ظالم من ذرّية إبراهيم لا يصلح أن ينال الإمامة و الولاية من قبل اللّه و لا يكون ممّن رضي اللّه بامامته و ولايته و إلا لزم الكذب في خبره هذا خلف فكلّ ظالم تولى امور المسلمين باستيلائه و قهره و كثرة أعوانه و أنصاره لا يكون إماما من اللّه و لا ممن رضي اللّه بإمامته و الا لكان قد جعله إماما و كذا لا تكون مجعولا من رسله و لا من خواصّ أوليائه لنصّ الآية الدالّ على أنّ اللّه تعالى لا يجعل الإمامة و لا ينالها منه من كان ظالما .
ثمّ إنّ أصحابنا الإمامية استدلوا بهذه الآية على أن الإمام لا يكون إلاّ معصوما عن القبايح لأنّ اللّه سبحانه نفي أن ينال عهده الّذي هو الإمامة ظالم فمن ليس بمعصوم فهو ظالم إمّا لنفسه و إمّا لغيره و من لم يتصف بالعصمة لا يتصف بالاستقامة و الاعتدال المتصفين بهما أهل الولاية عن اللّه فيتحقق الميل عن الوسط و الخروج عن الصراط المستقيم فيكون من أحد الجانبين إمّا من المغضوب عليهم أو الضالين فان قيل : إنّما نفي أن يناله ظالم في حال ظلمه فاذا تاب لا يسمى ظالما فيصح أن يناله . فالجواب أن الظالم و ان تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما فاذا نفي أن يناله فقد حكم عليه بأنه لا ينالها و الآية مطلقة غير مقيّدة بوقت دون وقت فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلّها فلا ينالها الظالم و ان تاب فيما بعد ( قاله في المجمع ) .
[ 56 ]
و بالجملة ان عموم ظاهر الآية يقتضي ان الظالم في حال من الأحوال لا ينال الإمامة و من تاب بعد كفر أو فسق و إن كان بعد التوبة لا يوصف بانّه ظالم فقد كان ممن تناوله الاسم و دخل تحت الآية و إذا حملناها على أن المراد بها من دام على ظلمه و استمر عليه كان هذا تخصيصا بغير دليل .
أقول : فالآية تدلّ على ابطال إمامة غير عليّ عليه السّلام لانهم كانوا مشركين قبل الاسلام و عبدوا الأصنام بالاتفاق و كلّ مشرك ظالم و قال اللّه تعالى ان الشرك لظلم عظيم فكلّ ظالم لا ينال عهد الإمامة . و لذا قال الصادق عليه السّلام : من عبد صنما أو وثنا لا يكون إماما و نعم ما نظم الحسين بن علي الكاشفي حيث قال في قصيدة فارسية له :
ذريتي سؤال خليل خدا بخوان
و ز لا ينال عهد جوابش بكن أدا
گردد ترا عيان كه امامت نه لائق است
آنرا كه بوده بيشتر عمر در خطا
و قال الزمخشرى في الكشاف في بيان قوله تعالى و لا ينال عهدى الظالمين :
اى من كان ظالما من ذرّيتك لا يناله استخلافي و عهدى اليه بالامامة و إنّما ينال من كان عادلا بريئا من الظلم و قالوا : في هذا دليل على ان الفاسق لا يصلح للامامة و كيف يصلح لها من لا يجوز حكمه و شهادته و لا تجب طاعته و لا يقبل خبره و لا يقدم للصلاة و كان أبو حنيفة يفتي سرّا بوجوب نصرة زيد بن عليّ رضوان اللّه عليهما و حمل المال اليه و الخروج معه على اللّص المتغلب المتسمى بالامام و الخليفة كالدوانيقي و أشباهه و قالت له امرأة : أشرت على ابني بالخروج مع إبراهيم و محمّد ابنى عبد اللّه بن الحسن حتّى قتل فقال : ليتني مكان ابنك ، و كان يقول في المنصور و أشياعه : لو أرادوا بناء مسجد و أرادوني على عد آجره لما فعلت . و عن ابن عيينة ( و عن ابن عباس خ ل ) لا يكون الظالم إماما قط و كيف يجوز نصب الظالم للامامة و الإمام إنّما هو لكف الظلمة فاذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر : من استرعى الذئب ظلم . انتهى .
إن قلت : إن يونس صلوات اللّه عليه نال عهد اللّه الّذي هو الإمامة مع أنّ اللّه تعالى حكى عنه أنّه قال : سبحانك إنّي كنت من الظالمين ( الأنبياء : 89 )
[ 57 ]
أقول : ان الظلم فيه محمول على ترك الأولى كما في حق آدم صلوات اللّه عليه حيث قال : ربّنا ظلمنا أنفسنا و بالجملة ما ورد في القرآن و الأخبار ممّا يوهم صدور الذنب عن الأنبياء و خلفائهم الحق محمول على ترك الأولى جمعا بين ما دلّ العقل عليه و بين صحة النقل لأن المتبع في اصول العقائد هو العقل و هو الأصل فيها و كلّ ما ثبت بدليل قاطع فلا يجوز الرجوع عنه على أن لتلك الآيات و الأخبار ذكرت وجوه و محامل أتى بها العلماء في مواضعه و عليك في ذلك بكتاب تنزيه الأنبياء للسيد المرتضى علم الهدى فانه شفاء العليل .
و من أحسن ما قيل في المقام : ان تلك الظواهر دالّة على عظم شأنهم و علو مرتبتهم إذ معاتبة الحكيم لهم على تلك الأفعال الّتي هي في الحقيقة لا توجب العصيان و المخالفة دليل على أنّهم في محلّ يقتضي تلك المعاتبة تنزيها لهم و تفخيما لأمرهم و تعظيما لشأنهم عن ملابسة ما لا يليق بمراتبهم إذ هم دائما في مرتبة الحضور الموجبة لعدم التفاتهم إلى غير الحقّ و كان وقوع ذلك منهم في بعض الحالات أو مع شيء من الاشتغالات البدنيّة و الانجذاب في بعض الأحيان إلى الأمور و الماديّة موجبا لتلك المعاتبة .
و بالجملة ان الحجج الالهيّة لما كانوا في نهاية القرب من اللّه تعالى و كمال الاتصال بجنابه و تمام الحضور إلى حضرته و كانوا أيضا مع تلك المرتبة الشامخة في العوائق و العلائق البدنيّة اللازمة للبشرية رين مع الرعيّة للإرشاد و التبليغ قد يعرض لهم في تلك الأطوار و الشئونات البشريّة امور يعدونه سيئات و إن لم تكن في الحقيقة بقبائح و سيئآت فيتضرعون إلى اللّه تعالى بقولهم ربّنا ظلمنا أنفسنا أو سبحانك إنّي كنت من الظالمين . فان المخلصين على خطر عظيم .
و بذلك ظهر سرّ الحديث المروى عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : حسنات الأبرار سيّئآت المقربين .
ثمّ اعلم أن إبراهيم عليه السّلام لما طلب الإمامة لبعض ذريته فكان يكفي في جوابه ان يقال : نعم ، مثلا لكنّه لما لم يكن نصا في ان الظالم لا ينال الإمامة لأنه كان
[ 58 ]
يشمل حينئذ الظالم و غيره و كذا لو قال ينال عهدى المؤمنين مثلا لما كان أيضا نصا في خروج الظالم غاية ما يقال حينئذ خروجه بالمفهوم فنصّ بالظالم لخروجه عن نيل عهد اللّه تعالى اعني الإمامة بقوله لا ينال عهدى الظالمين . كما نصّ أيضا بأن أمر الظالم ليس برشيد و من اتبعه فجزاءه جهنم ، في قوله : و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين . إلى فرعون و ملائه فاتبعوا أمر فرعون و ما أمر فرعون برشيد . يقدم . قومه يوم القيامة فأوردهم النّار و بئس الورد المورود . و اتبعوا في هذه لعنة و يوم القيامة بئس الرفد المرفود ( هود : 102 ) .
ثمّ إنّ اللّه تعالى ذكر في كتابه العزيز كثيرا من صفات من جعله إماما للنّاس بقوله :
1 لا ينال عهدى الظالمين . فرتبة الإمامة و درجة الولاية اعلى و ارفع من أن ينالها الظالم و بهذه الآية بين أيضا أن الإمام منصوب من عنده كما دريت .
2 إن إبراهيم كان اُمة قانتاً للَّه حنيفاً و لم يكن من المشركين . شاكراً . لأنعمه اجتبيه و هديه إلى صراط مستقيم . و آتيناه في الدّنيا حسنة و انّه في الآخرة لمن الصالحين ( النحل : 125 ) فمن صفات الإمام أن يكون ممن اجتباه اللّه فهو نصّ في ان الإمام يجب أن يكون منصوبا من اللّه تعالى و أن يكون مهديا بهدى اللّه تعالى إلى صراط مستقيم و أن لا يكون من المشركين . فافهم و تدبّر حق التدبر .
3 إنّ إبراهيم لحليم أوّاه منيب ( هود : 79 ) .
4 و لقد آتينا إبراهيم رشده من قبل و كنّا به عالمين ( الأنبياء : 54 ) .
5 و وهبنا له إسحق و يعقوب نافلة و كلاّ جعلنا صالحين . و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا اليهم فعل الخيرات و إقام الصلوة و ايتاء الزكوة و كانوا لنا عابدين ( الأنبياء : 75 ) فالامام يهدى بأمره تعالى و يوحى اليه فعل الخيرات .
6 و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون ( السجدة : 26 ) .
7 و من يرغب عن ملة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه و لقد اصطفيناه في الدنيا
[ 59 ]
و انّه في الآخرة لمن الصالحين . إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لربّ العالمين ( البقرة : 127 ) .
فمن اتصف بهذه الأوصاف الملكوتية و ايّد بهذه التأييدات السماوية فهو إمام فطوبى لمن عقل الدين عقل رعاية و دراية .
الآية الثانية قوله تعالى يا أيّها الّذين آمنوا أطيعوا اللَّه و أطيعوا الرسول و اولى الأمر منكم فان تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللَّه و الرسول إن كنتم تومنون باللَّه و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلاً ( النساء آيه 57 ) .
و الاية تدلّ على امور : الأول أن إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله فيما أمر به و نهى عنه واجبة كما أن اطاعة اللّه تعالى واجبة فليس لأحد أن يقول : حسبنا كتاب اللّه فلا حاجة لنا إلى الأخبار المرويّة عن الرسول و العمل بها ، و ذلك لأن هذا القول نفسه ردّ الكتاب و لو كان كتاب اللّه وحده كافيا لما أفرد الأمر بطاعة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله بقوله عزّ من قائل : أطيعوا الرسول بعد قوله : أطيعوا اللَّه . و نظير الآية قوله تعالى :
و من يطع الرّسول فقد أطاع اللَّه و قوله تعالى : و ما آتاكم الرسول فخذوه و ما نهاكم عنه فانتهوا و قوله تعالى و ما ينطق عن الهوى إن هو الاّ وحى يوحى فقد أخطا من قال : حسبنا كتاب اللّه و اعرض عن قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله .
الأمر الثانى أن اللّه تعالى أوجب على النّاس اطاعة أولى الأمر كما أوجب اطاعته و اطاعة رسوله فالحرى بالطالب نهج القويم أن يرى بعين العلم و المعرفة رأيه في معنى اولى الأمر و مراده عزّ و جل منهم فنقول : قد فسر بعضهم اولى الأمر بالأمراء و بعض آخر و منهم الفخر الرازى في تفسيره بالعلماء و لا يخفى أن المعنى الثاني عدول عن الصواب جدّا فان اولى الأمر هم مالكو الأمر و مالك الأمر من بيده الحلّ و العقد و الأمر و النهى و التدبير و السياسة و ما فيه تنظيم امور الناس دينيّة كان أو دنيويّة ، فكيف يجوز تفسير اولى الأمر بالعلماء سيّما في كلام اللّه الّذى هو في غاية الفصاحة و نهاية البلاغة و معجزة النبوّة الباقية و هل هذا الاّ الخروج عن مجرى الفصاحة و الورود في مورد السخافة .
[ 60 ]
أمّا مراده عزّ و جلّ من اولى الأمر فنقول : إنا نعلم بتّا أن كثيرا من الخلفاء و الأمراء كمعاوية و يزيد و الوليد و الحجّاج و آل اميّة و بني مروان و الخلفاء العبّاسيّين و أمثالهم قديما و حديثا لعبوا بالدّين و اتخذوا كتاب اللّه سخريا و فعلوا من الفواحش و المنكرات و فنون الظلم و المنهيّات من سفك الدماء و أخذ أموال الرعية ظلما و شرب الخمر و نحوها . ما يتعذر عدّها و تشمئز النفوس المطمئنة السليمة عن استماعها و تستقبح ذكرها ، و لو نذكر معشارا من ظلمهم و سائر فواحشهم و مقابحهم مما نقل في كتب القوم و مصنفاتهم لبلغ مبلغا عظيما و هذا هو الوليد بن يزيد نذكر فعلا من أفعاله يكون انموزجا لسائر آثاره و ان بلغ في الفسق و الفجور إلى حد لا يناله يد انكار و لا يرتاب فيه أحد و لعمرى أنى أستحيى من نقل هذه القضيّة الصادرة منه و لكنى أقول : ان من جانب المراء و اللداد و تقليد الآباء و الأجداد و اعرض عن الأغراض النفسانية و العصبيّة و نظر بعين العلم و البصيرة و تفكر ساعة في معاني الآيات و الأخبار و تأمل في غرض البعثة و تكليف العباد و أراد ان يسلك مسلك السداد و الرشاد هل يرضى بأمارة من يرتكب من المعاصى و الفواحش ما يستحيى بذكره الانسان و هلاّ يقضى عقله بأنّه لو كان الوليد و أشياعه مالكي ازمة الأمور و القائمين مقام الرسول لما كان إِرسال الرسل و إنزال الكتب إلاّ اللهو و العبث و اللعب .
قال أبو الفرج الاصبهاني في الاغاني ( ص 174 ج 19 طبع ساسي ) في ترجمة عمار ذى كناز باسناده عن العمرى أنّه قال : استقدمني الوليد بن يزيد بعد هشام بن عبد الملك ثمّ قال لي : هل عندك شيء من شعر عمار ذى كناز ؟ فقلت : نعم ، أنا أحفظ قصيدة له و كنت لكثرة عبثي به قد حفظتها فانشدته قصيدته الّتي يقول فيها :
حبذا أنت يا سلامة
الفين حبذا
إلى آخر القصيدة و أنا اعرضت عن الإتيان بها لشناعتها و قباحتها و اجلّ صحيفتي المكرّمة عن أن تملأ بتلك القصائد المنسية عن ذكر اللّه و هي شرح كتاب علوى عجز الدهر أن يأتى بمثله .
و بالجملة قال العمرى بعد ذكر القصيدة : فضحك الوليد حتّى سقط على
[ 61 ]
قفاه و صفق بيديه و رجليه و أمر بالشراب فاحضر و أمرني بالانشاد فجعلت انشده هذه الأبيات و اكررها عليه و هو يشرب و يصفق حتّى سكر و أمر لي بحلتين و ثلاثين ألف درهم فقبضتها ثمّ قال : ما فعل عمّار ؟ فقلت حي كميت قد غشي بصره و ضعف جسمه لا حراك به فأمر له بعشرة آلاف درهم فقلت له : ألا أخبر أمير المؤمنين بشيء يفعله لا ضرر عليه فيه و هو أحبّ إلى عمّار من الدنيا بحذافيرها لو سيقت اليه ؟ فقال :
و ما ذاك ؟ قلت : إنّه لا يزال ينصرف من الحانات و هو سكران فترفعه الشرط فيضرب الحد فقد قطع بالسياط و لا يدع الشراب و لا يكف عنه فتكتب بأن لا يعرض له فكتب إلى عامله بالعراق أن لا يرفع اليه أحد من الحرس عمارا في سكر و لا غيره إلاّ ضرب الرافع له حدّين و أطلق عمّارا . إلى آخر ما قال .
و في المجلس التاسع من أمالي الشريف المرتضى : أن وليد بن يزيد بن عبد الملك ابن مروان كان مشهورا بالالحاد متظاهرا بالعناد غير محتشم في اطراح الدين أحدا و لا مراقب فيه بشرا و قد عزم على أن يبنى فوق البيت الحرام قبة يشرب عليها الخمور و يشرف على الطواف و نشر يوما المصحف و كان خطه كانّه إصبع و جعل يرميه بالسهام و هو يقول :
تذكرني الحساب و لست أدرى
أ حقا ما تقول من الحساب
فقل للّه يمنعني طعامي
و قل للّه يمنعني شرابي
و فتح المصحف يوما فرأي فيه و استفتحوا و خاب كلّ جبار عنيد « إبراهيم : 15 » فاتخذ المصحف غرضا و رماه بالنبل حتّى مزّقه و هو يقول :
أتوعد كلّ جبار عنيد
فها أنا ذاك جبار عنيد
فان لاقيت ربّك يوم حشر
فقل يا ربّ مزّقني وليد
و هذا هو الحجّاج هدم الكعبة و قتل من المؤمنين و المتّقين و أولياء اللّه و عباده ممّا لا يحصى و فعل في إمارته ما فعل من أنواع الظلم بلغت إلى حد التواتر و يضرب بها المثل السائر فلو كان مراده عزّ و جلّ من اولي الأمر مطلق من تولى أمر المسلمين للزم التناقض في حكمه تعالى و ذلك لأنّه تعالى جعل مثلا
[ 62 ]
الكعبة البيت الحرام قياما للنّاس فلو أمر النّاس باطاعة الحجاج في أفعاله فأمرهم بهدم الكعبة فيجب عليهم هدم الكعبة مع أنّ اللّه حرّم عليهم هتك حرمتها و هل هذا الا التناقض و كذا في أفعال الوليد ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا .
و نعلم قطعا انّ اللّه تعالى عادل في حكمه و فعله و قوله و ليس بظلام للعبيد فتعالى عن أن يوجب اطاعة الأمراء الظلمة و هو تعالى يقول و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النّار ثمّ لا تنصرون و من يعص اللَّه و رسوله فان له نار جهنم و لعنة اللّه على الظالمين » و غيرها من الآيات بهذا المضمون . فالعقل الناصع يحكم بأن مراده تعالى من الآية ليس مطلق اولى الأمر و لا تشمل الظالمين منهم قضاء لحق البرهان العقلي ، جلّ جناب الرب أن يوجب على النّاس اتّباع هؤلاء الظلمة و اتباعهم و ما أحلى قول الشاعر :
إذا كان الغراب دليل قوم
فمأواهم محلّ الهالكينا
و ما أجاد قول العنصري بالفارسي :
هر كه را رهبرى كلاغ كند
بى گمان دل بدخمه داغ كند
ثمّ نقول : ان غير المعصوم ظالم و الظالم لا يصلح لان يكون من اولى الأمر فان الظالم واضع للشيء في غير موضعه و غير المعصوم كذلك فلا يؤمن في الشرع من الزيادة و النقصان و التغيير و التبديل فلابدّ من أن يكون أولو الأمر معصومين .
ثمّ نقول : العصمة ملكة تمنع عن الفجور مع القدرة عليها و تحصل بالعلم بمثالب المعاصى و مناقب الطاعات و تتأكد بتتابع الوحى بالأوامر و النواهي فعلى اللّه تعالى أن يعرّف اولى الأمر لأنّه خارج عن طوق البشر و وسعهم فان العصمة أمر باطنى لا يعلمها إلاّ اللّه على أنا نقول كما ان الملوك مثلا إذا امروا الناس باطاعة الأمراء و القضاة فمعلوم بالضرورة و مستقر في النفوس ان مرادهم بذلك وجوب اطاعة الأمراء و القضاة الذين نصبهم و عيّنهم على النّاس لا غير و كذا في المقام نقول ان اللّه لا يأمر باطاعة كل من صار أو جعل أمير المسلمين و لو ظلما و زورا بل باطاعة الأمراء الذين عيّنهم اللّه تعالى و نصبهم لذلك .
[ 63 ]
الامر الثالث أن الزّمان لا يخلو من إمام معصوم منصوب من عند اللّه تبارك و تعالى لأنّه عزّ و جل أوجب اطاعة اولى الأمر و نعلم بالضرورة أن امره تعالى في ذلك ليس مقصورا في زمن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأن حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة و هو خاتم النّبيّين فكما أنّ إطاعة اللّه و رسوله لا يختص بزمانه صلّى اللّه عليه و آله بل هما واجبتان إلى قيام الساعة فكذا إطاعة اولي الأمر المقرونة باطاعتهما و حيث ان الأمر باطاعة المعدوم قبيح ففي كلّ عصر لابد من صاحب أمر حتّى يصلح الأمر باطاعته و هذا لا يصدق إلاّ على الأئمّة من آل محمّد أوجب اللّه طاعتهم بالإطلاق بالبرهان الّذي قدمنا .
و في المجمع : بعد ما نقل القولين في معنى اولى الأمر أحدهما الأمراء و الآخر العلماء قال : و أمّا أصحابنا فانّهم رووا عن الباقر و الصّادق عليهما السّلام أن اولى الأمر هم الأئمة من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله أوجب اللّه طاعتهم بالاطلاق كما أوجب طاعته و طاعة رسوله و لا يجوز أن يوجب اللّه طاعة أحد على الاطلاق الا من ثبتت عصمته و علم أن باطنه كظاهره و أمن منه الغلط و الأمر بالقبيح و ليس ذلك بحاصل في الأمراء و لا العلماء سواهم ، جلّ اللّه أن يأمر بطاعة من يعصيه أو بالانقياد للمختلقين في القول و الفعل لأنّه محال أن يطاع المختلفون كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه . و ممّا يدلّ على ذلك أيضا انّ اللّه تعالى لم يقرن طاعة اولى الأمر بطاعة رسوله كما قرن طاعة رسوله بطاعته الا و اولو الأمر فوق الخلق جميعا كما أن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله فوق اولى الأمر و فوق سائر الخلق و هذه صفة أئمة الهدى من آل محمّد الذين ثبتت امامتهم و عصمتهم و اتفقت الأمة على علوّ رتبتهم و عدالتهم .
ثمّ نقول : لما علم ان الأئمة الهدى من آل محمّد عليهم السّلام قائمون مقام الرّسول و حجج في الشرع فكما في زمن الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ان تنازع النّاس في شيء من امور الدين يجب عليهم الرد إلى اللّه و الرّسول و كذلك بعد وفاته يجب عليهم الرّد إلى المعصومين القائمين مقامه و الذين هم الخلفاء في امته و الحافظون لشريعته بأمره فالرد إليهم مثل الرد إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اكّد سبحانه ذلك و عظّمه بقوله عز من
[ 64 ]
قائل إن كنتم تؤمنون باللَّه و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلاً أى الردّ إلى اللّه و الرّسول و القائمين مقام الرسول خير لكم و أحسن من تأويلكم .
و ان قلت : كما أن الأمراء المنصوبين من الرسول صلّى اللّه عليه و آله في زمنه كمعاذ بن جبل ارسله واليا إلى اليمن و غيره من الولاة الذين كانت اطاعتهم واجبة على الناس بأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكونوا معصومين من الذنوب و الخطأ و السهو و النسيان و غيرها كذلك الحكم في اولي الأمر بعده فما اوجب عصمة اولى الأمر الذين بعده صلّى اللّه عليه و آله ؟
أقول : هذا قياس مع الفارق جدّا و بينهما بون بعيد و امد مديد و ذلك لأن في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لو تنازع الناس في شيء من امور الدّين و اقبل أمر مشتبه للحكام و القضاة و الولاة المنصوبين منه صلّى اللّه عليه و آله في أحكام اللّه لكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يكشف عنه و يزيل الشبهة و يقضى بالفصل و يصدع بالحق كما امرهم اللّه بردّ التنازع إلى اللّه و الرسول في الآية و أمّا بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله لو لم يكن صاحب الأمر القائم مقامه في كل عصر معصوما و منصوبا من اللّه و رسوله لو أقبل تنازع في الدّين فمن يزيل الشبهة و يبيد الغائلة ؟ و كذا الكلام في الأمراء و الحكام من قبل الإمام فانّ الإمام عالم بجميع الأحكام ، فبوجوده يرتفع التشاجر و يقلع التنازع .