« بحث لغوى »

في قوله عليه السّلام ( اقل عتابه ) لطيفة لغوية لم يتعرضها الشرّاح و المترجمون بل في تفسيره عدلوا عن الصواب و ذلك لأن كلمة اقلّ ليس بمعنى اقلّ الشي‏ء إذا جعله قليلا او أتى بقليل و بالجملة أن معنى اقل ليس قبال اكثر و إن جعل قباله في اللّفظ كما ذهب إليه القوم على ما هو ظاهر كلام الشارحين المعتزلي و البحراني و صريح ترجمة المولى فتح اللّه القاساني حيث قال : و كم ميگردانيدم سرزنش او را و المولى الصالح القزويني حيث قال : و كمتر وقت عتاب مينمودم ، و كذا غيرهما من المترجمين بل الصواب أنّ المراد من اقل هنا النفى أى ما عاتبت عليه و هذا اللفظ يستعمل كثيرا في نفى أصل الشي‏ء قال الفاضل الأديب ابن الأثير في مادة ق ل ل من النهاية : و في الحديث انه كان يقلّ اللغو أى لا يلغو أصلا و هذا اللفظ يستعمل

[ 197 ]

في نفى أصل الشي‏ء كقوله تعالى : فقليلا ما يؤمنون انتهى قوله .

و الشيخ الإمام أبو على أحمد بن محمّد بن الحسن المرزوقي الأصفهاني في شرحه على الاختيار المنسوب إلى أبي تمام الطائى المعروف بكتاب الحماسة ( طبع القاهرة 1371 ه 1951 م ) في شرح الحماسة 13 لتأبط شرا ( ص 95 ) قوله :

قليل التشكّي للمهمّ يصيبه
كثير الهوى شتّى النوى و المسالك

قال : و استعمل لفظ القليل ، و القصد إلى نفى الكلّ ، و هذا كما يقال فلان قليل الاكتراث بوعيد فلان ، و المعنى لا يكترث . و على ذلك قولهم : قلّ رجل يقول كذا ، و أقلّ رجل يقول كذا ، و المعنى معنى النفي ، و ليس يراد به إثبات قليل من كثير .

ثمّ قال : فإن قيل : من أين ساغ أن يستعمل لفظ القليل و هو للإثبات في النفي ؟

قلت : إنّ القليل من الشي‏ء في الأكثر يكون في حكم ما لا يتعدّ به و لا يعرّج عليه لدخوله بخفة قدره في ملكة الفناء و الدروس و الإمّحاء ، فلمّا كان كذلك استعمل لفظه في النفى على ما في ظاهره من الإثبات محترزين من الردّ و مجملين في القول ، و ليكون كالتعريض الّذي أثره أبلغ و أنكى من التصريح ،

و قوله : « كثير الهوى » طابق القليل بقوله كثير من حيث اللّفظ لا أنّه أثبت بالأول شيئا نزرا فقابله بكثير .

و في شرح الحماسة 105 ( ص 322 ) قول الشاعر :

فقلت لها لا تنكرينى فقلّ ما
يسود الفتى حتّى يشيب و يصلعا

قال : و قوله « قلّ ما » يفيد النفى هنا و ما تكون كافة لقلّ عن طلب الفاعل و ناقلة له عن الاسم إلى الفعل ، فاذا قلت : قلّ ما يقوم زيد فكأنك قلت ما يقوم زيد ، يدلّ على ذلك أنّهم قالوا : قلّ رجل يقول ذاك إلا زيد ، و أجرى مجرى ما يقول ذاك إلاّ زيد .

و في شرح الحماسة 165 لتأبط شرا أيضا ( ص 492 ) قوله :

قليل غرار النوم أكير همّه
دم الثّار أو يلقى كميّا مسفّعا

[ 198 ]

قال : فإن قيل ما معنى قليل غرار النوم ؟ و إذا كان الغرار القليل من النّوم بدلالة قولهم ما نومه إلاّ غرارا فكيف جاز أن تقول : قليل غرار النّوم و أنت لا تقول هو قليل قليل النوم ؟ قلت : يجوز أن يراد بالقليل النفى لا إثبات شي‏ء منه و المعنى :

لا ينام الغرار فكيف ما فوقه ؟

و في شرح الحماسة 271 لدريد بن الصّمة ( ص 819 ) قوله :

قليل التشكّي للمصيبات حافظ
من اليوم أعقاب الأحاديث في غد

قال : يريد بقوله « قليل » نفى أنواع التشكّى كلّها عنه على هذا قوله تعالى فقليلا ما يؤمنون و قولهم : قلّ رجل يقول كذا و أقلّ رجل يقول ذاك .

و المعنى أنّه لا يتألم للنوائب تنزل بساحته و المصائب تتجدد عليه في ذويه و عشيرته و أنه يحفظ من يومه ما يتعقب أفعاله من أحاديث النّاس في غده الخ .

و في شرح الحماسة 447 لمحمّد بن أبي شحاذ ( ص 1201 ) قوله :

و قلّ غناء عنك مال جمعته
إذا كان ميراثا و اراك لاحد

قال : المراد بذكر القلّة ها هنا النفى لا إثبات شي‏ء قليل فيقول : لا يغنى عنك مال تجمعه إذا ذهبت عنه و تركته لورثتك الخ .

و في مفردات الراغب : و قليل يعبّر به عن النفى نحو قلّما يفعل كذا إلاّ قاعدا أو قائما و ما يجرى مجراه و على ذلك حمل قوله تعالى قليلاً ما يؤمنون و إنّما فسّروا قوله تعالى فقليلا ما يؤمنون بنفى الايمان عنهم لأن ظاهر الآية تدلّ على ذلك قال تعالى : أ فكلّما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذبتم و فريقاً تقتلون . و قالوا قلوبنا غلف بل لعنهم اللَّه بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ( 82 و 83 من البقرة ) و إن كان يمكن أن تجعل الآية المتقدّمة عليها و هي قوله تعالى : أفتؤمنون ببعض الكتاب و تكفرون ببعض قرينة على ارادة القلّة في قبال الكثرة فيها أو يؤوّل بوجوه اخرى على استفادة ذلك المعنى كما ذكر في التفاسير و لكن إفادة القليل معنى النفى في كلام العرب كثير ، ففي مجمع البيان في تفسير هذه الآية قال : و الذي يليق بمذهبنا أن يكون المراد به لا إيمان لهم أصلا و إنما وصفهم بالقليل كما يقال قلّ ما رأيت هذا قطّ أى ما رأيت هذا قطّ .

[ 199 ]

و إنما اخترنا النفى من قوله عليه السّلام اقل عتابه ، و أعرضنا عن حمله على ظاهره لدقيقة نأتي بها في الشرح .

و ليعلم أن هذه اللّفظة قد يستعمل في الكثرة على ما صرّح به المرزوقي في شرح الحماسة أيضا حيث قال : و قالوا أيضا أقلّ رجل يقول ذلك إلاّ زيد و أنّهم أجروا خلافه مجراه فيقول : كثر ما يقول زيد و على ذلك هذا البيت .

صددت فأطولت الصدود و قلّما
وصال على طول الصدود يدوم

انتهى ( ص 322 شرح الحماسة 105 ) . و لا يخفى أن هذا الاستعمال نزر جدّا بخلاف الأول .

و اعلم أنه يمكن أن يكون قوله عليه السّلام « اقل عتابه » من أقل فلان الشي‏ء إذا أطاقه و حمله و رفعه . قال تعالى : و هو الذي يرسل الرياح بشراً بين يدى رحمته حتّى إذا أقلّت سحاباً ثقالا سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء ( الأعراف : 56 ) أى حملت الرماح سحاباً ثقالا ، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله في أبي ذر رضى اللّه عنه : ما أظلت الخضراء و لا أقلّت الغبراء أصدق من أبي ذر . و وجه التفسير على هذا الوجه يعلم في الشرح إن شاء اللّه تعالى .

ففي الجمع بين أقل بهذا المعنى بل بالمعنى الأوّل أيضا تحسين بديع و هو مراعاة النظير من وجوه تحسين الكلام المقرر في فنّ البديع و مراعاة النظير أن يجمع بين معنيين غير متناسبين بلفظين يكون لهما معنيان متناسبان و إن لم يكونا مقصودين ههنا نحو قوله تعالى و الشمس و القمر بحسبان . و النجم و الشجر يسجدان و بالفارسية نحو قول الشاعر هر چه آن خسرو كند شيرين بود .

( عتاب ) بالكثر مصدر ثان من باب المفاعلة كضراب يقال عاتبه عليه معاتبة و عتابا إذا لامه و واصفه الموجدة و خاطبه الإدلال . ( الوجيف ) وجف الشي‏ء بمعنى اضطرب ، قال تعالى : قلوب يومئذ واجفة و الوجيف ضرب من سير الإبل و الخيل فيه سرعة و اضطراب ، أو جفت البعير : أسرعته . و في أقرب الموارد :

وجف الفرس و البعير : عدا و سار العنق ، و في حديث على : أهون سيرهما فيه الوجيف

[ 200 ]

( حداء ) بكسر أوله و ضمّه أيضا ككتاب و ذباب واوى من حدو : سوق الابل و الغناء لها . يقال حدا الابل و بالابل يحدو حدوا و حداء و حداء من باب نصر ساقها و غنّى لها فهو حاد . يقال حدت الريح السحاب أى ساقتها . ( العنيف ) الشديد من القول و السير . و الذي ليس له رفق بركوب الخيل . عنف به و عليه من باب كرم لم يرفق به و عامله بشدّة . ( الفلتة ) بالفتح ، في الصحاح يقال كان ذاك الأمر فلتة أى فجأة إذا لم يكن عن تردّد و لا تدبّر . و في أقرب الموارد : حدث الأمر فلتة أى فجأة من غير تردّد و لا تدبّر حتّى كأنّه افتلت سريعا ، قال : يقال : كانت بيعة أبي بكر فلتة .

( اتيح ) تاح له الشي‏ء يتوح توحا من باب نصر و اتيح له الشي‏ء قدّر له و تهيّى‏ء و أتاح اللّه له الشي‏ء أى قدّره له ، قاله في الصحاح . قال انيف بن حكيم النّبهاني :

و تحت نحور الخيل حرشف رجلة
تتاح لغرّات القلوب نبالها

و هو من أبيات الحماسة ( الحماسة 33 و 209 ) وصفهم بأن نبالهم تقدّر للقلوب الغارّة .

( مستكرهين ) قال الفاضل الشارح المعتزلي : و قد ذكر أن خط الرضي رضوان اللّه عليه مستكرهين بكسر الرّاء و الفتح أحسن و أصوب و إن كان قد جاء استكرهت الشي‏ء بمعنى كرهته . انتهى .

أقول : الاستكراه قد جاء بمعنى الاكراه كما جاء بمعنى عدّ الشي‏ء و وجدانه كريها و من الأوّل حديث رفع عن امّتي الخطاء و ما استكرهوا عليه . أى ما اكرهوا عليه .

فلو قرى‏ء المستكرهين بفتح الراء لكان بمعنى المكرهين و الإكراه و الإجبار واحد .

و قالوا في المعاجم : أكرهه على الأمر : حمله عليه قهرا ، و كذا قالوا أجبره على الأمر أكرهه عليه فلو قرى‏ء بالفتح للزم التكرار لأنه و المجبرين حينئذ بمعنى واحد فالكسر متعين كما اختاره الرضى . و المستكره بالكسر بمعنى الكاره أى ناخوش و ناپسند دارنده يقال : استكرهت الشي‏ء أي كرهته كما أشار إليه الفاضل الشارح ، و في منتهى

[ 201 ]

الأرب في لغة العرب : استكراه : بنا خواست و ستم بر كارى داشتن ، و ناخوش شمردن .

و المراد بدار الهجرة مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المنقول من الرواندي رحمه اللّه أن المراد بدار الهجرة ههنا الكوفة التي هاجر أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام اليها .

أقول : و هذا عجيب جدّا و إنما هو من طغيان قلمه رحمه اللّه لأنّ أمير المؤمنين عليه السّلام أخبر أهل الكوفة بأنّ المدينة قد قلعت بأهلها و جاشت جيش المرجل على أنّه عليه السّلام حين كتب الكتاب إليهم كان نازلا في ذى قار بعيدا عن الكوفة و لم يصل إلى الكوفة و لم يقم فيها بعد فكيف يكتب إليهم يخبرهم عن أنفسهم و هذا ظاهر لا عائدة في الإطالة .

و قيل : يحتمل أن يريد بدار الهجرة دار الإسلام و بلادها .

أقول : و لا يخفى ضعف هذا الاحتمال و تكلّفه و سيتضح في الشرح أن المراد من المدينة مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ليست إلاّ .

( قلعت بأهلها ) يقال قلع المنزل بأهله إذا لم يصلح لاستيطانهم و منه قولهم كما في الصحاح ، هذا منزل قلعة بالضمّ أي ليس بمستوطن .

و يمكن أن يقرء الفعلان مجهولين و تكون الباء في الموضعين بمعنى مع فيكون آكد للمراد كما لا يخفى أو يقال : الباء زائدة للتأكيد و الفعل معلوم في كلا الموضعين كقوله تعالى : و كفى باللَّه شهيداً لأن القلع متعد بنفسه يقال قلعه إذا انتزعه من أصله أو حوّله عن موضعه و المراد أن المدينة فارقت أهلها و أخرجتهم منه و كذا قلعوا بها أى انهم فارقوها و خرجوا منها و لم يستقروا فيه .

( المرجل ) : القدر اسم آلة على وزن مفعل . ( بادروا ) أى سارعوا أمر من المبادرة .