و ممّا ينادى بأعلى صوته عناية المسلمين بحفظ القرآن الكريم و حراسته عن كلّ ما يتوهّم فيه التحريف قراءتهم القرآن بالقراءات المتواترة السبع دون الشواذ و لو كان الرواية الشاذة مرويّا عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأنّ اعتمادهم في القراءة و رسم الخطّ و ترتيب السور و الآيات كلّها كان على السماع دون الاجتهاد . بل نقول :
إن كلّ ما ينتسب إلى القرّاء السبعة من القراءات السبع و لم يثبت تواتره لا يجوز متابعته و إن كان موافقا لقياس العربيّة لأنّ المناط في اتباع القراءة هو التواتر فما يروى عن السبعة من الشواذ فحكمه حكم سائر القراءات الشاذ مثلا أن أمين الاسلام الطبرسى في المجمع قال : قرأ كلّ القراء معايش في قوله تعالى و لقد مكناكم في الأرض و جعلنا لكم فيها معايش قليلاً ما تشكرون ( الأعراف 12 ) بغير همز و روى بعضهم عن نافع معائش ، ممدودا مهموزا انتهى . فهذه الرواية عن النافع غير متواتر و إن كان النافع من السبعة ، و لا يجوز القراءة بتلك القراءة الشاذة .
فان قلت : هل يوجد عكس ذلك في القراءات بأن يكون القارى من غير السبع كيعقوب بن إسحاق الحضرمى و أبو حاتم سهل بن محمّد السجستانى و يحيى بن وثاب و الأعمش و أبان بن تغلب و أضرابهم و يكون بعض قراءتهم متواترا ؟
أقول : و كم له من نظير و لكن من حيث أن تلك القراءة موافقة للقراءات السبع المتواترة فما وافقتها و إلاّ لا يجوز الاتكال عليها و قراءة القرآن بها .
[ 276 ]
و إنّما اجتمع النّاس على قراءة هؤلاء و اقتدوا بهم فيها لسببين : أحدهما أنّهم تجرّدوا لقراءة القرآن و اشتدّت بذلك عنايتهم مع كثرة علمهم و من كان قبلهم أو في أزمنتهم ممن نسب إليه القراءة من العلماء و عدّت قراءتهم في الشواذ لم يتجرّد لذلك تجرّدهم و كان الغالب على اولئك الفقه أو الحديث أو غير ذلك من العلوم .
و الآخر أن قراءتهم وجدت مسندة لفظا أو سماعا حرفا حرفا من أوّل القرآن إلى آخره مع ما عرف من فضائلهم و كثرة علمهم بوجوه القرآن ( قالهما الطبرسي في مقدمة تفسيره مجمع البيان ) .
أقول : على أن أئمتنا سلام اللّه عليهم قرروا تلك القراءات لأنّها كانت متداولة في عصرهم عليهم السّلام و كان الناس يأخذونها من القراء و لم يردّوهم و لم يمنعوهم عن أخذها عنهم بل نقول : إن قراءة أهل البيت عليهم السّلام يوافق قراءة أحد السبعة و قلّما ينفق أن تروى قراءة منهم عليهم خارجة عن المتواترات كما يظهر بالتتبع للخبير المتضلع في علوم القرآن .
فإن قلت : القرآن نزل على قراءة واحدة فكيف جاز قراءته بأكثر من واحدة فهل القراءات العديدة إلاّ التحريف ؟ .
قلت : أوّلا إن اختلاف القراءات لا يوجب تحريف الكتاب و تغييره و باختلافها لا تزاد كلمة في القرآن و لا تنقص منه فإن اختلافها في الإعراب و ارجاع الضمير و كيفية التلفظ و الخطاب و الغيبة و الإفراد و الجمع و أمثالها في كلمات تصلح لذلك و في الجميع الآيات و الكلمات القرآنية بذاتها محفوظة مثلا في قوله تعالى و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحى اليهم من أهل القرى ( يوسف 109 ) قرأ أبو بكر عن عاصم يوحى بضم الياء و فتح الحاء على صيغة المجهول و قرأ حفص عن عاصم بضم النون و كسر الحاء على صيغة المتكلم و المعني على كلا الوجهين صحيح و اللفظ محفوظ و مصون . و في قوله تعالى و إذا أنعمنا على الانسان أعرض و نئا بجانبه ( الإسراء 84 ) قرأ أبو بكر عن عاصم بإمالة الهمزة في نئا و حفص عن عاصم بفتحها و معلوم انّه لا يوجب التحريف و التغيير ، و في قوله تعالى فاعبدوه أفلا تذكّرون
[ 277 ]
( يونس 4 ) قرأ أبو بكر عن عاصم بتشديد الذال و حفص بتخفيفها و هو لا يوجب تبديل ذات الكلمة ، و في قوله تعالى من أزواجنا و ذرّيتنا ( الفرقان 75 ) قرأ أبو بكر ذريتنا بالتوحيد و حفص بالجمع و أمثالها مما هي مذكورة في كتب الفن و التفاسير و لكلّ وجه متقن و حجّة متّبعة أجمع المسلمون على تلقيها بالقبول مع أنّها تنتهى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و لا يخفى على البصير المتتبع و المتضلّع في القراءات أنّها لا توجب التحريف بل يبيّن وجوه صحة التلفظ مثلا ان قوله صلّى اللّه عليه و آله الدّنيا رأس كلّ خطيئة ، يصح أن يقرأ على الوجهين الأوّل ما هو المشهور و الثاني أنّ الدينار ( مقابل الدرهم ) اس كلّ خطيئة بضم الهمزة و الجملة بذاتها محفوظة ، أو ما أنشده القطب الشيرازي في مجلس كان فيه الشيعة و السني ( أتى به الشيخ في الكشكول ص 135 طبع نجم الدولة ) :
خير الورى بعد النّبيّ من بنته في بيته
من في دجى ليل العمى ضوء الهدى في زيته
يمكن أن يكون المراد من كلمة « من » رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الضمير الأوّل يرجع إليه و الثاني إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام ، أو يكون المراد منها أبو بكر و الضمير الأوّل يرجع إليه و الثاني إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هكذا في البيت الثاني و لا يوجب تغييرا في البيت .
و ثانيا نقول : إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة الهدى أجازوا ذلك و هذا كما أن أحدنا نجوز أن يقرأ كلامه على وجهين مثلا ان الحكيم السبزواري قال في اللئالي المنتظمة :
فالمنطقى الكلّى بحمل أوّلى
و غيره لشايع الحمل كلى
ثمّ أجاز في الشرح قراءة كلّي على وجهين و قال : كلي إما بضم الكاف مخفف كلّي و إما بكسرها أمر من و كل يكل و الياء للإطلاق و اللام ( لشائع ) على الأوّل للتعليل و على الثاني للاختصاص . انتهى . و هكذا الكلام في القرآن الكريم .
و العجب من صاحب الجواهر رحمه اللّه مال في صلاة الجواهر إلى عدم تواتر القراءات السبع و قال في ذيل بحث طويل في ذلك : فإن من مارس كلماتهم علم
[ 278 ]
أن ليس قراءتهم إلاّ باجتهادهم و ما يستحسنونه بأنظارهم كما يؤمي إليه ما في كتب القراءة من عدّهم قراءة النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عليّ و أهل البيت عليهم السّلام في مقابلة قراءتهم و من هنا سموهم المتبحرين و من ذاك ( كذا و الظاهر : و ما ذاك ) إلاّ لأن أحدهم كان إذا برع و تمهر شرع للنّاس طريقا في القراءة لا يعرف إلاّ من قبله و لم يرد على طريقة مسلوكة و مذهب متواتر محدود و إلاّ لم يختصّ به بل كان من الواجب بمقتضى العادة أن يعلم المعاصر له بما تواتر إليه لاتحاد الفن و عدم البعد عن المأخذ و من المستبعد جدّا انا نطلع على التواتر و بعضهم لا يطلع على المتواتر إلى الآخر كما أنّه من المستبعد أيضا تواتر الحركات و السكنات مثلا في الفاتحة و غيرها من سور القرآن .
انتهى كلامه .
أقول : قد بيّنا أن القراءات السبع كان متواترا من عصر الأئمة إلى الآن بل النّبى صلّى اللّه عليه و آله جوز اختلاف القراءة أيضا إلاّ أن ما لم يوافق السبع المتواترة لا يفيد إلاّ الظنّ بخلاف السبع فانّها إجماع المسلمين قاطبة من صدر الاسلام إلى الآن و إجماع أهل الخبرة في كلّ فن حجة و لو خالف إجماعهم الخارج من فنّهم لا يضرّ الاجماع و من مارس كتب التفسير و القراءات حقّ الممارسة علم إجماع المسلمين جيلا بعد جيل في كلّ عصر حتّى في زمن الأئمة المعصومين في القراءات بالسماع و الحقّ في ذلك ما هو المنقول من العلامة قدّس سرّه في النهاية حيث قال :
و مخالفة الجاهلين بالقراءة لا يقدح في إجماع المسلمين إذ المعتبر في الإجماع و الخلاف قول أهل الخبرة فلو خالف غير النحوى في رفع الفاعل و غير المتكلم في حدوث العالم أو وجوب اللطف على اللّه لم يقدح في إجماع المسلمين أو الشيعة أو النحاة .
على أن القراءات المتواترة ينتهى إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله بالأخرة كما ذكرنا آنفا أن القراء كلّهم يرجعون إلى أبى عبد الرّحمن بن السلمى القارى و هو أخذ عن أمير المؤمنين عليه السّلام و هو أخذ عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، قال ابن النديم في الفهرست ( ص 49 من الفن الثالث من المقالة الأولى ط مصر ) : قرأ عاصم على أبي عبد الرّحمن
[ 279 ]
السلمى و قرأ السلمى على علىّ عليه السّلام و قرأ علىّ عليه السّلام على النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله ، و قال أيضا ( ص 45 ) : علىّ بن حمزة الكسائي قرأ على عبد الرّحمن بن أبى ليلى و كان ابن أبى ليلى يقرء بحرف علىّ عليه السّلام و كذا سائر القراء فعليك بالإتقان و الفن الثانى من مقدمة تفسير الطبرسى مجمع البيان و سائر الكتب المؤلفة في القراء و قراءات القرآن فلا مجال للوسوسة بعد ظهور البيان و تمام البرهان . و قد قال العلامة الحلىّ قدّس سرّه في التذكرة : « مسئلة » يجب أن يقرأ بالمتواتر من القراءات و هي سبعة و لا يجوز أن يقرأ بالشواذ و يجب أن يقرأ بالمتواتر من الآيات و هو ما تضمّنه مصحف علىّ عليه السّلام لأنّ أكثر الصحابة اتفقوا عليه و حرق عثمان ما عداه .