« جواب الشريف المرتضى علم الهدى و اعتراضه »

اعترض في الشافي عليه و ردّ كلامه بقوله : فأمّا قوله « إن الأخبار مكافئة في أمر أبي ذر و إخراجه إلى الرّبذة و هل كان ذلك باختياره أو بغير اختياره » فمعاذ اللّه أن يتكافي‏ء في ذلك بل المعروف الظاهر أنه نفاه من المدينة إلى الرّبذة ، ثمّ أتى بالروايات الثلاث عن الواقدى و قوله قد روى جميع أهل السيرة على اختلاف الطرق إلى آخر ما نقلناه عنه من الشافي المذكورة آنفا ثمّ قال : و الأخبار في هذا الباب أكثر من أن نحصرها و أوسع من أن نذكرها أو ما تحمل نفسه على ادّعا أن أبا ذر خرج مختارا إلى الربذة .

قال : و لسنا ننكر أن يكون ما أورده صاحب الكتاب من أنّه خرج مختارا قد روى إلاّ أنّه في الشاذّ النادر و بازاء هذه الرواية الفذة كلّ الروايات التى تتضمن خلافها و من تصفّح الأخبار علم أنها غير متكافئة على ما ظن صاحب الكتاب يعني به القاضي صاحب كتاب المغني و كيف يجوز خروجه عن تخيير و إنما اشخص من الشام على الوجه الّذي اشخص عليه من خشونة المركب و قبح السير به للموجدة عليه . ثمّ لما قدم منع الناس من كلامه و أغلظ له في القول و كلّ هذا لا يشبه أن يكون أخرجه إلى الرّبذة باختياره . و كيف يظن عاقل أن أبا ذر يحبّ أن يختار الرّبذة منزلا مع جدبها و قحطها و بعدها عن الخيرات و لم يكن بمنزل مثله .

[ 308 ]

فأمّا قوله « إنّه اشفق عليه من أن يناله بعض أهل المدينة بمكروه من حيث كان يغلظ له القول » فليس بشي‏ء يعوّل عليه لأنه لم يكن في أهل المدينة إلاّ من كان راضيا بقوله عاتبا بمثل عتبه إلا أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه و مخف ما عنده و ما في أهل المدينة إلاّ من رثى مما حدث على أبي ذر و استفظعه و من رجع إلى كتب السير عرف ما ذكرناه .

فأما قوله « إن عمر أخرج من المدينة نصر بن حجاج » فيما بعد ما بين الأمرين و ما كنا نظن أن أحدا يسوّى بين أبي ذر و هو وجه الصحابة و عينهم و من أجمع المسلمون على توقيره و تعظيمه و أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مدحه من صدق اللهجة بما لم يمدح به أحدا و بين نصر بن الحجاج الحدث الذي كان خاف عمر من افتتان النساء به و بشبابه و لا حظ له في فضل و لا دين . على أن عمر قد ذم باخراجه نصر بن الحجاج من غير ذنب كان منه و إذا كان من أخرج نصر بن الحجّاج مذموما فكيف بمن أخرج مثل أبي ذر رحمه اللّه ؟

فأمّا قوله « إنّ اللّه تعالى و الرّسول صلّى اللّه عليه و آله ندبا إلى خفض الجناح و لين القول للمؤمن و الكافر » فهو كما قال إلاّ أن هذا أدب كان ينبغي أن يتأدب به عثمان في أبى ذر و لا يقابله بالتكذيب و قد قطع الرسول صلّى اللّه عليه و آله على صدقه و لا يسمعه مكروه الكلام و هو إنما نصح له و أهدى عليه عيوبه و عاتبه على ما لو نوزع عنه لكان خيرا له في الدنيا و الآخرة و هذه جملة كافية .

في تاريخ أبى جعفر الطبرى : لما حضرت الوفاة أبا ذر في الربذة و ذلك في سنة اثنتين و ثلاثين من الهجرة في سنة ثمان في ذى الحجة من امارة عثمان قال لابنته : استشرفي يا بنيّة فانظرى هل ترين أحدا ؟ قالت : لا ، قال : فما جائت ساعتى بعد ، ثمّ أمرها فذبحت شاة ثمّ طبختها . ثمّ قال : إذا جائك الذين يدفنوني فقولى لهم : إن ابا ذر يقسم عليكم ان لا تركبوا حتّى تأكلوا فلمّا نضجت قدرها قال لها : انظرى هل ترين أحدا ؟ قالت : نعم ، هؤلاء ركب مقبلون . قال : استقبلى بى الكعبة ، ففعلت و قال : بسم اللّه و باللّه و على ملّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ثمّ خرجت ابنته فتلقتهم و قالت رحمكم اللّه

[ 309 ]

اشهدوا أبا ذر . قالوا : و أين هو ؟ فأشارت لهم إليه و قد مات فادفنوه قالوا : نعم و نعمة عين لقد أكرمنا اللّه بذلك و إذا ركب من أهل الكوفة فيهم ابن مسعود فمالوا إليه و ابن مسعود يبكى و يقول : صدق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يموت وحده و يبعث وحده فغسلوه و كفنوه و صلّوا عليه و دفنوه فلما أرادوا يرتحلوا قالت لهم : إنّ أبا ذر يقرء عليكم السّلام و اقسم عليكم أن لا تركبوا حتى تأكلوا ففعلوا .

و فيه في رواية اخرى باسناده عن الحلحال بن ذرى قال : خرجنا مع ابن مسعود سنة 31 و نحن أربعة عشر راكبا حتّى أتينا على الرّبذة فإذا امرأة قد تلقتنا فقالت : اشهدوا أبا ذر و ما شعرنا بأمره و لا بلغنا فقال و أين أبو ذر ؟ فأشارت إلى خباء فمال ابن مسعود إليه و هو يبكى فغسلناه و كفناه و إذا خباؤه خباء منضوح بمسك فقلنا للمرأة ما هذا ؟ فقالت كانت مسكة فلما حضر قال : إنّ الميت يحضره شهود يجدون الريح و لا يأكلون فدوفى تلك المسكة بماء ثمّ رشى بها الخباء فاقريهم ريحها و اطبخى هذا اللحم فانه سيشهدني قوم صالحون يلون دفنى فاقريهم فلما دفنّا دعتنا إلى الطعام فأكلنا . و الأحاديث في فضائل أبي ذر و اسلامه و ترجمته و مقامه في الرّبذة و موته و صلاة عبد اللّه بن مسعود عليه و من كان معه في موته كثيرة لا نطول بذكرها .