لما استتمّت البيعة لمعاوية من أهل الكوفة صعد المنبر فخطب النّاس ، و ذكر أمير المؤمنين عليّا عليه السّلام ، و نال منه و نال من الحسن عليه السّلام ما نال و كان الحسن و الحسين عليهما السّلام حاضرين فقام الحسين عليه السّلام ليردّ عليه فأخذ بيده الحسن عليه السّلام و أجلسه ثمّ قام فقال : أيّها الذاكر عليّا أنا الحسن و أبي عليّ ، و أنت معاوية و أبوك صخر ، و امّي فاطمة و امّك هند ، و جدّي رسول اللّه وجدّك حرب ، وجدّتي خديجة وجدّتك فتيلة فلعن اللّه أخملنا ذكرا و ألأمنا حسبا و شرّنا قدما و أقدمنا كفرا و نفاقا . فقالت طوائف من أهل المسجد : آمين آمين .
و كذلك يقول مؤلّف الكتاب نجم الدّين الحسن الطبريّ الامليّ : آمين آمين ، و يرحم اللّه عبدا قال آمينا ، و نقل القصّة الشيخ الأجلّ المفيد رحمه اللّه في الإرشاد ( ص 173 طبع طهران 1377 ه ) و من ذلك أنّه اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص ، و الوليد بن عقبة ، و عقبة ابن أبي سفيان ، و المغيرة بن شعبة فقالوا : يا أمير المؤمنين ابعث لنا إلى الحسن ابن عليّ ، فقال لهم : فيم ؟ فقالوا : كي نوبّخه و تعرفه أنّ أباه قتل عثمان ، فقال لهم : إنّكم لا تنتصفون منه و لا تقولون شيئا إلاّ كذّبكم النّاس ، و لا يقول لكم شيئا ببلاغته إلاّ صدّقه النّاس ، فقالوا : أرسل إليه فإنّا سنكفيك أمره ، فأرسل إليه معاوية ، فلمّا حضر قال : يا حسن إنّي لم أرسل إليك و لكن هؤلاء أرسلوا إليك فاسمع
[ 289 ]
مقالتهم و أجب و لا تحرمني فقال الحسن عليه السّلام فليتكلّموا و نسمع .
فقام عمرو بن العاص فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال : هل تعلم يا حسن أنّ أباك أوّل من أثار الفتنة ، و طلب الملك ؟ فكيف رأيت صنع اللّه به ؟ .
ثمّ قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال : يا بني هاشم كنتم أصهار عثمان بن عفّان فنعم الصّهر كان يفضلكم و يقرّبكم ثمّ بغيتم عليه فقتلتموه و لقد أردنا يا حسن قتل أبيك فأنقذنا اللّه منه ، و لو قتلناه بعثمان ما كان علينا من اللّه ذنب .
ثمّ قام عقبة فقال : تعلم يا حسن أنّ أباك بغى على عثمان فقتله حسدا على الملك و الدّنيا فسلبها ؟ و لقد أردنا قتل أبيك حتّى قتله اللّه تعالى .
ثمّ قام المغيرة بن شعبة فكان كلامه كلّه سبّا لعليّ و تعظيما لعثمان .
فقام الحسن عليه السّلام فحمد اللّه تعالى و أثنى عليه و قال : بك أبدأ يا معاوية لم يشتمني هؤلاء و لكن أنت تشتمني بغضا و عداوة و خلافا لجدّي صلّى اللّه عليه و اله ثمّ التفت إلى النّاس و قال : انشدكم اللّه ، أتعلمون أنّ الرّجل الّذي شتمه هؤلاء كان أوّل من آمن باللّه ، و صلّى للقبلتين ، و أنت يا معاوية يومئذ كافر تشرك باللّه ، و كان معه لواء النبيّ صلّى اللّه عليه و اله يوم بدر و مع معاوية و أبيه لواء المشركين ؟
ثمّ قال : انشدكم اللّه و الإسلام أتعلمون أنّ معاوية كان يكتب الرسائل لجدّي صلّى اللّه عليه و اله فأرسل إليه يوما فرجع الرّسول و قال : هو يأكل فردّ الرّسول إليه ثلاث مرّات كلّ ذلك و هو يقول هو يأكل فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله : لا أشبع اللّه بطنه أما تعرف ذلك في بطنك يا معاوية ؟
ثمّ قال : و انشدكم اللّه أتعلمون أنّ معاوية كان يقود بأبيه على جمل و أخوه هذا يسوقه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله : لعن اللّه الجمل و قائده و راكبه و سائقه ؟ هذا كلّه لك يا معاوية .
و أمّا أنت يا عمرو : فتنازع فيك خمسة من قريش فغلب عليك ألأمهم حسبا و شرّهم منصبا ، ثمّ قمت وسط قريش فقلت : إنّي شانىء محمّد فأنزل اللّه على نبيّه صلّى اللّه عليه و اله
[ 290 ]
إنّ شانئك هو الأبتر ثمّ هجوت محمّدا صلّى اللّه عليه و اله بثلاثين بيتا من الشعر فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و اله :
إنّي لا أحسن الشّعر و لكن العن عمرو بن العاص بكلّ بيت لعنة ثمّ انطلقت إلى النجاشي بما علمت و عملت فأكذبك اللّه وردّك خائبا فأنت عدوّ بني هاشم في الجاهلية و الإسلام فلم نلمك على بغضك .
و أمّا أنت يا ابن أبي معيط فكيف ألومك على سبّك لعليّ و قد جلّد ظهرك في الخمر ثمانين سوطا ، و قتل أباك صبرا بأمر جدّي و قتله جدّي بأمر ربّي ، و لمّا قدّمه للقتل قال : من للصبية يا محمّد ؟ فقال : لهم النّار ، فلم يكن لكم عن النبيّ صلّى اللّه عليه و اله إلاّ النار و لم يكن لكم عند عليّ غير السّيف و السّوط .
و أمّا أنت يا عقبة فكيف تعد أحدا بالقتل ؟ لم لاقتلت الّذي وجدته في فراشك مضاجعا لزوجتك ثمّ أمسكتها بعد أن بغت .
و أمّا أنت يا أعور ثقيف ففي أيّ ثلاث تسبّ عليّا : أفي بعده من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ أم في حكم جائر ؟ أم في رغبة في الدّنيا ؟ فان قلت شيئا من ذلك فقد كذبت اكذبك النّاس ، و إن زعمت أنّ عليّا قتل عثمان فقد كذبت و أكذبك النّاس ، و أمّا وعيدك فإنّما مثلك كمثل بعوضة وقفت على نخلة فقالت لها : استمسكي فانّي اريد أن أطير فقالت لها النخلة : ما علمت بوقوفك فكيف يشقّ عليّ طيرانك ؟
و أنت فما شعرنا بعداوتك فكيف يشقّ علينا سبّك ؟ ثمّ نفض ثيابه و قام .
فقال لهم معاوية : ألم أقل لكم إنّكم لا تنتصفون منه ؟ فو اللّه لقد أظلم عليّ البيت حتى قام فليس لكم بعد اليوم خير . و قد نقلها أبو بكر بن عليّ القادري الحنفيّ في ثمرات الأوراق في المحاضرات ( هامش المستطرف ص 55 ج 1 طبع مصر ) .
و المراد من الألأم الشانىء الأبتر هو العاص بن وائل السّهمي ، و كان عمرو ابنه على النّحو الّذي بيّنه المجتبى عليه السّلام .
و رواية « لا أشبع اللّه بطنه » منقبة جليلة لمعاوية قد اصطلحت نقلة الاثار بنقلها منهم ابن عبد البرّ في الاستيعاب ، و ابن الأثير في اسد الغابة عن مسند أبي داود الطيالسي و غيره ، و ما أنكروا ثبوتها له .
[ 291 ]
و قد روى الصّدوق رحمه اللّه في باب السبعة من كتابه الخصال : قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : المؤمن يأكل في معاء واحدة و الكافر يأكل في سبعة أمعاء ،
و روى السيوطي في الجامع الصغير عنه صلّى اللّه عليه و اله : المؤمن يشرب في معي واحد و الكافر يشرب في سبعة أمعاء .
« المعى » يذكر و يؤنث فالعبارة في الروايتين صحيحة ، و سيأتي كلام صعصعة له :
اتسع بطن من لا يشبع ، و دعا عليه من لا يجمع .
و الكلام في حديث اللّعن كالرّواية المتقدّمة في المنقبة المذكورة ، و قد مضى نقل روايات اخرى في سائر مناقبه أيضا عن كتاب صفّين لنصر بن مزاحم في شرح المختار 236 ( ص 370 374 ج 15 ) منها عن البراء بن عاذب قال : أقبل أبو سفيان و معه معاوية ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله : اللّهمّ العن التابع و المتبوع .
و روى الصّدوق رحمه اللّه في باب السبع من الخصال عن أبي الطفيل عامر بن واثلة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله لعن أبا سفيان في سبعة مواطن . فراجع .
و من ذلك أنّ شريك بن الأعور دخل على معاوية و هو يختال في مشيته ، فقال له معاوية : و اللّه إنّك لشريك و ليس للّه من شريك ، و إنّك ابن الأعور و الصّحيح خير من الأعور ، و إنّك لدميم و الوسيم خير من الدّميم فبم سوّدك [ سدت ] قومك ؟
فقال له شريك : و اللّه إنّك لمعاوية و ما معاوية إلاّ كلبة عوت فاستعوت فسمّيت معاوية ، و إنّك ابن حرب و السّلم خير من الحرب ، و إنّك ابن صخر و السّهل خير من الصّخر ، و إنّك ابن اميّة و ما اميّة إلاّ أمة صغّرت فسميّت اميّة فكيف صرت أمير المؤمنين ؟
فقال له معاوية : أقسمت عليك إلاّ ما خرجت عنّي .
نقلها في ثمرات الأوراق أيضا ( هامش المستطرف ص 59 ج 1 ) و نقلها الأبشيهي في المستطرف ( ص 57 ج 1 ) .
و في تاريخ الخلفاء ( ص 199 ) للسّيوطي و في المستطرف للأبشيهي ( ص 58 ج 1 ) :
أخرج عن الفضل بن سويد قال : وفد جارية بن قدامة السعدي على معاوية فقال
[ 292 ]
له معاوية : أنت الساعي مع عليّ بن أبي طالب ، و الموقد النّار في شعلك تجوس قرى عربية تسفك دماءهم ؟
قال جارية : يا معاوية دع عنك عليّا فما أبغضنا عليّا منذ أحببناه ، و لا غششناه منذ صحبناه .
قال : ويحك يا جارية ما كان أهونك على أهلك إذا سمّوك جارية قال :
أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سمّوك معاوية و هي الانثى من الكلاب ،
قال : اسكت لا امّ لك ، قال : امّ لي ولدتني أما و اللّه إنّ القلوب الّتي أبغضناك بها لبين جوانحنا ، و قوائم السيوف الّتي لقيناك بها بصفّين في أيدينا ، قال : إنّك لتهدّدني ؟ قال : إنّك لم تملكنا قسرة و لم تفتحنا عنوة ، و لكن أعطيتنا عهودا و مواثيق فان وفيت لنا وفينا و إن ترغب إلى غير ذلك فقد تركنا وراءنا رجالا مدادا ،
و أدرعا شدادا ، و أسنّة حدادا ، فإن بسطت إلينا فترا من غدر زلفنا إليك بباع من ختر قال معاوية : لا أكثر اللّه في النّاس أمثالك يا جارية فقال له : قل معروفا فإنّ شرّ الدّعاء محيط أهله .
و أخرج ابن عساكر عن عبد الملك بن عمير قال : قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية فقال : من أنت ؟ قال : جارية بن قدامة ، قال : و ما عسيت أن تكون ؟ هل أنت إلاّ نحلة ؟ قال : لا تقل ، فقد شبّهتني بها حامية اللّسعة حلوة البصاق و اللّه ما معاوية إلاّ كلبة تعاوي الكلاب ، و ما اميّة إلاّ تصغير أمة ،
( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 199 ) .
و دخل عديّ بن حاتم الطائي على معاوية فقال له معاوية : ما فعلت الطرفات يعني أولاده ؟ قال : قتلوا مع عليّ ، قال : ما أنصفك على قتل أولادك و بقاء أولاده ، فقال عديّ : ما أنصفك عليّ [ ما أنصفت عليّا ] إذ قتل و بقيت بعده فقال معاوية :
أما إنّه قد بقي قطرة من دم عثمان ما يمحوها إلاّ دم شريف من أشراف اليمن .
فقال عديّ : و اللّه إنّ قلوبنا الّتي أبغضناك بها لفي صدورنا ، و إنّ أسيافنا الّتي قاتلناك بها لعلى عواتقنا ، و لئن أدنيت إلينا من الغدر فترا لندنينّ إليك من
[ 293 ]
الشرّ شبرا و إنّ حزّ الحلقوم و حشرجة الحيزوم لأهون علينا من أن نسمع المساءة في علي فسلّم السيف لباعث السيف .
فقال معاوية : هذه كلمات حكم فاكتبوها و أقبل علي عديّ محادثا له كأنّه ما خاطبه بشيء ، ذكره المسعوديّ في مروج الذّهب ( ص 54 ج 2 ) .
و خطب معاوية يوما فقال : إنّ اللّه تعالى يقول : و إن من شيء إلاّ عندنا خزائنه و ما ننزّله إلاّ بقدر معلوم فعلام تلومونني إذا قصرت في عطاياكم ؟
فقال له الأحنف : و إنّا و اللّه لا نلومك على ما في خزائن اللّه و لكن على ما أنزله اللّه من خزائنه فجعلته في خزائنك حلت بيننا و بينه ، نقله في المستطرف ( ص 58 ج 1 ) .
و دخل عقيل على معاوية و قد كفّ بصره فأجلسه معه على سريره ثمّ قال له :
أنتم معشر بني هاشم تصابون في أبصاركم ، فقال له عقيل : و أنتم معشر بني اميّة تصابون في بصائركم . أتى به في المستطرف ( ص 58 ج 1 ) .
و قال معاوية يوما : أيّها الناس إنّ اللّه حبا قريشا بثلاث : فقال لنبيّه : « و أنذر عشيرتك الأقربين » و نحن عشيرته الأقربون ، و قال تعالى : و إنّه لذكر لك و لقومك و نحن قومه ، و قال تعالى : لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء و الصيف و نحن قريش .
فأجابه رجل من الأنصار فقال : على رسلك يا معاوية فإنّ اللّه تعالى يقول :
و كذب به قومك و هو الحقّ و أنتم قومه ، و قال تعالى : و لما ضرب ابن مريم مثلاً إذا قومك منه يصدّون و أنتم قومه ، و قال تعالى : و قال الرَّسول يا ربِّ إنّ قومي اتّخذوا هذا القرآن مهجوراً و أنتم قومه ثلاثة بثلاثة . ذكره في المستطرف ( ص 58 ج 1 ) .
و من ذلك أنّ معاوية حجّ سنة 44 و لمّا صار إلى المدينة أتاه جماعة من بني هاشم و كلّموه في امورهم فقال : أما ترضون يا بني هاشم أن نقرّ عليكم دماءكم و قد قتلتم عثمان حتّى تقولوا ما تقولون فو اللّه لأنتم أحلّ دما من كذا و كذا و أعظم في القول .
فقال له ابن عبّاس : كلّما قلت لنا يا معاوية من شرّ بين دفّتيك و أنت و اللّه أولى بذلك منّا ، أنت قتلت عثمان ثمّ قمت تغمص على النّاس أنّك تطلب بدمه
[ 294 ]
فانكسر معاوية ، فقال ابن عبّاس و اللّه ما رأيتك صدقت إلاّ فزعت و انكسرت ، قال فضحك معاوية ، و قال : و اللّه ما احبّ أنّكم لم تكونوا كلّمتموني .
ثمّ كلّمه الأنصار فأغلظ لهم في القول و قال لهم : ما فعلت نواضحكم ؟ قالوا أفنيناها يوم بدر لما قتلنا أخاك و جدّك و خالك ، و لكنّا نفعل ما أوصانا به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال : ما أوصاكم به ؟ قالوا : أوصانا بالصبر قال : فاصبروا ثمّ ادلج معاوية إلى الشام و لم يقض لهم حاجة .
ذكره اليعقوبي في التاريخ ( ص 198 ج 2 ) ثمّ قال اليعقوبيّ : و أخرج معاوية المنابر إلى المصلّى في العيدين و خطب الخطبة قبل الصّلاة و ذلك أنّ الناس كانوا إذا صلّوا انصرفوا لئلاّ يسمعوا لعن عليّ عليه السّلام فقدّم معاوية الخطبة قبل الصلاة و وهب فدكا لمروان بن الحكم ليغيظ بذلك آل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله .
قال السيوطي في تاريخ الخلفاء ( ص 201 ) : و ابن عبد البرّ في الاستيعاب عن عبد اللّه بن محمّد بن عقيل : قدم معاوية المدينة فلقيه أبو قتادة الأنصاري ، فقال معاوية : تلقّاني النّاس كلّهم غيركم يا معشر الأنصار ، قال : لم يكن لنا دوابّ فقال : فأين النّواضح ؟ قال : عقرناها في طلبك و طلب أبيك يوم بدر ، قال : نعم يا أبا قتادة ثمّ قال أبو قتادة : إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله قال لنا : انّكم سترون بعدي أثره ،
فقال معاوية : فما أمركم عند ذلك ؟ قال : أمرنا بالصبر ، قال : فاصبروا حتّى تلقوه ، فبلغ عبد الرّحمن بن حسّان بن ثابت ذلك فقال :
ألا أبلغ معاوية بن حرب
أمير المؤمنين نبا كلامي
فإنّا صابرون و منظروكم
إلى يوم التغابن و الخصام
و في نسخة الاستيعاب : نثا كلامي ، و في بعضها عنى كلامي .
و من ذلك أنّه لم يكن أحد أحبّ إلى معاوية أن يلقاه من أبي الطّفيل عامر ابن واثلة الصّحابي الكناني و كان فارس أهل صفّين و شاعرهم ، و كان من أخصّ النّاس بعليّ عليه السّلام ، فقدم أبو الطفيل الشّام يزور ابن أخ له من رجال معاوية فأخبر معاوية
[ 295 ]
بقدومه ، فأرسل إليه ، فأتاه و هو شيخ كبير ، فلمّا دخل عليه ، قال له معاوية : أنت أبو الطفيل عامر بن واثلة ؟ قال : نعم ، قال معاوية : أكنت ممّن قتل عثمان ؟ قال :
لا و لكن ممّن شهده فلم ينصره ، قال : و لم ؟ قال : لم ينصره المهاجرون و الأنصار ، فقال معاوية : أما و اللّه إن نصرته كانت عليهم و عليك حقّا واجبا ، و فرضا لازما فقال أبو الطفيل : فما منعك إذ تربّصت به ريب المنون أن لا تنصره و معك أهل الشام ؟ فقال معاوية : أما طلبي بدمه نصرة له ؟ فضحك أبو الطفيل و قال : بلى و لكنّك و عثمان كما قال عبيد بن الأبرص .
لا ألفينّك بعد الموت تندبني
و في حياتي ما زوّدتني زادا
فدخل مروان بن الحكم ، و سعيد بن العاص ، و عبد الرّحمن بن الحكم فلمّا جلسوا نظر إليهم معاوية ، ثمّ قال : أتعرفون هذا الشيخ ؟ قالوا : لا فقال معاوية :
هذا خليل عليّ بن أبي طالب ، و فارس صفّين ، و شاعر أهل العراق ، هذا أبو الطّفيل ،
قال سعيد بن العاص : قد عرفناه فما يمنعك منه ؟ و شتمه القوم فزجرهم معاوية ،
قال : مهلا فربّ يوم ارتفع عن الأسباب قد ضقتم به ذرعا ، ثمّ قال : أتعرف هؤلاء يا أبا الطّفيل ؟ قال : ما أنكرهم من سوء ، و لا أعرفهم بخير ، و أنشد :
فإن تكن العداوة قد أكنّت
فشرّ عداوة المرء السباب
فقال معاوية : يا أبا الطفيل ما أبقى لك الدهر من حبّ عليّ ؟ قال : حبّ امّ موسى و أشكو إلى اللّه التقصير . ( و في مروج الذّهب : قال معاوية له : كيف وجدك على خليلك أبي الحسن ؟ قال : كوجد امّ موسى على موسى و أشكو إلى اللّه التقصير ) فضحك معاوية ، قال : و لكن و اللّه هؤلاء الّذين حولك لو سألوا عنّي ما قالوا هذا فقال مروان : أجل و اللّه لا نقول الباطل ، ( الامامة و السياسة للدينوريّ ص 192 ج 1 ، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 200 ، مروج الذّهب للمسعوديّ ص 62 ج 2 ) و ذكره أبو الفرج في الأغاني على التفصيل فراجع ( ص 159 ج 13 من طبع ساسي ) .
و دخل على معاوية ضرار بن الخطّاب فقال له : كيف حزنك على أبي الحسن ؟
[ 296 ]
قال : حزن من ذبح ولدها على صدرها فما ترقأ عبرتها و لا يسكن حزنها ، نقله المسعودي في مروج الذّهب ( ص 62 ج 2 ) .
و أخرج العسكري في كتاب الأوائل عن سليمان بن عبد اللّه بن معمر قال :
قدم معاوية مكّة أو المدينة فأتى المسجد فقعد في حلقة فيها ابن عمرو ابن عبّاس و عبد الرّحمن بن أبي بكر فأقبلوا عليه و أعرض عنه ابن عبّاس فقال معاوية : و أنا أحقّ بهذا الأمر من هذا المعرض و ابن عمّه ، فقال ابن عبّاس : و لم ؟ ألتقدّم في الإسلام ، أم سابقة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله ، أو قرابة منه ؟ قال : لا و لكنّي ابن عمّ المقتول ، قال : فهذا أحقّ به يريد ابن أبي بكر قال : إنّ أباه مات موتا ،
قال : فهذا أحقّ به يريد ابن عمر قال : إنّ أباه قتله كافر ، قال : فذاك أدحض لحجّتك إن كان المسلمون عتبوا على ابن عمّك فقتلوه ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 201 ) .
و أخرج ابن عساكر عن الأوزاعي قال : دخل خريم بن فاتك على معاوية و مئزره مشمّر و كان حسن الساقين فقال معاوية : لو كانت هاتان الساقان لأمرة فقال خريم : في مثل عجيزتك يا أمير المؤمنين ( تاريخ الخلفاء ص 204 ) .
و أخرج ابن عساكر عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه أنّ عقيلا دخل على معاوية فقال معاوية : و هذا عقيل و عمّه أبو لهب ، فقال عقيل : هذا معاوية و عمّته حمّالة الحطب ( تاريخ الخلفاء ص 204 ) .
و أخرج ابن عساكر عن حميد بن هلال أنّ عقيل بن أبي طالب سأل عليّا عليه السّلام فقال : إنّي محتاج و إنّي فقير فأعطني ، فقال : اصبر حتّى يخرج عطائي مع المسلمين فأعطيك معهم فألحّ عليه ، فقال لرجل : خذ بيده و انطلق به إلى حوانيت أهل السوق فقل : دق هذه الأقفال ، و خذ ما في هذه الحوانيت ، قال : تريد أن تتّخذني سارقا ؟ قال : و أنت تريد أن تتّخذني سارقا ؟ أن آخذ أموال المسلمين فأعطيكها دونهم ، قال : لاتينّ معاوية ، قال : أنت و ذاك فأتى معاوية فسأله و أعطاه مائة ألف ، ثمّ قال : اصعد على المنبر فاذكر ما أولاك به عليّ و ما أوليتك فصعد فحمد اللّه و أثنى عليه ، ثمّ قال : أيّها النّاس إنّي أخبركم أنّي أردت عليّا على دينه فاختار دينه ، و أنّي أردت معاوية على دينه فاختارني على دينه . ( تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 204 )
[ 297 ]
و من ذلك أنّه وفد على معاوية عقيل بن أبي طالب منتجعا و زائرا ، فرحبّ به معاوية و سرّ بوروده لاختياره إيّاه على أخيه يعني أمير المؤمنين عليّا عليه السّلام و أوسعه حلما و احتمالا فقال له : يا أبا يزيد يعني عقيلا كيف تركت عليّا ؟
فقال : تركته على ما يحبّ اللّه و رسوله ، و ألفيتك على ما يكره اللّه و رسوله ،
فقال له معاوية : لو لا إنّك زائر منتجع جنابنا لرددت عليك أبا يزيد جوابا تألم منه .
ثمّ أحبّ معاوية أن يقطع كلامه مخافة أن يأتي بشيء يخفضه ، فوثب عن مجلسه و أمر له أن ينزل و حمل إليه مالا عظيما ، فلمّا كان من غد جلس و أرسل إليه فأتاه فقال له : يا أبا يزيد كيف تركت عليّا أخاك ؟ قال : تركته خيرا لنفسه منك و أنت خير لي منه ، فقال له معاوية : أنت و اللّه كما قال الشاعر :
و إذا عددت فخار آل محرق
فالمجد منهم في بني عتاب
فمحلّ المجد من بني هاشم منوط فيك يا أبا يزيد ما تغيّرك الأيّام و اللّيالي ،
فقال عقيل :
اصبر لحرب أنت جانيها
لا بدّ أن تصلّى بحاميها
و أنت و اللّه يا ابن أبي سفيان كما قال الاخر :
و إذا هوازن أقبلت بفخارها
يوما فخرتهم بآل مجاشع
بالحاملين على الموالي عزمهم
و الضاربين الهام يوم القارع
و لكن أنت يا معاوية إذا افتخرت بنو اميّة فبمن تفخر ؟ فقال معاوية : عزمت عليك أبا يزيد لما أمسكت فانّي لم أجلس لهذا و إنّما أردت أن أسألك عن أصحاب عليّ فانّك ذو معرفة بهم ، فقال عقيل : سل عما بدا لك ، فقال : ميّز لي أصحاب علىّ و ابدأ بآل صوحان فانّهم مخاريق الكلام ، قال : أمّا صعصعة فعظيم الشأن ،
عضب اللّسان ، قائد فرسان ، قاتل أقران ، يرتق ما فتق ، و يفتق ما رتق ،
قليل النظير .
[ 298 ]
و أمّا زيد و عبد اللّه فانّهما نهران جاريان يصبّ فيهما الخلجان ، و يغاث بهما البلدان ، رجلا جدّ لا لعب معه ، و أمّا بنو صوحان فكما قال الشاعر :
إذا نزل العدوّ فانّ عندي
اسودا تخلس الأسد النفوسا
فاتّصل كلام عقيل بصعصعة فكتب إليه : بسم اللّه الرّحمن الرّحيم ، ذكر اللّه أكبر و به يستفتح المستفتحون ، و أنتم مفاتيح الدّنيا و الاخرة ، أمّا بعد فقد بلغ مولاك كلامك لعدوّ اللّه و عدوّه فحمدت اللّه على ذلك و سألته أن يفيء بك إلى الدّرجة العليا ، و القضيب الأحمر ، و العمود الأسود ، فإنّه عمود من فارقه فارق الدّين الأزهر ، و لئن نزعت بك نفسك إلى معاوية طلبا لماله إنّك لذو علم بجميع خصاله فاحذر أن تعلق بك ناره فيضلّك عن الحجّة فإنّ اللّه قد رفع عنكم أهل البيت ما وضعه في غيركم ، فما كان من فضل أو احسان فبكم وصل إلينا ، فأجلّ اللّه أقداركم و حمى أخطاركم ، و كتب آثاركم ، فإنّ أقداركم مرضيّة ، و أخطاركم محميّة و آثاركم بدريّة ، و أنتم سلّم اللّه إلى خلقه ، و وسيلته إلى طرقه ، أيد عليّة ، و وجوه جليّة ، و أنتم كما قال الشاعر :
فما كان من خبر أتوه فإنّما
توارثه آباء آبائهم قبل
و هل ينبت الخطى إلاّ وشيجه
و تغرس إلاّ في منابتها النخل ؟
نقله المسعودي في مروج الذّهب ( ص 75 ج 2 ) .
وحدت أبو جعفر محمّد بن جرير الطبريّ ، عن محمّد بن حميد الرازي ، عن أبي مجاهد عن محمّد بن إسحاق بن أبي نجيح قال : لمّا حجّ معاوية طاف بالبيت و معه سعد فلما فرغ انصرف معاوية إلى دار الندوة فأجلسه معه على سريره ، و وقع معاوية في عليّ و شرع في سبّه فزحف سعد ثمّ قال : أجلستني معك على سريرك ثمّ شرعت في سبّ عليّ و اللّه لأن تكون فيّ خصلة واحدة من خصال كانت لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس .
و اللّه لأن أكون صهر الرّسول صلّى اللّه عليه و اله لي من الولد ما لعليّ أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس .
[ 299 ]
و اللّه لأن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله قاله لي ما قاله يوم خيبر : « لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّه اللّه و رسوله و يحبّ اللّه و رسوله ليس بفرّار يفتح اللّه على يديه » أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس .
و اللّه لأن يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله قال لي ما قال له في غزوة تبوك : « ألا ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي » أحبّ إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس و أيم اللّه لا دخلت لك دارا ما بقيت و نهض .
نقله المسعودي في مروج الذّهب ( ص 61 ج 2 ) ثمّ قال المسعودي : و وجدت في وجه آخر من الرّوايات و ذلك في كتاب عليّ بن محمّد بن سليمان النوفلي في الأخبار عن ابن عائشة و غيره أنّ سعدا لما قال هذه المقالة لمعاوية و نهض ليقوم ضرط له معاوية و قال له : اقعد حتّى تسمع جواب ما قلت ما كنت عندي قطّ ألأم منك الان فهلاّ نصرته و لم قعدت عن بيعته ؟ فإنّي لو سمعت من النبيّ مثل الّذي سمعت فيه لكنت خادما لعليّ ما عشت ، فقال سعد : و اللّه إنّي لأحقّ بموضعك منك ،
فقال معاوية : يأبى عليك بنو عذرة و كان سعد فيما يقال لرجل من بني عذرة قال النوفلي : و في ذلك يقول السيّد الحميريّ :
سائل قريشا بها إن كنت ذا عمه
من كان أثبتها في الدّين أوتادا
من كان أقدمها سلما و أكثرها
علما و أطهرها أهلا و أولادا
من وحّد اللّه إذ كانت مكذّبة
تدعو مع اللّه أوثانا و أندادا
من كان يقدم في الهيجاء ان نكلوا
عنها و إن بخلوا في أزمة جادا
من كان أعدلها حكما و أقسطها
حلما و أصدقها وعدا و إيعادا
إن يصدقوك فلم يعدوا أبا حسن
إن أنت لم تلق للأبرار حسّادا
إن أنت لم تلق من تيم أخاصلف
و من عديّ لحقّ اللّه جحّادا
أو من بني عامر أو من بني أسد
رهط العبيد ذوي جهل و أوغادا
أو رهط سعد و سعد كان قد علموا
عن مستقيم صراط اللّه صدادا
[ 300 ]
قوم تداعوا زنيما ثمّ سادهم
لو لا خمول بني زهر لما سادا
و قال معاوية لعقيل : إنّ فيكم شبقا يا بني هاشم ، فقال له عقيل : منّا في الرّجال و منكم في النساء ، نقله القاضي نور اللّه الشهيد في المجلس الثالث من مجالس المؤمنين .
و من ذلك ما جرى بين معاوية و بين قيس بن سعد بن عبادة حين كان عاملا على مصر فكتب إليه معاوية : أمّا بعد فانّك يهوديّ ابن يهوديّ و إن ظفر أحبّ الفريقين إليك عزلك و استبدل بك ، و إن ظفر أبغضهما إليك نكل بك و قتلك و قد كان أبوك أو ترقوسه و رمى غرضه فأكثر الجدّ و أخطأ القصد فخذله قومه و أدركه يومه ثمّ مات بحوران طريدا .
فكتب إليه قيس بن سعد : أمّا بعد فإنّما أنت و ثنيّ ابن وثنيّ دخلت في الإسلام كرها ، و خرجت منه طوعا لم يقدم إيمانك و لم يحدث نفاقك و قد كان أبي أو ترقوسه و رمى غرضه فشغب به من لم يبلغ عقبه و لا شق غباره ، و نحن أنصار الدّين الّذي منه خرجت و أعداء الدّين الّذي فيه دخلت ، نقله المسعوديّ في مروج الذّهب ( ص 62 ج 2 ) .
و دخل قيس بن سعد بعد وفاة عليّ و وقوع الصلح في جماعة من الأنصار على معاوية فقال لهم معاوية : يا معشر الأنصار بم تطلبون ما قبلي ؟ فو اللّه لقد كنتم قليلا معي ، كثيرا عليّ ، و لفللتم حدّي يوم صفّين حتّى رأيت المنايا تلظّى في أسنّتكم و هجوتموني في أسلافي بأشدّ من وقع الأسنّة حتّى إذا أقام اللّه ما حاولتم ميله قلتم ارع وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله هيهات يأبى الحقير الغدرة .
فقال قيس : نطلب ما قبلك بالاسلام الكافي به اللّه لا بما نمت به إليك الأحزاب و أمّا عداوتنا لك فلو شئت كففتها عنك ، و أمّا هجاؤنا إيّاك فقول يزول باطله و يثبت حقّه ، و أمّا استقامة الأمر فعلى كره كان منّا ، و أمّا فلّنا حدّك يوم صفّين فانّا كنّا مع رجل نرى طاعته للّه طاعة ، و أمّا وصيّة رسول اللّه بنا فمن آمن به رعاها بعده ، و أمّا قولك يأبى الحقير الغدرة فليس دون اللّه يد تحجزك منّا يا معاوية ، فقال
[ 301 ]
معاوية : دعوه 1 ارفعوا حوائجكم .
نقله المسعودي في مروج الذّهب ( ص 63 ج 2 ) ثمّ قال : و قد كان قيس بن سعد من الزهد و الدّيانة و الميل إلى عليّ بالموضع العظيم .
لما قدم معاوية الكوفة صعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال : أمّا بعد ذلكم فإنّه لم تختلف امّة بعد نبيّها إلاّ غلب باطلها حقّها إلاّ ما كان من هذه الامّة فإنّ حقّها غلب باطلها . ثمّ نزل و أحضر النّاس لبيعته و كان الرّجل يحضر فيقول : و اللّه يا معاوية إنّي لا بايعك و إنّي لكاره لك فيقول : بايع فانّ اللّه قد جعل في المكروه خيرا كثيرا و يأتي الاخر فيقول : أعوذ باللّه من نفسك ، و أتاه قيس بن سعد بن عبادة فقال : بايع قيس ، قال : إن كنت لأكره مثل هذا اليوم يا معاوية ؟ فقال له : مه رحمك اللّه ، فقال : لقد حرصت أن افرق بين روحك و جسدك قبل ذلك فأبى اللّه يا ابن أبي سفيان إلاّ ما أحبّ ، قال : فلا يردّ أمر اللّه ، فأقبل قيس على النّاس بوجهه فقال : « يا معشر النّاس لقد اعتضتم الشرّ من الخير ، و استبدلتم الذلّ من العزّ ، و الكفر من الإيمان ، فأصبحتم بعد ولاية أمير المؤمنين و سيّد المسلمين و ابن عمّ رسول ربّ العالمين ، و قد وليكم الطّليق ابن الطّليق ، يسومكم الخسف ،
و يسير فيكم بالعسف ، فكيف تجهل ذلك أنفسكم أم طبع اللّه على قلوبكم و أنتم لا تعقلون » فجثا معاوية على ركبتيه ثمّ أخذ بيده و قال : أقسمت عليك ثمّ صفق على كفّه و نادى النّاس : بايع قيس فقال : كذبتم و اللّه ما بايعت و لم يبايع لمعاوية أحد إلاّ أخذ عليه الإيمان فكان أوّل من استخلف على بيعته .
و دخل إليه سعد بن مالك فقال : السّلام عليك أيها الملك . فغضب معاوية فقال : ألاّ قلت السّلام عليك يا أمير المؤمنين ؟ قال : ذاك إن كنّا أمّرناك ، إنّما أنت منتز ، ( نقلهما اليعقوبي في التاريخ ص 192 ج 2 ) .
حدث أبو الهيثم قال : حدثني أبو البشر محمّد بن بشر الفزاري عن إبراهيم بن عقيل البصريّ قال : قال معاوية يوما و عنده صعصعة و كان قدم عليه بكتاب عليّ و عنده
-----------
( 1 ) كان الاصل : يموه ، و انما صححناه على القياس . منه .
[ 302 ]
وجوه النّاس : الأرض للّه و أنا خليفة اللّه فما آخذ من مال اللّه فهو لي و ما تركته منه كان جائزا لي ، فقال صعصعة :
تمنّيك نفسك ما لا يكون
جهلا معاوى لا تأثم
فقال معاوية : يا صعصعة تعلّمت الكلام قال : العلم بالتعلّم و من لا يعلم يجهل ، قال معاوية : ما أحوجك إلى أن اذيقك و بال أمرك قال : ليس ذلك بيدك ذلك بيد الّذي لا يؤخّر نفسا إذا جاء أجلها ، قال معاوية : و من يحول بيني و بينك ؟ قال :
الّذي يحول بين المرء و قلبه ، قال معاوية : اتّسع بطنك للكلام كما اتّسع بطن البعير للشعير : قال : اتّسع بطن من لا يشبع و دعا عليه من لا يجمع ، نقله المسعوديّ في مروج الذّهب ( ص 79 ج 2 ) .
و دخل صعصعة بن صوحان على معاوية فقال له : يا ابن صوحان أنت ذو معرفة بالعرب و بحالها فأخبرني عن أهل البصرة و إيّاك و الحمل على قوم لقوم فأجابه و أخبره عنهم ، ثمّ قال : فأخبرني عن أهل الكوفة قال : قبة الاسلام و ذروة الكلام إلى أن قال : غير أنّ لهم ثباتا في الدّين و تمسكا بعروة اليقين يتّبعون الأئمّة الأبرار و يخلعون الفسقة الفجّار فقال معاوية من البررة و الفسقة ؟ فقال : يا ابن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع ، عليّ و أصحابه من الأئمّة الأبرار و أنت و أصحابك من اولئك ، ثمّ أحبّ معاوية أن يمضي صعصعة في كلامه بعد أن بان فيه الغضب فقال :
أخبرني عن القبّة الحمراء في ديار مضر فأخبره عنها ثمّ استخبره عن ديار ربيعة ، و عن مضر فأخبره عنهما ثمّ أمسك معاوية فقال له صعصعة : سل يا معاوية و إلاّ أخبرتك بما تحيد عنه قال : و ما ذاك يا ابن صوحان ؟ قال : أهل الشام ، قال : فأخبرني عنهم قال : أطوع الناس لمخلوق ، و أعصاهم للخالق ، عصاة الجبار ، و خلفة الأشرار ،
فعليهم الدّمار ، و لهم سوء الدار ، فقال معاوية : و اللّه يا ابن صوحان إنّك لحامل مديتك منذ أزمان إلأ أنّ حلم أبي سفيان يردّ عنك ، فقال صعصعة : بل أمر اللّه و قدرته إنّ أمر اللّه كان قدرا مقدورا .
نقله المسعوديّ في مروج الذّهب مفصّلا و ما أتينا به ههنا ملتقط منه .
[ 303 ]
و من ذلك أنّ معاوية حبس صعصعة بن صوحان العبدي ، و عبد اللّه بن الكواء اليشكري و رجالا من أصحاب عليّ عليه السّلام مع رجال من قريش فدخل عليهم معاوية يوما فقال : نشدتكم باللّه إلاّ ما قلتم حقّا و صدقا أيّ الخلفاء رأيتموني ؟ فبعد ما تكلّم ابن الكواء في مساوي معاوية قال صعصعة : تكلّمت يا ابن أبي سفيان فأبلغت و لم تقصر عمّا أردت و ليس الأمر على ما ذكرت أنّى يكون الخليفة من ملك النّاس قهرا ،
و دانهم كبرا ، و استولى بأسباب الباطل كذبا و مكرا ؟ أما و اللّه مالك في يوم بدر مضرب و لا مرمى و ما كنت فيه إلاّ كما قال القائل « لا حلى و لا سيرى » و لقد كنت أنت و أبوك في العير و النفير ممّن أجلب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله و إنّما أنت طليق ابن طليق أطلقكما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اله فأنّى تصلح الخلافة لطليق ؟ فقال معاوية : لو لا أنّي أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول :
قابلت جهلهم حلما و مغفرة
و العفو عن قدرة ضرب من الكرم
لقتلتكم . ( مروج الذّهب ص 78 ج 2 ) .
دخل صعصعة على معاوية أوّل ما دخل عليه و قد كان يبلغ معاوية عنه فسأله عن نسبه فبيّن له نسبه ، ثمّ قال له معاوية : أمّا و اللّه لقد كان يسوءني أن أراك أسيرا قال : و أنا و اللّه لقد كان يسوءني أن أراك أميرا ، نقلهما القالي في الأمالي و القصّة طويلة عذبة غير مملّة ( ص 227 ج 2 ) و قريب منها ما نقله المسعودي في مروج الذّهب ( ص 76 ج 2 ) و لصعصعة بن صوحان أخبار حسان و كلام في نهاية البلاغة و الفصاحة و الإيضاح عن المعاني على إيجاز و اختصار و قد جرى بينه و بين معاوية كلام كثير في غير موطن تكلّم فيها بقبائح أعمال معاوية و خبث سريرته و سوء رويّته و قد أتى الشيخ الأجلّ الطبرسي في كتاب الاحتجاج طائفة من احتجاجات الإمامين سيّدي شباب أهل الجنّة و ريحانتي الرّسول الحسن و الحسين عليهما السّلام ، و غيرهما من كبار الصحابة و التابعين على معاوية بن أبي سفيان ، و ما تكلّم القوم بها معاوية من مساوي أفعاله أكثر من أن تحصى و إنّما نقلنا نبذة منها فإنّ القليل ينبىء عن الكثير .
و فيما نقلناها مواقع للتدبّر و الاستبصار في أمر معاوية و أشياعه و أتباعه كيف
[ 304 ]
لعبوا بالقرآن ، و رفعوا راية البغي و الطغيان فاتّخذوا دين اللّه دغلا ، و مال اللّه دولا ، و عباده خولا و الصّالحين حربا ، و الفاسقين حزبا ، و قد قال السيوطي في تاريخ الخلفاء إنّه أخرج السلفي في الطيوريات عن عبد اللّه بن أحمد بن حنبل قال :
سألت عن عليّ عليه السّلام و معاوية ، فقال : اعلم أنّ عليّا كان كثير الأعداء ففتش له أعداؤه عيبا فلم يجدوا فجاؤا إلى رجل قد حاربه و قاتله فأطروه كيادا منهم له .
فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا و يذرون طيبا من القول و يأخذون خبيثا فبعدا للمفترين و سحقا للممترين ربّ نعوذ بك من أماني الأنفس و شرورها .
اشارة : قد احتجّ صعصعة على معاوية بأنّ الطّليق لا يصلح للخلافة ، و هذا حقّ و صعصعة رضوان اللّه عليه قد استنار من ضياء القرآن ، و اقتبس من مشكاة النبوّة و الولاية و ذلك لأنّ الطّلقاء كانوا مشركين قبل الإسلام و عبدوا الأصنام و قد قال عزّ من قائل : إنّ الشرك لظلم عظيم ( لقمان 14 ) و قال اللّه تعالى : لا ينال عهدي الظّالمين ( البقرة 119 ) و الخلافة عهد اللّه تعالى فلا يناله الطّلقاء ، و تقدّم بحثنا عن ذلك في شرح المختار 237 من باب الخطب فراجع ( ص 49 59 ج 16 ) .