هذا العهد الشريف يحتوى في أمر المعاد ما لا يحتويها غيره من خطبه و وصاياه و عهوده كما يظهر ذلك لك بالتأمّل في سائر كلامه عليه السّلام ، حتّى أنّ العهد الّذي كتبه إلى مالك رضوان اللّه عليه و هو أطول عهوده ، و أنّ الكتاب الّذي كتبه إلى ابنه الحسن المجتبى عليه السّلام و هو أطول كتبه و وصاياه و من جلائلها لا يشتملان على معارف و حقائق في المعاد ، توجد في هذا العهد القويم ، و إن كان نبذة من كتابه إلى الحسن عليه السّلام في ذلك و لكنّها لا يقاس إلى ما في هذا العهد من دقائق و رقائق في المعاد ، و أمّا العهد الّذي كتبه إلى المالك فهو و إن كان من محاسن كتبه عليه السّلام و لكنّه برنامج الوظائف الاجتماعيّة و المدنيّة .
و بالجملة كتابه عليه السّلام هذا إلى محمّد بن أبي بكر يفتح أبوابا إلى معرفة ذلك المطلب الأسنى و المقصود الأسنى أعنى المعاد و أحوال الناس فيه ، و شرحه على التفصيل ينجرّ إلى إطناب ، و لذا نعرض عنه و نكتفى بشرحه الإجمالي و نشير إلى طائفة من معاني أقواله عليه السّلام و الأخبار الاخرى في المقام على ما يقتضيه الحال و تفصيله يطلب من كتابنا المسمى بالقيامة فنقول مستعينا بمن له الاخرة و الاولى :
قوله عليه السّلام : ( فاخفض لهم جناحك الخ ) أمره أن لا يغلظ على الرعيّة و أن يكون ليّن الجانب لهم ، و خفض الجناح كناية عن التواضع و اللّين و الانقياد و التسليم ، كما ترى من دأب الطير إذا تواضع أحدها الاخر يخفض جناحه عنده .
و روى الكليني قدّس سرّه في الكافي باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام ، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال : من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك اللّه به طريقا إلى الجنّة و أنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى به الخبر ، و في سورة الاسرى من القرآن الكريم : « و اخفض لهما جناح الذّلّ من الرّحمة و قل ربّ ارحمهما كما ربّياني
[ 84 ]
صغيرا » ، و قال عزّ من قائل خطابا لرسوله صلّى اللّه عليه و آله : « و اخفض جناحك لمن اتّبعك من المؤمنين » .
و روى الشّيخ الجليل حسن بن زين الدّين الشّهيد الثاني في أوائل كتاب معالم الدّين في الاصول مسندا عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام قال :
تعلّموا العلم فانّ تعلّمه حسنة إلى أن قال عليه السّلام : و ترغب الملائكة في خلّتهم يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم لأنّ العلم حياة القلب و نور الأبصار من الهدى الخبر .
و لا يخفى عليك أنّ الجناح في قوله عليه السّلام : فاخفض لهم جناحك ، لا يحمل على معناه المطابقى الحقيقي ، و كذا في الايتين المذكورتين و كأنّ المراد من أجنحة الملائكة أيضا كناية عن تواضعهم لبغاة العلم في الخبر الأوّل ، و بمعنى لطيف أدقّ و أشمخ من هذا فى الخبر الثاني حيث قال عليه السّلام : يمسحونهم بأجنحتهم في صلاتهم و معلوم أنّ مسح الجناح المؤلّف من العظم و اللّحم و الريش و غيرها بالمصلّى لا يزيد في كماله و تقرّ به إلى اللّه فالمسح بالأجنحة في الخبر محمول على ارتباط سرّ المصلّى العالم إلى عالم القدس ، و لمّا كانت المعاني تنزلت من مقامها من غير خلوّها عن مرتبتها كاسية بلباس ألفاظ هذه النشأة ، فلا بدّ للبصير أن تجعل الألفاظ روازن إلى رؤية معانيها الأوّليّة ، قال ثقة المحدّثين الشّيخ الصّدوق رضوان اللّه عليه في رسالته في الاعتقادات : اعتقادنا في اللّوح و القلم أنّهما ملكان ، و قال المعلّم الثاني أبو نصر الفارابي قدّس سرّه في الفصوص :
فليتدبّر فى قوله تعالى في أوّل سورة الفاطر : « الحمد للَّه فاطر السموات و الأرض جاعل الملائكة رسلا اولى أجنحة مثنى و ثلاث و رباع يزيد في الخلق ما يشاء إنّ اللَّه على كلّ شيء قدير » .
و أفاد المتألّه السبزواري قدّس سرّه في بيان الاية المباركة في شرحه على الفصل الرابع و الثمانين من الدّعاء المعروف بالجوشن الكبير بقوله : و لا نبالي بأن يكون لرقائقهم المثاليّة و أشباحهم الصوريّة أجنحة و لهم طيران و سير كما أنّ لكلّ حقيقة من حقائقهم المعنويّة حقيقة الجناح من جناح القوّة العلاّمة و جناح
[ 85 ]
القوّة العمّالة و حقيقة الطيران و السير من الدرك و الفعل كما سمّى بعضهم القوى المدركة من النّفس النّاطقة بالطّيارة و المحرّكة بالسيّارة ، و قال في هامش الكتاب في بيان قوله : بأن يكون لرقائقهم المثالية الخ لأنّ لكلّ معنى صورة و لكلّ حقيقة رقيقة كما أنّ لسني الرخا صورة هي البقرات السمان و لسني القحط صورة هي البقرات العجاف و قس عليه و التعبير كالتأويل .
قوله عليه السّلام : ( و آس بينهم الخ ) ثمّ أمره بالمساواة معهم حتّى في اللّحظة و النظرة لئلاّ يطمع العظماء في حيفه مع الرّعية و لا ييأس الضعفاء من عدله عليهم و قد مضى كلامنا في العدل و المساواة في شرح الكتاب الثالث أعني كتابه عليه السّلام لشريح القاضي لمّا اشترى دارا بثمانين دينارا .
ثمّ علل أمره بالمساواة و العدل حتّى في اللّحظة و النّظرة بقوله : ( فإنّ اللّه يسائلكم الخ ) كى لا يظنّ أنّ عدم التسوية في اللّحظة و النّظرة ممّا لا يعتنى به و لا يحاسب عليه ( فإن يعذّبهم اللّه فهم أظلم و إن يعفو فهو أكرم ) و الأفعل ههنا ليس أفعل التفضيل بل هو أفعل الوصف نظير قوله تعالى : « إنّ اللَّه ليس بظلاّم للعبيد » أى ليس بظالم ، و ذلك لأنّ صدور الظلم كثيره و قليله منه تعالى قبيح عقلا ، فمن ارتكب المعاصي فهو ظالم لنفسه و إن تاب عنها إليه تعالى و زكّى نفسه من درنها فقد أفلح و عفا اللّه عنه و هذا كرم ناله من اللّه تعالى ، فإنّ اللّه أمر بالخير و نهى عن الشرّ .
قوله عليه السّلام : ( و اعلموا عباد اللّه الخ ) وصف المتّقين ترغيبا لعباد اللّه إلى التّقوى ، و إنما قال : ( إنّهم سكنوا الدّنيا بأفضل ما سكنت و أكلوها بأفضل ما اكلت ) لأنّ مكسبهم كان على وجه حلال و طريق صواب فملبسهم و مأكلهم و مشربهم كلّها قد تهيّأت على ذلك الوجه و لم يكن لهم فيها وزر و لا وبال و المترفون و الجبابرة المتكبّرون ، لم يأخذوا من دنياهم إلاّ على قدر ما يحتاج الانسان أن يعيش و تركوا ما زاد منها على حسرة هي أشدّ من نار جهنّم ألما :
[ 86 ]
اين بدر ميرود از باغ بصد حسرت و داغ . و آن چه دارد كه بحسرت بگذارد آنرا
على أنه قد لزمهم أوزارها من مظالم العباد و غيرها ، قال تعالى : « و لا يحسبنّ الّذين يبخلون بما آتاهم اللَّه من فضله هو خير لهم بل هو شرّ لهم سيطوّقون ما بخلوا به يوم القيمة » الاية ( آل عمران 181 ) و في الخبر عن الباقر عليه السّلام : الّذي يمنع الزكاة يحوّل اللّه تعالى ماله يوم القيامة شجاعا من نار له ريمتان فتطوّقه ثمّ يقال له الزمه كما لزمك في الدّنيا و هو قوله اللّه تعالى : « سيطوّقون ما بخلوا به » الاية ( مادة نور من سفينة البحار ) ثمّ تأمّل أيها البصير في قوله عليه السّلام يحوّل اللّه تعالى ماله يوم القيامة شجاعا من نار ، ثمّ في قوله عليه السّلام يقال له : الزمه كما لزمك في الدّنيا فإنّ هذا الخبر يفتح لك بابا من المعرفة في أحوال الناس يوم القيامة .
و بالجملة إنّ المتقين شاركوهم في دنياهم و انقلبوا عنها مع ما كسبوا و قدّموا لأنفسهم من الزاد المبلغ و المتجر المربح و لم يشاركهم أهل الدّنيا في تلك النعمة العظمى و العطيّة الكبرى .
قال عزّ من قائل : « و ما تفعلوا من خير يعلمه اللَّه و تزوّدوا فانّ خير الزاد التقوى » ( البقرة 198 ) . و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في الخطبة 180 أوّلها روى عن نوف البكالى الخ : و ازمع الترحال عباد اللّه الأخيار و باعوا قليلا من الدّنيا لا يبقى بكثير من الاخرة لا يفنى .
ثمّ ينبغي لك النظر حقّه في قوله عليه السّلام ( و تيقّنوا أنهم جيران اللّه غدا في آخرتهم لا تردّ لهم دعوة و لا ينقص لهم نصيب من لذّة ) حيث أخبر عليه السّلام عن المتّقين بأنّ صفة اليقين الكريمة بلغتهم إلى تلك الدّرجة الرفيعة في آخرتهم و من بلغ إلى تلك الرتبة المنيعة لا تردّ له دعوة و ليست لذّة ينقص لهم نصيبها و ذلك لأنّ الموقنين داوموا الحضور عنده تعالى في هذه النشأة الدنياوية و ليس الشهود الحقيقي إلاّ واحدا و البيت واحد و ربّ البيت واحد بل ليس في الدار غيره ديّار بل أينما تولّوا فثمّ وجه اللّه بل هو الأوّل و الاخر و الظاهر و الباطن و الدّنيا مزرعة الاخرة و نعم ما قال كعبة العاشقين سيّد الشهداء أبو عبد اللّه الحسين روحى
[ 87 ]
له الفداء في دعاء العرفة ، نعم .
بأبه اقتدى عدىّ في الكرم
و من يشابه أبه فما ظلم
حيث قال عليه السّلام : و أنت الّذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتّى لم يحبّوا سواك و لم يلجئوا إلى غيرك أنت المونس لهم حيث أوحشتهم العوالم ، و أنت الّذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم ، ماذا وجد من فقدك ، و ما الّذي فقد من وجدك .
قوله عليه السّلام : ( فاحذروا عباد اللّه الموت و قربه الخ ) المراد من الحذر عن الموت الحذر عن الأهوال الّتي يراها غير المؤمن عند الموت فكأنه عليه السّلام أمرهم أن يجعلوا الموت نصب أعينهم فإنّ من جعله نصب عينه زهّده في الدّنيا و رغّبه في الاخرة و حثّه إلى إعداد عدّته ، و من كلام سيّد الساجدين عليه السّلام في الدّعاء الأربعين من الصحيفة : و انصب الموت بين أيدينا نصبا و لا تجعل ذكرنا له غبّا .
ثمّ علّل الأمر بالحذر بقوله ( فانّه ) أى الموت ( يأتي بأمر عظيم و خطب جليل ) .
روى الكليني في الكافي باسناده عن عبد اللّه بن سنان عمّن سمع أبا جعفر عليه السّلام يقول لمّا حضرت الحسن عليه السّلام الوفاة بكى فقيل له : يا ابن رسول اللّه تبكى و مكانك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي أنت به و قد قال فيك ما قال و قد حججت عشرين حجّة ماشيا و قد قاسمت مالك ثلاث مرات حتّى النعل بالنّعل ؟ فقال عليه السّلام : إنما أبكى لخصلتين : لهول المطّلع ، و فراق الأحبّة ( الوافي في باب ما جاء في الحسن بن علىّ عليهما السّلام ص 174 ج 2 ) .
قوله عليه السّلام : ( بخير لا يكون معه شرّ أبدا أو شرّ لا يكون معه خير أبدا ) معنى الجملة الاولى ظاهر و انما الكلام في معنى الثانية لأنّ أخبار البرزخ دالّة على أنّ أقواما معذبون في البرزخ و ينقطع منهم العذاب بعد البرزخ فقد روى الكليني قدّس سرّه في الكافي باسناده عن عبد الرّحمن بن عبّاد عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام : إنّى سمعت و أنت تقول : كلّ شيعتنا في الجنّة على ما كان منهم قال : صدقتك كلّهم و اللّه في الجنّة قال : قلت : جعلت فداك إنّ الذّنوب كثيرة كبار فقال : أمّا في القيامة فكلّكم في الجنّة بشفاعة النبيّ المطاع أو وصىّ النبي و لكنّى
[ 88 ]
و اللّه أتخوّف عليكم في البرزخ قلت : و ما البرزخ ؟ قال : القبر منذحين موته إلى يوم القيامة ( الوافي ص 94 ج 13 ) .
و الظاهر أنه عليه السّلام أراد بكلامه هذا عاقبة امور الناس في الاخرة لأنّ ما يستفاد من ضمّ الايات القرآنيّة و تصديق بعضها بعضا و تفسير بعضها بعضا أنّ مآل النّاس في الآخرة إلى أمرين أعنى أنهم ينقسمون آخر الأمر إلى فريقين فريق في الجنّة و فريق في النّار . قال عزّ من قائل : « يوم تبيضّ وجوه و تسودّ وجوه فأما الّذين اسودّت وجوههم أكفرتم بعد ايمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون .
و أمّا الّذين ابيضّت وجوههم ففي رحمة اللَّه هم فيها خالدون » ( آل عمران 108 ) .
و قال تعالى : « يوم يأت لا تكلّم نفس إلاّ باذنه فمنهم شقيّ و سعيد . فأمّا الّذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير و شهيق خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلاّ ما شاء ربّك إنّ ربّك فعّال لما يريد . و أمّا الّذين سعدوا ففى الجنّة خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض إلاّ ما شاء ربّك عطاء غير مجذود » ( هود 106 109 ) . و قال تعالى : « و كذلك أوحينا اليك قرآنا عربيّا لتنذر امّ القرى و من حولها و تنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنّة و فريق في السّعير » ( الشورى 8 ) . و اللّه تعالى أعلم بكلام أوليائه .
قوله عليه السّلام : ( فمن أقرب إلى الجنّة من عاملها ، و من أقرب إلى النار من عاملها ) تحت هذا الكلام أيضا سرّ لمن كان له قلب لأنّه عليه السّلام قال : فمن أقرب إلى الجنّة من عامل الجنّة و كذا من أقرب إلى النار من عامل النار فمن عمل الحسنات فهو عامل الجنّة ، و من ارتكب السيئات فهو عامل النار و لم يقل عليه السّلام فمن أقرب إلى الجنّة ممّن عمل ما يجرّه إلى الجنّة ، أو من أقرب إلى النار ممّن عمل ما يدخله النار و نحوهما من العبارات . فمن عمل الحسنات فهو عامل جنّته ، و من عمل السيئات فهو عامل ناره فتبصّر .
و قال تعالى : « كذلك يريهم اللَّه أعمالهم حسرات عليهم و ما هم بخارجين من النّار » ( البقرة 168 ) .
[ 89 ]
و قال تعالى : « يوم تجد كلّ نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء تودّ لو أنّ بينها و بينه أمدا بعيدا » ( آل عمران : 30 ) و قال تعالى : « و لا تجزون إلاّ ما كنتم تعملون » ( يس : 54 ) لم يقل بما كنتم أو ممّا كنتم و نحوهما فتدبّر .
قوله عليه السّلام : ( فاحذروا نارا قعرها بعيد و حرّها شديد و عذابها جديد ) أمّا كونها بعيد القعر فلأنّها من دار الاخرة و قال عزّ من قائل : « و ما هذه الحيوة الدّنيا إلاّ لهو و لعب و إنّ الدار الاخرة لهى الحيوان لو كانوا يعلمون » ( العنكبوت 65 ) فنارها حيّة بحياتها الذّاتية لها فاذا أضفت كلامه هذا إلى قوله عليه السّلام : و من أقرب إلى النار إلى عاملها ينتج أنها ليست من عالم الخلق بل هو من عالم الأمر و كلّ ما في عالم الأمر غير متصفة بصفات الخلق الناقصة المحدودة جدّا المستحيلة المتبدّلة آنا فآنا فظهر معنى كونها بعيد القعر لمن وقف على ما اشرنا إليها موجزة .
و قال بعض الأعاظم : و من أعجب ما روينا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنه كان قاعدا مع أصحابه في المسجد فسمعوا هدّة عظيمة فارتاعوا فقال صلّى اللّه عليه و آله : أتعرفون ما هذه الهدّة ؟ قالوا : اللّه و رسوله أعلم . قال : حجر ألقى من أعلى جهنّم منذ سبعين سنة الان وصل إلى قعرها ، فكان وصوله إلى قعرها و سقوطه فيها هذه الهدّة ، فما فرغ من كلامه عليه السّلام إلاّ و الصّراخ في دار منافق من المنافقين قد مات و كان عمره سبعين سنة فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله : اللّه أكبر فعلم علماء الصحابة أنّ هذا الحجر هو ذلك المنافق ، و أنّه منذ خلقه اللّه يهوى في جهنّم و بلغ عمره سبعين سنة فلما مات حصل في قعرها ، قال اللّه تعالى : « إنّ المنافقين في الدّرك الأسفل من النار » ، فكان سمعتهم تلك الهدّة الّتي أسمعهم اللّه ليعتبروا فانظر ما أعجب كلام النبوّة و ما ألطف تعريفه و ما أغرب كلامه ، انتهى كلامه .
و أما كونها شديد الحرّ فلأنّ النّار ما دامت في كسوة المادّة الدّنيا ويّة لم يظهر سلطان أثرها و تعوقها المادّة عن ذلك و كأنّها مغمورة تحت رماد فاذا خلصت منها و خرجت عن غلافها تؤثّر أثرها التّام .
و أمّا أنّ عذابها جديد فكأنّ أمير المؤمنين روحي له الفداء يشير بقوله هذا
[ 90 ]
إلى قوله تعالى : « إنّ الّذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إنّ اللَّه كان عزيزا حكيما » ( النساء 57 ) و البحث في المقام ينجر إلى الاطناب و يطلب في كتابنا القيامة .
قوله عليه السّلام : ( دار ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة و لا تفرّج فيها كربة ) قال عزّ من قائل : « يا أيّها الّذي آمنوا أنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلّة و لا شفاعة و الكافرون هم الظالمون » ( 255 ، البقرة ) فتدبّر أيّها العاقل في قول اللّه تعالى و قول خليفته و انظر إلى ما أنت فيه و ليس المحشور إلاّ أنت و لا يمكن سلبك و انتزاعك منك و لا يمكنك الفرار من نفسك فما عملته فهو جزاؤك قال اللّه المتعال : « إنّما تجزون ما كنتم تعملون » .
قوله عليه السّلام : ( إمام الهدى ) يعنى به نفسه ( و إمام الرّدى ) هو معاوية ، و كذلك ( ولىّ النّبي ) هو عليّ عليه السّلام ( و عدوّ النبيّ ) هو عدوّ اللّه معاوية ، و أمّا قوله ( فإنه لا سواء ) فذلك لأنّ بعد الحقّ ليس إلاّ الضلال كما قال عزّ من قائل : و ماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال ، و لا يخفى عليك أنه لا يستوى النور و الظلمة و لا العلم و الجهل و لا الظلّ و لا الحرور و لا الحىّ و الميّت ، و لا الحقّ و الباطل ، و لا عليّ و معاوية .
قوله عليه السّلام ( كلّ منافق الجنان ) يعنى به عدوّا النبيّ و إمام الرّدى فهو شرّ من المشرك الّذي يقمعه اللّه بشركه .