خاتمة

نذكر فيها أمرين لمن أراد أن يتذكّر ، و يسعى إلى لقاء ربّه و يتنعّم به

[ 280 ]

أحدهما نقل عدّة أذكار و أدعيّة عن خزنة علم اللّه عزّ و جلّ و عيب وحيه الّذين أنعم اللّه عليهم بلقائه و كانوا يناجون بها ربّهم الجليل لأنّها جلاء القلوب عن رين علائقها الدّنياوية ، و إرشاد للطالب إلى لقاء ربّه المتعال ، و ثانيهما نبذة ممّا هي آداب مبتغي اللقاء و الفائزين به .

أمّا الأوّل فقد روى السيّد الأجلّ جمال العارفين ابن طاووس قدّس سرّه الشريف في أعمال شعبان من كتابه القيّم الكريم المسمّى بالإقبال ( ص 685 من الطبع الرحلي ) عن ابن خالويه إلى أن قال : إنّها مناجاة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و الأئمّة من ولده عليهم السّلام كانوا يدعون بها في شهر شعبان :

اللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد و اسمع دعائى إذا دعوتك إلى قوله عليه السّلام :

إلهي هب لي كمال الإنقطاع إليك و أنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل إلى معدن العظمة و تصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك إلى أن قال عليه السّلام : إلهي إن أنا متنى الغفلة عن الاستداد للقائك فقد نبّهتني المعرفة بكرم آلائك إلى أن قال عليه السّلام : و ألحقني بنور عزّك الأبهج فأكون لك عارفا و عن سواك منحرفا و منك خائفا مراقبا يا ذا الجلال و الاكرام ، و رواه العلاّمة المجلسي في البحار أيضا ( ص 89 ج 19 من طبع الكمباني ) .

و قال السيّد المذكور في أعمال شهر رجب من ذلك الكتاب ( ص 646 ) :

و من الدعوات في كلّ يوم من رجب ما رويناه أيضا عن جدّي أبى جعفر الطوسي رضي اللّه عنه فقال : أخبرني جماعة عن ابن عيّاش قال : ممّا خرج على يد الشّيخ الكبير أبى جعفر محمّد بن عثمان بن سعيد رضى اللّه عنه من الناحية المقدّسة ما حدّثني به خير بن عبد اللّه قال : كتبته من التوقيع الخارج إليه :

بسم الرّحمن الرّحيم ادع في كلّ يوم من أيّام رجب : اللهمّ إنّي أسئلك بمعاني جميع ما يدعوك به ولاة أمرك المأمونون على سرّك المستبشرون [ المستسرّون خ ل ] بأمرك الواصفون لقدرتك المعلنون لعظمتك ، و أسألك

[ 281 ]

بما نطق فيهم من مشيّتك ، فجعلتهم معادن لكلماتك و أركانا لتوحيدك و آياتك و مقاماتك الّتي لا تعطيل لها في كلّ مكان يعرفك بها من عرفك ، لا فرق بينك و بينها إلاّ أنّهم عبادك و خلقك ، فتقها و رتقها بيدك بدؤها منك و عودها إليك . الخ .

قلت : هذا التوقيع من أسرار اللّه المكنونة المخزونة ، و الحقائق المودعة فيها تدرك و لا توصف ينالها من كان له قلب و لو تصدّينا لشرحه على قدر باعنا القصيرة و بضاعتنا المزجاة لا نجرّ إلى تأليف كتاب على حدة ، و الضمير المجرور في لها و بها و بينها راجعة إلى المقامات و كذلك الضمير المنصوب في إلاّ أنّهم عبادك و ضميرهم لذوى العقول فالمقامات من ذوى العقول ، و لا بأس بإتيان الضمير ، تارة من غير ذوى العقول و تارة من ذوى العقول ، و ذلك نحو قوله تبارك و تعالى :

« و علّم آدم الأسماء كلّها ثمَّ عرضهم على الملئكة » أورد الضمير ثانيا من ذوى العقول إشارة إلى أنّ الأسماء ليست ألفاظا دالّة على معانيها لأنّ معرفة الألفاظ تعدّ من العلوم الأدبيّة و هي لا توجب شرح الصدر و سعة الذات ، بل المراد بها حقائق المخلوقات و مقامات دار الوجود على ما هي عليه .

قوله عليه السّلام : لا فرق بينك و بينها إلاّ أنّهم عبادك ، قال القيصري في آخر الإشارة إلى بعض المراتب الكلّية من الفصل الأوّل من مقدّماته على شرح الفصوص ( ص 11 من الطبع الناصري ) : و مرتبة الإنسان الكامل عبارة عن جمع جميع المراتب الإلهية و الكونيّة من العقول و النفوس الكلّية و الجزئية ، و مراتب الطبيعة إلى آخر تنزلات الوجود و يسمّى بالمرتبة العمائية أيضا فهي مضاهية للمرتبة الإلهيّة ، و لا فرق بينهما إلاّ بالربوبيّة و المربوبيّة لذلك صار خليفة اللّه الخ .

إنّما نقلنا كلام القيصري في المقام لكى يعلم أنّ أصل ما تفوّه به العرفاء الشامخون مقتبس من مشكاة بيت آل النّبي صلى اللّه عليه و آله ، نعم انهم و اللّه ينابيع الحكمة و المعرفة و العرفان و خزنة الحقائق كلّها .

و في دعاء عرفة لمولانا الحسين بن عليّ صلوات اللّه عليهما ، كما أتى به السيّد المذكور في الإقبال أيضا ( ص 348 ) : إلهى تردّدي في الاثار يوجب بعد

[ 282 ]

المزار فاجمعني عليك بخدمة توصلني إليك كيف يستدلّ عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك ؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك ؟ متى غبت حتّى تحتاج إلى دليل يدلّ عليك ؟ و متى بعدت حتّى تكون الاثار ، هي الّتي توصل إليك ؟ عميت عين لا تراك عليها رقيبا ، و خسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبّك نصيبا .

إلهي أمرت بالرجوع إلى الاثار فارجعني إليك بكسوة الأنوار و هداية الاستبصار حتّى أرجع إليك منها ، كما دخلت إليك منها مصون السرّ عن النظر إليها ، و مرفوع الهمّة عن الاعتماد عليها إنّك على كلّ شي‏ء قدير .

إلهي هذا ذلّي ظاهر بين يديك ، و هذا حالي لا يخفى عليك ، منك أطلب الوصول إليك ، و بك أستدلّ عليك ، فاهدني بنورك إليك ، و أقمني بصدق العبودية بين يديك .

إلهي علّمني من علمك المخزون ، و صنّي بسرّك [ بسترك خ ل ] المصون .

إلهي حقّقني بحقائق أهل القرب ، و اسلك بي مسلك أهل الجذب .

و روى ثقة الإسلام الكليني في باب الدّعاء في أدبار الصلوات من الكافي ( ص 399 ج 2 من المعرب ) بإسناده عن محمّد بن الفرج قال : كتب إليّ أبو جعفر ابن الرّضا يعني الإمام الجواد عليه السّلام بهذا الدّعاء و علّمنيه إلى أن قال عليه السّلام : و أسألك الرضا بالقضاء و بركة الموت بعد العيش و برد العيش بعد الموت و لذّة المنظر إلى وجهك و شوقا إلى رؤيتك و لقائك من غير ضرّاء مضرّة و لا فتنة مضلّة . الخ .

و في دعاء يوم الاثنين للإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام : و أسألك خشيتك في السرّ و العلانية و العدل في الرضا و الغضب و القصد في الغنى و الفقر و أن تحبّب إلىّ لقاءك في غير ضرّاء مضرّة و لا فتنة مضلّة . الخ . رواه الكفعمي رضوان اللّه عليه في البلد الأمين ( ص 118 ) و في المصباح أيضا ( ص 115 ) .

و في الدّعاء السابع و الأربعين من الصحيفة السجاديّة : و أخفني مقامك و شوّقني لقاءك .

[ 283 ]

و في المناجاة الخمس عشرة لمولانا عليّ بن الحسين صلوات اللّه عليه و قال العلاّمة المجلسي رحمة اللّه عليه في التاسع عشر من البحار ( ص 105 من الطبع الكمباني ) : و قد وجدتها مروية عنه عليه السّلام في بعض كتب الأصحاب رضوان اللّه عليهم . انتهى .

و عدّها المحدث الخبير و العالم الجليل الشّيخ حرّ العاملي صاحب الوسائل في الصحيفة الثانية من الأدعيّة السجاديّة عليه السّلام و نسبها إليه من غير ترديد .

ففي مناجاة الخائفين : و ليتني علمت أمن أهل السعادة جعلتني و بقربك و جوارك خصصتني فتقرّ بذلك عيني و تطمئنّ له نفسي إلى أن قال عليه السّلام : إلهي لا تغلق على موحّديك أبواب رحمتك و لا تحجب مشتاقيك عن النظر إلى جميل رؤيتك .

و في مناجاة الراغبين : إلهي إن كان قلّ زادي في المسير إليك فلقد حسن ظنّي بالتوكّل عليك إلى أن قال عليه السّلام : و إن أنا متنى الغفلة عن الاستعداد للقائك فقد نبّهتني المعرفة [ المغفرة خ ل ] بكرمك و آلائك إلى أن قال عليه السّلام :

أسألك بسبحات وجهك و بأنوار قدسك ، و أبتهل إليك بعواطف رحمتك و لطائف برّك أن تحقق ظنّي بما اؤمّله من جزيل إكرامك و جميل إنعامك في القربى منك و الزلفى لديك و التمتع بالنظر إليك .

و في مناجاة المطيعين للّه : اللهمّ احملنا في سفن نجاتك و متّعنا بلذيذ مناجاتك و أوردنا حياض حبّك ، و أذقنا حلاوة ودّك و قربك .

و في مناجاة المريدين : و لقاؤك قرّة عيني ، و وصلك منى نفسي ، و إليك شوقي و في محبّتك ولهي و إلى هواك صبابتي و رضاك بغيتي ، و رؤيتك حاجتي و جوارك طلبي ، و قربك غاية سؤلي ، و في مناجاتك انسي و راحتي [ روحي خ ل ] .

و في مناجاة المحبّين : إلهي من ذا الّذي ذاق حلاوة محبّتك ، فرام منك بدلا ؟ و من ذا الّذي أنس بقربك فابتغى عنك حولا ؟ إلهي فاجعلنا ممّن اصطفيته لقربك و ولايتك ، و أخلصته لودّك و محبّتك ، و شوّقته إلى لقاءك ، و رضّيته

[ 284 ]

بقضاءك ، و منحته بالنظر إلى وجهك إلى أن قال : و اجتبيته لمشاهدتك .

و في مناجاة المتوسّلين : و اجعلني من صفوتك الّذين أحللتهم بحبوحة جنّتك و بوّأتهم دار كرامتك ، و أقررت أعينهم بالنظر إليك يوم لقائك ، و أورثتهم منازل الصدق في جوارك .

و في مناجاة المفتقرين : ولوعتى لا يطفيها إلاّ لقاؤك ، و شوقى إليك لا يبلّه إلاّ النظر إلى وجهك .

و في مناجاة العارفين : فهم إلى أو كار الأفكار يأوون ، و في رياض القرب و المكاشفة يرتعون إلى أن قال : و قرّت بالنظر إلى محبوبهم أعينهم ، إلى أن قال : ما أطيب طعم حبّك ، و ما أعذب شرب قربك .

و في مناجاة الذاكرين : فلا تطمئن القلوب إلاّ بذكراك ، و لا تسكن النفوس إلاّ عند رؤياك إلى أن قال : و أستغفرك من كلّ لذّة بغير ذكرك ، و من كلّ راحة بغير انسك ، و من كلّ سرور بغير قربك .

و في مناجاة الزاهدين : و اقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك .

فعليك بتلك المناجاة الخمس عشرة سيما مناجاة العارفين و مناجاة المحبّين منها فانّها جلاء للقلوب .

و في آخر الدّعاء السابع و الأربعين من الصحيفة و كان من دعائه عليه السّلام في يوم عرفة : و أتحفنى بتحفة من تحفاتك ، و اجعل تجارتي رابحة ، و كرّتي غير خاسرة ، و أخفنى مقامك ، و شوّقنى لقاءك الخ .

و في باب في أنه عزّ و جلّ لا يعرف إلاّ به من توحيد الصّدوق رضوان اللّه عليه باسناده عن زياد بن المنذر ، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر ، عن أبيه ، عن جدّه عليهم السّلام أنّه قال : إنّ رجلا قام إلى أمير المؤمنين عليه السّلام و قال : بماذا عرفت ربّك ؟

قال : بفسخ العزم ، و نقض الهمم لما هممت فحيل بيني و بين همّى و عزمت فخالف القضاء عزمي علمت أنّ المدبّر غيرى ، قال : فبماذا شكرت نعماه ؟ قال : نظرت إلى بلاء قد صرفه عنّى و أبلى به غيري فعلمت أنّه قد أنعم عليّ فشكرته ، قال :

[ 285 ]

فبماذا أحببت لقاه ؟ قال : لما رأيته قد اختارلى من دين ملائكته و رسله و أنبيائه علمت أنّ الّذي أكرمنى بهذا ليس ينساني فأحببت لقاه .

روى الكليني في باب الاهتمام بامور المسلمين و النصيحة لهم و نفعهم باسناده عن سفيان بن عيينة قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : عليك بالنصح للّه في خلقه فلن تلقاه بعمل أفضل منه .

و اعلم أنّ ما تقدّم من التوقيع الشريف الصادر من الناحية المقدّسة و فيه قوله عليه السّلام : لا فرق بينك و بينها إلاّ أنهم عبادك و خلقك ، و ما مرّ في ذيله من كلام القيصري : لا فرق بينهما إلاّ بالربوبيّة و المربوبيّة كأنّما يفيدان وجها خامسا في وحدة الوجود أعلى و أشمخ و أدقّ و أشرف من الأربعة المتقدّمة المبيّنة ، و لعلّ كلام العارف الربّانى الخواجه صائن الدين على تركه اصفهاني يشير إلى هذا الوجه المنيع حيث قال : فهو العابد باعتبار تعيّنه و تقيّده بصورة العبد الّذي هو شأن من شئونه الذاتيّة و هو المعبود باعتبار إطلاقه ، اعلم أنّ الشهود الأتم الأكمل قضى أنّ كلّ ما يسمّى مرآة و مجلي و مظهرا و عينا و نحو ذلك ليس سوى تعينات صور أحوال الحقّ على ما بينها من التفاوت في الحكم و الحقّ من حيث هو باطن هويّته متجلي في عين كل فرد فرد من أحواله المتميّزه الّتي تغيب و ظهرت له انتهى كلامه .

و اللّه تعالى أعلم بمراد أوليائه ، اللّهم ارزقنا فهم ما أودعت في كلماتك التامّة ، قال عزّ من قائل : « يحذّركم اللَّه نفسه و اللَّه رؤف بالعباد » .

اى برتر از خيال و قياس و گمان و وهم
وز آنچه گفته‏اند و شنيديم و خوانده‏ايم

مجلس تمام گشت و بآخر رسيد عمر
ما همچنان در أوّل وصف تو مانده‏ايم

و أما الأمر الثاني فنقول : لا يعرج الإنسان إلى ذي المعارج إلاّ بجناحى العلم و العمل قال عزّ من قائل : و أن ليس للإنسان إلاّ ما سعى و أنَّ سعيه سوف يرى » ( النجم : 40 ) و قال تعالى : « يوم يتذكّر الإنسان ما سعى » ( النازعات : 35 ) ، « و من أراد الاخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فاولئك كان سعيهم مشكوراً » ( الاسراء : 20 )

[ 286 ]

و قال تعالى : « فمن يرجوا لقاء ربّه فليعمل عملاً صالحاً و لا يشرك بعبادة ربّه أحداً » ( آخر الكهف ) .

ثمّ تأمّل تأمّلا كاملا في قوله تعالى : « ليس للإنسان إلاّ ما سعى » ، فإن ما هو خارج عن ذاتك ليس لك حقيقة بل له ارتباط مّا إليك فاسع إلى ما هو لك بل هو أنت و أنت هو على الحقيقة لما ثبت بالبراهين العقلية المعاضدة بالأدلة النقلية من اتّحاد العاقل بمعقوله ، و نعم ما أفاده الشّيخ أبو علي الرئيس رضوان اللّه عليه في النمط الثامن من كتاب الإشارات : كمال الجوهر العاقل أن يتمثل فيه جليّة الحقّ الأوّل قدر ما يمكنه أن ينال منه ببهائه الّذي يخصّه ثمّ يتمثل فيه الوجود كلّه على ما هو عليه مجردا عن الشوب مبتدء فيه بعد الحقّ الأوّل بالجواهر العقليّة العالية ثمّ الرّوحانيّة السماوية ثمّ ما بعد ذلك تمثّلا لا يمايز الذات .

فاعلم أنّ الخبر ليس كالمعاينة ، و العلم بالشي‏ء غير النيل لوصوله و وجدانه و حصوله ، و لا يبلغ مرتبة علم اليقين مرتبة عين اليقين فضلا عن مرتبة حقّ اليقين بل الأوّل دون الثانى بمراحل و الثاني دون الثالث بمنازل ، قال الشّيخ الرئيس قدّس سرّه في أواخر النمط التاسع من كتاب الإشارات : من أحبّ أن يتعرّفها يعني أن يتعرّف الدرجات الّتي يجدها السالك فليتدرّج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة و من الواصلين إلى العين دون السامعين للأثر .

و قال الخواجه نصير الدين الطوسي رضوان اللّه عليه في الشرح بعد كلام في الدرجات : و اعلم أنّ العبارة عن هذه الدرجات غير ممكنة لأنّ العبارات موضوعة للمعاني الّتي يتصوّرها أهل اللغات ثمّ يحفظونها ثمّ يتذكرونها ثمّ يتفاهمونها تعليما و تعلّما ، أما الّتي لا يصل إليها إلاّ غائب عن ذاته فضلا عن قوى بدنه فليس يمكن أن يوضع لها ألفاظ فضلا عن أن يعبّر عنها بعبارة ، و كما أنّ المعقولات لا تدرك بالأوهام و الموهومات لا تدرك بالخيالات و المتخيلات لا تدرك بالحواس كذلك ما من شأنه أن يعاين بعين اليقين فلا يمكن أن تدرك بعلم اليقين فالواجب على من يريد ذلك أن يجتهد في الوصول إليه بالعيان دون أن يطلبه بالبرهان .

[ 287 ]

قلت : قد مضى في ذلك كلامنا آنفا و تقدّم قول الإمام الصّادق عليه السّلام فيه .

و لا يتيسّر الوصول إلى لقائه تعالى إلاّ بالعمل الصالح و الإخلاص في عبادته كما فى آية الكهف الكريمة و إنما يتأتّى لمن تخلّص عن العلائق النفسانيّة و الشواغل الدنياوية و إلاّ لم يحصل معها ذوق اللذائذ العقليّة حتّى يحصل الشوق إليها فمن لم يعشق العبادة فإنّما لتمكن تلك العوائق فيه و نعم ما قال الشّيخ في النمط الثامن من الإشارات : الان إذا كنت في البدن و في شواغله و علائقة فلم تشتق إلى كما لك المناسب أو لم تتألّم بحصول ضدّه فاعلم أنّ ذلك منك لا منه .

و ما قال المعلم الثاني أبو نصر الفارابي رضوان اللّه عليه في الفصوص : إنّ لك منك غطاء فضلا عن لباسك من البدن فاجهد أن ترفع الحجاب فحينئذ تلحق فلا تسأل عمّا تباشره ، فإن ألمت فويل لك ، و إن سلمت فطوبي لك و نفسك و أنت في بدنك كأنك لست في بدنك و كأنك في صقع الملكوت فترى ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر فاتّخذ لك عند الحقّ عهدا إلى أن تأتيه فردا .

قلت : قوله : فلا تسأل عمّا تباشره ، كلام عميق بعيد الغور يفسّره قول الشّيخ الرئيس في آخر النمط التاسع في مقامات العارفين : و العارف ربما ذهل فيما يصار به إليه فغفل عن كل شي‏ء فهو في حكم من لا يكلّف ، و كيف و التكليف لمن يعقل التكليف حال ما يعقله و لمن اجترح بخطيئته إن لم يعقل التكليف .

و قال الخواجه نصير الدين الطوسي في الشرح : و المراد أنّ العارف ربما ذهل في حال اتّصاله بعالم القدس عن هذا العالم فغفل عن كلّ ما في هذا العالم و صدر عنه إخلال بالتكاليف الشرعيّة فهو لا يصير بذلك متأثّما لأنه فى حكم من لا يكلف لأنّ التكليف لا يتعلّق إلاّ بمن يعقل التكليف في وقت تعقّله ذلك ، أو بمن يتأثّم بترك التكليف إن لم يكن يعقل التكليف كالنائمين و الغافلين و الصبيان الّذين هم فى حكم المكلفين .

و إلى هذا المعنى أشار الخواجه عبد اللّه الأنصار بقوله : صاحب غلبه عشق

[ 288 ]

از خود آگاه نيست آنچه مست مى‏كند او را گناه نيست ، و الخواجه شمس الدين الحافظ بقوله :

رشته تسبيحم ار بگسست معذورم بدار
دستم اندر ساعد ساقى سيمين ساق بود

و بيانه أوضح من ذلك يطلب من شرح اللاّهيجى على گلشن راز للشبستري ( ص 198 من الطبع الأوّل ) ، و من شرح الأمير إسماعيل الشنب غازاني التبريزى على فصوص الفارابي ( ص 71 ) رحمة اللّه عليهم .

و قوله : و أنت في بدنك كانّك الخ ، و منه أخذ الشّيخ الرئيس أبو علي بن سينا كلامه في أوّل النمط التاسع في مقامات العارفين : فكأنّهم و هم في جلابيب من أبدانهم قد نضوها و تجرّدوا عنها إلى عالم القدس الخ ، و كأنّ هذا الكلام مأخوذ من مشكاة الولاية العلوية حيث قال إمام الموحدين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في صفة الزّهاد : كانوا قوما من أهل الدّنيا و ليسوا من أهلها فكانوا فيها كمن ليس منها الخ ( نهج البلاغة آخر المختار 228 من باب الخطب ) و حيث قال عليه السّلام لكميل بن زياد : صحبوا الدّنيا بأبدان أرواحها معلقة بالمحلّ الأعلى الخ ( المختار 147 من باب الحكم و المواعظ من النهج ) ، و إلى هذا المعنى أشار السعدى بقوله :

هرگز وجود حاضر و غائب شنيده‏اى
من در ميان جمع و دلم جاى ديگر است

و قوله : فترى ما لا عين رأت ، مأخوذ من حديث عن النّبي صلى اللّه عليه و آله أنّه قال : قال اللّه تعالى : أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر .

و قوله : فاتخذ لك عند الحقّ فردا ، كأنّما إشارة إلى قوله تبارك و تعالى :

لا يملكون الشافعة إلاّ من اتّخذ عند الرّحمن عهدا ( مريم : 88 ) ، و قوله : إلى أن تأتيه فردا إشارة إلى قوله تعالى : و كلّهم آتيه يوم القيمة فردا ( مريم : 96 ) .

ثمّ اعلم أنّ معرفة النفس هي مرقاة إلى معرفة الربّ ، و من عرف نفسه فقد عرف ربّه كما تقدّمت الإشارة إليه إجمالا ، و في الخبر المروي تارة عن أمير المؤمنين

[ 289 ]

عليّ عليه السّلام كما في الصافي للفيض قدس سرّه ، و اخرى عن أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليهما السّلام كما في المجلي لابن جمهور الأحسائى رضوان اللّه عليه : الصورة الإنسانية هي أكبر حجج اللّه على خلقه ، و هي الكتاب الّذي كتبه بيده ، و هي الهيكل الّذي بناه بحكمته ، و هي مجموع صور العالمين ، و هي المختصر من اللوح المحفوظ ، و هي الشاهدة على كلّ غائب ، و هي الحجّة على كلّ جاحد ، و هي الطريق المستقيم إلى كلّ خير ، و هي الجسر ( الصراط خ ل ) الممدود بين الجنّة و النّار .

و هذا الخبر الشريف باب بل أبواب إلى معارف حقّة و أسرار مكنونة و لعمري جدير أن يقال فيه كلّ الصيد في جوف الفراء ، شرحه يخرجنا إلى الإسهاب ، و يجرّنا إلى تأليف رسالة عليحدة أو كتاب ، و حيث إنّ الصورة الإنسانية هي مجموع صور العالمين قالوا في حدّ الفلسفة : هي معرفة الإنسان نفسه ، كما في رسالة الكندي في حدود الأشياء و رسومها ( ص 173 من طبع مصر ) و قد أتى الكندي فيها في حدّ الفلسفة بستة حدود من القدماء و هذا أحدها ، و قال بعد نقله الحدّ المذكور : و هذا قول شريف النهاية بعيد الغور مثلا أقول : إنّ الأشياء إذا كانت أجساما و لا أجسام ، و ما لا أجسام إما جواهر و إما أعراض ، و كان الإنسان هو الجسم و النفس و الأعراض ، و كانت النفس جوهرا لا جسما فإنّه إذا عرف ذاته عرف الجسم بأعراضه و العرض الأوّل و الجوهر الّذي هو لا جسم فإذن إذا علم ذلك جميعا فقد علم الكلّ ، و لهذه العلّة سمّى الحكماء الإنسان العالم الأصغر .

و قال العارف المتنزّه الميرزا جواد الملكي قدّس سرّه في كتابه المسمّى بلقاء اللّه : انّ الإنسان له عوالم ثلاثة : عالم الحسّ و الشهادة ، و عالم الخيال و المثال ، و عالم العقل و الحقيقة ، فمن جهة أنّ إنيّته الخاصّة إنّما بدأت من عالم الطبيعة كما في الاية الكريمة المباركة و بدأ خلق الإنسان من طين صار عالمه هذا له بالفعل و عرف نفسه و حقيقته بعالمه هذا ، بل لو سمع من عارف أو عالم

[ 290 ]

عالميه الاخرين أنكره ، بل لو أخبره أحد بصفات عالمه العقلى لكفّره ، و ذلك لأنّ عالمه الطبيعى له بالفعل و عالميه الاخرين بالقوّة ، و لم ينكشف له بالكشف التام إلاّ عالم الطبيعة ، و آثار من عالم المثال ، و شي‏ء قليل من عالمه العقلى .

و انسانيته انما بعالمه العقلي و إلاّ فهو مشترك مع سائر بني جنسه من الحيوان في عالميه الاخرين ، و إن كان عالماه الاخران أيضا من جهة المرتبة أشرف من عالمى سائر الحيوانات .

و بهذه العوالم الثلاثة و ترتيبها وقع التلويح بل التصريح في دعاء سجدة ليلة النصف من شعبان عن النّبي صلى اللّه عليه و آله حيث قال فيها : و سجد لك سوادي و خيالي و بياضي .

و بالجملة فعالمه الحسّى عبارة عن بدنه الّذي له مادّة و صورة ، و عالمه المثالى عبارة عن عالمه الّذي حقائقه صور عارية عن المواد ، و عالمه العقلي عبارة عن عالمه الّذي هو حقيقته و نفسه بلا مادّة و لا صورة .

و لكلّ من هذه العوالم لوازم و آثار خاصّة لازمة لفعليّتها ، فمن انغمر في عالم الطبيعة و تحقّقت بآثارها و تحرّكت بحكمها و ضعفت فيه آثار عالمه العقلي فقد أخلد إلى الأرض و صار موجودا بما هو حيوان بل أضلّ من الحيوان كما هو الصريح في قوله تعالى : إن هم إلاّ كالأنعام بل هم أضلّ سبيلاً ، و من ترقّى إلى العالم العقلي و غلب آثاره على آثار عالميه الطبيعى و الخيالي و كان الحاكم في مملكة وجوده العقل يصير موجودا روحانيا حتّى يتكامل في العقلانيّة و انكشف له حقيقته و نفسه و روحه فإذا ترتفع عنه الحجب الظلمانية بل النورانيّة أو غالبها بينه و بين معرفة اللّه جلّ جلاله و يتحقّق في حقّه قوله صلى اللّه عليه و آله : من عرف نفسه فقد عرف ربّه .

و إذا تمهّد لك هذه الإجماليات فراجع إلى تفصيل لوازم كل عالم من العوالم و اشتغل بتدبير السفر و توكّل على الرب الرّحيم و استعن منه و توسّل بأوليائه في كلّ جزئي و كلي من شئونك :

[ 291 ]

و اعلم أنّ هذا العالم الحسى هو عالم الموت و الفناء و الفقد و الظلمة و الجهل و هو ذات مادة و صورة سائلتين زائلتين دائم التغير و الإنقسام و لا شعور له و لا إشعار إلاّ بتبعية العالمين الاخرين و إنّما ظهوره للحسّ بتوسط الأعراض من حيث وحدته الإتصاليّة أمّا من حيث كثرته المقدارية المتجزّية عند فرض القسمة فكل واحد من الأجزاء معدوم عن الاخر و مفقود عنه فالكلّ غائب عن الكلّ و معدوم عنه و ذلك من جهة أنّ المادّة مصحوبة بالعدم بل هو جوهر مظلم و أوّل ما ظهر من الظلام .

و لأنّها في ذاتها بالقوّة و بما لها في أصلها من عالم النور تقبل الصور النورية و تذهب ظلماتها بنور صورها فهذه النشأة اختلط نورها بظلامها و ضعف وجودها و ظهورها و لضعفها احتاجت إلى مهد المكان و ظئر الزمان و أهلها المخصوصون بها أشقياء الجن و الإنس و الحيوان و النبات و الجماد ، و في الحديث القدسي : ما نظرت إلى الأجسام منذ خلقتها ، و هم الّذين علومهم مختصّة بهذا العالم و يعلمون ظاهرا من الحيوة الدّنيا و هم عن الاخرة غافلون ، و لم يتجاوز علمهم عن المحسوسات و لم يعرفوا من العوالم العالية إلاّ الأسماء ، و كلما سمعوا حكاية منها قدروا له لوازم عالمهم و أنكروا ما يقال لهم من لوازم غير عالمهم .

و بالجملة مرعيهم و مأنسهم و وطنهم هذا العالم المحسوس و ملاذهم و مقاصدهم كلّها من مألوفات هذا العالم و هم الّذين قلنا إنّهم من الّذين أخلدوا إلى الأرض و هم يعتقدون أنّ أنفسهم هو هذا البدن و أرواحهم هي الروح الحيواني ، و أنّ الجماد كلّها موجودات متأصّلة متحقّقة و جواهر قائمة بذواتها مخلوقة في عالمها و حيّزها ، و أنّ موجودات العوالم الاخر على القول بها موجودات اعتبارية خياليّة لا حقيقة لها و أنّ اللّذة إنّما هي في المأكل و المشرب و المنكح و جاه هذا العالم ، و ذكرهم و فكرهم و خيالهم و آمالهم و علومهم كلّها متعلّقة بالمحسوسات و انسهم بها يحبّونها و يستأنسون بها ، و يشتاقون لما لم يصلوا إليه من زخارفها و حلوها و خضرتها بل يعشقونها و شغفهم حبّها كالعاشق المستهتر .

[ 292 ]

فمن كان منهم مع ذلك مؤمنا باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الاخر و لكن بايمان مستقر غير زائل عند الموت لضعفه و قلة نوره و شدّة ظلمة المعاصى و خلط مع ذلك عملا صالحا و آخر سيئا اولئك ممّن يرجى له المغفرة و لو بعد حين .

و أما الطائفة الاولى فهم الأشقياء الكافرون ليس لهم في الاخرة إلاّ النار لأنهم من أهل السجين و يوم القيامة إذا ميّزت الحقائق و التحقت الفروع بالاصول التحق ما في هذا العالم من النور إلى عوالمه و بقى ظلمتها و نارها و تبدّلت صور كل واحد من الأفعال و الأخلاق بما يناسب عالم القيامة من الحيات و العقارب و عذب بها فاعلها و مختلقها ، و من كان يريد الدّنيا و زينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون اولئك ليس لهم في الاخرة إلاّ النار .

و لو فرض لهم عمل خير يوفّ إليهم في حياتهم الدنيا أو ينقص بقدره من عذابهم في الاخرة و بالجملة أنّ الإنسان لما خلق ابتداء من هذه الأرض فإن بقي فيها بعد ما خلق فيه الروح و العقل و استأنس بها و ألف لذاتها كان ممّن أخلد إلى الأرض فيوم القيامة ملتحق بالسجّين .

و إن خلص منها بعد ذلك بمعنى أن تحقّق بآثار العقل و الروح و صار جسدا عقلانيا ، و هيكلا نورانيا فيوم القيامة يرتقى إلى أعلى عليّين ، و بعبارة و ضحى خلق اللّه الإنسان في أوّل ما خلق من سلالة من طين ، و بقي مدة في صورة السلالة و النطفة و العلقة و المضغة و العظم و اللحم ، ثمّ أعطاه الحياة و بقي حيّا إلى أن وهبه قوّة الحركة و البطش ، و بقي على ذلك حتّى وهبه قوّة التميّز بين النافع و الضار فأراد النافع و كره الضار فإن اتبع إرادته لإرادة اللّه جلّ جلاله في جميع حركاته و سكناته و لم يبق له إرادة مخالفة لإرادته تعالى فهذا مقام الرضا و هذا الشخص دائما يكون في الجنّة و لهم فيها ما يشاءون و لذلك كان اسم خازن الجنّة الرضوان .

و في حديث المعراج انّ اللّه قال : فمن عمل برضاى ألزمته ( الزمه خ ل ) ثلاث خصال : أعرفه شكرا لا يخالطه جهل ، و ذكرا لا يخالطه النسيان ، و محبة لا يؤثر على محبّتى محبّة المخلوقين .

[ 293 ]

ثمّ إن عرف أنّ قدرته منتفية في قدرة اللّه و لم ير قدرة لغير اللّه لا لنفسه و لا لغيره فهو مقام التوكّل و من يتوكّل على اللّه فهو حسبه .

ثمّ إن وفق مع ذلك أن ينفي علمه أيضا في علم اللّه لئلا يكون بنفسه شيئا فهذا مقام الوحدة ( التوحيد خ ل ) اولئك الّذين أنعم اللّه عليهم .

فإن اتبع إرادة نفسه و عمل في حركاته و سكناته بهواه ، و الحقّ لا يتبع بهوى غيره ، فيخالف هواه مع هوى الحقّ فيكون هوى الحقّ و لا يكون هواه و حيل بينهم و بين ما يشتهون ، إلى أن يوصله الهوى إلى الهاوية و يقيده بالأغلال و السّلاسل في جميع مراداته و هذا شأن المماليك بالنسبة إلى مراداتهم و لذلك سمى خازن جهنم مالكا .

و إن تخلّف عن التوكّل يقع في الخذلان ، و إن تخلّف عن جليل مرتبة التوحيد ( الوحدة خ ل ) ردّ إلى سفلى الدركات و هي دركة اللّعنة اولئك يلعنهم اللّه و يلعنهم اللاعنون ، إلى أن قال قدّس سرّه :

و لا يذهب عليك أنّ ما ذكرنا من العوالم إنّما هي داخل هذا العالم و ليس خارجا عنه بمعنى أنّ هذا العالم حالة و كيفية للموجودات في حدّ و مرتبة من الوجود و عالم المثال حالة و كيفية اخرى ألطف من هذه الكيفيات في باطن هذا العالم و ليس خارجا منه فمن كان له نور لعينه الحسيّة و اجتمع بنور الشمس أو القمر الحسيّين يرى العالم الحسّى بكيفيات حسيّة و صور حسيّة و من كان لعينيه المثاليّة نور مثالى و اجتمع نوره بنور الكواكب المثاليّة يرى مثال هذا العالم بكيفيّات مثاليّة و صور مثالية فإنّ كيفيات العوالم و صورها مختلفة كل بحسبها و مناسبتها و هكذا .

و يكشف عن هذا الإختلاف الرؤيا و تعبيرها بما يرى واقعة مطابقا لصورتها المثالية يرى النائم اللبن و يفسّره المعبّر بالعلم و يقع في الواقع ما يرى على وفق التعبير .

و يكشف عن ذلك أيضا الأخبار الكثيرة الواردة في أحوال البرزخ و القيامة و تجسيم الأعمال بما يناسبها من الصور ، فحصل من جميع ما قلنا أنّ الموجود

[ 294 ]

الحقّ الواقعى إنّما هو الذات جلّ جلاله في عالمها و سائر العوالم انما هو شأن من شئون و تجلي من تجلياتها مثلا تجلى بالتجلي الأوّل فوجد منه العالم العقلي ثمّ تجلّى ثانيا فظهر العالم النفسي ، و هكذا إلى أن خلق هذا العالم الحسّى ففي الخارج موجود حقيقى حقّ ثابت و شئونه فكل شأن من شئونه عبارة عن عالم من العوالم تامّ في مرتبته و لكلّ عالم آثار و صفات حتّى ينتهى إلى أحسن العوالم و أكثفها و أضيقها و هو هذا العالم المحسوس و هذا العالم كيفية خاصة و صور و حدود شتّى لازم لهذه المرتبة من الوجود ، و وجوده و آثاره مخصوصة بعالمها و هكذا .

و عالم الرؤياء إنّما هو من عالم المثال فكلما يرى فيها فهو من هذا العالم أرضها و سماؤها و جمادها و نباتها بل و صور المرايا أيضا منه و الصور الخيالية أيضا منه و هذا العالم عالم واسع بل عوالم كثيرة بل قيل إنّ في عالم المثال ثمانية عشر ألف عالم .

و حكي عن بعض العرفاء أنّ كلما ورد في الشّرع ممّا ظاهره مجاز في عالمنا فقد وجدناه في بعض هذه العوالم حقيقة من غير تجوز فكما أن كلّما يراه النائم في الرؤيا إنّما هو حال و كيف مثالى يظهر لنفسه في عالم المثال فكذلك ما يراه اليقظان في عالمنا هذا الحسّى حال و كيف حسّى يظهر لنفسه في عالم الحس إلى أن قال رضوان اللّه عليه :

و الإدراك لا يمكن إلاّ بنيل المدرك لذات المدرك و ذلك إما بخروجه من ذاته إلى أن يصل إليه أو بادخاله إيّاه في ذاته و كلاهما محال إلاّ أن يتّحد معه و يتصوّر بصورته فالذات العالمة ليست بذاتها بعينها هي الذات الجاهلة ، فالعلم بالأجسام لا يتعلق بوجوداتها الخارجية لأنّ صورها بما هي هي ليست حاصلة بهذا النحو من الحصول الاتّحادى إلاّ لموادها و ليست حاصلة لأنفسها و حصولها لموادها ليس بنحو العلمي إذ هي أمر عدمىّ ليست إلاّ جهة القوّة في الوجودات فليس لها في أنفسها ذات يصحّ أن يدرك شيئا و يعلمه و إذا لم يكن الصور الخارجية للأجسام ممّا يصحّ أن يحصل لها شي‏ء الحصول المعتبر في العلم و لا هي حاصلة لما

[ 295 ]

يصحّ له أن يعلمها فليست هي عالمة بشي‏ء أصلا و لا لشي‏ء أن يعلمها بعينها كما هي فهى إذا معلومة بالقوّة بمعنى أن في قوّتها أن ينتزع منها عالم صورا فيعلمها أى يتصور بمثل صورها لاستحالة انتقال المنطبعات فى الموادّ فالمعلوم بالذات من كل شي‏ء ليس إلاّ صورا إدراكيّة قائمة بالنفس متّحدة معها لا مادة خارجيّة .

فالمعلوم بالفعل ليس إلاّ لعالمه فكل عالم معلومه غير معلوم عالم آخر و هو في الحقيقة عالم و علم و معلوم ، هذا .

و المقصود من التعرض بهذه التفصيلات التنبيه إلى الفكر في معرفة النفس و كيفيّة الترقي منها إلى معرفة الربّ ، و الإستدلال بما يستحكم به تصديق ذلك و أن يتفطّن المبتدي لاصول تنفع في فكره ، و إلاّ فليس كيفيّة التفكر إلاّ أن يشتغل المتفكر تارة لتجزية نفسه ، و اخرى لتجزية العالم حتّى يتحقّق له أن ما يعلمه من العالم ليس إلاّ نفسه و عالمه لا العالم الخارجى ، و أنّ هذه العوالم المعلومة له إنّما هو مرتبة من نفسه و حتّى يجد نفسه لنفسه ما هي ؟ ثمّ ينقّى عن قلبه كلّ صورة و خيال و يكون فكره في العدم حتّى تنكشف له حقيقة نفسه أى يرتفع العالم من بين يديه و يظهر له حقيقة نفسه بلا صورة و لا مادّة ، و هذا هو أوّل معرفة النفس و لعلّ إلى ذلك اشير في تفسير قوله تعالى : أ فمن شرح اللَّه صدرة للإسلام فهو على نور من ربّه ( الزمر : 24 ) حيث سئل عنه و قال عليه السّلام : نور يقذفه اللّه في قلبه فيشرح صدره ، قيل : هل لذلك من علامة ؟ قال عليه السّلام : علامته التّجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الاستعداد للموت قبل حلول الفوت .

و لعلّ العامّة لا يعتقدون في معنى التجافي إلاّ الزهد في شهوات الدنيا ، و لا يتصوّرون معنى للتجافي الحقيقي الّذي هو ارتفاع الغرور الواقع في هذا العالم لأهله و عدم رؤية الأشياء كما هي الّذي هو شأن العامّة الّذين لم يبلغوا بعد معرفة النفس بهذه المعرفة ، انتهى ما أردنا من نقل كلامه نوّر اللّه تعالى رمسه . و قد أجاد فيما أفاد و كتابه في لقاء اللّه ممتّع جدّا للّه درّه مؤلّفا .

[ 296 ]

و كلامه ره في النشآت الثلاثة الإنسانيّة تشير إلى ما برهنه المتألّه المولى صدرا في الرابع من الأسفار حيث قال قدّس سرّه :

حكمة عرشية : إنّ للنفس الإنسانية نشئات ثلاثة إدراكية : النشأة الاولى هي الصورة الحسيّة الطبيعية و مظهرها الحواس الخمس الظاهرة و يقال لها الدنيا لدنوّها و قربها لتقدمها على الأخيرتين ، و عالم الشهادة لكونها مشهودة بالحواس و شرورها و خيراتها معلومة لكلّ أحد لا يحتاج إلى البيان و في هذه النشأة لا يخلو موجود عن حركته و استحالته و وجود صورتها لا تنفك عن وجود مادّتها .

و النشأة الثانية هي الأشباح و الصور الغائبة عن هذه الحواس و مظهرها الحواس الباطنة و يقال لها عالم الغيب و الاخرة لمقايستها إلى الاولى لأنّ الاخرة و الاولى من باب المضاف ، و لهذا لا يعرف إحداهما إلاّ مع الاخرى كالمتضائفين كما قال تعالى : و لقد علمتم النشأة الاولى فلو لا تذكّرون ، و هي تنقسم إلى الجنّة و هي دار السعداء ، و الجحيم و هي دار الأشقياء ، و مبادى السعادات و الشقاوات فيهما هي الملكات و الأخلاق الفاضلة و الرذيلة .

و النشأة الثالثة هي العقليّة و هي دار المقرّبين و دار العقل و المعقول و مظهرها القوّة العاقلة من الإنسان إذا صارت عقلا بالفعل ، و هي لا تكون إلاّ خيرا محضا و نورا صرفا فالنشأة الاولى دار القوّة و الاستعداد و المزرعة لبذور الأرواح و نبات النيّات و الإعتقادات ، و الاخريتان كلّ منهما دار التمام و الفعلية ، و حصول الثمرات و حصاد المزروعات .

و قد أفاد قدّس سرّه هذا المطلب الأرفع الأعلى في عدّة مواضع من الأسفار فراجع إلى ص 17 ، و ص 21 ، و ص 97 ، و ص 131 من ج 9 .

و إذا دريت أنّ الصورة الإنسانية هي مجموع صور عالمي الأمر و الخلق فادر أيضا أنّ الإنسان إذا كان مراقبا لقلبه و حارسا له عن ولوج الأجانب و الأغيار ، و ناظرا إلى ربّه و مستشعرا جانب اللّه عزّ و جلّ و منصرفا بفكره إلى قدس الجبروت مستديما لشروق نور الحقّ في سرّه يلوح له ملكوت

[ 297 ]

السموات و الأرض و يرتقى إلى أعلى عليّين ، و يصافحه الملائكة المقرّبين ، قال عزّ من قائل : إنَّ الّذين قالوا ربّنا اللَّه ثمَّ استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألاّ تخافوا و لا تحزنوا و أبشروا بالجنّة الّتي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحيوة الدنيا و في الاخرة و لكم فيها ما تشتهى أنفسكم و لكم فيها ما تدّعون نزلاً من غفور رحيم ( حم السجدة ، فصّلت 31 33 ) ، و قد تقدّم في صدر الرسالة كلام العارف السهروردي : الفكر في صورة قدسيّة يتلطّف بها طالب الأريحيّة .

و في باب تنقل أحوال القلب من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 309 ج 2 من المعرب ) باسناده عن سلام بن المستنير عن أبي جعفر عليه السّلام قال :

أما إنّ أصحاب محمّد صلى اللّه عليه و آله قالوا : يا رسول اللّه نخاف علينا النفاق قال : فقال : و لم تخافون ذلك ؟ قالوا : إذا كنّا عندك فذكّرتنا و رغّبتنا و جلنا و نسينا الدنيا و زهدنا حتّى كأنا نعاين الاخرة و الجنّة و النار و نحن عندك ، فإذا خرجنا من عندك و دخلنا هذه البيوت و شممنا الأولاد و رأينا العيال و الأهل يكاد أن نحوّل عن الّتي كنّا عليها عندك و حتّى كأنّا لم نكن على شي‏ء أفتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا ؟ فقال لهم رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : كلاّ إنّ هذه خطوات الشيطان فيرغّبكم في الدنيا ، و اللّه لو تدومون على الحالة الّتي وصفتم أنفسكم بها لصافحتكم الملائكة و مشيتم على الماء الخبر .

و روى عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لو لا إنّ الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء ، قال الكندي في رسالته في النفس : إنّ النفس بسيطة ذات شرف و كمال عظيمة الشّأن ، جوهرها من جوهر الباري عزّ و جلّ كقياس ضياء الشمس من الشمس .

و قد بيّن أنّ هذه النفس منفردة عن هذا الجسم مباينة له و أنّ جوهرها جوهر إلهي روحاني بما يرى من شرف طباعها و مضادّتها لما يعرض للبدن من الشهوات و الغضب .

و ذلك أنّ القوّة الغضبيّة قد تتحرك على الإنسان في بعض الأوقات

[ 298 ]

فتحمله على ارتكاب الأمر العظيم فتضادّها هذه النفس و تمنع الغضب من أن يفعل فعله أو أن يرتكب الغيظ و ترته ، و تضبطه كما يضبط الفارس الفرس إذا همّ أنّ يجمح به أو يمدّه .

و هذا دليل بيّن على أنّ القوّة الّتي يغضب بها الإنسان غير هذه النفس الّتي تمنع الغضب أن يجري إلى ما يهواه لأنّ المانع لا محالة غير الممنوع لأنّه لا يكون شي‏ء واحد يضادّ نفسه ، فأمّا القوّة الشهوانية فقد تتوق في بعض الأوقات إلى بعض الشهوات ففكّر النفس العقليّة في ذلك أنّه أخطأ و أنّه يؤدي إلى حال رديّة فتمنعها عن ذلك و تضادها ، و هذا أيضا دليل على أنّ كلّ واحدة منهما غير الاخرى .

و هذه النفس الّتي هي من نور البارى عزّ و جلّ إذا هي فارقت البدن علمت كلّ ما في العالم و لم يخف عنها خافية ، و الدليل على ذلك قول أفلاطن حيث يقول : إنّ كثيرا من الفلاسفة الطاهرين القدماء لما يتجرّدوا من الدّنيا و تهاونوا بالأشياء المحسوسة و تفرّدوا بالنظر و البحث عن حقائق الأشياء انكشف لهم الغيب ، و علموا بما يخفيه الناس في نفوسهم و اطّلعوا على سرائر الخلق .

فإذا كان هذا هكذا ، و النفس بعد مرتبطة بهذا البدن في هذا العالم المظلم الّذي لو لا نور الشمس لكان في غاية الظلمة فكيف إذا تجرّدت هذه النفس ، و فارقت البدن ، و صارت في عالم الحقّ الّذي فيه نور الباري سبحانه ؟ .

و لقد صدق أفلاطن في هذا القياس و أصاب به البرهان الصحيح ، ثمّ إنّ أفلاطن أتبع هذا القول بأن قال : فأمّا من كان غرضه في هذا العالم التلذّذ بالمآكل و المشارب المستحيلة إلى الجيف ، و كان أيضا غرضه في لذّة الجماع فلا سبيل لنفسه العقلية إلى معرفة هذه الأشياء الشريفة و لا يمكنها الوصول إلى التشبّه بالباري سبحانه .

ثمّ إنّ أفلاطن قاس القوّة الشهوانيّة الّتي للإنسان بالخنزير ، و القوّة الغضبيّة بالكلب ، و القوّة العقليّة الّتي ذكرنا بالملك ، و قال : من غلبت عليه

[ 299 ]

الشهوانيّة و كانت هي غرضه و أكثر همته فقياسه قياس الخنزير ، و من غلب عليه الغضبيّة فقياسه قياس الكلب ، و من كان الأغلب عليه قوّة النفس العقلية و كان أكثر أدبه الفكر و التمييز و معرفة حقائق الأشياء ، و البحث عن غوامض العلم كان انسانا فاضلا قريب الشبه من الباري سبحانه لأنّ الأشياء الّتي نجدها للباري عزّ و جلّ هي الحكمة و القدرة و العدل و الخير و الجميل و الحقّ .

و قد يمكن للإنسان أن يدبّر نفسه بهذه الحيلة حسب ما في طاقة الإنسان فيكون حكيما عدلا جوادا خيّرا يؤثر الحقّ و الجميل ، و يكون بذلك كلّه بنوع دخل دون النوع الّذي للباري سبحانه من قوّته و قدرته لأنّها إنما اقتبست من قربها قدرة مشاكلة لقدرته ، فإنّ النفس على رأى أفلاطن و جلّة الفلاسفة باقية بعد الموت جوهرها كجوهر البارى عزّ و علا في قوّتها إذا تجرّدت أن تعلم سائر الأشياء كما يعلم البارى بها أو دون ذلك برتبة يسيرة ، لأنها اودعت من نور البارى جلّ و عزّ .

و إذا تجرّدت و فارقت هذا البدن و صارت في عالم العقل فوق الفلك صارت في نور البارى ، و رأت البارى عزّ و جلّ و طابقت نوره و جلّت في ملكوته فانكشف لها حينئذ علم كلّ شي‏ء ، و صارت الأشياء كلّها بارزة لها كمثل ماهي بارزة للبارى عزّ و جلّ ، لأنّا إذا كنّا و نحن في هذا العالم الدنس قد نرى فيه أشياء كثيرة بضوء الشمس فكيف إذا تجرّدت نفوسنا ، و صارت مطابقة لعالم الديموميّة و صارت تنظر بنور البارى فهى لا محالة ترى بنور البارى كلّ ظاهر و خفىّ و تقف على كلّ سرّ و علانية .

و كان أفسقورس يقول : إنّ النفس إذا كانت و هي مرتبطة بالبدن تاركة للشهوات متطهّرة من الأدناس ، كثيرة البحث و النظر في معرفة حقائق الأشياء انصقلت صقالة ظاهرة و اتّحد بها صورة من نور البارى يحدث فيها و يكامل نور البارى بسبب ذلك الصقال الّذي اكتسبه من التطهر فحينئذ يظهر فيها صور الأشياء كلّها و معرفتها كما يظهر صور خيالات سائر الأشياء المحسوسة في المرآة إذا

[ 300 ]

كانت صقيلة ، فهذا قياس النفس لأنّ المرآة إذا كانت صدئة لم يتبيّن صورة شي‏ء فيها بتّة ، فإذا زال منها الصدء ظهرت و تبيّنت فيها جميع الصور ، كذلك النفس العقلية إذا كانت صدئة دنسة كانت على غاية الجهل و لم يظهر فيها صور المعلومات و إذا تطهّرت و تهذّبت و انصقلت ، و صفاء النفس هو أنّ النفس تتطهّر من الدنس و تكتسب العلم ظهر فيها حينئذ صورة معرفة جميع الأشياء ، و على حسب جودة صقالتها تكون معرفتها بالأشياء ، فالنفس كلما ازدادت صقالا ظهر لها و فيها معرفة الأشياء .

و هذه النفس لا تنام بتّة لأنّها في وقت النوم تترك استعمال الحواس و تبقى محصورة ، ليست بمجرّدة على حدتها ، و تعلم كلّ ما في العوالم و كلّ ظاهر و خفي و لو كانت هذه النفس تنام لما كان الإنسان إذا رأى في النوم شيئا يعلم أنه في النوم بل لا يفرق بينه و بين ما كان في اليقظة .

و إذا بلغت هذه النفس مبلغها في الطهارة رأت في النوم عجائب من الأحلام و خاطبتها الأنفس الّتي قد فارقت الأبدان و أفاض عليها البارى من نوره و رحمته فتلتذّ حينئذ لذّة دائمة فوق كل لذّة تكون بالمطعم و المشرب و النكاح و السماع و النظر و الشمّ و اللمس ، لأنّ هذه لذات حسيّة دنسة تعقب الأذي ، و تلك لذّة إلهيّة روحانيّة ملكوتيّة تعقب الشرف الأعظم ، و الشقى المغرور الجاهل من رضى لنفسه بلذّات الحسّ و كانت هي أكثر أغراضه و منتهى غايته .

و إنما نجي‏ء في هذا العالم في شبه المعبر و الجسر الّذي يجوز عليه السيّارة ليس لنا مقام يطول ، و أما مقامنا و مستقرّنا الّذي نتوقع فهو العالم الأعلى الشريف الّذي تنتقل إليه نفوسنا بعد الموت حيث تقرب من باريها ، و نقرب من نوره و رحمته ، و نراه رؤية عقليّة لا حسيّة ، و يفيض عليها من نوره و رحمته ، فهذا قول افسقورس الحكيم . انتهى ما نقلنا عن الفيلسوف الكندي .

و قد صدر هذه النكات اللطيفة الشريفة عن قلوب نقيّة ، و هي كلمات اقتبست من مشكاة الأنبياء غاية الأمر بوسائط ، و الملهم المبتدع القديم حقّ عليم منّه عظيم .

[ 301 ]

قوله : جوهرها من جوهر البارى ، يعنى أنها من عالم الأمر الحكيم قال عزّ من قائل : قل الروح من أمر ربّي ( الأسراء : 86 ) و نفخت فيه من روحي ( ص : 73 ) .

و قوله كقياس ضياء الشمس من الشمس شريف جدا و قد قال الإمام كشّاف الحقائق وارث علوم النبيّين أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام : إنّ روح المؤمن لأشدّ اتّصالا بروح اللّه من اتصال شعاع الشمس بها ، رواه ثقة الإسلام الكليني قدّس سرّه في باب أخوة المؤمنين بعضهم لبعض من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 33 ج 2 من المعرب ) .

قوله : إذا هي فارقت البدن علمت كلّ ما في العالم ، قال تبارك و تعالى :

لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد ( ق : 24 ) .

و قوله : ثمّ إنّ افلاطن قاس القوّة الشهوانيّة الّتي للإنسان بالخنزير الخ كلام شريف أيضا و من هنا يعلم أيضا حشر الناس على صور نيّاتهم و أن الجزاء في الاخرة بنفس العمل و قد وردت في ذلك روايات كثيرة من بيت الوحى و العصمة و الطهارة ففي الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : يحشر الناس على صور نيّاتهم ، و في الاخر عن البراء بن عازب قال : كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله في منزل أبي أيوب الأنصاري فقال معاذ : يا رسول اللّه ما رأيت قول اللّه تعالى : يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا ، الايات ؟ فقال : يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمر ، ثمّ أرسل عينيه ثمّ قال : يحشر عشرة أصناف من امّتى أشتاتا قد ميّزهم اللّه من المسلمين و بدّل صورهم : فبعضهم على صورة القردة و بعضهم على صورة الخنازير ، و بعضهم منكسون أرجلهم من فوق و وجوههم من تحت ثمّ يسحبون عليها ، و بعضهم عمي يتردّدون ، و بعضهم صمّ بكم لا يعقلون ، و بعضهم يمضغون ألسنتهم فيسيل القيح من أفواههم لعابا يتقذرهم أهل الجمع ، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم ، و بعضهم مصلبون على جذوع من نار ، و بعضهم أشدّ نتنا من الجيف ، و بعضهم يلبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم .

فأما الّذين على صورة القردة فالقتّات من الناس ، و أما الّذين على صورة

[ 302 ]

الخنازير فأهل السحت ، و أما المنكسون على رؤوسهم فآكلوا الربا ، و العمي الجائرون في الحكم ، و الصمّ البكم المعجبون بأعمالهم ، و الّذين يمضغون بألسنتهم فالعلماء و القضاة الّذين خالف أعمالهم أقوالهم ، و المقطعة أيديهم و أرجلهم الّذين يؤذون الجيران ، و المصلبون على جذوع من نار فالسّعاة بالناس إلى السلطان و الّذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالّذين يتمتّعون بالشهوات و اللّذات و يمنعون حقّ اللّه تعالى في أموالهم ، و الّذين يلبسون الجباب فأهل التجبّر و الخيلاء .

و هذا الحديث قد رواه الفريقان في الجوامع و كتب التفسير و في الحديث عنه صلى اللّه عليه و آله : من خالف الإمام في أفعال الصلاة يحشر و رأسه رأس حمار ، و قد روى الكليني في باب الكبر من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 235 ج 2 من المعرب ) باسناده عن داود بن فرقد عن أخيه قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إنّ المتكبرين يجعلون في صور الذرّ يتوطّأهم الناس حتّى يفرغ اللّه من الحساب .

و في الحديث عنه صلى اللّه عليه و آله : كما تعيشون تموتون و كما تنامون تبعثون و روى عن النّبي صلى اللّه عليه و آله انه قال : رأيت ليلة أسرى بى قوما تقرض شفاههم ، و كلّما قرضت وفت ، فقال لي جبرئيل : هؤلاء خطباء امّتك تقرض شفاههم لأنّهم يقولون ما لا يفعلون ، رواه علم الهدى سيّد المرتضى في المجلس الأوّل من أماليه غرر الفوائد و درر القلائد ( ص 6 من ج 1 من طبع مصر ) .

و قال أمير المؤمنين عليه السّلام في صفة بعض علماء السوء : فالصورة صورة انسان و القلب قلب حيوان .

و في حديث الريّان بن شبيب عن ثامن الأئمّة عليّ بن موسى الرضا عليهما السّلام :

يا ابن شبيب إن سرّك أن تكون معنا في الدرجات العلى من الجنان فاحزن لحزننا و افرح لفرحنا و عليك بولايتنا ، فلو أنّ رجلا تولّى حجرا لحشره اللّه تعالى معه يوم القيامة ، رواه المجلسي رحمة اللّه عليه في عاشر البحار ( ص 165 من طبع الكمبانى ) عن عيون أخبار الرضا و أمالى الصدوق .

[ 303 ]

قلت : كنت ذات ليلة متفكرا في أمري من حشري معادي و ناظرا في صحيفة عملي ، و يوم عرضي للحساب و نحوها إذ رأيت فيما رأيت في صقع نفسي شيئا لازبا بها جدّا ، محشورا عندها غير منفك عنها ، و لمّا أمعنت النظر فيه عرفته ، و كان نسخة مخطوطة من كتاب ، قد كنت احبّها شديدا فعندئذ حضر و خطر بالبال ، قوله عليه السلام : فلو أنّ رجلا تولّى حجرا لحشره اللّه تعالى معه يوم القيامة ، فإنّ الكتاب جماد كالحجر و لا فرق بينهما من هذه الحيثيّة .

و من تلك البراهين النقلية المعاضدة للعقلية قال أساطين الحكمة : إنّ حشر الخلائق في الاخرة على أنحاء مختلفة حسب أعمالهم و أخلاقهم فلقوم على سبيل الوفد ، يوم نحشر المتّقين إلى الرحمن وفدا ، و لقوم على سبيل التعذيب و يوم يحشر أعداء اللّه إلى النار فهم يوزعون ، و لقوم نحشر المجرمين يومئذ زرقا و لقوم و نحشره يوم القيمة أعمي ، و بالجملة كل أحد إلى غاية سعيه و عمله و إلى ما يحبّه و يهواه حتّى أنّه لو أحبّ حجرا لحشر معه لقوله تعالى : انكم و ما تعبدون من دون اللَّه حصب جهنّم ، و قوله تعالى : احشروا الّذين ظلموا و أزواجهم و ما كانوا يعبدون من دون اللَّه فاهدوهم إلى صراط الجحيم .

و المراد بأزواجهم الملكات و صورها فان تكرّر الأفاعيل يوجب الملكات و كلّ ملكة تغلب على نفس الإنسان تتصور في القيامة بصورة تناسبها ، قل كلّ يعمل على شاكلته ، و لا شك أن أفاعيل الأشقياء المدبرين إنّما هي بحسب هممهم القاصرة النازلة في مراتب البرازخ الحيوانية و تصوراتهم مقصورة على أغراض بهيميّة أو سبعيّة أو شيطانيّة تغلب على نفوسهم فلا جرم يحشرون على صور تلك الحيوانات ، و إذا الوحوش حشرت ، و في الحديث عنه صلى اللّه عليه و آله يحشر بعض النّاس على صور يحسن عندها القردة و الخنازير ، و فيه أيضا يحشر النّاس يوم القيامة ثلاثة أصناف : ركبانا ، و مشاة ، و على وجوههم .

و السرّ في ذلك أن لكلّ خلق من الأخلاق المذمومة و الهيئات الردية المتمكنّة في النفس صورة نوع من أنواع الحيوانات و بدن يختصّ بذلك كصور

[ 304 ]

أبدان الأسود و نحوها لخلق التكبّر و التهوّر مثلا ، و أبدان الثعالب و أمثالها للخبث و الروغان ، و أبدان القرود و نحوها للمحاكاة و السخريّة ، و الخنازير للحرص و الشهوة إلى غير ذلك .

و ربما كان لشخص واحد من الإنسان عدد كثير من الأخلاق الردية على مراتب متفاوتة فبحسب ذلك تختلف الصور الحيوانيّة في الاخرة قال اللّه عزّ و جلّ : « يوم تشهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم بما كانوا يعملون » .

قال المولى صدرا قدس سرّه في مبحث الحشر من الأسفار : إنّ في داخل بدن كلّ إنسان و مكمن جوفه حيوانا صوريا بجميع أعضائه و أشكاله و قواه و حواسّه هو موجود قائم بالفعل لا يموت بموت هذا البدن و هو المحشور يوم القيامة بصورته المناسبة لمعناه و هو الّذي يثاب و يعاقب و ليست حياته كحياة هذا البدن المركب عرضيّة واردة عليه من الخارج و إنما حياته كحياة النفس ذاتيه و هو حيوان متوسط بين الحيوان العقلى و الحيوان الحسىّ يحشر في القيامة على صورة هيئات و ملكات كسبتها النفس بيدها العمالة ، و بهذا يرجع و يؤول معنى التناسخ المنقول عن الحكماء الأقدمين كأفلاطن و من سبقه مثل سقراط و فيثاغورس و غيرهما من الأساطين ، و كذا ما ورد في لسان النبوات ، و عليه يحمل الايات المشيرة إلى التناسخ ، و كذا قوله تعالى : و إذا وقع عليهم القول أخرجنا لهم دابّة من الأرض تكلّمهم أنّ الناس كانوا بآياتنا لاقنون ، و قوله تعالى : و يوم نحشر من كلّ امّة فوجاً ممّن يكذّب بآياتنا فهم يوزعون ، و قوله تعالى : يومئذ يتفرَّقون ، كلّ ذلك إشارة إلى انقلاب النفوس في جوهرها و صيرورتها من أفواج الامم الصامتة و خروجها يوم النشور إذا بعثر ما في القبور و حصّل ما في الصدور على صورة أنواع الحيوانات من السباع و الموذيات و البهائم و الوحوش و الشياطين .

و قال في المبدء و المعاد : ( ص 325 ) قال بعض العرفاء : كلّ من شاهد بنور البصيرة باطنه في الدّنيا لرآه مشحونا بأصناف السباع و أنواع الهوام مثل الغضب

[ 305 ]

و الشهوة و الحقد و الحسد و الكبر و العجب و الرياء و غيرها و هي الّتي لا تزال تفترسه و تنهشه إن سهى عنه بلحظة إلاّ أنّ أكثر الناس لكونه محجوب العين عن مشاهدتها فإذا كشف الغطاء و وضع في قبره عاينها و قد تمثلت له بصورها و أشكالها الموافقة لمعانيها فيرى بعينه العقارب و الحيات قد أحدقت به و إنما هي صفاته الحاضرة الان قد انكشفت له صورها ، فإن أردت يا أخي أن تقتلها و تقهرها و أنت قادر عليها قبل الموت فافعل و إلاّ فوطن نفسك على لدغها و نهشها بصميم قلبك فضلا عن ظاهر بشرتك و جسمك .

و قول الكندي كان أفسقورس يقول إن النفس الخ ، يقصد بأفسقورس فيثاغورس الفيلسوف المشهور من أعاظم الحكماء الأقدمين قد استفاد من مشكاة النّبوة و له في نضد العالم و ترتيبه على خواصّ العدد و مراتبه رموز عجيبة و أغراض بعيدة و له في شأن المعاد مذاهب قارب فيها أبيذ قلس من أنّ عالما فوق عالم الطبيعة روحانيا نورانيا لا يدرك العقل حسنه و بهاءه ، و أنّ الأنفس الزكية تحتاج إليه ، و أنّ كلّ انسان أحسن تقويمه بالتبرّؤ من العجب و التجبر و الرياء و الحسد و غيرها من الشهوات الجسدانيّة فقد صار أهلا أن يلحق بالعالم الروحانى و يطلع على ما شاع ( يشاء خ ل ) من جواهره من الحكمة الالهية ، و أنّ الأشياء الملذّة للنفس تأتيه حشدا إرسالا كالألحان الموسيقيّة الاتية إلى حاسّة السمع فلا يحتاج إلى أن يتكلف لها طلبا ، نقلناه من تاريخ الحكماء للقفطى .

و من كلماته السامية : أنّك ستعارض لك في أفعالك و أقوالك و أفكارك و سيظهر لك من كل حركة فكرية أو قولية او عملية صورة روحانية أو جسمانية فإن كانت الحركة غضبيّة أو شهوية صارت مادة لشيطان يؤذيك في حياتك و يحجبك عن ملاقاة النور بعد وفاتك ، و إن كانت الحركة عقلية صارت ملكا تلتذّ بمنادمته في دنياك ، و تهتدى به في اخراك إلى جوار اللّه و دار كرامته ، نقلناه من مبحث نشر الصحائف و ابراز الكتب من الأسفار .

و ما أفاد هؤلاء الأعاظم في إنيّة النفس و تطوّراتها لطيف جدّا إلاّ أنّى ما

[ 306 ]

رأيت بعد قول اللّه تعالى و رسوله صلى اللّه عليه و آله كلاما في النفس و أطوارها ألطف و أجمع و أتقن من كلام إمام الموحّدين و راية السالكين و قدوة المتألّهين عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قال لحبر من أحبار اليهود و علمائهم : من اعتدل طباعه صفى مزاجه ، و من صفى مزاجه قوى أثر النفس فيه ، و من قوى أثر النفس فيه سمى إلى ما يرتقيه ، و من سمى إلى ما يرتقيه فقد تخلق بالأخلاق النفسانية ، و من تخلق بالأخلاق النفسانية فقد صار موجودا بما هو انسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان ، و دخل في الباب الملكى ، و ليس له عن هذه الحالة مغيّر فقال اليهودي : اللّه أكبر يا ابن أبي طالب لقد نطقت بالفلسفة جميعها ، نقله العلاّمة الشّيخ بهاء الدين العاملي قدّس سرّه في أواخر المجلّد الخامس من الكشكول ( ص 594 من طبع نجم الدولة ) .

و قال في المجلّد الثاني منه ( ص 246 ) عن كميل بن زياد قال : سألت مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فقلت : يا أمير المؤمنين اريد أن تعرّفنى نفسي ، فقال : يا كميل و أىّ الأنفس تريد أن اعرّفك ؟ قلت : يا مولاى و هل هي إلاّ نفس واحدة ؟ .

قال : يا كميل انما هي أربعة : النامية النباتية ، و الحسيّة الحيوانيّة ، و النّاطقة القدسيّة ، و الكليّة الإلهيّة ، و لكل واحدة من هذه خمس قوى و خاصيّتان :

فالنامية النباتية لها خمس قوى : ماسكة ، و جاذبة ، و هاضمة ، و دافعة و مربّية ، و لها خاصيّتان : الزيادة و النقصان ، و انبعاثها من الكبد .

و الحسيّة الحيوانية لها خمس قوى : سمع ، و بصر ، و شم ، و ذوق ، و لمس و لها خاصيّتان : الرّضا و الغضب ، و انبعاثها من القلب .

و الناطقة القدسيّة لها خمس قوى : فكر ، و ذكر ، و علم ، و حلم ، و نباهة ،

و ليس لها انبعاث و هي أشبه الأشياء بالنفوس الملكيّة ، و لها خاصيّتان :

النزاهة و الحكمة .

و الكليّة الالهيّة لها خمس قوى : بقاء في فناء ، و نعيم في شقاء ، و عزّ في ذلّ و فقر في غناء ، و صبر في بلاء ، و لها خاصيّتان : الرّضا و التسليم و هذه الّتي

[ 307 ]

مبدؤها من اللّه و إليه تعود ، قال اللّه تعالى : و نفخت فيه من روحى ، و قال اللّه تعالى : يا أيتها النفس المطمئنّة ارجعى إلى ربّك راضية مرضيّة ، و العقل وسط الكل .

و روى في كتاب الدرر و الغرر أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام سئل عن العالم العلوي فقال : صور عارية عن المواد ، عالية من القوّة و الاستعداد ، تجلّى لها فأشرقت و طالعها فتلألأت ، و ألقى في هويّتها مثاله فأظهر عنها أفعاله ، و خلق الإنسان ذا نفس ناطقة إن زكّيها بالعلم و العقل فقد شابهت جواهر أوائل عللها ، و إذا اعتدل مزاجها و فارقت الأضداد فقد شارك بها السبع الشداد ( نقلناه من الكلمة التاسعة عشر من قرّة العيون في أعزّ الفنون للفيض قدّس سرّه ) ، و قد رواه العالم الجليل ابن شهر آشوب في المناقب أيضا .

و لنذكر ما حصل لبعض الأعاظم من التخلّص عن درن البدن ، و التنزّه عن رين الرذائل النفسانيّة فكوشف لهم ما وراء الطبيعة ترغيبا للمشتاقين إلى السير في عالم المجردات ، و انموزجا من عظم شأن النفس و شرفها للطالبين :

( 1 ) قال الفيلسوف يعقوب بن إسحاق الكندي في رسالته في النفس ( ص 279 من رسائل الكندى ) : و قد وصف أرسطاطاليس أمر الملك اليونانى الّذي تحرّج بنفسه فمكث لا يعيش و لا يموت أياما كثيرة ، كلّما أفاق أعلم الناس بفنون من علم الغيب و حدّثهم بما رأى من الأنفس و الصور و الملائكة ، و أعطاهم في ذلك البراهين ، و أخبر جماعة من أهل بيته بعمر واحد واحد منهم ، فلمّا امتحن كلّ ما قال لم يتجاوز أحد منهم المقدار الّذي حدّه له من العمر ، و أخبر أنّ خسفا يكون في بلاد الأوس بعد سنة ، و سيل يكون في موضع آخر بعد سنتين فكان الأمر كما قال .

قال : و ذكر أرسطاطاليس أنّ السبيل في ذلك أنّ نفسه إنّما علمت ذلك العلم لأنّها كادت أن تفارق البدن ، و انفصلت عنه بعض الإنفصال فرأت ذلك فكيف لو فارقت البدن على الحقيقة ؟ لكانت قد رأت عجائب من أمر

[ 308 ]

الملكوت الأعلى .

فقل للباكين ممّن طبعه أن يبكى من الأشياء المخزونة ينبغي أن يبكى و يكثر البكاء على من يهمل نفسه ، و ينهك من ارتكاب الشهوات الحقيرة الخسيسة الدنيّة المموّهة الّتي تكسبه الشرّة ( الشره خ ل ) و تميل بطبعه إلى طبع البهائم و يدع أن يتشاغل بالنظر في هذا الأمر الشريف و التخلّص إليه ، و يطهّر نفسه حسب طاقته ، فإنّ الطهر الحقّ هو طهر النفس لا طهر البدن فإنّ العالم الحكيم المبرّز المتعبد لباريه ، إذا كان ملطّخ البدن باكماة فهو عند جميع الجهّال ، فضلا عن العلماء أفضل و أشرف من الجاهل الملطّخ البدن بالمسك و العنبر .

و من فضيلة المتعبّد للّه الذي قد هجر الدّنيا و لذّاتها الدنيّة أنّ الجهّال كلّهم إلاّ من سخر منهم بنفسه يعترف بفضله و يجلّه و يفرح أن يطلع منه على الخطاء .

فيا أيها الإنسان الجاهل ألا تعلم أنّ مقامك في هذا العالم إنما هو كلمحة ثمّ تصير إلى العالم الحقيقى ، فتبقى فيه أبد الابدين ؟ انتهى كلام الكندي تغمده اللّه بغفرانه .

( 2 ) و روى الكليني أعلى اللّه مقامه في باب حقيقة الإيمان و اليقين من كتاب الايمان و الكفر من جامعه الكافي ( ص 44 ج 2 من المعرب ) باسناده عن إسحاق بن عمار قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول : إنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله صلّى بالنّاس الصبح فنظر إلى شابّ في المسجد و هو يخفق و يهوى برأسه ، مصفرّا لونه ، قد نحف جسمه ، و غارت عيناه في رأسه ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله كيف أصبحت يا فلان ؟

قال : أصبحت يا رسول اللّه موقنا ، فعجب رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله من قوله و قال : إنّ لكلّ يقين حقيقة فما حقيقة يقينك ؟ فقال : إنّ يقينى يا رسول اللّه هو الّذي أحزننى و أسهر ليلي و أظمأ هو اجرى فعزفت نفسي عن الدّنيا و ما فيها حتّى كأنّى أنظر إلى عرش ربّى و قد نصب للحساب و حشر الخلائق لذلك و أنا فيهم ، و كأنّى أنظر إلى أهل الجنّة يتنعّمون في الجنّة و يتعارفون و على الأرائك متكئون ، و كأنّى أنظر إلى أهل النار و هم فيها معذّبون مصطرخون ، و كأنّى الان أسمع زفير النار

[ 309 ]

يدور في مسامعى ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله لأصحابه : هذا عبد نوّر اللّه قلبه بالإيمان ثمّ قال له : ألزم ما أنت عليه ، فقال الشاب : ادع اللّه لي يا رسول اللّه أن ارزق الشهادة معك ، فدعا له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النّبي صلى اللّه عليه و آله فاستشهد بعد تسعة نفر و كان هو العاشر .

و روى بعده باسناده عن عبد اللّه بن مسكان عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : استقبل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حارثة بن مالك بن النعمان الأنصارىّ فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك ؟ فقال : يا رسول اللّه مؤمن حقّا ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله :

لكلّ شي‏ء حقيقة فما حقيقة قولك ؟ فقال : يا رسول اللّه عزفت نفسي عن الدّنيا فأسهرت ليلي و أظمأت هو اجري و كأنّى أنظر إلى عرش ربّى و قد وضع للحساب و كأنّى أنظر إلى أهل الجنّة يتزاورون في الجنّة ، و كأنّى أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال له رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : عبد نوّر اللّه قلبه ، أبصرت فأثبت ، فقال : يا رسول اللّه ادع اللّه لي أن يرزقنى الشهادة معك فقال : اللهمّ ارزق حارثة الشهادة ، فلم يلبث إلاّ أياما حتّى بعث رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله سريّة فبعثه فيها فقاتل فقتل تسعة أو ثمانية ثمّ قتل .

و قال : و في رواية القاسم بن بريد عن أبي بصير قال : استشهد مع جعفر بن أبي طالب بعد تسعة نفر و كان هو العاشر .

قلت : إنّما قال لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : ادع لي أن ارزق الشهادة معك لما فيها من فضيلة سامية و كفى فيها ما قال عزّ من قائل : و لا تحسبنّ الّذين قتلوا في سبيل اللَّه أمواتاً بل أحياء عند ربّهم يرزقون ، و أرى في طلبه الشهادة منه صلى اللّه عليه و آله أنّ حفظ الحال أصعب من تحصيله كالمال قال شاعر العجم :

مال را هر كسى بدست آرد
رنجش اندر نگاهداشتن است

و تأمّل في كلام رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله حيث قال له : الزم ما أنت عليه ، أو أبصرت فاثبت ، أمره بلزوم ما وجده من الإيمان الكامل الّذي نوّر اللّه به قلبه و ثباته على ذلك ، فإنّ للكمالات الحاصلة آفات كثيرة و المراقبة في حفظها و عدم زوالها لازمة جدّا لمن تنعّم بها ، قال الإمام أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام

[ 310 ]

لهشام بن الحكم :

يا هشام إنّ اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا : « ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة انك أنت الوهّاب » حين علموا أنّ القلوب تزيغ و تعود إلى عماها و رداها ( رواه الكليني ره في كتاب العقل و الجهل من اصول الكافي الحديث 12 ) .

قال الشّيخ العلاّمة البهائى قدّس سرّه كما في سلافة العصر ( ص 292 ) :

سانحة : قد تهب من عالم القدس نفحة من نفحات الانس على قلوب أصحاب العلائق الدينيّة ، و العلائق الدنيويّة ، فتقطر بذلك مشام أرواحهم و تجري روح الحقيقة في رميم أشباحهم ، فيدركون قيح الأنفاس الجسمانية ، و يذعنون بخساسة الانتكاس في مهاوى القيود الهيولانية ، فيميلون إلى سلوك مسالك الرشاد و ينتبهون من نوم الغفلة عن البداء و المعاد ، لكنّ هذا التنبيه سريع الزوال ، و وحى الإضمحلال ، فيا ليته يبقي إلى حصول جذبة إلهية تميط عنهم أدناس عالم الزور و تطهّرهم من أرجاس دار الغرور ، ثمّ إنّهم عند زوال تلك النفحة القدسيّة ، و انقضاء هاتيك النسمة الإنسية يعودون إلى الإنعكاس في تلك الأدناس ، فيتأسّفون على ذلك الحال الرفيع المنال ، و ينادى لسان حالهم بهذا المقال ، إن كانوا من أصحاب الكمال :

تيرى زدى و زخم دل آسوده شد از ان
هان اى طبيب خسته دلان مرهم دگر

و بالجملة كأنّ الشاب خاف من زيغ القلب و زوال النعمة فرأى أنّ خروجه من الدّنيا مع ذلك النور الإلهي أفضل و أحبّ إليه من البقاء فيها مع خوف زواله فاستحبّ الأوّل على الثاني ، و اللّه تعالى أعلم .

و قد روى ابن الأثير في اسد الغابة باسناده عن أنس هذه الواقعة و نسبها إلى حارثة أيضا ( ص 355 ج 1 ) ، و كذا الغزالى في إحياء العلوم ، لكن نسبها العارف الرّومى في المجلّد الأوّل من المثنوي إلى زيد و الظاهر أنه زيد بن حارثة حيث قال :

[ 311 ]

گفت پيغمبر صباحى زيد را
كيف أصبحت اى رفيق با صفا

إلى آخر الأبيات .

و نسبها أبو نعيم الإصفهاني في حلية الأولياء ( ص 242 ج 1 ) إلى معاذ بن جبل و رواها باسناده عن أنس بن مالك أيضا ، و نسبها الديلمي في الباب السابع و الثلاثين من كتابه إرشاد القلوب إلى سعد بن معاذ و ألفاظهما واحدة و الاختلاف يسير ، و في رواية أبي نعيم أنّ معاذ بن جبل رضي اللّه تعالى عنه دخل على رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله فقال : كيف أصبحت يا معاذ ؟ قال : أصبحت مؤمنا باللّه تعالى قال : إنّ لكلّ قول مصداقا و لكلّ حقّ حقيقة فما مصداق ما تقول ؟ قال : يا نبيّ اللّه ما أصبحت صباحا قط إلاّ ظننت أنّى لا أمسى ، و ما أمسيت مساء قط إلاّ ظننت أنّى لا أصبح ، و لا خطوت خطوة إلاّ ظننت أنّى لا أتبعها اخرى ، و كأنّى أنظر إلى كلّ امّة جاثية تدعى إلى كتابها معها نبيّها و اوثانها الّتي كانت تعبد من دون اللّه و كأنّى أنظر إلى عقوبة أهل النار و ثواب أهل الجنّة ، قال : عرفت فالزم .

( 3 ) قال العارف المتنزه المتأله السيّد حيدر الاملي قدّس سرّه في أوّل كتابه جامع الأسرار و منبع الأنوار : و اللّه ثمّ و اللّه لو صارت أطباق السماوات أوراقا ، و أشجار الأرضين أقلاما ، و البحور السبعة مع المحيط مدادا ، و الجنّ و الإنس و الملك كتّابا لا يمكنهم شرح عشر من عشير ما شدت من المعارف الإلهية و الحقائق الربانية ، الموصوفة في الحديث القدسيّ « أعددت لعبادى الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر » ، المذكورة في القرآن : فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعملون .

و لا يتيسّر لهم بيان جزء من أجزاء ما عرفت من الأسرار الجبروتيّة و الغوامض الملكوتيّة المعبّر عنها في القرآن بما لم يعلم لقوله تعالى : « اقرأ و ربّك الأكرم الّذي علّم بالقلم علّم الإنسان ما لم يعلم » المومى إليها أيضا بتعليم الرّحمن ، لقوله تعالى « الرّحمن علّم القرآن ، خلق الإنسان ، علّمه البيان » المسمّاة بكلمات اللّه الّتي لا تبيد و لا تنفد لقوله تعالى « قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربّى لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربّى ، و لو جئنا بمثله مددا »

[ 312 ]

و لقوله تعالى : « و لو أنّ ما في الأرض من شجرة أقلام ، و البحر يمدّه من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات اللَّه إنّ اللَّه عزيز حكيم » .

( 4 ) و في سلافة العصر في محاسن الشعراء بكل مصر ( ص 479 ) تأليف العلاّمة السيّد عليّ صدر الدين المدني صاحب رياض السالكين في شرح صحيفة سيّد الساجدين ، و شرح الفوائد الصمدية في النحو ، و الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة و غيرها تبلغ إلى ثمانية عشر مؤلفا في فنون متنوّعة : الأمير محمّد باقر بن محمّد الشهير بالداماد الحسنى إلى أن قال صاحب السلافة في ترجمته قدّس سرّه :

و من غريب رسائله رسالته الخليعة و هي ممّا يدلّ على تألّه سريرته ، و تقدّس سيرته ، و صورتها :

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم الحمد كلّه للّه رب العالمين ، و صلاته على سيّدنا محمّد و آله الطاهرين ، كنت ذات يوم من أيّام شهرنا هذا و قد كان يوم الجمعة سادس عشر شهر رسول اللّه شعبان المكرّم لعام ثلاث و عشرين و ألف من هجرته المقدّسة في بعض خلواتى أذكر ربّى في تضاعيف أذكارى و أورادى باسمه الغني فاكرّر يا غنى يا مغنى مشددها بذلك عن كلّ شي‏ء إلاّ عن التوغل في حريم سرّه و الإنمحاء في شعاع نوره و كأنّ خاطفة قدسيّة قد ابتدرت إلىّ ، فاجتذبتني من الوكر الجثمانى ففككت حلق شبكة الحسّ ، و حللت عقد حبالة الطبيعة و أخذت أطير بجناح الروح في وسط ملكوت الحقيقة ، و كأنّى قد خلعت بدنى و رفضت عدنى ، و مقوت خلدى ، و نضوت جسدى ، و طويت اقليم الزمان ، و صرت إلى عالم الدهر فإذا أنا بمصر الوجود بجماجم امم النظام الجملى من الابداعيات و التكوينيّات و الإلهيات و الطبيعيّات و القدسيات و الهيولانيات و الدهريات و الزمنيات و أقوام الكفر و الإيمان ، و أرهاط الجاهلية و الإسلام من الدارجين و الدارجات و الغابرين و الغابرات ، و السالفين و السالفات ، و العاقبين و العاقبات ، في الازال و الاباد ، و بالجملة آحاد مجامع الإمكان و دارات عوالم الإمكان بقضّها و قضيضها و صغيرها و كبيرها باثباتها و بابدائها حالياتها و آتياتها و إذا الجميع زفة زفة و زمرة

[ 313 ]

زمرة يجذبهم قاطبة معاملون ، وجوه ماهياتهم شطر بابه سبحانه شاخصون ، بابصار نيّاتهم تلقاء جنابه جلّ سلطانه من حيث لا يعلمون ، و هم جميعا بألسنة فقر ذواتهم الفاخرة ، و ألسن فاقة هو ياتهم الهالكة في صحيح الضراعة و صراخ الإبتهال ذاكروه و داعوه و مستصرخوه و منادوه بياغني يا مغني من حيث هم لا يشعرون فطفقت في تلك الضجّة العقليّة ، و الصرخة الغيبيّة أخرّ مغشيا عليّ ، و كدت من شدّة الوله و الدهش أنسي جوهر ذات العاقلة و أغيب عن بصر نفسي المجردة و اهاجر ساهرة أرض الكون و أخرج من صقع قطر الوجود رأسا إذ قد ودعتني تلك الخلسة الخالسة حينا حيونا إليها ، و خطفتني تلك الخطفة الخاطفة تائقا لهوفا عليها فرجعت إلى أرض التيار ، و كورة البوار ، و بقعة الزور ، و قرية الغرور تارة اخرى .

هذا منتهى الرسالة المذكورة .

( 5 ) قال صدر المتألّهين قدّس سرّه في آخر الثاني من العاشر من رابع الأسفار : إنّي أعلم من المشتغلين بهذه الصناعة من كان رسوخه بحيث يعلم من أحوال الوجود امورا يقصر الأفهام الذكيّة عن إدراكها ، و لم يوجد مثلها في زبر المتقدّمين و المتأخرين من الحكماء ، و العلماء ، للّه الحمد و له الشكر .

و لا يخفى على العارف بأساليب الكلمات أنه أراد بقوله هذا نفسه الشريفة و قال المتألّه السبزوارى رضوان اللّه عليه : و الحقّ معه ، و تحقيقاته الأنيقة أعدل شاهد على ما أفاده ، شكر اللّه مساعيه .

( 6 ) قال الشيخ الرئيس في آخر السابعة من ثامن طبيعيات الشفاء ( ص 417 ج 1 ) : حكي لي رجل بيابان دهستان يخدّر نفسه و نفخه الحيات و الأفاعى الّتي بها و هي قتّالة جدّا و الحيّات لا تنكأ فيه باللسع و لا تلسعه اختيارا ما لم يقسرها عليه ، فإن لسعته حية ماتت ، و حكي أنّ تنينا عظيما لسعته فماتت و عرض له حمّى يوم ، ثمّ إنّى لما حصلت بببيابان دهستان طلبته فلم يعش و خلف ولدا أعظم خاصيّة في هذا الباب منه ، فرأيت منه عجائب نسيت أكثرها و كان من جملتها أنّ الأفاعى تصد عن عزّه و يحتد عن نفسه و يخدّر في يده ، انتهى .

[ 314 ]

و هذه الأحوال الّتي سمعتها نزر يسير ممّا رأينا في الكتب المعتبرة من العجائب الصادرة عن النفس الناطقة الإنسانيّة ، على أنّ هؤلاء العظام ممّن لم يبلغوا رتبة النّبوة و الإمامة بل جلّهم لو لا الكلّ اقتبسوا من مشكاة نبىّ أو وصىّ نبيّ فما ظنّك بالفائز إلى الخلافة الالهيّة من الأنبياء و الأوصياء صلوات اللّه عليهم أجمعين .

فلنأت بعدّة امور من مواعظ اللّه سبحانه و مواعظ رسوله و أهل بيته ممّا لا محيص عنها للسائر إلى اللّه تعالى فنقول :

1 القرآن الكريم صورة الإنسان الكامل الكتبيّة ، أعنى أنّه صورة الحقيقة المحمّدية صلى اللّه عليه و آله إنّ هذا القرآن يهدى للّتي هي أقوم ، لقد كان لكم في رسول اللّه اسوة حسنة ، فبقدر ما قربت منه قربت من الإنسان الكامل ، فانظر إلى حظك منه فإنّ حقائق آياته درجات ذاتك و مدارج عروجك ، و من وصيّة إمام الثقلين أبي الحسنين عليّ عليه السّلام لابنه محمّد ابن الحنفيّة رضى اللّه عنه كما رواه صدوق الطائفة المحقة في الفقيه ( الوافي ص 64 ج 14 ) :

و عليك بتلاوة ( بقرائة خ ) القرآن و العمل به و لزوم فرائضه و شرائعه و حلاله و حرامه و أمره و نهيه و التهجّد به و تلاوته في ليلك و نهارك فإنّه عهد من اللّه تعالى إلى خلقه فهو واجب على كلّ مسلم أن ينظر في كلّ يوم في عهده و لو خمسين آية ، و اعلم أنّ درجات الجنّة على عدد آيات القرآن فإذا كان يوم القيامة يقال لقارى‏ء القرآن : اقرء و ارق ، فلا يكون في الجنّة بعد النبيّين و الصديقين أرفع درجة منه .

و انظر بنور العقل و العلم إلى ما أفاضه ولىّ اللّه الأعظم في كلامه هذا فإنّ محاسنه و لطائفه فوق أن يحوم حولها العبارة .

و قد روى علم الهدى الشريف المرتضى في الغرر و الدرر عن نافع عن أبي إسحاق الهجريّ عن أبي الأحوص عن عبد اللّه بن مسعود عن سيّد البشر صلى اللّه عليه و آله انه قال : إنّ هذا القرآن مأدبة اللّه ، فتعلّموا مأدبته ما استطعتم ، و إنّ أصفر البيوت

[ 315 ]

لجوف أصفر من كتاب اللّه تعالى ( المجلس 26 منه ، ص 354 ج 1 من طبع مصر ) قلت : تعبير القرآن بمأدبة اللّه تدرك حلاوته و لا توصف قال الشريف علم الهدى :

المأدبة في كلام العرب هي الطعام يصنعه الرّجل و يدعو النّاس إليه فشبّه النّبي صلى اللّه عليه و آله ما يكتسبه الإنسان من خير القرآن و نفعه و عائدته عليه إذا قرأه و حفظ بما يناله المدعوّ من طعام الداعى و انتفاعه به ، يقال : قد أدب الرّجل يأدب فهو آدب إذا دعا الناس إلى طعامه ، و يقال للمأدبة : المدعاة ، و ذكر الأحمر أنه يقال فيها أيضا مأدبة بفتح الدال ، و قد روى هذا الحديث بفتح الدال « مأدبة » و قال الأحمر : المراد بهذه اللفظة مع الفتح هو المراد بها مع الضم .

و قال غيره : المأدبة بفتح الدال مفعلة من الأدب ، معناه أنّ اللّه تعالى أنزل القرآن أدبا للخلق و تقويما لهم و إنما دخلت الهاء في مأدبة و مأدبة و القرآن مذكر لمعنى المبالغة كما قالوا هذا شراب مطيبة للنفس . و كما قال عنترة : و الكفر مخبثة لنفس المنعم ، انتهى ما أردنا من نقل كلامه قدّس سرّه .

فيا إخوان الصفاء هلمّوا إلى مأدبة إلهية فيها ما تشتهى الأنفس و تلذّ الأعين و إلى مأدبة ليس وراءها أدب و مؤدّب و ماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال .

و في فلاح السائل للسيّد الأجل ابن طاووس قدّس سرّه : فقد روى أنّ مولانا الصّادق عليه السّلام كان يتلو القرآن في صلاة فغشى عليه فلمّا أفاق سئل ما الّذي أوجب ما انتهت حالك إليه ؟ فقال عليه السّلام ما معناه : ما زلت اكرّر آيات القرآن حتّى بلغت إلى حال كأنّنى سمعتها مشافهة ممّن أنزلها على المكاشفة و العيان ، فلم تقم القوّة البشرية بمكاشفة الجلالة الالهيّة .

و اعلم أنّ القرآن محيط لا نفاد له كيف لا و هو مجلى الفيض الإلهي و قد تقدّم في الرسالة عن الامامين الأوّل و السادس عليهما السّلام أنّ اللّه عزّ و جلّ تجلّى لخلقه في كلامه و لكن لا يبصرون . قال الطريحى رحمة اللّه عليه في مادّة جمع من مجمع البحرين : و في الحديث اعطيت جوامع الكلم ، يريد به القرآن الكريم لأنّ اللّه جمع بألفاظه اليسيرة المعاني الكثيرة حتّى روى عنه أنّه قال : ما من حرف

[ 316 ]

من حروف القرآن إلاّ و له سبعون ألف معنى ، انتهى .

و قلت : إذا كان شكل واحد هندسي يعرف عند أهله بالشكل القطّاع يفيد « 497664 » أحكام هندسيّة كما برهن في محلّه فلا بعد أن يكون لكلّ حرف من القرآن سبعون ألف معنى . و يطلب الكلام في القطّاع في رسالتنا المعمولة في معرفة الوقت و القبلة .

يا عباد الرّحمن هذه آيات آخر الفرقان من القرآن الفرقان لا تلكها بين فكّيك بل تدبّر فيها حقّ التدبّر فانّ كلّ آية منها دستور برأسه من عمل به فاز و نجا .

« و عباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هوناً و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً و الّذين يبيتون لربّهم سجّداً و قياماً و الّذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنَّ عذابها كان غراماً إنّها ساءت مستقرًّا و مقاماً و الّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواماً و الّذين لا يدعون مع اللَّه إلهاً آخر و لا يقتلون النفس الّتي حرّم اللَّه إلاّ بالحقّ و لا يزنون و من يفعل ذلك يلق أثاماً يضاعف له العذاب يوم القيمة و يخلد فيه مهاناً إلاّ من تاب و آمن و عمل عملاً صالحاً فاُولئك يبدّل اللَّه سيئاتهم حسنات و كان اللَّه غفوراً رحيماً و من تاب و عمل صالحاً فإنّه يتوب إلى اللَّه متاباً و الّذين لا يشهدون الزور و إذا مرّوا باللّغو مرُّوا كراماً و الّذين إذا ذكّروا بآيات ربّهم لم يخرّوا عليها صمّا و عمياناً و الّذين يقولون ربّنا هب لنا من أزواجنا و ذرّياتنا قرّة اعين و اجعلنا للمتّقين إماماً اُولئك يجزون الغرفة بما صبروا و يلقّون فيها تحيّة و سلاماً خالدين فيها حسنت مستقرًّا و مقاماً قل ما يعبؤا بكم ربّى لو لا دعاؤكم فقد كذَّبتم فسوف يكون لزاماً » .

2 روى الديلمي رضوان اللّه عليه في الموضعين من كتابه إرشاد القلوب أحدهما في أواخر الباب الثالث عشر ، و ثانيهما في أواخر الباب العشرين عن النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : قال اللّه تعالى : من أحدث و لم يتوضّأ فقد جفاني ، و من أحدث و توضّأ و لم يصلّ ركعتين فقد جفاني ، و من صلّى ركعتين و لم يدعنى فقد جفاني و من أحدث و توضّأ و صلّى ركعتين و دعانى فلم أجبه فيما يسأل من أمر دينه و دنياه

[ 317 ]

فقد جفوته و لست بربّ جاف .

و اعلم يا حبيبى أنّ الوضوء نور و الدوام على الطهارة سبب لارتقائك إلى عالم القدس . و هذا الدّستور العظيم النفع مجرّب عند أهله جدّا فعليك بالمواظبة عليها ثمّ عليك بعلوّ الهمّة و كبر النفس فاذا صليت الركعتين فلا تسأله تبارك و تعالى إلاّ ما لا يبيد و لا ينفد و لا يفنى فلا تطلب منه إلاّ إيّاه و ليكن لسان حالك هكذا :

ما از تو نداريم بغير از تو تمنّا
حلوا بكسى ده كه محبّت نچشيده است

فإنّ من ذاق حلاوة محبّته تعالى يجد دونها تفها ، على أنّ ما يطلب ممّا سواه كلّ واحد منها مظهر اسم من أسمائه فاذا وجد الأصل كانت فروعه حاضرة عنده ، و قلت في أبيات :

چرا زاهد اندر هواى بهشت است
چرا بيخبر از بهشت آفرين است ؟

و قال العارف المتألّه صدر الدين الدزفولى قدّس سرّه :

خدايا زاهد از تو حور مى‏خواهد قصورش بين

بجنّت مى‏گريزد از درت يا رب شعورش بين

فاذا صلّيت فقل ساجدا : اللهمّ ارزقنى حلاوة ذكرك و لقاءك ، و الحضور عندك و نحوها .

3 قال عزّ من قائل : و كلوا و اشربوا و لا تسرفوا إنه لا يحبّ المسرفين ( الأعراف : 32 ) و اعلم حبيبى أنّ فضول الطعام يميت القلب بلا كلام ، و يفضى إلى جموح النفس و طغيانها ، و الجوع من أجلّ خصال المؤمن و نعم ما قال يحيى بن معاذ : لو تشفعت بملائكة سبع سماوات ، و بمائة ألف و أربعة و عشرين ألف نبىّ و بكلّ كتاب و حكمة و ولىّ على أن تصالحك النفس في ترك الدنيا و الدخول تحت الطاعة لم تجبك ، و لو تشفعت إليها بالجوع لأجابتك و انقادت لك ، نقل قوله هذا أبو طالب المكىّ في علم القلوب ص 215 من طبع مصر .

في الكافي عن الإمام الصّادق عليه السّلام : إنّ البطن ليطغى من أكله ، أقرب ما يكون العبد من ربّه عزّ و جلّ إذا خفّ بطنه ، و أبغض ما يكون العبد إلى اللّه عزّ و جلّ إذا امتلأ بطنه .

[ 318 ]

4 إيّاك و فضول الكلام فقد روى شيخ الطائفة الناجية في أماليه بإسناد عن عبد اللّه بن دينار عن أبي عمر قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه فإنّ كثرة الكلام بغير ذكر اللّه قسو القلب إنّ أبعد النّاس من اللّه القلب القاسي ، و قد جعله الشّيخ قدّس سرّه الخبر الأوّل من كتابه الأمالي فلا بدّ في عمله هذا من عناية خاصّة في ذلك ، و قد رواه الكليني رضوان اللّه عليه في باب الصمت و حفظ اللسان من اصول الكافي ( ص 94 ج 2 من المعرب ) باسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : كان المسيح عليه السّلام يقول : لا تكثروا إلى آخر الخبر .

5 و عليك بالمحاسبة ، ففي باب محاسبة العمل من اصول الكافي ( ص 328 ج 2 من المعرب ) بإسناده عن أبي الحسن الماضي صلوات اللّه عليه يعني الإمام الكاظم عليه السّلام قال : ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم ، فإن عمل حسنا استزاد اللّه ، و إن عمل سيّئا استغفر اللّه منه و تاب إليه .

و في الفصل الخامس من الباب الثاني من مكارم الأخلاق في وصيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأبي ذر الغفاري رحمة اللّه عليه : يا أباذر لا يكون الرّجل من المتّقين حتّى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه ، فيعلم من أين مطعمه و من أين مشربه و من أين ملبسه أمن حلّ ذلك أم من حرام .

6 و المراقبة للّه تعالى ، و هي العمدة في الباب ، و هي مفتاح كلّ سعادة و مجلبة كلّ خير و هى خروج العبد عن حوله و قوّته مراقبا لمواهب الحق و متعرّضا لنفحات ألطافه و معرضا عمّا سواه ، و مستغرقا في بحر هواه و مشتاقا إلى لقائه ، و إليه قلبه يحنّ ولديه روحه يئنّ و به يستعين عليه و منه يستعين إليه حتّى يفتح اللّه له باب رحمة لا ممسك لها و يغلق عليه باب عذاب لا مفتّح له بنور ساطع من رحمة اللّه تعالى على النفس به يزول عنها في لحظة ما لا يزول بثلاثين سنة بالمجاهدات و الرياضات ، يبدّل اللّه سيّئاتهم حسنات ، للّذين أحسنوا الحسنى و زيادة و الزيادة حسنات ألطاف الحق ، و ذلك فضل اللّه يؤتيه ما يشاء .

گدائى گردد از يك جذبه شاهى
به يك لحظه دهد كوهى بكاهى

[ 319 ]

فعليك بالمراقبة ، و عليك بالمراقبة ، و عليك بالمراقبة ، ففي الباب التاسع و الثلاثين من إرشاد القلوب للديلمي رضوان اللّه عليه : قال اللّه تعالى : « و كان اللَّه على كلِّ شي‏ء رقيباً » ، و قال النّبي صلى اللّه عليه و آله لبعض أصحابه : اعبد اللّه كأنك تراه فإن لم تكن تراه فهو يراك ، و هذا إشارة إلى المراقبة لأنّ المراقبة علم العبد باطلاع الرب عليه في كلّ حالاته و ملاحظة الإنسان لهذا الحال هو المراقبة ، و أعظم مصالح العبد استحضاره مع عدد أنفاسه أنّ اللّه تعالى عليه رقيب و منه قريب ، يعلم أفعاله و يرى حركاته و يسمع أقواله و يطلع على أسراره و أنه ينقلب في قبضته و ناصيته و قلبه بيده و أنّه لا طاقة له على الستر عنه و لا على الخروج من سلطانه .

قال لقمان لابنه : يا بنيّ إذا أردت أن تعصى اللّه فاطلب مكانا لا يراك فيه إشارة منه لأنّك لا تجد مكانا لا يراك فيه فلا تعصه و قال تعالى : و هو معكم أينما كنتم .

و كان بعض العلماء يرفع شابّا على تلاميذه كلّهم فلاموه في ذلك فأعطى كلّ واحد منهم طيرا و قال : اذبحه في مكان لا يراك فيه أحد فجاءوا كلّهم بطيورهم و قد ذبحوها فجاء الشاب بطيره و هو غير مذبوح ، فقال له : لم لم تذبحه ؟ فقال :

لقولك لا تذبحه إلاّ في موضع لا يراك فيه أحد ، و لا يكون مكان إلاّ يرانى الواحد الأحد الفرد الصمد ، فقال له : أحسنت ثمّ قال لهم : لهذا رفعته عليكم و ميزته منكم .

و من علامات المراقبة إيثار ما آثر اللّه و تعظيم ما أعظم اللّه و تصغير ما صغّر اللّه فالرجاء يحثّك على الطاعات و الخوف يبعد عن المعاصى ، و المراقبة تؤدّى إلى طريق الحياء و تحمل على ملازمة الحقائق و المحاسبة على الدقائق ، و أفضل الطاعات مراقبة الحقّ سبحانه و تعالى على دوام الأوقات .

و من سعادة المرء أن يلزم نفسه المحاسبة و المراقبة و سياسية نفسه باطّلاع اللّه و مشاهدته لها ، و أنّها لا تغيب عن نظره و لا تخرج عن علمه ، انتهى كلامه قدّس سرّه .

قلت : و من آداب المراقب أن يراقب أعمال الأوقات من الشهور و الأيّام بل الساعات بل يواظب أن لا يهمل الانات و يكون على الدوام متعرضا لنفحات انسه

[ 320 ]

و نسائم قدسه كما قال صلّى اللّه عليه و آله : إنّ لربّكم في أيّام دهركم نفحات ألا فتعرّضوا لها و لا تعرضوا عنها ، و للعلم الاية المرزا جواد آقا الملكى التبريزى قدّس سرّه الشريف كتاب في مراقبات أعمال السنة و هو من أحسن ما صنع في هذا الأمر فعليك بالكتاب .

و في خاتمة إرشاد القلوب فيما سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ربّه ليلة المعراج : يا أحمد هل تدرى أىّ عيش أهنى و أىّ حياة أبقى ؟ قال : اللهمّ لا ، قال : أمّا العيش الهنىّ فهو الّذي لا يفتر صاحبه عن ذكري و لا ينسى نعمتي و لا يجهل حقّي يطلب رضاى ليله و نهاره .

و أمّا الحياة الباقية فهي الّتي يعمل لنفسه حتّى تهون عليه الدّنيا ، و تصغر في عينيه ، و تعظم الاخرة عنده ، و يؤثر هواى على هواه ، و يبتغى مرضاتي ، و يعظم حقّ عظمتي ، و يذكر علمي به و يراقبني بالليل و النهار كلّ سيئة و معصية ، و ينفى قلبه عن كلّ ما أكره ، و يبغض الشيطان و وساوسه ، و لا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا و سبيلا ، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبّا حتّى أجعل قلبه لي و فراغه و اشتغاله و همّه و حديثه من النعمة الّتي أنعمت بها على أهل محبّتي من خلقي ،

و أفتح عين قلبه و سمعه حتّى يسمع بقلبه و ينظر بقلبه إلى جلالي و عظمتي و أضيق عليه الدّنيا ، و أبغض إليه ما فيها من اللّذات ، و أحذره من الدّنيا و ما فيها كما يحذر الراعي غنمه من مراتع الهلكة ، فإذا كان هكذا يفرّ من النّاس فرارا و ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء و من دار الشيطان إلى دار الرحمن ، يا أحمد لازيّنه بالهيبة و العظمة فهذا هو العيش الهنيّ و الحياة الباقية ، و هذا مقام الراضين .

فمن عمل برضاى الزمه ثلاث خصال : أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل ، و ذكرا لا يخالطه النسيان ، و محبّة لا يؤثر على محبّتي محبّة المخلوقين ، فإذا أحبّني أحببته و أفتح عين قلبه إلى جلالي فلا أخفى عليه خاصّة خلقي ، فاناجيه في ظلم اللّيل و نور النهار حتّى ينقطع حديثه من المخلوقين و مجالستهم معهم ، و اسمعه كلامه و كلام ملائكتي ، و اعرّفه السرّ الّذي سترته عن خلقي و البسه الحياء حتّى

[ 321 ]

يستحيى منه الخلق كلّهم ، و يمشي على الأرض مغفورا له ، و اجعل قلبه واعيا و بصيرا و لا يخفى عليه شي‏ء من جنّة و لا نار ، و اعرّفه بما يمرّ على الناس في يوم القيامة من الهول و الشدّة و ما احاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهّال و العلماء و انوّر في قبره ، و انزل عليه منكرا و نكيرا حتّى يسألاه و لا يرى غمّ الموت و ظلمة القبر و اللحد و هول المطّلع حتّى أنصب له ميزانه و انشر له ديوانه ثمّ أضع كتابه في يمينه فيقرأه منشورا ثمّ لا أجعل بينى و بينه ترجمانا ، فهذه صفات المحبّين ، الحديث .

فتأمّل يا مريد الطريق إلى اللّه تعالى في قوله عزّ و جلّ لحبيبه خاتم النبيين من الجوائز الكريمة الّتي أعدّها للمراقبين و الراضين و المحبّين و من تلك المواهب الجزيلة و العطايا النفيسة العزيزة اليتيمة الثمينة فتح عين القلب و قد ذكرها لعظم شرفها و علوّ رتبتها مرّتين .

و نظير تلك المنح السنيّة ما وعد عباده في النوافل و الفرائض من القرب حيث قال تعالى : و ما يتقرّب إلىّ عبدى بشي‏ء أحبّ ممّا افترضت عليه ، و إنه ليتقرّب إلىّ بالنوافل حتّى احبّه فإذا أحببته كنت سمعه الّذي يسمع به و بصره الّذي يبصر به ، و لسانه الّذي ينطق به ، و يده الّذي يبطش بها ، إن دعاني أجبته ، و إن سألني أعطيته .

نقله العلاّمة الشّيخ البهائي في كتاب الأربعين ، و هو الحديث الخامس و الثلاثون منه ، بإسناده عن أبان بن تغلب عن الإمام جعفر بن محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام قال : لما أسرى بالنّبي صلى اللّه عليه و آله قال : يا ربّ ما حال المؤمن عندك ؟ قال : يا محمّد إلى قوله : و ما يتقرّب إلىّ عبدى الخ و قال قده : و هذا الحديث صحيح السند و هو من الأحاديث المشهورة بين الخاصّة و العامّة و قد رووه في صحاحهم بأدنى تغيير ، فراجع إليه .

و قد رواه ثقة الإسلام الكليني قدّس سرّه في باب من أذى المسلمين و احتقرهم من أبواب الإيمان و الكفر ( ص 263 ج 2 من المعرب ) بطريقين ، و روى فيه

[ 322 ]

حديثا ثالثا يقرب منهما معنى ، هذا قرب النوافل الّذي يدور في ألسنة القوم أى القرب الّذي يحصل للعبد من النوافل ، و أما قرب الفرائض فقال عزّ و جلّ ما يتقرّب إلىّ عبدى بشي‏ء أحبّ إلىّ ممّا افترضته عليه و ما زال يتقرّب إلىّ عبدى بالفرائض حتّى إذا ما احبّه و إذا أحببته كان سمعي الّذي أسمع به ، و بصري الّذي أبصر به ، و يدى الّذي أبطش بها .

فانظر إلى تفاوة القربين ففي الأوّل كان اللّه سمع العبد و بصره و لسانه و يده ، و في الثاني كان العبد سمع اللّه تعالى و بصره و يده ، فالواجبات أكثر ثوابا و أعلى مرتبة من المندوبات بتلك النسبة بين القربين .

قال العلاّمة المحقّق نصير الدين محمّد الطوسي قدّس اللّه سرّه : العارف إذا انقطع عن نفسه و اتّصل بالحقّ رأى كلّ قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات ، و كلّ علم مستغرقا في علمه الذي لا يعزب عنه شي‏ء من الموجودات و كلّ إرادة مستغرقة في إرادته الّتي لا يتأبّى عنها شي‏ء من الممكنات ، بل كلّ وجود و كلّ كمال وجود فهو صادر عنه ، فائض من لدنه فصار الحق حينئذ بصره الّذي به يبصر ، و سمعه الّذي به يسمع ، و قدرته الّتي بها يفعل ، و علمه الّذي به يعلم ، و وجوده الّذي به يوجد فصار العارف حينئذ متخلقا بأخلاق اللّه بالحقيقة .

نقلنا كلامه من الرابعة من الرابعة من قرّة العيون للفيض رضوان اللّه عليه و في الثالثة من السابعة من ذلك الكتاب :

قال بعض العارفين إذا تجلّى اللّه سبحانه بذاته لأحد يرى كلّ الذوات و الصفات و الأفعال متلاشية في أشعّة ذاته و صفاته و أفعاله يجد نفسه مع جميع المخلوقات كأنّها مدبّرة لها و هي أعضاؤها لا يلمّ بواحد منها شي‏ء إلاّ و يراه ملما به ، و يرى ذاته الذات الواحدة و صفته صفتها و فعله فعلها لاستهلاكه بالكليّة في عين التوحيد ، و لمّا انجذب بصيرة الروح إلى مشاهدة جمال الذات استتر نور العقل الفارق بين الأشياء في غلبة نور الذات القديمة و ارتفع التميز بين القدم و الحدوث لزهوق الباطل عند مجي‏ء الحقّ ، و يسمّى هذه الحالة جمعا ، و لصاحب

[ 323 ]

الجمع أن يضيف إلى نفسه كلّ أثر ظهر فى الوجود و كلّ صفة و فعل و اسم لانحصار الكلّ عنده في ذات واحدة فتارة يحكى عن هذا و تارة عن حال ذاك و لا نعنى بقولنا قال فلان بلسان الجمع إلاّ هذا .

عشق بگرفت مرا از من و بنشست بجاى
سيّآتم ستدند و حسناتم دادند

ثمّ قال الفيض بعد نقل كلام هذا العارف : و لعلّ هذا هو السرّ في صدور بعض الكلمات الغريبة من مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة البيان و غيرها كقوله عليه السّلام :

أنا آدم الأوّل ، أنا نوح الأوّل ، أنا آية الجبار ، أنا حقيقة الأسرار ، أنا مورق الأشجار ، أنا مونع الثمار ، أنا مجري الأنهار إلى أن قال عليه السّلام : أنا ذلك النور الّذي اقتبس موسى منه الهدى ، أنا صاحب الصور ، أنا مخرج من في القبور أنا صاحب يوم النشور ، أنا صاحب نوح و منجيه ، أنا صاحب أيوب المبتلى و شافيه أنا أقمت السماوات بأمر ربّى إلى آخر ما قال من أمثال ذلك صلوات اللّه و سلامه عليه .

و قد أجاد في المقام العالم العارف الشهير داود بن محمود القيصري في الفصل الثامن من مقدّماته على شرح فصوص الحكم في أنّ العالم هو صورة الحقيقة الإنسانية بقوله : إنّ الإسم اللّه مشتمل على جميع الأسماء و هو متجلّ فيها بحسب مراتبه فلهذا الإسم الإلهى بالنسبة إلى غيره من الأسماء اعتباران : اعتبار ظهور ذاته في كلّ واحد من الأسماء ، و اعتبار اشتماله عليها كلّها من حيث المرتبة الإلهية .

فبالأوّل يكون مظاهرها كلّها مظهر هذا الإسم الأعظم لأنّ الظاهر و المظهر في الوجود شي‏ء واحد لا كثرة فيه و لا تعدّد و في العقل يمتاز كلّ منهما عن الاخر كما يقول أهل النظر بأنّ الوجود عين المهية في الخارج و غيره في العقل فيكون اشتماله عليها اشتمال الحقيقة الواحدة على أفرادها المتنوّعة .

و بالثاني يكون مشتملا عليها من حيث المرتبة الالهيّة اشتمال الكلّ المجموعي على الأجزاء الّتي هي عينه بالاعتبار الأوّل .

[ 324 ]

و إذا علمت هذا علمت أنّ حقائق العالم في العلم و العين كلّها مظاهر للحقيقة الإنسانية الّتي هي مظهر للإسم اللّه فأرواحها أيضا كلّها جزئيات الروح الأعظم الإنساني سواء كان روحا فلكيّا أو عنصريا أو حيوانيا و صورها صور تلك الحقيقة و لوازمها لوازمها لذلك يسمى العالم المفصّل بالإنسان الكبير عند أهل اللّه لظهور الحقيقة الانسانيّة و لوازمها فيه ، و لهذا الاشتمال و ظهور الأسرار الإلهيّة كلّها فيها دون غيرها استحقّت الخلافة من بين الحقائق كلّها و للّه درّ القائل : سبحان من أظهر ناسوته إلى آخر البيتين المذكورين آنفا .

فأوّل ظهورها في صورة العقل الأوّل الّذي هو صورة إجمالية للمرتبة العمائيّة المشار إليها في الحديث الصحيح عند سؤال الأعرابي أين كان ربّنا قبل أن يخلق الخلق ؟ قال عليه السّلام : كان في عماء ما فوقه هواء و لا تحته هواء ، لذلك قال عليه السّلام :

أوّل ما خلق اللّه نوري ، و أراد العقل كما أيّده بقوله : أوّل ما خلق اللّه العقل ثمّ في صورة باقي العقول و النفوس الناطقة الفلكية و غيرها ، و في صورة الطبيعة و الهيوا الكلّيّة و الصورة الجسميّة البسيطة و المركّبة بأجمعها .

و يؤيّد ما ذكرنا قول أمير المؤمنين وليّ اللّه في الأرضين قطب الموحّدين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في خطبة كان يخطبها للنّاس : أنا نقطة باء بسم اللّه ، أنا جنب اللّه الّذي فرطتم فيه ، و أنا القلم ، و أنا اللّوح المحفوظ ، و أنا العرش ، و أنا الكرسي ، و أنا السماوات السّبع و الأرضون ، إلى أن صحافي أثناء الخطبة و ارتفع عنه حكم تجلّي الوحدة و رجع إلى عالم البشريّة ، و تجلّى له الحقّ بحكم الكثرة فشرع معتذرا فأقرّ بعبوديّته و ضعفه و انقهاره تحت أحكام الأسماء الإلهيّة .

و لذلك قيل : الانسان الكامل لا بدّ أن يسرى في جميع الموجودات كسريان الحق فيها ، و ذلك في السفر الثالث الّذي من الحق إلى الخلق بالحق ، و عند هذا السفر يتمّ كماله و به يحصل له حق اليقين .

و من ههنا يتبين أنّ الاخريّة هي عين الأوّليّة ، و يظهر سرّ هو الأوّل و الاخر و الظاهر و الباطن و هو بكلّ شي‏ء عليم .

[ 325 ]

قال الشّيخ رضى اللّه عنه في فتوحاته في بيان المقام القطبى : إنّ الكامل الّذي أراد اللّه أن يكون قطب العالم و خليفة اللّه فيه إذا وصل إلى العناصر مثلا متنزلا في السفر الثالث ينبغي أن يشاهد جميع ما يريد أن يدخل في الوجود من الأفراد الإنسانيّة إلى يوم القيامة و بذلك الشهود أيضا لا يستحق المقام حتّى يعلم مراتبهم أيضا فسبحان من دبّر كلّ شي‏ء بحكمته ، و أتقن كلّ ما صنع برحمته ، انتهى كلام القيصري .

7 الأدب مع اللّه تعالى في كلّ حال ، و قد كان بعض مشايخى و هو العالم المتنزّه المتألّه و الحكيم العارف الموّحد البارع الاية السيّد محمّد حسن القاضى الطباطبائى التبريزى الشهير بالإلهى أعلى اللّه تعالى مقاماته و رفع درجاته و جزاه عنّى خير جزاء المعلّمين كثيرا ما يوصينى فيما يوصى بالمراقبة للّه تعالى ، و الأدب معه ، و محاسبة النفس لا سيّما بالأولى منها ، و لا أنسى نفحات أنفاسه الشريفة و بركات فيوضاته المنيفة .

قال عيسى روح اللّه و كلمته عليه السّلام : لا تقولوا العلم في السماء من يصعد فيأتي به ، و لا في تخوم الأرض من ينزل فيأتي به ، العلم مجهول في قلوبكم تأدّبوا بين يدى اللّه بآداب الروحانيين ، و تخلّقوا بأخلاق الصديقين ، يظهر من قلوبكم حتّى يعطيكم و يغمركم .

قال الإمام الجواد عليه السّلام كما في الباب 49 من إرشاد القلوب للديلمي في الأدب مع اللّه تعالى : ما اجتمع رجلان إلاّ كان أفضلهما عند اللّه آدبهما فقيل : يا ابن رسول اللّه قد عرفنا فضله عند الناس فما فضله عند اللّه ؟ فقال بقراءة القرآن كما انزل ، و يروى حديثنا كما قلنا ، و يدعو اللّه مغرما .

و في ذلك الباب : قد روى أنّ اللّه تعالى يقول فى بعض كتبه : عبدى أمن الجميل أن تناجينى و تلتفت يمينا و شمالا و يكلّمك عبد مثلك تلتفت إليه و تدعنى ؟

و ترى من أدبك إذا كنت تحدث أخالك لا تلتفت إلى غيره فتعطيه من الأدب ما لم تعطنى فبئس العبد عبد يكون كذلك .

[ 326 ]

و فيه أيضا : روى أنّ النّبي صلى اللّه عليه و آله خرج إلى غنم له و راعيها عريان يفلى ثيابه فلمّا رآه مقبلا لبسها ، فقال النّبي صلى اللّه عليه و آله : امض فلا حاجة لنا في رعايتك ، فقال إنا أهل بيت لا نستخدم من لا يتأدّب مع اللّه و لا يستحيى منه في خلوته .

و الأدب مع اللّه بالإقتداء بآدابه و آداب نبيّه صلى اللّه عليه و آله و أهل بيته عليهم السّلام و هو العمل بطاعته و الحمد للّه على السرّاء و الضّراء و الصبر على البلاء و لهذا قال أيوب ربّ إنّي مسّنى الضرّ و أنت أرحم الراحمين ، فقد تأدّب هنا من وجهين أحدهما أنه لم يقل انك أمسستنى بالضرّ ، و الاخر لم يقل ارحمني بل عرض تعريضا فقال : و أنت أرحم الراحمين و انما فعل ذلك حفظا لمرتبة الصبر .

و كذا قال إبراهيم عليه السّلام : و إذا مرضت فهو يشفين ، و لم يقل إذا مرضتنى حفظا للأدب .

و قال أيوب عليه السّلام في موضع آخر : إنّي مسّنى الشيطان بنصب و عذاب ، أشار بذلك إلى الشيطان لأنّه كان يغري النّاس فيؤذونه و كل ذلك تأدّب منهم مع اللّه تعالى في مخاطبتهم .

قلت : و تأدّب آدم و زوجه عليهما السّلام بقولهما : ربّنا ظلمنا أنفسنا و إن لم تغفر لنا و ترحمنا لنكوننّ من الخاسرين ، و ترك ابليس الأدب معه تعالى بقوله : فبما أغويتنى لأقعدنّ لهم صراطك المستقيم .

8 و العزلة ، قال الإمام الصّادق عليه السّلام : صاحب العزلة متحصّن بحصن اللّه تعالى و متحرّس بحراسته ، فيا طوبي لمن تفرّد به سرا و علانيّة ، و في العزلة صيانة الجوارح و فراغ القلب و سلامة العيش و كسر سلاح الشيطان و المجانبة من كلّ سوء و راحة ، و ما من نبىّ و لا وصىّ إلاّ و اختار العزلة في زمانه إما في ابتدائه و إما في انتهائه نقلناه من مصباح الشريعة .

و في كشكول العلاّمة البهائي ( ص 155 من طبع نجم الدوله ) عن سفيان الثوري قال : سمعت الصّادق جعفر بن محمّد يقول : عزّت السلامة حتّى لقد خفي مطلبها فإن تكن في شي‏ء فيوشك أن تكون في الخمول ، فإن لم توجد في الخمول

[ 327 ]

فيوشك أن تكون في التخلّي و ليس كالخمول ، و إن لم تكن في التخلّي فيوشك أن تكون في الصمت و ليس كالتخلّي ، و إن لم توجد في الصمت فيوشك أن يكون في كلام السلف الصالح ، و السعيد من وجد في نفسه خلوة .

و تأمّل في قوله تعالى : و اذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّاً فاتّخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثّل لها بشراً سويّاً ( مريم 18 ) ، و العزلة هي الخروج عن مخالطة الخلق بالإنزواء و الإنقطاع و أصلها عزل الحواس بالخلوة عن التصرف في المحسوسات فإنّ كلّ آفة و فتنة و بلاء ابتلى الروح بها دخلت فيه بروازن الحواس فبالخلوة و عزل الحواس ينقطع مدد النفس عن الدنيا و الشيطان و إعانة الهوى و الشيطان .

9 و التهجّد ، قال اللّه تعالى : و من الليل فتهجّد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً و قل ربِّ أدخلنى مدخل صدق و أخرجنى مخرج صدق و اجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً ( الأسراء 81 ) ، و قال تعالى : إنّ المتقين في جنات و عيون آخذين ما آتاهم ربّهم إنّهم كانوا قبل ذلك محسنين كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون و بالأسحارهم يستغفرون ( الذاريات 18 ) ، و قال تعالى : يا ايّها المزمل قم الليل إلاّ قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً أو زد عليه و رتّل القرآن ترتيلاً إنّا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً إنّ ناشئة الليل هي أشدّ وطاءً و أقوم قيلاً إنَّ لك في النّهار سبحاً طويلاً و اذكر اسم ربّك و تبتّل إليه تبتيلاً ، و قال تعالى : و اذكر اسم ربّك بكرة و أصيلا و من الليل فاسجد له و سبّحه ليلاً طويلاً إنّ هؤلاء يحبّون العاجلة و يذرون وراءهم يوماً ثقيلاً ( الانسان 28 ) .

و روى الشّيخ الصدوق قدّس سرّه في باب معنى التوحيد و العدل من كتاب التوحيد ( ص 84 ) عن سلمان الفارسي رحمه اللّه تعالى انّه أتاه رجل فقال : يا أبا عبد اللّه إنّي لا أقوى على الصلاة بالليل ، فقال : لا تعص اللّه بالنهار ، و فيه أيضا : جاء رجل إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فقال : يا أمير المؤمنين إنّى قد حرمت الصلاة بالليل ، فقال له أمير المؤمنين عليه السّلام : أنت رجل قد قيّدتك ذنوبك .

[ 328 ]

و روى الكليني قده في باب الذنوب من كتاب الايمان و الكفر ( ص 290 ج 2 من المعرب ) بإسناده عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : إنّ الرجل يذنب الذنب فيحرم صلاة الليل و إنّ العمل السيئ أسرع في صاحبه من السكين في اللحم .

روى الشّيخ الصدوق رضوان اللّه عليه في الأمالي بإسناده عن المفضل قال :

سمعت مولاى الصّادق عليه السّلام يقول : كان فيما ناجى اللّه عزّ و جلّ به موسى بن عمران أن قال له : يا ابن عمران كذب من زعم أنه يحبّنى فاذا جنّه الليل نام عنّى أليس كلّ محبّ يحبّ خلوة حبيبه ؟ ها أنا ذايا ابن عمران مطّلع على أحبّائي إذا جنّهم الليل حوّلت أبصارهم من قلوبهم ، و مثّلت عقوبتى بين أعينهم يخاطبونى عن المشاهدة و يكلّموني عن الحضور ، يا ابن عمران هب لي من قلبك الخشوع و من بدنك الخضوع ، و من عينيك ( عينك خ ل ) الدّموع في ظلم الليل و ادعنى فإنك تجدني قريبا مجيبا .

10 و التفكّر ، قال تعالى : الّذين يذكرون اللَّه قياماً و قعوداً و على جنوبهم و يتفكّرون في خلق السموات و الأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار ( آل عمران : 192 ) ، و روى الكليني في الكافي ( ج 2 ص 45 من المعرب ) عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : أفضل العبادة إدمان التفكّر في اللّه و في قدرته ، و روى عن معمّر بن خلاّد قال : سمعت الرضا عليه السّلام يقول : ليس العبادة كثرة الصلاة و الصوم ، إنما العبادة التفكّر في أمر اللّه عزّ و جلّ ، و روى عن ربعى قال قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : قال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه : إنّ التفكّر يدعو إلى البرّ و العمل به .

و روى العلاّمة البهائى في الحديث الثاني من كتابه الأربعين باسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : من عرف اللّه و عظّمه منع فاه من الكلام ، و بطنه من الطعام ، و عنى نفسه بالصيام و القيام ، قالوا : بآبائنا و امّهاتنا يا رسول اللّه هؤلاء أولياء اللّه ؟ قال : إنّ أولياء اللّه سكتوا فكان سكوتهم فكرا و تكلّموا فكان كلامهم ذكرا ، و نظروا فكان نظرهم عبرة ، و نطقوا فكان نطقهم حكمة ، و مشوا فكان مشيهم بين الناس بركة ، لو لا الاجال الّتي قد كتبت عليهم لم

[ 329 ]

تستقرّ أرواحهم في أجسادهم خوفا من العذاب و شوقا إلى الثواب ، و رواه ثقة الإسلام الكلينى في الكافي بأدنى تفاوت ( الحديث 25 من باب المؤمن و علاماته و صفاته من كتاب الإيمان و الكفر : ص 186 ج 2 ) .

11 و ذكر اللّه تعالى في كل حال قلبا و لسانا قال تعالى : و اذكر ربّك في نفسك تضرّعاً و خيفةً و دون الجهر من القول بالغدوّ و الاصال و لا تكن من الغافلين إنَّ الّذين عند ربّك لا يستكبرون عن عبادته و يسبّحونه و له يسجدون ( آخر الأعراف ) .

و روى عن النبيّ صلى اللّه عليه و آله قال : ارتعوا في رياض الجنّة ، فقالوا : و ما رياض الجنّة ؟ فقال : الذكر غدوّا و رواحا فاذكروا ، و من كان يحبّ أن يعلم منزلته عند اللّه فلينظر كيف منزلة اللّه عنده فانّ اللّه تعالى ينزل العبد حيث أنزل اللّه العبد من نفسه ، ألا إنّ خير أعمالكم و أزكاها عند مليككم و أرفعها عند ربّكم في درجاتكم و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر اللّه سبحانه و تعالى أخبر عن نفسه فقال : أنا جليس من ذكرني ، و أيّ منزلة أرفع من منزلة جليس اللّه تعالى . ( الباب الثالث عشر من إرشاد القلوب للديلمي ) .

و في كتاب الدّعاء من الكافي : فيما ناجى اللّه تعالى به موسى عليه السّلام قال :

يا موسى لا تنسني على كلّ حال فإنّ نسياني يميت القلب ( ص 361 ج 2 ) .

و فيه أيضا قال اللّه عزّ و جلّ لعيسى عليه السّلام : يا عيسى اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي و اذكرني في ملإك [ ملئي خ ل ] اذكرك في ملإ خير من ملإ الادميّين يا عيسى ألن لي قلبك و أكثر ذكرى في الخلوات ، و اعلم أنّ سروري أن تبصبص إليّ و كن في ذلك حيّا و لا تكن ميّتا . ( ص 364 ج 2 ) .

و في الباب الأوّل من توحيد الصّدوق رحمة اللّه عليه : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ما قلت و لا قال القائلون قبلي مثل لا إله إلاّ اللّه .

و فيه أيضا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : خير العبادة قول لا إله إلاّ اللّه .

و فيه أيضا قال أبو عبد اللّه عليه السّلام : قول لا إله إلاّ اللّه ثمن الجنّة .

[ 330 ]

و فيه أيضا قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : يقول اللّه جلّ جلاله : لا إله إلاّ اللّه حصني فمن دخله أمن من عذابي .

و فيه أيضا عن زيد بن أرقم عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله ، و كذا بإسناده عن محمّد بن حمران ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام : من قال لا إله إلاّ اللّه مخلصا دخل الجنّة و إخلاصه أن يحجزه لا إله إلاّ اللّه عمّا حرّم اللّه عزّ و جلّ .

و الذكر هو الخروج عن ذكر ما سوى اللّه بالنسيان عن غيره ، و كلمة لا إله إلاّ اللّه ذكر معجون مركّب من النفى و الإثبات فبالنفى تزول الموادة الفاسدة الّتي يتولّد منها مرض القلب و قيود الروح ، و باثبات إلاّ اللّه تحصل صحّة القلب و سلامته عن الرذائل من الأخلاق .

12 و الرياضة في طريقى العلم و العمل على النهج الّذي قرّره الشريعة المحمّديّة صلى اللّه عليه و آله فحسب ، فدونها لا يوجب إلاّ بعدا و ماذا بعد الحقّ إلاّ الضلال لما قد دريت آنفا أنّ هذا القرآن يهدى للّتي هي أقوم ، و اعلم أنّ العلم و العمل بمنزلة جناحين للإنسان و لولاهما لما يقدر على الطيران إلى أوج الكمال و العروج إلى المعارج .

و النفس بالاعتبار الأوّل تسمّى نظرية و بالاعتبار الثانى عمليّة توضيحه أنّ لها باعتبار تأثّرها عمّا فوقها من المبادي باستفاضتها عنها ما تتكمّل به من التعقلات قوّة تسمّى نظرية ، و لها أربع مراتب ، و أنّ لها باعتبار تأثيرها في البدن لتفيد جوهره كمالا تأثيرا اختياريا قوّة اخرى تسمّى عمليّة و لها أيضا أربع مراتب ، على أنّ هذا الكمال الّذي يحصل للبدن بسببها في الحقيقة تعود إليها لأنّ البدن آلة لها في تحصيل العلم و العمل .

أما مراتب القوّة النظرية فلأنّ النفس في مبدء الفطرة خالية عن العلوم كلّها لكنّها مستعدّة لها و إلاّ لامتنع اتّصافها بها و حينئذ تسمّى عقلا هيولانيا تشبيها لها بالهيولى الخالية في نفسها عن جميع الصور القابلة إيّاها ، ثمّ إذا استعملت آلاتها أعنى الحواسّ الظاهرة و الباطنة حصل لها علوم أوّليّة و استعدّت لاكتساب النظريات

[ 331 ]

و حينئذ تسمّى عقلا بالملكة لأنّها حصلت لها بسبب تلك الأوليات ملكة الإنتقال إلى النظريات ، ثمّ رتّبت العلوم الأولية و أدركت النظريات و حصلت لها ملكة الاستحضار بحيث تستحضرها متى شاءت من غير كسب جديد لأجل تكرار الاكتساب لكن لا تشاهدها بالفعل بل صارت مخزونة عندها فهو العقل بالفعل لحصول قدرة الاستحضار للنفس بالفعل و إذا استحضرت العلوم مشاهدة إيّاها تسمّى عقلا مستفادا لأنّ النفس الانسانيّة في آخر المراتب تصير عقلا لكن لا فعّالا للكمالات بل عقلا منفعلا بحسب قبول الكمالات من العقل الفعّال .

و أما مراتب القوّة العمليّة فاوليها تهذيب الظاهر باستعمال الشرايع النّبوية و النواميس الالهيّة ، و هذه المرتبة تسمّى عندهم التجلية بالجيم ، و بعبارة واضحة التجلية أن تورد النفس قواها و أعضائها بالمراقبة الكاملة تحت انقياد الأحكام الشرعيّة و النواميس الالهية و إطاعتها فتطيع أوامر الشرع و تجتنب عن المناهي حتّى يظهر آثار الطهارة الظاهرية في الظاهر أعنى البدن ، و يحصل للنفس أيضا على التدريج ملكة التسليم و الانقياد للسلوك إلى طريق الحقّ تعالى و المتكفّل لحصول هذه المرتبة هو علم الفقه على الطريقة الحقّة الجعفريّة ليس إلاّ .

و ثانيها تهذيب الباطن عن الملكات الرديّة و نفض آثار شواغله عن عالم الغيب و تسمّى هذه المرتبة التّخلية بالخاء ، و بعبارة اخرى التّخلية أن يعرض النفس عن المضار الاجتماعية و الانفرادية و مفاسدهما يحذر من عواقبهما الوخيمة دنيوية و اخرويّة كالحسد و الحرص و الكبر و العجب و غيرها من الأخلاق الرذيلة المبيّنة في الكتب الأخلاقيّة ، و رفض تلك الرذائل عن النفس بمنزلة علاج البدن من الأمراض الجسمانية ، و شرب المسهل و الدواء لقلعها فكما أنّ الجسم ما كان مريضا لم ينفعه غذاء طيّب مقوّ و على الطبيب أن يداوى الجسم و يعالجه أوّلا ثمّ يقوّيه بالأغذية المقويّة كذلك الأمراض الروحيّة أعنى تلك الرذائل الأخلاقيّة ما لم يقلع من النفس و لم يسلم النفس منها لم ينفعه الملكات الفاضلة .

[ 332 ]

و ثالثها ما يحصل بعد اتصالها بعالم الغيب و هو تحلّى النفس بالصور القدسية و تسمّى هذه المرتبة التّحلية بالحاء المهملة ، و بعبارة اخرى التّحلية أن تتحلّى النفس بعد حصول التخليه بحلىّ الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة الجميلة ممّا هي في نظام الاجتماع و رشد الفرد و تكامله مؤثر جدّا فالتحلية طهارة معنوية و ما لم يتحقّق هذه الطهارة للانسان فهو ليس بطاهر حقيقة و إن كان ظاهره متّصفا بالطهارة و اتّصاف النّفس بها بمنزلة تقوية المريض بالأغذية المقويّة بعد خلاصه من الأمراض .

و رابعتها ما يتجلّى له عقيب ملكة الإتّصال و الإنفصال عن نفسه بالكلّية و هو ملاحظة جمال اللّه و جلاله و قصر النظر على كماله حتّى يرى كلّ قدرة مضمحلّة جنب قدرته الكاملة ، و كلّ علم مستغرقا في علمه الشامل بل كلّ وجود فائضا من جنابه ، و تسمّى هذه المرتبة بالفناء في الحقّ ، رزقنا اللّه و جميع المؤمنين تلك النعمة العظمى و بلغنا إلى تلك الغاية القصوى ، و له أيضا ثلاث مراتب : محو و طمس و محق المحو ، فناء أفعال العبد في فعل الحقّ ، و الطمس ، فناء صفاته في صفات الحقّ و المحق ، فناء وجوده في ذات الحق ، ففي الأوّل لا يرى في الوجود فعلا لشي‏ء إلاّ للحق ، و في الثاني لا يرى لشي‏ء من الوجود صفة إلاّ للحقّ ، و في الثالث لا يرى وجودا لشي‏ء إلاّ للحقّ ، و الفناء قسمان : فناء استهلاك كفناء أنوار الكواكب في نور الشمس ، و حينئذ يبقى عين الفاني و ذاته و يرتفع حكم إنّيته ، و فناء هلاك كفناء الأمواج عند سكون البحر ، و حينئذ يزول الفاني و يرتفع عينه و لا يبقى أثره .

و نزيدك بيانا و نقول : غبّ ما حصلت المراتب الثلاثة التجلية و التخلية و التحلية للسالك تحصل له ببركة الطهارة و الصفاء ، جاذبة المحبّة و العشق إلى جناب الحقّ جلّ جلاله فتصير محبّا لما هو كمال له حقيقة من الحضور دائما عنده تعالى و عبادته و الخلوة معه و الانس به ، و ذكره قلبا و لسانا ، فتوجب تلك الأحوال تشديد المحبّة تدريجا و اشتعال نار المحبّة يسيرا يسيرا حتّى يذهل عن نفسه

[ 333 ]

و لا يرى إلاّ هو ، و يبلغ بحق اليقين إلى أنّه تعالى هو الأوّل و الاخر و الظّاهر و الباطن ، و إلى أنه هو الظاهر لا غير ، و أنّ الظاهر هو لا غير ، و إلى أنّ الباطن هو الظاهر ، و أنّ الأوّل هو الاخر و الاخر هو الأوّل ، و الكلّ تحت اسم الظاهر تدوينا و تكوينا لفظا و عينا ، و هذه الحالة للعارف تسمّى بالفناء في اللّه فالفناء ملاحظة جمال اللّه و جلاله و قصر النظر على كماله .

و للفناء ثلاث درجات : الاولى ، الفناء في الأفعال فيرى العارف في هذه الدرجة المؤثّرات و المبادي و الأسباب و العلل من المجرّدات و المادّيات و من الطبيعيّات و الإراديّات باطلة بلا أثر ، ألا كلّ شي‏ء ما خلا اللّه باطل ، و لا يرى مؤثّرا إلاّ الحقّ جلّ جلاله و لا يرى قدرة عاملة و لا إرادة نافذة في الكائنات إلاّ قدرته و إرادته ، فيشهد ذاتا غير متناهية ، و إرادة و قدرة غير متناهيتين حاكمة على الجميع ، و عنت الوجوه للحىّ القيّوم ، فيرى بعين الشهود بلا شوب ريب حقيقة الكريمة : و ما رميت إذ رميت و لكنّ اللّه رمى ، فيكون لسان حاله مترنّما بمقال لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه ، بلا شائبة خيال و وهم بل بعين بصيرة و قلب مستيقظ نبيه ، و في هذا المقام يحصل له اليأس عمّا سواه تعالى و الرجاء الواثق التامّ إليه تعالى ، و يساوى عنده بل يتّحد قدرة أعظم ملوك الأرض و قدرة أخسّ ذوى النفوس كالبقّ مثلا ، و هذه الدرجة تسمّى بالمحو و إليه أشار صاحب المثنوي بقوله :

اين سببها بر نظرها پرده‏ها است
كه نه هر ديدار صنعش را سزا است

ديده‏اى بايد سبب سوراخ كن
تا حجب را بر كند از بيخ و بن

تا مسبّب بيند اندر لا مكان
هرزه بيند جهد و أسباب دكان

و الثانية ، الفناء في الصفات ، فيرى العارف في هذه الدرجة جميع أسمائه تعالى و صفاته من صفات اللطف كالرحمن و الرّحيم و الرّازق و المنعم ، و صفات القهر كالقهّار و المنتقم مستهلكة في غيب الذات الأحديّة ، و لا يرى إلاّ الذات

[ 334 ]

الأحديّة و لا يرى تعيّنا ، و حينئذ يرتفع اختلاف المظاهر كالجبرئيل و العزرائيل و موسى و فرعون من عين صاحب هذا المقام ، و يتّحد عنده و لا يتفاوت له اللطف و القهر و البسط و الغضب و العطاء و المنع و الجنّة و النّار و الصحّة و المرض و الفقر و الغنى و العزّة و الذلّة ، و إلى هذه المرحلة أشار العارف المصقع بقوله :

گر وعده دوزخ است و يا خلد غم مدار
بيرون نمى‏برند تو را از ديار دوست

و هذه الدرجة تسمّى بالطمس .

و اعلم أنّ صفاته تعالى إما ايجابيّة و إما سلبيّة و يقال لنعوته الإيجابيّة لكونها وجودية جماله تعالى ، و لنعوته السلبيّة صفات الجلال لتجليله بأنّه المترفّع عن التركيب و الجوهرية و العرضيّة و الجسميّة و يقال : انّه ليس بمركب و ليس بعرض و ليس بجسم و ليس له ماهية و نحوها فلزم أن لا يكون مرئيا و مشاهدا بل و لا مدركا و لذا نسب الإحتجاب إلى صفة الجلال كما قيل :

جمالك في كلّ الحقائق سائر
و ليس له إلاّ جلالك ساتر

و قال المتأله السبزوارى قدّس سرّه :

پرده ندارد جمال غير صفات جلال
نيست بر اين رخ نقاب نيست بر اين مغز پوست

و الصفات الجمالية و الجلاليّة يقال بمعنى آخر أيضا قال القيصري في الفصل الثاني من مقدماته على شرح الفصوص : انّ ذاته تعالى اقتضت بحسب مراتب الالوهيّة و الربوبيّة صفات متعددة متقابلة كاللطف و القهر و الرحمة و الغضب و الرضا و السخط و غيرها و تجمعها النعوت الجمالية و الجلالية إذ كلّ ما يتعلق باللطف فهو الجمال ، و ما يتعلق بالقهر فهو الجلال .

و لكلّ جمال أيضا جلال كالهيمان الحاصل من الجمال الإلهى فإنّه عبارة عن انقهار العقل منه و تحيّره فيه ، و لكلّ جلال جمال و هو اللطف المستور في القهر الإلهى كما قال اللّه تعالى : و لكم في القصاص حيوة يا اُولى الألباب ، و قال أمير المؤمنين عليه السّلام : سبحان من اتّسعت رحمته لأوليائه في شدّة نقمته ، و اشتدّت نقمته لأعدائه في سعة رحمته ، و من هنا يعلم سرّ قوله عليه السّلام : حفّت الجنّة بالمكاره

[ 335 ]

و حفّت النار بالشهوات ، انتهى كلام القيصري .

و الثالثة الفناء في الذات ، و العارف في هذا المقام يرى جميع أنواع الكائنات المختلفة متّحدة كما أنّ الجاهل يحسبها متكثرة ، إذ تعيّن كلّ واحد منها كالملك و الفلك و الإنسان و الحيوان و الأشجار و المعادن أو همه إلى الكثرة فظنّ أنها متبدّدة متعدّدة و لكن العارف في ذلك المشهد العظيم يشاهد من عرش التجرد الأعلى إلى مركز التراب بصورة نجارستان انتقش بقلم التجلّي على جدرانه و سقفه و على جميع ما في ذلك النجارستان عكوس علمه تعالى و قدرته و حياته و رحمته ، و نقوش لطفه و قهره ، و أشعة جماله و جلاله ، و يشاهد جميع ما في دار الوجود من برّها و بحرها و عاليها و دانيها و مجرّدها و مادّيها متّصلا بعضها ببعض و مرتبطا أحدها بآخر و منضما هذا بذاك كهيكل انسان واحد مثلا ، يخبر الجميع بنغمة موزونة واحدة عن عظمة العالم الربوبىّ ، و في هذا المقام يتحقّق بحقيقة التوحيد و كلمة لا إله إلاّ اللّه الطيّبة ، قائلا بلسان الحقيقة يا هو يا من ليس إلاّ هو ، فإذن لا يبقى له و لا للممكنات الاخرى هويّة ، بل هويّة الكلّ مضمحلّ و متلاش في تجلّى حقيقة الحقّ سبحانه ، لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار ، و تسمّى هذه الدرجة بالمحق .

و ما حرّرنا في مراتب القوّة العمليّة نبذة من إفاضات مولانا المكرّم و رشحة من فيوضات استاذنا العليم ، الاية العظمى الميرزا أبي الحسن الرفيعي القزويني متّع اللّه تعالى المسلمين بطول بقائه و أدام أيام افاداته مع بعض إفاضات منّا مزيدا للإيضاح ، و الحمد للّه باسط الرزق فالق الإصباح .

و اعلم أنّ الطهارة الحقيقيّة للنفس إنما هي حاصلة في الثالثة من الدرجات لأنّها تطهير النفس عمّا عداه تعالى ، قد أفلح من زكّيها .

و أنّ لسان الغيب الخواجه شمس الدّين الحافظ قدّس سرّه أشار في بيته :

ساقى حديث سرو و گل و لاله ميرود
اين بحث با ثلاثة غسّاله ميرود

إلى هذه الدرجات الثلاث فعبّرها بالثلاثة الغسّالة لتغسيلها النفس عن الأنجاس و الأدناس فبالفناء في الأفعال ينبت الورد في روضة سرّ القلب ، و يستشمّ

[ 336 ]

العارف من رياض القدس ريح الورد ، و بالفناء في الصفات ينبت الشقائق فيها إشارة إلى تكامل الورد ، و بالثالث ينبت السّرو فيها فيحيط أثر العمل شراشر وجود السالك فالجزاء مرتّب على وفق العمل فكلّما كان العمل أصعب و أشدّ كان جزاؤه أشرف و أسدّ ، جزاء بما كانوا يعملون ، نقل هذه اللطيفة المحقّق النراقى قدّس سرّه في الخزائن عن الشّيخ محمّد الدارابي ( ص 413 طبع علمية اسلامية 1380 ه ق ) .

و أنّ العلاّمة البهائي قدّس سرّه نقل في أواخر المجلّد الأوّل من الكشكول ( ص 143 من طبع نجم الدولة ) عن النّبي صلى اللّه عليه و آله قال : خير الدّعاء دعائى و دعاء الأنبياء من قبلى و هو : « لا إله إلاّ اللّه وحده وحده وحده ، لا شريك له ، له الملك و له الحمد يحيى و يميت ، و هو حىّ لا يموت ، بيده الخير ، و هو على كلّ شي‏ء قدير » ، و روى ثقة الإسلام الكليني في كتاب الدّعاء من الكافى ( ص 375 ج 2 من المعرب ) بإسناده عن عليّ بن النعمان ، عمّن ذكره ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : قال جبرئيل عليه السّلام لرسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : طوبى لمن قال من امّتك : « لا إله إلاّ اللّه وحده وحده وحده » ، و رواه الشّيخ الجليل الصدوق في باب ثواب الموحّدين و العارفين من كتاب التوحيد باسناده عن جابر بن يزيد الجعفي ، عن أبي جعفر عليه السّلام ( ص 8 ) و تثليث قول وحده فيها باعتبار توحيد الذات و الصفات و الأفعال ، أفاده العالم المتأله السعيد القاضى السعيد في شرح توحيد الصدوق .

فإذا زكيت نفسك فقد أفلحت و لاح فيك ما وعد اللّه تعالى عباده الصالحين و لم يكن حجابك إلاّ أنت ، قال عزّ من قائل : « كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون كلاّ إنّهم عن ربّهم يومئذ لمحجوبون » ( المطفّفين : 16 ) قال الخواجة صائن الدّين على التركة في آخر قواعد التوحيد : إنّ العلوم كلّها موجودة فينا لكنّها مختفية بالحجب المانعة عن الظهور ، و لا يخفى عليك أنّ ظهورها تارة يكون بالحركات اللطيفة الفكريّة الروحانيّة بعد تسليط القوّة القدسيّة على قوّتى الوهميّة و المتخيّلة و سائر القوى الجسمانيّة و تهذيب الأخلاق و تزيين النفس بالأخلاق الحسنة ، و تارة اخرى بتسكين المتخيّلة و المتوهّمة و إلجامهما و منعهما

[ 337 ]

عن الحركات المضطربة المشوشة بعد تسخير القوى الجسمانيّة بالتزكية و التصفية و كلا الطريقين حقّ عند أكثر المحقّقين من أهل النظر و أصحاب المجاهدة .

خذا بطن هرشى أو قفاها فإنّه
كلا جانبى هرشى لهنّ طريق

و من اعتقد أنّه لا اعتبار بالتزكية و التصفية في طريق التعلم و النظر ركب متن الهوى و الهوس حسب هذه العقيدة الفاسدة ، و غلبت على نفسه الشهوة و الغضب و استولت عليه الرّذائل الطبيعة المهلكة ، و حرمت عليها الفضائل الملكية المحيية و اشتغل بقرائة كتب مقلّدى الفلاسفة و زبر المتكلمين من أصحاب الجدل و المشاغبة و ضيّع عمره في ضبط الاراء المتناقضة و حفظ الأحوال و الأقوال المتقابلة فأوقع نفسه في لجج الخيالات الفاسدة و الأوهام الباطلة عند تلاطم أمواج الشكوك و الشبهات المفرقة فاضمحلّ نور قلبه و عميت بصيرته بتراكم الكدورات المظلمة و العقائد الفاسدة و ازداد فيه الجهل و التردد و حصل له البهت و التحيّر و لا يدرى أين يذهب فلحق به من الحق الغضب و ظنّ أن الكمال ما حصل له و وصل إليه و ليس ورائه حالة مرغوبة كمالية و لا سعادة باقية فتيقّن خبث هذه العقيدة و وجه ضررها من لطفه و استعذابه من مكره و غضبه .

13 و عليك بما نقصّ عليك من قصص ثلاث هي من أحاسن القصص دستورا أما الاولى فقد روى ثقة الإسلام الكليني في باب المؤمن و علاماته و صفاته من كتاب الإيمان و الكفر من الكافي ( ص 186 ج 2 من المعرب ) : أنّ الحسن بن عليّ صلوات اللّه عليهما خطب الناس فقال : أيها الناس أنا اخبركم عن أخ لي كان من أعظم الناس في عيني ، و كان رأس ما عظم به في عيني صغر الدنيا في عينه كان خارجا من سلطان بطنه ، فلا يشتهى ما لا يجد ، و لا يكثر إذا وجد ، كان خارجا من سلطان فرجه فلا يستخفّ له عقله و لا رأيه ، كان خارجا من سلطان الجهالة فلا يمدّ يده إلاّ على ثقة لمنفعة ، كان لا يتشهّى و لا يتسخّط و لا يتبرّم ، كان أكثر دهره صمّاتا فإذا قال بذّ القائلين ، كان لا يدخل في مراء و لا يشارك في دعوى و لا يدلى بحجّة حتّى يرى قاضيا ، و كان لا يغفل عن اخوانه و لا يخصّ نفسه بشي‏ء دونهم ، كان ضعيفا مستضعفا

[ 338 ]

فإذا جاء الجدّ كان ليثا عاديا ، كان لا يلوم أحدا فيما يقع العذر في مثله حتّى يرى اعتذارا ، كان يفعل ما يقول و يفعل ما لا يقول ، كان إذا بتزّه أمران لا يدرى أيهما أفضل نظر إلى أقربهما إلى الهوى فخالفه ، كان لا يشكو وجعا إلاّ عند من يرجو عنده البرء ، و لا يستشير ( يسترشد خ ) إلاّ من يرجو عنده النصيحة ، كان لا يتبرّم و لا يتسخّط و لا يتشكّى و لا يتشهّى و لا ينتقم و لا يغفل عن العدو ، فعليكم بمثل هذه الأخلاق الكريمة إن أطقتموها ، فإن لم تطيقوها كلّها فأخذ القليل خير من ترك الكثير ، و لا حول و لا قوّة إلاّ باللّه ، و هذا الحديث قد نسبه الشريف الرضى رضوان اللّه عليه إلى أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام و أتى به في القسم الثالث من النهج أعنى في باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليه السّلام و هو المختار 289 .

و رواه أبو محمّد الحسن بن عليّ بن شعبة الحرّاني رحمة اللّه عليه عن أبي محمّد الامام الحسن بن عليّ المجتبى عليهما السّلام أيضا ، كما في الكافي و فى هامش نسخة مخطوطة عتيقة من النهج توجد في مكتبتنا : قال السيّد الإمام السعيد أبو الرضا رضى اللّه عنه : وجدت هذا الفصل في أدب ابن المقفع ، و وجدت في كتاب آخر هذا الكلام منسوبا إلى الحسن بن عليّ صلوات اللّه عليهما ، و نقل ذلك الحديث العلاّمه البهائى أيضا في أوائل المجلّد الثالث من كشكوله ( ص 249 طبع نجم الدولة ) من النهج أيضا من غير تعرّض فيه .

قلت : إذا دار الأمر بين الجامع الكافي و بين غيره من الجوامع الروائية فضلا عن غيرها فلا ريب أنّ المتعيّن هو الأوّل ، على أنّ رواية ابن شعبة موافقة له و معاضدة ، و بين النسخ تفاوت في الجملة و نحن نقلناها من نسخة مخطوطة مصحّحة من الكافي مزدانة بعلائم المقابلة و التصحيح من أوّلها إلى آخرها و بتعليقات أنيقة رشيقة ، و بخط صدر الدين السيّد علي خان المدني قدّس سرّه الّذي تقدّم ذكره في هذه الرسالة غير مرّة على ظهرها و هذه صورته : « الحمد للّه سبحانه ، على هذه النسخة الشريفة المعتمدة خط السيّد نصير الملة و الدين و خط ابن أخيه و صهره السيّد محمّد معصوم و خط ابنه والدي الأمير نظام الدين أحمد ، و قد

[ 339 ]

قرأها على السيّد العلاّمة نور الدين ابن عليّ بن أبي الحسن العلوي قدّس اللّه سبحانه أسرارهم ، كتب عليّ الصدر المدني عفى عنه » .

و أما الثانية فقد نقلها العلاّمة الشّيخ البهائي قدّس سرّه في أوّل المجلّد الثالث من كتابه القيّم النفيس المسمّى بالكشكول ( ص 245 من طبع نجم الدولة ) حيث قال : من خط س [ 1 ] عن عنوان البصري و كان شيخا قد أتى عليه أربع و تسعون سنة ، قال : كنت أختلف إلى مالك بن أنس سنين فلمّا قدم جعفر بن محمّد الصّادق عليه السّلام اختلفت إليه و أحببت أن آخذ عنه كما أخذت عن مالك ، فقال يوما لي : إنّي رجل مطلوب و مع ذلك لي أوراد في كل ساعة من آناء الليل و النهار فلا تشغلني عن وردي و خذ عن مالك ، و اختلف إليه كما كنت تختلف .

فاغتممت من ذلك ، و خرجت من عنده ، و قلت في نفسي : لو تفرّس لي خيرا لما زجرني عن الاختلاف إليه و الأخذ عنه ، فدخلت مسجد الرسول صلى اللّه عليه و آله و سلّمت عليه ثمّ رجعت من الغد إلى الروضة ، و صلّيت فيها ركعتين و قلت : أسألك يا اللّه يا اللّه ، أن تعطف علىّ قلب جعفر و ترزقني من علمه ما أهتدي به إلى صراطك المستقيم ، و رجعت إلى داري مغتمّا و لم أختلف إلى مالك بن أنس لما اشرب في قلبي من حبّ جعفر عليه السّلام فما خرجت من داري إلاّ إلى الصّلاة المكتوبة حتّى عيل صبري ، فلمّا ضاق صدرى تنعّلت و تردّيت و قصدت جعفرا عليه السّلام و كان بعد ما صلّيت العصر ، فلمّا حضرت باب داره استأذنت عليه فخرج خادم له فقال : ما حاجتك ؟ فقلت : السلام على الشريف ، فقال : هو قائم في مصلاّه ، فجلست بحذاء بابه فما لبثت إلاّ يسيرا إذا خرج خادم فقال : ادخل على بركة اللّه .

فدخلت و سلّمت عليه فردّ علىّ السّلام ، و قال : اجلس غفر اللّه لك فجلست فأطرق مليّا ، ثمّ رفع رأسه فقال : أبو من ؟ قلت : أبو عبد اللّه ، قال : ثبّت اللّه

[ 1 ] هكذا فى ذلك الطبع بالسين المهملة فى الاول و الاخر ، و فى طبع قم بالشين المعجمة و قال صديقنا الفاضل محمد صادق النصيرى زاده اللّه تعالى نصرا فى تعاليقه على الكشكول ،

كلمة شين المعجمة اشارة الى مجموعة الشهيد الثانى ره ، منه .

[ 340 ]

كنيتك و وفّقك يا أبا عبد اللّه ما مسئلتك ؟ فقلت في نفسي : لو لم يكن لي في زيارته و التسليم عليه غير هذا الدّعاء لكان كثيرا .

ثمّ رفع رأسه فقال : ما مسئلتك ؟ قلت : سألت اللّه أن يعطف علىّ قلبك و يرزقني من علمك و أرجو أنّ اللّه تعالى أجابني في الشريف ما سئلته .

فقال : يا أبا عبد اللّه ليس العلم بالتعلّم و إنّما هو نور يقع على قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه ، فإن أردت العلم فاطلب أوّلا في نفسك حقيقة العبودية و اطلب العلم باستعماله ، و استفهم اللّه يفهمك .

قلت : يا شريف ، قال : يا أبا عبد اللّه ، قلت : يا أبا عبد اللّه ما حقيقة العبوديّة ؟

قال : ثلاثة أشياء أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوّله اللّه ملكا لأنّ العبيد لا يكون لهم ملك ، يرون المال مال اللّه يضعونه حيث أمرهم اللّه به ، و لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرا و جعل اشتغاله فيما أمره اللّه تعالى به و نهاه عنه ، فإذا لم ير العبد لنفسه فيما خوّله اللّه ملكا هان عليه الإنفاق فيما أمره اللّه تعالى أن ينفق فيه و إذا فوّض العبد تدبير نفسه إلى مدبّره هان عليه مصائب الدنيا ، و إذا اشتغل العبد بما أمره اللّه تعالى و نهاه لا يتفرّغ منهما إلى المراء و المباهاة مع الناس ، و إذا أكرم اللّه العبد بهذه الثلاثة هان عليه الدّنيا و إبليس و الخلق ، و لا يطلب الدّنيا تكاثرا أو تفاخرا و لا يطلب ما عند النّاس عزّا و علوّا و لا يدع أيّامه باطلا ، فهذا أوّل درجة التّقى ، قال اللّه تعالى : « تلك الدّار الاخرة نجعلها للّذين لا يريدون علوًّا في الأرض و لا فساداً و العاقبة للمتّقين » .

قلت : يا أبا عبد اللّه أوصني ، فقال : اوصيك بتسعة أشياء فانّها وصيّتي لمريدي الطريق إلى اللّه تعالى ، و اللّه أسأل أن يوفّقك لاستعماله :

ثلاثة منها في رياضة النّفس ، و ثلاثة منها في الحلم ، و ثلاثة منها في العلم فاحفظها ، و إيّاك و التهاون بها ، قال عنوان : ففرغت قلبي له .

قال : أمّا اللّواتي في الرّياضة : فايّاك أن تأكل ما لا تشتهيه فانّه يورث الحماقة و البله ، و لا تأكل إلاّ عند الجوع ، و إذا أكلت فكل حلالا ، و سمّ اللّه

[ 341 ]

و ذكّر حديث الرسول صلى اللّه عليه و آله : ما ملأ آدميّ وعاء شرّا من بطنه فإن كان و لا بدّ فثلث لطعامه ، و ثلث لشرابه ، و ثلث لنفسه .

فأمّا اللّواتي في الحلم : فمن قال لك إن قلت واحدة سمعت عشرا فقل له إن قلت عشرا لم تسمع واحدة ، و من شتمك فقل إن كنت صادقا فيما تقول فأسئل اللّه أن يغفر لي ، و إن كنت كاذبا فيما تقول فأسئل اللّه أن يغفر لك ، و من وعدك بالخنى فعده بالنصيحة و الدّعاء .

و أمّا اللّواتي في العلم : فاسئل العلماء ما جهلت ، و إيّاك أن تسئلهم تعنّتا و تجربة ، و إيّاك أن تعمل برأيك شيئا ، و خذ بالإحتياط في جميع ما تجد إليه سبيلا ، و اهرب من الفتيا هربك من الأسد ، و لا تجعل رقبتك في النّاس جسرا قم عنّي يا أبا عبد اللّه فقد نصحت لك و لا تفسد علىّ وردى فإني امرؤ ضنين بنفسي و السّلام على من اتّبع الهدى ، منقول كلّه من خطّ س . انتهى ما أتى به الشّيخ ره في الكشكول .

قلت : تأمّل يا باغى السداد و طالب الرشاد و سالك الطريق إلى ربّ العباد في هذه الصحيفة المكرّمة الّتي كتبت بقلم الولاية و انتقشت بما كلّه نور و هداية .

و اخاطب نفسي الخاطئة فأقول لها : أيتها الهالكة ما غرّك بربّك الكريم تعمل عنده الأعمال الفاضحة ، قومى و سافرى إلى من خلقك فسوّاك فعدلك في أىّ صورة مّا شاء ركّبك ، ألا ترى أنّ ما سواه معتكف ببابه و مالك لا تطير إلى جنابه ، صرفت العمر في قيل و قال ، و ضيّعته في الجواب و السئوال ، قومى فاغتنمى الفرصة ، و اخلصى من الغصّة ، إيّاك و التسويف فإنّه مبير الوضيع و الشريف ، عليك بالحضور عند ربّك الغفور فإنّ الحضور يورث النور بل النور على النور و اللّه نور السموات و الأرض و جمالهما جلّ جلاله و عمّ نواله ، أما قرأت الكتاب الحكيم القرآن العظيم يقول قائله عزّ اسمه و له الأسماء الحسنى : من جاهد فينا لنهدينّهم سبلنا ، ألا رأيت كلام إمامك كشّاف الحقائق أبي عبد اللّه جعفر بن محمّد الصّادق : ليس العلم بالتعلّم و إنما هو نور يقع على قلب من يريد اللّه تبارك و تعالى أن يهديه .

[ 342 ]

اگر بودى كمال اندر نويسائى و خوانائى
چرا آن قبله كل نانويسا بود و ناخوانا

إلى متى في فراش الغفلة و اتخذى لك الخلوة ، و انتبهى من النّوم ، و توبى نصوحا في اليوم ، و عليك بالسكوت و الصوم ، و قومى عن العشيرة و القوم ، و يا نفسي الاثمة الجانية و ازهدى في الدّنيا الفانية فإنّ حبّها جبّ كلّ عطيّة و رأس كلّ خطيئة ، أعرضى عن دار الغرور ، و توجهى إلى نور كلّ نور ، لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمرا ، و عسى أن تأتيه فردا .

اى شده مغرور بدار غرور
قد خسر الغافل يوم النشور

اى كه فتادى ز ره عشق دور
ألا إلى اللّه تصير الامور

از چه ندارى خبر از خويشتن
يار حضور و تو ندارى حضور

و ما إخالك بناج لما
يداك قد حصّلنا من شرور

و لا تخافنّ سوى نفسكا
ترس تو بيجا است ز مرگ و ز گور

و اللّه قد أظهر آياته
بيخبر است گر چه دل و ديده كور

هر چه توانى بره عشق كوش
كامده از عشق همه در ظهور

دست ز أنبان شكم باز دار
تا كه دلت نور دهد همچو هور

هل كان عبد البطن عبد الإلاه
ظلمتى از پرتو و نور است دور

آن بطلب كو بود أصل مراد
إيّاك و الزّهد لوجدان حور

باش همى در ره ديدار يار
إن شئت عيشا دائما في السرور

اين سر بيهوش تو از خيرگى
لما يفيقنّ إلى نفخ صور

اين دل زنگار تو را راه نيست
في ساحة القدس من اللّه نور

نعم لئن تبت نصوحا عسى
أن يغفر اللّه الرّحيم الغفور

في ظلمة الليل تناجى الإلاه
تكلّم اللّه كموسى بطور

و ابك بكاء عاليا قانتا
عند صلاة ليلك بالحضور

نيست گرت مرده دلى بهر چه
لست لربّك بعبد شكور

[ 343 ]

مرد خدا را حسنا روى دل

سوى حضور است نه حور و قصور

فيامن خلقنى من العدم ، يا من كرّم بني آدم يا نور المستوحشين في الظلم يا شاهد كلّ نجوى ، يا من إليه الكل يسعى ، يا من هو بدّنا اللازم ، يا من جرى في الخلق حكمه الجازم ، يا من إلى بابه ألوذ ، يا من به من شرّ نفسى أعوذ ، يا من تحيّر فيه ما سواه ، يا من نطق به الألسن و الأفواه .

اى كه زبانها به تو گوياستي
ايكه دل و ديده بيناستي

اى كه صفات تو و ذاتت نكو است
اى كه ز هر عيب مبرّاستى

اى كه ز نور رخ زيباى تو
روى همه خرّم و زيباستي

اى كه سزاى دل شوريدگان
شورشى از عشق تو برپاستي

اى كه ز تو مرغ شباهنگ را
ناله جانسوز سحرهاستى

دست حسن گير و رهائيش ده

اى كه ز راز دلش آگاستى

و أمّا الثالثة فهى مكاتبة جرت بين العالمين الشّيخ أبي سعيد بن أبي الخير و الشّيخ الرئيس أبي عليّ بن سينا و لمّا رأينا كثرة فوائدها أتينا بها مزيدا للفائدة و قد نقلها الشّيخ البهائى في أواخر الكشكول ( ص 623 من طبع نجم الدولة و ص 595 ج 2 من طبع قم ) ، و لكنّ صورتها على طبع قم مشوشة بل مشوهة جدّا ، و هي منقوله أيضا في نامه دانشوران في ترجمة الشّيخ الرئيس أكمل ممّا في الكشكول و قد نقل القاضى نور اللّه الشهيد نبذة من كلام الشّيخ الرئيس في مجالس المؤمنين و هذه صورتها :

كتب الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير إلى الشّيخ الرئيس أبي عليّ بن سينا أيها العالم وفّقك اللّه لما ينبغي ، و رزقك من سعادة الأبد ما تبتغي ، إنّي من الطريق المستقيم على يقين إلاّ أنّ أودية الظنون على الطريق المستجدّ ( الجد خ ) متشعبّة ، و إنّي من كلّ طالب طريقه لعلّ اللّه يفتح لي من باب حقيقة حاله بوسيلة

[ 344 ]

تحقيقه و صدقة تصديقه ، و إنّك بالعلم وفقت لموسوم ، بمذاكرة أهل هذا الطريق مرسوم ، فأسمعنى ما رزقت ، و بيّن لي ما عليه وقفت ، و إليه وفّقت ، و اعلم أنّ التذبذب بداية حال الترهّب ، و من ترهّب ترأب ، و هذا سهل جدّا ، و عسر إن عدّ عدّا ، و اللّه وليّ التوفيق .

فأجابه الشيخ الرئيس : وصل خطاب فلان مبيّنا ما صنع اللّه تعالى لديه ( إليه خ ) و سبوغ نعمه عليه ، و الإستمساك بعروة الوثقى ، و الإعتصام بحبله المتين و الضرب في سبيله ، و التولية شطر التقرب إليه ، و التوجه تلقاء وجهه ، نافضا عن نفسه غبرة هذه الخربة ، رافضا بهمّته الإهتمام بهذه القذرة أعزّ وارد و أسرّ واصل و أنفس طالع و أكرم طارق ، فقرأته و فهمته و تدبّرته و كرّرته و حقّقته في نفسي و قرّرته فبدأت بشكر اللّه واهب العقل و مفيض العدل ، و حمدته على ما أولاه ، و سألته أن يوفّقه في اخراه و اولاه ، و أن يثبّت قدمه على ما توطّاه ، و لا يلقيه إلى ما تخطّاه ، و تزيده إلى هدايته هداية ، و إلى درايته الّتي آتاه دراية ، إنّه الهادي المبشّر و المدبّر المقدّر ، عنه يتشعّب كلّ أثر ، و إليه يستند الحوادث و العبر ( الغير خ ) و كذلك تقضى الملكوت ، و يقضى الجبروت و هو من سرّ اللّه الأعظم يعلمه من يعلمه و يذهل عنه من لا يعصمه ، طوبى لمن قاده القدر إلى زمرة السعداء ، و حادبه عن رتبة الأشقياء ، و أوزعه استرباح البقاء من رأس مال الغنى ، و ما نزهة هذا العاقل في دار يتشابه فيها عقبي مدرك و مفوّت ، و يتساويان عند حلول وقت موقّت ، دار أليمها موجع ، و لذيذها مشبع ، و صحّتها قسر الأضداد ( قران الأضداد خ ) على وزن و اعداد ، و سلامتها استمرار فاقة إلى استمراء مذاقة ، و دوام حاجة إلى مجّ مجاجة .

نعم و اللّه ما المشغول بها إلاّ مثبّط ، و المتصرّف فيها إلاّ مخبّط ، موزّع البال بين ألم و يأس ، و نقود و أجناس ، أخيذ حركات شتّى ، و عسيف أوطار تترى و أين هو من المهاجرة إلى التوحيد ، و اعتماد النظام بالتفريد ، و الخلوص من التشّعب إلى التّراب ، و عن التذبذب إلى التهذّب ، و عن ناد ( باد خ ) يمارسه إلى

[ 345 ]

أبد يشارقه ، هناك اللذّة حقّا ، و الحسن صدقا ، سلسال كلّما سقيته على الرّىّ كان أهنى و أشفى ، و رزق كلّما أطعمته على الشبع كان أغذى و أمرى‏ء ، رىّ استبقاء لارىّ إباء ، و شبع استشباع لا شبع استبشاع .

و نسأل اللّه تعالى أن يجلو عن أبصارنا الغشاوة ، و عن قلوبنا القساوة ، و أن يهدينا كما هداه ، و يؤتينا ممّا آتاه ، و أن يحجز بيننا و بين هذه الغارّة الغاشّة البسور في هيأة الباشّة ، المعاسرة في حلية المياسرة ، المفاصلة في معرض المواصلة و أن يجعله إمامنا فيما آثر و أثّر ، و قائدنا إلى ما صار إليه و سار ، إنّه ولىّ ذلك .

فأمّا ما التمسه من تذكرة ترد منّى و تبصرة تأتيه من قبلى و بيان يشفيه من كلامى فكبصير استرشد من مكفوف ، و سميع استخبر عن موقور السمع غير خبير فهل لمثلى أن يخاطبه بموعظة حسنة ، و مثل صالح ، و صواب مرشد ، و طريق أسنّه له منفذ ، و إلى غرضه الّذي أمّه منفذ ؟ .

و مع ذلك فليكن اللّه تعالى أوّل فكره و آخره ، و باطن اعتباره و ظاهره و لتكن عين نفسه مكحولة بالنظر إليه ، و قدمها موقوفة على المثول بين يديه مسافرا بعقله في الملكوت الأعلى ، و ما فيه من آيات ربّه الكبرى ، فإذا انحطّ إلى قراره فلير اللّه في آثاره فإنّه باطن ظاهر تجلّى بكلّ شي‏ء لكلّ شي‏ء .

ففي كلّ شي‏ء له آية
تدلّ على أنّه واحد

فإذا صارت هذه الحال ملكة ، و هذه الخصلة وتيرة ، انطبع في فصّه نقش الملكوت ، و تجلّى له آية قدس اللاّهوت ، فألف الأنس الأعلى ، و ذاق اللذّة القصوى ، و أخذ عن نفسه إلى من هوبه أولى ، و فاضت عليه السكينة ، و حفّت به الطمأنينة ، و اطّلع على الأدنى اطّلاع راحم لأهله مستوهن بحبله ( بخيله خ ) :

مستخفّ لثقله ، مستحسن لفعله ، مستطل لطرفه ، و يذكر نفسه و هي بهجة فتعجّب منهم تعجّبهم منه ، و قد ودعها و كان معها كمن ليس معها .

و ليعلم أنّ أفضل الحركات الصلاة ، و أمثل السكنات الصيام ، و أرفع ( أنفع خ ) البرّ الصدقة ( و أفضل البرّ العطا خ ) و أزكى السّير الإحتمال ، و أبطل السعى

[ 346 ]

الرياء ( و أفضل السعى المراياة على نسخة مجالس المؤمنين ) ، و لن تخلص النفس عن البدن ما التفتت إلى قيل و قال ، و مناقشة و جدال ، و انقلعت بحالة من الأحوال ، و خير العمل ما صدر عن مقام نيّة ( عن خالص نيّة خ ) و خير النيّة ما ينفرج عن جناب علم ، و الحكمة ام الفضائل ، و معرفة اللّه أوّل الأوائل ، إليه يصعد الكلم الطيّب ، و العمل الصالح يرفعه ، أقول قولي هذا و أستغفر اللّه و أستهديه و أتوب إليه و أستكفيه ، و أسأله أن يقرّبنى إليه إنّه سميع مجيب .

ثمّ يقبل على هذه النفس المزيّنة بكمالها الذاتي ، و يحرسها عن التلطّخ بما يشينها من الهيئات الإنقيادية للنقوش المادية الّتي إذا بقيت في النفس المزينة كانت حالها عند الإنفصال كحالها عند الإتصال ، إذ جوهرها متثاوب و لا مخالطة و إنّما يدنّسها هيئة الانقياد لتلك الصواحب بل يفيدها هيئات الاستيلاء و الاستعلاء و الرياسة و لذلك يهجرا كذب قولك ، و يخلّى حتّى تحدث للنّفس هيئة صدوقة فيصدّق الأحلام و الرؤيا و اللذّات ، فليستعملها على اصلاح الطبيعة و إلقاء الشخص و النوع و السياسة .

و أمّا المشروب فأن يهجر شربه ملهيا بل تشفّيا تداويا ، و يعاشر كلّ فرقة بعادته و رسمه ، و يسمح بالمقدور من المال و يترك لمساعدة النّاس كثيرا ما هو خلاف طبعه ، ثمّ لا يقصر في الأوضاع الشرعيّة ، و تعظيم السنن الإلهيّة و المواظبات على التعبدات البدنيّة ، و يكون دوام عمره إذا خلا و خلص من المعاشرين ، نظر بالرويّة و الفكرة في الملوك الأول و ملكها ، و اكبس عن عثار النّاس من حيث لا تقف على النّاس ، عاهد اللّه أن تسير بهذه السيرة و تدين بهذه الدّيانة ، و اللّه وليّ الّذين آمنوا حسبنا اللّه نعم الوكيل .

هذا آخر المكاتبة ، و قد نقل منها الشّيخ في الكشكول إلى قوله : إنّه سميع مجيب ، و نقلنا بعده من نامه دانشوران ، و نقل القاضي نور اللّه الشهيد نوّر اللّه مرقده في المجالس بعد قوله : إنّه سميع مجيب ، هذا السطر أيضا : و الحمد للّه ربّ العالمين ، و الصّلاة و السّلام على خير خلقه محمّد و آله أجمعين .

[ 347 ]

14 كن عالي الهمّة ، على حدّ لا تعبد إلاّ إيّاه تعالى ، و لا تكن في إعراضك عن متاع الدّنيا و طيّباتها معاملا و لا في عباداتك أجيرا ، و كن كما نطق به الناطق بالصواب ميزان يوم الحساب ، و فصل الخطاب أمير المؤمنين و سيّد الوصيّين عليّ عليه السّلام : ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك .

تو بندگى چو گدايان بشرط مزد مكن

كه خواجه خود صفت بنده‏پرورى داند

و في الباب التاسع عشر من مصباح الشريعة : قال النبيّ صلى اللّه عليه و آله : قال اللّه تعالى :

من شغله ذكري عن مسئلتي أعطيته أفضل ما أعطى للسائلين .

و روى ثقة الإسلام الكلينيّ في باب العبادة من كتاب الإيمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 68 ج 2 من المعرب ) باسناده عن هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إنّ العبّاد ثلاثة : قوم عبدوا اللّه عزّ و جل خوفا فتلك عبادة العبيد و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب فتلك عبادة الاجراء ، و قوم عبدوا اللّه عزّ و جلّ حبّا له فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة .

و رواه ابن شعبة رحمة اللّه عليه في تحف العقول عن سيّد الشهداء أبي عبد اللّه الحسين عليه السّلام أيضا ، حيث قال عليه السّلام : إنّ قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار و إنّ قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد ، و إنّ قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة ، و هذا بعينه منقول في النهج عن أمير المؤمنين عليه السّلام ( المختار 237 من باب حكمه عليه السّلام ) .

فكن من أهل اللّه لا من أهل الدّنيا و لا من أهل الاخرة ، و حقيقة الزهد أن يزهد في الدّنيا و الاخرة ، كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : الدّنيا حرام على أهل الاخرة ، و الاخرة حرام على أهل الدّنيا ، و هما حرامان على أهل اللّه .

و في ذلك الباب من الكافي بإسناده عن عمرو بن جميع ، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : أفضل النّاس من عشق العبادة فعانقها و أحبّها بقلبه

[ 348 ]

و باشرها بجسده و تفرّغ لها ، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدّنيا على عسر أم على يسر .

أقول : هذه الرواية قد نطقت بالعشق ، و في عشق من سفينة البحار للمحدث القمّي رحمة اللّه عليه : النبوي صلى اللّه عليه و آله أنّ الجنّة لأعشق لسلمان من سلمان للجنّة .

و في تاسع البحار ( ص 580 ) عن الخرائج : روي عن أبي جعفر عليه السّلام ، عن أبيه قال : مرّ علىّ عليه السّلام بكربلا فقال لما مرّ به أصحابه و قد اغرورقت عيناه يبكى و يقول : هذا مناخ ركابهم ، و هذا ملقى رحالهم ، ههنا مراق دمائهم ، طوبى لك من تربة عليها تراق دماء الأحبّة ، و قال الباقر عليه السّلام خرج علىّ يسير بالنّاس حتّى إذا كان بكربلا على ميلين أو ميل تقدّم بين أيديهم حتّى طاف بمكان يقال له المقدفان فقال : قتل فيها مائتا نبيّ و مائتا سبط ، كلّهم شهداء و مناخ ركاب و مصارع عشّاق شهداء لا يسبقهم من كان قبلهم و يلحقهم من بعدهم .

و كم نرى من المقدّسين الخشك يطعنون في أهل اللّه باطلاقهم العشق و مشتقاته قائلين بأنّ أىّ خبر نطق به ؟ و هذا خبرهم بل هذه أخبارهم ، على أنّه لو لم يأت به أثر في الجوامع الروائية لكانت حجتهم داحضة و كلمتهم سفلى .

و في الباب الرابع و الخمسين من إرشاد القلوب للديلمي و هو آخر أبواب الكتاب فيما سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله ربّه ليلة المعراج : يا أحمد وجوه الزاهدين مصفرّة من تعب الليل و صوم النهار ، و ألسنتهم كلال من ذكر اللّه تعالى ، قلوبهم في صدورهم مطعونة من كثرة صمتهم قد أعطوا المجهود من أنفسهم لا من خوف نار و لا من شوق جنّة و لكن ينظرون في ملكوت السموات و الأرض فيعلمون أنّ اللّه سبحانه أهل للعبادة ، يا أحمد هذه درجة الأنبياء و الصديقين من امّتك و امّة غيرك و أقوام من الشهداء الخ .

و في باب اتباع الهوى من كتاب الايمان و الكفر من اصول الكافي ( ص 251 ج 2 من المعرب ) عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله : يقول اللّه عزّ و جلّ : و عزّتي و جلالي و عظمتى و كبريائى و نورى و علوّى و ارتفاع مكاني لا يؤثر

[ 349 ]

عبد هواه على هواى إلاّ شتّت عليه أمره و لبست عليه دنياه و شغلت قلبه بها و لم اوته منها إلاّ ما قدّرت له ، و عزّتى و جلالى و عظمتى و نوري و علوّي و ارتفاع مكانى لا يؤثر عبد هواى على هواه إلاّ استحفظته ملائكتى و كفّلت السموات و الأرضين رزقه و كنت له من وراء تجارة كلّ تاجر و أتته الدّنيا و هي راغمة .

و إذا ذقت حلاوة ذكره تعالى و أنست به و رزقت جنّة اللقاء لا تطلب منه تعالى إلاّ إيّاه و تنسى غيره ، كما في الباب التاسع عشر من مصباح الشريعة قال الصّادق عليه السّلام : لقد دعوت اللّه مرة فاستجاب لي و نسيت الحاجة لأنّ استجابته بإقباله على عبده عند دعوته أعظم و أجلّ ممّا يريد منه العبد و لو كانت الجنّة و نعيمها الأبدى ، و ليس يعقل ذلك إلاّ العاملون المحبّون العارفون صفوة اللّه و خواصّه انتهى .

و كأنما الشّيخ العارف السعدى رضوان اللّه عليه يشير إلى قوله عليه السّلام ، حيث زيّن مطلع گلستانه بو رد بيانه : يكى از صاحبدلان سر بجيب مراقبت فرو برده و در بحر مكاشفت مستغرق گشته ، حالى كه از آن حالت باز آمد ، يكى از دوستان گفت : در اين بوستان كه بودى ما را چه تحفه آوردى ؟ گفت بخاطر داشتم كه چون بدرخت گل رسم دامنى پر كنم هديّه أصحاب را ، چون برسيدم بوى گلم چنان مست كرد كه دامن از دست برفت ، و لقد أجاد ، طيّب اللّه رمسه و قدّس سرّه .

فمن عبد اللّه تعالى طلب الثواب أو خوفا من العقاب فهو محروم عن اللذّة الحقيقيّة ، بل إنّك إن فتّشته لم تجده إلاّ عابد هواه إن عبده تعالى رغبة ، أو محبّا لنفسه لا لمولاه إن عبده رهبة ، و قد أفاد الشّيخ الرئيس أبو عليّ بن سينا تغمّده اللّه بغفرانه في مقامات العارفين بقوله :

المستحلّ توسيط الحقّ مرحوم من وجه فإنه لم يطعم لذّة البهجة به فيستطعمها إنّما معارفته مع اللذّات المخدجة فهو حنون إليها غافل عمّا ورائها ،

و ما مثله بالقياس إلى العارفين إلاّ مثل الصبيان بالقياس إلى المحنكين ، فانّهم لمّا

[ 350 ]

غفلوا عن طيّبات يحرص عليها البالغون ، و اقتصرت بهم المباشرة على طيّبات اللعب صاروا يتعجّبون من أهل الجدّ إذا زورّوا عنها عائفين لها عاكفين على غيرها ، كذلك من غضّ النقص بصره عن مطالعة بهجة الحقّ أعلق كفّيه بما يليه من اللذّات لذّات الزور ، فتركها في دنياه عن كره ، و ما تركها إلاّ ليستأجل أضعافها و إنّما يعبد اللّه تعالى و يطيعه ليخوّله في الاخرة شبعه منها فيبعث إلى مطعم شهىّ و مشرب هنى‏ء و منكح بهىّ ، و إذا بعثر عنه فلا مطمح لبصره في اولاه و اخراه إلاّ إلى لذّات قبقبه و ذبدبه ، و المستبصر بهداية القدس في شجون الإيثار قد عرف اللذّة الحقّ و ولّى وجهه سمتها مسترحما على هذا المأخوذ عن رشده إلى ضدّه ، و إن كان ما يتوخاه بكدّه مبذولا له بحسب وعده .

15 التوبة و هي لا تنفك عمّن استبصر و إلاّ فليس بمستبصر ، و لا أنسى عذوبة كلام سيّدنا الاستاذ محمّد حسن الإلهى المقدّم ذكره قدّس سرّه ، و لطافة بيانه في التوبة حيث قال : التوبة الحقيقيّة أن تتوب من خيرك و شرّك ، و بعد تأمّل قليل قلت له : أمّا التوبة من الشرّ فلا كلام فيها ، و أما التوبة من الخير فما مراد جنابك منها ؟

فقال رضوان اللّه عليه : ما نحسبها خيرا من صلاتنا و صيامنا و قرائتنا القرآن و دراستنا و غيرها لو تأمّلنا فيها لرأيناها مخدجة غير كاملة و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا فيجب على المستبصر أن يتوب من هذه الأعمال الناقصة ، و أن يقصد الإتيان بها على النحو الكامل الّذي يتقبّل اللّه و انما يتقبّل اللّه من المتقين ، فما حسبناه خيرا ليس بخير حقيقة ، فطوبى لمن وفّق بالتوبة ممّا حسبه خيرا و عمل ما هو خير واقعا .

و التوبة تذهب بدرن القلب ، و تزيل رينه فإذا يستبصر التائب بدائه و دوائه و يخرج من ذنوبه كيوم ولدته امّه ، قال الامام الباقر عليه السّلام : التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، و إذا تخلّصت النفس من الرذائل و تنزهت من أوساخ الذنوب فقد قبلت توبته ، و أمّا البحث الكلامى عن التوبة فقد أشبعنا الكلام فيه في شرحنا على المختار 235 من خطب النهج من كتابنا تكملة منهاج البراعة ( ص 171 إلى 201

[ 351 ]

من ج 15 ) .

و قال السيّد بن طاووس قدّس سرّه الشريف في أعمال شهر ذى القعدة من كتابه الإقبال : فصل : فيما نذكره ممّا يعمل في يوم الأحد من الشهر المذكور و ما فيه من الفضل المذخور وجدنا ذلك بخطّ الشّيخ عليّ بن يحيى الخيّاط رحمه اللّه و غيره في كتب أصحابنا الامامية و قد روينا عنه كلّما رواه و خطّه عندنا بذلك في إجازة تاريخها شهر ربيع الأوّل سنة تسع و ستمائة فقال ما هذا لفظه :

روى أحمد بن عبد اللّه ، عن منصور بن عبد الحميد ، عن أبي أمامة ، عن أنس بن مالك قال : خرج رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله يوم الأحد في شهر ذى القعدة فقال : يا أيها الناس من كان منكم يريد التوبة ؟ قلنا : كلّنا يريد التوبة يا رسول اللّه ، فقال عليه السّلام :

اغتسلوا و توضّأوا و صلّوا أربع ركعات و اقراوا في كلّ ركعة فاتحة الكتاب مرّة قل هو اللّه أحد ثلاث مرات و المعوذتين مرّة ثمّ استغفروا سبعين مرّة ثمّ اختموا بلا حول و لا قوّة إلاّ باللّه العليّ العظيم ثمّ قولوا : يا عزيز يا غفار اغفر لى ذنوبى و ذنوب جميع المؤمنين و المؤمنات فانّه لا يغفر الذّنوب إلاّ أنت .

ثمّ قال عليه السّلام : ما من عبد من امّتى فعل هذا إلاّ نودى من السماء يا عبد اللّه استأنف العمل فإنك مقبول التوبة مغفور الذنب .

و ينادى ملك من تحت العرش أيها العبد بورك عليك و على أهلك و ذرّيتك .

و ينادى مناد آخر أيها العبد ترضى خصماؤك يوم القيامة .

و ينادى ملك آخر أيها العبد تموت على الإيمان و لا أسلب منك الدين و يفسح في قبرك و ينوّر فيه .

و ينادى مناد آخر أيها العبد يرضى أبواك و إن كانا ساخطين و غفر لأبويك ذلك و لذريتك و أنت في سعة من الرزق في الدنيا و الاخرة .

و ينادى جبرئيل عليه السّلام : أنا الّذي آتيك مع ملك الموت عليه السّلام أن يرفق بك و لا يخدشك أثر الموت انما تخرج الروح من جسدك سلاّ ( سلاما خ ) .

قلنا : يا رسول اللّه لو أنّ عبدا يقول في غير الشهر ؟ فقال عليه السّلام : مثل ما وصفت

[ 352 ]

و إنما علّمنى جبرئيل عليه السّلام هذه الكلمات أيّام اللّه ربّى ( أيّام اسرى بى خ ) .

و نذيّل الرسالة بقصيدة الفارسيّة تفوّه بها هذا الراجي لقاء ربّه الرّحيم و قد فرغ منها في أوائل ذى الحجّة 1388 ه ق ، و سمّاها بالقصيدة اللّقائيّة :

اى دل بدر كن از سرت كبر و ريا را
خواهى اگر بينى جمال كبريا را

تا با خودى بيگانه‏اى از آشنايان
بيگانه شو از خود شناسى آشنا را

عنقاى أوج قاف قرب دلبر من
در زير پر بگرفته كلّ ما سوا را

در پايتخت كشور دل پادشاهى
منگر مگر سلطان يهدي من يشا را

مرآت أسماء و صفات حق بود دل
مشكن چنين آيينه ايزد نما را

اى همدم كرّ و بيان عالم قدس
از خود بدر كن لشكر ديو دغا را

تا از سواد و از خيال و از بياضت
فانى شوى بينى جهان جان فزا را

گر جذبه‏اى از جانب جانانه يابى
بازيچه خوانى جذب كاه و كهربا را

گاهى ز اشراق رخ مهر آفرينش
بر آسمان جان دهد رشك ضيا را

گاهى ز زلف مشكساى دلربايش
آشفته خود مى‏كند أحوال ما را

دل در ميان اصبعين او است دائم
از قبض و بسطش فهم كن اين مدّعا را

اللّه قد خلقكم أطوارا أى قوم
كيف فلا ترجون للّه وقارا

در آستان لطف آن محبوب يكتا
دريوزه گر بينم همه شاه و گدا را

تسبيح گوى ذات پاك لا يزاليش
بنگر ز ذرّات ثريّا تا ثرى را

بنيوش از من باش دائم در حضورش
تا در حضور او چه‏ها يابى چه‏ها را

گر تار و پود بودم از هم بر شكافى
جز او نخواهى يافت اين دولت‏سرا را

در چشم حق بينم من او او من نباشد
يكتاپرستم من نميدانم دو تا را

عشق منش از گفته استاد نبود
نوشيده‏ام با شير مادر اين غذا را

تنها نه من سرگشته‏ام زانرو كه بينم
نالان و سرگردان او أرض و سما را

تنها نه من در حيرتم از سرّ انسان
بل صار فيه القوم كلّهم حيارى

فكرى بكن بنگر كه‏اى و در كجائى
هم از كجا بودى و ميخواهى كجا را

[ 353 ]

دردا كه ما را آگهى از خويش نبود
ور نه بما كردى عطا كشف غطا را

دردت اگر باشد پى درمان دردت
از چه نجوئى از طبيب خود دوا را

يارت دهد اندر حريم خويش بارت
مر آزمونرا گوى از اخلاص يا را

بيدار باش و در ره زاد أبد كوش
بگسل ز خود دام هوسها و هوا را

بر آب زن اوراق نقش اين و آنرا
بر دل نشان أحكام قرآن و دعا را

در خلوت شبهاى تارت ميتوانى
آرى بكف سرچشمه آب بقا را

گوئى خليل‏آسا اگر وجّهت وجهى
گردد بتو راز نهانى آشكارا

تسليم باش و سر بنه اندر رضايش
بر بند لب از گفتن چون و چرا را

از رحمت بى انتهاى خويش دارد
وابسته دام بلا أهل ولا را

زاهد بود سوداگر و عابد أجيرى
محو است و طمس و محق أرباب وفا را

آيين مردان خدا تقوى است تقوى
مرزوق عند اللّه بين أهل تقى را

ره رو چنانكه مردم هشيار رفتند
راهى مبين جز راه و رسم مصطفى را

گر مشكلى پيش آيدت ايسالك ره
ناد عليّا آن شه مشكل گشا را

خواهى روى اندر مناى عاشقانش
بار سفر بر بند سوى كربلا را

گفتار نيكو بايد و كردار نيكو
تا در جزاى اين و آن يابى لقا را

أبناء نوعت را ز خود خوشنود مى‏دار
خواهى ز خود خوشنود أر دارى خدا را

بيچاره‏ايم اى چاره بيچاره‏گانت
جز تو كه يارد دست ما گيرد نگارا

عارم بود از اين كليمى أربعينم
از جود تو دارم من اميد عطا را

تسخير خود كن نجم را آنسان كه كردى

تسخير خود مهر و مه و استاره‏ها را

و قد فرغنا من تأليف هذه الرسالة اللقائية في بلدنا الامل وقت السحر من ليلة الاثنين السادسة عشر من ربيع المولود من شهور سنة تسع و ثمانين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة على هاجرها الف تحيّة و سلام ، رزقنا اللّه تعالى القرب منه و نعمة لقائه .

[ 354 ]