الفصل الثانى ، فى نسبة ايجاد العالم الى قدرته تعالى جملة و تفصيلا

و الاشارة الى كيفية ذلك في معرض مدحه تعالى و ذلك قوله :

أنشأ الخلق انشاء ، و ابتدأه ابتداء ، بلا رويّة أجالها ، و لا تجربة استفادها و لا حركة أحدثها ، و لا همامة نفس اضطرب فيها . أجال الأشياء لأوقاتها و لاءم بين مختلفاتها ، و غرّز غرائزها ، و ألزمها أشباحها عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها و انتهائها عارفا بقرائنها و أحنائها . ثمّ أنشأ سبحانه فتق الأجواء و شقّ الأرجاء ، و سكائك الهواء فأجرى فيها ماء متلاطما تيّاره ، متراكما زخّاره . حمله على متن الرّيح العاصفة ، و الزّعزع القاصفة فأمرها بردّه و سلّطها على شدّه ، و قرنها إلى حدّه الهواء من تحتها فتيق و الماء من فوقها دفيق ثمّ أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبّها و أدام مربّها ، و أعصف مجراها ، و أبعد منشأها ، فأمرها بتصفيق الماء الزّخّار ، و اثارة موج البحار ، فمخضته مخض السّقاء ، و عصفت به عصفها بالفضاء . تردّ أوّله إلى آخره ، و ساجيه إلى مائره حتّى عبّ عبابه . و رمى بالزّبد ركامه ،

فرفعه في هواء منفتق و جوّ منفهق ، فسوّى منه سبع سموات ، جعل سفلاهنّ موجا مكفوفا و عليا هنّ سقفا محفوظا ، و سمكا مرفوعا ، بغير عمد يدعمها ، و لا دسار ينظمها ثمّ زيّنها بزينة الكواكب ، و ضياء الثّواقب ، و أجرى فيها سراجا مستطيرا و قمرا منيرا : فى فلك دائر ،

و سقف سائر ، و رقيم مائر . ثمّ فتق ما بين السّموات العلا ، فملأهنّ أطوارا من ملائكته ،

منهم سجود لا يركعون ، و ركوع لا ينتصبون ، و صافّون لا يتزايلون ، و مسبّحون لا يسأمون .

[ 64 ]

لا يغشاهم نوم العيون ، و لا سهو العقول ، و لا فترة الأبدان ، و لا غفلة النّسيان . و منهم أمناء على وحيه ، و ألسنة إلى رسله ، و مختلفون بقضائه و أمره ، و منهم الحفظة لعباده ،

و السّدنة لأبواب جنانه و منهم الثّابتة في الأرضين السّفلى أقدامهم ، و المارقة من السّماء العليا أعناقهم . و الخارجة من الأقطار أركانهم ، و المناسبة لقوائم العرش أكتافهم . ناكسة دونه أبصارهم متلفّعون تحته بأجنحتهم ، مضروبة بينهم و بين من دونهم حجب العزّة ،

و أستار القدرة . لا يتوهّمون ربّهم بالتّصوير ، و لا يجرون عليه صفات المصنوعين ، و لا يحدّونه بالأماكن ، و لا يشيرون إليه بالنّظائر . أقول :

انشاؤه الخلق و ابتداؤه ايّاه ايجاده له على غير مثال سبق من غيره .

و قوله : بلا رويّة أجالها ، الى قوله : اضطرب فيها . تنزيه لعلمه تعالى و افعاله عن كيفيّات علوم الناس و شرائط افعالهم ، و الرويّة الفكر ، و اجالتها تقلّبها في طلب أصلح الاراء و الوجوه فيما يقصد من المطالب ، و التجربة مشاهدات من الانسان تتكرر فيستفيد عقله منها علما كليا ، و الهمامة الاهتمام بالأمر ، و برهان امتناع هذه الكيفيات على علومه تعالى و افعاله ، امّا الرويّة و التجربة فلكونها من خوّاص الانسان و بواسطة آلات جسمانية ممتنع عليه تعالى ، و كذلك الحركة من عوارض الجسمية .

و امّا الهمّة فلكونها عبارة عن الميل النفساني الحازم الى فعل الشى‏ء مع التألّم و الغمّ بسبب تصوّر فقده ، و ذلك في حق اللّه تعالى محال 1 .

و قوله : أجال الاشياء لأوقاتها ، اى : ادار كل ذي وقت الى وقته ، و ربطه به دون ما قبله و ما بعده من الاوقات ، و كتبه في لوحه المحفوظ و علمه المبين ، و اللام في لاوقاتها للتعليل اذ كان كل وقت يستحق بحسب علم اللّه و حكمته ان يكون فيه ما ليس في غيره ، و روى احال بالحاء ، اى : حوّل كلاّ الى وقته ، و روى اجّل أي : جعلها ذات آجال لا يتقدّم عليها و لا يتأخّر عنها .

و قوله : و لائم بين مختلفاتها : تنبيه على كمال قدرته تعالى ، و الملائمة الجمع و

-----------
( 1 ) في ش : ممتنع .

[ 65 ]

ذلك كجمعه في الامزجة بين العناصر الأربعة على اختلافها و تضادّها ، و بين الأرواح اللّطيفة و النّفوس المجرّدة ، و بين هذه الأبدان المظلمة الكثيفة على وفق حكمته و كمال قدرته .

و قوله : و غرز غرائزها ، اى : اثبتها فيها و ركزها ، و غريزة كل شى‏ء طبيعته و خلقه و ما جبل عليه من خاصة او لازم كالتعجّب و الضّحك للانسان ، و الشّجاعة للأسد ، و الجبن للأرنب ، و المكر للثعلب .

و قوله : و ألزمها اشباحها ، اى : اشخاصها اذ كانت كل طبيعة كلية انّما توجد في شخص ، و روى اسناخها ، و السنخ الأصل اى : جعلها لازمة لأصلها و هى طبائع الموجودات و ماهيّاتها ، و الضمير في قوله : و الزمها ، عائد الى الغرائز و يجوز ان يعود الى الاشياء ، و يكون المعنى انّه تعالى لما غرّز غرائز الاشياء ألزمها بعد كونها كلّية اشخاصها .

و قوله : عالما الى قوله : احنائها : فاحاطته بذلك علمه بما ينحلّ اليه ماهيّاتها من اجزائها و ينتهى به منها ، و هى حدودها ، أو بما ينتهى به و بحدّها من الأفعال و النّهايات 1 و قرائنها ما يقرن منها و يلائمها كالنفس للبدن ، و بعض الطبائع لبعض الاشياء دون بعض ، و احناؤها و نواحيها و جوانبهما ، و بيان ذلك تبيان : انّه تعالى عالم بكلّ معلوم من الكلّيات و الجزئيات و قد بيّن ذلك في العلم الالهي .

و قوله : ثمّ انشأ ، الى قوله : سبع سماوات :

كالتفصيل لخلق العالم و ابتدائه ، و الأجواء : جمع جوّ و هو الفضاء الواسع ، و الأرجاء جمع رجاء مقصور ، و هو : الناحية ، و السكائك : جمع سكاكة كذوابة و ذوائب و هو :

الفضاء ما بين السماء و الأرض و الهواء : المكان الخالي .

و اعلم انّ خلاصة ما يفهم من هذا الفصل انّه قد كان قبل وجود العالم فضاء واسع ،

هو الخلأ في عرف المتكلّمين فأنشأ اللّه تعالى فيه احياز اجسام العالم ، و فتقها اى : شقّها و اعدّها لخلق الأجسام و تكوينها فيها ، ثم خلق ماء متلاطما تيّاره اى : متردّدا معظمه ، و متراكما زخّاره اى : ممتل بعضه فوق بعض ، فأجازه فيها اى : اجراه ، و روى احاره‏اى :

-----------
( 1 ) في نسخة ش كذا : او بهما ينتهى به منها و هي حدودها او بهما وافق به و لائمها من الافعال .

[ 66 ]

اداره فيها ، و خلق له ريحا عاصفا ، زعزعا اى : شديدة تحمله و تحفظه من جميع جوانبه ،

متسلّطة على شدّه و ضبطه في مقارّه بمقتضى امره تعالى و قدرته ، و جعلها مقرونة الى حدّه بحيث لا يتوسّط بينهما جسم آخر ، فصار الماء من فوق الرّيح متدفّقا و الخلاء من تحته منفتقا واسعا ثم خلق سبحانه ريحا اخرى لتمويج ذلك الماء و تحريكه ، فأرسلها و اعتقم مهبّها الى شدّ هبوبها و ضبطه ، و أرسله بمقدار مخصوص على وفق الحكمة ، و روى واعقم مهبّها اى : جعل مجراها عقيما لا نبت به يعوقها عن الجريان او لشدّة جريانها ، ثم ادام مربّها الى اقامتها و ملازمتها لتحريك الماء و اعصف جريها و أبعد مبدأ نشوها بحيث لا يمكن الوقوف عليه و هو قدرته تعالى ، ثم أمرها بتصفيق ذلك الماء الزخار شديد الإمتلاء و إثارة امواجه ، فمخّضته كمخّض السقاء و عصفت به كعصفها تردّ اوله على آخره ، و ساجيه على مائره‏اى : ساكنه على متحرّكه ، فلما عبّ عبابه اي : علا معظمه و رمى بالزبد ركامه اى متراكمه ، رفع اللّه تعالى ذلك الزبد في هواء منفتق اى خلاء واسع ، و كوّن منه السّماوات العلى .

و اعلم انّه قد أشير الى مثل ذلك في القرآن الكريم كقوله تعالى ( ثُمَّ اسْتَوى‏ إِلَى السَّماءِ وَ هِىَ دُخانٌ ) 1 و المراد بخار الماء ، و ذهب الى مثله بعض الحكماء القدماء و لفظ القرآن أيضا موافق لاشارته عليه السلام لأنّ الزبد ايضا بخار الماء ، و هذا الظاهر لا ينافى كلام المتكلّمين في أنّ الاجسام مؤلّفة من الأجزاء الّتى لا تتجزّئ لجواز أن يخلق اللّه تعالى اوّل الاجسام من تلك الجواهر ثم يتكوّن باقى الأجسام عن الأجسام الأولى .

و امّا الحكماء فلما لم يكن الترتيب الذى اقتضته هذه الظّواهر في تكوين الاجسام موافقا لمقتضى ادلّتهم ، لتأخّر وجود العناصر عندهم عن وجود السماوات ، لا جرم احتاجوا الى تأويلها توفيقا بينها و بين رأيهم في دلك ، و قد نبّهنا في « الشرح الكبير » على ما يصلح ان يكون تأويلا على قواعدهم ، أو قريبا ممّا يصلح لذلك 2 .

و قوله : و جعل سفلاهنّ . . . الى قوله : بالنظاير . كالتفسير لقوله ، فسوّى لانّ التسوية عبارة عن التعديل و الوضع و الهيئة التى عليها

-----------
( 1 ) سورة فصلت 11

-----------
( 2 ) الشرح الكبير 142 ط ايران .

[ 67 ]

السماوات بما فيهنّ كما شرحه ، و استعار لفظ الموج للسماء ملاحظة للمشابهة بينهما فى العلوّ و اللون ، و مكفوفا ممنوعا من السقوط .

و قوله : و علياهنّ سقفا محفوظا ، و السقف : اسم للسماء ، و حفظه من الشياطين ،

قال ابن عباس : كانت الشياطين لا تحجب عن السماوات ، و كانوا يتخبّرون أخبارها ،

فلمّا ولد عيسى عليه السلام ، منعوا من ثلث سماوات ، فلما ولد محمّد عليه 1 السلام منعوا من السماوات كلّها ، فما منهم احد استرق السمع الاّرمي بشهاب .

فذلك معنى قوله تعالى ( و حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيْمٍ . الاّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ ) 2 الآية ، و سمك البيت : سقفه ، و قوله : بغير عمد ، تنبيه على عظمة قدرة اللّه تعالى ، و علوّها عن الحاجة في مثل هذا البنيان ، و قيامه الى عمد ، و تنزيه لها عن مماثلة القدر البشرية فى حاجتها الى ذلك فيما ينسب اليها ، و الدسار ، كالمسمار و نحوه ، و انّما سميت الشهب ثواقب لانّها يثقب بنورها الهواء ، و استعار لفظ السراج للشمس باعتبار إضائتها لهذا العالم كإضائة السّراج للبيت ، و المستطير : المنتشز ، و الرّقيم : من أسماء الفلك ، سمّى به لرقمه بالكواكب كالثوب المنقوش ، و اللوح المكتوب .

و اعلم أنّ مجموع هذه الإستعارات تستلزم تشبيه ملاحظة هذا العالم بأسره ببيت واحد في غاية الحسن و الزينة ، فالسماء و هو سقفه كقبّة خضراء نصبت على الأرض ، و حجب ذلك السقف عن مردة الشياطين كما يحمى عرف البيت من مردة اللصوص ، و زيّن بترصيع الكواكب الثاقبة فهو كسقف من زمرّد رصّع باللّؤلؤ و المرجان ، و جعل من جملتها كوكبين هما أعظم الكواكب جرما بحسب الرؤية و اكثرها إشراقا ، جعل أحدهما ضياء النهار ، و الآخر ضياء اللّيل ، ثم جعل ذلك سقوفا و طبقات أسكن في كلّ طبقة منها ملأ من ملائكته ، و خواصّ ملكه ، و جعل تلك السقوف متحرّكة بما فيها من الكواكب كما أشار اليه بقوله : فى فلك دائر ، الى قوله : مائر . . . و جعل حركاتها أسبابا معدّة لتلوّن الكائنات في هذا العالم ليكون أثره تعالى ابدع ، و حكمته في خلقته ابلغ ،

و الضمير في قوله : و زيّنها ، يعود الى السبع سماوات ، و ذلك لا ينافى قوله تعالى : ( و زَينّا

-----------
( 1 ) في ش : الصلاة و السلام

-----------
( 2 ) سورة الحجر 17 18 .

[ 68 ]

السَّماءَ الدُّنيا بِمصابيح ) 1 فانّ السماء الدّنيا و إن لم يكن فيها الاّ القمر فانّ سائر الكواكب أيضا زينة لها في الأوهام البشرية التى ورد اكثر الخطاب الشرعىّ بحسبها .

و قوله : ثمّ فتق . . . الى قوله : العلىّ ، اشار الى تسوية السماوات اشارة جميلة فكانّه قدّر اوّلا خلقها كرة واحدة كما عليه بعض المفسّرين ، كقوله تعالى : ( أ و لم ير الّذين كفروا انّ السموات و الأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ) 2 ثم أشار الى تفصيلها و تمييز بعضها من بعض بالفتق ، و اسكان كلّ واحدة منهنّ ملأ من ملائكته ، ثم الى تفصيل الملائكة و مراتبهم موافقة للقرآن الكريم ، و الأطوار : الحالات المختلفة و الأنواع المتباينة ، و ذكر منهم أنواعا و أشار بالسّجود و الرّكوع و الصّفّ و التّسبيح الى تفاوت مراتبهم في العبادة و الخضوع ، لانّ اللّه تعالى خصّ كلاّ منهم بمرتبة معيّنة من الكمال في العلم ، و القدرة ،

ليست لمن دونه ، و كلّ من كانت نعمة اللّه عليه أكثر كانت عبادته أعلى و طاعته أوفى .

ثمّ إنّ السجود و الركوع و الصّفّ و التسبيح عبادات متعارفة بين الناس متفاوتة فى استلزام كمال الخضوع و الخشوع ، و لا يمكن حملها في حقّ الملائكة على ظواهرها لاختصاص آلاتها ببعض الحيوان ، فتعيّن حملها على غير ظواهرها ، و الأشبه حمل المراتب المذكورة و تفاوتها على تفاوت كمالاتهم في الخضوع و الخشوع لكبرياء اللّه تعالى اطلاقا لاسم الملزوم على لازمه .

فالسجود ، مرتبة المقرّبين ، و الركوع مرتبة حملة العرش ، و الصّافون مرتبة الحافيّن من حول العرش ، قيل : انّهم يقفون صفوفا لاداء العبادة كما حكى القرآن الكريم عنهم : ( و انّا لنحن الصّافون ) و ( و انّا لنحن المسبّحون ) 3 و جاء في الخبر : انّ حول العرش سبعين ألف صفّ قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم ، رافعين أصواتهم بالتكبير و التهليل ، و من ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الايمان على الشمائل ما منهم أحد الاّ و هو يسبّح .

و المسبّحون ، يحتمل أن يكون هم الصافّون لما مرّ و الواو و إن اقتضت المغايرة الاّ انّهم من حيث انّهم صافّون غيرهم من حيث انّهم مسبّحون ، و يحتمل أن يريد نوعا آخر ، و امّا

-----------
( 1 ) سورة فصلت 12

-----------
( 2 ) سورة الانبياء 30

-----------
( 3 ) سورة الصافات 165 ، 166 .

[ 69 ]

عدم غشيان النوم و السهو و الغفلة و النسيان و فترة الأبدان لهم ، فانّ ذلك من لواحق الأجسام الحيوانية ، و الملائكة منزّهون 1 عنها فلزم سلبها عنهم .

و امّا الامناء على وحيه ، فيشبه أن يكونوا داخلين في الأقسام السابقة ، و انّما ذكر هم ثانيا باعتبار وصف الأمانة و اداء الرسالة ، و القضاء هنا الأمر المقضىّ ، يقال : هذا قضاء اللّه اى : مقضيه ، و امّا الحفظة فمنهم حفظة العباد كما قال تعالى : ( وَ يرسلُ عليكُم حَفَظَة ) 2 .

قال إبن عباس : انّ مع كل إنسان ملكين ، أحدهما على يمينه ، و الآخر على يساره ، فاذا تكلّم الإنسان بحسنة كتبها من على يمينه ، و اذا تكلّم بسيّئة قال من على اليمين لمن على اليسار : انتظر لعلّه يتوب منها ، فان لم يتب كتبت عليه .

و امّا السّدنة فهم خزّان الجنة ، و قوله : و منهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم ،

الى قوله : اكتفاهم . فاعلم انّ الأوصاف هذه وردت في صفة الملائكة الحاملين للعرش في كثير من الأخبار ، فيشبه ان يكونوا هم المقصودون بها هاهنا ، روى عن ميسرة 3 انّه قال : أرجلهم فى الأرض السفلى ، و رؤسهم قد خرقت العرش و هم خشوع لا يرفعون طرفهم ، و هم أشدّ خوفا من أهل السّماء السابعة ، و اهل السماء السابعة أشدّ خوفا من أهل السماء السادسة ،

و هكذا إلى سماء الدّنيا .

و عن ابن عباس قال : قال رسول اللّه صلّى اللّه و آله و سلم : لما خلق اللّه تعالى حملة العرش ، قال لهم : احملوا عرشي فلم يطيقوا ، فقال لهم : قولوا : لا حول و لا قوّة الاّ باللّه ،

فلما قالوا ذلك استقلّ فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى فلم تستقّر فكتب في قدم كلّ ملك منهم اسما من أسمائه فاستقرّت أقدامهم .

و قوله : المناسبة لقوائم العرش اكتافهم ، يريد انّهم مشبّهون و مناسبون لقوائم

-----------
( 1 ) في نسخة ش : متنزهون

-----------
( 2 ) سورة الانعام 61 . و في نسخة : له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من امر اللّه . و منهم حفظة على العباد كما قال تعالى . .

-----------
( 3 ) ابو جميلة ميسرة بن يعقوب الطهوى الكوفى . . . صاحب راية على بن أبي طالب عليه السلام .

[ 70 ]

العرش في استقرارهم و ثباتهم عن التزايل من تحته أبدا الى ما شاء اللّه ، و لفظ الأكتاف مجاز في القوى و القدر التى حملت الملائكة جرم العرش ، و شبهها بقوائم العرش المعهود ،

و وجه الشبه إستقلالها بحمله كالقوائم ، و الضّميران في أبصارهم و أجنحتهم راجعان الى العرش ، و في الخبر عن وهب بن منبّه 1 قال : انّ لكلّ ملك من حملة العرش و من حوله أربعة اجنحة امّا جناحان فعلى وجهه مخافة أن ينظر الى العرش فيصعق ، و امّا جناحان فيهفو بهما ليس لهم كلام الاّ التسبيح و التحميد .

و كنّى عليه السلام ، بنكّس أبصارهم : عن كمال خشيتهم للّه تعالى و اعترافهم بقصور أبصار عقولهم عن ادراك ماوراء كمالاتهم المقدّرة لهم و ضعفها عمّا لا يحتمله من أنوار اللّه و عظمته تعالى ، و انّ شعاع أبصار ادراكهم منته واقف دون حجب عزّته .

و يحتمل أن يريد بلفظ الأجنحة قواهم و كمالاتهم التى يطيرون بها في بيداء جلال اللّه استعارة ، و زيادة الاجنحة : كناية عن تفاوت مراتبهم في الكمال ، و لمّا كان الطائر عند قبض جناحه كالمتلّفع اى : الملتحف به ، احتمل ان يكون وصف التلفّع لهم إستعارة لقصور قواهم ، و قدرتهم المشبّهة للأجنحة و قبضها عن التعلّق بمعلومات اللّه و مقدوراته . و قوله : مضروبة . . . الى قوله : القدرة ، اشارة الى قصور القوى البشرية عن إدراكهم عن الجسّمية و الجهة و قربهم من عزّة مبدعهم الاوّل . و قوله : و لا يتوهّمون ربّهم بالتصوير : تنزيه لهم عن الادراكات الوهميّة و الخيالية لمبدعهم عزّ سلطانه ، اذ الوهم انّما يتعلّق بالمحسوسات ذوات المقادير و الأحياز المنزّه قدسه تعالى عنها ، و هم مبرّؤن عن الأوهام و الخيالات البشرية ، و لذلك قوله : و لا يجرون عليه صفات المصنوعين الى آخره . لانّ كل ذلك بقياس و همىّ و محاكاة خيالية له بمصنوعاته المحتاجة الى الامكنة و لها نظائر و اشباه ، و هم مبرّؤن عن الوهم و الخيال ، و باللّه التوفيق .