مستدرك نهج البلاغة

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي لا تدركه المشاعر و الآراء ، ولا تحتويه الجهات و الأرجاء ، ولا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء ، و الصلاة و السلام على اشرف الأنبياء ، و أفصح من نطق بالضاد من العرب العرْبَاء ، و آله معادن الحكمة وفصل القضاء ، ما أشرق الصبح و أضاء. [ أما بعد ] فإن كتاب نهج البلاغة أو ما اختاره (السيد الشريف العلامة أبو الحسن محمد الرضي) "رضي الله عنه" من كلام مولانا أمير المؤمنين ، و إمام الموحدين ، باب مدينة العلم ، علي بن أبي طالب "ع"من اعظم الكتب الإسلامية شأناً ، و أرفعها قدراً ، و أجمعها محاسن ، و أعلاها منازل ، نور لمن استضاء به ، ونجاة لمن تمسك بعراه ، وبرهان لمن اعتمده ، ولب لمن تدبره أقواله فصل ، و أحكامه عدل ، حاجة العالم و المتعلم ، وبغية الراغب و الزاهد ،وبلغة السائس و المَسوس ، ومنية المحارب و المسالم ، و الجندي و القائد ، وفيه من الكلام في التوحيد و العدل ، ومكارم الشيم ، ومحاسن الأخلاق ، و الترغيب و الترهيب ، و الوعظ و التحذير ، وحقوق الراعي و الرعية ، و أصول المدنية الحقة ، ما يَنْقَع الغُلة ويزيل العلة ، لم تعرف[1] المباحث الكلامية إلا منه ، ولم تكن إلا عيالاً عليه . فهو قدوة فطاحلها[2]، و إمام أفضلها . 

وقد ظهر فضل مؤلفه ( السيد الشريف ) بحسن الاختيار و التبويب ، أبوابا لا يشذ عنها ما يجده المتتبع ، ويظفر به المستقرئ من كلام سيدنا أمير المؤمنين "ع"على اختلاف ضروبه وتنوع صنوفه .

و إن هذا الكتاب [ نهج البلاغة ] وإن بلغ ما بلغ من العناية و التقدير لدى أولي الإيمان و الآداب و العرفان إلا أن ذلك دون حقه ، لأنه بعد كلام الله تعالى و كلام رسوله "ص" هو الكلام الذي لا يلحق تياره ، ولا يُشق غباره ، و الكلام الذي لا يطمع بمثله طامع ، ولا يؤمّل إدراكه طالب ، وإن للسيد الشريف اليد البيضاء في التتبع و الاستقراء و الجمع و التأليف، و الاقتصار و الاختيار ، فإن المحيط بكتابه إذا وقف على ما يصلح لأن يكون من مصادره ومداركه ، يعلم ما عانه السيد في الجمع و التأليف ، و الاقتصار و الاختيار ، و إثبات الأفصح فالأفصح ، و الأبلغ فالأبلغ فإن كلام أمير المؤمنين "ع"يرويه الشارد و الوارد ، بعبارات مختلفة، و أساليب متباينة ، فيعمد السيد – وهو النَيْقَد الخِرّيت – إلى ما هو الأصح في الإسناد ، و الأجدر في الاعتماد فيثبت أفصحه لفظاً وأبلغه معنى ، و أجلّه حكمة ، و أحسنه عَظة ، إذ هو الأليق الأحرى بأن ينسب إلى إمام الفصحاء ، وسيد الخطباء .

وقد يجيء فيما يختاره من فصول غير ملتئمة ، ومحاسن جمل غير منتظمة ، لأنه يورد الغُرَر واللُّمَع ، ولا يقصد التتالي و النسق ، كما صرح بهذا في خطبة كتابه ( نهج البلاغة ) . . .

وربما جمع ما أورده في خطبة واحدة وكلام مفرد ، من روايات شتى ، وكلمات متفرقة ، فينتقده من لا خِبرَةَ له بالحال ، ولا وقوف له على الغِرَار[3]الذي جرى عليه ، أو يرتاب في النسبة لدى خطبة يراها في أحد كتب السير و التاريخ غير مطابقة للمرويّ منها في النهج ، و العذر عنه هو ما ذكرناه ، ولا لوم عليه بعد أن صرح بخطبته و أبان منهاجه .

وقد كنت فيما سلف من غابر الأيام عازماً على جمع ما تيسر لي مما لم يروه السيد في نهجه من المختار من كلام أمير المؤمنين "ع"، وقد أطمعني في ذلك وشجعني عليه قول السيد الشريف في خطبة النهج : ( ولا ادعي مع ذلك أني أحيط بأقطار جميع كلامه "ع"، حتى لا يشذ منه شاذ ، ولا يندّ منه نادّ بل لا ابعد أن يكون القاصي عني فوق الواقع إليّ ، و الحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي ) . وقوله في آخر كتاب النهج : ( وتقرر العزم كما شرطنا أولاً على تفضيل أوراق من البياض ، في آخر كل باب من الأبواب ، ليكون لإقتناص الشارد ، و استلحاق الوارد ، وما عسى أن يظهر لنا بعد الغموض ، ويقع إلينا بعد الشذوذ ) . وقول بعض أهل اعلم : ( إن كلامه "ع"كثير ، حوى كتاب نهج البلاغة نبذة شافية منه ، ولكنها بالنسبة إلى كلامه "ع"وخطبه اقل من سدس . وخطبته الافتخارية المسماة بالعجماء ، عجزت الفصحاء عن حل ألفاظها ، و أقروا بفصاحتها وبلاغتها ؛ و إلى هذا الوقت أكثرها مخفية وقول الشيخ أبي الفتح الآمدي في خطبة كتابه ( غر ر الحكم ودرر الكلم ) الذي جمعه من كلام أمير المؤمنين "ع"على وضع خاص ( جمعت يسيراً من قصير حكمه وقليلاً من خطير كلمه ، تخرس البلغاء عن مساجلته ، وتبلس[4] الحكماء عن مشاكلته ". وما أنا في ذلك علم الله إلا كالمغترف في البحر بكفه،والمعترف بالتقصير وإن بالغ في وصفه ، وكيف لا وهو الشارب من الينبوع النبوي ، الجاري بين جنبيه العلم اللاهوتي إذ يقول : وقوله الحق ، وكلامه الصدق ،على ما أدّته إلينا الأئمة النقلة ( ان بين جنبيّ لعلماً جماً ، لو اصبتُ لي حملة ) و أقوال غير هؤلاء من الأفاضل المهرة ، مع ما وقفنا عليه من خطب وحكم في كتب معتمدة و قِطَع موثّقة ، ليس لها في النهج عين ولا اثر .

 ولا تعجب من كثرة ما نسب إليه "ع"من نوابغ الكلم وبوالغ الحكم و الخطب و الكتب، فإنها بجنب ما منحه الله تعالى من الإحاطة بالعلوم و المعارف و الكمالات ، و الفصاحة و البلاغة ، ليست إلا كغَرفة من بحر أو غيض من فيض .

ولقد كانت أيام خلافته أيام فتن وحروب ولدتها الأثئار و الأدخال ، و التهالك على الحطام البائد ، ووجود السبيل للانتقام و التشفي ممن يبطنُ الكفر و النفاق ، وذلك مما يستدعي الإكثار من الوعظ و الإرشاد ، وبث النصائح و الكتب ، و إزالة الشبه و التمويه ، و الاستنهاض و الاستنفار ، ومما يستوجب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إتمام الحجة و إصلاح ذات البين ، وهو "ع"ممن كان ولا يزال دائباً في ذلك ، يوضح مناهج الحق ويهتك حجب الظلام بأقواله و أفعاله وكتبه ورُسله ولسانه وسنانه ، ولم يكن كغيره ممن يلهيه نعيمُ الدنيا ، وتهيّمه شهواتها وحطامها ، كما شهد له بذلك أعداؤه.

و أما ما انتشر عنه ورواه الثقاة الأثباتُ ، من الأدعية و الأذكار ، وبيان الأحكام والوقائع ، فحدثّ عن فصاحته ، وبديع أساليبه ، ولا حرج . ولعمري إن ذلك لو تدّبره المتدبر البصير ، لكان له أقوى حجة وبرهان على أن من صدرت منه ممن لا يُساجل ولا يبارى ولا يجدر أن يقاس به سواه ، وقد أعددت لما عزمتُ على جمعه و اختياره من المصادر ما أتوصل به إلى المرام ، وبعد أن مثُل من ذلك شيء يسير ، أحجمت انصرفت إذ لم أجدني أهلاً للجري في تلك الحلبة و العَدْوِ في ذلك المضمار .

تلك الحلبة التي انفرد بها مؤلف النهج عن غيره من أولي العلم و الفضيلة الذين جمعوا ما وقفوا عليه من الكلام المنسوب لأمير المؤمنين "ع"من غير اختيار ولا انتقاء ولا تبويب ولا ترتيب ،وبقي ما نجز من ذلك برهة طويلة في زوايا الخمول ، وخبايا الإهمال ، ولكن الإلحاح عليّ في إتمام ذلك المشروع يشتد ، و الطلب يتضاعف من جيرتي و أهلي ومعارفي و أنا طاوٍ عن ذلك كشحاً ، أترقب وأؤمل أن يقوم بهذا الأمر من أفاضل العصر من هو اجدر به و أولى ، ولما لم اظفر بذلك في عصري هذا ، وهو عصر بقي فيه خلف سلف ترجى منه العناية بمثل هذه الأمور فكيف لو جرى الدهر بأهله على ما اسمع و أرى . استخرت الله تعالى وجددت عزيمتي على ما أضربتُ عنه حسب جهدي ومبلغ طاقتي مستعيناً بالله تعالى متوكلاً عليه مستمداً من روحانية من لُذت بجواره ، و اعتصمت بولائه ، ناهجاً نهج السيد الشريف ، جارياً عن سُننه ، لأنه قدوتي في هذا المشروع الجليل ، و أسوتي في هذا العمل الصالح ، وعذري لو وجد ما أثبته مخالفاً لما يوجد في بعض المصادر هو عذر السيد من اختلاف الروايات أو الاقتصار على الأفصح فالأفصح من الفقرات .

وقد توّخينا أن لا نذكر في مؤلفنا هذا شيئاً مما رواه السيد في كتابه إلا أن يكون ذلك سهواً أو نسياناً لا قصداً و اعتماداً . نعم ، ربما نروي الكلام المختار في رواية النهج إذا وجدناه في رواية أخرى موضوعاً غير وضعه في الأولى إما بزيادة مختارة أو لفظ حسن العبارة أو لغير ذلك من الأمور التي تقضي بالتعدد وتوجب التغاير ، استظهاراً في الجمع و الاختيار وغيرةً على عقائل الكلام ، وربما يوجد في بعض ما نورده من الخُطب فقرات مروية في النهج برواية أخرى ، ولا غرو ، فان تكرر الفقرات في الخطب كتكرر الآيات في السور : هو المسك ما كَّررْتَه يتضوعُ .

ولا أدّعي الإحاطة بجميع ما لم يذكره السيد الشريف من كلامه "ع"بل لعل الأقرب أن ما فاتنا منه أضعاف ما وقفنا عليه ، فان مظانه ومصادره جمةٌ كثيرةٌ لا يمكن الإحاطة بها إلا بعد زمان طويل ، وما التوفيق و التسديد إلا من الله ، وهو حسبنا ونعم الوكيل .

وكتابنا هذا ككتاب النهج يدور على أقطاب ثلاثة : ( أولها ) الخطب و الأوامر، ( وثانيها ) :الكتب و الوصايا و ( ثالثها ) : الحكم و الآداب .

الباب الأول: المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحصورة

[ باب المختار من خطب أمير المؤمنين "ع"و أوامره ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحصورة و المواقف المذكورة و الخطوب الواردة ويلحق بذلك المختار من ادعيته و أذكاره ].

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام خطبها في المدينة المنورة

الحمدُ للهَ الَّذي مَنَعَ الأوهامَ أنْ تَنالَ وُجُدَهُ[5]   وحَجَبَ العقولَ أنْ تتخيلَ ذاتَهُ لامتناعِها من الشَّبهِ و المُشاكِلِ ، وَ النَظيرِ و الممُاثِلِ هو الذي لا يَتفاوت في ذاتِهِ ، ولا يتبّعضُ بتجزِئة العدد في كمالهِ . فارَقَ الأشياءَ لا باختلافِ الأماكِنِ ، وتمكَّنَ منها لا على جهةِ الحُلول و الممُازَجَة ، وَعَلِمَها لا بأداةٍ ، إن قيل : كان ، فعلى تأويل أزَليّةِ الوجود . وإن قيلَ : لم يزل ، فعلى تأويل نفي العدم .

نحمدَهُ بالحمدِ الذي ارتضاهُ من خلقِهِ ، و أوجَبَ قَبُولَه على نفسِهِ ، و اشهدُ أن لا اله إلا الله وحدَه لا شرِيكَ لهُ و اشهَدُ أن مُحمداً عبدُهُ ورسوله شهادتان ترفعان القَولَ وتُضاعِفانِ العَمَلَ ، خَفَّ ميزانٌ ترفعان منه وَثَقُلَ مِيزانٌ تُوضعانِ فيه ، بهما الفوز بالجنةِ و النجاةُ مِنَ النار،وَ الجوازُ على الصراط.

أيُّها الناسُ ! لا شرفَ أعلى مِنَ الإسلامِ ، ولا كَرَمَ أعزُّ من التقوى ، ولا معْقِلَ أحرَزُ من الوَرَعِ ، ولا شَفيعَ أنجحُ من التوبةِ ، و لباسَ أجَملُ مِنَ العافيةِ ، ولا وِقايةَ أمنعُ من السلامَةِ ، ولا مالَ أذهبُ بالفاقةِ من الرضا و القناعَةِ ، وَمن اقتَصَرَ على بُلغَةِ الكَفافِ فقد انْتَظَمَ الراحَةَ ، وتَبَوِّأَ خفضَ الدَّعة ، ألا وإنَّ الرغَّبةَ مِفتاحُ التعبِ ، و الاحتكارَ مَطيَّةُ النَّصَبِ ،و الحَسَدُ آفةُ الدينِ؛ و الحرصَ داعٍ للتَقَحُّمِ في الذنوب ، و الشَّرَةَ جامعُ لمساوئ العيوبِ ، وربَّ طَمَعٍ خائبٍ ، و أملٍ كاذبٍ ، ورجاءٍ يُؤدَّي إلى الحرمانِ ، وتجارَة تَؤوُلُ إلى الخُسرانِ. ومن تورَّط في الأمورِ غيرَ ناظرٍ في العواقِبِ ، فقد تعرَّض لمفظعات النوائبِ .

 أيُّها الناسُ ! لا كنزَ انفعُ من العلم ، ولا عزَّ ارفع من الحلمِ ، ولا حسبَ ابلغ من الأدب ،ولا نسبَ أوضعُ من الغضب ، ولا جمالَ أجملُ من العقل ، ولا قرِينَ شرُّ من الجهلِ ، ولا سَوأةَ أسوأُ منَ الكَذِب ، ولا حافظَ احفظُ من الصمتِ ، ولا غائبَ اقربُ من الموت . لا ينجو منهُ غنيُّ بماله ، ولا فقيرٌ بإقلالِهِ .

أيُّها الناسُ ! مَن نظرَ في عيبِ نفسِهِ شُغِل عن عَيب غيرهِ ، ومن سَلَّ سيفَ البغي قُتِلَ به ، ومن حَفَرَ بئراً وقع فيها ، ومن هَتَك حِجابَ غَيره انكشفت عوراتُ بيتِهِ ، ومن نسي زَلـلَهُ استَعظَمَ زَلَلَ غَيرِهِ ، ومن أُعجِبَ برأيه ضلَّ ، ومن استَغنى بعقلِهِ زَلّ ، ومن تكبَّر على الناسِ ذَلّ ، ومن خالط العلماء وُقِّر ، ومن خالط الأنذالَ حُقِّر ، ومن حَمّلَ نفسَه ما لا يطيق عجز ، ومن لم يملك لسانَه يندَم ، ومن لا يتحلّم لا يَحلَم .

أيُّها الناسُ ! من قرَّ ذَلَّ ، ومن جاد ساد ، ومن كثُرَ مْالهُ رَؤُس ، ومن كثُر حلمهُ نُبل ، ومن فكَّر في ذاتِ اللهِ تزندق ، ومن كثُر مزاحُهُ استُخِفَّ به ؛ ومن كثُر ضحكُه ذهَبَتْ هيبتُه . و افضلُ الفَعَالِ صيانةُ العرض بالمالِ . وفي التجارُب علمٌ مُستَأنفٌ ، و الاعتبارُ يقودُ إلى الرشاد ؛ وفي تقلُبِ الأحوالِ علمُ جواهر الرجال ،و الأيامُ تُوضِحُ السرائرَ الكامِنةَ ، وكَفاكَ أدباً لِنَفسِكَ ما تكرَهُهُ من غيركَ ، ومَنِ استَقْبَلَ وجوهَ الآراءِ ، عَرَفَ مواقِعَ الخطأ.

و التدبيرُ قَبلَ العَمَل يُؤمِّنُكَ من النَدَم. و اشرفُ الغِنى تركُ المُنى . و الصبر جُنَّةٌ من الفاقَةِ ، و الحرْصُ علامةُ الفقر ، و البخلُ جلبابُ المسكَنة ، و المودَّةُ قرابةٌ مستَفادة، ووَصُولٌ مُعدمٌ خيرٌ من جافٍ مُكثِرٌ ، وعليكَ لأخيك المؤمِن مثلُ الذي لك عليهِ ، ومن ضاق خُلُقُه ، ملَّهُ أهلُهُ ، وفي سَعَة الأخلاقِ كُنوزُ الأرزاق ، ومن عرَف الأيامَ لم يغفَل عن الاستِعدادِ ، ولا تُنالُ نعمةٌ إلا بزوالِ أُخرى ، ولكلِ ذي رمقٍ قوتٌ، ولكلِ حبةٍ آكلٌ ، و أنتَ قوتُ الموت .

أيُّها الناسُ ! كفر النعمةِ لؤمٌ ، وصحبة الجاهلِ شؤمٌ ، وإنَّ من الكرمِ لينَ الكلام، و إياكم و الخديَعة فإنها من خُلقِ اللئام ، ليسَ كلُ طالبِ يُصيب ، ولا كل غائبٍ يَؤُوبُ ، وربّ بعيدٍ هو اقرَبُ من قريب ، سلْ عن الرفيقِ قبل الطريقِ ، وعن الجارِ قبل الدارِ . و استر عورةَ أخيكَ ، لما يعلمُهُ فيك ، و اغتفِرْ زَلَةَ صديقِكَ ليوم يركَبُكَ فيه عَدُوُّك ، ومَن لم يعرفِ الخيرَ من الشرّ فهو بمنزلة البَهيمة ، وما شرٌّ بشرٍّ بعدَه الجَّنة . ولا خيرٌ بخيرٍ بعده النار [6]، وكلُّ نعيمٍ دون الجنةِ مُحتقر ، وكل بلاءٍ دون النارِ عافية. وعند تصحِيحِ الضمائر تبدو الكبائر .وتصفيةُ العمل اشدُّ من العمل [7]، وتخليصُ النية من الفساد اشدُّ على العاملين من طولِ الجهاد ، هيهات !: لولا التُّقى لكُنتُ أدهى العرب !

ومنها

عليكم بتقوى اللهِ في الغيبِ و الشهادة ، وبكلمة الحق في الرضا و الغضب ، وبالقصد في الغنى و الفقر ، وبالعدلِ على الصديقِ و العدّو ، وبالعمل في النشاطِ و الكسل ، وبالرضا في الشدةِ و الرخاء ، ومن تركَ الشهوات كان حرّاً[8]، ومن اكثر ذكر الموتِ رضي باليسير . و إن الغفلة ظلمة ، و الجهالَةَ ضلالةٌ . و السعيد من وُعظَ بغيرهِ . و الأدبُ خيرُ ميراثٍ ، وحُسنُ الخُلقِ خيرُ قَرين ، و العفافُ زِينة الفقرِ ، و الشكرُ زينةُ الغنى ، و الصبرُ من كنوزِ الإيمان ، و الطَّمأنينةُ قبل الخِبرةِ ضدُّ الحزم ، و إعجابُ المرءِ بنفسهِ دليلُ على ضعفِ عقلهِ ، وبئس الزاد إلى المعاد : العُدوانُ على العِباد . طُوبى لمن اخلصَ للهِ علَمه وعمله ، وأخْذَه وتركَه ، وكلامَه وصمْتَه ، وقولَه وفعلَه ، ولا يكون المسلمُ مسلماً حتى يكون ورِعاً . ولنَ يكون ورعاً حتى يَكونَ زاهداً، ولن يكونَ زاهداً حتى يكون حازماً ، ولن يكونَ حازماً حتى يكونَ عاقلاً ، وما العاقِلُ إلا من عَقَلَ عن اللهِ[9] وعمِل للدارِ الآخرةِ .

أقول : روى السيد الشريف بعض فقرات من هذه الخطبة في الباب الثالث من كتاب النهج ، ولما كان ما رواه فه مخالفاً لما رويناه هنا عن غيره في الكيفية و الوضع أثبتناه هنا فيما اخترناه ، وربما جاء فيما نثبته من الخطب و الكلمات ما يكون لأن الرواة عنه "ع"كثيرون و المروي عنه اكثر بكثير ، وربما روى الرواة المتعدِّدون الخطبة الواحدة بكيفيات متعددة .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام

الحمد للهِ الواحد الأحَدِ ، الفرِد الصَّمَد . الذي لا من شيءٍ كان ولا من شيءٍ خَلَقَ إلا وهو خاضعٌ له : قدرةٌ بانَ بها من الأشياء ، و بانت الأشياء بها منه ، فليسَت له صفة تُنالُ ، ولا حدُّ تُضرَبُ فيهِ الأمثالُ .حارَت دوَن ملكوته مذاهب التفكير ، و انقطعت دون علمه جوامع التفسير ، وحالت دون غيبِه المكنونِ حجبٌ من الغُيوب ، تاهتْ في أدانيها طامحاتُ العُقول . فتبارك اللهُ الذي لا يبلُغُهُ بُعدُ الهِمم ، ولا يَنالُهُ غوصُ الفِطن . وتعالى الذي ليس لهُ نعتٌ محدودٌ ولا وقتٌ ممدودٌ ولا اجلٌ معدودٌ . وسبحانَ الذي ليس لهُ أولٌ يُبْتَدئ ولا غاية إليها يُنتهى ، هو كما وصفَ نَفسَه ولا يبلُغُ الواصفونَ نَعتَه . حدَّ الأشياء كلَّها بعلمِهِ ولم يحلُل فيها فيقال :هو فيها كائن ، ولم يَنْأَ عنها فيقال : هو منها بائِن . أحاط بها علمُهُ و أتقَنها صُنعُهُ وذللَّها أمرهُ و أحصاها حِفظُه. لم تعزُب عنه غُيوب الهوا ، ولا مكنونُ ظُلَمِ الدُّجى . فهو بكل شيءٍ منها محيطٌ ، ولكل شيءٍ منها حافظٌ ورقيبٌ ، هو الذي لم تغيّرهُ صروفُ الزمان . ولا يَتَكَأَدُهُ صُنعُ شيءٍ كان ، ابتدَعَ ما خَلَق بلا مثالٍ سبق ولا تهبٍ ولا نصبٍ ولا عناءٍ ولا لَغَب. أحاطَ بالأشياءِ قبلَ كونها عِلماً ، ولم يزدد بتجربتها خُبراً . لم يكوّنها لشدةِ سُلطانٍ ، ولا خوفٍ من زوالٍ ولا نقصان ولا استعانة على ضدٍّ مناوٍ ولا ندٍّ مُكاثرٍ ، لكنْ خَلائقُ مربوبون وعبادٌ داخرون ، فسبحانَ الذي لم يُؤدهُ خلق ما ابتدأ . ولا تدبيرُ ما برأ . ولا من عجز بما خَلق اكتفى . علم ما خلق ، وخلق ما أراد ، لا بالتفكير في حادث أصاب ما خلق ، ولا دخلت عليه شبهة فيما أراد ، لكن علمٌ محكم و أمرٌ مبرمٌ . توحَّد فيه بالربوبية وخَصَّ نفسَهُ بالوحدانية . فلبسَ العزَّ و الكبرياء واستخلص المجدَ و الثناء وتعالى عن اتخاذ الأبناء وتقدَّسَ عن مُلامَسة النساء . وعزَّ عن محاورة الشُركاء . ليس له فيما خلق ندٌّ ولا له فيما مَلَك ضدٌّ لم يزل ولا يزال قبلَ بدءِ الدهورِ وبعدَ تصرف الأمور .

ومنها على رواية أخرى

ثم إن الله تبارك وتعالى خَلَقَ الخلقَ بعلمه و اختار من خيار صفوِتِه أُمناءَ وحيه وخَزَنةً على أمره إليهم تَنتهي رُسُلُهُ وعليهم يَتَنَزّلُ وَحيُه استودعهم في خير مستودع و أقرّهم في خير مُستقر ، تناسَخُهُم أكارِمُ الأصلابِ إلى مطّهرات الأرحام ، كلما مضى منهم سَلفٌ انبعث منهم لأمره خلف . حتى انتهت نبُوّةُ اللهِ و أفضتْ كرامتهُ إلى محمد"ص" فأخرَجه من افضل المعادن مْحِتدا ، و اكرم المغارسِ منَبتاً ، و امنعها ذرْوة واعزّها أُرُومَة ، من الشجرة التي خلق منها أنبياءه و انتخب أُمناءَ ه الطيبة[10]  العود ، الباسِقة الفروع ، الناضرةِ الغصون ، اليانعة الثمار ، الكريمة المجتنى ، في كرمٍ غُرست ، وفي حَرَم أنبتتْ وفيه بَسَقَتْ و أثمرتْ وعزّت به و امتنعت ، أكرمه اللهُ بالروح الأمين و النور المبين وسخرّ له البُراق وصافحته الملائكة و أرعب به الأبالسة وهدَمَ به الأصنام  و الآلهة ، شهابٌ سطعَ نورُهُ ، فاستضاءَت به العباد و استنارت به البلاد سنتُه الرُشد وسيرتُه العدل وحكمه الحق ، صدع بما أُمِر وبلَّغَ ما حُمِّل حتى افصح بالتوحيد دعوتَه و اظهر في الخلق كلمته وخلصت له الوحدانية وصفت له الربوبية . اللهم فخصَّه بالذكر المحمود و الحوض المورود و آته الوسيلةَ و الفضيلةَ و احشرنا في زمرته غيرَ خَزايا ولا ناكثين و اجمعْ بيننا وبينه في ظل العيشِ وبرد الرَوح وقُرة الأعين ، ونَضْرَة السرور وبهجة النعيم ، فإنا نشهد أنه بلَّغ الرسالة و أدى الأمانة و اجتهد للأمة وجاهد في سبيلك ولم يَخَفْ لومة لائم في دينك وعَبَدَك حتى آتاه اليقين .                                          

    ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام في مسجد الكوفة يوم الجمعة

الحمد لله الذي لا من شيء كان ، ولا من شيء كوّن ما قد كان ، مُستَشْهَد بحدوث الأشياء على أزليَّته وبما وسمها به من العجز على قدرته ، وبما اضطرها إليه من الفناء على دوامه ، لم يَخْلُ منه مكان فيُدركَ بأيْنِيّه ، ولا له شبه ولا مثال فيوصفَ بكيفيه ، ولم يغب عن شيء فيُنعت بحيثية ، مباين لجمع ما احدث من الصفات ، ممتنع عن الإدراك بما ابتدع من تصريف الذوات ، خارج بالكبرياء و العظمة من جميع تصرّف الحالات ، مُحرّمٌ على بوارع الفطن تحديدهُ وعلى غوائص الفِكَر تصويره ، لا تحويه الأماكن ولا تدركه المقادير ولا تقطعه المقاييس ، ممتنع عن الأوهام أن تكتنهه وعن الأفهام أن تستغرقه وعن الأذهان أن تمثّله . قد يئست من الإحاطة به طوامح العقول ونضت عن الإشارة إليه بالإكتناه بحار العلوم ، واحدٌ لا من عدد ودائم لا بأمد وقائم لا بعَمَد ، ليس بجنس فتعادله الأجناس ولا بشبح فتضارعه الأشباح ، مقتدر بالآلاء ممتنع بالكبرياء متملك على الأشياء لا دهر يُخِلقُه [11] ولا وصف يحيط به. خضعت له الصعاب و أذعنت له رواصن الأسباب ، مستشهد بعجز الأشياء على قدرته وبزوالها على بقائه وليس لها خروج عن إحاطته بها ، ولا احتجاب عن إحصائه لها ولا امتناع من قدرته عليها ، كفى بإتقان الصنع له آية وبإحكام الصنعة لها عبرة ، ليس له مثل مضروب ولا شيء عنه محجوب تعالى عن الأمثال المضروبة و الصفات المخلوقة علواً كبيراً.

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام

خلق الدنيا للفناء و الآخرة للبقاء لا يجور في حكمه إذا قضى ، ولا يُصْرَف ما أمضى ولا ينسِيءُ ولا يُعَجِّل ولا يُسأل عمّا يفعل ، قريب ممن دعاه مجيب لمن ناداه ، برُّ بمن لجأ إلى ظله  و اعتصم بحبله ، حليم عمن ألحَدَ في آياته ودان بالجحود في حالاته. متعالٍ عن الأنداد ، متفرد بالمنة على العباد محتجب بالعزة و الملكوت متوحد بالقدرة و الجبروت لا تراه العيون ولا تعزب عنه حركة ولا سكون ، ليس له ضد ولا نِدّ ولا عدل ولا مثل ، لا يعجزه من طلب ، ولا يسبقه [12] من هرب ، خلق الخلق على غير اصل و ابتدأهم على غير مِثال ورفع السما بغير عَمَد ، وبسط الأرض على الهواء بغير أركان، فمَّهدها وفرشها ، و اخرج منها ماءً فجاجا، ونباتاً رَجراجاً ، فسبّحه نباتُها ، وجرتْ بأمره مياهُها ، فسبحانه ما أعظمَ شأْنَه و احسن تقديرَه و انفذ أمرَه .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام تعرف بالديباج

( روى السيد الشريف في النهج من أولها و آخرها جملاً )

عبادَ اللهِ ، إن انصحَ الناس لنفسه أطوعُهم لربه ، و أغشهم لنفسه أعصاهم له ، فان من يطع الله يأمنْ ، ومن يعصِهِ يخبْ ويندم ، سلوا الله اليقين ، و ارغبوا إليه في العافية فإنها اعظمُ النعمة و ارغبوا إليه في التوفيق ، فانه أسٌ وثيق و اعلموا أن افضلَ أمور الخلق عزائمها ، وشرَّها محدثاتُها ، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ، و المغبون من غُبِنَ دِينه ، و المغبوط من سلم له دينه وحَسُنَ يقينهُ ، و السعيد من وُعِظَ بغيره ، و الشقي من انخدع لهواه . اليسيرُ من الرياء شركٌ و الهوى يقود إلى النارِ . ومحادثةُ النساءِ تدعو إلى البلاء وتزيغ القلوب . ولمح العيون مصائد الشيطان ، ومجالسة السلطان تهيج النيرانَ . عباد الله أصدُقُوا فان الله مع الصادقين ، وجانبوا الكذب ، فان الصادقَ على شفا منجاةٍ وكرامة ، و الكاذب على شفا مهواةٍ وَهَلَكَةٍ . قولوا الحق تُعرفوا به ، و اعملوا به تكونوا من أهله ، و أدوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها ، وصِلوا من قطعكم ، وعودوا بالفضل على من حرمكم وأوْفُوا إذا عاقدتم ، و اعدلوا إذا حكمتم و اصبروا إذا ظُلمتم ولا تفاخروا بالآباء ، ولا تَنابَزوا بالالقاب ، ولا تَحاسَدوا فان الحسدْ يأكل الإيمان كما تأكل النارُ الحطب ، ولا تباغضوا فإنها الحالقة[13] وردوا التحية على أهلها بأحسن منها ، و ارحموا الأرمَلَة ، و أعينوا الضعيفَ و انصروا المظلوم وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم و العدوان و اتقوا الله حق تقاته ولا تموتُنّ إلا و أنتم مسلمون .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام وقد قام إليه رجل كأنه من متهودة اليمن

فقال له يا أمير المؤمنين صف لنا خالقك و انعته لنا كأنا نراه وننظر إليه فسبح علي "ع"ربه وعظمه وقال بعد الحمد : 

ليس بشبحٍ فيُرى ، ولا بجسمٍ فيتجَزَّ ولا بذي غاية فيتناهى ولا بمُحْدَث فيُبصَر ، ولا بمستتر فيُكشَف ، ولا بذي حجبٍ فيُحوى ، كان ولا أماكن تحمله اكنافُها ، ولا حَمَلة ترفعه بقوتها ، وما كان بعد أن لم يكن ، بل حارت الأوهام أن تكّيف المُكّيف للأشياء : من لم يزل بلا مكان ، ولا يزول باختلاف الأزمان ، ولا  ينقلب له شأن بعد شأن ، البعيد من حدث القلوب ، المتعالي عن الأشباه و الضروب ، الوِتِر[14]علامُ الغيوب ، معاني الخلق عنه منفية ، وسرائرهم عليه غيرُ خفية ، لا يدرك بالحواس ، ولا يقاس بالناس ، ولا تدركه الأبصار ولا تحيط به الأفكار ، ولا تقدّره العقول ، ولا تقع عليه الأوهام ، وكيف يوصف بالأشباح ، ويُنْعَتُ بالألسن الفصاح ، من لم يحلُل في الأشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم يَنْأَ عنها فيقال هو عنها بائن ، لم يقرُب منها بالتصاق ، ولم يبعُد عنها بافتراق ، بل هو في الأشياء بلا كيفية ، وهو اقرب إلينا من حبل الوريد ، و ابعد من الشبه من كل بعيد . لم يخلق الأشياء من أصول أزلية ، ولا من أوائل كانت قبله أبدية ، بل خلق ما خلق و أتقن خلقه ، وصوّر ما صوّر فاحسن صورته ، فسبحان من توحَّد في علُوِّه فليس لشيء منه امتناع ، ولا بطاعة أحد من خلقه له انتفاع ، إجابَتُه للداعين سريعة ، و الملائكة له في السماوات و الأرضين مطيعة ، كلمّ موسى بلا جوارح و أدوات ، ولا شفَةٍ ولا لهوات ، سبحانه وتعالى عن الصفات ، ومن زعم أن إله الخلق محدود ، فقد جهل الخالق المعبود ( وهي طويلة أخذنا منها موضع الحاجة ) .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام   

قال بعد حمد الله تعالى و الثناء عليه والصلاة على نبيه "ص" .

أيُّها الناسُ ! استمعوا مقالي وَعُوا كلامي ، إن الخُيَلاءَ من التجبر ، و النخوةَ من التكبر ، و الشيطان عدو حاضر ،يعدكم الباطل . ألا إن المسلم أخو المسلم فلا تَنابذوا ولا تخاذلوا ، فان شرائع الدين واحدةٌ وسبله قاصدة[15]من اخذ بها لحق ، ومن تركها مَرَق ، ومن فارقها مُحق ، ليس المسلم بالخائن إذا أتُمِن ولا بالمخِلف إذا وَعد ولا بالكذوب إذا نطق . ونحن أهلُ بيت الرحمة ، قولُنا الحق وفعلنا القِسْط[16]، ومنا خاتَم النبيين وفينا قادة الإسلام و أمناء الكتاب . ندعوكم إلى الله ورسوله و إلى جهاد عدوه. و الشَدة في أمره و ابتغاء رضوانه و أداء فرائضه وتوفير الفيء لأهله . ألا وإن اعجب العجب أن ابن أبي سفيان و ابن أبي العاص يحرضان الناس على طلب الدين بزعمهما و أني و الله لم أخالف رسول الله في رأي ولم أعصِه في أمر . أقيه بنفسي في مواطن تنكُصُ فيها الأبطال . وترتعد فيها المفاصل ،ولقد قُبض وإن رأسه لفي حجري ولقد وَليتُ غُسله بيدي ، تقلِّبه الملائكة المقربون معي . و إيم الله ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا ظهر باطلها على حقها ، إلا ما شاء الله .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام

الحمد لله الخافض الرافع . الضارِّ النافِع الجوادِ الواسعِ الجليل ثناؤه الصادقة أسماؤه المحيط بالغيوب ، وما يخطر على القلوب ، الذي جعل الموت بين خلقه عدلاً . و أنعم بالحياة عليهم فضلاً فأحيا و أمات . وقدّر الأقوات : احكمها بعلمه تقديراً و أتقنها بحكمته تدبيراً . هو الدائم بلا فناء و الباقي إلى غير انتهاء . أحمده بخالص حمده المخزون بما حَمِدَه به الملائكة و النبيون : حمداً لا يُحصى له عدد ، ولا يتقدمه أمد ولا يأتي بمثله أحد ، أومن به و اشهد به ، و أتوكل عليه و أستكفيه ،. و اشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون .

أيُّها الناسُ ! إن الدنيا ليست لكم بدار ولا محلِّ قرار . أنتم فيها كركب عرّسوا فأناخوا . ثم استقلَوا فغدوا وراحوا . لم يَجدوا عما مضى نزوعاً ولا إلى ما تركوا رجوعاً . قلَّ في الدنيا لُبثُهم وعُجل إلى الآخرة بعثُهم .فأصبحتم حلولا في ديارهم ظاعنين على آثارهم . تحلون من حالهم حالا وتحتذون من مسلكهم مثالاً . فلا يغرنكم بالله الغُرُور  فرحم الله امرأً راقب ربه ، وتنكَّب ذنبه وكابر هواه ، وكذَّب مناه ، زمَّ نفسه من التقوى بزمام و ألجمها من الخشية بلجام . فقادها إلى الطاعة بزمامها وكبحها عن المعصية بلجامها ،رافعاً إلى المعاد طرفه متوقعاً في كل آن حتفه ، دائم الفِكَر ، طويل السهَر ، عَزُوفاً عن الدنيا ، كدوحاً للأخرى ، جعل الصبر مطية نجاته ، و التقوى عدة وفاته ، قد طوى مهاده وهجر سادَه . عظمت آمالُه و ارتعدت أوصالُه لا يظهر دون ما يكتم ويكتفي بأقل مما يعلم . أولئك ودائع الله المدفوع بهم عن عباده لو اقسم أحدهم على الله لأبرّه .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام في يوم الجمعة

الحمد لله المتوحّدِ بالكبرياء ، المتفردِ بالآلاء ، القاهرِ بعزهِ ، المتسلطِ بقهرهِ الممتنع بقوّتهِ ، المهيمن بقدرتِه ، المتعالي بجبروته ، المحمود بامتنانه ، المتفضلِ بإحسانه ، نحمده على تَظَافُر آلائِه [17] وتظاهرِ نعمائه . حمداً يزن قدْرَ كبريائه ، وعظمة جلالهِ و اشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، خضعت الخلائق لربوبيته ، ودانوا لدوام أبديته ، و اشهد أن محمداً عبده ورسوله وخيرتُه من خلقه اختاره بعلمه ، و اصطفاه لوحيه ، وأتمنه على سرهِ ، و أنتدبه لعظيم أمره و أضاءة معالم دينه ومناهج سبيله ، وجعله مفتاحاً لوحيه ، وسبباً لرحمته ، ابتعثه على حين فترة من الرسل ، و اختلاف من الملل، وهَدْأة من العِلْم وضلالٍ عن الحق وجهالة بالرب وكفر بالبعث أرسله رحمة للعالمين ، بكتاب كريم قد فصَّله وفضلَّه وبيَّنه وأوضحه و أعزه وحفظه ، ضرب للناس فيه الأمثال وصرَّف فيه الآيات ، وحرَّم فيه الحرام ، و أحل فيه الحلال ، وشرع فيه الدين لعباده عُذراً أو نُذراً ،لئلا يكون للناس على الله حُجَّةٌ ويكون بلاغاً لقوم عابدين فبلَّغ رسالته وجاهد في سبيله وعبده حتى آتاه اليقين ، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً .

أوصيكم  – عباد الله – ونفسي بتقوى الله الذي ابتدأ الأمور بعلم ، و إليه يصير معادها ، وبيده فناؤكم وفناؤها ، فكأنْ قد زالت عنكم كما قد زالت عمن قبلكم فتزوّدوا من الدنيا ، فإنها دار عمل و ابتلاء ، و الآخرة دار قرار و جزاء ، ولن تعدو الدنيا – إذا تناهت إليها أمنية الراغب فيها المطمئن إليها المفتون بها – أن تكون كما قال الله – عزّ وجلّ – : " كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنْ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ " فاتقوا الله عزّ ذكره وسارعوا إلى رضوانه و العمل بطاعته . ثم قرأ "ع"سورة العصر وصلى على النبي "ص" وجلس قليلاً ثم قام فقال : الحمد لله أحقّ مَن خُشي وعُبِد و أولى من عُظّم ومُجِد ، نحمده لعظيم غنائه ، وجزيل عطائه ، وتظاهر نعمائه ، وحسن بلائه ، ونؤمن بهداه الذي لا يخبو ضياؤه ، ولا يتهمَّد سناؤه ، ونعوذ به من سوء الرِّيَب وظِلَم الفِتن ، ونستعصمه من مساوئ الأعمال ومكاره الآمال .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام تعرف بالطالوتية

ما كان [18] مستوحشاً قبل الابتداع ، ولا خِلْواً من الملك قبل الانشاء ، ولا يكون خلواً منه بعد الذهاب ، لا تدركه حدَقُ الناظرين ولا تُحيط به سمعُ السامعين ، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير .

ومنها    

أيتها الأمة التي خُدِعتْ فانخدَعتْ وعَرَفَتْ خديعَة من خدعها فأصَرَّتْ ، واتَّبَعَت أهواءَها وخبطت في عَشْوَاءِ غَوَايتها ، قد استبان لها الحقُّ فصدت عنه ، و الطريق الواضح فتنكبته ، أما و الذي فَلَق الحبة وبرأ النَّسَمَة ، لو اقتبستم العلم من معدنه ، و ادخرتم الخير من موضعه ، و أخذتم الطريق من وضَحَه وسلكتم الحق من نّهْجِه ، لأبتهجت بكم السبل وبدت لكم الأعلام و أضاء لكم الإسلام وما عال فيكم عائل [19] ولا ظلم منكم مسلم ولا معاهَد ، ولكن سلكتم سبل الظلام ، وسُدَّت عنكم أبواب العلم ، وتركتم باهوائكم و اختلفتم في دينكم ، و أفتيتم في دين الله بغير علم ، وتركتم الأئمة فتركوكم ، فرويداً عما قليلٍ تحصُدُونَ ما زرعتم ، وتجدون وخيمَ ما اجتريتم فلقد علمتم أني وصيُّ نبيكم ، وخيرة ربِّكم العالم بما يصلحكم ، وسيسألكم عن أئمتكم فمعهم تحشرون و إلى الله غداً تصيرون ، أما و الله لو كان لي عِدَّةُ أصحاب طالوت أو عِدَّة أهل بدر [20] لضربتكم بالسيف حتى تؤلوا إلى الحق وتنيبوا إلى الصدق .

ومن كَلامٍ لهُ عَليه السَّلام      

أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الأمثال ، ووَّقتَ الآجال ، وجعل لكم أسماعاً تعي ما عناها ، وأفئدة تفهم ما دهاها ، لم يخلقكم عبثاً ولم يضرب عنكم صفحاً ، بل أكرمكم بالنعم السوابغ ، و الآلاء الروافع[21]، فاتقوا الله عباد الله ، وحثوا في الطلب ، وبادروا بالعمل قبل هادم اللذات [22] ومفرّق الجماعات، فان الدنيا لا يدوم نعيمها ، ولا تؤمن من فجائعها ، غرور حائل ، وسِنَاد مائل ، ونعيم زائل ، فاتعظوا بالعبر ، و ازدجروا بالنُذُر ، فكأن قد عَلِقتكم مخالبُ المنية ودهمتكم مفظعات  الأمور ، بنفخ الصور ، وبَعثَرة القبور وبَرَز الخلائقُ للمُبديء المعيد ، وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد و أشرقت الأرض بنور ربها ووُضِع الكتاب ونادى المنادي من مكان قريب ، وحُشِرَت الوحوش ، وزُوِّجت النفوس ، وبرزت الجحيم ، قد تأجُج جحيمُها وغلا حَمِيمها ، فاتقوا الله تقية من وَجِلَ وحذِر ، و أبصر و ازدجر، فاحتّث طَلَباً ونجا هرباً ، وقدَّم للمعاد ، و استظهر من الزاد ، وكفى بالله منتقماً ، وبالكتاب خصيماً و بالجنة ثواباً ونعيماً ، وبالنار عقاباً و استغفر الله لي ولكم.

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام

الحمدُ للهِ الذي توحّدَ بصنع الأشياء على غير مثالٍ سبقه في إنشائِها ، ولا إعانة مُعين على ابتداعها ، ابتدعها بلطفِ قدرته ، خاضعاً لمشيئته مُسْتَحْدثَة لأمرهِ ، فهو الواحد بغير حدٍّ ولا زوالٍ ، و الدائم بغير أمد ولا نفاد ، لم يزل كذلك ولا يزال ، لا تغيّره الأزمنة ، ولا تحيط به الأمكنة ، ولا تبلُغُ مقامَه الألسنة ، ولا يأخذه نوم ولا سِنة، لم تَرَهُ العيون فتُخْبر عنه برؤيته ، ولم تهجم عليه العقول فتتوهم كُنْهَ صفته ، ولم تدرِ كيفَ هو إلا بما اخبرَ عن نفسه . ابتدع الأشياء بلا تفكير ، و خلقها بلا ظَهير ، وفَطَرها بقدرته ، وصيّرها بمشيئَتِه ، وصاغ أشباحها وبرأ أرواحها .

اشهدُ أن الأعين لا تدرِكُكَ و الأوهامَ لا تلحقُك ، و العقولَ لا تَصفُكَ و  المكانَ لا يسعك ، وكيف يسع المكان مَنْ خَلَقه وكان قبله ، أم كيف تدركه الأوهام ولا نهاية له ولا غاية ، وكيف تكونُ له نهايةٌ وغاية ، وهو الذي ابتدأ الغايات و النهايات ، فسبحانك مَلَأْتَ كل شيء وباينت كل شيء ولا يَفْقِدُك شيء ، كل مُدْرَك من خَلْقِك ، وكل محدود من صنعك .

ومنها في تنقل النبي "ص" وتقلبه في ظهور آبائه

نقَلتهُ إلى إبراهيم فأسعدت بذلك جَدَّه ، و أعظمت به مجده ، وقَدَّسته في الأصفياء وسمّيتَهُ دونَ رُسِلك خليلا ، ثم خَصَصتَ به إسماعيل دونَ ولد إبراهيم فأنطقت لسانه بالعربية التي فضلتَها على سائر اللغات ، ولم تزل تنقله من أب إلى أب تأخذ له بمجامع الكرامة ومواطن السلامة ، فسبحانك ! أيَّ صلب أسكنته فيه فلم ترفع ذكرَهُ ، و أي ساحة من الأرض سَلَكْتْ به لم يظهر بها قدسُه ، حتى الكعبة التي جعلت منها مُخْرَجَه حرّمت وحشها وشجرها ،وقدست حَجَرَها ومَدَرها ، وجعلتها مسلكاً لوحيك ، ومنسكاً لخلقك ، ولم تُودِعْهُ صُلباً إلا جلَّلتْه نوراً تأنسُ به الأبصار وتطمئن إليه القلوب ، فأي جَدّ أسرةٍ ومجتمع عترة ومُخرج طُهر ومَرْجعِ فخر – جعلت يا رب هاشماً ! ثم نقلته من هاشم إلى عبد المطلب فأنهجته سبيل إبراهيم ، و ألهمته رشداً للتأويل ، ثم أذِنْتَ لعبد الله في نبذه عند ميقات تطهيرِ أرضك من كفار الأمم الذين جهلوا معرفتك ، وجحدوا ربوبيتك ، و أنكروا وحدانيتك ، فاتخذوا لك أنداداً وجعلوا لك شركاء و أولاداً وصَبَوْا [23] إلى طاعة الشيطان وعبادة الاوثان فصلواتك على محمدٍ عبدِك ونبيِك وخيرتِك وصفيِك ، أيُّ منيعة لم تهدمها دعوته ،و أيُّ فضيلة لم تنلها عترته ، جعلته خير أئمةَ للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويجاهدون في سبيلك ويتواصون بدينك ، باعوك أنفسهم ، شِعثَةً رؤوسُهم ، تَرِبةً وجوههم ، تكاد الأرض من طهارتهم تقبضهم إليها ، ومن فضلهم أن تميد بمن عليها ، فأي شرف يا ربي جعلته في محمد وعترته وما أُزكِّي نفسي ! ولكن أُحَدِّثُ بنعمة ربي ، و أنا صاحبُ القبلتين وحامل الرايتين ، و أبو السِّبْطَين ، أنا علم الهدى وكهف التقى، وخير من آمن و اتقى ، و أكملُ من تًقًمّص [24] و ارتدى ، بعد النبي المصطفى .

أيُّها الناسُ ! بنا أنار الله السبل و أقام المَيَل ، وعُبِدَ الله في أرضه ، فتوفى الله محمداً "ص" سعيداً شهيداً هادياً مهدياً قائماً بما استكفاه ، حافظاً لما استرعاه ، تمم به الدين و أوضح به اليقين ، فاندمغ الباطل زاهقاً ووضح العدل ناطقاً وعطَّل مَظَانَّ الشيطان و أوضح الحق و البرهان ، فأجعل اللهم فواضل صلواتك ونواميَ بركاتك على نبي الرحمة وعلى أهل بيته الطاهرين .

[ أقول نقلنا ما أثبتناه من هذه الخطبة من اصل سقيم لم يتهيأ لنا سواه ، وقد تركنا كثيراً منها لذلك ] .

ومن دُعاءٍ لهُ عَليه السَّلام في الصباح

يا مَن دَلَع لِسَانَ الصباحِ بنطقِ تبلُّجِه ، وسرَّحَ قِطَعَ الليلِ المظلِمِ بغَياهِب تلجلُجِه، وأتقَنَ صُنْعَ الفَلَكِ الدَّوارِ في مقاديرِ تبرّجِهِ ، وشَعشَعَ ضياءَ الشمس بنور تأججهِ، يا مَنْ دلَّ على ذاته بذاته ، وتَنزَّهَ عن مجانسةِ مخلوقاته ، وجل عن ملائمة كَيْفياته ، يا من قَرُبَ من خواطر الظنون وبَعُدَ عن ملاحظة العيون ،وعلم بما كان قبل أن يكون . يا من أرقدني في مهاد أمنه و أمانه ، وأيقظني إلى ما منحني من مننه و إحسانه ،وكَّف أكفَّ السوء عني بيده وسلطانه ، صلِ اللهم على الدليل إليكَ في الليل الألْيَل ، و الممسك من أسبابك بحبل الشرف الأطول ، و الناصع الحسب في ذروة الكاهل الأعْبَل [25] و الثابت القدم على زحاليفها[26]في الزمن الأول ، وعلى آله الطيبين الأبرار المصطفين الأخيار ، و افتح اللهم لنا مصاريعَ الصباح بمفاتيح الرحمة و الفلاح، وألبسنا من افضل خِلَع الهداية و الصلاح ، و اغرس اللهم لعظمتك في شِرْبِ جَناني ينابيع الخشوع ، وأجْرِ اللهم لهيبتك من آماقي زَفرات الدموع ، و أدّب اللهم نَزَق الخَرْق مني بأزمّة القُنوع . الهي إن لم تبتدئني الرحمة منك بحُسنِ التوفيق فمن السالكُ بي إليك في واضحِ الطريق ،وإن أسلمتني أناتك لقائدِ الأمل و المُنى فمن المقيلُ عثراتي من كبوة الهوى ، وإن خَذَلني نصرُك عند محاربة النفس و الشيطان فقد وكلني خِذلانك إلى حيثُ النَصَبُ و الحِرمانُ . الهي أتراني ما أتيتك إلا من حيث الآمال ، أم عَلِقْتُ بأطراف حبالك إلا حين باعدتني ذنوبي عن دارِ الوصال ، فبئس المطيَّة التي امتطتْ نفسي من هواها ، فواهاً لما سولت لها ظنونها ومناها ، وتباً لها لجرأتها على سيدها ومولاها ، الهي قرعتُ باب رحمتك بيد رجائي ، وهربتُ إليك لاجئاً من فرط أهوائي الهي كيف تطرد مسكيناً التجأ إليك من الذنوب هارباً ، أم كيف تخيّبُ مسترشداً قصدَ إلى جنابك ساعياً ، أم كيف تردّ ظمآناً وَرَدَ إلى حياضِك شارباً فلا [27]، وحياضُك مترعةٌ في ضنك المُخول ، وبابك مفتوح للطلبِ و الوُغول .

ومنه  من ذا يعرف قدرتك فلا يخافك ؟ ومن ذا يعلمُ من أنت فلا يهابُك ؟ ألفتّ بقدرتك الفِرَق ، وفَلَقْتَ بلطفك الفَلَق ، و أنرتَ بكرمك دياجي الغسق ، و أنهرت المياه من الصمِّ الصياخيد عذباً و أجاجا ، و أنزلت من المعصرات ماءً ثجاجا ، وجعلت الشمس و القمر للبرية سراجاً وهاجا ، من غير أن تمارس فيها ابتدأت به لغوباً ولا علاجا . [ ولهذا الدعاء بقية يقف عليها الطالب في مظانها ] .

ومن كَلامٍ لهُ عَليه السَّلام في نعت رسول الله "ص" وشمائله

[ التقطناه من روايات شتى ]

لم يكن بالطويلِ البائن ، ولا القصير المتردّد ، ربعةُ القدَّ ، رَجْلُ الشعر ، أزهر اللونَ ، صَلْتُ الجبين ، مقرونُ الحاجبين ، أدعجُ العينين ،سَهْلُ الخدين أقنى الأنف ، أهدبُ الأشفار ، كَثُّ اللحيةِ ، جليل المشاش[28]، دَقيقُ المَسْرَبة ، رحب الكفين و القدمين ، عبْلُ العضدينَ و الذراعين ، عظيم المنكبين ، واسع الصدر ، دقيق الخصر ، متماسك البدن ، كأن عنقه إبريقُ فضة ، براقُ الثنايا ، إذا أفترَّ ضاحكاً أفترَّ عن سنا البرق ، أو عن مثْلِ حبِّ الغَمام ، احسن الناس عنقاً ، ليس بمُطَهمٍ ولا بمكلثم ، إذا مشى تقلّع كأنما يتقلعُ من صخر ، أو ينحطُ من صَبَب ، و إذا التفتَ التفت معاً ، لا يُماشيه أحدٌ إلا طَاله ، وكان أجود الناس كفَّا وأصدقهم لهجةً ، و أوفاهم ذمةً و ألينهم عريكةً و أكرمهم عِشرة من رآه بديهةً هابه ، ومن خالطه أحبّه ، يقول ناعِتُهُ : لم أرَ قبله ولا بعده مثله "ص" .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام في بدء الخليقة

إن الله تعالى – حين شاءَ تقديرَ الخليقة وذَرْءَ البريَّة و ابداع المُبدَعاتِ – نصبَ الخلْقَ في صُوَرٍ كالهباء قبل دَحْوِ الأرض ورفع السماء – وهو في انفرادِ ملكوته وتوحُّد جبروته – فأتاحَ  نورا من نوره فلمع ، ونزع قبساً من ضيائه فسطع ، فقال له – عز من قائل : أنت المختارُ المنتخب ، عندك مستودعُ نوري وكنوزُ هدايتي ، من أجلِك أسطحُ البطحاءَ ، و أموّجُ الماء ، و ارفعُ السماء ، و أجعلُ الثوابَ و العِقاب ، و الجنةَ و النارَ، وأنِصبُ أهل بيتك أعلاماً للهداية وحجُجَاً على البرَّية ، وأدلاّءَ على القدرة و الوحدانية ، و أمنَحهُم من مكنونِ العِلم ما لا يُعييهم معه خفي ، ولا يُشِكِلُ عليهم دقيق . ثم أخفى الخليقة في غيبه ، وغَيّبها في مكنون علمه ، ثم نَصَبَ العوالم وبسطَ الرمال ، وموّج الماء ، و أثار الزَبَدَ ، و أهاج الدخان ، ثم أنشأ الله الملائكة من أنوارٍ أبدعها ، و أرواح اخترعها وقَرَن توحيده بنبّوة محمد "ص" فشُهرت في السماء قبل بعثته في الأرض . ولما خلق الله آدم أبان فضله للملائكة ، و أراهم ما خصّه به من سابق العلم ، ومعرفة الأسماء ، وجَعَله محراباً وكعبة ، وباباً وقبلةً ، أَسْجَدَ لها الأبرار ، و الروحانين الأنوار ، ثم نبّهه على ما استودعه لديه ، وأتَمَنه عليه ، ولم يزل الله تعالى يُخَبأ ذلك النور ، حتى وصل محمداً في ظاهر الفترات ، فدعا الناس ظاهراً وباطناً ، وندبهم سراً و إعلاناً ، و استدعى التنبيه على ذلك العهد ، الذي قدمه إلى الذّر ، فمن وافقه اهتدى إلى سيره ، و استبان واضح أمره ، ومن لبَّسته [29] الغفلة استحق السخط وركب الشطط ، ثم انتقل النور إلى غَرائزنا ، ولمع في أئمتنا ، فنحن أنوار السماء و أنوار الأرض ، فبنا النجاة ، ومنا مكنون العلم ، و إلينا مصير الأمور ، وبمهدّينا تنقطع الحجج . خاتم الأئمة ، ومنقِذ الأمة ، وغايةِ النور ، ومصدِر الأمور ، ونحن افضل المخلوقين ، وحجج رب العالمين ، فليهنأ بالنِّعمة من تمسّك بولايتنا .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام

وقد عَلمَ المستحفِظون من أصحاب محمد "ص" أنه قال : أني و أهلَ بيتي مطهرون، فلا تسبقوهم فتضلوا ، ولا تتخلفوا عنهم فتزلوا ، ولا تخالفوهم فتجهلوا ، هم أعلمُ الناسِ كباراً ، و أحلمُهم صغاراً ، فأتبعوا الحق و أهلَه حيثُ كان .

ومن كَلامٍ لهُ عَليه السَّلام

إنما المرءُ في الدنيا غرضٌ تنتضلُ فيه المنايا ، ونهبٌ للمصائب [30] ومع كل جُرْعَة شَرَق ، وفي كل أُكْلة غُصص ، ولا ينالُ العبد فيها نعمةً إلا بفراق أخرى ، ولا يستقبلُ يوماً من عمرهِ إلا بهدمِ آخر من أجله ، فنحن أعوانُ الحتوف ، وانفُسُنا تسوقنا إلى الفناء ، فمن أين نرجو البقاء – وهذا الليلُ و النهار لم يرفعا من شيء شرفاً إلا أسرعا الكرَّة في هدم ما بنيا ، وتفريق ما جَمَعا – فأطلبوا الخيرَ و أهله ، و اعلموا أن خيراً من الخير مُعْطِيه ، وشراً من الشر فاعِلُه .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام وقد أتى إليه جماعة من أولاد المهاجرين و الأنصار

الحمد لله وليّ الحمد ، ومنتهى الكرم ، لا تدركه الصفات ، ولا يُحَدُّ باللغات ، ولا يُعْرَفُ بالغايات ، و اشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له ، و أن محمداً نبيُّ الهدى ، وموضع التقوى ، ورسول الرَّبّ الأعلى ، جاء بالحق من الحق ، لينذرَ بالقرآن المبين ، و البرهان المستنير ، فَصَدَعَ بالكتاب ، ومضى على ما مضى عليه الرُسلُ الأولون .

أما بعد ، فلا يقولن رجال غمرتهم الدنيا فاتخذوا العَقَار [31] ، وفجّروا الأنهار ، وركبوا أفْرَهَ الدوابِ ، ولبِسوا ألينَ الثياب ، إذا منعتُهم مما كانوا فيه يخوضون وصيرتهم إلى ما يستوجبون ( قالوا[32]: ظَلَمَنا ابنُ أبي طالب ومنعنا حقوقنا ، فإنَّ من استقبل قبلتنا ، و أكل ذبيحتنا ، و آمن بنبينا ، وشهد شهادتنا ، ودخل في ديننا ، أجرينا عليه حكم القرآن ، وحدودَ الإسلام ، ليسَ لأحد على أحد فضلٌ إلا بالتقوى، ألا وإن للمتقين عند الله افضلَ الثواب ، وأحسنَ الجزاءِ و المآب ، وما عند الله خيرٌ للأبرار ، فسارعوا إلى منازلكم [33] ، التي أمِرْتُم بعمارتها فإنها العامرة التي لا تخرب ، و الباقية التي لا تنفد ، التي دعاكم الله إليها ، وحضكم عليها ، ورغَّبكم فيها ، و استتموا نعم الله بالتسليم لقضائه ، و الشكر على نعمائه ، فمن لم يرض بهذا فليس منا ولا إلينا ، و إن الحاكم – يحكم بحكم الله – لا خَشيةَ عليه ولا وحشة ! و أولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .

ومن كَلامٍ لهُ عَليه السَّلام

قد عاقبتكم بدِرّتي فلم تُبالوا ، وضربْتُكم بسوطي فلم ترعَوُوا ، و أني لأعلم الذي يقيم أوَدَكم ، ولكن لا اشتري صلاحَكم بفساد نفسي ، بل يسلطُ الله عليكم من ينتقم لي منكم ، فلا دنيا بها استمتعتم ، ولا آخرةَ إليها صرتم ، فبعداً وسحقاً لأصحاب السعير .

ومن دُعاءٍ لهُ عَليه السَّلام

وكان إذا ركب دابة يضع رجله في الركاب ويقول : بسم الله ، فإذا جلس على ظهرها قال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، و إنا إلى ربنا لمنقلبون . ثم يقول : اللهم أني أعوذ بك من وعثاء السفر ، وكآبة المنقلب ، و الحَيْرَة بعد اليقين ، وسوءِ المنظر في الأهل و المال و الولد ، اللهم أنت الصاحب في السفر ؛ و الخليفةُ في الأهل ، لا يجمعها غيرك ، لأن المستخلَف لا يكون مستصحباً ، و المستصحَب لا يكون مستخلَفاً .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام خطبها بذي قار

وذي قار موضع بين الكوفة وواسط وفيها جُمَلٌ رويت في النهج.

حمد الله و أثنى عليه ثم قال : أما بعد فإن الله تبارك و تعالى بعث محمداً "ص" بالحق بشيراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بأذنه وسراجاً منيرا ، عوداً وبدءاً ، وعُذْراً أو نُذْراً ، بحكم قد فصّله ، وتفصيل قد أحكمه ، وفُرقان قد فرقه ، وقران قد بينه ، ليعلم العبادُ ربهم إذ جهلوه ، وليقرّوا به إذ جَحَدوه ، وليثبتوه إذ أنكروه وقد تجلّى لهم في كتابه ، فأراهم حكمه وقدرته ، وعفوه وسطوته ، وكيف رَزَقَ وهَدَى و أمات و أحيا، وكيف خلق ما خلق من الآيات ، ومَحَقَ من محق بالمَثُلات ؛ وحصد من احتصد بالنِّقْمات .

ومنها

وسيأتي من بعدي عليكم زمانٌ ليس فيه شيءٌ أخفى من الحق ، ولا شيء اظهر من الباطل ، ولا اكثرَ من الكذب على الله ورسوله ، ولا أبورَ من الكتاب إذا تُلي حق تلاوته ، و لا أغلى ثمناً منه إذا حُرِّفَ عن مواضعه ، ولا شيء أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر ، قد نَبَذَ الكتاب حَملَتُهُ ، وتناساه حَفَظَتُهُ ، حتى مالت بهم الأهواء ، وباعوه بالبخس وكانوا فيه من الزاهدين ، قد استُدْرِجُوا بالأمل و الرجاء ، حتى توالدوا في المعصية ، ودانوا بالجَوْر ، وبدّلوا سنَّة الله ، وتعدَّوْا حدوده ، فمساجدهم عامرة من الضلال ، خربة من الهدى .

ومنها

فلا يُلهِيَنَّكُم الأملُ ، ولا يطولَنَّ عليكم الأجل ، فإنما أهلَكَ من كان قبلكم امتدادُ آمالهم وسَتْرُ آجالهم ، حتى نزل بهم الموعود ، الذي تُرَدّ عنه المعذرةُ ، وتُرفعُ عنده التوبة ، وتَحِلّ معه النقمة . وقد ابلغ الله إليكم بالوعد ، وفصّل لكم القول ، و أعلمكم السنَّة ، وشرع لكم المناهج ، وحثكم على الذِّكْر ، ودلكم على النجاة ، وإن من انتصح لله و استدل بقوله هداه للتي هي أقوم ، ووفقه للرشاد ، ويَّسره للحسنى ، فإن جارَ اللهِ آمنٌ محفوظ ، وعدَّوه خائف مغرور[34]، فاحترسوا من الله بكثرة الذكر ، وتقربوا إليه بالطاعة ألا وإن رِفعةَ الذينَ يعلمون ما عظمةُ اللهِ أن يتواضعوا له ، وعزَّ الذين يعلمون ما جلالُ الله أن يذلوا له ، وسلامة الذين يعلمون ما قُدرةُ اللهِ أن يستسلموا له . و اعلموا أنكم لم تعرِفوا الرُشد حتى تعرفوا الذي ترَكَه ، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرِفوا الذي نَقَضَه ، ولن تتمسكوا به حتى تعرفوا الذي نَبَذَه ، ولن تتلوه حق تلاوتِه حتى تعرفوا الذي حرّفه ، ولن تعرفوا الضلالة حتى تعرفوا الهُدى ، ولن تعرفوا التقوى حتى تعرفوا الذي اعتدى ، فإذا عرفتم ذلك عرفتم البدع و التكلّف ، و رأيتم الفرية على الله ورسوله ، و التحريفَ لكتابه ، و رأيتم كيف هدى الله من هدى ، فلا يُجِّهلكم الذي يعلمون ،فاطلبوا علم القرآن من أهلهِ ، فإنهم نورٌ يستضاءُ به ، و أئمة بهم يُقتدى ، وهم عيشُ العلم ، وموتُ الجهل ، يخبركم حكمُهم عن علمهم ، وصمتهم عن نطقهم ، وظاهرُهم عن باطنهم ، لا يخالفون الدينَ ولا يختَلفون فيه ، فهو بينهم شاهدٌ صادق ، وصامتٌ ناطق ، فاعقلوا الحقَ عقْلَ رعاية ولا تعقلوه عَقْلَ روايَة ، فإن رواة الكتاب كثير ، ورعاتَه قليل ، و الله المستعان .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام خالية من الألف

روى هذه الخطبة الخاصة و العامة ، ارتجلها من غير تريث ولا تفكير قال "ع":      

حَمِدتُ من عظُمَتْ مِنَّتُه ، وسبقت نعمته ، وتمت كلمته ، ونفذت مشيئته ، وبلغت حجته ، ، وعَدَلتْ قضيته وسَبَقَتْ غضَبَه رحمتُه ، حَمْدَ مُقّرٍ بربوبيته ، مُتنصل من خطيئته ، معترف بتوحيده ، مستعيذٍ من وعيده ، مُؤمَلٍ منه مغفرةً تُنجيه ، يوم يُشغلُ كلٌ عن فصيلتهِ وبنيه ، ونستعينه ونسترشده ، ونؤمن به ونعبده ، ونشهد له شهود مخلصٍ موقن ، ونوحده توحيدَ عبدٍ مُذعن ،ليس له شريك في ملكه ، ولم يكن له وليّ في صنعه ، جل عن مشير ووزير ، وتنزه عن معين ونظير ، علِم فستر ، وبَطن فخبر ،وملَك فقهر ،وعُصِيَ فغفر ، وعُبِدَ فشكر ، وحكم فعدل ، وتكرم وتفضل ، لن يزولَ ولم يزل ، ليس كمثله شيء وهو قبل كل شيء وبعد كل شيء .

ربٌ متفرد بعزته ، متمكن بقوته ، متقدِّسٌ بعلوه ، متكبر بسموه ، ليس يدركه بصر ، ولم يُحِطْ به نظر ، قوي منيع ، بصير سميع ، علي حكيم ، رؤوف رحيم ، عجز عن وصفه من وصفه ، وضل عن نعته من عرّفه ، قرُب فبعُد ، وَبَعُد فقرُب ، يجيب دعوةَ من يدعوه ، ويرزقه ويحبوه ، ذو لطف خفي ، وبطش قوي ، ورحمة موسعة ، وعقوبة موجعة .

ونشهد ببعث نبيه محمد عبدِه ورسولِه ، وحبيبه وخليله ، بعثه في خير عصر ، وحين فترةٍ وكُفْر ، ختم به نبوته ، وقوّى به حجته ، فوعظ ونصح ، وبلّغ وكدح ، عليه رحمةٌ وتسليم ، وتعظيم ، من[35]ربٍ غفورٍ رحيم .

وَصيَّتُكم معشر من حضرني ، بتقوى ربكم ، وذكر سنة نبيكم ، وعليكم برهبة تسكن قلوبكم ، وخشيةٍ تُذْري دموعكم ، وبقية تنجيكم ، قبل يوم يذهلكم ويبتليكم، يوم يفوز من ثَقُلَ وزنُ حسنته ، وخَفَّ وزنُ سيئته ، ولتكن مسألتكم مسألة ذُلٍّ وخضوع[36]، وتملق وخشوع ، وتوبة ونزوع ، وندم ورجوعِ ،وليغتنم كل منكم صحته قبل سَقَمِه ،وشبيبته قبل هرمه ، وسعته قبل فقره ، وفَرْغته قبل شغله ، وحضَرَه قبل سفره ، قبل كِبَرٍ وهَرَم ، ومرض وسقم ، يملّه طبيبه ، ويُعْرضُ عنه حبيبه ، قيل هو موعوك ، وجسمه منهوك ، ثم جد في نزع شديد ، وحضره كل قريب وبعيد ، فشخص بصره ، وطمح نظره ، ورشح جبينه ، وسكن حنينه ، وبَكَتْه عِرْسُه ، وحُفِرَ رمسهُ ، ويَتُمَ ولده ، وتفرق عدده ، وقسم جمعه ، وذهب بصره وسمعه ، ومدد وجرّد ، وعري وغسل ، ونُشِرَ عليه كفنه ، وشدّ منه ذقنه ، وقُمِّصَ وعمّم ، وودع وسلم ، وجعل فوق سرير ، وصُلِّي عليه بتكبير ، ونُقِلَ من دورٍ مزخرفة ، وقصور مشيدة ، وجعل في ضريح ملحود ، بلِبنٍ منضود ، وهيل عليه عفره ، وحثي عليه مَدَره ، ورجع عنه وليه ونديمه ، ونسيبه وحميمه ، فهو حشو قبر ، ورهين قفر ، حتى يومَ حشره ، فينشرُه من قبره ، يوم ينفخ في صور ، ويدعى بحشر ونشور ، فثم بعثرت قبور ، وحُصِّلتْ سريرة في صدور ، وجيء بكل نبي وشهيد ، وتوحد للفصل رب قدير ، بعبده خبير بصير ، في موقف مهول ، ومشهد جليل ، بين يدي مَلك عظيم ، بكل صغير وكبير عليم ، فيلجمه عَرَقه ، ويحضره قلقه ، ونشرت صحيفته ، وتبينت جريرته، فنظر في سوء عمله ، وشهدت عليه عينه بنظره [37]، ويده ببطشه ، ورجله بخطوه ، وفرجه بلمسه ، وجلده بمسه ، فسُلسِلَ جيده ، وغُلَّتْ يده ، فسيق وحده ، فورد جهنم بكرب وشدة ، فظل يعذب في جحيم ، ويسقى من حميم ، ويضرب بمقْمَع من حديد، ويعود جلده بعد نضجه كجلد جديد ، نعوذ برب قدير ، من شر كل مصير ، ونسأله عفو من رضي عنه ، ومغفرة من قَبِل منه ، فهو ولي مسألتي ومُنْجِح طَلِبتي ، فمن زحزح عن تعذيب  ربه ، جعل في جنته بقربه ، وخلد في قصور مشيدة ، وملك بحور عين وحفده ، وتقلب في نعيم ، وسقي من تسنيم ، وشرب من عين سلسبيل ، ومزج له بزنجبيل ، هذه منزلة من خشي ربه ، وحذر نفسه ، وتلك عقوبة من سولت له معصيته ، فهو قول فصل ، وحكم عدل ، تنزيل من حكيم حميد ، نزل به روح قدس مبين ، على قلب نبي مهتدٍ رشيد ، صلتْ عليه رسلٌ سَفَرَة ، مكرمون بررة ، فليتضرع متضرعكم ويتهل مستهلكم ، ويستغفر كل مربوب منكم لي ولكم وحسبي ربي وحده. [ وهذه الخطبة مختلفة الروايات اشد الاختلاف في اكثر فقراتها وكلماتها و الله تعالى هو العالم ] .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام

بدأ بحمد الله و الثناء عليه ثم قال : إن الله أكرمكم بدينه ، وخلقكم لعبادته ، وجعل أمراس الإسلام متينة ، وعُراه وثيقة ، وجَعَلَ الطاعة حظَّ الأنُفسِ برضا الرب، وغنيمةَ الأكياس عند تفريطِ الفَجَرَة ، ونحن سائرون إن شاء الله تعالى إلى من سَفِهَ نَفْسَه ، وتناول ما ليس له : معاوية وجنده : الفئة الباغية الطاغية ، يقودهم إبليس ، ويبرق لهم ببارق تسويفه ، ويُدَّليهم بغروره ، و أنتم اعلم الناس بحلاله وحرامه ، فاستغنوا بما علمتم ، و احذروا ما حذركم الله من الشيطان ، و ارغبوا فيما أنالكم الأجر و الكرامة ، و اعلموا أن المسلوبَ من سُلِبَ دِينُه ، و المغرورَ من آثر الضلالة على  الهدى ، فلا أعرفن أحداً منكم تقاعَسَ وقال في غيري كفاية ، فإن الذودَ إلى الذود إبل[38]، ومن لايذد عن حوضه يتهدم . ثم أني آمركم بالشدة في الأمر ، والجهاد في سبيل الله ، وأن لا تغتابوا مسلماً ، و انتظروا النصرَ العاجل من الله ، إن شاء الله .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام في الملاحم

سلوني قبل أن تفقدوني ، أما و الله لتشغَوَنَّ الفتنةُ الصمَّاء برجلها ، وتطآء في خطامها ، فيالها من فتنة ، شبت نارها بالحطب الجزل ، مقبلة من شرق الأرض رافعة ذيلها ، داعية ويلها ، بدجلة أو حولها ، ذاك إذا استدار الفلك ، وقلتم مات أو هلك، وبأي وادٍ سلك ، ولو شئت لأخبرتكم بما يأتي ويكون من حوادث دهركم ، ونوائب زمانكم ، ولكن أفضيه إلى من أفضيه إليه ، مخافةً عليكم ونظراً لكم ، علما مني بما هو كائن ، وما تلقَوْن من البلاء الشامل ، ذاك عند تمرد الأشرار ، وطاعة أولي الخسار ، حيث يكون الضرب بالسيف أهونَ على المؤمن من اكتساب درهم حلال ، حين لا تُنَال المعيشة إلا بمعصية الله في سمائه ، حين تسكرون من غير شراب ، وتحلفون من غير اضطرار ، وتظلمون من غير منفعة ، وتكذبون من غير إحراج ، تتفكهون بالفسوق ، و تتبادرون بالمعصية ، قولكم البهتان وحديثكم الزور ، و أعمالكم الغرور ، فعند ذلك تُقْتَلون ، و بأنواع البلاء تضربون ، يَعَضُّكم البلاء كما يعض الغارب القتبُ [39] .

ومن خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام في الكوفة

الحمد لله الملهِم عبادَه حمده ، الفاطر لهم على ربوبيته ، الدال على وجوده بخلقه ، وبحدوث خلقه على أزله ، وباشتباههم على أن لا شَبَه له ، المستشهد بآياته على قدرته، الممتنعة من الصفات ذاته ، ومن الأبصار رؤيته ، ومن الأوهام الإحاطة به ، لا أمد لكوْنه ، ولا غاية لبقائه ، لا تشمله المشاعر ، ولا تحجبه الحجب ، لافتراق الصانع من المصنوع ، و الحادّ من المحدود ، و الرب من المربوب ، فهو الواحد بلا تأويل عدد، و الخالق لا بمعنى حركة ، و البصير لا بأداة ، والسميع لا بتفريق آلة ، و الشاهد لا بمماسة ، و الباطن لا باجتنان ، و البائن لا بتراخي مسافة ، أزله نهيٌ لمحاوِلِ الأفكار ، ودوامه ردعٌ لطامحات العقول ، قد حسرَ كنُهه نوافذَ الأبصار ، وقمع وجودُه جوائل الأفكار ، أولُ الديانة معرفته ، وكمال معرفته توحيده ، وكمال توحيد نفي الصفات عنه، بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة الموصوف أنه غير الصفة، وشهادتهما جميعاً بالتثنية ، الممتنع منه الأزل ، فمن وصف الله فقد حده ومن حده فقد عدّه ، ومن عدّه فقد أبطل أزله ، ومن قال كيف فقد استوصفه ، ومن قال فيم فقد ضَّمنه ، ومن قال علامَ فقد جهله ، ومن قال أين فقد أخلى منه ، ومن قال من هو فقد نعته ، ومن قال إلامَ فقد غيّاه [40] . عالم إذ لا معلوم ، وخالق إذ لا مخلوق ، وربٌ إذ لا مربوب ، كذلك يوصف ربنا ، وفوق ما يصفه الواصفون .

 

ومن كَلامٍ لهُ عَليه السَّلام لما أشرف على الكوفة

ويحكِ يا كوفان ! ما أطيب هواءَك ، و أغذى تربتك ، الخارج منك بذنب ، و الداخل إليك برحمة ، لا تذهب الأيام و الليالي حتى يجيئك كل مؤمن ، ويبغض المقام بكِ كل فاجر


[1] انظر شرح ابن أبي الحديد ص120 ج2 .

[2] واحده فطحل بكسر الفاء و الحاء وفتح الطاء كهزبر .

[3] الغرار : النسق و الشكل .

[4] تبلس : يئس وتحير في أمره .

[5] ومثله قوله D : ولا يناله حَدسْ الفِطَن أي ظنّها أي : لا تستطيع الظنون الإحاطة به أو البلوغ إلى صفته ومثل هذا التعبير كثير في كلام الإمام D . ( وفي المنقول عن نسخة الهادي أن تنال إلا وجوده وهو وهمٌ ) .

[6] يريد D أن كل فعل أو قول حسن يؤدي إلى الجنة ويحسبه الناس في حينه شراً ، يجب أن لا يعدّ شراً وكذلك الخير الذي يؤدي إلى النار يجب أن لا يعدّ خيرا.

[7] تصفية العمل جعله صافياً خالصاً لله .

[8] أي : من ترك الشهوات لم يقيد بقيد ولم يكن عبداً لرغبة فهو حرّ .

[9] أي تفقّه فعمل بالمعروف أو انتهى عن المنكر .

[10] الطيبة صفة للشجرة .

[11] يُخلقه : أي يبليه .

[12] لا يسبقه : أي لا يفوته .

[13] الحالقة : أي التي لا تبقي على شيء .

[14] الوتر : الأحد الفرد .

[15] قاصدة : أي مستقيمة سهلة .

[16] القسط : العدل .

[17] تظافر آلائه : تكاثر نعمه وتواليها .

[18] الكلام وصف لله تعالى .

[19] أي ما افتقر منكم أحد .

[20] العدّة : بمعنى العدد ويريد الإمام العدد المخلص الذي يحسب ، أما العدد الذي لا حساب له فهو غير المخلص مهما كان كثيراً .

[21] الروافع : السوابغ .

[22] بالمهملة و المعجمة القاطع : كناية عن الموت .

[23] صبَوْا : مالوا .

[24] تقمص : أي لبس القميص ولعل المراد به قميص الحرب وهو إذن كناية عن الشجاعة .

[25] العبل : الامتلاء وهو دليل الشرف ويريد بهذا الكلام رسول الله "ص" .

[26] الزحاليف : المنزلقات .

[27] فلا : وفي الأصل كلا وكلمة الزجر ليس هنا مكانها .

[28] المشاش : مفاصل العظام .

[29] لبّسته : اضلتْه وغشّته .

[30] كأن هنا جملة قد سقطت من الكلام ليتم النّسق .

[31] العَقَار وما بعده : يشير به الإمام D إلى تحول الناس عن الفضائل الذاتية إلى فضائل المظهر من البناء و التشييد و النجد و التأثيث للحياة الدنيا .

[32] السياق في حاجة لكلمة ( قالوا ) ، وهي ساقطة في الأصل .

[33] يريد بالمنازل أعمال الآخرة .

[34] كان الصالح في هذا المكان كلمة مهدور أو مغدور .

[35] من هذه بيانية .

[36] يريد أن يذل المء ويخضع إذا سأل الله .

[37] أي بنظره إلى ما حرّم .

[38] هذا مثل عربي معروف يراد به أن القليل إلى القليل كثير .

[39] ويراد به : البلية التي يبقى أثرها دائماً كما يبقى اثر عضة القتب في غارب البصر .

[40] غيّاه أي جعل له غاية ونهاية .