مستدرك نهج البلاغة

وَمِنْ كتاب لهُ عَليه السَّلام إلى معاوية بعدما فرغ من وقعة الجمل

أما بعد،فان القضاء السابق والقدر النافذ ينزل من السماء كقَطْرِ المطر،فتمضي أحكامُهُ عز وجل،وتنفُذُ مشيئته بغير تحابِّ المخلوقين،ولا رضى الآدميين،وقد بلغك ما كان،وبيعة الناس عامة إِياي،ومصارع الناكثين عليَّ،فادخل فيما دخل الناس فيه،والا فأنا الذي عرفت،وحولي من تعلمه،والسلام.

وَمِنْ كَتاب لهُ عَليه السَّلام إلى أهل الكوفة

أما بعد،فإِني أخبركم عن أمر عثمان حتى يكون مَنْ سمعه كمن عاينه:أن الناس طعنوا عليه،فكنت رجلاً من المهاجرين أُقِلُّ عَتْبَه وأُكثر استعانة،وكان هذان الرجلان طلحة والزبير أهونُ سيرهما فيه الوجيف،وكان من عائشةَ قولٌ فيه عليَّ غَضَب،فانتحى له قوم فقتلوه،وبايعني الناس غير مستكرهين،وهما أَول من بايعني  على ما بويع عليه من كان قبلي،ثم استأذنا إلى العمرة،فأذنت لهما،فنقضا العهد،ونصَبَا الحرب،وأخرجا أُم المؤمنين من بيتها،ليتخذاها فتنة.

وَمِنْ كَتاب لهُ عَليه السَّلام كتبه إلى عقيل جواباً عن كتابه إليه

وقد روى السيد في النهج بعضه بخلاف هذه الرواية

أما بعد،يا أخي،فكلأَك الله كلاءَة من يخشاه،إنه حميد مجيد.

قدم عليَّ عبدُ الرحمن الازدي بكتابك،تذكر فيه أنك لقيتَ ابن أبي سرح في أربعين من أبناء الطلقاء من بني أمية،متوجهين إلى المغرب،وابن أبي سرح طالما كاد رسول الله،وصد عن كتاب الله وسنته،وبغاها عِوَجا،فدع ابن أبي سرح وقريشاً وتَرْ كاضَهم في الضلال،فان قريشاً قد اجتمعت على حرب أخيك اجتماعَها على رسول الله قبل اليوم،وقد جهلوا حقي،وجحدوا فضلي،ونصبوا لي الحرب،وجدوا في إطفاء نور الله،اللهم فاجز قريشاً عني بفِعالها،فقد قطعت رحمي،وظاهرت علي،وسلبتني سلطان ابن عمي،وسلمت ذلك لمن ليس في قرابتي وحقي في الإسلام،وسابقتي التي لا يدعي مثلها مدّع،إلا أن يدعي ما لا أعرف،ولا أظن أن الله يعرفه،والحمد لله على ذلك كثيراً.

وأما ما ذكرت من غارة الضحاك،فهو أذل وألأم،ولكن جاء في جريدة خيل[1] فسرحت إليه جنداً من المسلمين،فلما بلغهُ ذلك ولّى هارباً،فلحقوه ببعض الطريق،حين همت الشمس للاياب،فاقتلوا،وقُتل من أصحابه بضعة عشر رجلا،ونجا هارباً بعد أن أخذ منه بالمِخْنَق،فلو لا الليلُ ما نجا،وأن رأيي جهاد المحلين حتى القى الله،لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة،ولا تفرقهم عني وحشة،وما أكره الموت على الحق،لأن الخير كله بعد الموت لمن عقل ودعا إلى الحق،وأَما مسيرك إليَّ ببنيك وبني أبيك فلا حاجة لي في ذلك،فذرهم راشداً مهديا،فو الله ما أحب أن تهلكوا معي إن هلكت،وأنا كما قال أخو بني سليم.

فأن تسألني كيف صبري فأنني
عزيز عليَّ أن أُرى بكآبةٍ
 

 

صبور على ريب الزمان صليب
فيشمت واش أو يساء حبيب
 

وَمِنْ كَتاب لهُ عَليه السَّلام إلى عمرو بن العاص

أما بعد،فان الدنيا مَشْغَلَةٌ عن غيرها،صاحبها منهوم فيها،لا يصيب منها شيئاً إلا ازداد عليها حرصاً،ولم يستغن بما ناله عَّمالا يبلغه منها،ومن وراء ذلك فراق ما جمع.والسعيد من اتعظ بغيره،فلا تحبط عملك بمجاراة معاوية في باطله،فانه سَفِهَ الحقَّ واختار الباطل.

وَمِنْ كَتاب لهُ عَليه السَّلام إلى مِخْنَف بن سليم عامله على اصبهان وهمدان

أما بعد،فان جهاد-مَنْ صدف عن الحق رغبةً عنه-وهب في نعاس العمى والضلال اختياراً له فريضةٌ[2] على العارفين,وانا قد هممنا بالمسير إلى هؤلاء القوم الذين عملوا في عباد الله بغير ما انزل الله,واستأثروا بالفيء,وعطلوا الحدود,وأَماتوا الحق,وأظهروا في الأرض الفساد,واتخذوا القاسطين وليجةً من دون المؤمنين,فإذا وَليَ الله اعظَمَ أَحداثهم أَبغضوه,وإذا ظالم ساعدهم على ظلمهم أحبوه,أصروا على الظلم,وأَجمعوا على الخلاف – وقديماً ما صدوا عن الحق,وتعاونوا على الإثم وكانوا ظالمين – فإذا اوتيت بكتابي هذا فاستخلف على عملك أَوثق أَصحابك في نفسك,وأَقبل إلينا,لعلك تلقى معنا هذا العدو المحل,فتامر بالمعروف,وتنهى عن المنكر,وتجامع الحق,وتباين المبطل,فانه لا غنى بنا ولا بك عن أجر الجهاد,وحسبنا الله ونعم الوكيل.

ومن كتاب له عَليه السَّلام إلى عامله على البصرة وهو عبد الله بن عباس

أما بعد,فقد قدم عليَّ رسولُك وقرأت كتابك,تذكر فيه حال أهل البصرة واختلافهم بعد انصرافي عنهم,وسأخبرك عن القوم:هم بين مقيم لرغبة يرجوها,أو خائف من عقوبة يخشاها ,فارغب راغبهم بالعدل عليه,والاحسان إليه,واحلُل عقدة الخوف عن قلوبهم,وانته إلى أمري ,ولا تعْدُهُ[3] وأحسِن إلى هذا الحي من ربيعة,والى  كل من قبلك ما استطعت إن شاء الله .

ومن كتاب له عَليه السَّلام إلى جرير بن عبد الله البجلي

أما بعد,فإنما أراد معاوية الا يكون لي في عنقه بيعة,وأن يختار من أمره ما أحب,وأراد ان يريثك حتى يذوق أهل الشام وقد كان المغيرة أشار علي أن استعمله على الشام وانا بالمدينة فأبيت ذلك عليه,ولم يكن الله ليراني أتخذ المضلين عضدا,فان بايعك الرجل و إلا فأَقْبِل.

ومن كتاب له عَليه السَّلام إلى معاوية

أما بعد,فان الدنيا دار تجارة,ربحها أو خسرها الآخرة,فالسعيد من كانت بضاعته فيها الأعمال الصالحة,ومن رأى الدنيا بعينها وقدَّرَها بقدرها.وإِني لا اعظك مع علمي سابق العلم فيك مما لا مرد له دون نفاذه,ولكن الله تعالى أخذ على العلماء ان يؤدوا الامانة وان ينصحوا الغَوِيَّ والرشيد,فاتق الله ,ولا تكن ممن لا يرجو لله وقارا,ومن حقت عليه كلمة العذاب,فان الله بالمرصاد,وان دنياك ستدبر عنك,وستعود حسرة عليك,فأَقْلِعْ عما أنت عليه من الغي والضلال,على كبر سنك,وفناء عمرك,فان حالك اليوم كحال الثوب المهيل,الذي لا يصلح من جانب إلا فَسَدَ من آخر.

ومن كتاب له عَليه السَّلام إلى أهل الكوفة بالفتح

بسم الله الرحمن الرحيم,من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى أهل الكوفة,سلام عليكم,فاني احمد الله الذي لا اله إلا هو,أما بعد,فان الله حَكَمٌ عِدْل لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم,وإذا أراد الله بقوم سوأ فلا مرد له,وما لهم من دونه من وال,أخبركم عنا وعمَّن سِرْنا إليه من جموع أهل البصرة ومن تأشَّبَ إليهم,فقد سِرْتُ حتى نزلت ظهر البصرة,فأَعْذَرْتُ بالدعاء,وقمت بالحجة,وأَقلتُ العثرة والزلة من أهل الردة من قريش وغيرهم,واستتبتهم من نُكْثِهم بيعتي وعهد الله عليهم,فأَبَوْا إلا قتالي وقتال من معي,والتمادي في الغيّ,فناهضتُهم بالجهاد,فَقَتَل الله مَنْ قتل منهم ناكثاً,وولى من ولّى إلى مِصْره,وقتل طلحة والزبير على نكثهما وشقاقهما,وكانت الموتة عليهما أشأم من ناقة الحجر[4] فخذلوا وادبروا,وتقطعت بهم الأسباب,ولما رأوا ما حلّ بهم سألوني العفو عنهم فقبلتُ منهم,وأغمدت السيف عنهم,وأجريت الحق والسنة فيهم,واستعملت ابنَ عباس على البصرة,وانا سائر إلى الكوفة إن شاء الله.

ومن كتاب له عَليه السَّلام  إلى عبيد الله بن عباس وسعيد بن تمران عامليْه على اليمن لما خرجت فيه خارجة العثمانية

أما بعد,فانه قد أتاني كتابكما,تذكران فيه خروج هذه الخارجة,وتعظمان من شأنها صغيرا,وتكثران من عددها قليلا,وقد علمت أن صغر أنفسكما,وشتات رأيكما,وسوء تدبيركما,هو الذي افسد عليكما من لم يكن فاسداً – جرَّأَ عليكما من كان عن لقائكما جبانا,فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم,وتدعواهم إلى حظهم,وتقوى ربهم,فان اجابوا حمدنا الله وقبلناهم,وإن حاربوا استعنا بالله عليهم,ونابذناهم على سواء,إن الله لا يحب الخائنين.

وكتب إلى الخارجين باليمن

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من شاقَّ وغدر من أهل الجند وصنعاء,أما بعد,فاني احمد الله الذي لا اله إِلا هو الذي لا يُعقَّب له حكم,ولا يردّ له قضاء,ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين,وقد بلغني شقاقكم واعراضكم عن الدين,بعد الطاعة واعطاء البيعة,فسألت أهل الدين الخالص والورع الصادق واللب الراجح,فحدثت عن ذلك بما لم أرَ لكم في شيء منه عذراً مبيناً,ولا مقالاً جميلا,ولا حجة ظاهرة,فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا وانصرفوا إلى رحالكم,أعْفُ عنكم,وأصفحْ عن جاهلكم,واعمل فيكم بحكم الكتاب,وان لم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جمّ الفرسان,عظيم الأركان,يقصد من عصى وطغى,فتطحنوا طحن الرحى,فمن أحسن فلنفسه,ومن أساء فعليها,وما ربك بظلام للعبيد.

ومن كتاب له عَليه السَّلام إلى طلحة والزبير وعائشة

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى طلحة والزبير وعائشة سلام عليكم,أما بعد,يا طلحة والزبير,فقد علمتما اني لم أُرِد البيعة حتى أُكرِهت عليها,وأنتما ممن رضي بيعتي,فان كنتما بايعتما طائعين فتوبا إلى الله,وارجعا عما انتما عليه وان كنتما بايعتما مكرهين فقد جعلتما لي السبيل عليكما,باظهاركما الطاعة,وكتمانكما المعصية,وأنت يا طلحة,شيخَ المهاجرين وأنت يا زبير فارسَ قريش,دفعكما هذا الأمر قبل أن تدخلا فيه كان أوسع لكما من خروجكما منه قبل إِقراركما,وانتِ يا عائشة,فانك خرجت من بيتك عاصية لله ولرسوله تطلبين أمراً كان عنك موضوعاً,وتزعمين انك تريدين الإصلاح بين الناس,فخبريني,ما للنساء وقَوْد الجيوش,والبروز للرجال,وطلبت – على زعمك – دم عثمان,وعثمان رجل من بني أمية,وأنت من تيم,ثم أنت بالأمس تقولين في ملأ من أصحاب رسول الله اقتلوا نعثلا,قتله الله,فقد كفر ثم تطلبين اليوم بدمه,فاتقي الله وارجعي إلى بيتك,واسلبي  عليك سترك والسلام.

ومن وصية له عَليه السَّلام في التقّية

صُنْ دينك وعلمنَا الذي أودعناك,ولا تُبْدِ علومَنا لمن يقابلها بالعِناد,واستعمل التّقية في دينك,فان الله يقول:لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إِلا أن تتقوا منهم تقاة,وقد أذنت لك في تفضيل أعدائنا إن ألجأك الخوف إليه,وفي إظهار البراءة إن حملك الوجل عليه,وفي ترك الصلوات المكتوبات إن خشيتَ على حُشاشة نفسك الآفات والعاهات,فان تفضيلك أعداءنا عند الخوف لا ينفعهم ولا يضرنا,وإظهارك البراءة منا عند التقية لا يقدح فينا ولا ينقصنا,ولئن تبرأ منا ساعة بلسانك وأنت موال لنا بجناحك,لتبقي على نفسك روحَها التي بها قوامها,ومالها الذي به قيامها,وجاهها الذي به تمسكها,وتصون من عرف بذلك من أوليائنا وإخواننا –فان ذلك أفضل من أن تتعرض للهلاك وتنقطع به من عمل في الدين,وصلاح لإخوانك المؤمنين,وإِياك ثم إياك أن تترك التقية التي أمرتك بها,فانك شائط بدمك ودماء إِخوانك,معرض لنعمتك ونعمتهم للزوال,مذلّ لهم في أيدي أعداء الله,وقد أمرك الله بإعزازهم,فانك إن خالفت وصيتي كان ضررك على إِخوانك ونفسك أشد من ضرر الناصب لنا,الكافر بنا.

(أقول) روي في أمر البراءة ما يخالف ما في هذه الوصية وإنه "ع" قال وأما البراءة فلا تتبروا مني وفي رواية إنه قال "ع" ستعرضون من بعدي على سبيّ فسبوني,ومن عرض عليه البراءة مني فليمدد عنقه,فان برئ مني فلا دنيا له ولا آخرة.

وروي أيضاً عن أبي جعفر "ع" في رجلين بريء أحدهما فنجا،ولم يتبرأ الآخر فقتل،قال:أما الذي برئ فرجل فقيه في دينه،وأما الذي لم يبرأ فرجل تعجّل إلى الجنة(وللكلام على هذه المسألة محل آخر) .

وَمِنْ كَتاب لهُ عَليه السَّلام

روت سودةُ بنتُ عُمارة الهمدانية أنها جاءت إليه تشتكي من رجل ولاه صدقاتهم فوجدته قائما يصلي،فلما انفتل من صلاته قال لها بتعطف ورأفة،ألك حاجة؟فاخبرته خبر الرجل،فبكى ثم رفع يديه إلى السماء وقال:اللهم إِني لم آمرهم بظلم خلقك،ولا ترك حقك،ثم أخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب فيها:

بسم الله الرحمن الرحيم

   قد جاءكم بينة من ربكم،فاوفوا الكيل والميزان ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين،بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين،وما أنا عليكم بحفيظ.إذا أتاك كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك حتى يأتي من يقبضه منك والسلام.

وَمِنْ كَتاب لهُ عَليه السَّلام كتبه بعد مُنْصَرفَه من النهروان

رواه السيد ابن طاووس في كشف المحجة عن محمد بن يعقوب الكليني في كتاب الرسائل وأوردنا ههنا جملا منه تدخل في الغرض الذي توخيناه وقد تقدم ذكر كتاب له "ع" أمر أن يُقرأ على شيعته رواه ابن قتيبة وهو يضاهي هذا الكتاب في كثير من الألفاظ والمعاني.

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى شيعته من المؤمنين،وهو اسم شرفه الله في الكتاب،فانه يقول وأن من شيعته لإبراهيم،وأنتم شيعة النبي محمد كما أن محمداً من شيعته إبراهيم اسم غير مختص،وأمر غير مبتدع،سلام عليكم،والله هو السلام المؤمّن أولياءه من العذاب المهين،الحاكم عليهم بعدله،بعث محمداً "ص" وأنتم معاشر العرب على شر حال،يغدوا أحدكم كلبه ويقتل ولده،ويغير على غيره فيرجع وقد أغير عليه،تأكلون العَلْهَز[5]والهبيد[6]والميتة والدم،منيخون على أحجار خشن،وأوثان مضلة،تأكلون الطعام الجشب،وتشربون الماء الآجن,تسفكون دماءكم،ويسبي بعضكم بعضاً،فألف الله بين قلوبكم،وأصبحتم بنعمته إِخواناً،وكنتم على شفا حفرة من النار فانقذكم منها،فمضى نبي الله "ص" وقد بلغ ما أرسل به ،وترك كتاب الله وأهل بيته إِمامين،لا يختلفان وأخوين لا يتخاذلان،ومجتمعين لا يتفرقان،ولقد قبض الله محمداً"ص" ولأنا أولى الناس به مني بقميصي هذا،وما ألقي في روعي،ولا عرض في رأيي أن وجه الناس إلى غيري،ولقد أتاني رهط[7]يعرضون النصر عليّ فقلت لهم أن عندي من نبي الله عهداً،وله إلي وصية،ولست أخالف ما أمرني به،ولما رأيت الناس قد انثالوا على بيعة أبي بكر أمسكت يدي.ولما رأيت راجعة من الناس قد رَجَعَتْ عن الإسلام تدعو إِلي محو دين محمد وملة إبراهيم خشيت أن أنا لم أنصر الإسلام وأهله أر فيه ثلما وهدما تكون المصيبة عليَّ فيه أعظم من فوت ولاية أموركم،التي هي متاع أيام قلائل،ثم تزول وتنقشع،كما يزول وينقشع السحاب،فنهضت مع القوم في تلك الأحداث حتى زهق الباطل،وكانت كلمة الله هي العليا،وأن رغم الكافرون،فَوليَ أبو بكر فقارب واقتصد،فصحبتهُ مناصحا،واطعته فيما أطاع الله فيه جاهداً،حتى إذا احتُضر قلت في نفسي ليس يْعدل بهذا الأمر عني بعد ما سَمِعِ من الرسول "ص" ما سمع،ورأى مني في المواطن ما رأى،فجعلها لعمر برأيه خاصة،وكان عمر مرضيّ السيرة من الناس عند الناس،ولما احتضر جعلها برأيه شورى بين ستة،وقد كانوا يسمعون وأنا أحاجُّ أبا بكر،وأقول:نحن أحق بهذا الأمر منكم – ما كان منا من يقرأ القرآن ويعرف السنة ويدين بدين الحق – وحجتي أني ولي هذا الأمر دون قريش،فقد كان للنبي ولاء هذه الأمة،وكان لي بعده ما كان له،وما جاز لقريش من فضلها على الأمة بالنبي،جاز لبني هاشم على قريش،وجاز لي على بني هاشم،يقول النبي يوم غدير خم:من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه،إلا أن تدعي قريش فضلها على العرب بغير النبي،فان شاءوا فليقولوا ذلك،فخشي القوم إِن أنا وليت عليها أن آخذ بأنفاسهم،واعترض في حلوقهم،ولا يكون لهم في الأمر نصيب،فأجمعوا عليَّ إجماع رجل واحد،حتى صرفوا الولاية عني إلى عثمان،رجاء أَن ينالوها ويتداولوها فيما بينهم،فدعَوْني إلى بيعة عثمان فبايعته مستكرها،وصبرت محتسباً،وإِنَّ حقي على هذه الأمة كحق رجل على قوم،إن عجّلوا له حقه قَبِلَه حامداً،وإِن أخروه أخذه غير حامد،وليس يعاب المرء بتأخير حقه،وإنما يعاب من أخذ ما ليس له،وقد كان رسول الله عهد إلي عهدا فقال يا ابن أبي طالب لك ولاء أمتي،فان ولوك في عافية،واجمعوا عليك بالرضا،فقم في أمرهم،وإن اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه،فان الله سيجعل لك مخرجاً،فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا معي مساعد،إلا أهل بيتي فضَنِنْتُ بهم عن الهلاك،وأغضيت عيني على القذى،وتجرعت ريقي على الشجا وصبرت على أمرّ من العلقم،وآلم للقلب من حز الشفار.وأما عثمان فقد خذله أهل بدر،وقتله أهل مصر،وأنا جامع لكم أمره استأثر فأساء الأثرة وجزعتم فأسأتم الجزع،والله يحكم بينكم وبينه،فلما قتلتموه آتيتموني تبايعونني،فأبيت عليكم وأَبيتم علي،فقبضت يدي فبسطتموها وبسطتها فمددتموها،ثم تداككتم علي تَدَاكّ الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها،حتى ظننت أنكم قاتليّ،وأن بعضكم قاتل بعض،وحتى انقطعت النعل،وسقطت الرداء،ووُطِيء الضعيف،وبلغ من سرور الناس بيعتهم إياي أن حُمِلَ إليها الصغير،وهدج إليها الكبير،وتحامل العليل وحَسَرَتْ لها الكَعَاب،فبايعتم على كتاب الله وسنة نبيه،ودعوتُ الناس إلى بيعتي،فمن بايعني طائعاً قبلته،ومن أبى تركته،فكان أول من بايعني طلحة والزبير،فقالا:نبايعك على أنا شركاؤك في الأمر فقلت:لا،ولكنكما شركائي في القوة،وعوناي في العجز،فبايعاني على هذا الأمر،ولو أبيا لم أُكْرِهْهما،كما لم أُكْرِهْ غيرهما،وكان طلحة يرجو اليمن،والزبير العراق،فلما علما أني غير مولّيهما استأذناني للعُمْرة،وهما يريدان الغَدْرة،فأتيا عائشة فاستخفاها – والنساء نواقص العقول – واتخذاها فئة يقاتلان دونها،فأيُّ خطيئة أعظم مما أتيا!أخرجا زوج رسول الله "ص" من بيتها وكشفا عنها حجابا ستره الله عليها،حلائلهما في بيوتهما،وقد بغيا عليَّ ونكثا بيعتي ومكرا بي فبليت بأطوع الناس:عائشة بنت أبي بكر،وباشجع الناس:الزبير،وبأخصم الناس:طلحة،فأتَوْا البصرة وأهلها مجتمعون على بيعتي وطاعتي،فدَعوْا الناس إلى معصيتي،فناجزهم حكيم بن جبَلة فقتلوه،في سبعين رجلا من عبّاد أهل البصرة،ومُخْبِتيهم،كأن راح أكفهم ثفنات الإبل[8]،وأخذوا عاملي عثمان بن حنيف غدراً فمثلوا به كل المثلة،وقتلوا شيعتي،طائفة صبراً وطائفة غدراً،وقد أدال الله منهم،فبعداً للقوم الظالمين،فلما قضى الله لي بالحسنى سرت إلى الكوفة،واستخلفت عبيد الله بن العباس على البصرة،فقدمت إلى الكوفة وقد اتسقت لي الوجوه كلها،إلا الشام،فأحببت أن أتخذ الحجة وأقْصِي العذر،وأخذت بقول الله تعالى :" وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ"فبعثت جرير بن عبد الله إلى معاوية,فرد كتابي,وجحد حقي,ودفع بَيْعتي,وتظرت إلى أهل الشام فإذا هم بقية الأحزاب,فراش[9] نار,وذئاب طمع,تجمَّعُ من كل أو ممن ينبغي له أن يؤدب ويحمل على السنة,ليسوا من المهاجرين ولا الأنصار,ولا التابعين بإحسان,فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة فأبوا إلا فراقي وشقاقي,ثم نهظوا في وجه المسلمين ينظمونهم بالنبل ويشجرونهم بالرماح,فعند ذلك نهضت إليهم,فلما عضهم السلاح ووجدوا ألم الجراح رفعوا المصاحف,فدعوكم إلى ما فيها,فأنبأتكم انهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن,وإنما رفعوها مكيدة وخديعة,فامضوا لقتالهم,فقلتم:أقْبَلْ منهم,واكفف عنهم,ثم اني أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم فقلتم:كلت سيوفنا,ونصلت رماحنا,وعاد أكثرها قصيدا[10] فأذنْ لنا لنستعد باحسن عدتنا,حتى إذا أظللتم على النخيلة أمرتكم ان تلزموا معسكركم,ولا تكثروا زيارة ابياتكم ونسائكم,فان أصحاب الحرب مصابروها,وأهل التشمير فيها والذين لا يتوجدون من سهر ليلهم ولا ظمأ هواجرهم ولا فقدان أولادهم ونسائهم.فأقامت منكم طائفة مُعْذِرة,وطائفة دخلت المصر عاصية,فلا من دخل المصر عاد إِليَّ,ولا من أقام منكم ثبت معي,لله أبوكم!الا ترون إلى مصر قد افتتحت والى أطرافكم قد انتقت,والى بلادكم تغزى,وانتم ذوو عدد جم,وشوكة شديدة,واولوا بأس قد كان مخوفا,فأين تذهبون,وأنى تأفكون,والقوم قد جدوا وتناصروا,وانكم أبيتم وونيتم وتخاذلتم وتغاششتم,ما أنتم ان بقيتم على ذلك سعداء,فنبهوا رحمكم الله نائمكم,وتحرَّوْا لحرب عدوكم,فقد أَبْدَت الرِّغْوَةُ عن الصريح,وأضاء الصبح لذي عينين,فانتم تقاتلون الطلقاء وأبناء الطلقاء وأهل الجفاء ومن أسلم كرهاً وكان لرسول الله والإسلام حرباً,أعداء السنة والقرآن,وأهل البدع والأحداث وأكلة الرشا,وعبيد الدنيا,ولقد أُنْهِيَ إِلي أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتيَّة[11] هي أَعظم ما في يديه من سلطان,فصفِرَتْ يدُ هذا البايع دينه بالدنيا,وخزِيَتْ أمانة هذا المشتري بنصرةِ فاسق غادر بأموال المسلمين!فهؤلاء كانوا للإسلام ضدا,ولنبي الله حربا,وللشيطان حزبا,لم يتقدم إيمانهم,ولم يَحِدُثْ نفاقهم,ولو ولوا عليكم لأظهروا فيكم الفخر والنكر والفساد في الأرض,وأنتم على ما كان منكم من تواكل وتخاذل خير منهم وأهدى سبيلا,منكم الفقهاء والعلماء وحملة الكتاب والمتهجدون بالأسحار,ألا تسخطون وتنقمون ان ينازعكم الولايةَ السفهاءُ البِطَاءُ عن الإسلام,الجفاةُ فيه,فأسمعوا قولي إذا قلت وأطيعوا أمري إذا أمرت,فوالله لئن أطعتموني لا تغووا,وان عصيتموني لا ترشدوا,أفمن يهدي إلى الحق أحق ان يتبع أمن لا يَهدِي إِلا أن يُهْدَى فما لكم كيف تحكمون.وقال تعالى لنبيه:إِنما أنت منذر ولكل قوم هاد.فمن عسى أن يكون الهادي الا الذي دعاكم إلى الحق,وقادكم إلى الهدى؟فخذوا للحرب اهبَتَها,وأعدوا لها عدتها,فقد شبت وأوقدت نارها,وتجرد لكم الفاسقون لكيما يطفئوا نور الله بأفواههم,ويغزو عباد الله,وليس أولياء الشيطان,من أهل الطمع والجفاء أولا بالحق من أهل البر والاخبات,فوالله إني للشهادة لمحب,والى لقاء ربي لمشتاق,ولحسن ثوابه لمنتظر,وإني نافر بكم,فانفروا خفافا وثقالا,وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ولا تثاقلوا في الأرض فتُعمُّوا بالذل,وتقروا بالخسف,ويكون نصيبكم الخسران.

ومن وصية له عَليه السَّلام لأبنه محمد بن الحنفية

يا بني,لا تقل ما لم تعلم,بل لا تقل كل ما تعلم,فان الله قد فرض على جوارحك كلها فرائض يحتج بها عليك يوم القيامة,ويسألك عنها,فاتق الله يا بني,و استعملها بطاعته ورضوانه ، و إياك أن يراك اله – تعالى ذكره – عند معصيته ، أو يفقدك عند طاعته ، فتكون من الخاسرين ، وعليك بقراءة القرآن ، و العمل بما فيه ، ولزوم فرائضه وشرائعه ، وحلاله وحرامه ، و أمره ونهيه ، و التهجد به وتلاوته ، في ليلك ونهارك ، فإنه عهد من الله تبارك تعالى إلى خلقه ، وعلى كل مسلم أن ينظر كلَّ يوم في عهدِه .

ومن كِتابٍ لهُ عَليه السَّلام إلى ابنه محمد بن الحنفية

[ ذكره ابن عبد ربه في عقده وفيه بعض الفقرات المروية في وصيته "ع"التي أولها من الولد الفاني ] .

تفقَّهْ في الدين ، وعوِّد نفسك الصبر على المكروه ، وكلْ نفسك في أمورك كلها إلى الله عز وجل ،فإنك تكِلْها إلى كافٍ حريز ، ومانع عزيز ، وأَخْلِص المسألة لربك ، فإن بيده العطاء و الحرمان ، و اكثر الاستخارة له ، واعلم أن من كان مطيته الليل و النهار يُسارُ به ولا يسير ، فإن الله تعالى قد أبى إلا خراب الدنيا وعمارة الآخرة ، فإن قدرتَ أن تزهد فيها زهدك كله فافعل ذلك ، وإن كنت غير قابل نصيحتي إياك ، فاعلم علماً يقيناً أنك لن تبلغ أملك ، ولن تعدو أجلك ، فأكرم نفسك عن كل دنَّية وإن ساقكَ رَغَبٌ فانك تعتاض بما ابتذلت من نفسك ، و إياك أن توجف بك مطايا الطمع ، وتقول متى ما أُخِّرْتُ نزعت[12] فإن هذا أهلك من هلك قبلك ، وأمسِكْ عليك لسانك ، فإن تلافيك ما فَرَط من صمتك أيسرُ عليك من إدراك ما فات من منطقك ، و احفظ ما في الوعاء ، وشُدَّ الوكاء[13] ،فحسن التدبير مع الاقتصاد أبقى من الكثير مع الفساد ، و العفة مع الحرفة ، خير من السرور مع الفجور ، و المرء أحفظُ لسره ، ولربما سعى فيما يضره ، و إياك و الاتكال على الأماني فإنها بضائع النوكي ، وتثبط عن الآخرة و الأولى ، ومن خير حظ الدنيا القرينُ الصالح ، فقارن أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشر تبن عنهم ، ولا يَغْلِبَنَّ عليك سوء الظن ، فإنه لن يدع بينك وبين خليل صلحا ، و أَذْكِ قلبك بالأدب كما تذَكى النار بالحطب ، و اعلم أن كفر النعمة لؤم ، وصحبة الأحمق شؤم ، ومن الكرم منع الحُرم[14] ، ومن حلم ساد ، ومن تفهم ازداد ، إمحض أخاك النصيحة – حسنة كانت أو قبيحة – ، ولا تصْرِم أخاك على ارتياب ، ولا تقطعه دون استعتاب ، وليس جزاء من سرك أن تسوءه ، و الرزق رزقان: رزقه تطلبه ورزق يطلبك ، فإن لم تأته أتاك ، و اعلم يا بني إن مالك من دنياك إلا ما أصلحت به من مثواك ، فأنفِقْ من خيرك ، ولا تكن خازناً لغيرك ، ولم يهلك امرؤ اقتصد ، ولم يفتقر من زَهِد ومن ائتمن الزمانَ خانه ، ومن تعظَّم عليه أهانه . رأس الدين اليقين ، وتمام الإخلاص اجتناب المعاصي ،وخير المقال ما صَدَقَتْهُ الفعال . سل عن الرفيق قبل الطريق ، وعن الجار قبل الدار ، و احمل لصديقك عليك ، واقبل عذر من اعتذر إليك ، و أخر الشر ما استطعت ، فانك إذا شئت تعجلته ، ولا يكن أخوك على قطيعتك أقوى منك على صلته ، وعلى الإساءة أقوى منك على الإحسان ولا تُمَلِّكَنَّ المرأة من الأمر ما يجاوز نفسَها فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانه ، فإن ذلك أدوم لحالها و أرخى لبالها ، و اغضض بصرها بسترك ، و اكففها بحجابك و اكرم الذين بهم تصول وتطول ، و أسال الله أن يلهمك الشكر و الرشد ويقويك على العمل بكل خير .

 ومن كِتابٍ لهُ عَليه السَّلام لبعض عماله

أما بعد ، فلا يكن حظك في ولايتك مالاً تستفيده ، ولا غيظاً تشفيه ، ولكن إماتة باطل ، و إحياء حق .

ومن كِتابٍ لهُ عَليه السَّلام                   

غرك عزك فصار قصار ، ذلك ذلك ، فاخش فاحش ، فعلك فعلك ، تهدى بهذا .

ومن وَصيّةٍ لهُ عَليه السَّلام لكميل بن زياد

يا كميل ، لا تأخذ إلا عنا تكن منا ، وما من حركة إلا و أنت محتاج فيها إلى معرفة .

 يا كميل ،قل الحق على كل حال ، وواصل المتيقن ، و اهجر الفاسقين ، جانب المنافقين .

يا كميل ،إن أحب ما امتثله العباد إلى الله بعد الإقرار به و بأوليائه التجمل و التعفف و الاصطبار .

يا كميل ، لا باس أن تُعْلِم أخاك سرك ، ومن أخوك ؟ أخوك الذي لا يخذلك عند الشديدة ، ولا يقعد عنك عند الجريرة ، ولا يدعك حتى تسأله ، ولا يذرك حتى تُعْلِمه ، و المؤمن مرآة المؤمن ، يتأمله ويسد فاقته .

يا كميل ،قل عند كل شدة : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم تُكْفَها [15]وعند كل نعمة الحمد لله تزدد منها ، وإن أبطأتْ الأرزاق عليك فاستغفر الله يوسعْ عليك [16]، و إذا وسوس الشيطان في صدرك فقل أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي، و أعوذ بمحمد الرضي من شر ما قَدَّر وقضى ، و أعوذ بإله الناس من شر الجِنّة و الناس أجمعين ، تُكْفَ مؤونة إبليس و الشياطينَ معه .

يا كميل ، إن ذنوبك اكثرُ من حسناتك ، وغفلتك اكثر من ذكرك ، ونعم الله عليك ، اكثر من علملك ، ولا تخلو من نعمه عليك وعافيته إياك ، فلا تخلُ من حمده وشكره وتمجيده وذكره على كل حال .

يا كميل ،  ليس الشأن أن تصلي وتصوم وتتصدق ، و إنما الشأن أن تكون الصلاة بقلب نقي وعمل عند الله مرضي ، و انظر فيما تصلي وعلام تصلي ، فإن لم يكن من وجهه وحله فلا قبول .

يا كميل ، القلب و اللسان يقومان بالغذاء فإن لم يكن ذلك من وجهه وحله لم يتقبل الله تسبيحاً ولا شكرا .

 ومن وَصيّةٍ لهُ عَليه السَّلام لولده الحسن "ع"

منها

يا بني عليك بالصمت عند الشبهة ، و العدل في الرضا و الغضب ، وحسن الجوار ، و إكرام الضيف ، ورحمة المجهود [17]، وصلة الرحم ، وحب المساكين ، وقصر الأمل ، وذكر الموت ، و الزهد في الدنيا ، فانك رهين موت ، وغرض بلاء ، وصريع سقم ، و أوصيك بخشية الله في السر و العلانية ، و أنهاك عن التسرع في القول و الفعل ، و إذا عرض شيء من أمر الآخرة فابدأه [18]، و إذا عرض شيء من امر الدنيا فتأنه ، حتى تصيب رشدك فيه ، و إياك ومواطن التهمة و المجلس المظنون به السوء ، فإن قرين السوء يعدى جليسه وكن يا بني لله عاملاً ، وعن الخنى زاجراً ، وبالمعروف آمراً ، وعن المنكر ناهياً ، ودار الفاسقَ عن دينك ، و أبغضه بقلبك ، وزايله بأعمالك ، و الزم الصمت تسلم ، وقدم لنفسك تغنم ، وجاهد نفسك ، وعليك بمجالس الذكر ، وكن لله ذاكراً في كل حال .

ومن وَصيّةٍ لهُ عَليه السَّلام

كيف بك إذا صِرتَ في قوم صبيهم غاوٍ ، وشابهم فاتك ، وشيخهم لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر ، قد استحوذ عليه هواه ، وتمسك بعاجل دنياه ، لا يهابون إلا من يخافون لسانه ، ولا يكرمون إلا من يرجون نواله ، لا يسمعون دعاء ، ولا يجيبون سائلاً ، قد استولت عليهم سكرة الغفلة ،وغرّتهم الحياة الدنيا ، إن تركتهم لم يتركوك ، وإن تابعتهم اغتالوك ، ، إخوان الظاهر ، و أعداء السرائر ، يتصاحبون على غير تقوى ، واذا افترقوا ذم بعضهم بعضا ، تموت فيهم السنن ، وتحيا البدع ، فكن عند ذلك يا بني كابن اللبون لا ظهر فيركب ، ولا ضرع فيحلب ، ولا وبر فيسلب، وما طلابك لقوم إن كنت فيهم عالماً عابوك ، وإن كنت جاهلاً لم يرشدوك ، وإن طلبت العلم قالوا متكلف ، وإن تركت طلب العلم قالوا عاجز ، وإن تحققت لعبادة ربك قالوا متصنع ، وإن لزمت الصمت قالوا ألكن ، وإن نطقت قالوا مهذار ، وإن أنفقت قالوا مسرف ، وإن اقتصدت قالوا بخيل .

ومن وَصيّةٍ لهُ عَليه السَّلام لولده الحسين "ع"

يا بني ، أوصيك بتقوى الله في الغنى و الفقر ، وكلمة الحق في الرضا و الغضب، و العدل على الصديق و العدو ، و العمل في النشاط و الكسل ، و الرضا من الله في الشدة و الرخاء .

أي بني ، الفكرة تورث نورا ، و الغفلة تورث ظلمة ، و الجدال ضلالة وليس مع قطيعة الرحم نماء ، ولا مع الفجور غنى .

يا بني ، العافية عشرة أجزاء : تسعة منها الصمت إلا بذكر الله ، وواحد في ترك مجالسة السفهاء .

أي بني ، رأس العلم الرفق ، و آفته الخُرْق ، ومن كنوز الإيمان الصبر على المصائب ، و الطمأنينة قبل الخبرة ، ضد الحزم ، وكثرة الزيارة توجب الملالة ، وكم نظرة جلبتْ حسرة ، وكم من كلمة سلبت نعمة ، ومن تورط في الأمور بغير نظر في العواقب فقد تعرض للنوائب ، و التدبر قبل العمل يؤمنك الندم ، و الصبر جُنَّةٌ من الفاقة ، و الحرص علامة الفقر ، و البخل جلباب المسكنة .

أي بني ، من تحرى الصدق خفت عليه المؤن ، وفي خلاف النفس رشدها ، و الساعات تنقص الأعمار ، ولا تنال نعمة إلا بفراق أخرى ، فطوبى لمن اخلص لله علمه وعمله ، وحبه وبغضه ، و اخذه وتركه ، وكلامه وصمته ، وفعله وقوله ، وبخٍ بخٍ لعالم عمل فجد ، وخاف البيات فاعد و استعد ، إن سئل نصح ، وإن ترك صمت، كلامه صواب ، وسكونه من غير عي جواب ، و الويل كل الويل لمن بلي بحرمان وخذلان فاستحسن لنفسه ما يكرهه لغيره ، و أزرى على الناس بمثل ما يأتي .

و اعلم يا بني أن من لانت كلمته وجبت محبته ، وفقك الله لرشده ، وجعلك من أهل طاعته انه جواد كريم .

ومن وَصيّةٍ لهُ عَليه السَّلام لأصحابه

أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإنها غبطة الطالب الراجي ، وثقة الهارب اللاجي و استشعروا التقوى شعاراً باطناً ، و اذكروا الله ذكراً خالصاً تحيوا به افضل الحياة ، وتسلكوا به طريق النجاة ، و انظروا في الدنيا نظر الزاهد المفارق ، فإنها تزيل الثاوي الساكن ، وتفجع المترف الآمن ، لا يرجى ما تولى منها فادبر ، ولا يدري ما هو آت فينتظر ، وصل الرجاء منها بالبلاء ، و البقاء فيها بالفناء ، فسرورها مشوب بالحزن ، و البقاء فيها إلى الضعف و الوهن ، فهي كروضة اعتم مرعاها و اعجب من يراها ، عذبٌ شُربْها ، طيب ترابها ، تمج عروقها الثرى ، وتنطف فروعها الندى ، حتى إذا بلغ العشب أبانه ، و استوى نباته ، هاجت ريح تحت الورق وتفرق ما اتسق ، فأصبحت كما قال الله تعالى : " هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا".

  ومن وَصيّةٍ لهُ عَليه السَّلام إلى ولده محمد "رضي الله عنه"        

[ وقد اقتصرنا على رواية ما لم يروه السيد منها فقد روي منها جملاً شتى في الباب الثالث من النهج ولا ضير لو تكرر شيء مما رواه عن سهو أو غفلة فانه المسك].

جالس أهل الخير تكن منهم ، وباين أهل الشر ومن يصدك عن ذكر الله تبن منهم ، ومن خير حظ المر قرين صالح ، وأذك قلبك بالأدب كما تذكى النار بالحطب ، واضمم آراء الرجال ، و اختر أقربها إلى الصواب و أبعدها عن الارتياب ، والجأ في أمورك كلها إلى الله فإنك تلجئها إلى كهف حصين وحرز حريز ومانع عزيز ، وأخْلص المسألة لربك فإن بيده الخير و الشر و الإعطاء و المنع و الصلة و الحرمان ، فكم من طالب متعب نفسه مقتر عليه رزقه ومقتصد في الطلب قد ساعدته المقادير ، وكل مقرون به الفناء ، و اليوم لك و أنت من بلوغ غد على غير يقين ، و لرب مستقبل يوم ليس بمستدبره ، ومغبوط في أول ليل قام في آخره بواكيه ، فلا يغرنك من الله طول النعم و إبطاء موارد النقم ، فانه لو خشي الفوت لعاجل بالعقوبة قبل الموت .

يا بني ، اقبل من الحكماء ومواعظهم ، وتدبر حكمهم ، وكن آخَذَ الناس بما تؤمر به ، وأكَفَّ الناس عما تنهى عنه ، و أمر بالمعروف تكن من أهله ، وتفقه في الدين فإن الفقهاء ورثة الأنبياء ، وهم الدعاة إلى الجنان ، و الأدلاء على الرحمن .

يا بني ، احسن إلى جميع الناس كما تحب أن يحسن إليك ، و ارض لهم ما ترضاه لنفسك ، و استقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك ، وحسّن خلقك مع الناس حتى إذا غبت حنوا إليك و إذا مت بكوا عليك ، و اعلم أن رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس ، ولا خير فيمن لا يعاشر بالمعروف من لا بد له من معاشرته ، حتى يجعل الله إلى الخلاص منه سبيلا .

ومنها

مَنْ مَنَّ بمعروفه أفسده ، ومن أساء خلقه عذّب نفسه ، وليس من العدل القضاء بالظن على الثقة ، وما اقبح الأشر عند البطر ، و الكآبة عند النائبة ، و القسوة على الجار ، و الخلاف على الصاحب ، و الغدر من السلطان .يا بني ، اعرف الحق لمن عرفه لك شريفاً كان أو وضيعاً ، فمن ترك القصد جار، ومن تعدى الحق ضاق مذهبه ، وقد يكون اليأس إدراكاً ، و الطمع هلاكاً ، و الفساد يبير الكثير ، و الاقتصاد ينمي اليسير ، وإن من الكرم الوفاء بالذمم ، ومن كَرُمَ زاد ، ومن تفهم ازداد ، وامْحَضْ أخاك النصح ، وساعده في كل حال ما لم يحملك على معصية الله ، ولا تصرم أخاك على ارتياب ، ولا تقاطعه دون استعتاب ، فلعل له عذراً و أنت تلوم ، و اقبل من متنصل عذره ، و أكرم الذين بهم نصرك ، و ازدد لهم على طول الصحة برا و إكراما ، وليس جزاء من عظَّمَ شأنك أن تضع من قدره ، ولا جزاء من سرك أن تسوءه ، و اكثر البر ما استطعت لجليسك ، ومن كساه الحياء ثوبه اخفي عن الناس عيبه ، ومن تحرى القصد خفت عليه المؤن ، ومع كل شدة رخاء ، ولا تنال نعمة إلا بعد أذى ، ولا خير في لذة من بعدها النار .

يا بني ، لا تضيعين حق أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه ، فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه، ولا يكوننَّ أخوك على قطيعتك أقوى منك على صلته ، ولا على الإساءة إليك أقوى منك على الإحسان إليه .

ومن وَصيّةٍ لهُ عَليه السَّلام إلى وِلْدِه و أهل بيته

[ روي في النهج شيء منها وروي عن سليم بن قيس الهلالي قال شهدت وصية أمير المؤمنين "ع"حين أوصى إلى ابنه الحسن "ع"و اشهد على وصيته الحسين ومحمداً وجميع ولده ورؤساء أهل بيته وشيعته ثم دفع إليه الكتاب و السلاح ثم قال ] :

يا بني ، أمرني رسول الله "ص" أن أوصي إليك وأن ادفع إليك كتبي وسلاحي كما أوصى أليَّ رسول الله ودفع أليَّ كتبه وسلاحه و أمرني أن آمرك إذا حضرك الموت أن تدفع إلى أخيك الحسين . . . إلى أن قال . . . ثم اقبل على ابنه الحسن فقال :

يا بني ، أنت ولي الأمر وولي الدم فإن عفوت فلك ، وإن قتلت فضربة مكان ضربة ولا تأثم ، ثم قال : اكتبْ : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به عليُّ ابن أبي طالب : أوصى انه يشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ارسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون "ص" ثم إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت و أنا أول المسلمين ، ثم أني أوصيك يا حسن وجميع ولدي و أهل بيتي ومن بلغه كتابي من المؤمنين بتقوى الله ربكم ، ولا تموتون إلا و أنتم مسلمون ، و اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ، فإني سمعت رسول الله "ص" يقول : صلاح ذات البين افضل من عامة الصلاة و الصيام ، و أن المبيرة الحالقة للدين فساد ذات البين ولا قوة إلا بالله ، انظروا ذوي أرحامكم فصلوهم يهّوِنُ الله عليكم الحساب ، و اللهَ اللهَ في الأيتام فلا تغيروا أفواههم ، ولا يضيعوا بحضرتكم ، فإني سمعت رسول الله يقول من عال يتيماً حتى يستغني أوجب الله له بذلك الجنة ، كما أوجب لآكل مال اليتيم النار ، و اللهَ اللهَ في القرآن فلا يسبقنَّكم إلى العمل به أحدٌ غيركم ، و اللهَ اللهَ في جيرانكم فإن الله ورسوله أوصيا بهم، وما زال رسول الله "ص" يوصي بهم حتى ظننا انه يورثهم ، و اللهَ اللهَ في بيت ربكم فلا يخلون منكم ما بقيتم ، فانه إن ترك لم تناظروا ، و أدنى ما يرجع به من أمَّهُ أن يغفر له ما سلف من ذنبه ،و اللهَ اللهَ في الصلاة فإنها خير العمل ، و إنها عمود دينكم ، و اللهَ اللهَ  في الزكاة فإنها تطفئ غضب ربكم ، و اللهَ اللهَ في صيام شهر رمضان فإن صيامه جُنَّةٌ من النار ، واللهَ اللهَ  في الفقراء و المساكين فشاركوهم في معايشكم ، واللهَ اللهَ في الجهاد في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم و ألسنتكم فإنما يجاهد في سبيل الله رجلان : إمامُ هدى أو مطيع له مقتد بهداه ، واللهَ اللهَ في ذرية نبيكم ، فلا يُظْلَمُنَّ بين ظهرانيكم و أنتم تقدرون على الدفع عنهم ، واللهَ اللهَ في أصحاب نبيكم الذين لم يُحْدِثوا حدثاً ولم يُؤوُوا محدثاً فإن رسول الله "ص" أوصى بهم ، ولعن المحدث منهم ومن غيرهم ، واللهَ اللهَ في النساء وفيما ملكت أيمانكم فإن آخر ما تكلم به نبيكم أنْ قال أوصيكم بالضعيفين : النساء وما ملكت أيمانكم ، ولا تخافن في الله لومة لائم يكفكم الله من أرادكم وبغى عليكم ، وقولوا للناس حسنا كما أمركم الله عز وجل ، ولا تتركن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولي الله الأمر شراركم ثم تدْعون فلا يستجاب لكم ، وعليكم يا بنيَّ بالتواصل و التباذل و التبارّ ، و إياكم و التقاطع و التدابر و التفرق ، وتعاونوا على البر و التقوى وةلا تعاونوا على الإثم و العدوان ، و اتقوا الله إن الله شديد العقاب ، حفظكم الله من أهل بيت وحفظ فيكم نبيكم ، و استودعكم الله و اقرأ عليكم السلام قال[19]: ( ثم لم يزل يقول لا اله إلا الله حتى قبض في أول ليلة من العشر الأواخر ليلة إحدى وعشرين من شهر رمضان ليلة الجمعة لأربعين سنة مضت من الهجرة .


[1] قطعة من الخيل.

[2] فريضةٌ بالرفع خبر إِن

[3] أي لا تتخط أمري.

[4] هي ناقة صالح والحجر منازل ثمود قوم صالح.

[5] طعام يتخذ من الدم والوبر عند المجاعة والقراد الضخم.

[6] الحنظل.

[7] منهم ابنا سعيد والمقداد بن الأسود وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر وسلمان الفارسي والزبير بن العوام والبراء بن عازب.

[8] أي من طول بسطها على الأرض والارتكاء عليها عند السجود.

[9] أي جهل مغرورون كما يقع الفراش على النار من غير حذر جهلا منه وغروراً.

[10] قصيدا:عصى.

[11] أي يعطيه عطية بمعناها ووزنها لغة ولفظا.

[12] أي تقول أني اعصي حتى إذا طال عمري رجعت في نهايته عن العصيان.

[13] أي وكاء الأسقية لئلا يصيبها أذى فتصاب به . هذا من أروع وصايا الإسلام . 

[14] أي حماية الأهل من الكرم بل ذلك أولى من حماية الغريب بإكرامه .

[15] أي تردّ عنك الشدة .

[16] جعفر الصادق .

[17] المجهود : المضني بالتعب .

[18] أسرع إلى إنجازه .

[19] أي سليم بن قيس الهلالي راوي هذه الوصية كما جاء في أولها .