نهج البلاغة

خطب الامام علي عليه السلام ج 1


[ 1 ]

نهج البلاغة وهو مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام

شرح الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده

مفتي الديار المصرية سابقا

 الجزء الاول

الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر بيروت لبنان


[ 2 ]

من هو الامام علي؟ اجتمع للامام علي بن أبي طالب من صفات الكمال، ومحمود الشمائل، والخلال، وسناء الحسب وباذخ الشرف، مع الفطرة النقية، والنفس المرضية، ما لم يتهيأ لغيره من أفذاذ الرجال. تحدر من أكرم المناسب، وانتمى إلى أطيب الاعراق، فأبوه أبو طالب عظيم المشيخة من قريش. وجده عبد المطلب أمير مكة وسيد البطحاء ثم هو قبل من هامات بني هاشم وأعيانهم، وبنو هاشم كانوا كما وصفهم الجاحظ: " ملح الارض، وزينة الدنيا، وحلى العالم، والسنام الاضخم، والكاهل الاعظم، ولباب كل جوهر كريم، وشر كل عنصر شريف، والطينة البيضاء، والمغرس المبارك والنصاب الوثيق، ومعدن الفهم، وينبوع العلم. " واختص بقرابته القريبة من الرسول عليه السلام، فكان ابن عمه، وزوج ابنته وأحب عترته إليه، كما كان كاتب وحيه، وأقرب الناس إلى فصاحته، وبلاغته، وأحفظهم لقوله وجوامع كلمه، أسلم على يديه صبيا قبل أن يمس قلبه عقيدة سابقة أو يخالط عقله شوب من شرك موروث، ولازمه فتيا يافعا، في غدوه ورواحه وسلمه وحربه، حتى تخلق بأخلاقه، واتسم بصفاته وفقه عنه الدين، وثقف ما نزل به الروح الامين، فكان من أفقه أصحابه وأقضاهم، وأحفظهم وأوعاهم، وأدقهم في الفتيا، وأقربهم إلى الصواب، وحتى قال فيه عمر: لابقيت لمعضلة ليس فيها أبو الحسن، وكانت حياته كلها مفعمة بالاحداث، مليئة بجلائل الامور، فعلى عهد الرسول عليه السلام، ناضل المشركين واليهود، فكان فارس الحلبة ومسعر الميدان صليب النبع جميع الفؤاد. ذلك هو الامام علي بن أبي طالب عليه السلام.


[ 3 ]

مقدمة الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده بسم الله الرحمن الرحيم حمد لله سياج (1) النعم. والصلاة على النبي وفاء الذمم. واستمطار الرحمة على آله الاولياء، وأصحابه الاصفياء، عرفان الجميل وتذكار الدليل (2): وبعد فقد أوفى لي حكم القدر بالاطلاع على كتاب (نهج البلاغة) مصادفة بلا تعمل. أصبته على تغير حال وتبلبل بال، وتزاحم أشغال، وعطلة من أعمال. فحسبته تسلية، وحيلة للتخلية فتصفحت بعض صفحاته، وتأملت جملا من عباراته. من مواضع مختلفات، وموضوعات متفرقات. فكان يخيل إلي في كل مقام أن حروبا شنت وغارات شنت وأن للبلاغة دولة، وللفصاحة صولة. وأن للاوهام عرامة (3) وللريب دعارة. وأن جحافل الخطابة، وكتائب الذرابة، في عقود النظام وصفوف الانتظام، تنافح بالصفيح الابلج (4) والقويم الاملج. وتمتلج المهج برواضع الحجج. فتفل من دعارة الوساوس (5) وتصيب مقاتل الخوانس. والباطل منكسر ومرج الشك في خمود (6) وهرج الريب في ركود. وأن مدبر تلك الدولة، وباسل تلك الصولة، هو حامل لوائها الغالب، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب.


(1) السياج: ما أحيط به على شئ (2) معرفة طريق الحق والهداية إليه. (3) العرمة الشراسة. والدعارة سوء الخلق. والجحافل الجيوش. والكتائب الفرق منها والذرابة حدة اللسان في فصاحة. والكلام تخيل حرب بين البلاغة وهائجات الشكوك والاوهام. (4) تنافح تضارب أشد المضاربة. والصفيح السيف والابلج اللامع البياض. والقويم الرمح والاملح الاسمر. وهي مجازات عن الدلائل الواضحة والحجج القويمة المبددة للوهم وإن خفي مدركها وتمتلج أي تمتص. والمهج دماء القلوب لا تبقي للاوهام شيئا من مادة البقاء. (5) فل الشئ ثلمه والقوم هزمهم. والخوانس خواطر السوء تسلك من النفس مسالك الخفاء. (6) المرج الاضطراب. والهرج هيجان الفتنة

[ 4 ]

بل كنت كلما انتقلت من موضع إلى موضع أحس بتغير المشاهد. وتحول المعاهد فتارة كنت أجدني في عالم يغمره من المعاني أرواح عالية. في حلل من العبارات الزاهية تطوف على النفوس الزاكية. وتدنو من القلوب الصافية: توحي إليها رشادها. وتقوم منها مرادها. وتنفر بها عن مداحض المزال. إلى جواد الفضل والكمال. وطورا كانت تتكشف لي الجمل عن وجوه باسرة (1)، وأنياب كاشره. وأرواح في أشباح النمور، ومخالب النسور. قد تحفزت للوثاب، ثم انقضت للاختلاب فخلبت القلوب عن هواها، وأخدت الخواطر دون رماها. واغتالت فاسد الاهواء وباطل الآراء. وأحيانا كنت أشهد أن عقلا نورانيا، لا يشبه خلقا جسدانيا، فصل عن الموكب الالهي، واتصل بالروح الانساني. فخلعه عن غاشيات الطبيعة وسما به إلى الملكوت الاعلى. ونما به إلى مشهد النور الاجلي. وسكن به إلى عمار جانب التقديس. بعد استخلاصه من شوائب التلبيس (2). وآنات كأني أسمع خطيب الحكمة ينادى بأعلياء الكلمة، وأولياء أمر الامة، يعرفهم مواقع الصواب ويبصرهم مواضع الارتياب ويحذرهم مزالق الاضطراب. ويرشدهم إلى دقاق السياسة. ويهديهم طرق الكياسة، ويرتفع بهم إلى منصات الرئاسة ويصعدهم شرف التدبير، ويشرف بهم على حسن المصير ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. جمع متفرقه وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسما أليق بالدلالة على معناه منه. وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه اسمه، ولا أن آتي بشئ في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار كما سترى في مقدمة الكتاب. ولولا أن غرائز الجبلة، وقواضي الذمة، تفرض علينا عرفان الجميل لصاحبه، وشكر المحسن على إحسانه، لما احتجنا إلى التنبيه على ما أودع نهج للبلاغة، من فنون الفصاحة. وما خص به من وجوه البلاغة، خصوصا وهو لم يترك غرضا من أغراض الكلام إلا إسابة ولم يدع للفكر ممرا إلا جابه (3).


(1) باسرة: عابسة. (2) التلبيس: التخليط التدليس (3) جابه يجوبه: خرقه ومضى به

[ 5 ]

إلا أن عبارات الكتاب لبعد عهدها منا، وانقطاع أهل جيلنا عن أصل لساننا قد نجد فيها غرائب ألفاظ في غير وحشية، وجزالة تركيب في غير تعقيد، فربما وقف فهم المطالع دون الوصول إلى مفهومات بعض المفردات أو مضمونات بعض الجمل. وليس ذلك ضعفا في اللفظ أو وهنا في المعنى وإنما هو قصور في ذهن المتناول. ومن ثم همت بي الرغبة أن أصحب المطالعة بالمراجعة والمشارفة بالمكاشفة، وأعلق على بعض مفرداته شرحا وبعض جمله تفسيرا وشئ من اشاته تعيينا، واقفا عند حد الحاجة مما قصدت. موجزا في البيان ما استطعت. معتمدا في ذلك على المشهور من كتب اللغة والمعروف من صحيح الاخبار. ولم أتعرض لتعديل ما روي عن الامام في مسألة الامامة أو تجريحه، بل تركت للمطالع الحكم فيه بعد الالتفات إلى أصول المذاهب المعلومة فيها، والاخبار المأثورة الشاهدة عليها، غير أني لم أتحاش تفسير العبارة، وتوضيح الاشارة لا أريد في وجهي هذا إلا حفظ ما أذكر، وذكر ما أحفظ. تصونا من النسيان وتحرزا من الحيدان (1). ولم أطلب من وجه الكتاب إلا ما تعلق منه بسبك المعاني العالية في العبارات الرفيعة في كل ضرب من ضروب الكلام. وحسبي هذه الغاية فيما أريد لنفسي ولمن يطلع عليه من أهل اللسان العربي. وقد عني جماعة من أجلة العلماء بشرح الكتاب وأطال كل منهم في بيان ما انطوى عليه من الاسرار، وكل يقصد تأييد مذهب وتعضيد مشرب. غير أنه لم يتيسر لي ولا واحد من شروحهم إلا شذرات وجدتها منقولة عنهم في بطون الكتب، فإن وافقت أحدهم فيما رأى فذلك حكم الاتفاق، وإن كنت خالفتهم فإلى صواب فيما أظن على أني لا اعد تعليقي هذا شرحا في عداد الشروح، ولا أذكره كتابا بين الكتب، وإنما هو طراز لنهج البلاغة وعلم توشى به أطرافه (2). وأرجو أن يكون فيما وضعت من وجيز البيان فائدة للشبان من اهل هذا الزمان فقد رأيتهم قياما على طريق الطلب، يتدافعون لنيل الارب من لسان العرب. يبتغون لانفسهم سلائق عربية وملكات لغوية، وكل يطلب لسانا خاطبا، وقلما كاتبا، لكنهم يتوخون وسائل ما يطلبون في مطالعة المقامات وكتب المراسلات مما


(1) الحيدان، كفيضان: الميل والجور. (2) العلم ما ينصب في الطريق ليهتدي به.

[ 6 ]

كتبه المولدون. أو قلدهم فيه المتأخرون. ولم يراعوا في تحريره إلا رقة الكلمات، وتوافق الجناسات. وانسجام السجعات. وما يشبه ذلك من المحسنات اللفظية والتي وسموها بالفنون البديعة. وان كانت العبارات خلوا من المعاني الجليلة، أو فائدة الاساليب الرفيعة. على أن هذا النوع من الكلام بعض ما في اللسان العربي وليس كل ما فيه، بل هذا النوع إذا نفرد يعد من أدنى طبقات القول، وليس في حلاه المنوطة بأواخر ألفاظه ما يرفعه إلى درجة الوسط. فلو أنهم عدلوا إلى مدارسة ما جاء عن أهل اللسان، خصوصا أهل الطبقة العليا منهم لاحرزوا من بغيتهم ما امتدت إليه أعناقهم، واستعدت لقبوله أعراقهم. وليس في أهل هذه اللغة إلا قائل بأن كلام الامام علي بن أبي طالب هو أشرف الكلام وأبلغه بعد كلام الله تعالى وكلام نبيه صلى الله عليه وآله - وأغزره مادة وأرفعه أسلوبا وأجمعه لجلائل المعاني. فأجدر بالطالبين لنفائس اللغة، والطامعين في التدرج لمراقيها أن يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وأفضل مأثورهم، مع تفهم معانيه في الاغراض التي جاءت لاجلها وتأمل ألفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها. ليصيبوا بذلك أفضل غاية وينتهوا إلى خير نهاية، وأسأل الله نجاح عملي وأعمالهم. وتحقيق أملي وآمالهم. ولنقدم للمطالع موجزا من القول في نسب الشريف الرضي جامع الكتاب، وطرفا من خبره. فهو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى ابن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين ابن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأمه فاطمة بنت الحسين بن الحسن الناصر صاحب الديلم ابن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب رضي الله عنه. ولد الشريف الرضي في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة. واشتغل بالعلم ففاق في الفقه والفرائض وبذ أهل زمانه في العلم والادب. قال صاحب اليتيمة هو اليوم أبدع أبناء الزمان وأنجب سادات العراق، يتحلى مع محتده الشريف ومفخره المنيف بأدب ظاهر، وفضل باهر، وحظ من جميع


[ 7 ]

المحامد وافر، تولى نقابة نقباء الطالبيين بعد أبيه في حياته سنة ثمانة وثمانين وثلاثمائة، ضمت إليه مع النقابة سائر الاعمال التي كان يليها أبوه، وهي النظر في المظالم، والحج بالناس. وكان من سمو المقام بحيث يكتب إلى الخليفة القادر بالله العباسي أحمد بن المقتدر من قصيدة طويلة: نفتخر بها ويساوي نفسه بالخليفة: عطفا أمير المؤمنين فإننا * في دوحة العلياء لا نتفرق ما بيننا يوم الفخار تفاوت * أبدا، كلانا في المعالي معرق إلا الخلافة ميزتك فإنني * أنا عاطل منها وأنت مطوق ويروى أن القادر قال له عند سماع هذا البيت: على رغم أنفك الشريف ومن غرر شعره فيما يقرب من هذا قوله: رمت المعالي فامتنعن ولم يزل * أبدا ينازع عاشقا معشوق وصبرت حتى نلتهن ولم أقل * ضجرا: دواء الفارك (1) التطليق وابتدأ يقول الشعر بعد أن جاوز عشر سنين بقليل. قال صاحب اليتيمة، وهو أشعر الطالبيين: من مضى منهم ومن غبر على كثرة شعرائهم المفلقين ولو قلت أنه أشعر قريش لم أبعد عن الصدق. وقال بعض واصفيه رحمه الله: كان شاعرا مفلقا فصيح النظم ضخم الالفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه، إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب، وإن أراد الفخامة وجزالة الالفاظ في المدح وغيره أتى بما لا يشق له فيه غبار، وإن قصد المراثي جاء سابقا والشعراء منقطعة الانفاس. وكان مع هذا مترسلا كاتبا بليغا متين العبارات سامي المعاني. وقد اعتنى بجمع شعره في ديوان جماعة، وأجود ما جمع منه مجموع أبي حكيم الحيري، وهو ديوان كبير يدخل في أربع مجلدات كما ذكره صاحب اليتيمة. وصنف كتابا في معاني القرآن العظيم قالوا يتعذر وجود مثله، وهو يدل على سعة اطلاعه في النحو واللغة وأصول الدين. وله كتاب في مجازات القرآن. وكان علي الهمة تسمو به عزيمته إلى أمور عظام لم يجد من الايام عليها معينا فوقفت به دونها حتى قضى. وكان عفيفا متشددا في العفة بالغا فيها إلى النهاية لم يقبل من أحد صلة ولا جائزة حتى أنه رد صلات أبيه! وقد اجتهد بنو بويه على قبوله صلاتهم فلم يقبل. وكان يرضى بالاكرام وصيانة الجانب واعزاز


(1) الفارك: المرأة الكارهة لزوجها.

[ 8 ]

الاتباع والاصحاب. حكى أبو حامد محمد بن محمد الاسفرائينى الفقيه الشافعي. قال: كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة وابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضى (صاحب كلامنا الآن) أبو الحسن فأعظمه وأجل مكانه ورفع من منزلته وخلى ما كان بيده من القصص والرقاع وأقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف. ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو قاسم (أخو الشريف الرضي) فلم يعظمه ذلك التعظيم ولا أكرمه ذلك الاكرام وتشاغل عنه برقاع يقرأها فجلس قليلا ثم سأله أمرا فقضاه ثم انصرف. قال أبو حامد فقلت: أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون وهو الامثل والافضل منهما وإنما أبو الحسن شاعر. قال فقال لي إذا انصرف الناس وخلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة. قال وكنت مجمعا على الانصراف فعرض من الامر ما لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس حتى تقوض الناس. وبعد أن انصرف عنه أكثر غلمانه ولم يبق عنده غيري قال لخادم له هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام وأمرتك بوضعهما في السفط الفلاني، فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي اتصل بي إنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه ألف دينار وقلت هذا للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الاصدقاء وذوو مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال، فردها وكتب إلي هذا الكتاب فاقرأه، فقرأته فإذا هو اعتذار عن الرد وفي جملته: إننا أهل بيت لا يطلع على أحوالنا قابلة غريبة، وإنما عجائزنا يتولين هذا الامر من نسائنا ولسن ممن ياخذن أجرة ولا يقبلن صلة. قال فهذا هذا. وأما المرتضى فإنا كنا وزعنا وقسطنا على الاملاك ببعض النواحي تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى، فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد، وقد كتب منذ ايام في هذا المعنى هذا الكتاب فاقرأه وهو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخشوع والخضوع والاستمالة والهزء والطلب والسؤال في أسقاط هذه الدراهم المذكورة ما يطول شرحه قال فخر الملك فأيهما ترى أولى بالتعظيم والتبجيل: هذا العالم المتكلم الفقيه الاوحد ونفسه هذه النفس، لم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة ونفسه تلك النفس؟. فقلت وفق الله سيدنا الوزير والله ما وضع الامر إلا في موضعه ولا أحله إلا في محله.


[ 9 ]

وتوفي الرضي في المحرم سنة أربع وأربعمائة ودفن في داره بمسجد الانباريين بالكرخ ومضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر عليه السلام لانه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته ودفنه، وصلى عليه الوزير فخر الملك أبو غالب، ومضى بنفسه آخر النهار إلى المشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره. ومما رثاه به أخوه المرتضى الابيات المشهورة التي من جملتها: يا للرجال لفجعة جذمت يدي * ووددت لو ذهبت علي براسي ما زلت أحذر وردها حتى أتت * فحسوتها في بعض ما أنا حاسي ومطلتها زمنا فلما صممت * لم يثنها مطلى وطول مكاسي - لا تنكروا من فيض دمعي عبرة * فالدمع غير مساعد ومواسي - لله عمرك من قصير طاهر * ولرب عمر طال بالادناس وحكى ابن خلكان عن بعض الفضلاء انه رأى في مجموع أن بعض الادباء اجتاز بدار الشريف الرضي (صاحب الترجمة) بسر من رأى وهو لا يعرفها، وقد أخنى عليها الزمان وذهبت بهجتها وأخلقت ديباجتها، وبقايا رسومها تشهد لها بالنضارة وحسن الشارة، فوقف عليها متعجبا من صروف الزمان وطوارق الحدثان، وتمثل بقول الشريف الرضي: - ولقد بكيت على ربوعهم * وطلولها بيد البلي نهب - فبكيت حتى شج من لغب * نضوى، ولج بعذلي الركب - وتلفتت عيني فمذ خفيت * عني الطلول تلفت القلب فمر به شخص وهو ينشد الابيات فقال له: هل تعرف هذه الدار لمن هي؟ فقال لا. فقال هذه الدار لصاحب الابيات الشريف الرضي، فعجب كلاهما من حسن الاتفاق. وفي رواية العلماء من مناقب الشريف الرضي مالو تقصيناه لطال الكلام، وإنما غرضنا أن يلم القارئ بسيرته بعض الالمام. والله اعلم.


[ 10 ]

مقدمة السيد الشريف الرضي بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه. ومعاذا من بلائه. وسبيلا إلى جنانه (1) وسببا لزيادة إحسانه. والصلاة على رسوله نبي الرحمة، وإمام الائمة، وسراج الامة. المنتخب من طينة الكرم (2) وسلالة المجد الاقدم. ومغرس الفخار المعرق (3) وفرع العلاء المثمر المورق وعلى أهل بيته مصابيح الظلم، وعصم الامم (4) ومنار الدين الواضحة، ومثاقيل الفضل الراجحة. صلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون إزاء لفضلهم (5) ومكافأة لعملهم. وكفاء لطيب فرعهم وأصلهم. ما أنار فجر ساطع وخوى نجم طالع (6) فإني كنت في عنفوان السن (7)، وغضاضة الغصن، ابتدأت بتأليف كتاب خصائص الائمة عليهم السلام يشتمل على محاسن أخبارهم وجواهر كلامهم: حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب وجعلته أمام الكلام. وفرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا عليه السلام. وعاقت عن إتمام بقية الكتاب


(1) في بعض النسخ ووسيلا وهو جمع وسيلة وهي ما يتقرب به. ورواية سبيلا أحسن (2) طينة الكرم أصله وسلالة المجد فرعه (3) الفخار قال بعضهم بالكسر ويغلط من يقرأ بالفتح لانه مصدر فاخر، والمصدر من فاعل الفعال بكسر أوله، غير أنه لا يبعد أن يكون مصدر فخر. والثلاثي إذا كانت عينه أو لامه حرف حلق جاء المصدر منه على فعال بالفتح نحو سمح سماحا (4) العصم جمع عصمة وهو ما يعتصم به: والمنار الاعلام واحدها منارة. والمثاقيل جمع مثقال وهو مقدار وزن الشئ، تقول مثقال حبة ومثقال دينار، فمثاقيل الفضل زناته أي أن الفضل يعرف بهم مقداره (5) إزاء لفضلهم أي مقابلة له (6) خوى النجم سقط وخوت النجوم انحلت فلم تمطر كأخوت وخوت بالتشديد (7) عنفوان السن أولها.

[ 11 ]

محاجزات الزمان (1) ومماطلات الايام. وكنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا. وفصلته فصولا فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه عليه السلام من الكلام القصير في المواعظ والحكم والامثال والآداب دون الخطب الطويلة والكتب المبسوطة. فاستحسن جماعة من الاصدقاء والاخوان ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه ومتعجبين من نواصعه (2) وسألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين عليه السلام في جميع فنونه، ومتشعبات غصونه، من خطب وكتب ومواعظ وآداب علما أن ذلك يتضمن عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة وجواهر العربية وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام (3) ولا مجموع الاطراف في كتاب. إذ كان أمير المؤمنين عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها (4) ومنشأ البلاغة ومولدها. ومنه عليه السلام ظهر مكنونها. وعنه أخذت قوانينها. وعلى أمثلته حذا كل قائل خطيب (5) وبكلامه استعان كل واعظ بليغ. ومع ذلك فقد سبق وقصروا. وتقدم وتاخروا. لان كلامه عليه السلام الكلام الذي عليه مسحة من العلم الالهي (6) وفيه عبقة من الكلام النبوي. فأجبتهم ألى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع ومنشور الذكر ومذخور الاجر. واعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدائرة والفضائل الجمة (7). وأنه عليه السلام انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الاولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر والشاذ الشارد (8). وأما كلامه فهو من البحر الذي لا يساجل (9)، والجم الذي لا يحافل (10) وأردت أن يسوغ لي


(1) محاجزات الزمان ممانعاته ومماطلات الايام مدافعاتها. (2) النواصع الخالصة، وناصع كل شئ خالصه (3) الثواقب المضيئة ومنه الشهاب الثاقب، ومن الكلم ما يضئ لسامعها طريق الوصول إلى ما دلت عليه فيهتدي بها إليه (4) المشرع تذكير المشرعة مورد الشاربة كالشريعة (5) حذا كل قائل اقتفى واتبع (6) عليه مسحة من جمال، أي علامة وأثر، وكأنه يريد بهاء منه وضياء. والعبقة الرائحة (7) اعتمدت قصدت، والدائرة بفتح فسكون الكثيرة (8) يؤثر اي ينقل عنهم ويحكى (9) لا يغالب في الامتلاء وكثرة الماء (10) لا يغالب في الكثرة من قولهم ضرع حافل أي ممتلئ كثير اللبن

[ 12 ]

التمثل في الافتخار به عليه السلام بقول الفرزدق - أولئك آبائي فجئني بمثلهم * إذا جمعتنا يا جرير المجامع ورأيت كلامه عليه السلام يدور على أقطاب ثلاثة: أولها الخطب والاوامر. وثانيها الكتب والرسائل وثالثها الحكم والمواعظ. فاجمعت بتوفيق الله تعالى على الابتداء باختيار محاسن الخطب (1) ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم والادب، مفردا لكل صنف من ذلك بابا ومفصلا فيه أوراقا لتكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا ويقع الي آجلا. وإذا جاء شئ من كلامه عليه السلام الخارج في أثناء حوار (2) أو جواب سؤال أو غرض آخر من الاغراض في غير الانحاء التي ذكرتها وقررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الابواب به وأشدها ملامحة لغرضه (3). وربما جاء فيما اختاره من ذلك فصول غير متسقة، ومحاسن كلم غير منتظمة، لاني أورد النكت واللمع ولا أقصد التتالى والنسق. ومن عجائبه عليه السلام التي إنفرد بها وأمن المشاركة فيها أن كلامه عليه السلام الوارد في الزهد والموعظ والتذكير والزواجر إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المتفكر وخلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره ونفذ أمره وأحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه من كلام من لا حفظ له في الزهادة ولا شغل له بغير العبادة، وقد قبع في كسر بيت (4) أو انقطع في سفح جبل. لا يسمع إلا حسه ولا يرى إلا نفسه ولا يكاد يوقن بأنه كلام من يتغمس في الحرب مصلتا سيفه (5) فيقطع الرقاب ويجدل الابطال (6) ويعود به ينطف دما ويقطر مهجا، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الابدال (7). وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه


(1) أجمع عليه عزم، والمحاسن جمع حسن على غير قياس (2) بالفتح وبالكسر المحاورة (3) الملامحة الابصار والنظر، والمراد هنا المناسبة لان من ينظر إلى شئ ويبصره كأنه يميل إليه ويلائمه (4) قبع القنفذ كمنع أدخل رأسه في جلده، والرجل أدخل راسه في قميصه، أراد منه انزوى وكسر البيت جانب الخباء، وسفح الجبل أسفله (5) أصلت سيفه جرده من غمده، ويقط الرقاب يقطعها عرضا، فإن كان القطع طولا قيل يقد، قال ابن عائشة: كانت ضربات على أبكارا أن اعتلى قد وان اعترض قط، ومنه قط القلم (6) يجدل الابطال يلقيهم على الجدالة كسحابة وهي وجه الارض وينطف من نطف كنصر وضرب نطفا وتناطفا سال، والمهج جمع مهجة وهي دم القلب والروح (7) الابدال قوم صالحون لا تخلو الارض منهم، إذا مات منهم واحد أبدل الله مكانه آخر

[ 13 ]

اللطيفة التي جمع بها بين الاضداد، وألف بين الاشتات (1). وكثيرا ما أذكر الاخوان بها واستخرج عجبهم منها. وهي موضوع للعبرة بها والفكرة فيها. وربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد والمعنى المكرر والعذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا. فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه، ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الاول، إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة، فتقتضى الحال أن يعاد استظهارا للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام (2). وربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا أو نسيانا لا قصدا واعتمادا. ولا أدعي مع ذلك اني أحيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام (3) حتى لا يشذ عني منه شاذ ولا يند ناد، بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلى، والحاصل في ربقتى دون الخارج من يدي (4) وما على إلا بذل الجهد وبلاغ الوسع، وعلى الله سبحانه نهج السبيل (5) ورشاد الدليل إن شاء الله ورأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها. ويقرب عليه طلابها. فيه حاجة العالم والمتعلم وبغية البليغ والزاهد، ويمضى في أثنائه من الكلام في التوحيد والعدل وتنزيه الله سبحانه وتعالى عن شبه الخلق ما هو بلال كل غلة (6) وجلاء كل شبهة. ومن الله سبحانه أستمد التوفيق والعصمة. وأتنجز التسديد والمعونة، وأستعيذه من خطأ الجنان قبل خطأ اللسان، ومن زلة الكلام قبل زلة القدم. وهو حسبي ونعم الوكيل. باب المختار من خطب أمير المؤمنين عليه السلام وأوامره ويدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحصورة والمواقف المذكورة والخطوب الواردة


(1) موضع العجب أن أهل الشجاعة والاقدام والمغامرة والجرأة يكونون في العادة قساة فتاكين متمردين جبارين. والغالب على أهل الزهد وأعداء الدنيا وهاجري ملاذها المشتغلين بالوعظ والنصيحة والتذكير أن يكونوا ذوي رقة ولين وضعف قلوب وخور طباع. وهاتان حالتان متضادتان فاجتماعهما في أمير المؤمنين كرم الله وجهه مما يوجب العجب، فكان كرم الله وجهه إشجع الناس وأعظمهم إراقة للدم، وأزهدهم وأبعدهم عن ملاذ الدنيا وأكثرهم وعظا وتذكيرا وأشدهم اجتهادا في العبادة، وكان أكرم الناس أخلاقا وأسفرهم وجها وأوفاهم هشاشة وبشاشة حتى عيب بالدعابة. (2) عقائل الكلام كرائمه، وعقيلة الحى كريمته (3) أقطار الكلام جوانبه. والناد النافر (4) الربقة عروة حبل يجعل فيها راس البهيمة (5) نهج السبيل إبانته وإيضاحه (6) الغلة العطش وبلالها ما تبل به وتروى.

[ 14 ]

1 - ومن خطبة له عليه السلام " يذكر فيها ابتداء خلق السماء والارض وخلق آدم " الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون. ولا يحصي نعماءه العادون. ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بعد الهمم (1) ولا يناله غوص الفطن (2). الذي ليس لصفته حد محدود (3) ولا نعت موجود. ولا وقت معدود ولا أجل ممدود. فطر الخلائق بقدرته. ونشر الرياح برحمته. ووتد بالصخور ميدان أرضه (4). أول الدين معرفته (5) وكمال معرفته التصديق به. وكمال التصديق به توحيده.


(1) أي أن همم النظار وأصحاب الفكر وإن علت وبعدت فإنها لا تدركه تعالى ولا تحيط به علما (2) والفطن جمع فطنة. وغوصها استغراقها في بحر المعقولات لتلتقط در الحقيقة، وهي وإن أبعدت في الغوص لا تنال حقيقة الذات الاقدس (3) فرغ من الكلام في الذات وامتناعها على العقول إدراكا، ثم هو الآن في تقديس صفاته عن مشابهة الصفات الحادثة، فكل صفات الممكن لها في أثرها حد تنقطع إليه كما نجده في قدرتنا وعلمنا مثلا فإن لكل طور ألا يتعداه. أما قدرة الله وعلمه فلا حد لشمولهما. وكذا يقال في باقي الصفات الكمالية، والنعت يقال لما يتغير، وصفاتنا لها نعوت. فحياتنا مثلا لها أطوار من طفولية وصبا وما بعدهما وقوة وضعف وتوسط. وقدرتنا كذلك وعلمنا له أدوار نقص وكمال وغموض ووضوح. أما صفاته تعالى فهي منزهة عن هذه النعوت وأشباهها. ثم هي أزلية أبدية لا تعد الاوقات لوجودها واتصاف ذاته بها ولا تضرب لها الآجال (4) الميدان الحركة. ووتد بالتخفيف والتشديد أي ثبت أي سكن الارض بعد اضطرابها بما رسخ من الصخور الجامدة في أديمها، وهو يشير إلى أن الارض كانت مائرة مضطربة قبل جمودها (5) أساس الدين معرفة الله وهو قد يعرف بأنه صانع

[ 15 ]

وكمال توحيده الاخلاص له. وكمال الاخلاص له نفى الصفات عنه لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة. فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثناه ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله (1). ومن جهله فقد أشار إليه. ومن أشار إليه فقد حده (2). ومن حده فقد عده، ومن قال فيم


العالم وليس منه بدون تنزيه وهي معرفة ناقصة وكمالها التصديق به ذاته بصفته الخاصة التي لا يشركه فيها غيره وهي وجوب الوجود: ولا يكمل هذا التصديق حتى يكون معه لازمه وهو التوحيد لان الواجب لا يتعدد كما عرف في فن الالهيات والكلام. ولا يكمل التوحيد إلا بتمحيض السر له دون ملامحة لشئ من شؤون الحوادث في التوجه إليه واستشراق نوره، ولا يكون هذا الاخلاص كاملا حتى يكون معه نفي الصفات الظاهرة في التعينات المشهودة في المشخصات، لان معرفة الذات الاقدس في نحو تلك الصفات اعتبار للذات ولشئ‌ئ آخر مغاير لها معها فيكون قد عرف مسمى الله مؤلفا لا متوحدا، فالصفات المنفية بالاخلاص صفات المصنوعين وإلا فللامام كلام قد ملئ بصفاته سبحانه، بل هو في هذا الكلام يصفه أكمل الوصف الجهل يستلزم القول بالتشخيص الجسماني وهو يستلزم صحة الاشارة إليه تعالى الله عن ذلك (2) إنما تشير إلى شئ إذا كان منك في جهة فأنت تتوجه إليها بإشارتك، وما كان في جهة فهو منقطع عن غيرها فيكون محدود أي له طرف ينتهي إليه، فمن أشار إليه فقد حده، ومن حد فقد عد، أي أحصى وأحاط بذلك المحدود لان الحد حاصر لمحدوده. وإذا قلت لشئ فيم هو فقد جعلته في ضمن شئ ثم تسأل عن تعيين ذلك الذي تضمنه، وإذا قلت على أي شئ فأنت ترى أنه مستعل على شئ بعينه وما عداه خال منه

[ 16 ]

فقد ضمنه. ومن قال علام فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث (1) موجود لا عن عدم. مع كل شئ لا بمقارنة. وغير كل شئ لا بمزايلة (2). فاعل لا بمعنى الحركات والآلة. بصير إذ لا منظور إليه من خلقه (3). متوحد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده (4). أنشأ الخلق إنشاء. وابتدأه ابتداء. بلا روية أجالها (5). ولا تجربة استفادها. ولا حركة أحدثها. ولا همامة نفس اضطرب فيها (6). أحال الاشياء لاوقاتها (7). ولام بين مختلفاتها (8). وغرز غرائزها (9) وألزمها أشباحها (10) عالما بها قبل ابتدائها محيطا بحدودها وانتهائها. عارفا بقرائنها


(1) الحدث الابداء أي هو موجود لكن لا عن ابداء وايجاد موجد، والفقرة الثانية لازمة لهذه لانه إن لم يكن وجوده عن ايجاد موجد فهو غير مسبوق الوجود بالعدم (2) المزايلة المفارقة والمباينة (3) أي بصير بخلقه قبل وجودهم (4) العادة والعرف على أنه لا يقال متوحد إلا لمن كان له من يستأنس بقربه ويستوحش لبعده فانفرد عنه. والله متوحد مع التنزه عن السكن (5) الروية الفكر، وأجالها أدارها ورددها. وفي نسخة أحالها بالمهملة أي صرفها (6) همامة النفس بفتح الهاء اهتمامها بالامر وقصدها إليه (7) حولها من العدم إلى الوجود في أوقاتها، أو هو من حال في متن فرسه أي وثب وأحاله غيره أوثبه، ومن أقر الاشياء في أحيانها صار كمن أحال غيره على فرسه (8) كما قرن النفس الروحانية بالجسد المادي (9) الغرائز جمع غريزة وهي الطبيعة. وغرز الغرائز كضوأ الاضواء أي جعلها غرائز. والمراد أودع فيها طبائعها (10) الضمير في أشباحها للغرائز. أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها لان كل

[ 17 ]

وأحنائها (1). ثم أنشأ سبحانه فتق الاجواء (2) وشق الارجاء وسكائك الهواء (3). فأجرى فيها ماء متلاطما تياره (4)، متراكما زخاره. حمله على متن الريح العاصفة، والزعزع القاصفة. فأمرها برده (5)، وسلطها على شده، وقرنها إلى حده. الهواء من تحتها فتيق (6)، والماء من فوقها


مطبوع على غريزة لازمته، فالشجاع لا يكون خوارا مثلا (1) جمع حنو بالكسر أي الجانب، أو ما أعوج من الشئ بدنا كان أو غيره، كناية عما خفي. أو من قولهم أحناء الامور أي مشتبهاتها وقرائنها ما يقترن بها من الاحوال المتعلقة بها والصادرة عنها (2) ثم أنشأ الخ الترتيب والتراخي في قول الامام لا في الصنع الالهي كما لا يخفى. والاجواء جمع جو وهو هذا الفضاء العالي بين السماء والارض. واستفيد من كلامه أن الفضاء مخلوق وهو مذهب قوم كما استفيد منه أن الله خلق في الفضاء ماء حمله على متن ريح فاستقل عليها حتى صارت مكانا له ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع فخلق منه الاجرام العليا. وإلى هذا يذهب قوم من الفلاسفة منهم تالسين الاسكندري يقولون إن الماء أي الجوهر السائل أصل كل الاجسام كثيفها من متكاثفه ولطيفها من شفائفه، والارجاء الجوانب واحدها رجا كعصا (3) السكائك جمع سكاكة بالضم وهي الهواء الملاقى عنان السماء وبابها نحو ذؤابة وذوائب (4) التيار الموج. والمتراكم ما يكون بعضه فوق بعض. والزخار الشديد الزخر أي الامتداد والارتفاع. والريح العاصفة الشديدة الهبوب كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها وكذلك الزعزع كأنها تزعزع كل ثابت. وتقصف أي تحطم كل قائم (5) أمرها برده أي منعه من الهبوط لان الماء ثقيل وشأن الثقيل الهوى والسقوط وسلطها على شده أي وثاقه كأنه سبحانه أوثقه بها أو منعه من الحركة إلى السفل التي هي من لوازم طبعه. وقرنها إلى حده أي جعلها مكانا له أي جعل حد الماء المذكور وهو سطحه الاسفل مماسا لسطح الريح التي تحمله أو أراد من الحد المنع أي جعل من لوازها ذلك (6) الفتيق

[ 18 ]

دفيق. ثم أنشأ سبحانه ريحا اعتقم مهبها (1) وأدام مربها. وأعصف مجراها وأبعد منشاها. فأمرها بتصفيق الماء الزخار (2)، وإثارة موج البحار. فمخضته مخض السقاء، وعصفت به عصفها بالفضاء. ترد أوله إلى آخره، وساجيه إلى مائره (3). حتى عب عبابه، ورمى بالزبد ركامه فرفعه في هواء منفتق، وجو منفهق (4). فسوى منه سبع سموات جعل سفلاهن موجا مكفوفا (5) وعلياهن سقفا محفوظا. وسمكا مرفوعا. بغير عمد يدعمها، ولا دسار ينظمها (6). ثم زينها بزينة الكواكب، وضياء الثواقب (7). وأجرى فيها سراجا مستطيرا (8)، وقمرا منيرا. في فلك دائر، وسقف سائر، ورقيم مائر (9) ثم فتق


المفتوق والدفيق المدفوق (1) اعتقم مهبها جعل هبوبها عقيما. والريح العقيم التي لا تلقح سحابا ولا شجرا وكذلك كانت هذه لانها أنشئت لتحريك الماء ليس غير. والمرب ميمى من أرب بالمكان مثل ألب به أي لازمه. فأدام مربها أي ملازمتها، أو أن أدام من أدمت الدلو ملاتها. والمرب بكسر أوله المكان والمحل (2) تصفيقه تحريكه وتقليبه. ومخضته حركته بشدة كما يمخض السقاء بما فيه من اللبن ليستخرج زبده. والسقاء جلد السخلة يجذع فيكون وعاء للبن والماء جمعه أسقية وأسقيات وأساق. وعصفت به الخ الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كانت شديدة لعدم المانع وهذه الريح عصفت بهذا الماء ذلك العصف الذي يكون لها لو لم يكن مانع (3) الساجي الساكن والمائر الذي يذهب ويجئ أو المتحرك مطلقا. وعب عبابه ارتفع علاه. وركامه أثبجه وهضبته وما تراكم منه بعضه على بعض (4) المنفهق المفتوح الواسع (5) المكفوف الممنوع من السيلان، ويدعمها أي يسندها ويحفظها من السقوط (6) الدسار واحد الدسر وهي المسامير أو الخيوط تشد بها ألواح السفينة من ليف ونحوه (7) الثواقب المنيرة المشرقة (8) مستطيرا منتشر الضياء وهو الشمس (9) الرقيم اسم من اسماء

[ 19 ]

ما بين السموات العلا. فملاهن أطوارا من ملائكته (1) منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون ومسبحون لا يسأمون. لا يغشاهم نوم العين. ولا سهو العقول. ولا فترة الابدان. ولا غفلة النسيان. ومنهم أمناء على وحيه، وألسنة إلى رسله، ومختلفون بقضائه وأمره. ومنهم الحفظة لعباده والسدنة لابواب جنانه. ومنهم الثابتة في الارضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الاقطار أركانهم، والمناسبة لقوائم العرش أكتافهم. ناكسة دونه أبصارهم (2).


الفلك، سمى به لانه مرقوم بالكواكب. ومائر متحرك. ويفسر الرقيم باللوح. وشبه الفلك باللوح لانه مسطح فيما يبدو للنظر (1) جعل الملائكة أربعة أقسام: الاول أرباب العبادة ومنهم الراكع والساجد والصاف والمسبح، وقوله صافون أي قائمون صفوفا لا يتزايلون أي لا يتفارقون. والقسم الثاني الامناء على وحي الله لانبيائه والالسنة الناطقة في أفواه رسله والمختلفون بالاقضية إلى العباد، بهم يقضي الله على من شاء بما شاء. والقسم الثالث حفظة العباد كأنهم قوى مودعة في أبدان البشر ونفوسهم يحفظ الله الموصولين بها من المهالك والمعاطب، ولولا ذلك لكان العطب ألصق بالانسان من السلامة. ومنهم سدنة الجنان جمع سادن وهو الخادم، والخادم يحفظ ما عهد إليه وأقيم على خدمته. والقسم الرابع حملة العرش كأنهم القوة العامة التي أفاضها الله في العالم الكلي فهي الماسكة له الحافظة لكل جزء منه مركزه وحدود مسيره في مداره فهي المخترقة له النافذة فيه الآخذة من أعلاه إلى أسفله ومن أسفله إلى أعلاه. وقوله المارقة من السماء: المروق الخروج. وقوله الخارجة من الاقطار أركانهم: الاركان الاعضاء والجوارح. والتمثيل في الكلام لا يخفى على أهل البصائر (2) الضمير في دونه للعرش =

[ 20 ]

متلفعون تحته بأجنحتهم. مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة. لا يتوهمون ربهم بالتصوير. ولا يجرون عليه صفات المصنوعين. ولا يحدونه بالاماكن. ولا يشيرون إليه بالنظائر صفة خلق آدم عليه السلام ثم جمع سبحانه من حزن الارض وسهلها، وعذبها وسبخها (1)، تربة سنها بالماء حتى خلصت. ولاطها بالبلة حتى لزبت (2). فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول (3) وأعضاء وفصول. أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت (4). لوقت معدود. وأمد معلوم. ثم نفخ


= كالضمير في تحته. ومتلفعون من تلفعت بالثوب إذا التحفت به (1) الحزن بفتح فسكون: الغليظ الخشن والسهل ما يخالفه. والسبخ ما ملح من الارض. وأشار باختلاف الاجزاء التي جبل منها الانسان إلى أنه مركب من طباع مختلفة وفيه استعداد للخير والشر والحسن والقبيح (2) سن الماء صبه والمراد صب عليها أو سنها هنا بمعنى ملسها كما قال: - ثم خاصرتها إلى القبة الخض‍ * راء تمشي في مرمر مسنون وقوله حتى خلصت أي صارت طينة خالصة. وفي بعض النسخ حتى خضلت بتقديم الضاد المعجمة على اللام أي ابتلت ولعلها أظهر. لاطها خلطها وعجنها أو هو من لاط الحوض بالطين ملطه وطينه به. والبلة بالفتح من البلل. ولزب ككرم تداخل بعضه في بعض وصلب، ومن باب نصر بمعنى التصق وثبت واشتد (3) الاحناء جمع حنو وهو بالكسر والفتح كل ما فيه اعوجاج من البدن كعظم الحجاج واللحى والضلع أو هي الجوانب مطلقا. وجبل أي خلق (4) أصلدها جعلها صلبة ملساء متينة. وصلصلت

[ 21 ]

فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها (1). وفكر يتصرف بها، وجوارح يختدمها (2)، وأدوات يقلبها. ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل والاذواق والمشام والالوان والاجناس. معجونا بطينة الالوان المختلفة (3)، والاشباه المؤتلفة. والاضداد المتعادية والاخلاط المتباينة. من الحر والبرد. والبلة والجمود. واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم (4) وعهد وصيته إليهم. في الاذعان بالسجود له والخشوع لتكرمته. فقال سبحانه اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة (5)


يبست حتى كانت تسمع لها صلصلة إذا هبت عليها رياح وذلك هو الصلصال. واللام في قوله لوقت متعلقة بمحذوف كأنه قال حتى يبست وجفت معدة لوقت معلوم، ويمكن أن تكون متعلقة بجبل أي جبل من الارض هذه الصورة ولا يزال يحفظها لوقت معدود ينتهي بيوم القيامة (1) مثل كرم قام منتصبا. والاذهان قوى التعقل، ويجيلها يحركها في المعقولات (2) يختدمها يجعلها في مآربه وأوطاره كالخدم الذين تستعملهم في خدمتك وتستعملهم في شؤوتك. والادوات جمع أداة وهي الآلة. وتقليبها تحريكها في العمل بها فيما خلقت له (3) معجونا صفة إنسانا. والالوان المختلفة الضروب والفنون. وتلك الالوان هي التي ذكره من الحر والبرد والبلة والجمود (4) استأدى الملائكة وديعته طلب منهم أداءها. والوديعة هي عهده إليهم بقوله إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. ويروى الخنوع بالنون بدل الخشوع هو بمعنى الخضوع. وقوله فقال اسجدوا الخ عطف على استأدى (5) الشقوة بكسر الشين وفتحها ما حتم عليه من الشقاء. والشقاء ضد السعادة وهو النصب الدائم والالم الملازم. وتعززه بخلقة النار استكباره مقدار نفسه =

[ 22 ]

وتعزز بخلقة النار واستهون خلق الصلصال. فأعطاه الله النظرة استحقاقا للسخطة واستتماما للبلية. وإنجازا للعدة. فقال إنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم. ثم أسكن سبحانه آدم دارا أرغد فيها عيشته، وآمن فيها محلته، وحذره إبليس وعداوته. فاغتره عدوه نفاسة عليه بدار المقام ومرافقة الابرار (1). فباع اليقين بشكه والعزيمة بوهنه. واستبدل بالجذل وجلا (2). وبالاغترار ندما. ثم بسط الله سبحانه له في توبته. ولقاه كلمة رحمته، ووعده المرد إلى جنته.


= بسبب أنه خلق من جوهر لطيف ومادة أعلى من مادة الصلصال. والصلصال الطين الحر خلط بالرمل أو الطين ما لم يجعل خزفا. والمراد من الصلصال هذا مادة الارض التي خلق آدم عليه السلام منها. وجوهر ما خلق منه الجن - وهم من الجواهر اللطيفة - أعلى من جوهر ما خلق منه الانسان وهو مجبول من عناصر الارض. والنظرة بفتح فكسر الانتظار به حيا ما دام الانسان عامرا للارض متمتعا بالوجود فيكون من الشيطان في هذا الامد ما يستحق به سخط الله وما تتم به بلية الشقاء عليه ويكون الله جل شأنه قد أنجز وعده في قوله إنك من المنظرين الخ (1) اغتر آدم عدوه الشيطان أي انتهز منه غرة فأغواه وكان الحامل للشيطان على غواية آدم حسده له على الخلود في دار المقام ومرافقته الابرار من الملائكة الاطهار (2) أدخل الشيطان عليه الشك في أن ما تناول منه سائغ التناول بعد أن كان في نهى الله له عن تناول ما يوجب له اليقين بحظره عليه وكانت العزيمة في الوقوف عند ما أمر الله فاستبد بها الوهن الذي أفضى إلى المخالفة. والجذل بالتحريك الفرح وقد كان في راحة الامن بالاخبات إلى الله وامتثال الامر فلما سقط في المخالفة تبدل ذلك بالوجل والخوف من حلول العقوبة وقد ذهبت عنه الغرة وانتبه إلى عاقبة ما اقترف فاستشعر الندم بعد الاغترار

[ 23 ]

وأهبطه إلى دار البلية (1)، وتناسل الذرية (2). واصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم (3)، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم (4) فجهلوا حقه، واتخذوا الانداد معه (5). واجتالتهم الشياطين عن معرفته (6)، واقتطعتهم عن عبادته. فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه (7) ليستأدوهم ميثاق فطرته (8). ويذكروهم منسي نعمته. ويحتجوا عليهم بالتبليغ. ويثيروا لهم دفائن العقول (9)


(1) أهبطه من مقام كان الالهام الالهى لانسياق قواه إلى مقتضى الفطرة السليمة الاولى إلى مقر قد خلط له وفيه الخير والشر واختط له فيه الطريقان ووكل إلى نظره العقلي وابتلى بالتمييز بين النجدين واختيار أي الطريقين، وهو العناد الذي تكدر به صفو هذه الحياة على الآدميين (2) تناسل الذرية من خصائص تلك المنزلة الثانية التي أنزل الله فيها آدم وهو مما ابتلى به الانسان امتحانا لقوته على التربية واقتداره على سياسة من يعولهم والقيام بحقوقهم وإلزامهم بتأدية ما يحق عليهم (3) أخذ عليهم الميثاق أن يبلغوا ما أوحى إليهم ويكون ما بعده بمنزلة التأكيد له أو أخذ عليهم أن لا يشرعوا للناس إلا ما يوحى إليهم (4) عهد الله إلى الناس هو ما سيأتي يعبر عنه بميثاق الفطرة (5) الانداد الامثال وأراد المعبودين من دونه سبحانه وتعالى (6) اجتالتهم بالجيم صرفتهم عن قصدهم الذي وجهوا إليه بالهداية المغروزة في فطرهم. وأصله من الدوران كأن الذي يصرفك عن قصدك يصرفك تارة هكذا وأخرى هكذا (7) واتر إليهم أنبياءه أرسلهم وبين كل نبي ومن بعده فترة لا بمعنى أرسلهم تباعا بعضهم يعقب بعضا (8) كأن الله تعالى بما أودع في الانسان من الغرائز والقوى وبما أقام له من الشواهد وأدلة الهدى قد أخذ عليه ميثاقا بأن يصرف ما أوتى من ذلك فيما خلق له وقد كان يعمل على ذلك الميثاق ولا ينقضه لولا ما اعترضه من وساوس الشهوات فبعث إليه النبيين ليطلبوا من الناس أداء ذلك الميثاق أي ليطالبوهم بما تقتضيه فطرتهم وما ينبغي ان تسوقهم إليه غرائزهم (9) دفائن العقول أنوار العرفان التي

[ 24 ]

ويروهم الآيات المقدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع. ومعايش تحييهم وآجال تفنيهم. وأوصاب تهرمهم (1). وأحداث تتابع عليهم. ولم يخل سبحانه خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل. أو حجة لازمة، أو محجة قائمة (2). رسل لا تقصر بهم قلة عددهم. ولا كثرة المكذبين لهم. من سابق سمي له من بعده، أو غابر عرفه من قبله (3). على ذلك نسلت القرون (4). ومضت الدهور. وسلفت الآباء. وخلفت الابناء. إلى أن بعث الله سبحانه محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله لانجاز عدته (5)، وتمام نبوته. مأخوذا على النبيين ميثاقه، مشهورة سماته (6)، كريما ميلاده. وأهل


= تكشف للانسان أسرار الكائنات وترتفع به إلى الايقان بصانع الموجودات وقد يحجب هذه الانوار غيوم من الاوهام وحجب من الخيال فيأتي النبيون لاثاره تلك المعارف الكامنة وإبراز تلك الاسرار الباطنة (1) السقف المرفوع السماء. والمهاد الموضوع الارض. والاوصاب المتاعب (2) المحجة الطريق القويمة الواضحة (3) من سابق بيان للرسل، وكثير من الانبياء السابقين سميت لهم الانبياء الذين يأتون بعدهم فبشروا بهم كما ترى ذلك في التوراة. والغابر الذي يأتي بعد أن يشير به السابق جاء معروفا بتعرف من قبله (4) نسلت بالبناء للمجهول ولدت. وبالبناء للفاعل مضت متتابعة (5) الضمير في عدته لله تعالى لان الله وعد بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم على لسان أنبيائه السابقين. وكذلك الضمير في نبوته لان الله تعالى أنبأ به وأنه سيبعث وحيا لانبيائه. فهذا الخبر الغيبي قبل حصوله يسمى نبوة. ولما كان الله هو المخبر به أضيفت النبوة إليه (6) سماته علاماته التي ذكرت في كتب الانبياء السابقين =

[ 25 ]

الارض يومئذ ملل متفرقة. وأهواء منتشرة. وطوائف متشتتة. بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه أو مشير إلى غيره (1). فهداهم به من الضلالة. وأنقذهم بمكانه من الجهالة. ثم اختار سبحانه لمحمد صلى الله عليه وآله لقاءه. ورضي له ما عنده وأكرمه عن دار الدنيا ورغب به عن مقارنة البلوى. فقبضه إليه كريما صلى الله عليه وآله: وخلف فيكم ما خلفت الانبياء في أممها إذ لم يتركوهم هملا. بغير طريق واضح. ولا علم قائم (2): كتاب ربكم فيكم مبينا حلاله وحرامه (3) وفرائضه وفضائله وناسخه ومنسوخه. ورخصه وعزائمه. وخاصه وعامه. وعبره وأمثاله. ومرسله ومحدوده. ومحكمه


= الذين بشروا به (1) الملحد في اسم الله الذي يميل به عن حقيقة مسماه فيعتقد في الله صفات يجب تنزيهه عنها. والمشير إلى غيره الذي يشرك معه في التصرف إلها آخر فيعبده ويستعينه (2) أي أن الانبياء لم يهملوا أممهم مما يرشدهم بعد موت أنبيائهم وقد كان من محمد صلى الله عليه وسلم مثل ما كان منهم فإنه خلف في أمته كتاب الله تعالى حاويا لجميع ما يحتاجون إليه في دينهم (3) حلاله كالاكل من الطيبات، وحرامه كأكل أموال الناس بالباطل، وفرائضه كالزكاة أخت الصلاة، وفضائله كنوافل الصدقات التي يعظم الاجر فيها ولا حرج في التقصير عنها، وناسخه ما جاء قاضيا يمحو ما كان عليه الضالون من العقائد أو إزالة السابق من الاحكام كقوله تعالى قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الآية. ومنسوخه ما كان حكاية عن تلك الاحكام كقوله وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر الآية. ورخصه كقوله فمن اضطر في مخمصة. وعزائمه كقوله ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه. وخاصه كقوله يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الآية، وعامه كقوله يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن. والعبر كالآيات التي تخبر =

[ 26 ]

ومتشابهه مفسرا مجمله ومبينا غوامضه. بين مأخوذ ميثاق في علمه وموسع على العباد في جهله. وبين مثبت في الكتاب فرضه، ومعلوم في السنة نسخه، وواجب في السنة أخذه، ومرخص في الكتاب تركه. وبين واجب بوقته. وزائل في مستقبله. ومباين بين محارمه (1) من كبير أوعد عليه نيرانه. أو صغير أرصد له غفرانه. وبين مقبول في أدناه موسع في أقصاه (2).


= عما أصاب الامم الماضية من النكال ونزل بهم من العذاب لما حادوا عن الحق وركبوا طرق الظلم والعدوان. والامثال كقوله ضرب الله مثلا عبدا مملوكا الآية. وقوله كمثل الذي استوقد نارا وأشباه ذلك كثير. والمرسل المطلق. والمحدود المقيد. والمحكم كآيات الاحكام والاخبار الصريحة في معانيها. والمتشابه كقوله يد الله فوق أيديهم. والموسع على العباد في جهله كالحروف المفتتحة بها السور نحو الم والر. والمثبت في الكتاب فرضه مع بيان السنة لنسخه كالصلاة فإنها فرضت على الذين من قبلنا غير أن السنة بينت لنا الهيئة التي اختصنا الله بها وكلفنا أن نؤدي الصلاة بها، فالفرض في الكتاب. وتبيين نسخه لما كان قبله في السنة، والمرخص في الكتاب تركه ما لم يكن منصوصا على عينه. بل ذكر في الكتاب ما يشتمله وغيره كقوله فأقرأوا ما تيسر منه وقد عينته السنة بسورة مخصوصة في كل ركعة فوجب الاخذ بما عينته السنة ولو بقينا عند مجمل الكتاب كان لنا أن نقرأ في الصلاة غير الفاتحة جوازا لا مؤاخذة معه. والواجب بوقته الزائل في مستقبله كصوم رمضان يجب في جزء من السنة ولا يجب في غيره. (1) ومباين بين محارمه بالرفع لا بالجر خبر لمبتدا محذوف أي والكتاب قد خولف بين المحارم التي حظرها فمنها كبير أوعد عليه نيرانه كالزنا وقتل النفس، ومنها صغير أرصد له غفرانه كالنظرة بشهوة ونحوها (2) رجوع إلى تقسيم الكتاب. والقبول في أدناه الموسع في أقصاه كما في كفارة اليمين يقبل فيها إطعام عشرة مساكين. وموسع =

[ 27 ]

(منها ذكر في الحج) وفرض عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للانام يردونه ورود الانعام ويألهون إليه ولوه الحمام (1) جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته وإذعانهم لعزته. واختار من خلقه سماعا أجابوا إليه دعوته. وصدقوا كلمته. ووقفوا مواقف أنبيائه. وتشبهوا بملائكته. المطيفين بعرشه يحرزون الارباح في متجر عبادته. ويتبادرون عند موعد مغفرته. جعله سبحانه وتعالى للاسلام علما والعائذين حرما. فرض حجه وأوجب حقه وكتب عليكم وفادته (2) فقال سبحانه ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين. 2 - ومن خطبة له بعد انصرافه من صفين (3) أحمده استتماما لنعمته. واستسلاما لعزته. واستعصاما من معصيته. وأستعينه فاقة إلى كفايته إنه لا يضل من هداه. ولا يئل من عاداه (4) ولا يفترق من كفاه. فإنه أرجح ما وزن (5) وأفضل ما


= في كسوتهم وعتق الرقبة (1) يألهون إليه أي يفزعون إليه أو يلوذون به ويعكفون عليه (2) الوفادة الزيارة. (3) صفين كسجين محلة عدها الجغرافيون من بلاد الجزيرة (ما بين الفرات والدجلة) والمؤرخون من العرب عدوها من أرض سوريا وهي اليوم في ولاية حلب الشهباء وهذه الولاية كانت من أعمال سوريا (4) وأل يئل خلص (5) الضمير في فإنه =

[ 28 ]

خزن. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. شهادة ممتحنا إخلاصها. معتقدا مصاصها (1) نتمسك بها أبدا ما أبقانا. وندخرها لاهاويل ما يلقانا (2) فإنها عزيمة الايمان. وفاتحة الاحسان ومرضاة الرحمن. ومدحرة الشيطان (3) وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. أرسله بالدين المشهور. والعلم المأثور (4) والكتاب المسطور. والنور الساطع. والضياء اللامع. والامر الصادع. إزاحة للشبهات. واحتجاجا بالبينات. وتحذيرا بالآيات. وتخويفا بالمثلات (5) والناس في فتن انجذم فيها حبل الدين (6) وتزعزعت سواري اليقين (7) واختلف النجر (8) وتشتت الامر. وضاق المخرج وعمي المصدر (9) فالهدى خامل والعمى شامل. عصي الرحمن. ونصر الشيطان. وخذل الايمان


= للحمد المفهوم من أحمده (1) مصاص كل شئ خالصه (2) الاهاويل جمع أهوال جمع هول فهي جمع الجمع (3) مدحرة الشيطان أي تبعده وتطرده (4) العلم بالتحريك ما يهتدى به وهو هنا الشريعة الحقة. والمأثور المنقول عنه (5) المثلات بفتح فضم العقوبات جمع مثلة بضم الثاء وسكونها بعد الميم وجمعها مثولات ومثلات وقد تسكن ثاء الجمع تخفيفا (6) انجذم انقطع (7) السواري جمع سارية العمود والدعامة (8) النجر بفتح النون وسكون الجيم الاصل أي اختلفت الاصول فكل يرجع إلى أصل يظنه مرجع حق وما هو من الحق في شئ (9) مصادرهم في أوهامهم وأهوائهم مجهولة غير معلومة خفية غير ظاهرة فلا عن بينة يعتقدون ولا إلى غاية صالحة ينزعون

[ 29 ]

فانهارت دعائمه (1)، وتنكرت معالمه (2)، ودرست سبله (3)، وعفت شركه. أطاعوا الشيطان فسلكوا مسالكه. ووردوا مناهله (4) بهم سارت أعلامه. وقام لواؤه في فتن داستهم بأخفافها. ووطئتهم بأظلافها (5) وقامت على سنابكها. فهم فيها تائهون حائرون جاهلون مفتونون في خير دار وشر جيران (6). نومهم سهود وكحلهم دموع. بأرض عالمها ملجم وجاهلها مكرم (ومنها يعني آل النبي عليه الصلاة والسلام) موضع سره ولجأ أمره (7) وعيبة علمه (8) وموئل حكمه وكهوف


(1) انهارت هوت وسقطت. والدعائم جمع دعامة وهي ما يستند إليه الشئ ويقوم عليه. ودعامة السقف مثلا ما يرتفع عليه من الاعمدة (2) التنكر التغير من حال تسر إلى حال تكره أي تبدلت علاماته وآثاره بما أعقب السوء وجلب المكروه (3) درست كاندرست أي انطمست، والشرك قال بعضهم جمع شراك ككتاب وهي الطريق والذي يفهم من القاموس أنها بفتحات جواد الطريق أو مالا يخفى عليك ولا يستجمع لك من الطرق، اسم جمع لا مفرد له من لفظه. وعفت بمعنى درست (4) المناهل جمع منهل وهو مورد الشاربة من النهر (5) الاظلاف جمع ظلف بالكسر للبقر والشاء وشببههما كالخف للبعير والقدم للانسان. السنابك جمع سنبك كقنفذ طرف الحافر (6) خير دار هي مكة المكرمة. وشر الجيران عبدة الاوثان من قريش. وقوله نومهم سهود الخ كما تقول فلان جوده بخل وأمنه مخافة فهم في أحداث أبدلتهم النوم بالسهر والكحل بالدمع. والعالم ملجم لانه لو قال حقا والجمهور على الباطل لانتاشوه ونهشوه والجاهل مكرم لانه على شاكلة العامة مشايع لهم في أهوائهم فنزلته عندهم منزلة أوهامهم وعاداتهم وهي في المقام الاعلى من نفوسهم. وهذه الاوصاف كلها لتصوير حال الناس في الجاهلية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم (7) اللجأ محركة الملاذ وما تلتجئ إليه كالوزر محركة ما تعتصم به (8) العيبة بالفتح الوعاء. والموئل المرجع أي أن حكمه وشرعه يرجع =

[ 30 ]

كتبه. وجبال دينه. بهم أقام انحناء ظهره وأذهب ارتعاد فرائصه (1). (ومنها يعني قوما آخرين) زرعوا الفجور: وسقوه الغرور. وحصدوا الثبور (2) لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه وآله من هذه الامة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا. هم أساس الدين. وعماد اليقين. إليهم يفئ الغالي. وبهم يلحق التالي (3) ولهم خصائص حق الولاية. وفيهم الوصية والوراثة. الآن إذ رجع الحق إلى أهله (4) ونقل إلى منتقله 3 - ومن خطبة له وهي المعروفة بالشقشقية (5) أما والله لقد تقمصها فلان (6) وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب


= إليهم وهم حفاظ كتبه يحوونها كما تحوى الكهوف والغيران ما يكون فيها. والكتب القرآن، وجمعه لانه فيما حواه كجملة ما تقدمه من الكتب ويزيد عليها ما خص الله به هذه الامة (1) كنى بانحناء الظهر عن الضعف وبإقامته عن القوة وبهم آمنه من الخوف الذي ترتعد منه الفرائص (2) جعل ما فعلوا من القبائح كزرع زرعوه وما سكنت إليه نفوسهم من الامهال واغترارهم بذلك بمنزلة السقي فان الغرور يبعث على مداومة القبيح والزيادة فيه ثم كانت عاقبة أمرهم هذا الثبور وهو الهلاك (3) يريد أن سيرتهم صراط الدين المستقيم فمن غلا في دينه وتجاوز بالافراط حدود الجادة فإنما نجاته بالرجوع إلى سيرة آل النبي وتفيؤ ظلال أعلامهم. وقوله وبهم يلحق التالي يقصد به أن المقصر في عمله المتباطئ في سيره الذي أصبح وقد سبقه السابقون إنما يتسنى له الخلاص بالنهوض ليلحق بآل النبي ويحذو حذوهم (4) الآن ظرف متعلق برجع وإذ زائدة للتوكيد، سوغ ذلك ابن هشام في نقله عن أبي عبيدة أو أن إذ للتحقيق بمعنى قد كما نقله بعض النحاة (5) لقوله فيها إنها شقشقة هدرت ثم قرت كما يأتي (6) الضمير =

[ 31 ]

من الرحى. ينحدر عني السيل (1) ولا يرقى إلي الطير. فسدلت دونها ثوبا (2) وطويت عنها كشحا. وطفقت أرتإى بين أن أصول بيد جذاء (3) أو أصبر على طخية عمياء (4) يهرم فيها الكبير. ويشيب فيها الصغير. ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربه (5) فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى (6) فصبرت وفي العين قذى. وفي الحلق شجا (7) أرى تراثي نهبا


= يرجع إلى الخلافة. وفلان كناية عن الخليفة الاول أبي بكر رضى الله عنه (1) تمثيل لسمو قدره كرم الله وجهه وقربه من مهبط الوحي وأن ما يصل إلى غيره من فيض الفضل فإنما يتدفق من حوضه ثم ينحدر عن مقامه العالي فيصيب منه من شاء الله وعلى ذلك قوله ولا يرقى الخ غير أن الثانية أبلغ من الاولى في الدلالة على الرفعة (2) فسدلت الخ كناية عن غض نظره عنها. وسدل الثوب أرخاه. وطوى عنها كشحا مال عنها. وهو مثل لان من جاع فقد طوى كشحه ومن شبع فقد ملاه فهو قد جاع عن الخلافة أي ما لم يلتقمها (3) وطفقت الخ بيان لعلة الاغضاء. والجذاء بالجيم والذال المعجمة والدال المهملة، وبالحاء المهملة مع الذال المعجمة بمعنى المقطوعة ويقولون رحم جذاء أي لم توصل وسن جذاء أي متهتمة، والمراد هنا ليس ما يؤيدها كأنه قال تفكرت في الامر فوجدت الصبر أولى فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا (4) طخية بطاء فخاء بعدها ياء ويثلث أولها أي ظلمة. ونسبة العمى إليها مجاز عقلي. وإنما يعمى القائمون فيها إذ لا يهتدون إلى الحق وهو تأكيد لظلام الحال واسودادها (5) يكدح يسعى سعى المجهود (6) أحجى ألزم من حجي به كرضي أولع به ولزمه ومنه هو حجى بكذا أي جدير وما أحجاه، وأحج به أي أخلق به. وأصله من الحجا بمعنى العقل فهو أحجى أي أقرب إلى العقل. وهاتا بمعنى هذه أي رأى الصبر على هذه الحالة التي وصفها أولى بالعقل من الصولة بلا نصير (7) الشجا ما اعترض في الحق من عظم ونحوه. والتراث الميراث

[ 32 ]

حتى مضى الاول لسبيله فأدلى بها إلى فلان بعده (1) (ثم تمثل بقول الاعشى) - شتان ما يومي على كورها * ويوم حيان أخي جابر (2) فيا عجبا بينا هو يستقيلها في حياته (3) إذ عقدها لآخر بعد وفاته


(1) أدلى بها ألقى بها إليه. (2) الكور بالضم الرحل أو هو مع أداته. والضمير راجع إلى الناقة المذكورة في الابيات قبل في قوله. - وقد أسلى الهم إذ يعتري * بجسرة دوسرة عاقر والجسر العظيم من الابل. والدوسرة الناقة الضخمة. وحيان كان سيدا في بني حنيفة مطاعا فيهم وكان ذا حظوة عند ملوك فارس وله نعمة واسعة ورفاهية وافرة وكان الاعشى ينادمه. والاعشى هذا هو الاعشى الكبير أعشى قيس وهو أبو بصير ميمون ابن قيس بن جندل. وأول القصيدة: - علقم ما أنت إلى عامر * الناقض الاوتار والواتر وجابر أخو حيان أصغر منه، ومعنى البيت أن فرقا بعيدا بين يومه في سفره وهو على كور ناقته وبين يوم حيان في رفاهيته فإن الاول كثير العناء شديد الشقاء والثاني وافر النعيم وافي الراحة ويتلو هذا البيت أبيات منها: - في مجدل شيد بنيانه * يزل عنه ظفر الطائر - ما يجعل الجد الظنون الذي * جنب صوب اللجب الماطر - مثل الفراتي إذاما طما * يقذف بالبوصى والماهر (المجدل كمنبر القصر. والجد بضم أوله البئر القليلة الماء. والظنون البئر لا يدرى أفيها ماء أم لا. واللجب المراد منه السحاب لاضطرابه وتحركه. والفراتي الفرات. وزيادة الياء للمبالغة. والبوصى ضرب من السفن معرب بوزى والماهر السابح المجيد) ووجه تمثل الامام بالبيت ظاهر بأدنى تأمل (3) رووا أن أبا بكر قال بعد البيعة أقيلوني فلست بخيركم. وأنكر الجمهور هذه الرواية عنه والمعروف عنه وليتكم ولست بخيركم.

[ 33 ]

لشد ما تشطرا ضرعيها (1) فصيرها في حوزة خشناء يغلظ كلامها (2) ويخشن مسها. ويكثر العثار فيها. والاعتذار منها، فصاحبها كراكب الصعبة (3) إن أشنق لها خرم. وإن أسلس لها تقحم فمني الناس لعمر الله بخبط وشماس (4) وتلون واعتراض. فصبرت على طول المدة وشدة المحنة. حتى إذا مضى لسبيله. جعلها في جماعة زعم أني


(1) لشد ما تشطرا ضرعيها جملة شبه قسمية اعترضت بين المتعاطفين، فالفاء في فصيرها عطف على عقدها. وتشطرا مسند إلى ضمير التثنية وضرعيها تثنية ضرع وهو للحيوانات مثل الثدي للمرأة. قالوا إن للناقة في ضرعها شطرين كل خلفين شطر ويقال شطر بناقته تشطيرا صر خلفين وترك خلفين. والشطر أيضا أن تحلب شطرا وتترك شطرا، فتشطرا أي أخذ كل منهما شطرا، سمي شطرى الضرع ضرعين مجازا وهو هنا من أبلغ أنواعه حين أن من ولى الخلافة لا ينال الامر إلا تاما ولا يجوز أن يترك منه لغيره سهما، فأطلق على تناول الامر واحدا بعد واحد اسم التشطر والاقتسام كأن أحدهما ترك منه شيئا للآخر، وأطلق على كل شطر اسم الضرع نظرا لحقيقة ما نال كل (2) الكلام بالضم الارض الغليظة. وفي نسخه كلمها وإنما هو بمعنى الجرح، وكأنه يقول خشونتها تجرح جرحا غليظا (3) الصعبة من الابل ما ليست بذلول. وأشنق البعير وشنقه كفه بزمامه حتى ألصق ذفراه (العظم الناتئ خلف الاذن) بقادمة الرحل أو رفع رأسه وهو راكبه واللام هنا زائدة للتحلية ولتشاكل أسلس. وأسلس أرخى. وتقحم رمى بنفسه في القحمة أي الهلكة. وسيأتي معنى هذه العبارة في الكتاب. وراكب الصعبة إما أن يشنقها فيخرم أنفها وإما أن يسلس لها فترمى به في مهواة تكون فيها هلكته (4) منى الناس ابتلوا وأصيبوا. والشماس بالكسر اباء ظهر الفرس عن الركوب والنفار. والخبط السير على غير جادة. والتلون التبدل والاعتراض السير على غير خط مستقيم، كأنه يسير عرضا في حال سيره طولا. يقال بعير =

[ 34 ]

أحدهم فيا لله وللشورى (1) متى اعترض الريب في مع الاول منهم حتى


= عرضى يعترض في سيره لانه لم يتم رياضته، وفي فلان عرضية أي عجرفة وصعوبة (1) إجمال القصة أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه لما دنا أجله وقرب مسيره إلى ربه استشار فيمن يوليه الخلافة من بعده فأشير عليه بابنه عبد الله فقال لا يليها (أي الخلافة) اثنان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل، ثم رأي أن يكل الامر إلى ستة قال إن النبي صلى الله عليه وسلم مات وهو راض عنهم، وإليهم بعد التشاور أن يعينوا واحدا منهم يقوم بأمر المسلمين، والستة رجال الشورى هم على بن أبي طالب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضى الله عنهم، وكان سعد من بني عم عبد الرحمن كلاهما من بني زهرة وكان في نفسه شئ من علي كرم الله وجهه من قبل أخواله لان أمه جنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس ولعلي في قتل صناديدهم ما هو معروف مشهور. وعبد الرحمن كان صهرا لعثمان لان زوجته أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت أختا لعثمان من أمه، وكان طلحة ميالا لعثمان لصلات بينهما على ما ذكره بعض رواة الاثر وقد يكفي في ميله إلى عثمان إنحرافه عن علي لانه تيمي وقد كان بين بني هاشم وبنى تيم مواجد لمكان الخلافة في أبي بكر، وبعد موت عمر بن الخطاب رضي الله عنه اجتمعوا وتشاوروا فاختلفوا وانضم طلحة في الرأي إلى عثمان والزبير إلى علي وسعد إلى عبد الرحمن وكان عمر قد أوصى بأن لاتطول مدة الشورى فوق ثلاثة أيام وأن لا يأتي الرابع إلا ولهم أمير، وقال إذا كان خلاف فكونوا مع الفريق الذي فيه عبد الرحمن فأقبل عبد الرحمن على علي وقال عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده فقال علي أرجو أن أفعل وأعمل على مبلغ علمي وطاقتي، ثم دعا عثمان وقال له مثل ذلك فأجابه بنعم، فرفع عبد الرحمن رأسه إلى سقف المسجد حيث كانت المشورة وقال أللهم إسمع واشهد أللهم إني جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان وصفق بيده في يد عثمان وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين وبايعه. قالوا وخرج الامام علي واجدا، فقال المقداد بن الاسود لعبد الرحمن والله لقد تركت عليا وإنه من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون، فقال يا مقداد لقد =

[ 35 ]

صرت أقرن إلى هذه النظائر (1) لكني أسففت إذ أسفوا (2) وطرت إذ طاروا. فصغى رجل منهم لضغنه (3) ومال الآخر لصهره (4) مع هن وهن (5) إلى أن قام ثالث القوم نافجا حضنيه (6) بين نثيله ومعتلفه. وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع (7) إلى أن انتكث فتله. وأجهز عليه عمله (8) وكبت به بطنته (9) فما راعني


= تقصيت الجهد للمسلمين. فقال المقداد والله إني لاعجب من قريش أنهم تركوا رجلا ما أقول ولا أعلم أن رجلا أقضى بالحق ولا أعلم به منه، فقال عبد الرحمن يا مقداد إني أخشى عليك الفتنة فاتق الله. ثم لما حدث في عهد عثمان ما حدث من قيام الاحداث من أقاربه على ولاية الامصار ووجد عليه كبار الصحابة روي أنه قيل لعبد الرحمن هذا عمل يديك، فقال ما كنت أظن هذا به ولكن لله علي أن لا أكلمه أبدا، ثم مات عبد الرحمن وهو مهاجر لعثمان، حتى قيل إن عثمان دخل عليه في مرضه يعوده فتحول إلى الحائط لا يكلمه. والله أعلم والحكم لله يفعل ما يشاء (1) المشابه بعضهم بعضا دونه (2) أسف الطائر دنا من الارض يريد أنه لم يخالفهم في شئ (3) صغى صغى وصغا صغوا مال، والضغن الضغينة يشير إلى سعد (4) يشير إلى عبد الرحمن (5) يشير إلى أغراض أخر يكره ذكرها (6) يشير إلى عثمان وكان ثالثا بعد انضمام كل من طلحة والزبير وسعد إلى صاحبه كما تراه في خبر القضية. ونافجا حضنيه رافعا لهما، والحضن ما بين الابط والكشح. يقال للمتكبر جاء نافجا حضنيه. ويقال مثله لمن امتلا بطنه طعاما، والنثيل الروث، والمعتلف من مادة علف موضع العلف وهو معروف أي لا هم له إلا ما ذكر (7) الخضم على ما في القاموس الاكل أو بأقسى الاضراس أول ملء الفم بالمأكول أو خاص بالشئ الرطب. والقضم الاكل بأطراف الاسنان أخف من الخضم، والنبتة بكسر النون كالنبات في معناه (8) انتكث فتله انتقض. وأجهز عليه عمله تمم قتله. تقول أجهزت على الجريح وذففت عليه (9) البطنة بالكسر البطر والاشر =

[ 36 ]

إلا والناس كعرف الضبع إلي (1) ينثالون علي من كل جانب. حتى لقد وطئ الحسنان. وشق عطفاي مجتمعين حولي كربيضة الغنم (2) فلما نهضت بالامر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون (3) كأنهم لم يسمعوا كلام الله حيث يقول. (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) بلى والله لقد سمعوها ووعوها. ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم (4) وراقهم زبرجها. أما والذي فلق الحبة. وبرأ النسمة (5) لولا حضور الحاضر (6) وقيام الحجة بوجود الناصر. وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم (7)


= والكظة (أي التخمة) والاسراف في الشبع. وكبت به من كبا الجواد إذا سقط لوجهه (1) عرف الضبع ما كثر على عنقها من الشعر وهو ثخين يضرب به المثل في الكثرة والازدحام، وينثالون يتتابعون مزدحمين. والحسنان ولداه الحسن والحسين، وشق عطفاه خدش جانباه من الاصطكاك. وفي رواية شق عطافي والعطاف الرداء وكان هذا الازدحام لاجل البيعة على الخلافة (2) ربيضة الغنم الطائفة الرابضة من الغنم يصف ازدحامهم حوله وجثومهم بين يديه (3) الناكثة أصحاب الجمل، والمارقة أصحاب النهروان والقاسطون أي الجائرون أصحاب صفين (4) حليت الدنيا من حليت المرأة إذا تزينت بحليها، والزبرج الزينة من وشى أو جوهر (5) النسمة محركة الروح، وبرأها خلقها (6) من حضر لبيعته ولزوم البيعة لذمة الامام بحضوره (7) والناصر الجيش الذي يستعين به على إلزام الخارجين بالدخول في البيعة الصحيحة. والكظة ما يعتري الآكل من امتلاء البطن بالطعام والمراد استئثار الظالم بالحقوق، والسغب شدة الجوع =

[ 37 ]

لالقيت حبلها على غاربها (1) ولسقيت آخرها بكأس أولها. ولالفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز (2) (قالوا) وقام إليه رجل من أهل السواد عند (3) بلوغه إلى هذا الموضع من خطبته فناوله كتابا فأقبل ينظر فيه. قال له ابن عباس رضي الله عنهما. يا أمير المؤمنين لو أطردت خطبتك من حيث أفضيت. فقال هيهات يا ابن عباس تلك شقشقة (4) هدرت ثم قرت. قال ابن عباس فو الله ما أسفت على كلام قط كأسفي على هذا الكلام أن لا يكون أمير المؤمنين عليه السلام بلغ منه حيث أراد (قوله كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم وإن أسلس لها تقحم) يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام وهي تنازعه رأسها خرم أنفها وإن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها. يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها


والمراد منه هضم حقوقه (1) الغارب الكاهل والكلام تمثيل للترك وإرسال الامر (2) عفطة العنز ما تنثره من أنفها كالعطفة، عفطت تعفط من باب ضرب، غير أن أكثر ما يستعمل ذلك في النعجة، والاشهر في العنز النفطة بالنون، يقال ما له عافط ولا نافط أي نعجة ولاعنز، كما يقال ما له ثاغية ولا راغية، والعفطة الحبقة أيضا لكن الاليق بكلام أمير المؤمنين هو ما تقدم (3) السواد العراق وسمي سوادا لخضرته بالزرع والاشجار. والعرب تسمى الاخضر أسود قال الله تعالى " مدهامتان " يريد الخضرة كما هو ظاهر (4) الشقشقة بكسر فسكون فكسر شئ كالرئة يخرجه البعير من فيه إذا هاج، وصوت البعير بها عند إخراجها هدير، ونسبة الهدير إليها نسبة إلى الآلة، قال =

[ 38 ]

بالزمام فرفعه وشنقها أيضا، ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق. وإنما قال أشنق لها ولم يقل أشنقها لانه جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكأنه عليه السلام قال إن رفع لها رأسها بمعنى أمسكه عليها. 4 - ومن خطبة له عليه السلام بنا اهتديتم في الظلماء. وتسنمتم العلياء (1) وبنا انفجرتم عن السرار. وقر سمع لم يفقه الواعية (2) وكيف يراعي النبأة من أصمته الصيحة (3). ربط جنان لم يفارقه الخفقان (4) مازلت أنتظر بكم عواقب


= في القاموس: والخطبة الشقشقة العلوية وهي هذه (1) تسنمتم العليا ركبتم سنامها وارتقيتم إلى أعلاها، والسرار كسحاب وكتاب آخر ليلة من الشهر يختفي فيها القمر. وانفجرتم دخلتم في الفجر. والمراد كنتم في ظلام حالك وهو ظلام الشرك والضلال فصرتم إلى ضياء ساطع بهدايتنا وإرشادنا والضمير لمحمد صلى الله عليه وآله والامام ابن عمه ونصيره في دعوته. ويروى أفجرتم بدل انفجرتم وهو أفصح وأوضح لان الفعل لا يأتي لغير المطاوعة إلا نادرا. أما أفعل فيأتي لصيرورة الشئ إلى حال لم يكن عليها كقولهم أجرب الرجل إذا صارت إبله جربى وأمثاله كثير (2) الواعية الصاخة، والصارخة والصراخ نفسه. والمراد هنا العبر والمواعظ الشديدة الاثر. ووقرت أذنه فهي موقورة ووقرت كسمعت صمت. دعاء بالصمم على من لم يفهم الزواجر والعبر (3) الصيحة هنا الصوت الشديد، والنبأة أراد منها الصوت الخفي، أي من أصمته الصيحة فلم يسمعها كيف يمكن أن يسمع النبأة فيراعيها. ويشير بالصيحة إلى زواجر كتاب الله ومقال رسوله، وبالنبأة إلى ما يكون منه رضي الله عنه وقد رأينا هذا أقرب مما أشرنا إليه في الطبعة السابقة (4) ربط جأشه رباطة اشتد قلبه، ومثله رباطة =

[ 39 ]

الغدر. وأتوسمكم بحلية المغترين (1) سترني عنكم جلباب الدين (2) وبصرنيكم صدق النية. أقمت لكم على سنن الحق في جواد المضلة (3)، حيث تلتقون ولا دليل. وتحتفرون ولا تميهون (4). اليوم أنطق لكم العجماء ذات البيان (5) غرب رأي امرئ تخلف عني (6) ما شككت في الحق مذ أريته. لم يوجس موسى عليه السلام خيفة على نفسه (7) أشفق من غلبة الجهال ودول الضلال. اليوم تواقفنا على سبيل الحق والباطل من وثق بماء لم يظمأ


= الجنان أي القلب وهو دعاء للقلب الذي لازمه الخفقان والاضطراب خوفا من الله بأن يثبت ويستمسك (1) ينتظر بهم الغدر يترقب غدرهم ثم كان يتفرس فيهم الغرور والغفلة وأنهم لا يميزون بين الحق والباطل ولهذا لا يبعد أن يجهلوا قدره فيتركوه إلى من ليس له من الحق على مثل حاله. والحلية هنا الصفة (2) جلباب الدين ما لبسوه من رسومه الظاهرة، أي أن الذي عصمكم مني هو ما ظهرتم به من الدين وإن كان صدق نيتي قد بصرني ببواطن أحوالكم وما تكنه صدوركم. وصاحب القلب الطاهر تنفذ فراسته إلى سرائر النفوس فتستخرجها (3) المضلة بكسر الضاد وفتحها الارض يضل سالكها، وللضلال طرق كثيرة لان كل ما جار عن الحق فهو باطل، وللحق طريق واحد مستقيم وهو الوسط بين طرق الضلال، لهذا قال أقمت لكم على سنن الحق وهو طريقه الواضح فيما بين جواد المضلة وطرقها المتشعبة حيث يلاقي بعضكم بعضا وكلكم تائهون فلا فائدة في التقائكم حيث لا يدل أحدكم صاحبه لعدم علمه بالدليل (4) تميهون تجدون ماء من أماهوا أركيتهم أنبطوا ماءها، أو تستقون من أما هوا دوابهم سقوها (5) أراد من العجماء رموزه واشاراته فإنها وإن كانت غامضة على من لا (خبرة) لهم لكنها جلية ظاهرة (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد) لهذا سماها ذات البيان مع أنها عجماء (6) غرب غاب، أي لا رأي إن تخلف عني ولم يطعني (7) (يعني) =

[ 40 ]

5 - ومن خطبة له عليه السلام لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وخاطبه العباس وأبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة. وعرجوا عن طريق المنافرة وضعوا عن تيجان المفاخرة (1). أفلح من نهض بجناح. أو استسلم فأراح (2) هذا ماء آجن (3). ولقمة يغص بها آكلها. ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه (4) فإن أقل يقولوا حرص على الملك. وإن أسكت يقولوا جزع من الموت (5) هيهات بعد


= بموسى عليه السلام إذ رموه بالخيفة ويفرق بين الواقع وبين ما يزعمون فإنه لا يخاف على حياته ولكنه يخاف من غلبة الباطل كما كان من نبي الله موسى، وهو أحسن تفسير لقوله تعالى (فأوجس في نفسه خيفة موسى) وأفضل تبرئة لنبي الله من الشك في أمره (1) قلب قصد به المبالغة. والقصد ضعوا تيجان المفاخرة عن رؤوسكم وكأنه يقول طأطئوا رؤوسكم تواضعا ولا ترفعوها بالمفاخرة إلى حيث تصيبها تيجانها، ويروى وضعوا تيجان المفاخرة بدون لفظ عن وهو ظاهر. وعرج عن الطريق مال عنه وتنكبه (2) المفلح أحد رجلين إما ناهض للامر بجناح أي بناصر ومعين يصل بمعونته إلى ما نهض إليه، وإما مستسلم يريح الناس من المنازعة بلا طائل وذلك عند عدم الناصر، وهذا ينحو نحو قول عنترة لما قيل له إنك أشجع العرب فقال لست بأشجعهم ولكني أقدم إذا كان الاقدام عزما وأحجم إذا كان الاحجام حزما (3) الآجن المتغير الطعم واللون لا يستساغ، والاشارة إلى الخلافة، أي أن الامرة على الناس والولاية على شئونهم مما لا يهنأ لصاحبه بل ذلك أمر يشبه تناوله تناول الماء الآجن ولا تحمد عواقبه كاللقمة يغص بها آكلها فيموت بها (4) يشير إلى أن ذلك لم يكن الوقت الذي يسوغ فيه طلب الامر فلو نهض إليه كان كمجتني الثمرة قبل إيناعها ونضجها وهو لا ينتفع بما جنى، كما أن الزارع في غير أرضه لا ينتفع بما زرع (5) إن =

[ 41 ]

اللتيا والتي (1) والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه. بل اندمجت على مكنون علم لو بحت به لاضطربتم اضطراب الارشية في الطوي البعيدة (2). 6 - ومن كلام له لما أشير عليه بأن لا يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال (3) والله لا أكون كالضبع تنام على طول اللدم (4). حتى يصل إليها طالبها ويختلها راصدها. ولكني أضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه. وبالسامع المطيع العاصي المريب أبدا. حتى يأتي علي يومي


= تكلم بطلب الخلافة رماه من لايعرف حقيقة قصده بالحرص على السلطان وإن سكت وهم يعلمونه أهلا للخلافة يرمونه بالجزع من الموت في طلب حقه (1) أي بعد ظن من يرميني بالجزع بعد ما ركبت الشدائد وقاسيت المخاطر صغيرها وكبيرها. قيل إن رجلا تزوج بقصيرة سيئة الخلق فشقي بعشرتها ثم طلقها وتزوج أخرى طويلة فكان شقاؤه بها أشد فطلقها وقال لا أتزوج بعد اللتيا والتي يشير بالاولى إلى الصغيرة وبالثانية إلى الكبيرة فصارت مثلا في الشدائد والمصاعب صغيرها وكبيرها. وقوله هيهات الخ نفي لما عساهم يظنون من جزعه من الموت عند سكوته (2) أدمجه لفه في ثوب فاندمج، أي انطويت على علم والتففت عليه. والارشية جمع رشاء بمعنى الحبل، والطوى جمع طوية وهي البئر، والبعيدة بمعنى العميقة، أو هي بفتح الطاء كعلي، بمعنى السقاء ويكون البعيدة نعتا سببيا أي البعيدة مقرها من البئر أو نسبة البعد إليها في العبارة مجاز عقلي (3) يرصد يترقب أو هو رباعى من الارصاد بمعنى الاعداد، أي ولا يعد لهما القتال (4) اللدم الضرب بشئ ثقيل يسمع صوته. قال أبو عبيد يأتي صائد الضبع فيضرب بعقبه الارض عند باب جحرها ضربا غير شديد وذلك هو اللدم ثم يقول خامري أم عامر بصوت ضعيف يكررها مرارا فتنام الضبع على ذلك فيجعل في عرقوبها حبلا ويجرها فيخرجها، وخامري أي استتري في جحرك ويقال خامر =

[ 42 ]

فوالله مازلت مدفوعا عن حقي مستأثرا علي منذ قبض الله نبيه صلى الله عليه وسلم حتى يؤم الناس هذا 7 - ومن خطبة له عليه السلام اتخذوا الشيطان لامرهم ملاكا (1)، واتخذهم له أشراكا. فباض وفرخ في صدورهم (2). ودب ودرج في حجورهم (3). فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم. فركب بهم الزلل وزين لهم الخطل (4) فعل من قد شركه الشيطان في سلطانه ونطق بالباطل على لسانه. 8 - (ومن كلام له عليه السلام يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك) يزعم أنه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه. فقد أقر بالبيعة وادعى الوليجة (5) فليأت عليها بأمر يعرف. وإلا فليدخل فيما خرج منه 9 - ومن كلام له عليه السلام وقد أرعدوا وأبرقوا، ومع هذين الامرين الفشل. ولسنا نرعد


= الرجل منزله إذا لزمه (1) ملاك الشئ بالفتح ويكسر قوامه الذي يملك به. والاشراك جمع شريك كشريف وأشراف فجعلهم شركاءه أو جمع شرك وهو ما يصاد به فكأنهم آلة الشيطان في الاضلال (2) باض وفرخ كناية عن توطنه صدورهم وطول مكثه فيها، لان الطائر لا يبيض إلا في عشه. وفراخ الشيطان وساوسه (3) دب ودرج الخ اي أنه تربى في حجورهم كما يربى الاطفال في حجور والديهم حتى بلغ صوته وملك قوته (4) الخطل أقبح الخطأ. والزلل الغلط والخطأ (5) الوليجة الدخيلة وما يضمر في =

[ 43 ]

حتى نوقع (1). ولا نسيل حتى نمطر. 10 - ومن خطبة له عليه السلام ألا وإن الشيطان قد جمع (حزبه). واستجلب خيله ورجله. وإن معي لبصيرتي ما لبست علي نفسي ولا لبس علي. وأيم الله لا أفرطن لهم حوضا أنا ماتحه (2) لا يصدرون عنه ولا يعودون إليه (3) 11 - ومن كلام له عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل تزول الجبال ولا تزل. عض على ناجذك (4). أعر الله جمجمتك. تد في الارض قدمك (5). أرم ببصرك أقصى القوم. وغض بصرك (6) واعلم


= القلب ويكتم، والبطانة (1) إذا أوقعنا بعدو أوعدنا آخر بأن يصيبه ما أصاب سابقه، وإذا أمطرنا أسلنا، أما أولئك الذين يقولون نفعل ونفعل وما هم بفاعلين فهم بمنزلة من يسيل قبل المطر وهو محال غير موجود فهم كالاعدام فيما به يوعدون (2) أفرطه ملاه حتى فاض. والماتح من متح الماء نزعه، أي أنا نازع مائه من البئر فمالئ به الحوض وهو حوض البلاء والفناء، أو أنا الذي أسقيهم منه (3) أي أنهم سيردون الحرب فيموتون عندها ولا يصدرون عنها ومن نجا منهم فلن يعود إليها (4) النواجذ أقسى الاضراس أو كلها أو الانياب والناجذ واحدها. قيل إذا عض الرجل على أسنانه اشتدت أعصاب رأسه وعظامه ولهذا يوصى به عند الشدة ليقوي، والصحيح أن ذلك كناية عن الحمية فإن من عادة الانسان إذا حمي واشتد غيظه على عدوه عض على أسنانه. وأعر أمر من أعار، أي ابذل جمجمتك لله تعالى كما يبذل المعير ماله للمستعير (5) أي ثبتها من وتد يتد (6) ارم ببصرك الخ أي أحط بجميع حركاتهم وغض =

[ 44 ]

أن النصر من عند الله سبحانه 12 - ومن خطبة له عليه السلام لما أظفره الله بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه وددت أن أخي فلانا كان شاهدنا ليرى ما نصرك الله به على أعدائك. فقال له عليه السلام أهوى أخيك معنا؟ (1) فقال نعم، قال فقد شهدنا. ولقد شهدنا في عسكرنا هذا أقوام في أصلاب الرجال وأرحام النساء، سيرعف بهم الزمان (2) ويقوى بهم الايمان 13 - ومن كلام له عليه السلام في ذم أهل البصرة كنتم جند المرأة. وأتباع البهيمة (3). رغا فأجبتم. وعقر


= النظر عما يخيفك منهم أي لا يهولنك منهم هائل (1) هوى أخيك أي ميله ومحبته (2) يرعف بهم أي سيجود بهم الزمان كما يجود الانف بالرعاف يأتي بهم على غير انتظار (3) يريد الجمل، ومجمل القصة أن طلحة والزبير بعد ما بايعا أمير المؤمنين فارقاه في المدينة وأتيا مكة مغاضبين، فالتقيا بعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فسألتهما الاخبار فقالا إنا تحملنا هربا من غوغاء العرب بالمدينة وفارقنا قومنا حيارى لا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا ولا يمنعون أنفسهم، فقالت ننهض إلى هذه الغوغاء أو نأتي الشام. فقال أحد الحاضرين لا حاجة لكم في الشام قد كفاكم أمرها معاوية فلنأت البصرة فإن لاهلها هوى مع طلحة، فعزموا على المسير وجهزهم يعلى بن منبه وكان واليا لعثمان على اليمن وعزله علي كرم الله وجهه وأعطى للسيدة عائشة جملا اسمه عسكر ونادى مناديها في الناس بطلب ثأر عثمان فاجتمع نحو ثلاثة آلاف فسارت فيهم إلى البصرة وبلغ =

[ 45 ]

فهربتم. أخلاقكم دقاق (1) وعهد كم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤ كم زعاق (2). والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه. كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة (3) قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها. (وفي رواية) وايم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة. أو نعامة جاثمة (4). (وفي رواية) كجؤجؤ طير في لجة بحر. (وفي رواية) أخرى بلادكم أنتن بلاد الله تربة، أقربها من الماء وأبعدها من السماء. وبها تسعة أعشار الشر. المحتبس فيها بذنبه والخارج بعفو الله. كأني أنظر إلى قريتكم هذه قد طبقها الماء حتى ما يرى منها إلا شرف المسجد كأنه جؤجؤ طير في لجة بحر


= الخبر عليا فأوسع لهم النصيحة وحذرهم الفتنة فلم ينجح النصح. فتجهز لهم وأدركهم بالبصرة وبعد محاولات كثيرة منه يبغى بها حقن الدماء انتشبت الحرب بين الفريقين واشتد القتال، وكان الجمل يعسوب البصريين قتل دونه خلق كثير من الفئتين وأخذ خطامه سبعون قرشيا ما نجا منهم أحد وانتهت الموقعة بنصر علي كرم الله وجهه بعد عقر الجمل. وفيها قتل طلحة والزبير وقتل سبعة عشر ألفا من أصحاب الجمل وكانوا ثلاثين ألفا. وقتل من أصحاب علي الف وسبعون الصدر (4) من جثم إذا وقع على صدره أو تلبد بالارض. وقد وقع ما أوعد به أمير المؤمنين فقد غرقت البصرة جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف بجزيرة الفرس ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام ولم يبق ظاهرا =

[ 46 ]

14 - ومن كلام له عليه السلام في مثل ذلك أرضكم قريبة من الماء. بعيدة من السماء. خفت عقولكم وسفهت حلومكم. فأنتم غرض لنابل (1)، وأكلة لآكل، وفريسة لصائل. 15 - ومن كلام له عليه السلام فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضي الله عنه (2) والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء لرددته فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق (3). 16 - ومن كلام له عليه السلام لما بويع بالمدينة ذمتي بما أقول رهينة (4). وأنا به زعيم إن من صرحت له العبر


= منها إلا مسجدها الجامع، ومعنى قوله أبعدها من السماء أنها في أرض منخفضة والمنخفض أبعد عن السماء من المرتفع بمقدار انخفاضه وارتفاع المرتفع (1) الغرض ما ينصب ليرمى بالسهام. والنابل الضارب بالنبل (2) قطائع عثمان ما منحه للناس من الاراضي (3) أي أن من عجز عن تدبير أمره بالعدل فهو عن التدبير بالجور أشد عجزا، فإن الجور مظنة أن يقاوم ويصد عنه، وهذه الخطبة رواها الكلبي مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس إن عليا خطب ثاني يوم من بيعته في المدينة فقال: ألا أن كل قطيعة أقطعها عثمان وكل ما أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال، فان الحق القديم لا يبطله شئ، ولو وجدته قد تزوج الخ (4) الذمة العهد تقول هذا الحق في =

[ 47 ]

عما بين يديه من المثلات (1) حجزته التقوى عن تقحم الشبهات. ألا وإن بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم صلى الله عليه وآله (2) والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة. ولتغربلن غربلة. ولتساطن سوط القدر (3) حتى يعود أسفلكم أعلاكم وأعلاكم أسفلكم. وليسبقن سابقون كانوا قصروا. وليقصرن سباقون كانوا سبقوا (4).


= ذمتي كما تقول في عنقي وذلك كناية عن الضمان والالتزام. والزعيم الكفيل. يريد أنه ضامن لصدق ما يقول كفيل بأنه الحق الذي لا يدافع (1) العبر بكسر ففتح جمع عبرة بمعنى الموعظة، والمثلات العقوبات، أي من كشف له النظر في أحوال من سبق بين يديه وحقق له الاعتبار والاتعاظ أن العقوبات التي نزلت بالامم والاجيال والافراد من ضعف وذل وفاقة وسوء حال انما كانت بما كسبوا من ظلم وعدوان وما لبسوا من جهل وفساد أحوال ملكته التقوى وهي التحفظ من الوقوع فيما جلب تلك العقوبات لاهلها فمنعته عن تقحم الشبهات والتردى فيها، فإن الشبهة مظنة الخطيئة والخطيئة مجلبة. العقوبة (2) إن بلية العرب التي كانت محيطة بهم يوم بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم هي بلية الفرقة ومحنة الشتات حيث كانوا متباغضين متنافرين يدعو كل إلى عصبيته وينادي نداء عشيرته يضرب بعضهم رقاب بعض، فتلك الحالة التي هي مهلكة الامم قد صاروا إليها بعد مقتل عثمان، بعثت العداوات التي كان قد قتلها الدين، ونفخت روح الشحناء بين الامويين والهاشميين واتباع كل ولا حول ولا قوة إلا بالله (3) لتبلبلن أي لتخلطن. من نحو تبلبلت الالسن اختلطت، ولتغربلن أي لتقطعن من غربلت اللحم أي قطعته ولتساطن من السوط وهو أن تجعل شيئين في الاناء وتضربهما بيدك حتى يختلطا. وقوله سوط القدر أي كما تختلط الابزار ونحوها في القدر عند غليانه فينقلب أعلاها أسفلها وأسفلها أعلاها، وكل ذلك حكاية عما يؤولون إليه من الاختلاف وتقطع الارحام وفساد النظام (4) ولقد سبق معاوية إلى مقام الخلافة وقد كان في قصوره عنه بحيث لا يظن وصوله إليه، وقصر آل بيت النبوة عن بلوغه =

[ 48 ]

والله ما كتمت وشمة (1) ولا كذبت كذبة. ولقد نبئت بهذا المقام وهذا اليوم. ألا وإن الخطايا خيل شمس حمل عليها أهلها وخلعت لجمها فتقحمت بهم في النار (2). ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة. حق وباطل. ولكل أهل (3) فلئن أمر الباطل لقديما فعل. ولئن قل الحق فلربما ولعل. ولقلما أدبر شئ فأقبل (4). أقول إن في هذا الكلام الادنى من مواقع


= وقد كانوا أسبق الناس إليه (1) الوشمة الكلمة وقد كان رضي الله عنه لا يكتم شيئا يحوك بنفسه، كان أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر لا يحابي ولا يداري ولا يكذب ولا يداجي، وهذا القسم توطئة لقوله ولقد نبئت بهذا المقام أي أنه قد أخبر من قبل على لسان النبي صلى الله عليه وسلم بأن سيقوم هذا المقام ويأتي عليه يوم مثل هذا اليوم (2) الشمس بضمتين وضم فسكون جمع شموس وهي من شمس كنصر أي منع ظهره أن يركب، وفاعل الخطيئة إنما يقترفها لغاية زينت له يطلب الوصول إليها فهو شبيه براكب فرس يجريه إلى غايته، لكن الخطايا ليست إلى الغايات بمطايا فإنها اعتساف عن السبيل واختباط في السير، لهذا شبهها بالخيل الشمس التي قد خلعت لجمها لان من لم يلجم نفسه بلجام الشريعة أفلتت منه إلى حيث ترديه وتتقحم به في النار. وتشبيه التقوى بالمطايا الذلل ظاهر فإن التقوى تحفظ النفس من كل ما ينكبها عن صراط الشريعة فصاحبها على الجادة لا يزال عليها حتى يوافي الغاية والذلل جمع ذلول وهي المروضة الطائعة السلسة القياد (3) أي أن ما يمكن أن يكون عليه الانسان ينحصر في أمرين الحق والباطل ولا يخلو العالم منهما، ولكل من الامرين أهل، فللحق أقوام وللباطل أقوام. ولئن أمر الباطل أي كثر بكثرة أعوانه فلقد كان منه قديما لان البصائر الزائغة عن الحقيقة أكثر من الثابتة عليها. ولئن كان الحق قليلا بقلة أنصاره فلربما غلبت قلته كثرة الباطل ولعله يقهر الباطل ويمحقه (4) هذه الكلمة صادرة =

[ 49 ]

الاحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان. وإن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به وفيه مع الحال التي وصفنا زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان. ولا يطلع فجها إنسان (1). ولا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق. وجرى فيها على عرق (2). (وما يعقلها إلا العالمون). ومن هذه الخطبة شغل من الجنة والنار أمامه (3) ساع سريع نجا (4) وطالب بطئ


= من ضجر بنفسه يستبعد بها أن تعود دولة لقوم بعد ما زالت عنهم ومن هذا المعنى قول الشاعر. - وقالوا يعود الماء في النهر بعدما * ذوى نبت جنبيه وجف المشارع - فقلت إلى أن يرجع النهر جاريا * ويوشب جنباه يموت الضفادع (1) لا يطلع من قولهم اطلع الارض أي بلغها، والفج الطريق الواسع بين جبلين في قبل من أحدهما (2) العرق الاصل أي سلك في العمل بصناعة الفصاحة والصدور عن ملكتها على أصولها وقواعدها (3) شغل مبني للمجهول نائب فاعله من والجنة والنار مبتدا خبره أمامه. والجملة صلة من أي كفى شاغلا أن تكون الجنة والنار أمامك. ومن كانت أمامه الجنة والنار على ما وصف الله سبحانه فحري به أن تنفد أوقاته جميعها في الاعداد للجنة والابتعاد عما عساه يؤدي إلى النار (4) يقسم الناس إلى ثلاثة أقسام الاول الساعي إلى ما عند الله السريع في سعيه وهو الواقف عند حدود الشريعة لا يشغله فرضها عن نفلها ولا شاقها عن سهلها والثاني الطالب البطئ له قلب تعمره الخشية وله صلة إلى الطاعة لكن ربما قعد به عن السابقين ميل إلى الراحة فيكتفى من العمل بفرضه وربما انتظر به غير وقته وينال من الرخص حظه وربما =

[ 50 ]

رجا ومقصر في النار هوى. اليمين والشمال مضلة. والطريق الوسطى هي الجادة (1). عليها باقي الكتاب وآثار النبوة. ومنها منفذ السنة وإليها مصير العاقبة. هلك من ادعى وخاب من افترى. من أبدى صفحته للحق هلك (2) وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف قدره. لا يهلك على التقوى سنخ أصل (3). ولا يظمأ عليها زرع قوم. فاستتروا ببيوتكم. وأصلحوا ذات بينكم. والتوبة من ورائكم ولا يحمد حامد إلا ربه ولا يلم لائم إلا نفسه


= كانت له هفوات ولشهوته نزوات على أنه رجاع إلى ربه كثير الندم على ذنبه فذلك الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يرجو أن يغفر له والقسم الثالث المقصر وهو الذي حفظ الرسم ولبس الاسم وقال بلسانه أنه مؤمن وربما شارك الناس فيما يأتون من أعمال ظاهرة كصوم وصلاة وما شابههما وظن أن ذلك كل ما يطلب منه ثم لا تورده شهوته منهلا إلا عب منه ولا يميل به هواه إلى أمر إلا انتهى إليه فذلك عبد الهوى وجدير به أن يكون في النار هوى (1) اليمين والشمال مثال لما زاغ عن جادة الشريعة. والطريق الوسطى مثال للشريعة القويمة. ثم أخذ يبين أن الجادة والطريق الوسطى وهي سبيل النجاة جاء الكتاب هاديا إليها والسنة لا تنفذ إلا منها فمن خالف الكتاب ونبذ السنة ثم ادعى أنه على الجادة فقد كذب ولهذا يقول خاب من ادعى أي من ادعى دعوة وكذب فيها ولم يكن عنده مما يدعيه إلا مجرد الدعوى فقد هلك لانه مائل عن الجادة (2) الرواية الصحيحة هكذا من أبدى صفحته للحق هلك أي من كاشف الحق مخاصما له مصارحا له بالعداوة هلك ويروى من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس وعلى هذه الرواية يكون المعنى من ظاهر الحق ونصره غلبته الجهلة بكثرتهم وهم أعوان الباطل فهلك (3) السنخ المثبت يقال ثبتت السن في سنخها أي منبتها، والاصل لكل شئ قاعدته وما قام عليه بقيته فأصل الجبل مثل أسفله الذي يقوم عليه =

[ 51 ]

17 - ومن كلام له عليه السلام في صفة من يتصدى للحكم بين الامة وليس لذلك بأهل إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه (1) فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة. ودعاء ضلالة. فهو فتنة لمن افتتن به. ضال عن هدي من كان قبله. مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته. حمال خطايا غيره. رهن بخطيئته (2) ورجل قمش جهلا. (3)


= أعلاه، وأصل النبات جذره الذاهب في منبته، وهلاك السنخ فساده حتى لا يثبت فيه أصول ما اتصل به ولا ينمو غرس فيه، وكل عمل ذهبت أصوله في أسناخ التقوى كان جديرا بأن تثبت أصوله وتنمو فروعه ويزكو بزكاء منبته ومغرس أصله وهو التقوى وكما أن التقوى سنخ لاصول الاعمال كذلك منها تستمد الاعمال غذاءها وتستقي ماءها من الاخلاص وجدير بزرع يسقى بماء التقوى أن لا يظمأ وعليها في الموضعين في معنى معها، وقد يقال في قوله سنخ أصل أنه هو على نحو قول القائل إذا خاص عينيه كرى النوم، والكرى هو النوم، والسنخ هو الاصل، والاليق بكلام الامام ما قدمناه (1) وكله الله إلى نفسه تركه ونفسه وهو كناية عن ذهابه خلف هواه فيما يعتقد لا يرجع إلى حقيقة من الدين ولا يهتدي بدليل من الكتاب، فهذا جائر عن قصد السبيل وعادل عن جادته، والمشغوف بشئ المولع به وكلام البدعة ما اخترعته الاهواء ولم يعتمد على ركن من الحق ركين (2) هذا الضال المولع بتنميق الكلام لتزيين البدعة الداعي إلى الضلالة قد غرر بنفسه وأوردها هلكتها فهو رهن بخطيئته لا مخرج له منها وهو مع ذلك حامل لخطايا الذين أضلهم وأفسد عقائدهم بدعائه كما قال تعالى وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم (3) قمش جهلا جمعه والجهل =

[ 52 ]

موضع في جهال الامة (1) عاد في أغباش الفتنة. عم بما في عقد الهدنة (2) قد سماه أشباه الناس عالما وليس به. بكر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر (3) حتى إذا ارتوى من آجن. واكتنز من غير طائر (4). جلس بين الناس قاضيا. ضامنا لتخليص ما التبس على


= هنا بمعنى المجهول وكما يسمى المعلوم علما بل قال قوم إن العلم هو صورة الشئ في العقل وهو المعلوم حقيقة كذلك يسمى المجهول جهلا بل الصورة التي اعتبرت مثالا لشئ وليست بمنطبقة عليه هي الجهل حقيقة بالمعنى المقابل للعلم بذلك التفسير السابق فالجهل المجموع هو المسائل والقضايا التي يظنها جامعها تحكي واقعا ولا واقع لها (1) موضع في جهال الامة مسرع فيهم بالغش والتغرير وضع البعير أسرع وأوضعه راكبه فهو موضع به أي مسرع به، وقوله عاد في أغباش الفتنة الاغباش الظلمات واحدها غبش بالتحريك وأغباش الليل بقايا ظلمته. وعاد بمعنى مسرع في مشيته أي أنه ينتهز افتتان الناس بجهلهم وعماهم في فتنتهم فيعدو إلى غايته من التصدر فيهم والسيادة عليهم بما جمع مما يظنه الجهلة علما وليس به. ويروى غار في أغباش الفتنة من غره يغره إذا غشه وهو ظاهر (2) عم وصف من العمى أي جاهل بما أودعه الله في السكون والاطمئنان من المصالح، وقد يراد بالهدنة إمهال الله له في العقوبة وإملاؤه في أخذه ولو عقل ما هيأ الله له من العقاب لاخذ من العلم بحقائقه وأوغل في النظر لفهم دقائقه ونصح لله ولرسوله وللمؤمنين (3) بكر بادر إلى الجمع كالجاد في عمله يبكر إليه من أول النهار فاستكثر أي احتاز كثيرا من جمع بالتنوين أي مجموع قليله خير من كثيره إن جعلت ما موصولة فإن جعلتها مصدرية كان المعنى قلته خير من كثرته، ويروى جمع بغير تنوين ولابد من حذف على تلك الرواية أي من جمع شئ قلته خير من كثرته (4) الماء الآجن الفاسد المتغير الطعم واللون شبه به تلك المجهولات التي ظنها معلومات وهي تشبه العلم في أنها صور قائمة بالذهن فكأنها من نوعه كما أن الآجن من نوع الماء لكن الماء الصافي ينقع الغلة ويطفئ من الاوار والآجن يجلب العلة ويفضي =

[ 53 ]

غيره (1). فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشوا رثا من رأيه ثم قطع به (2). فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت (3). لا يدري أصاب أم أخطأ فإن أصاب خاف أن يكون أخطأ. وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب. جاهل خباط جهالات. عاش ركاب عشوات (4) لم يعض على العلم بضرس قاطع (5) يذري الروايات إذراء الريح الهشيم. لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه. ولا هو أهل لما


= يشار به إلى البوار. واكتنز أي عدما جمعه كنزا وهو غير طائل أي دون خسيس (1) التخليص التبيين، والتبس على غيره اشتبه عليه (2) المبهمات المشكلات لانها أبهمت عن البيان كالصامت الذي لم يجعل على ما في نفسه دليلا ومنه قيل لما لا ينطق من الحيوان بهيمة، والحشو الزائد لا فائدة فيه، والرث الخلق البالي ضد الجديد أي أنه يلاقي المبهمات برأي ضعيف لا يصيب من حقيقتها شيئا بل هو حشو لا فائدة له في تبينها ثم يزعم بذلك أنه بينها (3) الجاهل بشئ ليس على بينة منه فإذا أثبته عرضت له الشبهة في نفيه وإذا نفاه عرضت له الشبهة في إثباته فهو في ضعف حكمه في مثل نسج العنكبوت ضعفا ولا بصيرة له في وجوه الخطأ والاصابة فإذا حكم لم يقطع بأنه مصيب أو مخطئ وقد جاء الامام في تمثيل حاله بأبلغ ما يمكن من التعبير عنه (4) خباط صيغة مبالغة من خبط الليل إذا سار فيه على غير هدى، ومنه خبط عشواء، وشبه الجهالات بالظلمات التي يخبط فيها السائر وأشار إلى التشبيه بالخبط. والعاشي الاعمى أو ضعيف البصر أو الخابط في الظلام فيكون كالتأكيد لما قبله، والعشوات جمع عشوة مثلثة الاول وهي ركوب الامر على غير هدى (5) من عادة عاجم العود أي مختبره ليعلم صلابته من لينه أن يعضه فلهذا ضرب المثل في الخبرة بالعض بضرس قاطع أي أنه لم يأخذ العلم اختبارا بل تناوله كما سول الوهم وصور الخيال ولم يعرض على محض الخبرة ليتبين أحق هو أم باطل (6) الهشيم ما يبس من النبت وتفتت. وأذرته الريح =

[ 54 ]

فوض إليه (1). لا يحسب العلم في شئ مما أنكره * ولا يرى أن من وراء ما بلغ مذهبا لغيره. وإن أظلم أمر اكتتم به (2) لما يعلم من جهل نفسه. تصرخ من جور قضائه الدماء. وتعج منه المواريث (3) إلى الله أشكو من معشر يعيشون جهالا (4) ويموتون ضلالا ليس فيهم سلعة أبور من الكتاب إذا تلي حق تلاوته (5). ولا سلعة أنفق بيعا ولا أغلى ثمنا من الكتاب إذا حرف عن مواضعه. ولا عندهم أنكر من المعروف ولا أعرف من المنكر. 18 - ومن كلام له عليه السلام في ذم اختلاف العلماء في الفتيا ترد على أحدهم القضية في حكم من الاحكام فيحكم فيها


= إذراء أطارته ففرقته ويروى تذرو الروايات كما تذرو الريح الهشيم وهي أفصح قال الله تعالى (فأصبح هشيما تذروه الرياح) وكما أن الريح في حمل الهشيم وتبديده لا تبالي بتمزيقه واختلال نسقه كذلك هذا الجاهل يفعل في الروايات ما تفعل الريح بالهشيم (1) الملئ بالقضاء من يحسنه ويجيد القيام عليه وهذا لا ملئ بإصدار القضايا التي ترد عليه وارجاعها عنه مفصولا فيها النزاع مقطوعا فيها الحكم أي غير قيم بذلك ولا غناء فيه لهذا الامر الذي تصدر له وروى ابن قتيبة بعد قوله لا ملئ والله بإصدار ما ورد عليه (ولا أهل لما قرظ به) أي مدح به بدل ولا هو أهل لما فوض إليه (2) اكتتم به أي كتمه وستره (3) العج رفع الصوت وصراخ الدماء وعج المواريث تمثيل لحدة الظلم وشدة الجور (4) إلى الله متعلق بأشكو. وفي رواية إسقاط لفظ أشكو فيكون إلى الله متعلقا بتعج، وقوله من معشر يشير إلى أولئك الذين قمشوا جهلا (5) تلى حق تلاوته أخذ على وجهه وما يدل عليه جملته وفهم كما كان النبي =

[ 55 ]

برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلافه ثم يجتمع القضاة بذلك عند الامام الذي استقضاهم (1) فيصوب آراءهم جميعا وإلههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد. أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه. أم نهاهم عنه فعصوه. أم أنزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه. أم كانوا شركاء له. فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول صلى الله عليه وآله عن تبليغه وأدائه والله سبحانه يقول (ما فرطنا في الكتاب من شئ) فيه تبيان كل شئ وذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا وأنه لا اختلاف فيه فقال سبحانه (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا). وإن القرآن ظاهره أنيق (2). وباطنه عميق. لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات إلا به


= وأصحابه صلى الله عليه وسلم يفهمونه، وأبور من بارت السلعة كسدت، وأنفق من النفاق بالفتح وهو الرواج وما أشبه حال هذا المعشر بالمعاشر من أهل هذا الزمان (1) الامام الذي استقضاهم الخليفة الذي ولاهم القضاء (2) أنيق حسن معجب، وآنقني الشئ أعجبني

[ 56 ]

19 - ومن كلام له عليه السلام قاله للاشعث بن قيس وهو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شئ اعترضه الاشعث فقال يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك (1) فخفض عليه السلام إليه بصره فقال ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين. حائك ابن حائك (2) منافق بن كافر (3) والله لقد أسرك الكفر مرة والاسلام أخرى (4). فما فداك من واحدة منهما مالك ولا حسبك وإن امرأ دل


(1) كان أمير المؤمنين يتكلم في أمر الحكمين فقام رجل من أصحابه وقال نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فلم ندر أي الامرين أرشد فصفق بإحدى يديه على الاخرى وقال هذا جزاء من ترك العقيدة فقال الاشعث ما قال وأمير المؤمنين يريد هذا جزاؤكم فيما تركتم الحزم وشغبتم وألجأتموني لقبول الحكومة (2) قيل ان الحائكين أنقص الناس عقلا وأهل اليمن يعيرون بالحياكة، والاشعث يمنى من كندة قال خالد بن صفوان في ذم اليمانيين. ليس فيهم الا حائك برد أو دابغ جلد أو سائس قرد ملكتهم امرأة وأغرقتهم فأرة ودل عليهم هدهد (3) كان الاشعث في أصحاب علي كعبد الله بن أبي ابن سلول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل منهما رأس النفاق في زمنه (4) أسر مرتين مرة وهو كافر في بعض حروب الجاهلية وذلك أن قبيلة مراد قتلت قيسا الاشج أبا الاشعث فخرج الاشعث طالبا بثأر أبيه فخرجت كندة متساندين إلى ثلاثة ألوبة على أحدها كبش بن هانئ وعلى أحدها القشعم ابن الارقم وعلى أحدها الاشعث فأخطأوا مرادا ووقعوا على بني الحارث بن كعب فقتل كبش والقشعم وأسر الاشعث وفدى بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربي قبله =

[ 57 ]

على قومه السيف. وساق إليهم الحتف. لحري أن يمقته الاقرب. ولا يأمنه الا بعد (1). * 20 - ومن كلام له عليه السلام فإنكم لو عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم (2) وسمعتم وأطعتم. ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا. وقريب ما يطرح الحجاب (3) ولقد بصرتم إن أبصرتم وأسمعتم إن


= ولا بعده، فمعنى قول أمير المؤمنين فما فداك لم يمنعك من الاسر وأما أسر الاسلام له فذلك أن بني وليعة لما ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلهم زياد بن لبيد البياضي الانصاري لجاؤا إلى الاشعث مستنصرين به فقال لا أنصركم حتى تملكوني فتوجوه كما يتوج الملك من قحطان فخرج معهم مرتدا يقاتل المسلمين وأمد أبو بكر زيادا بالمهاجرين أبي أمية فالتقوا بالاشعث فتحصن منهم فحاصروه أياما ثم نزل إليهم على أن يؤمنوه وعشرة من أفار به حتى يأتي أبا بكر فيرى فيه رأيه وفتح لهم الحصن فقتلوا كل من فيه من قوم الاشعث إلا العشرة الذين عزلهم وكان المقتولون ثمانمائة ثم حملوه أسيرا مغلولا إلى أبي بكر فعفا عنه وعمن كان معه وزوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة (1) دلالة السيف على قومه وسوق الحتف إليهم تسليمهم لزياد بن لبيد وفتح الحصن عليهم حتى قتلهم كما تقدم وإن كان الذي ينقل عن الشريف الرضي أن ذلك إشارة إلى وقعة جرت بين الاشعث وخالد بن الوليد في حرب المرتدين باليمامة وأن الاشعث دل خالدا على مكامن قومه ومكر بهم حتى أوقع بهم خالد فإن ما نقله الشريف لا يتم إلا إذا قلنا أن بعض القبائل من كندة كانت انتقلت من اليمن إلى اليمامة وشاركت أهل الردة في حروبهم وفعل بهم الاشعث ما فعل وعلى كل حال فقد كان الاشعث ملوما على ألسنة المسلمين والكافرين وكان نساء قومه يسمينه عرف النار وهو اسم للغادر عندهم (2) الوهل الخوف وهل يوهل (3) ما مصدرية أي قريب =

[ 58 ]

سمعتم وهديتم إن اهتديتم. بحق أقول لكم لقد جاهرتكم العبر (1) وزجرتم بما فيه مزدجر. وما يبلغ عن الله بعد رسل السماء إلا البشر (2) 21 - ومن خطبة له عليه السلام فإن الغاية أمامكم (3) وإن وراءكم الساعة تحدوكم. تخففوا تلحقوا (4). فإنما ينتظر بأولكم آخركم (5) (أقول إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه وبعد كلام رسول الله صلى الله عليه


= طرح الحجاب وذلك عند نهاية الاجل ونزول المرء في أول منازل الآخرة * وفي نسخة زيادة (يريد عليه السلام أنه أسر في الكفر مرة وفي الا سلام مرة. وأما قوله عليه السلام دل على قومه السيف فأراد به حديثا كان للاشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غر فيه قومه ومكر بهم حتى أوقع بهم خالد وكان قومه بعد ذلك يسمونه عرف النار وهو اسم للغادر عندهم. (1) جاهرتكم العبر انتصبت لتنبهكم جهرا وصرحت لكم بعواقب أموركم، والعبر جمع عبرة والعبرة الموعظة لكنه أطلق اللفظ وأراد ما به الاعتبار مجازا فإن العبر التي جاهرتهم إما قوارع الوعيد المنبعثة عليهم من ألسنة الرسل الالهيين وخلفائهم وإما ما يشهدونه من تصاريف القدرة الربانية ومظاهرة العزة الالهية (2) رسل السماء الملائكة أي إن قلتم لم يأتنا عن الله شئ فقد أقيمت عليكم الحجة بتبليغ رسول الله وارشاد خليفته (3) الغاية الثواب أو العقاب والنعيم والشقاء فعليكم أن تعدوا للغاية ما يصل بكم إليها ولا تستبطئوها فإن الساعة التي يصيبونها فيها وهي يوم القيامة آزفة إليكم فكأنها في تقربها نحوكم وتقليل المسافة بينها وبينكم بمنزلة سائق يسوقكم إلى ما تسيرون إليه (4) سبق سابقون بأعمالهم إلى الحسنى فمن أراد اللحاق بهم فعليه أن يتخفف من أثقال الشهوات وأوزار العناء في تحصيل اللذات ويحفز بنفسه عن هذه الفانيات فيلحق بالذين فازوا بعقبى الدار. وأصله الرجل يسعى وهو غير مثقل بما يحمله يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه (5) أي أن الساعة لا ريب فيها وإنما ينتظر بالاول مدة لا يبعث =

[ 59 ]

وآله بكل كلام لمال به راجحا وبرز عليه سابقا. فأما قوله عليه السلام تخففوا تلحقوا فما سمع كلام أقل منه مسموعا ولا أكثر محصولا وما أبعد غورها من كلمة. وأنقع نطفتها من حكمة (1). وقد نبهنا في كتاب الخصائص على عظم قدرها وشرف جوهرها.) 22 - ومن خطبة له عليه ألا وإن الشيطان قد ذمر حزبه (2) واستجلب جلبه. ليعود الجور إلى أوطانه. ويرجع الباطل إلى نصابه (3). والله ما أنكروا علي منكرا، ولا جعلوا بيني وبينهم نصفا (4) وإنهم ليطلبون حقا هم تركوه. ودما هم سفكوه. فلئن كنت شريكهم فيه فإن لهم لنصيبهم منه ولئن كانوا ولوه دوني فما التبعة إلا عندهم. وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم يرتضعون أما قد فطمت (5). ويحيون


= فيها حتى يرد الآخرون وينقضي دور الانسان من هذه الدنيا ولا يبقى على وجه الارض أحد فتكون الساعة بعد هذا وذلك يوم يبعثون (1) من قولهم ماء ناقع ونقيع أي ناجع أي إطفاء العطش، والنطفة الماء الصافي (2) حثهم وحضهم والجلب بالتحريك ما يجلب (3) النصاب الاصل أو المنبت (4) النصف بالكسر العدل أو المنصف أي لم يحكموا العدل بيني وبينهم أو لم يحكموا عادلا (5) إذا فطمت الام ولدها فقد انقضى إرضاعها وذهب لبنها يمثل به طلب الامر بعد فواته

[ 60 ]

بدعة قد أميتت. يا خيبة الداعي. من دعا وإلام أجيب (1) وإني لراض بحجة الله عليهم. وعلمه فيهم. فإن أبوا أعطيتهم حد السيف. وكفى به شافيا من الباطل وناصرا للحق. ومن العجب بعثهم إلي أن أبرز للطعان. وأن أصبر للجلاد هبلتهم الهبول (2) لقد كنت وما أهدد بالحرب ولا أرهب بالضرب. وإني لعلى يقين من ربي. وغير شبهة من ديني. 23 - ومن خطبة له عليه السلام أما بعد فإن الامر ينزل من السماء إلى الارض كقطرات المطر إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان فإذا رأى أحدكم لاخيه غفيرة في أهل أو مال أو نفس (3) فلا تكونن له فتنة؟ فإن المرء المسلم البرئ من الخيانة ما لم يغش دناءة تظهر فيخشع لها إذا ذكرت وتغرى بها لئام الناس كان كالفالج الياسر (4) الذي ينتظر أول فورة من قداحه


(1) من استفهامية وما المحذوفة الالف لدخول إلى عليها كذلك. وهذا استفهام عن الداعي ودعوته تحقيرا لهما. والكلام في أصحاب الجمل والداعي هو أحد الثلاثة الذين تقدم ذكرهم في قصة الجمل عند الكلام في ذم البصرة (2) هبلتهم ثكلتهم والهبول بالفتح من النساء التي لا يبقى لها ولد وهو دعاء عليهم بالموت لعدم معرفتهم بأقدار أنفسهم فالموت خير لهم من حياة جاهلية (3) عفيرة زيادة وكثرة (4) الفالج الظافر فلج يفلج كنصر ينصر ظفر وفاز ومنه المثل من يأتي الحكم وحده يفلج. والياسر الذي يلعب بقداح =

[ 61 ]

توجب له المغنم. ويرفع بها عنه المغرم وكذلك المرء المسلم البرئ من الخيانة ينتظر من الله إحدى الحسنيين. إما داعي الله فما عند الله خير له. وإما رزق الله فإذا هو ذو أهل ومال ومعه دينه وحسبه. إن المال والبنين حرث الدنيا والعمل الصالح حرث الآخرة وقد يجمعهما الله لاقوام فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه. واخشوه خشية ليست بتعذير (1). واعملوا في غير رياء ولا سمعة فإنه من يعمل لغير الله يكله الله إلى من عمل له (2). نسأل الله منازل الشهداء. ومعايشة السعداء ومرافقة الانبياء.


= الميسر أي المقامر. وفي الكلام تقديم وتأخير ونسقه كالياسر الفالج كقوله تعالى (غرابيب سود) وحسنه أن اللفظتين صفتان وإن كانت إحداهما إنما تأتي بعد الاخرى إذا صاحبتها يريد أن المسلم إذا لم يأت فعلا دنيئا يخجل لظهوره وذكره ويبعث لئام الناس على التكلم به فقد فاز بشرف الدنيا وسعادة الآخرة فهو شبيه بالمقامر الفائز في لعبه لا ينتظر الا فوزا أي أن المسلم إذا برئ من الدناآت لا ينتظر إلا إحدى الحسنيين إما نعيم الآخرة أو نعيم الدارين فجدير به أن لا يأسف على فوت حظ من الدنيا فإنه إن فاته ذلك لم يفته نصيبه من الآخرة وهو يعلم أن الارزاق بتقدير رزاقها فهو أرفع من أن يحسد أحدا على رزق ساقه الله عليه وقوله فاحذروا ما حذركم الله من نفسه يريد احذروا الحسد فإن مبعثه انتقاص صنع الله تعالى واستهجان بعض أفعاله وقد حذرنا الله من الجرأة على عظمته فقال وإياي فارهبون واياي فاتقون وما يفوق الكثرة من الآيات الدالة على ذلك (1) مصدر عذر تعذيرا لم يثبت له عذر أي خشية لا يكون فيها تقصير يتعذر معه الاعتذار (2) العامل لغير الله لا يرجو ثواب عمله من الله وإنما يطلبه ممن عمل له فكأن الله قد تركه إلى من عمل له =

[ 62 ]

أيها الناس إنه لا يستغني الرجل وإن كان ذا مال عن عشيرته ودفاعهم عنه بأيديهم وألسنتهم وهم أعظم الناس حيطة من ورائه (1) وألمهم لشعثه وأعطفهم عليه عند نازلة إذا نزلت به. ولسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه غيره (2) (منها) ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة يرى بها الخصاصة أن يسدها بالذي لا يزيده إن أمسكه ولا ينقصه إن أهلكه (3). ومن يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه أيد كثيرة ومن تلن حاشيته يستدم من قومه المودة (أقول الغفيرة ههنا الزيادة والكثرة من قولهم للجمع الكثير الجم الغفير والجماء الغفير. ويروى عفوة من أهل أو مال. والعفوة الخيار من الشئ يقال أكلت عفوة الطعام. أي خياره. وما أحسن المعنى الذي أراده عليه السلام بقوله. ومن يقبض يده عن عشيرته إلى تمام الكلام فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج


= وجعل أمره إليه (1) حيطة كبينة أي رعاية وكلاءة ويروى حيطة بكسر الحاء وسكون الياء مخففة مصدر حاطه يحوطه أي صانه وتعطف عليه وتحنن. والشعث بالتحريك التفرق والانتشار (2) لسان الصدق حسن الذكر بالحق وهو في القرابة أولى وأحق (3) الخصاصة الفقر والحاجة الشديدة ينهى أمير المؤمنين عن إهمال القريب إذا كان فقيرا ويحث =

[ 63 ]

إلى نصرتهم واضطر إلى مرافدتهم (1) قعدوا عن نصره وتثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الايدي الكثيرة وتناهض الاقدام الجمة. 24 - ومن خطبة له عليه السلام ولعمري ما علي من قتال من خالف الحق وخابط الغي من إدهان ولا إيهان (2) فاتقوا الله عباد الله وفروا إلى الله من الله. وامضوا في الذي نهجه لكم وقوموا بما عصبه بكم (3). فعلي ضامن لفلجكم آجلا وإن لم تمنحوه عاجلا (4) 25 - ومن خطبة له عليه السلام وقد تواترت عليه الاخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد وقدم عليه عاملاه على اليمن وهما عبيد الله بن العباس وسعيد بن نمران لما غلب عليها بسر بن أبي أرطاه (5) فقام عليه السلام إلى المنبر


= على سد حاجته بالمال وأنواع المعاونة فإن ما يبذل في سد حاجة القريب لو لم يصرفه في هذا السبيل وأمسكه لنفسه لم يزده في غناه أو في جاهه شيئا ولو بذله لم ينقصه من ذلك كذلك ومعنى أهلكه بذله (1) المرافدة المعاونة (2) الادهان المنافقة والمصانعة ولا تخلو من مخالفة الظاهر للباطن والغش. والايهان الدخول في الوهن وهو من الليل نحو نصفه وهو هنا عبارة عن التستر والمخاتلة وقد يكون مصدر أوهنته أضعفته أي لا يعرض علي فيه ما يضعفني. وخابط الغي والغي يخبطه وهو أشد اضطرابا ممن يخبط في الغي (3) عصبه بكم ربطه بكم أي كلفكم به وألزمكم بأدائه ونهجه بكم أوضحه وبينه (4) لفلجكم أي لظفركم وفوزكم (5) يقال بسر بن أبي أرطاه وبسر بن أرطاة وهو عامري من =

[ 64 ]

ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد ومخالفتهم له في الرأي فقال ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها (1). إن لم تكوني إلا أنت تهب أعاصيرك (2). فقبحك الله (وتمثل بقول الشاعر) - لعمر أبيك الخير يا عمرو إنني * على وضر من ذا الاناء قليل (3) (ثم قال عليه السلام) أنبئت بسرا قد اطلع اليمن (4) وإني والله


= بني عامر بن لؤى بن غالب سيره معاوية إلى الحجاز بعسكر كثيف فأراق دماء غزيرة واستكره الناس على البيعة لمعاوية وفر من بين يديه وإلى المدينة أبو أيوب الانصاري ثم توجه واليا على اليمن فتغلب عليها وانتزعها من عبيد الله بن العباس وفر عبيد الله ناجيا من شره فأتى بسر بيته فوجد له ولدين صبيين فذبحهما وباء باثمهما قبح الله القسوة وما تفعل ويروى أنهما ذبحا في بني كنانة أخوالهما وكان أبوهما تركهما هناك وفي ذلك تقول زوجة عبيد الله. - يامن أحس بابني اللذين هما * كالدرتين تشظى عنهما الصدف - يا من أحس بابني اللذين هما * قلبي وسمعي فقلبي اليوم مختطف - من ذل والهة حيرى مدلهة * على صبيين ذلا إذ غدا السلف - خبرت بسرا وما صدقت ما زعموا * من إفكهم ومن القول الذي اقترفوا - أنحى على ودجي ابني مرهفة * مشحوذة وكذاك الاثم يقترف ويروى هذه الابيات بروايات شتى فيها تغيير وزيادة ونقص (1) أقبضها وأبسطها أي أتصرف فيها كما يتصرف صاحب الثوب في ثوبه يقبضه أو يبسطه (2) جمع اعصار ريح تهب وتمتد من الارض نحو السماء كالعمود أو كل ريح فيها العصار وهو الغبار الكثير إن لم يكن لي ملك الكوفة على ما فيها من الفتن والآراء المختلفة فأبعدها الله وشبه الاختلاف والشقاق بالاعاصير لاثارتها التراب وافسادها الارض (3) الوضر غسالة السقاء والقصعة وبقية الدسم في الاناء (4) اطلع اليمن بلغها وتمكن منها وغشيها بجيشه

[ 65 ]

لاظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم (1). وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبأدائهم الامانة إلى صاحبهم وخيانتكم. وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم. فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته (2). اللهم إني قد مللتهم وملوني وسئمتهم وسئموني فأبدلني بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا مني. اللهم مث قلوبهم كما يماث الملح في الماء (3). أما والله لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم (4) - هنالك لو دعوت أتاك منهم * فوارس مثل أرمية الحميم فالحق ضعيف بتفرق أنصاره والباطل قوي بتضافر أعوانه (2) القعب بالضم القدح الضخم (3) مث قلوبهم أذبها ماثه يميثه دافه أي أذابه (4) بنو فراس بن غنم بن خزيمة ابن مدركة بن الياس بن مضر أو هم بنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة حي مشهور بالشجاعة ومنهم علقمة بن فراس وهو جذل الطعان ومنهم ربيعة ابن مكدم حامي الظعن حيا وميتا ولم يحم الحريم أحد وهو ميت غيره: عرض له فرسان من بني سليم ومعه ظعائن من أهله يحميهن وحده فرماه أحد الفرسان بسهم أصاب قلبه فنضب رمحه في الارض واعتمد عليه وأشار إليهن بالمسير فسرن حتى بلغن بيوت الحي وبنو سليم قيام ينظرون إليه لا يتقدم أحد منهم نحوه خوفا منه حتى رموا = * في نسخة: لو دعوت أتاك. بخطاب المؤنث


[ 66 ]

ثم نزل عليه السلام من المنبر. أقول الارمية جمع رمي وهو السحاب. والحميم هاهنا وقت الصيف. وإنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لانه أشد جفولا وأسرع خفوفا (1) لانه لا ماء فيه. وإنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء وذلك لا يكون في الاكثر إلا زمان الشتاء. وإنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا والاغاثة إذا استغيثوا. والدليل على ذلك قوله: هنالك لو دعوت أتاك منهم. 26 - ومن خطبة له عليه السلام إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم وآله نذيرا للعالمين. وأمينا على التنزيل. وأنتم معشر العرب على شر دين وفي شر دار. متنخون * بين حجارة خشن وحيات صم (2) تشربون الكدر وتأكلون الجشب (3)


= فرسه بسهم فوثبت من تحته فسقط وقد كان ميتا (1) مصدر غريب لخف بمعنى انتقل وارتحل مسرعا والمصدر المعروف خفا (2) الخشن جمع خشناء من الخشونة، ووصف الحيات بالصم لانها أخبثها إذ لا تنزجر. وبادية الحجاز وأرض العرب يغلب عليها القفر والغلظ فأكثر أراضيها حجارة خشنة غليظة، ثم إنه يكثر فيها الافاعي والحيات فأبدلهم الله منها الريف ولين المهاد من أرض العراق والشام ومصر وما شابهها (3) الجشب =

تنخ بالمكان: أقام به

[ 67 ]

وتسفكون دماءكم وتقطعون أرحامكم. الاصنام فيكم منصوبة والآثام بكم معصوبة (1). (ومنها) فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت. وأغضيت على القذى. وشربت على الشجى. وصبرت على أخذ الكظم (2) وعلى أمر من طعم العلقم (ومنها) ولم يبايع حتى شرط أن يؤتيه على البيعة ثمنا (3) فلا ظفرت يد البائع وخزيت أمانة المبتاع. فخذوا للحرب أهبتها. وأعدوا لها عدتها. فقد شب لظاها وعلا سناها. واستشعروا الصبر فإنه أدعى إلى النصر. 27 - ومن خطبة له عليه السلام أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة (4). فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله ثوب الذل وشملة البلاء. وديث


= الطعام الغليظ أو ما يكون منه بغير أدم (1) معصوبة مشدودة تمثيل للزومها لهم. وقد جمع في وصف حالهم بين فساد المعيشة وفساد العقيدة والملة (2) الكظم بالتحريك الحلق أو الفم أو مخرج النفس والكل صحيح ههنا، والمراد أنه صبر على الاختناق. وأغضيت غضضت طرفي على قذى في عينى وما أصعب أن يغمض الطرف على قذى في العين. والشجا ما يعترض في الحلق وكل هذا تمثيل للصبر على المضض الذي ألم به من حرمانه حقه وتألب القوم عليه (3) ضمير يبايع إلى عمرو بن العاص فإنه شرط على معاوية أن يوليه مصر لو تم له الامر (4) جنته بالضم وقايته

[ 68 ]

بالصغار والقماءة (1) وضرب على قلبه بالاسداد (2) وأديل الحق منه بتضييع الجهاد وسيم الخسف (3) ومنع النصف. ألا وإني قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم، فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا (4) فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت الغارات عليكم وملكت عليكم الاوطان. وهذا أخو غامد قد وردت خيله الانبار (5) وقد قتل حسان ابن حسان البكري وأزال خيلكم عن مسالحها (6) ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والاخرى المعاهدة


(1) ديث مبني للمفعول من ديثه أي ذلله وقمؤ الرجل ككرم قمأة وقماءة أي ذل وصغر (2) الاسداد جمع سد يريد الحجب التي تحول دون بصيرته والرشاد. قال الله " وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون " ويروى بالاسهاب وهو ذهاب العقل أو كثرة الكلام أي حيل بينه وبين الخير بكثرة الكلام بلا فائدة (3) أديل الحق منه أي صارت الدولة للحق بدله، وسيم الخسف أي أولى الخسف وكلفه والخسف الذل والمشقة أيضا والنصف بالكسر العدل، ومنع مجهول أي حرم العدل بأن يسلط الله عليه من يغلبه على أمره فيظلمه (4) عقر الدار بالضم وسطها وأصلها وتواكلتم وكل كل منكم الامر إلى صاحبه أي لم يتوله أحد منكم بل أحاله كل على الآخر ومنه يوصف الرجل بالوكل أي العاجز لانه يكل أمره إلى غيره. وشنت الغارات فرقت عليكم من كل جانب كما يشن الماء متفرقا دفعة بعد دفعة وما كان إرسالا غير متفرق يقال فيه سن بالمهملة (5) أخو غامد هو سفيان ابن عوف من بني غامد قبيلة من اليمن من أزد شنوءة بعثه معاوية لشن الغارات على أطراف العراق تهويلا على أهله. والانبار بلدة على الشاطئ الشرقي للفرات ويقابلها على الجانب الغربي هيت (6) جمع مسلحة =

[ 69 ]

فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعاثها (1) ما تمتنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام (2) ثم انصرفوا وافرين (3) ما نال رجلا منهم كلم ولا أريق لهم دم. فلو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا. فيا عجبا والله يميت القلب ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم فقبحا لكم وترحا (4) حين صرتم غرضا يرمى يغار عليكم ولا تغيرون. وتغزون ولا تغزون. ويعصى الله وترضون فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر قلتم هذه حمارة القيظ (5) أمهلنا يسبخ عنا الحر (6) وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم هذه صبارة القر (7) أمهلنا ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر فإذا كنتم من الحر


= بالفتح وهي الثغر. والمرقب حيث يخشى طروق الاعداء (1) المعاهدة الذمية. والحجل بالكسر خلخالها. والقلب بالضم سوارها. والرعاث جمع رعثة بالفتح ويحرك بمعنى القرط ويروى رعثها بضم الراء والعين جمع رعاث جمع رعثة (2) الاسترجاع ترديد الصوت بالبكاء. والاسترحام أن تناشده الرحم (3) وافرين تامين على كثرتهم لم ينقص عددهم والكلم بالفتح الجرح (4) ترحا بالتحريك أي هما وحزنا أو فقرا والغرض ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها فقد صاروا بمنزلة الهدف يرميهم الرامون وهم نصب لا يدفعون وقوله ويعصى الله يشير إلى ما كان يفعله قواد جيش معاوية من السلب والنهب والقتل في المسلمين والمعاهدين ثم أهل العراق راضون بذلك إذ لو غضبوا لهموا بالمدافعة (5) حمارة القيظ شدة الحر (6) التسبيخ بالخاء المعجمة التخفيف والتسكين (7) صبارة الشتاء شدة برده والقر بالضم البرد

[ 70 ]

والقر تفرون فإذا أنتم والله من السيف أفر. يا أشباه الرجال ولارجال. حلوم الاطفال. وعقول ربات الحجال (1). لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم. معرفة والله جرت ندما وأعقبت سدما (2) قاتلكم الله لقد ملاتم قلبي قيحا. وشحنتم صدري غيظا. وجرعتموني نغب التهمام أنفاسا (3). وأفسدتم على رأيي بالعصيان والخذلان حتى لقد قالت قريش إن ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا علم له بالحرب لله أبوهم وهل أحد منهم أشد لها مراسا وأقدم فيها مقاما مني (4) لقد نهضت فيها وما بلغت العشرين، وها أنا ذا قد ذرفت على الستين (5). ولكن لا رأي لمن لا يطاع 28 - ومن خطبة له عليه السلام أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع (6) وإن الآخرة


(1) حجال جمع حجلة وهي القبة وموضع يزين بالستور والثياب للعروس. وربات الحجال النساء (2) السدم محركة الهم أو مع أسف أو غيظ. والقيح ما في القرحة من الصديد. وشحنتم صدري ملاتموه (3) النغب جمع نغبة كجرعة وجرع لفظا ومعنى والتهمام بالفتح الهم وكل تفعال فهو بالفتح إلا التبيان والتلقاء فإنهما بالكسر. وأنفاسا أي جرعة بعد جرعة (4) مراسا مصدر مارسه ممارسة ومراسا أي عالجه وزاوله وعاناه (5) ذرفت على الستين زدت عليها ويروى نيفت بمعناه. وفي الخطبة روايات أخرى لا تختلف عن رواية الشريف في المعنى وإن اختلفت عنها في بعض الالفاظ. انظر الكامل للمبرد (6) آذنت أعلمت =

[ 71 ]

قد أشرفت باطلاع ألا وإن اليوم المضمار (1). وغدا السباق. والسبقة الجنة (2) والغاية النار. أفلا تائب من خطيئته قبل منيته؟ ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه (3)؟ ألا وإنكم في أيام أمل (4) من ورائه أجل. فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله نفعه عمله. ولم يضرره أجله. ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله فقد خسر عمله. وضره أجله. ألا فاعملوا في الرغبة كما تعملون في الرهبة (5). ألا وإني لم أر كالجنة


= وإيذانها بالوداع إنما هو بما أودع في طبيعتها من التقلب والتحول، فأول نظرة من العاقل إليها تحصل له اليقين بفنائها وانقضائها وليس وراء الدنيا إلا الآخرة فإن كانت الاولى مودعة فالاخرى مشرفة. والاطلاع من اطلع فلان علينا أتانا فجأة (1) المضمار الموضع والزمن الذي تضمر فيه الخيل. وتضمير الخيل أن تربط ويكثر علفها وماؤها حتى تسمن ثم يقلل علفها وماؤها وتجرى في الميدان حتى تهزل. وقد يطلق التضمير على العمل الاول أو الثاني وإطلاقه على الاول لانه مقدمة للثاني وإلا فحقيقة التضمير إحداث الضمور وهو الهزال وخفة اللحم. وإنما يفعل ذلك بالخيل لتخف في الجري يوم السباق كما أننا نعمل اليوم في الدنيا للحصول على السعادة في الاخرى (2) السبقة بالتحريك الغاية التي يحب السابق أن يصل إليها وبالفتح المرة من السبق والشريف رواها في كلام الامام بالتحريك أو الفتح وفسرها بالغاية المحبوبة أو المرة من السبق وهو مطلوب لهذا روي الضم بصيغة رواية أخرى. ومن معاني السبقة بالتحريك الرهن الذي يوضع من المتراهنين في السباق أي الجعل الذي يأخذه السابق إلا أن الشريف فسرها بما تقدم (3) البؤس اشتداد الحاجة وسوء الحالة. ويوم البؤس يوم الجزاء مع الفقر من الاعمال الصالحة. والعامل له هو الذي يعمل الصالح لينجو من البوس في ذلك اليوم (4) يريد الامل في البقاء واستمرار الحياة (5) أي اعملوا لله في السراء كما تعملون له في الضراء لا تصرفكم النعم عن خشيته والخوف منه

[ 72 ]

نام طالبها. ولا كالنار نام هاربها (1). ألا وإنه من لا ينفعه الحق يضرره الباطل (2). ومن لم يستقم به الهدى يجر به الضلال إلى الردى. ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن (3). ودللتم على الزاد. وإن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى وطول الامل. تزودوا من الدنيا ما تحرزون أنفسكم به غدا (4) (أقول) لو كان كلام يأخذ بالاعناق إلى الزهد في الدنيا ويضطر إلى عمل الآخرة لكان هذا الكلام. وكفى به قاطعا لعلائق الآمال. وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار. ومن أعجبه قوله عليه السلام (ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق. والسبقة الجنة والغاية النار) فإن فيه مع فخامة اللفظ وعظم قدر المعنى وصادق التمثيل وواقع التشبيه سرا عجيبا ومعنى لطيفا وهو قوله عليه السلام (والسبقة الجنة والغاية النار) فخالف بين اللفظين لاختلاف المعنيين. ولم يقل السبقة النار كما قال: السبقة الجنة لان


(1) من اعجب العجائب الذي لم ير له مثيل أن ينام طالب الجنة في عظمها واستكمال أسباب السعادة فيها، وأن ينام الهارب من النار في هولها واستجماعها أسباب الشقاء (2) النفع الصحيح كله في الحق. فإن قال قائل إن الحق لم ينفعه فالباطل أشد ضررا له، ومن لم يستقم به الهدى المرشد إلى الحق أي لم يصل به إلى مطلوبه من السعادة جرى به الضلال إلى الردى والهلاك (3) الظعن الرحيل عن الدنيا وأمرنا به أمر تكوين أي كما خلقنا الله خلق فينا أن نرحل عن حياتنا الاولى لنستقر في الاخرى. والزاد الذي دلنا عليه هو عمل الصالحات وترك السيئات (4) تحرزون أنفسكم تحفظوتها =

[ 73 ]

الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب وهذه صفة الجنة وليس هذا المعنى موجودا في النار نعوذ بالله منها فلم يجز أن يقول والسبقة النار بل قال والغاية النار، لان الغاية ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء ومن يسره ذلك، فصلح أن يعبر بها عن الامرين معا فهي في هذا الموضع كالمصير والمال قال الله تعالى (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) ولا يجوز في هذا الموضع أن يقال سبقتكم " بسكون الباء " إلى النار فتأمل ذلك فباطنه عجيب وغوره بعيد. وكذلك أكثر كلامه عليه السلام. (وفي بعض النسخ) وقد جاء في رواية أخرى (والسبقة الجنة) بضم السين. والسبقة عندهم اسم لما يجعل للسابق إذا سبق من مال أو عرض والمعنيان متقاربان لان ذلك لا يكون جزاء على فعل الامر المذموم وإنما يكون جزاء على فعل الامر المحمود 29 - ومن خطبة له عليه السلام أيها الناس المجتمعة أبدانهم. المختلفة أهواؤهم (1). كلامكم يوهي الصم الصلاب (2) وفعلكم يطمع فيكم الاعداء. تقولون


= من الهلاك الابدي (1) أهواؤهم آراؤهم وما تميل إليه قلوبهم (2) الصم جمع أصم =

[ 74 ]

في المجالس كيت وكيت. فإذا جاء القتال قلتم حيدي حياد (1). ما عزت دعوة من دعاكم ولا استراح قلب من قاساكم (2). أعاليل بأضاليل. دفاع ذي الدين المطول (3) لا يمنع الضيم الذليل. ولا يدرك الحق إلا بالجد. أي دار بعد داركم تمنعون. ومع أي إمام بعدي تقاتلون. المغرور والله من غررتموه. ومن فاز بكم فقد فاز والله بالسهم الاخيب (4). ومن رمى بكم فقد رمى بأفوق ناصل (5) أصبحت والله لا أصدق


= وهو من الحجارة الصلب المصمت والصلاب جمع صليب والصليب الشديد وبابه ظريف وظراف وضعيف وضعاف. ويوهيها يضعفها ويفتتها، يقال وهي الثوب ووهى يهي وهيا من باب ضرب وحسب، تخرق وانشق أي تقولون من الكلام ما يفلق الحجر بشدته وقوته ثم يكون فعلكم من الضعف والاختلال بحيث يطمع فيكم العدو (1) حيدى حياد كلمة يقولها الهارب كأنه يسأل الحرب أن تتنحى عنه من الحيدان وهو الميل والانحراف عن الشئ. وحياد مبنى على الكسر كما في قولهم فيحي فياح أي اتسعي وحمي حمام للداهية أي أنهم يقولون في المجلس سنفعل بالاعداء ما نفعل فإذا جاء القتال فروا وتقاعدوا (2) أي من دعاهم وحملهم بالترغيب على نصرته لم تعز دعوته لتخاذلهم فإن قاساهم وقهرهم انتقضوا عليه فاتعبوه والاعاليل إما جمع إعلال جمع علل جمع علة أو جمع إعلولة كما أن الاضاليل جمع إضلولة والاضاليل متعلقة بالاعاليل أي أنكم تتعللون بالاباطيل التي لا جدوى لها (3) أي أنكم تدافعون الحرب اللازمة لكم كما يدافع المدين المطول غريمه والمطول الكثير المطل وهو تأخير أداء الدين بلا عذر وقوله لا يمنع الضيم الخ أي أن الذليل الضعيف البأس الذي لا منعة له لا يمنع ضيما وانما يمنع الضيم القوي العزيز (4) فاز بكم من فاز بالخير إذا ظفر به أي من ظفر بكم وكنتم نصيبه فقد ظفر بالسهم الاخيب وهو من سهام البسر الذي لا حظ له (5) الا فوق من السهام مكسور الفوق. والفوق موضع الوتر من السهم والناصل العاري عن النصل أي =

[ 75 ]

قولكم. ولا أطمع في نصركم. ولا أوعد العدو بكم. ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبكم؟ القوم رجال أمثالكم. أقولا بغير عمل وغفلة من غير ورع. وطمعا في غير حق. 30 - ومن كلام له عليه السلام في معنى قتل عثمان لو أمرت به لكنت قاتلا. أو نهيت عنه لكنت ناصرا (1) غير أن من نصره لا يستطيع أن يقول خذله من أنا خير منه. ومن خذله لا يستطيع أن يقول نصره من هو خير مني (2) وأنا جامع لكم أمره:


= من رمى بهم فكأنما رمى بسهم لا يثبت في الوتر حتى يرمى، وإن رمى به لم يصب مقتلا إذ لا يصل له. وهذه الخطبة خطبها أمير المؤمنين عند إغارة الضحاك بن قيس فإن معاوية لما بلغه فساد الجند على أمير المؤمنين دعا الضحاك بن قيس وقال له سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت فمن وجدت من الاعراب في طاعة علي فاغر عليه وإن وجدت له خيلا أو مسلحة فأغر عليها وإذا أصبحت في بلدة فأمس في أخرى ولا تقيمن لخيل بلغك أنها قد سرحت إليك لتلقاها فتقاتلها، وسرحه في ثلاثة آلاف فأقبل الضحاك فنهب الاموال وقتل من لقي من الاعراب ثم لقي بن عمر عميس بن مسعود الذهلى فقتله وهو ابن أخي عبد الله ابن مسعود ونهب الحاج وقتل منهم وهم على طريقهم عند القطقطانة فساء ذلك أمير المؤمنين وأخذ يستنهض الناس إلى الدفاع عن ديارهم وهم يتخاذلون فوبخهم بما تراه في هذه الخطبة، ثم دعا بحجر بن عدي فسيره إلى الضحاك في أربعة آلاف فقاتله فانهزم فارا إلى الشام يفتخر بأنه قتل ونهب قتله، ولم ينه عن قتله أي لم يدافع عنه بسيفه ولم يقاتل دونه وإلا كان ناصرا له. أما نهيه عن قتله بلسانه فهو ثابت وهو الذي أمر الحسن والحسين أن يذابا الناس عنه (2) أي =

[ 76 ]

استأثر فأساء الاثرة. وجزعتم فأسأتم الجزع (1) ولله حكم واقع في المستأثر والجازع 31 - ومن كلام له عليه السلام لابن العباس لما أرسله إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل (2) لاتلقين طلحة فإنك إن تلقه تجده كالثور عاقصا قرنه (3) يركب الصعب ويقول هو الذلول. ولكن الق الزبير فإنه ألين عريكة (4) فقل له يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز وأنكرتني


= أن الذين نصروه ليسوا بأفضل من الذين خذلوه لهذا لا يستطيع ناصره أن يقول إني خير من الذي خذله ولا يستطيع خاذله أن يقول إن الناصر خير مني يريد أن القلوب متفقة على أن ناصريه لم يكونوا في شئ من الخير الذي يفضلون به على خادليه (1) أي أنه استبد عليكم فأساء الاستبداد وكان عليه أن يخفف منه حتى لا يزعجكم، وجزعتم لاستبداده فأسأتم الجزع أي لم ترفقوا في جزعكم ولم تقفوا عند الحد الاولى بكم وكان عليكم أن تقتصروا على الشكوى ولا تذهبوا في الاساءة إلى حد القتل ولله حكمه في المستأثر وهو عثمان وفي الجازع وهو أنتم فما آخذه وآخذكم أو عفا عنه وعفا عنكم (2) يستفيئه أي يسترجعه (3) يروى أن تلقه تلفه الاولى بالقاف والثانية بالفاء من ألفاه يلفيه وهي بمعنى تحده، وعاقصا قرنه من عقص الشعر إذا ضفره وفتله ولواه وهو تمثيل له في تغطرسه وكبره وعدم انقياده، ويركب الصعب يستهين به ويزعم أنه ذلول سهل (4) العريكة الطبيعة وعرفه بالحجاز أطاعه فيه حيث عقد له =

[ 77 ]

بالعراق فما عدا مما بدا (1) (أقول هو أول من سمعت منه هذه الكلمة أعني " فما عدا مما بدا ") 32 - ومن خطبة له عليه السلام أيها الناس إنا قد أصبحنا في دهر عنود. وزمن كنود (2). يعد فيه المحسن مسيئا. ويزداد الظالم فيه عتوا. لا ننتفع بما علمنا. ولا نسال عما جهلنا. ولا نتخوف قارعة حتى تحل بنا (3). فالناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد إلا مهانة نفسه وكلالة حده ونضيض وفره (4). ومنهم المصلت لسيفه. والمعلن بشره. والمجلب بخيله ورجله. قد أشرط نفسه وأوبق دينه. لحطام ينتهزه. أو مقنب


= البيعة وانكره بالعراق حيث خرج عليه وجمع لقتاله (1) عداه الامر صرفه وبدا ظهر، ومن هنا بمعنى عن، نقل ابن قتيبة حدثني فلان من فلان أي عنه، ونهيت من كذا أي عنه أي ما الذي صرفك عما كان بدا وظهر منك (2) العنود الجائر من عند يعند كنصر جار عن الطريق وعدل، والكنود الكفور. ويروى وزمن شديد أي بخيل كما في قوله تعالى (وإنه لحب الخير لشديد) أي أن الانسان لاجل حبه للمال بخيل والوصف لاهل الزمن والدهر كما هو ظاهر. وسوء طباع الناس يحملهم على عد المحسن مسيئا (3) القارعة الخطب يقرع من ينزل به أي يصيبه. والداهية العظيمة (4) القسم الاول من يقعد به عن طلب الامارة والسلطان حقارة نفسه فلا يجد معينا ينصره وكلالة حده أي ضعف سلاحه عن القطع في أعدائه، يقال كل السيف كلالة إذا لم يقطع والمراد إعوازه من السلاح أو لضعفه عن استعماله، ونضيض وفره قلة ماله وكان مقتضى النسق أن يقول ونضاضة وفره لكنه عدل إلى الوصف تفننا. والنضيض =

[ 78 ]

يقوده. أو منبر يفرعه (1). ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا ومما لك عند الله عوضا. ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمر من ثوبه وزخرف من نفسه للامانة واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية (2) ومنهم من أقعده عن طلب الملك ضؤولة نفسه (3). وانقطاع سببه. فقصرته الحال عن حاله فتحلى باسم القناعة وتزين بلباس أهل الزهادة وليس من ذلك في مراح ولا مغدى. وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع (4). وأراق دموعهم خوف المحشر. فهم بين شريد


= القليل والوفر المال (1) القسم الثاني الذي يطلب الامارة وما هي من حقه ويجهر بذلك فهو مصلت لسيفه أي سال له على اعتاق الذين لا يسمعون لسلطان الباطل والمعلن المظهر، والمجلب بخيله من أجلب القوم أي جلبوا وتجمعوا من كل أوب للحرب. والرجل جمع راجل كالركب جمع راكب، وأشرط نفسه أي هيأها واعدها للشر والفساد في الارض أو للعقوبة وسوء العاقبة، وأوبق دينه أهلكه، والحطام المال وأصله ما تكسر من اليبيس ينتهزه يغتنمه أو يختلسه والمقنب طائفة من الخيل ما بين الثلاثين إلى الاربعين. وإنما يطلب قود المقنب تعززا على الناس وكبرا وفرع المنبر بالفاء أي علاه وفي علو المنبر والخطبة على الناس من الرفعة ما يبعث على الطلب فهذا القسم قد أضاع دينه وأفسد الناس في طلب هذه الشهوات المذكورة (2) الذريعة الوسيلة وهذا قسم ثالث (3) الضؤولة بالضم الضعف وهذا هو القسم الرابع وليس من الزهادة في ذهاب ولا إياب أي لا في فعل ولا ترك (4) هذا قسم خامس للناس مطلقا والاقسام الاربعة للناس المعروفين الواقعين تحت نظر العامة فقوله فيما سبق فالناس أربعة أصناف إنما يريد به الذين يعرفهم النظر الجلي ناسا، أما الرجال الذين =

[ 79 ]

ناد (1). وخائف مقموع. وساكت مكعوم. وداع مخلص. وثكلان موجع. قد أخملتهم التقية (2) وشملتهم الذلة فهم في بحر أجاج. أفواههم ضامزة (3). وقلوبهم قرحة. وقد وعظوا حتى ملوا (4) وقهروا حتى ذلوا. وقتلوا حتى قلوا. فلتكن الدنيا في أعينكم أصغر من حثالة القرظ وقراضة الجلم (5) واتعظوا بمن كان قبلكم. قبل أن يتعظ بكم من بعدكم. وارفضوها ذميمة فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم (6). (أقول) هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية وهي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا


= غضوا أبصارهم عن مطامع الدنيا خوفا من الآخرة وتذكرهم لمعادهم فهؤلاء لا يعرفون عند العامة وإنما يتعرف أحوالهم أمثالهم فكأنهم في نظر الناس ليسوا بناس (1) الناد الهارب من الجماعة إلى الوحدة، والمقموع المقهور، والمكعوم من كعم البعير شد فاه لئلا يأكل أو يعض وما يشد به. كعام ككتاب. والثكلان الحزين (2) أخمله أسقط ذكره حتى لم يعد له بين الناس نباهة. والتقية اتقاء الظلم بإخفاء الحال والاجاج الملح أي أنهم في الناس كمن وقع في البحر الملح لا يجد ما يطفئ ظمأه ولا ينقع غلته (3) ضامزة ساكنة ضمز يضمز بالزاي المعجمة سكت يسكت، والقرحة بفتح فكسر المجروحة (4) أي أنهم أكثروا من وعظ الناس حتى ملهم الناس وسئموا من كلامهم (5) الحثالة بالضم القشارة وما لا خير فيه، والقرظ ورق السلم أو ثمر السنط يدبغ به والجلم بالتحريك مقراض يجز به الصوف وقراضته ما يسقط منه عند القرض والجز، إنما طالبهم باحتقار الدنيا بعد التقسيم المتقدم لما ثبت من أن الدنيا لم تصف إلا للاشرار، أما المتقون الذين ذكرهم فإنهم لم يصيبوا منها إلا العناء وكل ما كان شأنه أن يأوى إلى الاشرار ويجافى الاخيار فهو أجدر بالاحتقار (6) أي من كان أشد تعلقا بها منكم

[ 80 ]

يشك فيه وأين الذهب من الرغام (1) والعذب من الاجاج. وقد دل على ذلك الدليل الخريت (2) ونقده الناقد البصير عمرو بن بحر الجاحظ فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان والتبيين وذكر من نسبها إلى معاوية ثم قال هي بكلام علي عليه السلام أشبه، وبمذهبه في تصنيف الناس وبالاخبار عما هم عليه من القهر والاذلال ومن التقية والخوف أليق (3) قال ومتى وجدنا معاوية في حال من الاحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد. ومذاهب العباد) 33 - ومن خطبة له عليه السلام عند خروجه لقتال أهل البصرة (4) قال عبد الله بن العباس دخلت على أمير المؤمنين عليه السلام بذي قار (5) وهو يخصف نعله (6) فقال لي ما قيمة هذا النعل فقلت لا قيمة لها، فقال عليه السلام والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلا أن أقيم حقا أو أدفع باطلا ثم خرج عليه السلام فخطب الناس فقال: إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وآله وليس أحد من العرب


(1) الرغام بالفتح التراب (2) الخريت الحاذق في الدلالة (3) تصنيف الناس تقسيمهم وتبيين أصنافهم (4) في وقعة الجمل (5) بلد بين واسط والكوفة وهو قريب من البصرة وكانت فيه الحرب بين العرب والفرس ونصرت فيه العرب قبل الاسلام (6) يخصف =

[ 81 ]

يقرأ كتابا ولا يدعي نبوة. فساق الناس حتى بوأهم محلتهم وبلغهم منجاتهم (1) فاستقامت قناتهم (2) واطمأنت صفاتهم. أما والله إن كنت لفي ساقتها (3) حتى تولت بحذافيرها ما ضعفت ولا جبنت وإن مسيري هذا لمثلها (4) فلانقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه (5) مالي ولقريش. والله لقد قاتلتهم كافرين ولاقاتلنهم مفتونين. وإني


= نعله يخرزها (1) بوأهم محلتهم أي أنزلهم منزلتهم فالناس قبل الاسلام كأنهم كانوا عرباء مشردين والاسلام هو منزلهم الذي يسكنون فيه ويأمنون من المخاوف، فالنبي صلى الله عليه وسلم ساق الناس حتى أوصلهم إلى منزلهم من الاسلام الذي كانوا قد ضلوا عنه وبلغهم بذلك مكان نجاتهم من المهالك (2) القناة العود والرمح. والكلام تمثيل لاستقامة أحوالهم. والصفاة الحجر الصلد الضخم. وأراد به مواطئ أقدامهم. والكلام تصوير لاستقرارهم على راحة كاملة وخلاصهم مما كان يرجف قلوبهم ويزلزل أقدامهم (3) إن كنت الخ إن هذه هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف والاصل إنه كنت الخ. والمعنى. قد كنت. والساقة مؤخر الجيش السائق لمقدمه. وولت بحذافيرها بجملتها. والضمائر في ساقتها وولت بحذافيرها عائدة إلى الحادثة المفهومة من الحديث وهي ما أنعم الله به من بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ليخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الذلة للعزة وقال الشارح ابن أبي الحديد الضمائر للجاهلية المفهومة من الكلام وكونه في ساقتها أنه طارد لها. ويضعفه أن ساقة الجيش منه لا من مقاتله فلو كان في ساقة الجاهلية لكان من جيشها نعوذ بالله. ويمكن تصحيح كلام الشارح بجعل الساقة جمع سائق أي كنت في الذين يسوقونها طردا حتى ولت (4) أي أنه يسير إلى الجهاد في سبيل الحق (5) الباطل يبادر الاوهام فيشغلها عن الحق ويقوم حجابا مانعا للبصيرة عن الحقيقة فكأنه شئ اشتمل على الحق فستره =

[ 82 ]

لصاحبهم بالامس كما أنا صاحبهم اليوم * (والله ما تنقم منا قريش إلا أن الله اختارنا عليهم فأدخلناهم في حيزنا فكانوا كما قال الاول، - أدمت لعمري شربك المحض صابحا - وأكلك بالزبد المقشرة البجرا - ونحن وهبناك العلاء ولم تكن - عليا وحطنا حولك الجرد والسمرا) 34 - (ومن خطبة له عليه السلام في استنفار الناس إلى أهل الشام) أف لكم لقد سئمت عتابكم. أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا. وبالذل من العز خلفا. إذا دعوتكم إلى جهاد عدوكم دارت أعينكم كأنكم من الموت في غمرة (1). ومن الذهول في سكرة يرتج عليكم حواري فتعمهون (2) فكأن


= وصار الحق في طيه. والكلام تمثيل لحال الباطل مع الحق وحال الامام في كشف الباطل وإظهار الحق (1) دوران الاعين اضطرابها من الجزع. ومن غمرة الموت يدور بصره فإنهم يريدون من غمرة الموت الشدة التي تنتهي إليه يشير إلى قوله تعالى (ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) (2) الجوار بالفتح في الكلام. ويرتج بمعنى يغلق =

ما بين القوسين زيادة في بعض النسخ.

[ 83 ]

قلوبكم مألوسة (1) فأنتم لا تعقلون. ما أنتم لي بثقة سجيس الليالي (2) وما أنتم بركن يمال بكم ولا زوافر عز يفتقر إليكم (3) ما أنتم إلا كإبل ضل رعاتها. فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر. لبئس لعمر الله سعر نار الحرب أنتم (4) تكادون ولا تكيدون. وتنقص أطرافكم فلا تمتعضون (5) لا ينام عنكم وأنتم في غفلة ساهون. غلب والله المتخاذلون وأيم (6) الله إني لاظن بكم أن لو حمس الوغى واستحر الموت قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج الرأس (7) والله إن امرأ يمكن عدوه من نفسه يعرق لحمه (8)


= أي لا تهتدون لفهمه فتعمهون أي تتحيرون وتترددون (1) المألوسة المخلوطة بمس الجنون (2) سجيس بفتح فكسر كلمة تقال بمعنى أبدا. وسجيس أصله من سجس الماء بمعنى تغير وكدر. وكان أصل الاستعمال ما دامت الليالي بظلامها أي ما دام الليل ليلا. ويقال سجيس لا وجس بفتح الجيم وضمها، وسجيس عجيس كل ذلك بمعنى أبدا أي أنهم ليسوا بثقات عنده يركن إليهم أبدا (3) الزافرة من البناء ركنه ومن الرجل عشيرته. وقوله يمال بكم أي يمال على العدو بعزكم وقوتكم (4) السعر أصله مصدر سعر النار من باب نفع أوقدها، أي لبئس ما توقد به الحرب أنتم. ويقال إن سعر جمع ساعر كشرب جمع شارب وركب جمع راكب (5) امتعض غضب (6) غلب مبني للمجهول. والمتخاذلون الذين يخذل بعضهم بعضا ولا يتناصرون (7) حمس كفرح اشتد. والوغى الحرب. واستحر بلغ في النفوس غاية حدته. وقوله انفراج الرأس أي انفراجا لا التئام بعده فإن الرأس إذا انفرج عن البدن أو انفرج أحد شقيه عن الآخر لم يعد للالتئام (8) يأكل لحمه حتى لا يبقى منه شئ على العظم. وفراه يفريه =

[ 84 ]

ويهشم عظمه. ويفري جلده لعظيم عجزه ضعيف ما ضمت عليه جوانح صدره (1) أنت فكن ذاك إن شئت (2) فأما أنا فوالله دون أن أعطي ذلك ضرب بالمشرفية تطير منه فراش الهام. وتطيح السواعد والاقدام (3). ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء أيها الناس إن لي عليكم حقا ولكم علي حق. فأما حقكم علي فالنصيحة لكم. وتوفير فيئكم عليكم (4) وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا. وأما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب. والاجابة حين أدعوكم. والطاعة حين آمركم 35 - ومن خطبة له عليه السلام بعد التحكيم الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح (5) والحدث الجليل.


= مزقه يمزقه (1) ما ضمت عليه الجوانح هو القلب وما يتبعه من الاوعية الدموية. والجوانح الضلوع تحت الترائب، والترائب ما يلي الترقوتين من عظام الصدر أو ما بين الثديين والترقوتين. يريد ضعيف القلب (2) يمكن أن يكون خطابا عاما لكل من يمكن عدوه من نفسه. ويروى أنه خطاب للاشعث بن قيس عند ما قال له هلا فعلت فعل ابن عفان فأجابه بقوله إن فعل ابن عفان لمخزاة على من لا دين له وإن امرءا الخ (3) أي لا يمكن عدوه من نفسه حتى يكون دون ذلك ضرب بالمشرفية وهي السيوف التي تنسب إلى مشارف وهي قرى من أرض العرب تدنو من الريف، ولا يقال في النسبة إليها مشارفي. وفراش الهام العظام الرقيقة التي تلي القحف. وتطيح السواعد أي تسقط (4) الفئ الخراج وما يحويه بيت المال (5) من فدحه الدين أي أثقله. والحدث =

[ 85 ]

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ليس معه إله غيره وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة وتعقب الندامة. وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري ونخلت لكم مخزون رأيي (1) لو كان يطاع لقصير أمر (2) فأبيتم علي إباء المخالفين الجفاة والمنابذين العصاة. حتى ارتاب


= بالتحريك الحادث (1) الحكومة حكومة الحكمين عمرو بن العاص وأبي موسى الاشعري. وذلك بعد ما وقف القتال بين علي أمير المؤمنين ومعاوية بن أبي سفيان في حرب صفين سنة سبع وثلاثين من الهجرة فان جيش معاوية لما رأى أن الدبرة تكون عليه رفعوا المصاحف على الرماح يطلبون رد الحكم إلى كتاب الله وكانت الحرب أكلت من الفريقين، فانخدع القراء وجماعة تتبعوهم من جيش علي وقالوا: دعينا إلى كتاب الله ونحن أحق بالاجابة إليه، فقال لهم أمير المؤمنين إنها كلمة حق يراد بها باطل إنهم ما رفعوها ليرجعوا إلى حكمها إنهم يعرفونها ولا يعملون بها ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة، أعيروني سواعدكم وجماجمكم ساعة واحدة فقد بلغ الحق مقطعه ولم يبق إلا أن يقطع دابر الذين ظلموا، فخالفوا واختلفوا، فوضعت الحرب أوزارها وتكلم الناس في الصلح وتحكيم حكمين يحكمان بما في كتاب الله فاختار معاوية عمرو بن العاص واختار بعض أصحاب أمير المؤمنين أبا موسى الاشعري فلم يرض أمير المؤمنين واختار عبد الله بن عباس فلم يرضوا ثم اختار الاشتر النخعي فلم يطيعوا فوافقهم على أبي موسى مكرها بعد أن أعذر في النصيحة لهم فلم يذعنوا. فقد نخل لهم أي أخلص رأيه في الحكومة أولا وآخرا ثم انتهى أمر التحكيم بانخداع أبي موسى لعمرو بن العاص وخلعه أمير المؤمنين ومعاوية ثم صعود عمرو بعده واثباته معاوية وخلعه أمير المؤمنين، وأعقب ذلك ضعف أمير المؤمنين وأصحابه (2) هو مولى جذيمة المعروف =

[ 86 ]

الناصح بنصحه (1). وضن الزند بقدحه فكنت وإياكم كما قال أخو هوازن - أمرتكم أمري بمنعرج اللوى - فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد 36 - ومن خطبة له عليه السلام في تخويف أهل النهروان (2) فأنا نذيركم أن تصبحوا صرعى بأثناء هذا النهر وبأهضام هذا


= بالابرش. وكان حاذقا وكان قد أشار على سيده جذيمة أن لا يأمن للزباء ملكة الجزيرة فخالفه وقصدها إجابة لدعوتها إلى زواجه فقتلته فقال قصير " لا يطاع لقصير أمر " فذهب مثلا (1) يريد بالناصح نفسه أي أنهم أجمعوا على مخالفته حتى شك في نصيحته وظن أن النصح غير نصح وأن الصواب ما أجمعوا عليه. وتلك سنة البشر إذا كثر المخالف للصواب اتهم المصيب نفسه. وقوله ضن الزند بقدحه أي أنه لم يعن له بعد ذلك رأي صالح لشدة ما لقي من خلافهم وهكذا المشير الناصح إذا اتهم واستغش عشت بصيرته وفسد رأيه. وأخو هوازن هو دريد بن الصمة. ومنعرج اللوى اسم مكان وأصل اللوى من الرمل الجدد بعد الرملة. ومنعرجه منعطفه يمنة ويسرة وفي هذه القصيدة: - فلما عصوني كنت منهم وقد أرى * غوايتهم أو أنني غير مهتدى - وما أنا إلا من غزية إن غوت * غويت وإن ترشد غزية أرشد (2) النهروان اسم لاسفل نهر بين الخافيق وطرفاء على مقربة من الكوفة في طرف صحراء حروراء. ويقال لا على ذلك النهر تامر، وكان الذين خرجوا على أمير المؤمنين وخطأوه في التحكيم قد نقضوا بيعته وجهروا بعداوته وصاروا له حربا واجتمع معظمهم عند ذلك الموضع. وهؤلاء يلقبون بالحرورية لما تقدم أن الارض التي اجتمعوا = وكان رئيس هذه الفئة الضالة حرقوص بن زهير السعدى ويلقب بذي الثدية (تصغير ثدية) خرج إليهم أمير المؤمنين يعظهم في الرجوع عن مقالتهم والعودة إلى بيعتهم فأجابوا النصيحة برمي السهام وقتال أصحابه كرم الله وجهه فأمر بقتالهم وتقدم القتال بهذا الانذار الذي تراه

[ 87 ]

الغائط (1) على غير بينة من ربكم ولا سلطان مبين معكم. قد طوحت بكم الدار (2). واحتبلكم المقدار. وقد كنت نهيتكم عن هذه الحكومة فأبيتم علي إباء المخالفين المنابذين (3). حتى صرفت رأيي إلى هواكم. وأنتم معاشر أخفاء الهام (4). سفهاء الاحلام ولم آت - لا أبالكم - بجرا (5) ولا أردت لكم ضرا


= فيها كانت تسمى حروراء (1) صرعى جمع صريع أي طريح أي أني أحذركم من اللجاج في العصيان فتصبحوا مقتولين مطروحين بعضكم في أثناء هذا النهر وبعضكم بأهضام هذا الغائط. والاهضام جمع هضم وهو المطمئن من الوادي. والغائط ما سفل من الارض والمراد منها المنخفضات (2) أي صرتم في متاهة ومضلة لا يدع الضلال لكم سبيلا إلى مستقر من اليقين فأنتم كمن رمت به داره وقذفته ويقال تطاوحت به النوى أي ترامت. وقد يكون المعنى أهلكتكم دار الدنيا كما أخترناه في الطبعة الاولى. والمقدار القدر الالهي. واحتبلهم أوقعهم في حبالته فهم مقيدون للهلاك لا يستطيعون منه خروجا (3) نهاهم عن إجابة الشام في طلب التحكيم بقوله إنهم ما رفعوا المصاحف ليرجعوا إلى حكمها إلى آخر ما تقدم في الخطبة السابقة وقد خالفوه بقولهم دعينا إلى كتاب الله فنحن أحق بالاجابة إليه بل أغلظوا في القول حتى قال بعضهم لئن لم تجبهم إلى كتاب الله أسلمناك لهم وتخلينا عنك (4) الهام الرأس. وخفتها كناية عن قلة العقل (5) البجر بالضم الشر والامر العظيم والداهية. قال الراجز * أرمى عليها وهى شئ بجر * أي داهية. ويقال لقيت منه البجاري وهي الدواهي =

[ 88 ]

3 7 - ومن كلام له عليه السلام يجري مجرى الخطبة (1) فقمت بالامر حين فشلوا وتطلعت حين تقبعوا (2) ونطقت حين تعتعوا. ومضيت بنور الله حين وقفوا. وكنت أخفضهم صوتا (3) وأعلاهم فوتا (4). فطرت بعنانها واستبددت برهانها (5). كالجبل لا تحركه القواصف. ولا تزيله العواصف. لم يكن لاحد في


= واحدها بجرى مثل قمرى وقمارى (1) هذا الكلام ساقه الرضي كأنه قطعة واحدة لغرض واحد وليس كذلك، بل هو قطع غير متجاورة كل قطعة منها في معنى غير ما للاخرى، وهو أربعة فصول: الاول من قوله فقمت بالامر إلى قوله واستبددت برهانها. والفصل الثاني من قوله كالجبل لا تحركه القواصف إلى قوله حتى آخذ الحق منه والفصل الثالث من قوله رضينا عن الله قضاءه إلى قوله فلا أكون أول من كذب عليه. والفصل الرابع ما بقي (2) يصف حاله في خلافة عثمان رضي الله عنه ومقاماته في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر أيام الاحداث أي أنه قام بانكار المنكر حين فشل القوم أي جبنهم وخورهم. والتقبع الاختباء والتطلع ضده يقال امرأة طلعة قبعة تطلع ثم تقبع رأسها أي تدخله كما يقبع القنفذ أي يدخل رأسه في قبعة جلده. وقبع الرجل أدخل رأسه في قميصه أي أنه ظهر في إعزاز الحق والتنبيه على مواقع الصواب حين كان يختبئ القوم من الرهبة. ويقال تقبع فلان في كلامه إذا تردد من عي أو حصر. فقد كان ينطق بالحق ويستقيم به لسانه والقوم يترددون ولا يبينون (3) كناية عن ثبات الجأش فإن رفع الصوت عند المخاوف إنما هو من الجزع وقد يكون كناية عن التواضع أيضا (4) الفوت السبق (5) هذا الضمير وسابقه يعودان إلى الفضيلة المعلومة من الكلام فضيلة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهو يمثل حاله مع القوم بحال خيل الحلبة. والعنان للفرس معروف. وطار به سبق به. والرهان الجعل الذي وقع التراهن عليه

[ 89 ]

مهمز (1) ولا لقائل في مغمز. الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له. والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه. رضينا عن الله قضاءه وسلمنا لله أمره (2). أتراني أكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله والله لانا أول من صدقه فلا أكون أول من كذب عليه فنظرت في أمري فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي وإذا الميثاق في عنقي لغيري (3). 38 - ومن خطبة له عليه السلام وإنما سميت الشبهة شبهة لانها تشبه الحق. فأما أولياء الله فضياؤهم فيها اليقين. ودليلهم سمت الهدى (4). وأما أعداء الله


(1) الهمز والغمز الوقيعة أي لم يكن في عيب أعاب به. وهذا هو الفصل الثاني يذكر حاله بعد البيعة أي أنه قام بالخلافة كالجبل والخ وقوله الذليل عندي الخ أي أنني أنصر الذليل فيعز بنصري حتى إذا أخذ حقه رجع إلى ما كان عليه قبل الانتصار بي. ومثل ذلك يقال فيما بعده (2) قوله رضينا الخ كلام قاله عند ما تفرس في قوم من عسكره أنهم يتهمونه فيما يخبرهم به من أنباء الغيب (3) قوله فنظرت الخ هذه الجملة قطعة من كلام له في حال نفسه بعد وفاة رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بين فيه أنه مأمور بالرفق في طلب حقه فأطاع الامر في بيعة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم فبايعهم امتثالا لما أمره النبي به من الرفق وإيفاء بما أخذ عليه النبي من الميثاق في ذلك (4) سمت الهدى طريقته وقوله فما ينجو من الموت الخ ليس ملتئما مع ما قبله فهو قطعة من كلام آخر =

[ 90 ]

فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى. فما ينجو من الموت من خافه ولا يعطى البقاء من أحبه 39 - ومن خطبة له عليه السلام منيت بمن لا يطيع إذا أمرت (1) ولا يجيب إذا دعوت. لا أبا لكم ما تنتظرون بنصركم ربكم. أما دين يجمعكم ولا حمية تحمشكم (2) أقوم فيكم مستصرخا وأناديكم متغوثا فلا تسمعون لي قولا. ولا تطيعون لي أمرا. حتى تكشف الامور عن عواقب المساءة (3) فما يدرك بكم ثار ولا يبلغ بكم مرام. دعوتكم إلى نصر إخوانكم فجرجرتم جرجرة الجمل الاسر. وتثاقلتم تثاقل النضو الادبر (4) ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون (5). (أقول) قوله عليه السلام


= ضمه إلى هذا على نحو ما جمع الفصول المتقدمة (1) منيت بليت (2) حمشه كنصره جمعه. وحمش القوم ساقهم بغضب. أو من أحمشه بمعنى أغضبه أي تغضبكم على أعدائكم. والمستصرخ المستنصر. ومتغوثا أي قائلا واغوثاه (3) تكشف مضارع حذف زائده والاصل تتكشف أي تنكشف، أي أنكم لا تزالون تخالفونني وتخذلونني حتى تنجلي الامور والاحوال عن العواقب التي تسوءنا ولا تسرنا (4) الجرجرة صوت يردده البعير في حنجرته. والاسر المصاب بداء السرر وهو مرمض في الكركرة ينشأ من الدبرة. والنضو المهزول من الابل. والادبر المدبور أي المجروح المصاب بالدبرة بالتحريك وهي العقر والجرح من القتب ونحوه (5) وهذا الكلام خطب به أمير المؤمنين في غارة =

[ 91 ]

متذائب أي مضطرب من قولهم تذاءبت الريح أي اضطرب هبوبها. ومنه سمي الذئب ذئبا لاضطراب مشيته 40 - ومن كلام له عليه السلام في الخوارج لما سمع قولهم لا حكم إلا لله قال عليه السلام. كلمة حق يراد باطل. نعم إنه لا حكم إلا لله. ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا لله: وإنه لا بد للناس من أمير بر أو فاجر (1) يعمل في إمرته المؤمن. ويستمتع فيها الكافر. ويبلغ الله فيها الاجل. ويجمع به الفئ، ويقاتل به العدو. وتأمن به السبل. ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح به بر ويستراح من فاجر (وفي رواية أخرى أنه عليه السلام لما سمع تحكيمهم قال) حكم. الله أنتظر فيكم (وقال) أما الامرة البرة فيعمل فيها التقي. وأما الامرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي إلى أن تنقطع مدته وتدركه منيته


= النعمان بن بشير الانصاري على عين النمر من أعمال أمير المؤمنين وعليها إذا ذاك من قبله مالك بن كعب الارحبي (1) برهان على بطلان زعمهم أنه لا إمرة إلا لله بان البداهة قاضية أن الناس لا بد لهم من أمير بر أو فاجر حتى تستقيم أمورهم وولاية الفاجر لا تمنع المؤمن من عمله لاحراز دينه ودنياه وفيها يستمتع الكافر حتى يوافيه الاجل ويبلغ الله فيها الامور آجالها المحدودة لها بنظام الخلقة وتجري سائر المصالح المذكورة، ويمكن أن يكون المراد بالمؤمن هو الامير البار وبالكافر الامير الفاجر كما =

[ 92 ]

41 - ومن خطبة له عليه السلام إن الوفاء توأم الصدق (1) ولا أعلم جنة أوقى منه. ولا يغدر من علم كيف المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيسا (2) ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة. مالهم قاتلهم الله قد يرى الحول القلب وجه الحيلة ودونه مانع من أمر الله ونهيه فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين (3) 42 - ومن كلام له عليه السلام أيها الناس إن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى،


= تدل عليه الرواية الاخرى وقوله أما الامرة البرة الخ (1) التوأم الذي يولد مع الآخر في حمل واحد، فالصدق والوفاء قرينان في المنشأ لا يسبق أحدهما الآخر في الوجود ولا في المنزلة. والجنة بالضم الوقاية. ومن علم أن مرجعه إلى الله وهو سريع الحساب لا يمكن أن يعدل عن الوفاء إلى الغدر (2) الكيس بالفتح العقل وأهل ذلك الزمان يعدون الغدر من العقل وحسن الحيلة كأنهم أهل السياسة من بني زماننا. وأمير المؤمنين يعجب من زعمهم ويقول ما لهم قاتلهم الله يزعمون ذلك مع أن الحول القلب بضم الاول وتشديد الثاني من اللفظين أي البصير بتحويل الامور وتقليبها قد يرى وجه الحيلة في بلوغ مراده لكنه يجد دون الاخذ به مانعا من أمر الله ونهيه فيدع الحيلة وهو قادر عليها خوفا من الله ووقوفا عند حدوده (3) الحريجة التحرج =

[ 93 ]

وطول الامل (1). فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق. وأما طول الامل فينسي الآخرة. ألا وإن الدنيا قد ولت حذاء (2) فلم يبق منها إلا صبابة (3) كصبابة الاناء اصطبها صابها. ألا وإن الآخرة قد أقبلت ولكل منهما بنون. فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا أبناء الدنيا، فإن كل ولد سيلحق بأمه يوم القيامة. وإن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل. (أقول) الحذاء السريعة. ومن الناس من يرويه جذاء (4). 43 - ومن كلام له عليه السلام وقد أشار عليه أصحابه بالاستعداد للحرب بعد إرساله جرير ابن عبد الله البجلي إلى معاوية إن استعدادي لحرب أهل الشام وجرير عندهم إغلاق للشام وصرف لاهله عن خير إن أرادوه. ولكن قد وقت لجرير وقتا


= أي التحرز من الاثام (1) طول الامل هو استفساح الاجل والتسويف بالعمل طلبا للراحة العاجلة وتسلية للنفس بإمكان التدارك في الاوقات المقبلة، وهذا من أقبح الصفات. أما قوة الامل في نجاح الاعمال الصالحة ثقة بالله ويقينا بعونه فهي حياة كل فصيلة وسائقة لكل مجد، والمحرومون منها آيسون من رحمة الله تحسبهم أحياء وهم أموات لا يشعرون (2) الحذاء بالتشديد الماضية السريعة (3) الصبابة بالضم البقية من الماء واللبن في الاناء. واصطبها صابها كقولك أبقاها مبقيها أو تركها تاركها (4) جذاء =

[ 94 ]

لا يقيم بعده إلا مخدوعا أو عاصيا. والرأي عندي مع الاناة، فأرودوا ولا أكره لكم الاعداد (1) ولقد ضربت أنف هذا الامر وعينه (2). وقلبت ظهره وبطنه، فلم أر لي إلا القتال أو الكفر، إنه قد كان على الناس وال أحدث أحداثا وأوجد للناس مقالا فقالوا ثم نقموا فغيروا (3). 44 - ومن كلام له عليه السلام لما هرب مصقلة بن هبيرة الشيباني إلى معاوية وكان قد ابتاع سبي بني ناجية من عامل أمير المؤمنين عليه السلام


= بالجيم أي مقطوع خيرها ودرها (1) يقول أمير المؤمنين إنه أرسل جريرا ليخابر معاوية وأهل الشام في البيعة له والدخول في طاعته ولم ينقطع الامل منهم، فاستعداده للحرب وجمعه الجيوش وسوقها إلى أرضهم إغلاق لابواب السلم على أهل الشام وصرف لهم عن الخير إن كانوا يريدونه، فالرأي الاناة أي التأني ولكنه لا يكره الاعداد أي أن يعد كل شخص لنفسه ما يحتاج إليه في الحرب من سلاح ونحوه ويفرغ نفسه مما يشغله عنها لو قامت حتى إذا دعي إليها لم يبطئ في الاجابة ولم يجد ما يمنعه عن اقتحامها، وقوله أرودوا أي سيروا برفق (2) مثل تقوله العرب في الاستقصاء في البحث والتأمل والفكر. وانما خص الانف والعين لانهما أظهر شئ في صورة الوجه وهما مستلفت النظر، والمراد من الكفر في كلامه الفسق لان ترك القتال تهاون بالنهي عن المنكر وهو فسق لا كفر (3) يريد من الوالي الخليفة الذي كان قبله، وتلك الاحداث معروفة في التاريخ وهي التي أدت بالقوم إلى التألب على قتله، ويروى قال بالقاف بدل وال ولا أظنها إلا تحريفا وإن كنت أتيت على تفسيرها في الطبعة الاولى

[ 95 ]

وأعتقهم (1) فلما طالبه بالمال خاس به وهرب إلى الشام (2) قبح الله مصقلة. فعل فعل السادات وفر فرار العبيد. فما أنطق مادحه حتى أسكته، ولا صدق واصفه حتى بكته. ولو أقام لاخذنا ميسوره (3). وانتظرنا بماله وفوره (4) 45 - (ومن خطبة له عليه السلام) الحمد لله غير مقنوط من رحمته. ولا مخلو من نعمته. ولا مأيوس من مغفرته. ولا مستنكف عن عبادته. الذي لا تبرح منه رحمة. ولا نفقد له نعمة. والدنيا دار مني لها الفناء (5) ولاهلها


(1) كان الخريت بن راشد الناجي أحد بني ناجية مع أمير المؤمنين في صفين ثم نقض عهده بعد صفين ونقم عليه في التحكيم وخرج يفسد الناس ويدعوهم للخلاف، فبعث إليه أمير المؤمنين كتيبة مع معقل بن قيس الرياحي لقتاله هو ومن انضم إليه فأدركته الكتيبة بسيف البحر بفارس، وبعد دعوته إلى التوبة وإبائه قبولها شدت عليه فقتل وقتل معه كثير من قومه وسبي من أدرك في رحالهم من الرجال والنساء والصبيان فكانوا خمسمائة أسير. ولما رجع معقل بالسبي مر على مصقلة بن هبيرة الشيباني وكان عاملا لعلي على أردشير خره فبكى إليه النساء والصبيان وتصايح الرجال يستغيثون في فكاكهم فاشتراهم من معقل بخمسمائة ألف درهم ثم امتنع من أداء المبلغ. ولما ثقلت عليه المطالبة بالحق لحق بمعاوية فرارا تحت أستار الليل (2) خاس به خان (3) ميسوره ما تيسر له (4) وفوره زيادته (5) منى لها الفناء الفعل للمجهول =

[ 96 ]

منها الجلاء. وهي حلوة خضرة (1) وقد عجلت للطالب (2) والتبست بقلب الناظر. فارتحلوا عنها بأحسن ما بحضرتكم من الزاد (3). ولا تسألوا فيها فوق الكفاف (4) ولا تطلبوا منها أكثر من البلاغ (5) 46 - ومن كلام له عليه السلام عند عزمه على المسير إلى الشام (6) اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر (7) وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الاهل والمال. اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الاهل ولا يجمعهما غيرك لان المستخلف لا يكون مستصحبا والمستصحب لا يكون مستخلفا


= أي قدر لها، والجلاء الخروج من الاوطان (1) تمثيل لها بما يألفه الذوق ويروق النظر (2) عجلت للطالب أسرعت إليه، والتبست بقلب الناظر اختلطت به محبة وعلقة (3) أحسن ما بحضرتكم أي أفضل الاشياء الحاضرة عندكم، وذلك فاضل الاخلاق وصالح الاعمال (4) الكفاف ما يكفك أي يمنعك عن سؤال غيرك وهو مقدار القوت (5) البلاغ ما يتبلغ به أي يقتات به (6) وذلك بعد حرب الجمل حيث اختلف عليه معاوية بن أبي سفيان ولم يدخل في بيعته وقام للمطالبة بدم عثمان واستهوى أهل الشام واستنصرهم لرأيه فعززوه على الخلاف، وسار إليه أمير المؤمنين والتقيا بصفين واقتتلا مدة غير قصيرة وانتهى القتال بتحكيم الحكمين عمرو بن العاص وأبي موسى الاشعري (7) الوعثاء المشقة، والكآبة الحزن، والمنقلب مصدر بمعنى الرجوع وأول الكلام مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب الصحيحة =

[ 97 ]

47 - ومن كلام له عليه السلام في ذكر الكوفة كأني بك يا كوفة تمدين مد الاديم العكاظي (1) تعركين بالنوازل وتركبين بالزلازل. وإني لاعلم أنه ما أراد بك جبار سوءا إلا ابتلاه الله بشاغل ورماه بقاتل 48 - (ومن خطبة له عليه السلام عند المسير إلى الشام) الحمد الله كلما وقب ليل وغسق (2) والحمد لله كلما لاح نجم وخفق (3). والحمد لله غير مفقود الانعام ولا مكافإ الافضال أما بعد فقد بعثت مقدمتي (4). وأمرتهم بلزوم هذا الملطاط حتى يأتيهم أمري. وقد أردت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة


= وأتمه أمير المؤمنين بقوله ولا يجمعهما غيرك الخ. وذات الله تستوي عندها الامكنة كما تستوي الازمنة، فالحضر والسفر عندها سواء، وليس هذا الشأن لغير الذات الاقدس (1) العكاظي نسبة إلى عكاظ كغراب وهو سوق كانت تقيمه العرب في صحراء بين نخلة والطائف يجتمعون إليه من بداية شهر ذي القعدة ليتعاكظوا أي يتفاخروا كل بما لديه من فضيلة وأدب. ويستمر إلى عشرين عاما وليتبايعوا أيضا. وأكثر ما كان يباع بتلك السوق الاديم فنسب إليها، والاديم الجلد المدبوغ، وجمعه أدم بفتحتين وضمتين، وأأ دمة كأرغفة. وقوله تمدين الخ تصوير لما ينالها من العسف والخبط، وتعركين من عركتهم الحرب إذا مارستهم، والنوازل الشدائد، والزلازل المزعجات من الخطوب (2) وقب دخل، وغسق اشتدت ظلمته (3) خفق النجم غاب، ولاح ظهر (4) أراد بمقدمته صدر جيشه، ومقدمة الانسان بفتح الدال =

[ 98 ]

منكم موطنين أكناف دجلة (1) فأنهضهم معكم إلى عدوكم وأجعلهم من أمداد القوة لكم (2). (أقول يعني عليه السلام بالملطاط ها هنا السمت الذي أمرهم بلزومه وهو شاطئ الفرات. ويقال ذلك أيضا لشاطئ البحر، وأصله ما استوى من الارض. ويعني بالنطفة ماء الفرات. وهو من غريب العبارات وعجيبها) 49 - ومن كلام له عليه السلام الحمد لله الذي بطن خفيات الامور (3). ودلت عليه أعلام الظهور. وامتنع على عين البصير. فلا عين من لم يره تنكره. ولا قلب من أثبته يبصره (4). سبق في العلو فلا شئ أعلى منه. وقرب في الدنو


= صدره، والملطاط حافة الوادي وشفيره، وساحل البحر، والسمت أي الطريق، وقول الشريف يعني بالملطاط السمت تبيين لمراد أمير المؤمنين من لفظ الملطاط في كلامه لا تفسير اللفظ في نفسه، وقوله وهو شاطئ الفرات بيان للسمت أي الطريق، وقوله ويقال ذلك - أي لفظ الملطاط - تفسير للفظ الملطاط في استعمال اللغويين، فاندفع بهذا ما أورده ابن أبي الحديد على عبارته من أنها خالية من المعنى (1) الشرذمة النفر القليلون، والاكناف الجوانب. وموطنين الاكناف أي جعلوها وطنا. يقال أوطنت البقعة (2) الامداد جمع مدد وهو ما يمد به الجيش لتقويته. وهذه الخطبة نطق بها أمير المؤمنين وهو بالنخيلة خارجا من الكوفة إلى صفين لخمس بقين من شوال سنة سبع وثلاثين (3) بطن الخفيات علمها، والاعلام جمع علم بالتحريك وهو المنار يهتدى به ثم عم في كل ما دل على شئ، وأعلام الظهور الادلة الظاهرة التي بظهورها يظهر غيرها (4) كان الاليق بعد قوله وامتنع على عين البصير ما جاء في رواية أخرى وهو =

[ 99 ]

فلا شئ أقرب منه (1). فلا استعلاؤه باعده عن شئ من خلقه. ولا قربه ساواهم في المكان به. لم يطلع العقول على تحديد صفته. ولم يحجبها عن واجب معرفته. فهو الذي تشهد له أعلام الوجود. على إقرار قلب ذي الجحود (2) تعالى الله عما يقول المشبهون به والجاحدون له علوا كبيرا 50 - ومن كلام له عليه السلام إنما بدء وقوع الفتن أهواء تتبع. وأحكام تبتدع. يخالف فيها كتاب الله. ويتولى عليها رجال رجالا (3) على غير دين الله. فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين. ولو أن الحق خلص من لبس الباطل لانقطعت عنه ألسن المعاندين (4) ولكن


= فلا قلب من لم يره ينكره، ولا عين من أثبته تبصره. وما جاء في الكتاب معناه أن من لم يره لا ينكره اعتمادا على عدم رؤيته لظهور الادلة عليه. ومن أثبته لا يستطيع اكتناء حقيقته (1) علا كل شئ بذاته وكماله وجلاله وقرب من كل شئ بعلمه وإرادته وإحاطته وعنايته فلا شئ إلا وهو منه فأي شئ يبعد عنه (2) إن قلب الجاحد إن أنكره فما إنكاره إلا افتعال مما عرض عليه من أثر الفواعل الخارجة عن فطرته. وظهور اعلام الوجود في الدلالة عليه لا يقوى على مدافعة تأثيره قلب الجاحد. فلا مناص له من الاقرار في الواقع وإن ظهر الجحود في كلامه وبعض أعماله (3) يستعين عليها رجال برجال (4) المرتادين الطالبين للحقيقة أي لو كان الحق خالصا من ممازجة =

[ 100 ]

يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث (1) فيمزجان، فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى 5 1 - ومن خطبة له عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم من الماء (2) قد استطعموكم القتال (3) فقروا على مذلة. وتأخير محلة. أو رووا السيوف من الدماء ترووا من الماء. فالموت في حياتكم مقهورين. والحياة في موتكم قاهرين. ألا وإن معاوية قاد لمة من الغواة (4). وعمس عليهم الخبر (5) حتى جعلوا نحورهم أغراض المنية


= الباطل ومشابهته لكان ظاهرا لا يخلو على من طلبه (1) الضغث بالكسر قبضة من حشيش مختلط فيها الرطب باليابس، يريد أنه إن أخذ الحق من وجه لم يعدم شبيها له من الباطل يلتبس به. وإن نظر إلى الباطل لاح كأن عليه صورة الحق فاشتبه به، فذلك ضغث الحق وهذا ضغث الباطل. ومصادر الاهواء التي ينشأ عنها وقوع الفتن إنما هي من الا لتباس الواقع بين الحق والباطل (2) الشريعة مورد الشاربة من النهر (3) طلبوا منكم أن تطعموهم القتال كما يقال فلان يستطعمني الحديث أي يستدعيه مني. وقوله فقروا الخ أي إما أن تثبتوا على الذل وتأخر المنزلة، وإما أن ترووا سيوفكم الخ (4) اللمة بضم اللام وتشديد الميم الاصحاب في السفر، وبتخفيفها الجملة القليلة مطلقا، أو من الثلاثة إلى العشرة. والتقليل مستفاد من الاول بطريق الكناية، ومن الثاني على الحقيقة الصريحة، وفي الاول الاشارة إلى أنهم ليسوا بأهل حرب (5) عمس الكتاب والخبر كنصر اخفاه. وعمست عليه إذا أريته أنك لا تعرف الامر =

[ 101 ]

52 - ومن خطبة له عليه السلام) ألا وإن الدنيا قد تصرمت وآذنت بوداع وتنكر معروفها. وأدبرت حذاء (1). فهي تحفز بالفناء سكانها (2) وتحدر بالموت جيرانها (3) وقد أمر منها ما كان حلوا. وكدر منها ماكان صفوا (4). فلم يبق منها إلا سملة كسملة الاداوة (5). أو جرعة كجرعة المقلة، لو تمززها الصديان لم ينقع (6). فأزمعوا عباد الله الرحيل عن هذه الدار، المقدور على أهلها الزوال (7). ولا يغلبنكم فيها الامل ولا يطولن عليكم


= وأنت به عارف، والاغراض جمع غرض وهو الهدف (1) حذاء: مسرعة. ورحم حذاء مقطوعة غير موصولة. وفي رواية جذاء بالجيم أي مقطوعة الدر والخير (2) تحفزهم تدفعهم وتسوقهم، حفزه يحفزه دفعه من خلفه. أو هو بمعنى تطعنهم من حفزه بالرمح طعنه (3) تحدر بالراء من باب نصر وضرب أي تحوطهم بالموت. وفي رواية وهي الصحيحة تحدو بالواو بعد الدال أي تسوقهم بالموت إلى الهلاك فتكون الفقرة في معنى سابقتها مؤكدة لها (4) أمر الشئ صار مرا، وكدر كفرح كدرا وكظرف كدورة تعكر وتغير لونه واختلط بما لا يساغ هو معه (5) السملة محركة بقية الماء في الحوض. والاداوة المطهرة (اناء الماء الذي يتطهر به) والمقلة بالفتح حصاة يضعها المسافرون في اناء ثم يصبون الماء فيه ليغمرها فيتناول كل منهم مقدار ما غمرها لا يزيد أحدهم عن الآخر في نصيبه، يفعلون ذلك إذا قل الماء وأرادوا قسمته بالسوية (6) التمزز الامتصاص قليلا قليلا، والصديان العطشان وقوله لم ينقع أي لم يرو (7) فأزمعوا الرحيل أي عزموا عليه. يقال أزمع الامر ولا يقال أزمع عليه، وجوزه الفراء بمعنى عزم عليه وأجمع. =

في نسخة زيادة: " قد تقدم مختارها برواية ونذكرها هاهنا برواية أخرى لتغاير الروايتين "

[ 102 ]

الامد. فوالله لو حننتم حنين الوله العجال (1). ودعوتم بهديل الحمام (2) وجأرتم جؤار متبتل الرهبان (3). وخرجتم إلى الله من الاموال والاولاد التماس القربة إليه في ارتفاع درجة عنده أو غفران سيئة أحصتها كتبه، وحفظها رسله (4)، لكان قليلا فيما أرجو لكم من ثوابه وأخاف عليكم من عقابه، والله لو انماثت قلوبكم انمياثا (5) وسالت عيونكم من رغبة إليه أو رهبة منه دما، ثم عمرتم في الدنيا ما الدنيا باقية (6) ما جزت أعمالكم - ولو لم تبقوا شيئا من جهدكم - أنعمه عليكم العظام وهداه إياكم للايمان (7) 53 - في ذكر يوم النحر وصفة الاضحية ومن كمال الاضحية استشراف أذنها (8) وسلامة عينها. فإذا سلمت


= والمراد من العزم على الرحيل مراعاته والعمل له (1) كل انثى فقدت ولدها فهي واله ووالهة. والعجول من الابل التي فقدت ولدها (2) هديل الحمام صوته في بكائه لفقد الفه (3) جأرتم رفعتم أصواتكم. والجؤار الصوت المرتفع، أي تضرعتم إلى الله بأرفع أصواتكم كما يفعل الراهب المتبتل. والمتبتل المنقطع للعبادة (4) المراد من الرسل هنا الملائكة الموكلون بحفظ أعمال العباد (5) إنماثت ذابت (6) ما الدنيا باقية أي مدة بقائها (7) قوله ما جزت جواب لو انماثت. وقوله أنعمه عليكم العظام مفعول جزت أي ما كافأ ذلك أنعمه الكبار عليكم. وقوله ولو لم تبقوا شيئا الخ اعتراض بين الفاعل والمفعول لبيان غاية النفي في الجواب. وقوله وهداه إياكم عطف على أنعمه عطف الخاص على العام، فإن الهداية إلى الايمان من أكبر النعم (8) الاضحية الشاة التي =

[ 103 ]

الاذن والعين سلمت الاضحية وتمت. ولو كانت عضباء القرن (1) تجر رجلها إلى المنسك (2) (قال الرضي والمنسك هنا المذبح) 54 - ومن خطبة له عليه السلام فتداكوا على تداك الابل الهيم يوم وردها (3) قد أرسلها راعيها وخلعت مثانيها (4) حتى ظننت أنهم قاتلي أو بعضهم قاتل بعض لدي. وقد قلبت هذا الامر بطنه وظهره. فما وجدتني يسعني إلا قتالهم أو الجحود بما جاءني به محمد صلى الله عليه وآله (5) فكانت معالجة القتال أهون علي من معالجة العقاب. وموتات الدنيا أهون علي من موتات الآخرة


(= طلب الشارع ذبحها بعد شروق الشمس من عيد الاضحى، واستشراف الاذن تفقدها حتى لا تكون مجدوعة أو مشقوقة. وفي الحديث أمرنا أن نستشرف العين والاذن أي نتفقدها وذلك من كمال الاضحية أي من كمال عملها وتأدية سنتها، وتكون سلامة عينها عطفا على أذنها. وقد يراد من استشراف الاذن طولها وانتصابها. أذن شرفاء أي منتصبة طويلة فسلامة عينها عطف على استشراف والتفسير الاول أمس بقوله فإذا سلمت الاذن (1) عضباء القرن مكسورته (2) تجر رجلها إلى المنسك أي عرجا. والمنسك المذبح. وفي صفات الاضحية وعيوبها المخلة بها تفصيل وخلافات تطلب من كتب الفقه (3) تداكوا تزاحموا عليه ليبايعوه رغبة فيه. والهيم العطاش. ويوم وردها يوم شربها (4) جمع المثناة بفتح الميم وكسرها حبل من صوف أو شعر يعقل به البعير (5) قتال البغاة من الواجب على الامام، فإن لم يقاتلهم على قدرة منه كان منابذا =

[ 104 ]

55 - ومن كلام له عليه السلام وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفين أما قولكم أكل ذلك كراهية الموت فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج الموت إلي (1). وأما قولكم شكا في أهل الشام فوالله ما دفعت الحرب يوما إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحب إلي من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها 56 - ومن كلام له عليه السلام ولقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا. ما يزيدنا ذلك إلا إيمانا وتسليما ومضيا على اللقم (2)


= لامر الله في ترك ما أوجبه عليه فكأنه جاحد لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) روي أن أمير المؤمنين بعد ما ملك الماء على أصحاب معاوية ساهمهم فيه رجاء أن يعطفوا إليه، ولزوما للمعدلة وحسن السيرة، ومكث أياما لا يرسل إلى معاوية ولا يأتيه منه شئ، واستبطأ الناس إذنه في قتال أهل الشام. واختلفوا في سبب التريث فقال بعضهم كراهة الموت، وقال بعضهم الشك في جواز قتال أهل الشام، فأجابهم: أما الموت لم يكن ليبالى به، وأما الشك فلا موضع له وإنما يرجو بدفع الحرب أن يتجاوزوا إليه بلا قتال فإن ذلك أحب إليه من القتال على الضلال وإن كان الاثم عليهم. وتبوء بآثامها ترجع بها. وتعشو إلى ضوئه تستدل عليه وإن كان ببصر ضعيف في ظلام الفتن فتهتدي إليه. عشا إلى النار أبصرها ليلا ببصر ضعيف فقصدها (2) اللقم بالتحريك معظم الطريق =

[ 105 ]

وصبرا على مضض الالم وجدا في جهاد العدو. ولقد كان الرجل منا والآخر من عدونا يتصاولان تصاول الفحلين. يتخالسان أنفسهما (1) أيهما يسقي صاحبه كأس المنون. فمرة لنا من عدونا. ومرة لعدونا منا. فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت (2) وأنزل علينا النصر حتى استقر الاسلام ملقيا جرانه (3). ومتبوئا أوطانه. ولعمري لو كنا نأتي ما أتيتم ما قام للدين عمود. ولا اخضر للايمان عود. وايم الله لتحتلبنها دما (4)، ولتتبعنها ندما 57 - ومن كلام له عليه السلام لاصحابه أما إنه سيظهر عليكم بعدي رجل رحب البلعوم مندحق البطن (5)


= أو جادته. ومضض الالم لذعته وبرحاؤه (1) يتخالسان كل يطلب اختلاس روح الآخر. والتصاول أن يحمل كل قرن على قرنه (2) الكبت الذل والخذلان (3) جران البعير بالكسر مقدم عنقه من مذبحه إلى منحره. وإلقاء الجران كناية عن التمكن (4) الاحتلاب استخراج ما في الضرع من اللبن. والضمير المنصوب يعود إلى أعمالهم المفهومة من قوله ما أتيتم. واحتلاب الدم تمثيل لاجترارهم على أنفسهم سوء العاقبة من أعمالهم، وسيتبعون تلك الاعمال بالندم عند ما تصيبهم دائرة السوء أو تحل قريبا من دارهم (5) مندحق البطن عظيم البطن بارزه كأنه لعظمه مندلق من بدنه يكاد يبين عنه. وأصل اندحق بمعنى اندلق وفي الرحم خاصة، والدحوق من النوق التي يخرج رحمها عند الولادة. وزحب البلعوم واسعه. يقال عنى به زيادا. وبعضهم يقول عنى المغيرة =

[ 106 ]

يأكل ما يجد ويطلب ما لا يجد. فاقتلوه ولن تقتلوه (1). ألا وإنه سيأمركم بسبي والبراءة مني. فأما السب فسبوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة. وأما البراءة فلا تتبرأوا مني فإني ولدت على الفطرة، وسبقت إلى الايمان والهجرة (2) 58 - ومن كلام له عليه السلام كلم به الخوارج (3) أصابكم حاصب (4) ولا بقي منكم آبر. أبعد إيماني بالله وجهادي مع رسول الله أشهد على نفسي بالكفر. لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين. فأوبوا شر مآب. وارجعوا على أثر الاعقاب. أما إنكم ستلقون بعدي ذلا شاملا. وسيفا قاطعا. وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة (5)


= ابن شعبة والبعض يقول معاوية (1) هذا الامر (2) قد تسب شخصا وأنت مكره ولحبه مستبطن فتنجو من شر من أكرهك. وما أكرهك على سبه إلا مستعظم لامره يريد أن يحط منه وذلك زكاة للمسبوب. أما البراءة من شخص فهي الانسلاخ من مذهبه (3) زعم الخوارج خطأ الامام في التحكيم، وغلوا فشرطوا في العودة إلى طاعته أن يعترف بأنه كان كفر ثم آمن، فخاطبهم بما منه هذا الكلام (4) الحاصب ريح شديدة تحمل الحصباء والجملة دعاء عليهم بالهلاك (5) أوبوا شر مآب: انقلبوا شر منقلب بضلالكم في زعمكم، وارتدوا على اعقابكم بفساد هواكم فلن يضرني ذلك =

[ 107 ]

(قوله عليه السلام) ولا بقي منكم آبر يروى بالباء والراء من قولهم رجل آبر للذي يأبر النخل أي يصلحه. ويروى آثر وهو الذي يأثر الحديث أي يرويه ويحكيه، وهو أصح الوجوه عندي. كأنه عليه السلام قال (لا بقي منكم مخبر. ويروى آبز بالزاي المعجمة وهو الواثب. والهالك أيضا يقال له آبز) 59 - قال عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج وقيل له إنهم قد عبروا جسر النهروان مصارعهم دون النطفة. والله لا يفلت منهم عشرة (1) ولا يهلك منكم عشرة. (يعنى بالنطفة ماء النهر وهو أفصح كناية عن الماء وإن كان كثيرا جما) 60 - ولما قتل الخوارج فقيل له يا أمير المؤمنين هلك القوم بأجمعهم (قال عليه السلام) كلا والله إنهم نطف في أصلاب الرجال وقرارات النساء (2). كلما نجم منهم قرن قطع حتى يكون آخرهم


= شيئا وأنا على بصيرة في أمري. ثم انذرهم بما سيلاقون من سوء المنقلب والاثرة والاستبداد فيهم والاختصاص بفوائد الملك دونهم وحرمانهم من كل حق لهم (1) أنه ما نجا منهم إلا تسعة تفرقوا في البلاد، وما قتل من أصحاب أمير المؤمنين إلا ثمانية (2) قرارات النساء كناية عن الارحام، وكلما نجا منهم قرن: أي كلما ظهر وطلع منهم =

[ 108 ]

لصوصا سلابين. 61 - (وقال عليه السلام فيهم) لا تقتلوا الخوارج بعدي فليس من طلب الحق فأخطأه كمن الباطل فأدركه. (يعني معاوية وأصحابه (1)) 62 - ومن كلام له عليه السلام لما خوف من الغيلة (2) وإن علي من الله جنة حصينة (3)، فإذا جاء يومي انفرجت عني وأسلمتني، فحينئذ لا يطيش السهم ولا يبرأ الكلم (4) 63 - ومن كلام له عليه السلام ألا وإن الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها (5). ولا ينجى بشئ


= رئيس قتل حتى ينتهي أمرهم إلى أن يكونوا لصوصا سلابين لا يقومون بملك ولا ينتصرون إلى مذهب ولا يدعون إلى عقيدة شأن الاشرار الصعاليك الجهلة (1) الخوارج من بعده وإن كانوا قد ضلوا بسوء عقيدتهم فيه إلا أن ضلتهم لشبهة تمكنت من نفوسهم فاعتقدوا الخروج عن طاعة الامام مما يوجبه الدين عليهم. فقد طلبوا حقا وتقريره شرعا فاخطأوا الصواب فيه، لكنهم بعد أمير المؤمنين يخرجون بزعمهم هذا على من غلب على الامرة بغير حق وهم الملوك الذين طلبوا الخلافة باطلا فأدركوها وليسوا من أهلها. فالخوارج على ما بهم أحسن حالا منهم (2) الغيلة القتل على غرة بغير شعور من المقتول كيف يأتيه القاتل (3) جنة بالضم وقاية (4) الكلم بالفتح الجرح (5) أي من أراد السلامة من محنتها فليهئ وسائل النجاة وهو فيها =

[ 109 ]

كان لها (1). أبتلي الناس بها فتنة فما أخذوه منها لها أخرجوا منه وحوسبوا عليه (2). وما أخذوه منها لغيرها قدموا عليه وأقاموا فيه. وإنها عند ذوي العقول كفئ الظل (3) بينا تراه سابغا حتى قلص (4)، وزائدا حتى نقص 64 - ومن خطبة له عليه السلام واتقوا الله عباد الله. وبادروا آجالكم بأعمالكم (5) وابتاعوا ما يبقى لكم بما يزول عنكم (6). وترحلوا فقد جد بكم (7). واستعدوا


= إذ بعد الموت لا يمكن التدارك ولا ينفع الندم. فوسائل النجاة إما عمل صالح أو اقلاع عن خطيئة بتوبة نصوح كلاهما لا يكون إلا في دار التكاليف وهي دار الدنيا (1) أي لا نجاة بعمل يعمل للدنيا إذ كل عمل يقصد به لذة دنيوية فانية فهو هلكة لا نجاة (2) ما أخذوه منها لها كالمال يذخر للذة ويقتنى لقضاء الشهوة. وما أخذوه لغيرها كالمال ينفق في سبيل الخيرات يقدم صاحبه في الآخرة على ثوابه بالنعيم المقيم (3) إضافة الفئ إلى الظل إضافة الخاص للعام لان الفئ لا يكون إلا بعد الزوال (4) سابغا ممتدا سائرا للارض. وقلص انقبض، وحتى هنا لمجرد الغاية بلا تدريج، أي أن غاية سبوغه الانقباض وغاية زيادته النقص (5) بادروا الآجال بالاعمال أي سابقوها وعاجلوها بها أي استكملوا أعمالكم قبل حلول آجالكم (6) ابتاعوا اشتروا ما يبقى من النعيم الابدي بما يفنى من لذة الحياة الدنيا وشهواتها المنقضية (7) الترحل الانتقال والمراد منه هنا لازمه وهو إعداد الزاد الذي لا بد منه للراحل، والزاد في الانتقال عن الدنيا ليس إلا زادا لتقوى. وقوله فقد جد بكم أي فقد حثثتم وازعجتم إلى الرحيل، أو فقد =

[ 110 ]

للموت فقد أظلكم (1). وكونوا قوما صيح بهم فانتبهوا (2). وعلموا أن الدنيا ليست لهم بدار فاستبدلوا. فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى (3). وما بين أحدكم وبين الجنة أو النار إلا الموت أن ينزل به (4). وإن غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة (5). وإن غائبا يحدوه الجديدان: - الليل والنهار - لحري بسرعة الاوبة (6). وإن قادما يقدم بالفوز أو الشقوة لمستحق لافضل


= أسرع بكم مسترحلكم وأنتم لا تشعرون (1) الاستعداد للموت إعداد العدة له أو طلب العدة، للقائه، ولا عدة له إلا الاعمال الصالحة. وقوله فقد أظلكم: أي قرب منكم حتى كأن له ظلا قد ألقاه عليكم (2) أي كونوا قوما حذرين إذا استنامتهم الغفلة وقتا ما ثم صاح بهم صائح الموعظة انتبهوا من نومهم وهبوا لطلب نجاتهم. وقوله وعلموا أي آخره أي عرفوا الدنيا وأنها ليست بدار بقاء وقرار فاستبدلوها بدار الآخرة وهي الدار التي ينتقل إليها (3) تعالى الله أن يفعل شيئا عبثا، وقد خلق الانسان وآتاه قوة العقل التي تصغر عندها كل لذة دنيوية ولا تقف رغائبها عند حد منها مهما علت رتبته فكأنها مفطورة على استصغار كل ما تلاقيه في هذه الحياة وطلب غاية أعلى مما يمكن أن ينال فيها، فهذا الباعث الفطري لم يوجده الله تعالى عبثا بل هو الدليل الوجداني المرشد إلى ما وراء هذه الحياة وسدى. أي مهملين بلا راع يزجركم عما يضركم ويسوقكم إلى ما ينفعكم. ورعاتنا الانبياء عليهم الصلاة والسلام وخلفاؤهم (4) أن ينزل به في محل الرفع بدل من الموت أي ليس بين الواحد منا وبين الجنة إلا نزول الموت به إن كان قد أعد لها عدتها، ولا بينه وبين النار إلا نزول الموت به إن كان قد عمل بعمل أهلها، فما بعد هذه الحياة إلا الحياة الاخرى وهي إما شقاء وإما نعيم (5) تلك الغاية هي الاجل، وتنقصها أي تنقص أمد الانتهاء إليها، وكل لحظة تمر فهي نقص في الامد بيننا وبين الاجل والساعة تهدم ركنا من ذلك الامد وما كان كذلك فهو جدير بقصر المدة (6) ذلك الغائب هو الموت، ويحدوه يسوقه، الجديدان الليل =

[ 111 ]

العدة. فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غدا (1) فاتقى عبد ربه. نصح نفسه. قدم توبته. وغلب شهوته (2) فإن أجله مستور عنه. وأمله خادع له. والشيطان موكل به يزين له المعصية ليركبها ويمنيه التوبة ليسوفها (3) حتى تنجم منيته عليه أغفل ما يكون عنها (4) فيالها حسرة على ذي غفلة أن يكون عمره عليه حجة (5) وأن تؤديه أيامه إلى شقوة. نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة (6) ولا تقصر به عن طاعة ربه غاية. ولا تحل به بعد الموت ندامة ولا كآبة


= والنهار لان الاجل المقسوم لك إن كان بعد ألف سنة فالليل والنهار بكرورهما عليك يسوقان إليك ذلك المنتظر على رأس الالف وما أسرع مرهما والانتهاء إلى الغاية، وما أسرع أوبة لك الغائب الذي يسوقانه إليك. أي رجوعه. والموت هو ذلك القادم إما بفوز وإما بشقوة. وعدته الاعمال الصالحات والملكات الفاضلة (1) ما تحرزون به أنفسكم أي تحفظونها به وذلك هو تقوى الله في السر والنجوى وطاعة الشرع وعصيان الهوى (2) قوله فاتقى عبد ربه وما بعده أوامر بصيغة الماضي، ويجوز أن يكون بيانا للتزود المأمور به في قوله فتزودوا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم، أو بيانا لما يحرزون به أنفسهم (3) يسوفها أن يؤجلها ويؤخرها (4) قوله أغفل ما يكون حال من الضمير في عليه. والمنية الموت أي لا يزال الشيطان يزين له المعصية ويمنيه بالتوبة أن تكون في مستقبل العمر ليسوفها حتى يفاجئه الموت وهو في أشد الغفلة عنه (5) يكون عمره حجة عليه لانه إوتي فيه المهلة ومكن فيه من العمل فلم ينشط له (6) لا تبطره النعمة لا تطغيه ولا تسدل =

[ 112 ]

65 - ومن خطبة له عليه السلام الحمد لله الذي لم يسبق له حال حالا (1). فيكون أولا قبل أن يكون آخرا. ويكون ظاهرا قبل أن يكون باطنا كل مسمى بالوحدة غيره قليل (2). وكل عزيز غيره ذليل. وكل قوي غيره ضعيف. وكل مالك غيره مملوك. وكل عالم غيره متعلم. وكل قادر غيره يقدر ويعجز. وكل سميع غيره يصم عن لطيف الاصوات ويصمه كبيرها ويذهب عنه ما بعد منها (3). وكل بصير غيره يعمى عن


= على بصيرته حجاب الغفلة عما هو صائر إليه (1) ما لله من وصف فهو لذاته يجب بوجوبها، فكما أن ذاته سبحانه لا يدنو منها التغير والتبدل، فكذلك أوصافه هي ثابتة له معا لا يسبق منها وصف وصفا وإن كان مفهومها قد يشعر بالتعاقب إذا أضيفت إلى غيره، فهو أول وآخر أزلا وأبدا، أي هو السابق بوجوده لكل موجود، وهو بذلك السبق باق لا يزول وكل وجود سواه فعلى أصل الزوال مبناه، ثم هو في ظهوره بأدلة وجوده باطن بكنهه لا تدركه العقول ولا تحوم عليه الاوهام (2) الواحد أقل العدد ومن كان واحدا منفردا عن الشريك محروما من المعين كان محتقرا لضعفه ساقطا لقلة أنصاره. أما الوحدة في جانب الله فهي علو الذات عن التركيب المشعر بلزوم الانحلال وتفردها بالعظمة والسلطان وفناء كل ذات سواها إذا اعتبرت منقطعة النسبة إليها فوصف غير الله بالوحدة تقليل والكمال في عالمه أن يكون كثيرا، إلا الله فوصفه بالوحدة تقديس وتنزيه، وبقية الاوصاف ظاهرة (3) السامعون من الحيوان والانسان لقوى سمعهم حد محدود فما خفي من الاصوات لا يصل إليها فهي صماء عنه. فيصم بفتح الصاد مضارع صم إذا أصيب بالصمم وفقد السمع، وما عظم من الاصوات حتى فات المألوف =

[ 113 ]

خفي الالوان ولطيف الاجسام. وكل ظاهر غيره باطن. وكل باطن غيره غير ظاهر (1). لم يخلق ما خلقه لتشديد سلطان. ولا تخوف من عواقب زمان. ولا استعانة على ند مثاور (2). ولا شريك مكاثر ولا ضد منافر. ولكن خلائق مربوبون. وعباد داخرون (3) لم يحلل في الاشياء فيقال هو فيها كائن. ولم ينأ عنها فيقال هو منها بائن (4) لم يؤده خلق ما ابتدأ (5) ولا تدبير ما ذرأ (6) ولا وقف به عجز عما خلق. ولا ولجت عليه شبهة فيما وقدر (7). بل قضاء متقن


= الذي يستطاع احتماله يحدث فيها الصمم بصدعه لها فيصم بكسر الصاد مضارع أصم وما بعد من الاصوات عن السامع بحيث لا يصل موج الهواء المتكيف بالصوت إليه ذهب عن تلك القوى فلا تناله، كل ذلك في غيره سبحانه، أما هو جل شأنه فيستوي عنده الخفي والشديد والقريب والبعيد لان نسبة الاشياء إليه واحدة ومثل ذلك يقال في البصر والبصراء (1) الباطن هنا غيره فيما سبق أي كل ما هو ظاهر بوجوده الموهوب من الله سبحانه فهو باطن بذاته أي لا وجود له في نفسه فهو معدوم بحقيقته وكل باطن سواه فهو بهذا المعنى فلا يمكن أن يكون ظاهرا بذاته بل هو باطن أبدا (2) الند النظير والمثل. والمثاور المواثب والمحارب. والشريك المكاثر أي المفاخر بالكثرة. هذا إذا قرئ بالثاء المثلثة، ويروى المكابر بالباء الموحدة أي المفاخر بالكبر والعظمة. والضد المنافر أي المحاكم في الرفعة والحسب، يقال نافرته في الحسب فنفرته أي غلبته واثبت رفعتي عليه (3) مربوبون أي مملوكون. وداخرون أذلاء من دخر ذل وصغر (4) لم ينأ عنها أي لم ينفصل انفصال الجسم حتى يقال هو بائن أي منفصل (5) يؤده أي لم يثقله. آده الامر أثقله وأتعبه (6) ذرأ أي خلق (7) ولجت عليه =

[ 114 ]

وعلم محكم. وأمر مبرم (1) المأمول مع النقم والمرهوب مع النعم 66 - ومن كلام له عليه السلام كان يقوله لاصحابه في بعض أيام صفين معاشر المسلمين استشعروا الخشية (2) وتجلببوا السكينة وعضوا على النواجذ (3) فإنه أنبى للسيوف عن الهام وأكملوا اللامة (4) وقلقلوا السيوف في أغمادها قبل سلها (5) والحظوا الخزر (6) واطعنوا الشزر (7) ونافحوا بالظبا (8) وصلوا السيوف بالخطا (9). واعلموا


دخلت (1) محتوم. وأصله من أبرم الحبل جعله طاقين ثم فتله وبهذا أحكمه (2) استشعر لبس الشعار وهو ما يلي البدن من الثياب. وتجلبب لبس الجلباب وهو ما تغطي به المرأة ثيابها من فوق، ولكون الخشية أي الخوف من الله غاشية قلبية عبر في جانبها بالاستشعار، وعبر بالتجلبب في جانب السكينة لانها عارضة تظهر في البدن كما لا يخفى (3) النواجذ جمع ناجذ وهو أقصى الاضراس. ولكل إنسان أربعة نواجذ وهي بعد الارحاء ويسمى الناجذ ضرس العقل لانه ينبت بعد البلوغ. وإذا عضضت على ناجذك تصلبت أعصابك وعضلاتك المتصلة بدماغك فكانت هامتك أصلب وأقوى على مقاومة السيف فكان أنبى عنها وأبعد عن التأثير فيها. والهام جمع هامة وهي الرأس (4) اللامة الدرع، وإكمالها أن يزاد عليها البيضة والسواعد ونحوها. وقد يراد من اللامة آلات الحرب والدفاع استيفاؤها (5) مخافة أن تستعصى عن الخروج عند السل (6) الخزر محركة النظر كأنه من أحد الشقين، وهو علامة الغضب (7) اطعنوا بضم العين فإذا كان في النسب مثلا كان المضارع مفتوحها وقد يفتح فيهما. والشزر بالفتح الطعن في الجوانب يمينا وشمالا (8) نافحوا كافحوا وضاربوا. والظبا بالضم جمع ظبة طرف السيف وحده (9) صلوا من الوصل أي اجعلوا سيوفكم متصلة بخطا أعدائكم جمع خطوة أو إذا =

[ 115 ]

أنكم بعين الله (1) ومع ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله. فعاودوا الكر واستحيوا من الفر (2) فإنه عار في الاعقاب ونار يوم الحساب. وطيبوا عن أنفسكم نفسا. وامشوا إلى الموت مشيا سجحا (3) وعليكم بهذا السواد الاعظم. والرواق المطنب (4). فاضربوا ثبجه (5) فإن الشيطان كامن في كسره (6). قد قدم للوثبة يدا وأخر للنكوص رجلا فصمدا صمدا (7). حتى ينجلي لكم عمود الحق (وأنتم الاعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم) (8)


= قصرت سيوفكم عن الوصول إلى أعدائكم فصلوها بخطاكم (1) بعين الله أي ملحوظون بها (2) الفر الفرار، وهو عار في الاعقاب أي في الاولاد لانهم يعيرون بفرار آبائهم. وقوله وطيبوا عن أنفسكم نفسا أي ارضوا ببذلها فإنكم تبذلونها اليوم لتحرزوها غدا (3) السجح بضمتين السهل (4) الرواق ككتاب وغراب الفسطاط. والمطنب المشدود بالاطناب جمع طنب بضمتين حبل يشد به سرادق البيت. وأراد بالسواد الاعظم جمهور أهل الشام، والرواق رواق معاوية (5) الثبج بالتحريك الوسط (6) كسره بالكسر شقه الاسفل كناية عن الجوانب التي يفر إليها المنهزمون. والشيطان الكامن في الكسر مصدر الاوامر بالهجوم والرجوع، فإن جبنتم مد يده للوثبة وإن شجعتم أخر للنكوص والهزيمة رجله (7) الصمد القصد، أي فاثبتوا على قصدكم (8) لن ينقصكم =

[ 116 ]

67 - ومن كلام له عليه السلام في معنى الانصار قالوا لما انتهت إلى أمير المؤمنين عليه السلام أنباء السقيفة (1) بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله قال عليه السلام: ما قالت الانصار؟ قالوا قالت منا أمير ومنكم أمير قال عليه السلام فهلا احتجتم عليهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسئيهم (قالوا وما في هذا من الحجة عليهم) فقال عليه السلام لو كانت الامارة فيهم لم تكن الوصية بهم. ثم قال عليه السلام. فما ذا قالت قريش؟ قالوا احتجت بأنها شجرة الرسول صلى الله عليه وسلم. فقال عليه السلام احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة (2) 68 - ومن كلام له عليه السلام لما قلد محمد بن أبي بكر مصر فملكت عليه فقتل وقد أردت تولية مصر هاشم بن عتبة ولو وليته إياها لما خلى لهم العرصة (3)


= شيئا من جزائها (1) سقيفة بني ساعدة اجتمع فيها الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لاختيار خليفة له (2) يريد من الثمرة آل بيت الرسول صلى الله عليه وسلم (3) العرصة كل بقعة واسعة بين الدور، والمراد ما جعل لهم مجالا للمغالبة. وأراد بالعرصة =

[ 117 ]

ولا أنهزهم الفرصة. بلا ذم لمحمد بن أبي بكر (1) فلقد كان إلي حبيبا وكان لي ربيبا (2) 69 - ومن كلام له عليه السلام في ذم أصحابه كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة (3) والثياب المتداعية (4) كلما حيصت من جانب تهتكت من آخر (5) أكلما أطل عليكم منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل رجل منكم بابه وانجحر انجحار الضبة في جحرها والضبع في وجارها (6). الذليل والله من نصرتموه. ومن رمي بكم فقد رمي بأفوق ناصل (7). وإنكم والله


= عرصة مصر، وكان محمد قد فر من عدوه ظنا منه أن ينجو بنفسه فأدركوه وقتلوه (1) بلا ذم لمحمد الخ لما يتوهم من مدح عتبة (2) قالوا إن اسماء بنت عميس كانت تحت جعفر بن أبي طالب فلما قتل تزوجها أبو بكر فولدت منه محمدا ثم تزوجها علي بعده وتربى محمد في حجره وكان جاريا مجرى أولاده حتى قال علي كرم الله وجهه محمد ابني من صلب أبي بكر (3) البكار ككتاب جمع بكر الفتى من الابل، والعمدة بفتح فكسر التي انفضح داخل سنامها من الركوب وظاهره سليم (4) المتداعية الخلقة المتخرقة. ومداراتها استعمالها بالرفق التام (5) حيصت خيطت، وتهتكت تخرقت (6) المنسر كمجلس ومنبر القطعة من الجيش تمر أمام الجيش الكثير، واطل أشرف. وانجحر دخل الجحر، والوجار بالكسر جحر الضبع وغيرها (7) الافوق من السهام ما كسر فوقه أي موضع الوتر منه والناصل العاري من النصل. والسهم إذا كان مكسور الفوق عاريا عن النصل لم يؤثر في الرمية. فهم في ضعف أثرهم وعجزهم عن النكاية =

[ 118 ]

لكثير في الباحات (1) قليل تحت الرايات. وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم (2) ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي. أضرع الله خدودكم (3). وأتعس جدودكم (4) لا تعرفون الحق كمعرفتكم الباطل. ولا تبطلون الباطل كإبطالكم الحق 70 - وقال عليه السلام في سحرة اليوم الذي ضرب فيه (5) ملكتني عيني وأنا جالس (6) فسنح لي رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت يارسول الله ماذا لقيت من أمتك من الاود واللدد! فقال ادع عليهم، فقلت أبدلني الله بهم خيرا منهم وأبدلهم بي شرا لهم مني (يعني بالاود الاعوجاج وباللدد الخصام وهذا من أفصح الكلام) 71 - ومن خطبة له عليه السلام في ذم أهل العراق أما بعد يا أهل العراق فإنما أنتم كالمرأة الحامل حملت فلما أتمت أملصت (7) ومات قيمها وطال تأيمها وورثها أبعدها (8) أما والله


= بعدوهم أشبه به (1) الباحات الساحات (2) أودكم بالتحريك اعوجاجكم (3) أذل الله وجوهكم (4) وأتعس جدودكم وحط من حظوظكم. والتعس الانحطاط والهلاك والعثار (5) السحرة بالضم السحر على الاعلى من آخر الليل (6) ملكتني عيني غلبني النوم وسنح لي رسول الله مربي. تسنح الظباء والطير (7) أملصت ألقت ولدها ميتا (8) قيمها =

[ 119 ]

ما أتيتكم اختيارا ولكن جئت إليكم سوقا (1) ولقد بلغني أنكم تقولون علي يكذب. قاتلكم الله فعلى من أكذب. أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به. أم على نبيه؟ فأنا أول من صدقه (2). كلا والله ولكنها لهجة غبتم عنها (3) ولم تكونوا من أهلها. ويلمه كيلا بغير ثمن (4) لو كان له وعاء، ولتعلمن نبأه بعد حين


= زوجها وتأيمها خلوها من الازواج، يريد أنهم لما شارفوا استئصال أهل الشام وبدت لهم علامات الظفر بهم جنحوا إلى السلم إجابة لطلاب التحكيم فكان مثلهم مثل المرأة الحامل لما أتمت أشهر حملها ألقت ولدها بغير الدافع الطبيعي بالحادث العارضي كالضربة والسخطة وقلما تلقيه كذلك إلا هالكا. ولم يكتف في تمثيل خيفتهم في ذلك حتى قال ومات مع هذه الحالة زوجها وطال ذلها بفقدها من يقوم عليها حتى إذا هلكت عن غير ولد ورثها الاباعد السافلون في درجة القرابة ممن لا يلتفت إلى نسبه (1) يقسم أنه لم يأت العراق مستنصرا بأهله اختيارا لتفضيله إياهم على من سواهم. وإنما سيق إليهم بسائق الضرورة فإنه لولا وقعة الجمل لم يفارق المدينة المنورة. ويروى هذا الكلام بعبارة أخرى وهي (ما أتيتكم اختيارا ولا جئت إليكم شوقا) بالشين المعجمة (2) كان كرم الله وجهه كثيرا ما يخبرهم بما لا يعرفون ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون فيقول المنافقون من أصحابه إنه يكذب كما يقولون مثل ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم، فهو يرد عليهم قولهم بأنه أول من آمن بالله وصدق برسوله فكيف يجترئ على الكذب على الله أو على رسوله مع قوة إيمانه وكمال يقينه ولا يجتمع كذب وايمان صحيح (3) لهجة غبتم عنها أي ضرب من الكلام أنتم في غيبة عنه أي بعد عن معناه ونبو طبع عما حواه فلا تفهمونه ولهذا تكذبونه (4) ويلمه كلمة استعظام تقال في مقام المدح وإن كان أصل وضعها لضده ومثل ذلك معروف في لسانهم، يقولون للرجل يعظمونه ويقرظونه لا أبالك. وفي الحديث فاظفر بذات الدين تربت يداك، وفي كلام =

[ 120 ]

72 - ومن خطبة له عليه السلام علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله اللهم داحي المدحوات (1). وداعم المسموكات. وجابل القلوب على فطرتها (2) شقيها وسعيدها. اجعل شرائف صلواتك ونوامي بركاتك (3) على محمد عبدك ورسولك الخاتم لما سبق. والفاتح لما


= الحسن يحدث عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه ويعظم أمره: وما لك والتحكيم والحق في يديك ولا أبالك. وأصل الكلمة ويل أمه. وقوله كيلا مصدر محذوف أي أنا أكيل لكم العلم والحكمة كيلا بلا ثمن لو أجد وعاء أكيل فيه، أي لو أجد نفوسا قابلة وعقولا عاقلة (1) داحي المدحوات أي باسط المبسوطات وأراد منها الارضين. وبسطها أن تكون كل قطعة منها صالحة لان تكون مستقرا ومجالا للبشر وسائر الحيوان تتصرف عليها هذه المخلوقات في الاعمال التي وجهت إليها بهادي الغريزة كما هو المشهود لنظر الناظر وإن كانت الارض في جملتها كروية الشكل. وداعم المسموكات مقيمها وحافظها. دعمه كمنعه: أقامه وحفظه. والمسموكات المرفوعات وهي السماوات، وقد يراد من هذا الوصف المجعول لها سمكا يفوق كل سمك. والسمك الثخن المعروف في اصطلاح أهل الكلام بالعمق. ودعمه للسماوات أقامته لها وحفظها من الهوى بقوة معنوية وإن لم يكن ذلك بدعامة حسية. قال صاحب القاموس المسموكات لحن والصواب مسمكات، ولعل هذا في اطلاق اللفظ اسما للسماوات، أما لو أطلق صفة كما في كلام الامام فهو صحيح فصيح بل لا يصح غيره فإن الفعل سمك لا أسمك (2) جابل القلوب خالقها. والفطرة أول حالات المخلوق التي يكون عليها في بدء وجوده، وهي للانسان حالته خاليا من الآراء والاهواء والديانات والعقائد. وقوله شقيها وسعيدها بدل من القلوب، أي جابل الشقي والسعيد من القلوب على فطرته الاولى التي هو بها كاسب محض، فحسن اختياره يهديه إلى السعادة وسوء تصرفه يضلله في طرق الشقاوة (3) الشرائف جمع شريفة. والنوامي =

[ 121 ]

انغلق. والمعلن الحق بالحق والدافع جيشات الاباطيل. والدامغ صولات الاضاليل. كما حمل فاضطلع (1) قائما بأمرك مستوفزا في مرضاتك غير ناكل عن قدم. ولا واه في عزم (2). واعيا لوحيك حافظا لعهدك. ماضيا على نفاذ امرك. حتى أورى قبس القابس وأضاء الطريق للخابط (3) وهديت به القلوب بعد خوضات الفتن.


= الزوائد. والخاتم لما سبق أي لما تقدمه من النبوات. والفاتح لما انغلق كانت أبواب القلوب قد أغلقت بأقفال الضلال عن طوارق الهداية فإفتتحها صلى الله عليه وسلم بآيات نبوته، وأعلن الحق وأظهره بالحق والبرهان. والاباطيل جمع باطل على غير قياس، كما أن الاضاليل جمع ضلال على غير قياس. وجيشاتها جمع جيشة من جاشت القدر إذا ارتفع غليانها. والصولات جمع صولة وهي السطوة. والدامغ من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة دماغه، والمراد أنه قامع ما نجم من الباطل والكاسر لشوكة الضلال وسطوته وذلك بسطوع البرهان وظهور الحجة (1) أي أعلن الحق بالحق وقمع الباطل وقهر الضلال كما حمل تلك الاعمال الجليلة بتحميله أعباء الرسالة. فاضطلع أي نهض بها قويا. والضلاعة القوة. والمستوفز المسارع المستعجل، وقد تكون الكاف في كما حمل للتعليل كما في قوله. - فقلت له أبا الملحاة خذها * كما أوسعتنا بغيا وعدوا (2) الناكل الناكص والمتأخر. أي غير جبان يتأخر عند وجوب الاقدام. والقدم بضمتين المشي إلى الحرب، ويقال مضى قدما أي سار ولم يعرج. والواهي الضعيف واعيا أي حافظا وفاهما. وعيت الحديث حفظته وفهمته. وماضيا على نفاذ أمرك أي ذاهبا في سيره على ما فيه نفاذ أمر الله سبحانه (3) يقال ورى الزند كوعى. وولى يرى وريا وريا ورية فهو وار: خرجت ناره. وأوريته ووريته واستوريته. والقبس شعلة من النار. والقابس الذي يطلب النار. يقال قبست نارا فاقبسني، أي طلبت منها فأعطاني. والكلام تمثيل لنجاح طلاب الحق ببلوغ طلبتهم منه وإشراق النفوس =

[ 122 ]

وأقام موضحات الاعلام ونيرات الاحكام. فهو أمينك المأمون وخازن علمك المخزون (1). وشهيدك يوم الدين (2) وبعيثك بالحق (3). ورسولك إلى الخلق. اللهم افسح له مفسحا في ظلك (4) واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللهم أعل على بناء البانين بناءه (5) وأكرم لديك منزلته، وأتمم له نوره، واجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة ومرضي المقالة (6) ذا منطق عدل. وخطة فصل. اللهم


= المستعدة لقبوله بما سطع من أنواره. والخابط الذي يسير ليلا على غير جادة واضحة، فأضاء الطريق له جعلها مضيئة ظاهرة فاستقام عليها سائرا إلى الغاية وهي السعادة، فكان في ذلك أن هديت به القلوب إلى ما فيه سعادتها بعد أن خاضت الفتن أطوار واقتحمتها مرارا. والخوضات جمع خوضة المرة من الخوض كما قال وهديت به القلوب الخ. والاعلام جمع علم بالتحريك ما يستدل به على الطريق كالمنار ونحوه، والاعلام موضحات الطرق لانها تبينها للناس وتكشفها (1) العلم المخزون ما اختص الله به من شاء من عباده ولم يبح لغير أهل الحظوة به أن يطلعوا عليه وذلك مما لا يتعلق بالاحكام الشرعية (2) شهيدك شاهدك على الناس كما قال الله تعالى (فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا) (3) بعيثك أي مبعوثك فهو فعيل بمعنى مفعول كجريج وطريح (4) افسح له وسع له ما شئت أن توسع في ظلك أي إحسانك وبرك فيكون الظل مجازا. ومضاعفات الخير أطواره ودرجاته (5) أراد من بنائه ما شيده صلى الله عليه وسلم بأمر ربه من الشريعة العادلة. والهدى الفاضل مما يلجأ إليه التائهون ويأوى إليه المضطهدون، فالامام يسأل الله أن يعلى بناء شريعته على جميع الشرائع ويرفع شأن هديه فوق كل هدى لغيره. وإكرام المنزلة بإتمام النور، والمراد من إتمام النور تأييد الدين حتى يعم أهل الارض ويظهر على الدين كله كما وعده بذلك. إكرام المنزلة في الآخرة، فقد تقدم في قوله افسح له واجزه مضاعفات الخير (6) أي اجزه على بعثتك له إلى الخلق وقيامه بما حملته واجعل ثوابه =

[ 123 ]

اجمع بيننا وبينه في برد العيش وقرار النعمة (1)، ومنى الشهوات. وأهواء اللذات ورخاء الدعة. ومنتهى الطمأنينة. وتحف الكرامة (2) 73 - ومن كلام له عليه السلام قاله لمروان بن الحكم بالبصرة (قالوا أخذ مروان بن الحكم أسيرا يوم الجمل فاستشفع الحسن والحسين عليهما السلام (3) إلى أمير المؤمنين عليه السلام فكلماه فيه فخلى سبيله. فقالا له يبايعك يا أمير المؤمنين فقال عليه السلام) أو لم يبايعني بعد قتل عثمان لا حاجة لي في بيعته إنها. كف (4)


= على ذلك الشهادة المقبولة والمقالة المرضية يوم القيامة، وتلك الشهادة والمقالة تصدران منه وهو ذو منطق عدل وخطة أي أمر فاصل، ويروى وخطبة بزيادة باء بعد الطاء أي مقال فاصل، وقد روى أنه صلى الله عليه وسلم يقوم ذلك المقام يوم القيامة فيشهد على أمته وعلى غيرهم من الامم فيكون كلامه الفصل (1) تقول العرب عيش بارد أي لا حرب فيه ولا نزاع، لان البرد والسكون متلازمان تلازم الحرارة والحركة. وقرار النعمة مستقرها حيث تدوم ولا تفنى (2) منى جمع منية بالضم ما يتمناه الانسان لنفسه. والشهوات ما يشتهيه. يدعو بأن يتفق مع النبي صلى الله عليه وسلم في جميع رغباته وميله. والرخاء من قولهم رجل رخى البال أي واسع الخيال. والدعة سكون النفس واطمئنانها. والتحف جمع تحفة ما يكرم به الانسان من البر واللطف وقد كان صلى الله عليه وسلم من أرخى الناس بالا وألزمهم للطمأنينة وأعلاهم منزلة في القلوب، فالامام يطلب من الله أن يدنيه منه في جميع هذه الصفات الكريمة (3) استشفعهما إليه سألهما أن يشفعا له عنده. وليس من الجيد قولهم استشفعت به (4) كف يهودية أي غادرة = في نسخة: قبل قتل عثمان

[ 124 ]

يهودية. لو بايعني بكفه لغدر بسبته (1) أما إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه (2). وهو أبو الأكبش الاربعة (3) وستلقى الامة منه ومن ولده يوما أحمر 74 - ومن كلام له عليه السلام لما عزموا على بيعة عثمان لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري. ووالله لاسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة التماسا لاجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه (4)


= ماكرة (1) السبت بالفتح الاست وهو مما يحرص الانسان على إخفائه. وكنى به عن الغدر الخفي واختاره لتحقير الغادر. وقد يكون ذلك إشارة إلى ما كانت تفعله سفهاء العرب عند الغدر بعقد أو عهد من أنهم كانوا يحبقون عند ذكره استهزاء (2) تصوير لقصر مدتها وكانت تسعة أشهر (3) جمع كبش وهو من القوم رئيسهم. وفسروا الاكبش ببني عبد الملك بن مروان هذا وهم الوليد وسليمان ويزيد وهشام. قالوا ولم يتول الخلافة أربعة اخوة سوى هؤلاء. ويجوز أن يراد بهم بنو مروان لصلبه وهم عبد الملك وعبد العزيز وبشر ومحمد وكانوا كباشا أبطالا: أما عبد الملك فولى الخلافة وولى محمد الجزيرة وعبد العزيز مصر وبشر العراق (4) يقسم بالله ليسلمن الامر في الخلافة لعثمان ما دام التسليم غير ضار بالمسلمين وحافظا لهم من الفتنة طلبا لثواب الله على ذلك وزهدا في الامرة التي تنافسوها أي رغبوا فيها وإن كان في ذلك جور عليه خاصة. وأهل الزخرف الذهب وكذلك الزبرج بكسرتين بينهما سكون، ثم أطلق على كل مموه مزور. وأغلب ما يقال الزبرج على الزينة من وشى أو جوهر. ومن زخرفه ليس للبيان ولكن حرف جر للتعليل أي أن الرغبة إنما كان الباعث عليها الزخرف =

[ 125 ]

75 - ومن كلام له عليه السلام لما بلغه اتهام بني أمية له بالمشاركة في دم عثمان أو لم ينه أمية علمها بي عن قرفي (1). أوما وزع الجهال سابقتي عن تهمتي. ولما وعظهم الله به أبلغ من لساني (2). أنا حجيج المارقين (3) وخصيم المرتابين. وعلى كتاب الله تعرض الامثال (4) وبما في الصدور تجازى العباد 76 - ومن خطبة له عليه السلام رحم الله امرأ سمع حكما فوعى. ودعي إلى رشاد فدنا (5).


= والزبرج ولولا لزوم ذلك للامارة ما كان فيها التنافس (1) قرفه قرفا بالفتح عابه. وعلمها فاعل ينه، وأمية مفعول، أي ألم يكن في علم بني أمية بحالي ومكاني من الدين والتحرج من سفك الدماء بغير حق ما ينهاهم عن أن يعيبوني بالاشتراك في دم عثمان خصوصا وقد علموا أني كنت له لا عليه، ومن أحسن الناس قولا فيه. وسابقته حاله المعلومة لهم مما تقدم. ووزع بمعنى كف. والتهمة بفتح الهاء رميه بعيب الاشتراك في دم عثمان (2) ولما الخ اللام هي التي للتأكيد وما موصول مبتدأ وأبلغ خبره والله قد وعظهم في الغيبة بأنها في منزلة أكل لحم الاخ ميتا (3) حجيج المارقين أي خصيمهم. والمارقون الخارجون من الدين. والمرتابون الذين لا يقين لهم. وهو كرم الله وجهه قارعهم بالبرهان الساطع فغالبهم (4) الامثال متشابهات الاعمال والحوادث تعرض على القرآن فما وافقه فهو الحق المشروع وما خالفه فهو الباطل الممنوع، وهو كرم الله وجهه قد جرى على حكم كتاب الله في أعماله فليس للغامز عليه أن يشير إليه بمطعن ما دام ملتزما لاحكام الكتاب (5) الحكم هنا الحكمة قال الله تعالى (وآتيناه الحكم =

[ 126 ]

وأخذ بحجزة هاد فنجا (1). راقب ربه. وخاف ذنبه. قدم خالصا وعمل صالحا. اكتسب مذخورا (2). واجتنب محذورا. رمى غرضا وأحرز عوضا (3) كابر هواه. وكذب مناه. جعل الصبر مطية نجاته والتقوى عدة وفاته. ركب الطريقة الغراء (4)، ولزم المحجة البيضاء. إغتنم المهل (5) وبادر الاجل وتزود من العمل 77 - ومن كلام له عليه السلام إن بني أمية ليفوقونني تراث محمد صلى الله عليه وآله تفويقا والله لئن بقيت لهم لانفضنهم اللحام الوذام التربة (ويروى التراب الوذمة. وهو على القلب (6)) قوله عليه السلام ليفوقونني أي يعطونني من


= صبيا) ووعى حفظ وفهم المراد واعتبر بما سمع وعمل عليه. ودنا قرب من الرشاد الذي دعى إليه (1) الحجرة بالضم معقد الازار ومن السراويل موضع التكة، والمراد الاقتداء والتمسك. يقال أخذ فلان بحجزة فلان إذا اعتصم به ولجأ إليه (2) اكتسب مذخورا كسب بالعمل الجليل ثوابا يذخره ويعده لوقت حاجته في الآخرة (3) رمى غرضا قصد إلى الحق فأصابه. وكابر هواه غالبه، ويروى كاثر بالمثلثة أي غالبه بكثرة أفكاره الصائبة فغلبه (4) الغراء النيرة الواضحة. والمحجة جادة الطريق ومعظمه. والطريقة الغراء والمحجة البيضاء سبيل الحق ومنهج العدل (5) المهل هنا مدة الحياة مع العافية فإنه أمهل فيها دون أن يؤخذ بالموت أو تحل به بائقة عذاب، فهو يغتنم ذلك ليعمل فيه لآخرته فيبادر الاجل قبل حلوله بما يتزوده من طيب العمل (6) على القلب أي أن الحقيقة الوذام التربة كما في الرواية الاولى لا التراب الوذمة إذ لا معنى له، فهذه الرواية يراد =

[ 127 ]

المال قليلا قليلا كفواق الناقة. وهو الحلبة الواحدة من لبنها. والوذام جمع وذمة وهي الحزة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتنفض (1) 78 - ومن كلمات كان يدعو بها عليه السلام اللهم اغفر لي ما أنت أعلم به مني. فإن عدت فعد علي بالمغفرة. اللهم اغفر لي ما وأيت من نفسي ولم تجد له وفاء عندي (2). اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك بلساني ثم خالفه قلبي (3). اللهم اغفر لي رمزات الالحاظ. وسقطات الالفاظ. وشهوات الجنان. وهفوات اللسان (4)


= منها مقلوبها (1) الحزة بالضم القطعة. وفسر صاحب القاموس الوذمة بمجموع المعى والكرش (2) وأيت وعدت. وأى كوعى: وعد وضمن، إذا عزمت على عمل خير فكأنك وعدت من نفسك بتأدية أمر الله فإن لم توف به فكأن الله لم يجد عندك وفاء بما وعدته فتكون قد أخلفته ومخلف الوعد مسئ، فهو يطلب المغفرة على هذا النوع من الاساءة (3) تقرب باللسان مع مخالفة القلب كان يقول الحمد الله على كل حال ويسخط على أغلب الاحوال، أو يقول إياك نعبد وإياك نستعين وهو يستعين بغير الله ويعظم أشباها ممن دونه (4) رمزات الالحاظ الاشارة بها. والالحاظ جمع لحظ وهو باطن العين، أما اللحاظ بالفتح وهو مؤخر العين فلا أعرف له جمعا إلا لحظ بضمتين. وسقطات الالفاظ لغوها. والجنان القلب. وشهواته ما يكون من ميل منه إلى غير الفضيلة =

[ 128 ]

79 - ومن كلام له عليه السلام قاله لبعض أصحابه لما عزم على المسير إلى الخوارج فقال له يا أمير المؤمنين إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك من طريق علم النجوم فقال عليه السلام أتزعم أنك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء. وتخوف من الساعة التي من سار فيها حاق به الضر (1)؟. فمن صدق بهذا فقد كذب القرآن واستغنى عن الاعانة بالله في نيل المحبوب ودفع المكروه. وتبتغي في قولك للعامل بأمرك أن يوليك الحمد دون ربه لانك بزعمك أنت هديته إلى الساعة التي نال فيها النفع وأمن الضر (ثم أقبل عليه السلام على الناس فقال) أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما يهتدى به في بر أو بحر (2) فإنها تدعو إلى الكهانة والمنجم كالكاهن (3) والكاهن كالساحر


= وهفوات اللسان زلاته (1) حاق به الضر أحاط به (2) طلب لنعلم علم الهيئة الفلكية وسير النجوم وحركاتها للاهتداء بها، وإنما ينهى عما يسمى علم التنجيم وهو العلم المبني على الاعتقاد بروحانية الكواكب، وأن لتلك الروحانية العلوية سلطانا معنويا على العوالم العنصرية، وأن من يتصل بأرواحها بنوع من الاستعداد ومعاونة من الرياضة تكاشفه بما غيب من أسرار الحال والاستقبال (3) الكاهن من يدعي كشف الغيب =

[ 129 ]

والساحر كالكافر والكافر في النار سيروا على اسم الله 80 - ومن خطبة له عليه السلام بعد حرب الجمل في ذم النساء معاشر الناس إن النساء نواقص الايمان (1) نواقص الحظوظ نواقص العقول. فأما نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة والصيام في أيام حيضهن. وأما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الانصاف من مواريث الرجال. وأما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد. فاتقوا شرار النساء. وكونوا من خيارهن على حذر ولا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر (2)


= وكلام أمير المؤمنين حجة حاسمة لخيالات المعتقدين بالرمل والجفر والتنجيم وما شاكلها. ودليل واضح على عدم صحتها ومنافاتها للاصول الشرعية والعقلية (1) خلق الله النساء وحملهن على ثقل الولادة وتربية الاطفال إلى سن معين لا يكاد ينتهي حتى تستعد لحمل وولادة وهكذا، فلا يكدن يفرغن من الولادة والتربية فكأنهن قد خصصن لتدبير أمر المنزل وملازمته وهو دائرة محدودة يقوم عليهن فيها أزواجهن، فخلق لهن من العقول بقدر ما يحتجن إليه في هذا، وجاء الشرع مطابقا للفطرة فكن في أحكامه غير لاحقات للرجال لا في العبادة ولا الشهادة ولا الميراث (2) لا يريد أن يترك المعروف لمجرد أمرهن به فإن في ترك المعروف مخالفة السنة الصالحة خصوصا إن كان المعروف من الواجبات بل يريد أن لا يكون فعل المعروف صادرا عن مجرد طاعتهن، فإذا فعلت معروفا فافعله لانه معروف ولا تفعله امتثالا لامر المرأة، ولقد قال الامام قولا صدقته التجارب في الاحقاب المتطاولة ولا استثناء مما قال إلا بعضا منهن وهبن فطرة تفوق في سموها ما استوت به الفطن أو تقاربت أو أخذ سلطان من التربية طباعهن على خلاف ما =

[ 130 ]

81 - ومن كلام له عليه السلام أيها الناس الزهادة قصر الامل. والشكر عند النعم. والورع عند المحارم (1). فإن عزب ذلك عنكم فلا يغلب الحرام صبركم (2) ولا تنسوا عند النعم شكركم فقد أعذر الله إليكم بحجج مسفرة، ظاهرة وكتب بارزة العذر واضحة (3) 82 - ومن كلام له عليه السلام في صفة الدنيا ما أصف من دار أولها عناء. وآخرها فناء. في حلالها حساب. وفي


= غرز فيها وحولها إلى غير ما وجهتها الجبلة إليه (1) الورع الكف عن الشبهات خوف الوقوع في المحرمات أي إذا عرض المحرم فمن الزهادة أن تكف عما يشتبه به فضلا عنه. والشكر عند النعم الاعتراف بأنها من الله والتصرف فيها على وفق ما شرع. وقصر الامل توجس الموت والاستعداد له بالعمل وليس المراد منه انتظار الموت بالبطالة (2) عزب عنكم بعد عنكم وفاتكم. والاشارة إلى ما تقدم من قصر الامل أي فإن عسر عليكم أن تقصروا آمالكم وتكونوا من الزهادة على الكمال المطلوب لكم فلا يغلب الحرام صبركم أي فلا يفتكم الركنان الآخران وهما شكر النعم واجتناب المحرم فإن نسيان الشكر يجر إلى البطر وارتكاب المحرم يفسد نظام الحياة المعاشية والمعادية. والبطر والفساد مجلبة للنقم في الدنيا والشقاء في الآخرة (3) أعذر بمعنى أنصف وأصله مما همزته للسلب فأعذرت فلانا سلبت عذره أي ما جعلت له عذرا يبديه لو خالف ما نصحته به ويقال أعذرت إلى فلان أي أقمت لنفسي عنده عذرا واضحا فيما أنزله به من العقوبة حيث حذرته ونصحته. ويصح أن تكون العبارة في الكتاب على هذا المعنى أيضا بل هو الاقرب من لفظ إليكم، ويكون الكلام على المجاز، وتنزيل قيام الحجة له منزلة =

[ 131 ]

حرامها عقاب من استغنى فيها فتن. ومن افتقر فيها حزن. ومن ساعاها فاتته (1). ومن قعد عنها واتته. ومن أبصر بها بصرته (2). ومن أبصر إليها أعمته. (أقول وإذا تأمل المتأمل قوله عليه السلام من أبصر بها بصرته وجد تحته من المعنى العجيب والغرض البعيد ما لا تبلغ غايته، ولا يدرك غوره، ولاسيما إذا قرن إليه قوله: ومن أبصر إليها أعمته. فإنه يجد الفرق بين أبصر بها وأبصر إليها واضحا نيرا وعجيبا باهرا).


= قيام العذر لنا. والمسفرة الكاشفة عن نتائجها الصحيحة وبارزة العذر ظاهرته (1) من جرى معها في مطالبها، والقصد اهتم بها وجد في طلبها. وقوله فاتته أي سبقته فإنه كلما نال شيئا فتحت له أبواب الآمال فيها فلا يكاد يقضي مطلوبا واحدا حتى يهتف به ألف مطلوب. وقوله ومن قعد عنها واتته يريد به أن من قوم اللذائذ الفانية بقيمتها الحقيقية وعلم أن الوصول إليها إنما يكون بالعناء وفواتها يعقب الحسرة عليها، والتمتع بها لا يكاد يخلو من شوب الالم فقد وافقته هذه الحياة وأراحته فإنه لا يأسف على فائت منها ولا يبطر لحاضر ولا يعاني ألم الانتظار لمقتبل (2) أبصر بها أي جعلها مرآة عبرة تجلو لقلبه آثار الجد في عظائم الاعمال وتمثل له هياكل المجد الباقية مما رفعته أيدي الكاملين وتكشف له عواقب أهل الجهالة من المترفين فقد صارت الدنيا له بصرا وحوادثها عبرا. وأما من أبصر إليها واشتغل بها فإنه يعمى عن كل خير فيها ويلهو =

[ 132 ]

83 - ومن خطبة له عليه السلام وهي من الخطب العجيبة وتسمى الغراء الحمد لله الذي على بحوله (1). ودنا بطوله (2). مانح كل غنيمة وفضل. وكاشف كل عظيمة وأزل (3) أحمده على عواطف كرمه. وسوابغ نعمه (4). وأومن به أولا باديا (5). وأستهديه قريبا هاديا. وأستعينه قادرا قاهرا. وأتوكل عليه كافيا ناصرا. وأشهد أن محمدا صلى الله عليه وآله عبده ورسوله. أرسله لانفاذ أمره وإنهاء عذره (6)


= عن الباقيات بالزائلات وبئس ما اختار لنفسه (1) علا بحوله أي عز وارتفع عن جميع ما سواه لقوته المستعلية بسلطة الايجاد على كل قوة (2) دنا بطوله أي أنه مع علوه سبحانه وارتفاعه في عظمته فقد دنا وقرب من خلقه بطوله أي عطائه وإحسانه (3) الازل بالسكون الضيق والشدة. وكاشف الشدة المنقذ منها، كما أن مانح الغنيمة معطيها المتفضل بها (4) العواطف، ما يعطفك على غيرك ويدنيه من معروفك. وصفة الكرم في الجناب الالهي وخلقه في البشر مما يعطف الكريم على موضع الاحسان. وسوابغ النعم كواملها من سبغ الظل إذا عم وشمل (5) أولا باديا موضعه من سابقه كموضع قريبا هاديا، وما جاء به بعده من سوابقها فهي أحوال من الضمائر الراجعة إلى الله سبحانه وتعالى فيكون أول صفة نصبت على الحال من ضمير به أي أصدق بالله على أنه سابق كل شئ في الوجود فهو البادي أي الظاهر بذاته المظهر لغيره ومن كان كذلك لم تخالط التصديق به ريبة. والقريب الهادي جدير بأن تطلب منه الهداية. والقادر القاهر حقيق بأن يستعان به لانه قوي على المعونة. والكافي الناصر حري بأن يتوكل عليه (6) إنهاء عذره إبلاغه. والعذر هنا كناية عن الحجج العقلية والنقلية التي أقيمت ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم على أن من خالف شريعة الله استحق =

[ 133 ]

وتقديم نذره (1). أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ضرب لكم الامثال (2) ووقت لكم الآجال. وألبسكم الرياش وأرفع لكم المعاش، وأحاطكم بالاحصاء. وأرصد لكم الجزاء. وآثركم بالنعم السوابغ والرفد الروافغ. وأنذركم بالحجج البوالغ. وأحصاكم عددا. ووظف لكم مددا في قرار خبرة ودار عبرة. أنتم مختبرون فيها ومحاسبون عليها فإن الدنيا رنق مشربها (3) ردغ مشرعها. يونق منظرها (4) ويوبق مخبرها. غرور حائل (5). وظل زائل. وسناد


= العقاب ومن جرى عليها استحق جزيل الثواب (1) النذر جمع نذير أي الاخبار الالهية المنذرة بالعقاب على سوء الاعمال أو هو مفرد بمعنى الانذار (2) ضرب الامثال جاء بها في الكلام لايضاح الحجج وتقريرها في الاذهان. ووقت الآجال جعلها في أوقات محدودة لا متقدم عنها ولا متأخر. والرياش ما ظهر من اللباس، ووجه النعمة فيه أنه ساتر للعورة واق من الحر والبرد، وقد يراد بالرياش الخصب والغنى فيكون ألبسكم على المجاز. وأرفغ لكم أي أوسع يقال رفغ عيشه بالضم رفاغة أي اتسع. وأحاطكم بالاحصاء أي جعل إحصاء أعمالكم والعلم بها عملا كالسور لا تنفذون منه ولا تتعدونه ولا تشذ عنه شادة. وأرصد لكم الجزاء أعده لكم فلا محيص عنه. والرفد جمع رفدة ككسرة وكسر وهي العطية والصلة. والروافغ الواسعة. والحجج البوالغ الظاهرة المبينة. ووظف لكم مددا أي قدر لكم. والمدد جمع مدة أي عين لكم أزمنة تحيون فيها. في قرار خبرة أي في دار ابتلاء واختبار وهي دار الدنيا وفيها الاعتبار والاتعاظ والحساب عليها أي على ما يؤتى من خير وشر (3) رنق كفرح كدر، وردغ كثير الطين والوحل. والمشرع مورد الشاربة للشرب (4) يونق يعجب، ويوبق يهلك (5) حائل اسم فاعل من حال إذا تحول وانتقل أي ان شأنها الغرور الذي لا بقاء له، وجاء في بعض الروايات بعد هذه الفقرة (وضوء آفل) أي غائب لا يلبث أن يظهر حتى يغيب

[ 134 ]

مائل (1) حتى إذا أنس نافرها واطمأن ناكرها قمصت بأرجلها (2). وقنصت بأحبلها. وأقصدت بأسهمها. وأعلقت المرء أوهاق المنية (3). قائدة له إلى ضنك المضجع (4) ووحشة المرجع. ومعاينة المحل (5) وثواب العمل. وكذلك الخلف يعقب السلف. لا تقلع المنية اختراما (6) ولا يرعوي الباقون اجتراما (7). يحتذون مثالا ويمضون أرسالا إلى غاية الانتهاء. وصيور الفناء (8) حتى إذا تصرمت الامور وتقضت


(1) السناد بالكسر ما يستند إليه ودعامة يسند بها السقف، وناكرها اسم فاعل من نكر الشئ كعلمه أي جهله فأنكره (2) قمص الفرس وغيره يقمص من باب ضرب ونصر قمصا وقماصا أي استن وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معا ويعجب، وفي المثل المضروب لضعيف لا حراك به وعزيز ذل (ما بالعير من قماص) وإنما قال أرجل وليس للدابة إلا رجلان لانه نزل اليدين لها منزلة الارجل لان المشي على جميعها وروى بأرحلها بالحاء جمع رحل: الناقة، وقنصت بأحبلها أي اصطادت وأوقعت من اغتر بها في شباكها وحبالها، وأقصدت قتلت مكانها من غير تأخير (3) علقت به وربطت بعنقه. أوهاق المنية جمع وهق بالتحريك والتسكين أي حبال الموت (4) ضنك المضجع ضيق المرقد والمراد القبر (5) معاينة المحل مشاهدة مكانه من النعيم والجحيم. وثواب العمل جزاؤه الاعم من شقاء وسعادة. والخلف المتأخرون والسلف المتقدمون. ويعقب السلف يروى فعلا أي يتبع. ويروى بعقب بباء الجر فيكون عقب بالسكون بمعنى بعد وأصله جرى الفرس بعد جريه. يقال لهذا الفرس عقب حسن (6) لا تقلع أي لا تكف المنية عن اخترامها أي استئصالها للاحياء (7) لا يرعوي الباقون أي لا يرجعون ولا يكفون عن اجترام السيئات ويحتذون مثالا أي يشاكلون بأعمالهم صور أعمال من سبقهم ويقتدون بهم، ويمضون أرسالا جمع رسل بالتحريك وهو القطيع من الابل والغنم والخيل (8) صيور الامر كتنور مصيره وما يؤول إليه، يريد الامام من =

[ 135 ]

الدهور وأزف النشور (1) أخرجهم من ضرائح القبور وأوكار الطيور. وأوجرة السباع. ومطارح المهالك سراعا إلى أمره. مهطعين إلى معاده (2). رعيلا صموتا قياما صفوفا ينفذهم البصر (3) ويسمعهم الداعي. عليهم لبوس الاستكانة (4). وضرع الاستسلام والذلة. قد ضلت الحيل. وانقطع الامل. وهوت الافئدة كاظمة (5) وخشعت الاصوات مهينمة. وألجم العرق. وعظم الشفق وأرعدت


= ذلك أن الدنيا لا تزال تغر بنيها ليأنسوا إليها بالارتياح إلى لذائذها واستسهال احتمال آلامها ثم تنقلب بهم إلى ما لا بد منه وهم في غفلة لاهون (1) أزف النشور قرب البعث، والضمير في أخرجهم إلى البعث على سبيل المجاز أو إلى الله تعالى. والضرائح جمع ضريح الشق وسط القبر وأصله من ضرحه دفعه وأبعده فان المقبور مدفوع منبوذ وهو أبعد الاشياء عن الاحياء. والاوكار جمع وكر مسكن الطير. والاوجرة جمع وجار ككتاب الجحر، والذين يبعثون من الاوكار والاوجرة هم الذين افترسهم الطيور الصائدة والسباع الكاسرة (2) مهطعين أي مسرعين إلى معاده سبحانه الذي وعد أن يعيدهم فيه، وقوله الرعيل القطعة من الخيل. شبههم في تلاحق بعضهم ببعض برعيل الخيل أي الجملة القليلة منها لان الاسراع لا يدع أحدا منهم ينفرد عن الآخر فإن الانفراد من الابطاء، ولا يدعهم يجتمعون جما فان التضام والالتفاف إنما يكون من الاطمئنان (3) ينفذهم البصر بجاوزهم أي يأتي عليهم ويحيط بهم أي لا يعزب واحد منهم عن بصر الله (4) اللبوس بالفتح ما يلبس. والاستكانة الخضوع. والضرع بالتحريك الوهن والضعف والخشوع، هذا لو جعلنا عليهم متعلقا بمحذوف خبر عن لبوس وضرع فإن جعلناه متعلقا بالداعي بمعنى المنادي والصائح عليهم جعلنا لبوس جملة مبتدأه، ويكون لبوس جمع لابس، وضرع محركة اسم جمع للضريع بمعنى الذليل (5) هوت القلوب خلت من المسرة والامل من النجاة، كاظمة أي ساكنة كاتمة لما =

[ 136 ]

الاسماع لزبرة الداعي إلى فصل الخطاب (1) ومقابضة الجزاء. ونكال العقاب. ونوال الثواب. عباد مخلوقون اقتدارا. ومربوبون اقتسارا (2) ومقبوضون احتضارا. ومضمنون أجداثا. وكائنون رفاتا. ومبعوثون أفرادا. ومدينون جزاء. ومميزون حسابا. قد أمهلوا في طلب المخرج (3)


= يزعجها من الفزع ومهينمة أي متخافية، والهينمة الكلام الخفي، وألجم العرق كثر حتى امتلات به الافواه لغزارته فمنعها من النطق وكان كاللجام. والشفق محركة الخوف (1) أرعدت عرتها الرعدة. وزبرة الداعي صوته وصيحته ولا يقال زبره إلا إذا كان فيها زجر وانتهار فإنها واحدة الزبر أي الكلام الشديد، والمقابضة المعاوضة أي مبادلة الجزاء الخير بالخير والشر بالشر (2) مربوبون مملوكون، والاقتسار الغلبة والقهر أي أنهم كما خلقوا باقتدار الله سبحانه وقوته فهم مملوكون له بسطوة عزته لا خيرة لهم في ذلك وإذا جاء الاجل قبضت أرواحهم إليه بما يحضر عند الاجل من مرهقات الارواح والقوى المسلطة على الفناء. واحتضر فلان حضرته الملائكة تقبض روحه. وكانت العرب تقول لبن محتضر أي فاسد يعنون أن الجن حضرته، يقال اللبن محتضر فغط اناءك. والاجداث جمع جدث وهو القبر واجتدث الرجل اتخذ حدثا. ويقال جدف بالفاء. ومضمون الاجداث مجعولون في ضمنها. والرفات الحطام ويقال رفته كنصر وضرب أي كسره ودقه أي فته بيده كما يفت المدر والعظم البالي. ومبعوثون أفرادا أي كل يسأل عن نفسه لا يلتفت لرابطة تجمعه مع غيره. ومدينون أي مجزيون والدين الجزاء قال " مالك يوم الدين " ومميزون حسابا كل يحاسب على عمله منفصلا عمن سواه (لا تزر وازرة وزر أخرى) (3) المخرج المخلص من ربقة المعصية بالتوبة، والانابة المخلصة، والمنهج الطريق الواضحة التي دلت عليها الشريعة المطهرة والمستعتب المسترضى ويقال أيضا استعتبه أناله العتبى وهي الرضى. وإنما ضرب المثل بمهل المستعتب لانك إذا استرضيت شخصا وطلبت منه أن يرضى لا ترهقه في المطالبة بل تفسح له حتى يرضى بقلبه لا بلسانه، أي أن الله فسح لهم في الآجال حتى يتمكنوا من ارضائه وأوتوا من العمر مهلة من ينال العتبى أي الرضا لو أحسن العمل. استعتبه أناله العتبى فهو المستعتب والمفعول =

[ 137 ]

وهدوا سبيل المنهج. وعمروا مهل المستعتب. وكشفت عنهم سدف الريب (1) وخلوا لمضمار الجياد (2). وروية الارتياد. وأناة المقتبس المرتاد (3) في مدة الاجل ومضطرب المهل. فيالها أمثالا صائبة. ومواعظ شافية. لو صادفت قلوبا زاكية. وأسماعا واعية. وآراء عازمة. وألبابا حازمة. فاتقوا الله تقية من سمع فخشع. واقترف فاعترف (4) ووجل فعمل، وحاذر فبادر. وأيقن فأحسن. وعبر فاعتبر. وحذر فازدجر وأجاب فأناب (5). ورجع فتاب. واقتدى فاحتذى. وأري فرأى.


= مستعتب (1) السدف جمع سدفة بالفتح الظلمة، والريب جمع ريبة وهي الشبهة وإبهام الامر، وكشف ذلك بما أبان من البراهين الواضحة (2) خلوا تركوا في مجال يتسابقون فيه إلى الخيرات. والجياد من الخيل كرامها، والمضمار المكان الذي تضمر فيه الخيل، والمدة التي تضمر فيها أيضا. والروية إعمال الفكر في الامر ليأتي على أسلم وجوهه والارتياد هنا طلب ما يراد (3) الاناة الانتظار والتؤدة. والمقتبس المرتاد أي الذي أخذ بيده مصباحا ليرتاد على ضوئه شيئا غاب عنه، ومثل هذا يتأنى في حركته خوف أن يطفأ مصباحه وخشية أن يفوته في بعض خطواته ما يفتش عليه لو أسرع فلذا ضرب المثل به. والمضطرب مدة الاضطراب أي الحركة في العمل (4) اقترف اكتسب ومثله قرف يقرف لعياله أي يكسب، ووجل خاف وجلا وموجلا بفتح الميم والجيم. وبادر سارع. وعبر مبني للمجهول مشدد الباء أي عرضت عليه العبر مرارا كثيرة فاعتبر أي اتعظ وحذر مبني للمجهول أيضا أي خوف من عواقب الخطايا، فازدجر أي امتنع عنها و يروى وحذر فحذر وزجر فازدجر (5) أجاب داعي الله إلى طاعته فاناب إليه أي رجع، واحتذى شاكل بين عمله وعمل مقتداه أي أحسن القدوة. وأرى بضم الهمزة مبني للمجهول أي أرته الشريعة ما يجب عليه وما يجب له وما يعقب الطاعة وما يعقب المعصية فرأى =

[ 138 ]

فأسرع طالبا. ونجا هاربا. فأفاد ذخيرة (1) وأطاب سريرة. وعمر معادا. واستظهر زادا (2). ليوم رحيله. ووجه سبيله. وحال حاجته. وموطن فاقته. وقدم أمامه لدار مقامه. فاتقوا الله عباد الله جهة ما خلقكم له (3). واحذروا منه كنه ما حذركم من نفسه (4) واستحقوا منه ما أعد لكم بالتنجز لصدق ميعاده (5) والحذر من هول معاده " منها " جعل لكم أسماعا لتعي ما عناها. وأبصارا لتجلو عن عشاها (6) وأشلاء جامعة لاعضائها. ملائمة لاحنائها (7). في تركيب صورها ومدد


= ذلك رؤية صحيحة ترتب عليها حسن العمل (1) أفاد الذخيرة استفادها واقتناها وهو من الاضداد (2) استظهر زادا حمل زادا. حمل ظهر راحلته إلى الآخرة والكلام تمثيل، ووجه السبيل المقصد الذي يركب السبيل لاجله (3) الجهة مثلثة الناحية والجانب وهو ظرف متعلق بحال من ضمير اتقوا أي متوجهين جهة ما خلقكم لاجله من العمل النافع لكم الباقي أثره لا خلافكم (4) حذرنا من نفسه سبحانه أن نتعرض لما يغضبه بمخالفة أوامره ونواهيه. وكنه ذلك غايته ونهايته أي احذروا نهاية ما حذركم ولا تقعوا في شئ مما يغضبه وقد يكون المراد من كنه ما حذرنا هو البحث عن كنهه وحقيقته فيأمرنا الامام بالتقوى والبعد عن البحث في حقيقته وكنهه فإن الوصول إلى كنه ذاته محال (5) تنجز الوعد طلب وفائه على عجل وتنجز ما وعد الله إنما يكون بالعمل له وبهذا التنجز العملي يستحق ما أعد الله للصالحين. والحذر معطوف على التنجز (6) عناها أهمها وتعيه تحفظه وتجلو من جلا عن المكان فارقه أي تخلص من عماها أي لتبصر ولا تكون مبصرة حقيقة حتى يفيدها الابصار حركة إلى نافع وانقباضا عن ضار. والاشلاء جمع شلو الجسد أو العضو وعلى الثاني يكون المعنى أن كل عضو فيه اعضاء باطنة أو صغيرة (7) الاحناء جمع حنو بالكسر كل ما اعوج من البدن وملائمة =

[ 139 ]

عمرها. بأبدان قائمة بأرفاقها (1) وقلوب رائدة لارزاقها. في مجللات نعمه (2) وموجبات مننه. وحواجز عافيته. وقدر لكم أعمارا سترها عنكم. وخلف لكم عبرا من آثار الماضين قبلكم من مستمتع خلاقهم ومستفسح خناقهم. أرهقتهم المنايا دون الآمال. وشذ بهم عنها تخرم الآجال. لم يمهدوا في سلامة الابدان، ولم يعتبروا في أنف الاوان (3). فهل ينتظر أهل بضاضة الشباب إلا حواني الهرم. وأهل غضارة الصحة إلا نوازل السقم. وأهل مدة البقاء إلا آونة الفناء (4) مع قرب الزيال (5) وأزوف الانتقال وعلز القلق. وألم المضض وغصص الجرض. وتلفت الاستغاثة بنصرة الحفدة والاقرباء والاعزة


= الاعضاء لها تناسبها معها، وقد يراد من الاحناء الجهات والجوانب. وملائمة حال من الاعضاء، وملاءمة الاعضاء للجهات التي وضعت فيها أن يكون العضو في تلك الجهة أنفع منه في غيرها، تكون العين في موضعها المعروف أنفع من كونها في قمة الرأس مثلا، وقوله تركيب صورها أي آتية في صورها المركبة كما تقول ركب في سلاحه أي متسلحا (1) الارفاق جمع رفق بالكسر المنفعة أو ما يستعان به عليها. ورائدة أي طالبة (2) مجللات على صيغة اسم الفاعل من جلله بمعنى غطاه أي غامرات نعمه من قولهم سحاب مجلل أي يطبق الارض (3) الخلاق النصيب الوافر من الخير، والخناق بالفتح حبل يخنق به وبالضم داء يمتنع معه نفوذ النفس، وأرهقتهم أعجلتهم، وأنف بضمتين يقال أمر أنف مستأنف لم يسبق به قدر والانف أيضا المشية الحسنة (4) البضاضة رخص ورقة الجلد وامتلاؤه والغضارة النعمة والسعة والخصب (5) الزيال مصدر زايله =

[ 140 ]

والقرناء. فهل دفعت الاقارب أو نفعت النواحب (1) وقد غودر في محلة الاموات رهينا (2) وفي ضيق المضجع وحيدا. قد هتكت الهوام جلدته (3) وأبلت النواهك جدته. وعفت العواصف آثاره. ومحا الحدثان معالمه (4) وصارت الاجساد شحبة بعد بضتها، والعظام نخرة بعد قوتها (5) والارواح مرتهنة بثقل أعبائها (6) موقنة بغيب أنبائها. لا تستزاد من صالح عملها، ولا تستعتب من سئ زللها (7) أو لستم أبناء القوم والآباء، وإخوانهم والاقرباء. تحتذون أمثلتهم. وتركبون قدتهم (8) وتطأون جادتهم. فالقلوب قاسية عن حظها. لاهية عن


= مزايلة وزيالا فارقه (1) الازوف الدنو والقرب والعلز قلق وخفة وهلع يصيب المريض والمحتضر. والمضض بلوغ الحزن من القلب، والجرض الريق، والحفدة البنات وأولاد الاولاد والاصهار (2) غودر ترك وبقي، ورهينا حبيسا (3) هتكت جذبت جلدته فقطعتها. والهوام الحيات وكل ذي سم يقتل (4) النواهك من قولهم نهكه السلطان إذا بالغ في عقوبته. وعفت أي محت، والعواصف الرياح الشديدة، والمعالم جمع معلم وهو ما يستدل به (5) الشحبة بفتح فكسر الهالكة. البضة هنا الواحدة من البض وهو مصدر بض الماء إذا ترشح قليلا قليلا أي بعد امتلائها حتى كان الماء يترشح منها. ونخرة بالية (6) الاعباء الاثقال جمع عبء أي حمل. وموقنة بغيب أنبائها أي منكشفا لها ما كان غائبا عنها من أخبارها وما أعد لها في الآخرة (7) لا تستزاد الخ أي لا يطلب منها زيادة العمل فإنه لا عمل بعد الموت. ولا تستعتب مبني للمفعول أي لا يطلب منها تقديم العتبى أي التوبة من العمل القبيح أو مبني للفاعل أي لا يمكنها أن تطلب الرضاء والاقالة من خطئها السئ (8) القدة بكسر فتشديد الطريقة. وتطأون جادتهم تسيرون =

[ 141 ]

رشدها سالكة في غير مضمارها. كأن المعني سواها (1) وكأن الرشد في إحراز دنياها. واعلموا أن مجازكم على الصراط ومزالق دحضه وأهاويل زلله وتارات أهواله (2) فاتقوا الله تقية ذي لب شغل التفكر قلبه. وأنصب الخوف بدنه (3)، وأسهر التهجد غرار نومه وأظمأ الرجاء هواجر يومه وظلف الزهد شهواته، وأرجف الذكر بلسانه وقدم الخوف لا بانه، وتنكب المخالج عن وضح السبيل، وسلك أقصد المسالك إلى النهج المطلوب، ولم تفتله فاتلات الغرور (4)، ولم تعم


= على سبيلهم بلا انحراف عنهم في شئ أي يصيبكم ما أصابهم بلا أقل تفاوت (1) كأن المعنى أي المقصود بالتكاليف الشرعية والموجه إليه التحذير والتبشير غيرها، وقوله وكأن الرشد الخ أي مع أن الرشد لم ينحصر في هذا بل الرشد كل الرشد إحراز الآخرة لا الدنيا (2) أن مجازكم الخ أنكم تجوزون على الصراط مع ما فيه من مزالق الدحض. والدحض هو انقلاب الرجل بغتة فيسقط المار. والزلل هو انزلاق القدم والتارات النوب والدفعات (3) أنصب الخوف بدنه أتعبه (4) والغرار بالكسر القليل من النوم وغيره وأسهره التهجد أي أزال قيام الليل نومه القليل فأذهبه بالمرة. وأظمأ الرجاء الخ أي أظمأ نفسه في هاجرة اليوم. والمعنى صام رجاء الثواب. وظلف الزهد الخ أي منعها. وظلف منع. وأرجف الذكر أرجف به أي حركه ويروى أوجف بالواو أي أسرع كأن الذكر لشدة تحريكه اللسان موجف به كما توجف الناقة براكبها، وإبان الشئ بكسر فتشديد وقته الذي يلزم ظهوره فيه أي أنه خاف في الوقت الذي ينفع فيه الخوف، ويروى لامانه أي خاف في الدنيا ليأمن في الآخرة. وتنكب الشئ مال عنه، والمخالج الشعوب من الطريق المائلة عن وضحه والوضح محركة الجادة. وعن وضح متعلق بالمخالج أي تنكب المائلات عن الجادة. وأقصد المسالك أقومها ولم تفتله الخ أي لم ترده ولم تصرفه ولم تعم عليه أي لم تخف عليه الامور المشتبهة حتى يقع فيها تحذر على غير =

[ 142 ]

عليه مشتبهات الامور. ظافرا بفرحة البشرى وراحة النعمى (1) في أنعم نومه وآمن يومه. قد عبر معبر العاجلة حميدا (2). وقدم زاد الآجلة سعيدا. وبادر من وجل. وأكمش في مهل ورغب في طلب وذهب عن هرب (3) وراقب في يومه غده. ونظر قدما أمامه (4) فكفى بالجنة ثوابا ونوالا. وكفى بالنار عقابا ووبالا. وكفى بالله منتقما ونصيرا. وكفى بالكتاب حجيجا وخصيما (5) أوصيكم بتقوى الله الذي أعذر بما أنذر. واحتج بما نهج (6). وحذركم عدوا نفذ في الصدور خفيا ونفث في الآذان تجيا (7)، فأضل وأردى، ووعد فمنى،


= بصيرة (1) النعمى بالضم سعة العيش ونعيمه، ظافرا حال من الضمائر السابقة العائدة على ذي لب وفي أنعم متعلق براحة النعمى وجعل اتصافه بتلك الاوصاف في حال الظفر تمثيلا لالتصاق السعادة بالفضيلة وملازمتها إياها (2) العاجلة الدنيا. وسميت معبرا لانها طريق يعبر منها إلى الآخرة وهي الآجلة. بادر من وجل أي سبق إلى خير الاعمال خوفا من لقاء الاهوال. وأكمش أسرع ومثله انكمش وكمشته تكميشا اعجلته. والمراد جد السير في مهلة الحياة (3) أي رغب فيما ينبغي طلبه وذهب وانصرف عما يجب الهروب منه (4) القدم بفتحتين السابق أي نظر إلى ما يتقدم أمامه من الاعمال ويروى قدما بضمتين وهو المضي أمام أي مضى متقدما (5) الكتاب القرآن. وحجيجا وخصيما أي مقنعا لمن خالفه بأنه جلب الهلاك على نفسه، وقد يراد من الكتاب ما أحصى من الاعمال على العامل إذا عرض عليه يوم الحساب (6) أعذر بما أنذر ما مصدرية أعذر أي سلب عذر المعتذر بإنذاره إياه بعواقب العمل وقامت له الحجة على الضالين بما نهج وأوضح من طرق الخير والفضيلة (7) ذلك العدو هو الشيطان ونفذ في الصدور الخ تمثيل لدقة مجاري وسوسته في الانفس فهو فيما يسوله =

[ 143 ]

وزين سيئات الجرائم. وهون موبقات العظائم. حتى إذا استدرج قرينته (1) واستغلق رهينته أنكر ما زين (2) واستعظم ما هون وحذر ما أمن. ومنها في صفة خلق الانسان أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الارحام (3) وشغف الاستار نطفة دهاقا وعلقة محاقا. وجنينا وراضعا، ووليدا ويافعا (4). ثم منحه قلبا حافظا ولسانا لافظا وبصرا لاحظا. ليفهم معتبرا. ويقصر مزدجرا. حتى إذا قام اعتداله واستوى مثاله (5) نفر مستكبرا وخبط سادرا (6). ماتحا في غرب هواه (7)، كادحا سعيا لدنياه. في لذات


= يجري مجرى الانفاس ويسلك بما يأتي من مسالك الاصدقاء كأنه نجى يسارك وينفث في أذنك بما تظنه خيرا لك. واردى أهلك. ووعد فمنى أي صور الاماني كذبا (1) القرينة النفس التي يقارنها بالوسوسة. واستدرجها أنزلها من درجة الرشد إلى درجته من الضلالة، واستغلق الرهن جعله بحيث لا يمكن تخليصه (2) أنكر الخ بيان لعمل الشيطان وبراءته ممن أغواه عند ما تحق كلمة العذاب (3) أم بمعنى بل الانتقالية بعد ما بين وصف الشيطان انتقل لبيان صفة الانسان، وشغف الاستار جمع شغاف هو في الاصل غلاف القلب استعاره للمشيمة (4) دهاقا متتابعا دهقها أي صبها بقوة وقد تفسر الدهاق بالممتلئة أي ممتلئة من جراثيم الحياة وعلقة محاقا أي خفي فيها ومحق كل شكل وصورة. والجنين الولد بعد تصويره ما دام في بطن أمه، واليافع الغلام راهق العشرين ويقصر يكف عن الرذائل ممتنعا عنها بالعقل والروية (5) استوى مثاله أي بلغت قامته حد ما قدر لها من النمو (6) خبط البعير إذا ضرب بيديه الارض لا يتوقى شيئا والسادر المتحير والذي لا يهتم ولا يبالي ما صنع (7) متح الماء نزعه وهو في أعلى البئر والماتح الذي ينزل البئر إذا قل ماؤها فيملا الدلو. والغرب الدلو العظيمة أي لا يستقي =

[ 144 ]

طربه، وبدوات أربه لا يحتسب رزية (1) ولا يخشع تقية. فمات في فتنته غريرا، وعاش في هفوته يسيرا. لم يفد (2) عوضا ولم يقض مفترضا. دهمته فجعات المنية في غبر جماحه، وسنن مراحه (3)، فظل سادرا (4) وبات ساهرا. في غمرات الآلام. وطوارق الاوجاع والاسقام. بين أخ شقيق ووالد شفيق. وداعية بالويل جزعا. والادمة للصدر قلقا (5). والمرء في سكرة ملهية. وغمرة كارثة (6) وأنة موجعة. وجذبة مكربة. وسوقة متعبة. ثم أدرج في أكفانه مبلسا (7) وجذب منقادا


= إلا من الهوى. والكدح شدة السعي، والبدوات جمع بدأة وهي ما بدا من الرأي أي ذاهبا فيما يبدو له من رغائبه غير متقيد بشريعة ولا ملتزم صدور فضيلة (1) لا يحتسب رزية أي لا يظنها ولا يفكر في وقوعها ولا يخاشع من التقية والخوف من الله تعالى وغريرا براءين مهملتين أي مغرورا، ويروى عزيزا بمعجمتين أي شابا وهي رواية ضعيفة غير ملائمة سياق النظم وعاش في هفوته الخ عاش في خطأته وخطيئاته الناشئة عن الخطأ في تقدير العواقب زمنا يسيرا وهو مدة الاجل ويروى أسيرا (2) لم يفد أي لم يستفد ثوابا (3) دهمته غشيته وغبر بضم فتشديد جمع غابر أي باقى أي في بقايا تعنته على الحق وعدم انقياده له. والسنن الطريقة، والمرح شدة الفرح والبطر (4) ظل سادرا أي حائرا وذلك بعد ما غشيته فجعات المنية وهي عوارض الامراض المهلكة التي تفضي إلى الموت (5) اللادمة الضاربة (6) الغمرة الشدة تحيط بالعقل والحواس. والكارثة القاطعة للآمال أو من كربه الغم إذا اشتد عليه، والانة بفتح فتشديد الواحدة من الان أي التوجع. وجذبة مكربة أي جذبات الانفاس عند الاحتضار، والسوقة من ساق المريض نفسه عند الموت سوقا وسياقا وسيق على المجهول شرع في نزع للروح (7) أبلس يبلس يئس فهو مبلس. وسلسا أي سهلا لعدم قدرته على الممانعة

[ 145 ]

سلسا. ثم ألقي على الاعواد. رجيع وصب (1) ونضو سقم تحمله حفدة الولدان (2) وحشدة الاخوان، إلى دار غربته. ومنقطع زورته (3) حتى إذا انصرف المشيع. ورجع المتفجع أقعد في حفرته نجيا لبهتة السؤال وعثرة الامتحان (4). وأعظم ما هنالك بلية نزول الحميم (5) وتصلية الجحيم وفورات السعير وسورات الزفير. لا فترة مريحة (6). ولا دعة مزيحة. ولا قوة حاجزة. ولا موتة ناجزة. ولا سنة مسلية بين أطوار الموتات (7) وعذاب الساعات إنا بالله عائذون عباد الله أين الذين عمروا فنعموا (8) وعلموا ففهموا وأنظروا فلهوا (9)


(1) الرجيع من الدواب ما رجع به من سفر إلى سفر فكل. والوصب التعب، ونضو بالكسر مهزول (2) الحفدة الاعوان، والحشدة المسارعون في التعاون (3) منقطع الزورة حيث لا يزار (4) النجى من تحادثه سرا والميت لا يسمع كلامه سوى الملائكة المكلمين له. وبهتة السؤال حيرته (5) الحميم في الاصل الماء الحار، والتصلية الاحراق والمراد هنا دخول جهنم. والسورة الشدة. والزفير صوت النار عند توقدها (6) الفترة السكون أي لا يفتر العذاب حتى يستريح المعذب من الالم، ولا تكون دعة أي راحة حتى تزيح ما أصابه من التعب، وليست له قوة تحجز عنه وترد غواشي العذاب ولا بموته يجد موتة حاضرة تذهب بإحساسه عن الشعور بتلك الآلام. والناجز الحاضر والسنة بالكسر والتخفيف أوائل النوم، مسلية ملهية عن الالم (7) أطوار الموتات الخ كل نوبة من نوب العذاب كأنها موت لشدتها. وأطوار هذا الموتات ألوانها وأنواعها (8) عمروا الخ عاشوا فتنعموا (9) أمهلوا فألهاهم المهل عن العمل وذلك بعد أن =

[ 146 ]

وسلموا فنسوا (1). أمهلوا طويلا. ومنحوا جميلا. وحذروا أليما. ووعدوا جسيما. احذروا الذنوب المورطة والعيوب المسخطة (2) أولي الابصار والاسماع. والعافية والمتاع. هل من مناص أو خلاص. أو معاذ أو ملاذ. أو فرار أو محار (3) أم لا فأنى تؤفكون (4) أم أين تصرفون. أم بما ذا تغترون وإنما حظ أحدكم من الارض ذات الطول والعرض. قيد قده (5) متعفرا على خده الآن. عباد الله والخناق مهمل (6) والروح مرسل. في فينة الارشاد (7) وراحة الاجساد وباحة الاحتشاد (8). ومهل البقية. وأنف المشية (9). وإنظار التوبة وانفساح الحوبة (10) قبل الضنك والمضيق. والروع والزهوق (11) وقبل قدوم الغائب المنتظر (12) وأخذة العزيز المقتدر


= علموا ففهموا وكان مقتضى الفهم أن لا يغتروا بالمهلة ويضيعوا الفرصة (1) سلمت عاقباتهم وأرزاقهم فنسوا نعمة الله في السلامة (2) المورطة المهلكة (3) محار أي مرجع إلى الدنيا بعد فراقها (4) تؤفكون تقلبون أي تنقلبون (5) قيد قده بكسر القاف وفتحها من اللفظ الاول وفتحها من الثاني مقدار طوله يريد مضجعه من القبر (6) الخناق الحبل الذي يخنق به وإهماله عدم شده على العنق مدى الحياة، أي وأنتم في قدرة من العمل وسعة من الامل (7) الفينة بالفتح الحال والساعة والوقت ويروى فينة الارتياد بمعنى الطلب (8) باحة الدار ساحتها. والاحتشاد الاجتماع أي أنتم في ساحة يسهل عليكم فيها التعاون على البر باجتماع بعضكم على بعض (9) أنف بضمتين مستأنف المشيئة لو أردتم استئناف مشيئة وإرادة حسنة لامكنكم (10) الحوبة الحالة أو الحاجة (11) الروع الخوف. والزهوق الاضمحلال (12) الغائب المنتظر الموت

[ 147 ]

وفي الخبر أنه عليه السلام لما خطب بهذه الخطبة اقشعرت لها الجلود. وبكت العيون ورجفت القلوب. ومن الناس من يسمى هذه الخطبة الغراء 84 - ومن خطبة له عليه السلام في ذكر عمرو بن العاص عجبا لابن النابغة (1) يزعم لاهل الشام أن في دعابة (2) وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس (3) لقد قال باطلا ونطق آثما. أما وشر القول الكذب إنه ليقول فيكذب. ويعد فيخلف. ويسأل فيلحف (4) ويسأل فيبخل. ويخون العهد. ويقطع الال (5) فإذا كان عند الحرب فأي زاجر وآمر هو. ما لم تأخذ السيوف مآخذها (6) فإذا كان ذلك كان أكبر مكيدته أن يمنح القرم سبته (7) أما والله إني ليمنعني من اللعب ذكر الموت. وإنه ليمنعه من قول الحق نسيان الآخرة.


(1) النابغة المشهورة فيما لا يليق بالنساء من نبغ إذا ظهر (2) الدعابة بالضم المزاح واللعب. وتلعابة بالكسر كثير اللعب (3) اعافس أعالج الناس وأضاربهم مزاحا. ويقال المعافسة معالجة النساء بالمغازلة. والممارسة كالمعافسة (4) فيلحف أي يلح. ويسأل ههنا مبني للفاعل. ويسأل في الجملة بعدها للمفعول (5) الال بالكسر القرابة والمراد أنه يقطع الرحم (6) أي أنه في الحرب زاجر وآمر عظيم أي محرض حاث ما لم تأخذ السيوف مأخذها فعند ذلك يجبن كما قال فإذا كان ذلك الخ (7) السبة بالضم الاست تقريع له بفعلته عندما نازل أمير المؤمنين في واقعة صفين فصال عليه وكاد يضرب =

[ 148 ]

إنه لم يبايع معاوية حتى شرط له أن يؤتيه أتية ويرضخ له على ترك الدين رضيخة (1) 85 - ومن خطبة له عليه السلام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. الاول لا شئ قبله. والآخر لا غاية له. لا تقع الاوهام له على صفة ولا تقعد القلوب منه على كيفية (2) ولا تناله التجزئة والتبعيض. ولا تحيط به الابصار والقلوب (منها) فاتعظوا عباد الله بالعبر النوافع. واعتبروا بالآي السواطع (3) وازدجروا بالنذر البوالغ (4) وانتفعوا بالذكر والمواعظ. فكأن قد علقتكم مخالب المنية. وانقطعت منكم علائق الامنية. ودهمتكم مفظعات الامور (5) والسياقة إلى الورد المورود (6) وكل نفس معها سائق وشهيد. سائق يسوقها إلى محشرها


= عنقه فكشف عورته فالتفت أمير المؤمنين عنه وتركه (1) الاتية العطية ورضخ له أعطاه قليلا والمراد بالاتيه والرضيخة ولاية مصر (2) تقعد مجاز عن استقرار حكمها أي ليست له كيفية فتحكم بها (3) الآى جمع آية وهي الدليل. والسواطع الظاهرة الدلالة (4) البوالغ جمع البالغة غاية البيان لكشف عواقب التفريط. والنذر جمع نذير بمعنى الانذار أو المخوف والمراد إنذار المنذرين (5) المفظعات من أفظع الامر إذا اشتد ويقال أفظع الرجل للمجهول إذا نزلت به الشدة (6) الورد بالكسر الاصل فيه =

[ 149 ]

وشاهد يشهد عليها بعملها (ومنها في صفة الجنة) درجات متفاضلات. ومنازل متفاوتات. لا ينقطع نعيمها ولا يظعن مقيمها. ولا يهرم خالدها. ولا يبأس ساكنها (1). 86 - ومن خطبة له عليه السلام قد علم السرائر. وخبر الضمائر. له الاحاطة بكل شئ. والغلبة لكل شئ والقوة على كل شئ. فليعمل العامل منكم في أيام مهله قبل إرهاق أجله (2) وفي فراغة قبل أوان شغله. وفي متنفسه قبل أن يؤخذ بكظمه (3) وليمهد لنفسه وقدومه. وليتزود من دار ظعنه لدار إقامته. فالله الله أيها الناس فيما استحفظكم من كتابه واستودعكم من حقوقه. فإن الله سبحانه لم يخلقكم عبثا ولم يترككم سدى ولم يدعكم في جهالة ولا عمى. قد سمى آثاركم (4) وعلم أعمالكم وكتب آجالكم. وأنزل عليكم الكتاب تبيانا لكل شئ


= الماء يورد للري والمراد به الموت أو المحشر (1) بئس كسمع اشتدت حاجته (2) إرهاق الاجل أن يعجل المفرط عن تدارك ما فاته من العمل أي يحول بينه وبينه (3) الكظم بالتحريك الحلق أو مخرج النفس، والاخذ بالكظم كناية عن التضييق عند مداركة الاجل (4) بين لكم أعمالكم وحددها

[ 150 ]

وعمر فيكم نبيه أزمانا (1) حتى أكمل له ولكم فيما أنزل من كتابه دينه الذي رضي لنفسه وأنهى إليكم على لسانه محابه من الاعمال ومكارهه (2) ونواهيه وأوامره. فألقى إليكم المعذرة واتخذ عليكم الحجة. وقدم إليكم بالوعيد. وأنذركم بين يدي عذاب شديد. فاستدركوا بقية أيامكم. واصبروا لها أنفسكم (3) فإنها قليل في كثير الايام التي تكون منكم فيها الغفلة والتشاغل عن الموعظة. ولا ترخصوا لانفسكم فتذهب بكم الرخص فيها مذاهب الظلمة (4) ولا تداهنوا فيهجم بكم (5) الادهان على المصيبة. عباد الله إن أنصح الناس لنفسه أطوعهم لربه. وإن أغشهم لنفسه أعصاهم لربه والمغبون من غبن نفسه (6) والمغبوط من سلم له دينه (7). والسعيد من وعظ بغيره والشقي من انخدع لهواه. واعلموا أن يسير الرياء شرك (8) ومجالسة أهل الهوى منساة للايمان (9). ومحضرة للشيطان. جانبوا الكذب فإنه مجانب للايمان. الصادق على شرف منجاة وكرامة. والكاذب على شفا مهواة


(1) عمر نبيه مد في أجله (2) محابه مواضع حبه وهي الاعمال الصالحة (3) اصبروا أنفسكم اجعلوا لانفسكم صبرا فيها (4) الظلمة جمع ظالم (5) المداهنة إظهار خلاف ما في الطوية والادهان مثله (6) المغبون المخدوع (7) والمغبوط المستحق لتطلع النفوس إليه والرغبة في نيل مثل نعمته (8) الرياء أن تعمل ليراك الناس وقلبك غير راغب فيه (9) منساة =

[ 151 ]

ومهانة ولا تحاسدوا فإن الحسد يأكل الايمان كما تأكل النار الحطب. ولا تباغضوا فإنها الحالقة (1). واعلموا أن الامل يسهي العقل وينسي الذكر (2) فأكذبوا الامل فإنه غرور. وصاحبه مغرور 87 - ومن خطبة له عليه السلام عباد الله إن من أحب عباد الله إليه عبدا أعانه الله على نفسه فاستشعر الحزن وتجلبب الخوف (3) فزهر مصباح الهدى في قلبه وأعد القرى ليومه النازل به (4) فقرب على نفسه البعيد وهون الشديد (5). نظر فأبصر. وذكر فاستكثر (6) وارتوى من عذب فرات. سهلت له


= للايمان موضع لنسيانه وداعية للذهول عنه، ومحضرة للشيطان مكان لحضوره وداع له (1) فإنها أي المباغضة الحالقة أي الماحية لكل خير وبركة (2) الامل الذي يذهل العقل وينسي ذكر الله وأوامره ونواهيه هو استقرار النفس على ما وصلت إليه غير ناظرة إلى تغير الاحوال ولا آخذة بالحزم في الاعمال (3) استشعر لبس الشعار وهو ما يلي البدن من اللباس، وتجلبب لبس الجلباب وهو ما يكون فوق جميع الثياب، والحزن العجز عن الوفاء بالواجب وهو قلبي لا يظهر له أثر في العمل الظاهر، أما الخوف فيظهر أثره في البعد عما يغضب الله والمسارعة للعمل فيما يرضيه وذلك أثر ظاهر. وزهر مصباح الهدى تلالا وأضاء (4) القرى بالكسر ما يهيأ للضيف وهو هنا العمل الصالح يهيؤه للقاء الموت وحلول الاجل (5) جعل الموت على بعده قريبا منه فعمل له ولذلك هان عليه الصبر عن اللذائذ الفانية والاخذ بالجد في إحراز الفضائل السامية وذلك هو الشديد (6) ذكر الله فاستكثر من العمل في =

[ 152 ]

موارده فشرب نهلا (1) وسلك سبيلا جددا (2) قد خلع سرابيل الشهوات وتخلى من الهموم إلا هما واحدا انفرد به (3) فخرج من صفة العمى ومشاركة أهل الهوى، وصار من مفاتيح أبواب الهدى ومغاليق أبواب الردى. قد أبصر طريقه. وسلك سبيله. وعرف مناره. وقطع غماره (4) استمسك من العرى بأوثقها. ومن الحبال بأمتنها. فهو من اليقين على مثل ضوء الشمس. قد نصب نفسه لله سبحانه في أرفع الأمور من إصدار كل وارد عليه. وتصيير كل فرع إلى أصله (5) مصباح ظلمات. كشاف عشاوات. مفتاح مبهمات. دفاع معضلات (6) دليل فلوات (7). يقول فيفهم ويسكت فيسلم. قد أخلص لله فاستخلصه. فهو من معادن دينه. وأوتاد أرضه. قد ألزم نفسه العدل


= رضاه والعذب والفرات مترادفان (1) النهل أول الشرب والمراد أخذ حظا لا يحتاج معه إلى العلل وهو الشرب الثاني (2) الجدد بالتحريك الارض الغليظة أي الصلبة المستوية ومثلها يسهل السير فيه (3) الهم الواحد هو هم الوقوف عند حدود الشريعة (4) جمع غمر بالفتح معظم البحر والمراد أنه عبر بحار المهالك إلى سواحل النجاة (5) لان من كان همه التزام حدود الله في أوامره ونواهيه نفذت بصيرته إلى حقائق سر الله في ذلك فصار من درجات العرفان بحيث لا يرد عليه أمر إلا أصدره على وجهه ولا يعرض له فرع إلا رده إلى أصله (6) عشاوات جمع عشاوة سوء البصر أو العمى أي أنه يكشف عن ذوي العشاوات عشاواتهم، ويروى عشاوات جمع عشوة بتثليث الاول وهي الامر الملتمس. والمعضلات الشدائد والامور لا يهتدى لوجهها (7) الفلوات =

[ 153 ]

فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه. يصف الحق ويعمل به. لا يدع للخير غاية إلا أمها (1) ولا مظنة إلا قصدها (2). قد أمكن الكتاب من زمامه (3) فهو قائده وإمامه. يحل حيث حل ثقله (4) وينزل حيث كان منزله. وآخر قد تسمى عالما وليس به (5). فاقتبس جهائل من جهال، وأضاليل من ضلال. ونصب للناس شركا من حبائل غرور وقول زور. قد حمل الكتاب على آرائه. وعطف الحق على أهوائه (6) يؤمن من العظائم ويهون كبير الجرائم. يقول أقف عند الشبهات وفيها وقع. وأعتزل البدع وبينها اضطجع. فالصورة صورة إنسان. والقلب قلب حيوان. لا يعرف باب الهدى فيتبعه. ولا باب العمى فيصد عنه. فذلك ميت الاحياء فأين تذهبون. وأنى تؤفكون (7). والاعلام


= جمع فلاة الصحراء الواسعة مجاز عن مجالات العقول في الوصول إلى الحقائق (1) أمها قصدها (2) مظنة أي موضع ظن لوجود الفائدة (3) الكتاب القرآن. وأمكنه من زمامه تمثيل لانقياده لاحكامه كأنه مطية والكتاب يقوده إلى حيث شاء (4) ثقل المسافر محركة متاعه وحشمه، وثقل الكتاب ما يحمل من أوامر ونواه (5) وآخر الخ هذا عبد آخر غير العبد الذي وصفه بالاوصاف السابقة يخالف في وصفه وصفه، واقتبس استفاد، جهائل جمع جهالة ويراد منها هنا تصور الشئ على غير حقيقته ولا يستفاد من الجهال إلا ذلك، والاضاليل الضلالة جمع أضلولة ويقال لا واحد لها من لفظها وهو الاشهر، والضلال بضم فتشديد جمع ضال (6) عطف الحق الخ حمل الحق على رغباته أي لا يعرف حقا إلا إياها (7) تؤفكون تقلبون وتصرفون بالبناء للمجهول. والاعلام الدلائل على الحق من معجزات ونحوها، والمنار جمع منارة والمراد هنا =

[ 154 ]

قائمة، والآيات واضحة، والمنار منصوبة فأين يتاه بكم (1). بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيكم وهم أزمة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق. فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن (2) وردوهم ورود الهيم العطاش (3) أيها الناس خذوها عن خاتم النبيين صلى الله عليه وآله إنه يموت من مات منا وليس بميت (4) ويبلى من بلي منا وليس ببال فلا تقولوا بما لا تعرفون. فإن أكثر الحق فيما تنكرون (5) واعذروا من لا حجة لكم عليه. وأنا هو. ألم أعمل فيكم بالثقل الاكبر (6) وأترك فيكم الثقل الاصغر. وركزت فيكم راية الايمان ووقفتكم على حدود الحلال والحرام. وألبستكم العافية من


= ما أقيم علامة على الخير والشر (1) يتاه بكم من التيه بمعنى الضلال والحيرة. وتعمهون تتحيرون، وعترة الرجل نسله ورهطه (2) أي أحلوا عترة النبي من قلوبكم محل القرآن من التعظيم والاحترام. وإن القلب هو أحسن منازل القرآن (3) هلموا إلى بحار علومهم مسرعين كما تسرع الهيم أي الابل العطشى إلى الماء (4) خذوا هذه القضية عنه وهي أنه يموت الميت من أهل البيت وهو في الحقيقة غير ميت لبقاء روحه ساطع النور في عالم الظهور (5) الجاهل يستغمض الحقيقة فينكرها وأكثر الحقائق دقائق (6) الثقل هنا بمعنى النفيس من كل شئ وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله قال تركت فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أي النفيسين. وأمير المؤمنين قد عمل بالثقل الاكبر وهو القرآن ويترك الثقل =

[ 155 ]

عدلي وفرشتكم المعروف من قولي وفعلي (1) وأريتكم كرائم الاخلاق من نفسي. فلا تستعملوا الرأي فيما لا يدرك قعره البصر ولا تتغلغل إليه الفكر (منها) حتى يظن الظان أن الدنيا معقولة على بني أمية (2) تمنحهم درها. وتوردهم صفوها. ولا يرفع عن هذه الامة سوطها ولا سيفها. وكذب الظان لذلك، بل هي مجة من لذيذ العيش (3) يتطعمونها برهة ثم يلفظونها جملة 88 - ومن خطبة له عليه السلام أما بعد فإن الله لم يقصم جباري دهر قط (4) إلا بعد تميل ورخاء. ولم يجبر عظم أحد من الامم إلا بعد أزل وبلاء (5) وفي دون ما استقبلتم من عتب وما استدبرتم من خطب معتبر (6). وما كل ذي


= الاصغر وهو ولداه ويقال عترته قدوة للناس (1) فرشتكم بسطت لكم (2) مقصورة عليهم مسخرة لهم كأنهم شدوها بعقال كالناقة تمنحهم درها أي لبنها (3) مجة بضم الميم واحدة المج بضمها أيضا نقط العسل أي قطرة عسل تكون في أفواههم كما تكون في فم النحلة يذوقونها زمانا تم يقذفونها. وهذا التفسير أفضل من تفسير المجة بالفتح بالواحدة من مصدر مج التراب من فيه إذا رمى به (4) يقصم يهلك. القصم الكسر (5) جبر العظم طبه بعد الكسر حتى يعود صحيحا، والازل بالفتح الشدة (6) العتب بسكون التاء يريد منه عتب الزمان مصدر عتب عليه إذا وجد عليه، وإذا وجد الزمان على شخص اشتد عليه وقره، والاصح أنه بتحريك التاء اما مفرد بمعنى الامر الكريه =

[ 156 ]

قلب بلبيب. ولا كل ذي سمع بسميع. ولا كل ناظر ببصير. فيا عجبي - ومالي لا أعجب - من خطإ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها. لا يقتصون أثر نبي. ولا يقتدون بعمل وصي. ولا يؤمنون بغيب. ولا يعفون عن عيبب (1). يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات. المعروف عندهم ما عرفوا. والمنكر عندهم ما أنكروا (2). مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم. وتعويلهم في المبهمات على آرائهم كأن كل امرئ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات 89 - ومن خطبة له عليه السلام أرسله على حين فترة من الرسل. وطول هجعة من الامم واعتزام من الفتن (3) وانتشار من الامور. وتلظ من


= والفساد أو جمع عتبة بالتحريك بمعنى الشدة يقال ما في هذا الامر رتبة ولا عتبة. أي شدة أي أنكم لجديرون أن تعتبروا بأقل من الشدة المقبلة عليكم بعد ضعف أمركم وأقل من الخطب العظيم الذي مر بكم فكيف بمثل هذه الامور الجسام فأنتم أجدر أن تعتبروا بها (1) ولا يعفون بكسر العين وتشديد الفاء من عففت عن الشئ إذا كففت عنه (2) أي يستحسنون ما بدالهم استحبابه ويستقبحون ما خطر لهم قبحه بدون رجوع إلى دليل بين أو شريعة واضحة، يثق كل منهم بخواطر نفسه كأنه أخذ منها بالعروة الوثقى على ما بها من جهل ونقص (3) اعتزام من قولهم اعتزم الفرس إذا مر جامحا أي وغلبة من الفتن، ويروى اعترام بالراء المهملة يقال =

[ 157 ]

الحروب (1) والدنيا كاسفة النور ظاهرة الغرور. على حين اصفرار من ورقها (2) وإياس من ثمرها. واغورار من مائها. قد درست منار الهدى. وظهرت أعلام الردى. فهي متجهمة لاهلها (3) عابسة في وجه طالبها ثمرها الفتنة. وطعامها الجيفة. وشعارها الخوف ودثارها السيف (4) فاعتبروا عباد الله. واذكروا تيك التي آباؤكم وإخوانكم بها مرتهنون (5). وعليها محاسبون. ولعمري ما تقادمت بكم ولا بهم العهود. ولا خلت فيما بينكم وبينهم الاحقاب والقرون (6) وما أنتم اليوم من يوم كنتم في أصلابهم ببعيد والله ما أسمعهم الرسول شيئا إلا وها أنا ذا اليوم مسمعكموه. وما أسماعكم اليوم بدون أسماعهم بالامس. ولا شقت لهم الابصار ولا جعلت لهم الافئدة في ذلك


= اعترم الفرس سطا ومال (1) وتلظ أي تلهب (2) هذا وما بعده تمثيل لتغيير الدنيا وإشرافها على الزوال ويأس الناس من التمتع بها أيام الجاهلية، واغورار الماء ذهابه ويروى اعوار مائها بالمهملة من قوله فلاة عوراء لا ماء بها (3) من تجهمه أي استقبله بوجه كريه (4) ثمرها الفتنة أي ليست لها نتيجة سوى الفتن، والجيفة إشارة إلى أكل العرب للميتة من شدة الاضطرار. والشعار من الثياب ما يلي البدن، والدثار فوق الشعار. ولما كان الخوف يتقدم السيف كان الخوف شعارا والسيف دثارا وأيضا فالخوف باطن والسيف ظاهر (5) تيك اشارة إلى سيئات الاعمال وبواطل العقائد وقبائح العوائد. وهم بها مرتهنون أي محبوسون على عواقبها في الدنيا من الذل والضعف (6) الاحقاب جمع حقب بالضم وبضمتين قيل ثمانون سنة وقيل أكثر وقيل =

[ 158 ]

الاوان إلا وقد أعطيتم مثلها في هذا الزمان. والله ما بصرتم بعدهم شيئا جهلوه. ولا أصفيتم به وحرموه (1) ولقد نزلت بكم البلية جائلا خطامها (2) رخوا بطانها. فلا يغرنكم ما أصبح فيه أهل الغرور. فإنما هو ظل ممدود إلى أجل معدود 90 - ومن خطبة له عليه السلام الحمد لله المعروف من غير رؤية. والخالق من غير روية (3) الذي لم يزل قائما دائما إذ لا سماء ذات أبراج. ولا حجب ذات أرتاج (4) ولا ليل داج. ولا بحر ساج. ولا جبل ذو فجاج. ولا فج ذو اعوجاج. ولا أرض ذات مهاد. ولا خلق ذو اعتماد. ذلك مبتدع الخلق


= هو الدهر (1) يريد أن حالهم كحال من سبقهم وأن من السابقين من اهتدى بهدى الرسول فنجا من سوء عاقبة ما كان فيه. ومنهم من جهل فحل به من النكال ما حل. والامام اليوم مع هؤلاء كما كان الرسول مع أولئك. وحال السامعين في المدارك كحال السابقين وليس هؤلاء مختصين بشئ حرمه أولئك ولا عالمين بأمر جهلوه. فأصفيتم أي خصصتم مبني للمجهول (2) الخطام ما جعل في أنف البعير لينقاد به. وجولان الخطام حركته وعدم استقراره لانه غير مشدود. والعبارة تصوير لانطلاق الفتنة تأخذ فيهم مآخذها لا مانع لها ولا مقاوم. وبطان البعير حزام يجعل تحت بطنه ومتى استرخى كان الراكب على خطر السقوط (3) روية فكر وإمعان نظر (4) الارتاج جمع رتج بالتحريك الباب العظيم. والداجي المظلم. والساجي الساكن. والفجاج جمع فج بمعنى الطريق الواسع بين جبلين، والمهاد الفراش والخلق بمعنى المخلوق، وذو اعتماد =

[ 159 ]

ووارثه (1) وإ له الخلق ورازقه. والشمس والقمر دائبان في مرضاته (2) يبليان كل جديد ويقربان كل بعيد. قسم أرزاقهم. وأحصى آثارهم وأعمالهم وعدد أنفاسهم وخائنة أعينهم. وما تخفي صدورهم من الضمير (3). ومستقرهم ومستودعهم من الارحام والظهور. إلى أن تتناهى بهم الغايات. هو الذي اشتدت نقمته. على أعدائه في سعة رحمته. واتسعت رحمته لاوليائه في شدة نقمته قاهر من عازه (4) ومدمر من شاقه ومذل من ناواه وغالب من عاداه. ومن توكل عليه كفاه. ومن سأله أعطاه ومن أقرضه قضاه (5). ومن شكره جزاه عباد الله زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا. وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا. وتنفسوا قبل ضيق الخناق. وانقادوا قبل أنف السياق (6)


= أي بطش وتصرف بقصد وإرادة (1) مبتدع الخلق منشئه من العدم المحض ووارثه الباقي بعده (2) دائبان تثنية دائب وهو المجد المجتهد، وصفهما بذلك لتعاقبهما على حال واحدة لا يفتران ولا يسكنان وذلك كما أراد سبحانه (3) من الضمير بيان لما تخفي الصدور وذلك أخفى من خائنة الاعين وهي ما يسارق من النظر إلى ما لا يحل وتلك أخفى مما قبلها. من الارحام والظهور أي فيها، أو تكون من للتبعيض أي الجزء الذي كانوا فيه من أرحام الامهات وظهور الآباء (4) عازه رام مشاركته في شئ من عزته. وشاقه نازعه. وناواه خالفه (5) جعل تقديم العمل الصالح بمنزلة القرض والثواب عليه بمنزلة قضاء الدين إظهارا لتحقق الجزاء على العمل قال تعالى " من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة " (6) العنف ضد الرفق أي =

[ 160 ]

واعلموا أنه من لم يعن على نفسه حتى يكون له منها واعظ وزاجر لم يكن له من غيرها زاجر ولا واعظ (1) 91 - ومن خطبة له عليه السلام تعرف بخطبة الاشباح وهي من جلائل خطبه عليه السلام وكان سأله سائل أن يصف الله حتى كأنه يراه عيانا فغضب عليه السلام لذلك الحمد لله الذي لا يفره المنع والجمود (2) ولا يكديه الاعطاء والجود. إذ كل معط منتقص سواه. وكل مانع مذموم ما خلاه. وهو المنان بفوائد النعم. وعوائد المزيد والقسم. عياله الخلق. ضمن أرزاقهم وقدر أقواتهم. ونهج سبيل الراغبين إليه. والطالبين ما لديه. وليس بما سئل بأجود منه بما لم يسأل. الاول الذي لم يكن له قبل فيكون شئ قبله. والآخر الذي ليس له بعد


= انقادوا إلى ما يطلب منكم بالحث الرفيق قبل أن تساقوا إليه بالعنف الشديد (1) من لم يعن مبني للمجهول أي من لم يساعده الله على نفسه حتى يكون لها من وجدانها منبه لم ينفعه تنبيه غيره، ويجوز أن يكون للفاعل أي من لم يعن الزواجر على نفسه بالتذكير والاعتبار لم تؤثر فيه (2) لا يفره لا يزيد ما عنده من البخل والجمود وهو =

[ 161 ]

فيكون شئ بعده. والرادع أناسي الابصار عن أن تناله أو تدركه (1). ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال. ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال ولو وهب ما تنفست عنه معادن الجبال (2) وضحكت عنه أصداف البحار من فلز اللجين والعقيان (3) ونثارة الدر وحصيد المرجان ما أثر ذلك في جوده. ولا أنفد سعة ما عنده ولكان عنده من ذخائر الانعام ما لا تنفده مطالب الانام (4) لانه الجواد الذي لا يغيضه سؤال السائلين ولا يبخله إلحاح الملحين (5) فانظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به (6).


= أشد البخل، ولا يكديه أي لا يفقره (1) أناسى جمع إنسان، وإنسان البصر هو ما يرى وسط الحدقة ممتازا عنها في لونها (2) أبدع الامام في تسمية انفلاق المعادن عن الجواهر تنفسا فإن أغلب ما يكون من ذلك بل كله عن تحرك المواد الملتهبة في جوف الارض إلى الخارج وهى في تبخرها أشبه بالنفس، كما أبدع في تسمية انفتاح الصدف عن الدر ضحكا (3) الفلز بكسر الفاء واللام الجوهر النفيس، واللجين الفضة الخالصة، والعقيان ذهب ينمو في معدنه، ونثارة الدر بالضم منثوره، وفعالة بالضم فاش للجيد المختار كالخلاصة، وللساقط المتروك كالقلامة، وحصيد المرجان محصوده يشير إلى أن المرجان نبات وقد حققته كاشفات الفنون جديدها وقديمها (4) أنفده بمعنى أفناه، ونفد كفرح أي فنى (5) يغيض بفتح حرف المضارعة من غاض المتعدى: يقال غاض الماء لازما وغاضه الله متعديا، ويقال أغاضه أيضا وكلاهما بمعنى أنقصه وأذهب ما عنده. ويبخله بالتخفيف من أبخلت فلانا وجدته بخيلا، أما بخله بالتشديد فمعناه رماه بالبخل (6) ائتم به أي اتبعه فصفه كما وصفه اقتداء به

[ 162 ]

واستضئ بنور هدايته. وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى أثره فكل علمه إلى الله سبحانه. فإن ذلك منتهى حق الله عليك. واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب الاقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب (1)، فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما. وسمي تركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه رسوخا. فاقتصر على ذلك ولا تقدر عظمة الله سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين. هو القادر الذي إذا ارتمت الاوهام لتدرك منقطع قدرته (2) وحاول الفكر المبرأ من خطرات الوساوس أن يقع عليه في عميقات غيوب ملكوته (3) وتولهت القلوب إليه (4) لتجري في كيفية صفاته (5) وغمضت مداخل العقول في حيث لا تبلغه الصفات لتناول علم ذاته (6) ردعها وهي تجوب مهاوي سدف


(1) السدد جمع سدة باب الدار، والاقرار فاعل أغناهم (2) ارتمت الاوهام ذهبت أمام الافكار كالطليعة لها. ومنقطع الشئ ما إليه ينتهى (3) المبرأ الخ أما الملابس لهذه الخطرات فمعلوم أنه لا يصل إلى شئ لوقوفه عند وساوسه (4) تولهت القلوب إليه اشتد عشقها وميلها لمعرفة كنهه (5) لتجري الخ لتجول ببصائرها في تحقيق كيف قامت صفاته بذاته أو كيف اتصف سبحانه بها (6) وغمضت الخ أي خفيت طرق الفكر ودقت =

[ 163 ]

الغيوب متخلصة إليه سبحانه فرجعت إذ جبهت (1) معترفة بأنه لا ينال بجور الاعتساف كنه معرفته (2) ولا تخطر ببال أولي الرويات خاطرة من تقدير جلال عزته (3) الذي ابتدع الخلق على غير مثال امتثله (4) ولا مقدار احتذى عليه من خالق معهود كان قبله. وأرانا من ملكوت قدرته، وعجائب ما نطقت به آثار حكمته، واعتراف الحاجة من الخلق إلى أن يقيمها بمساك قدرته ما دلنا باضطرار قيام الحجة له على معرفته (5) وظهرت في البدائع التي أحدثها آثار صنعته وأعلام * (هامش) = وبلغت في الخفاء والدقة إلى حد لا يبلغه الوصف * (1) ردعها الخ جواب للشرط في قوله إذا ارتمت الخ. وردعها كفها وردها، والمهاوي المهالك، والسدف بضم ففتح جمع سدفة وهي القطعة من الليل المظلم، وجبهت من جبهه إذا ضرب جبهته والمراد ردت بالخيبة (2) الجور العدول عن الطريق، والاعتساف سلوك على غير جادة وسلوك العقول في أي طريق طلبا لاكتناه ذاته وللوقوف على ما لم تكلف الوقوف عليه من كيفية صفاته يعد جورا وعدولا عن الجادة، فإن العقول الحادثة ليس في طبيعتها ما يؤهلها للاحاطة بالحقائق الازلية، اللهم إلا مادلت عليه الآثار وذلك هو الوصف الذي جاء في الكتاب والسنة، وكنه معرفته نائب فاعل ينال (3) الرويات جمع روية الفكر (4) ابتدع الخلق أوجده من العدم المحض على غير مثال سابق امتثله أي حاذاه، ولا مقدار سابق احتذى عليه أي قاس وطبق عليه، وكان ذلك المثال أو المقدار من خالق معروف سبقه بالخلقة أي لم يقتد بخالق آخر في شئ من الخلقة إذ لا خالق سواه (5) المساك كسحاب - ويكسر - ما به يمسك الشئ كالملاك ما به يملك " إن الله يمسك السموات والارض أن تزولا " وقد جعل الحاجة الظاهرة من المخلوقات إلى إقامة وجودها بما يمسكها من قوته بمنزلة الناطق بذلك المعترف به، وقوله باضطرار =


[ 164 ]

حكمته. فصار كل ما خلق حجة له ودليلا عليه، وإن كان خلقا صامتا فحجته بالتدبير ناطقة. ودلالته على المبدع قائمة. وأشهد أن من شبهك بتباين أعضاء خلقك. وتلاحم حقاق مفاصلهم (1) المحتجبة لتدبير حكمتك. لم يعقد غيب ضميره على معرفتك (2). ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك وكأنه لم يسمع تبرأ التابعين من المتبوعين إذ يقولون " تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين " كذب العادلون بك (3) إذ شبهوك بأصنامهم ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم (4). وجزءوك تجزئة المجسمات بخواطرهم وقدروك على الخلقة المختلفة القوى (5) بقرائح عقولهم. وأشهد


= متعلق بدلنا، وعلى معرفته متعلق به أيضا، أي دلنا على معرفته بسبب أن قيام الحجة اضطرنا لذلك. وما دلنا مفعول لارانا. وظهرت في البدائع الخ معطوف على أرانا (1) الحقاق جمع حق بضم الحاء رأس العظم عند المفصل، واحتجاب المفاصل استتارها باللحم والجلد وذلك الاستتار مما له دخل في تقوية المفاصل على تأدية وظائفها التي هي الغاية من وضعها في تدبير حكمة الله في خلقة الابدان، والمراد من شبهه بالانسان ونحوه (2) غيب الضمير باطنه، والمراد منه هنا العلم واليقين، أي لم يحكم بيقينه في معرفتك بما أنت أهل له (3) العادلون بك الذين عدلوا بك غيرك أي سووه بك وشبهوك به (4) نحلوك أعطوك، وحلية المخلوقين صفاتهم الخاصة بهم من الجسمانية وما يتبعها، أي وصفوك بصفات المخلوقين، وذلك انما يكون من الوهم الذي لا يصل إلى غير الاجسام ولواحقها دون العقل الذي يحكم فيما وراء ذلك (5) قدروك قاسوك

[ 165 ]

أن من ساواك بشئ من خلقك فقد عدل بك. والعادل بك كافر بما تنزلت به محكمات آياتك. ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك. وأنك أنت الله الذي لم تتناه في العقول فتكون في مهب فكرها مكيفا (1) ولا في رويات خواطرها فتكون محدودا مصرفا (2). (ومنها) قدر ما خلق فأحكم تقديره. ودبره فألطف تدبيره ووجهه لوجهته فلم يتعد حدود منزلته. ولم يقصر دون الانتهاء إلى غايته ولم يستصعب إذ أمر بالمضي على إرادته (3). وكيف وإنما صدرت الامور عن مشيئته. المنشئ أصناف الاشياء بلا روية فكر آل إليها ولا قريحة غريزة أضمر عليها (4) ولا تجربة أفادها من حوادث الدهور (5) ولا شريك أعانه على ابتداع عجائب الامور فتم خلقه وأذعن لطاعته. وأجاب إلى دعوته ولم يعترض دونه ريث المبطئ (6)


(1) أي لم تكن متناهيا محدود الاطراف حتى تحيط بك العقول فتكيفك بكيفية مخصوصة (2) مصرفا أي تصرفك العقول بأفهامها في حدودك (3) استصعب المركوب لم ينقد في السير لراكبه. وكل مخلوق خلقه الله لامر أراده بلغ الغاية مما أراد الله منه ولم يقصر دون ذلك منقادا غير مسستصعب (4) غريزة: طبيعة ومزاج، أي ليس له مزاج كما للمخلوقات الحساسة فينبعث عنه إلى الفعل، بل هو انفعال بماله بمقتضى ذاته لا بأمر عارض (5) أفادها استفادها (6) لم يعترض دونه أي دون الخلق واجابة دعوة الله. والريث التثاقل عن الامر أي أجاب الخلق دعوة الخالق فيما وجهت إليه فطرته بدون مهل

[ 166 ]

ولا أناة المتلكئ (1) فأقام من الاشياء أودها (2). ونهج حدودها (3) ولاءم بقدرته بين متضادها. ووصل أسباب قرائنها (4). وفرقها أجناسا مختلفات في الحدود والاقدار والغرائز والهيئات (5). بدايا خلائق أحكم صنعها (6) وفطرها على ما أراد وابتدعها (منها في صفة السماء) ونظم بلا تعليق رهوات فرجها (7). ولاحم صدوع انفراجها (8) ووشج بينها وبين أزواجها (9). وذلل للهابطين بأمره والصاعدين بأعمال خلقه حزونة معراجها (10). ناداها بعد إذ هي دخان. فالتحمت


(1) الاناة تؤدة تمازجها روية في اختيار العمل وتركه، والملتكئ المتعلل، يقول أجاب الخلق ربه طائعا مقهورا بلا تلكؤ (2) أودها إعوجاجها (3) نهج عين ورسم (4) قرائنها جمع قرينة وهي النفس، أي وصل حبال النفوس وهي من عالم النور بالابدان وهي من عالم الظلمة (5) الغرائز الطبائع (6) بدايا جمع بدئ أي مصنوع (7) رهوات جمع رهوة أي المكان المرتفع ويقال للمنخفض أيضا، والفرج جمع فرجة. يقول قد فرج الله ما بين جرم وآخر من الاجرام السماوية ونظمها على ذلك بدون تعليق أحدها بالآخر وربطه به بآلة حسية (8) لاحم الخ ما كان في الجرم الواحد منها من صدع لحمه سبحانه وأصلحه فسواه، وذلك كما كان في بدء خلقة الارض وانفصالها عن الاجرام السماوية وانفراج الاجرام عنها، فما تصدع بذلك أصلحه الله " أو لم ير الذين كفروا أن السموات والارض كانتا رتقا ففتقناهما " (9) من وشج محمله إذا شبكه بالاربطة حتى لا يسقط منه شئ، أي أنه سبحانه شبك بين كل سماء وأجرامها وبين أزواجها أي أمثالها وقرنائها من الاجرام الاخرى في الطبقات العليا والسفلى عنها بروابط الماسكة المعنوية العامة، وهي من أعظم المظاهر لقدرته (10) الهابطين والصاعدين الارواح العلوية والسفلية. والحزونة الصعوبة. وقوله ناداها الخ رجوع إلى بيان بعض ما كانت عليه قبل النظم. يقول كانت السماوات هباء مائرا =

[ 167 ]

عرى أشراجها. وفتق بعد الارتتاق صوامت أبوابها (1). وأقام رصدا من الشهب الثواقب على نقابها (2) وأمسكها من أن تمور في خراق الهواء بأيده (3). وأمرها أن تقف مستسلمة لامره. وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها (4) وقمرها آية ممحوة من ليلها (5) فأجراهما في مناقل مجراهما. وقدر سيرهما في مدارج درجهما. ليميز بين الليل والنهار بهما. وليعلم عدد السنين والحساب بمقاديرهما. ثم علق في


= أشبه بالدخان منظرا وبالبخار مادة فتجلى من الله فيها سر التكوين فالتحمت عرى أشراجها، والاشراج جمع شرج بالتحريك هو العروة وهي مقبض الكوز والدلو وغيرهما. وأشار بإضافة العرى للاشراج إلى أن كل جزء من مادتها عروة للآخر يجذبه إليه ليتماسك به، فكل ماسك وممسوك، وكل عروة وله عروة (1) بعد أن كانت جسما واحدا فتق الله رتقه، وفصلها إلى أجرام بينها فرج وأبواب، وأفرغ ما بينها بعد ما كانت صوامت أي لا فراغ فيها (2) النقاب جمع نقب وهو الخرق. والشهب الثواقب أي الشديدة الضياء. والرصد القوم يرصدون كالحرس، وكون الرصد من الشهب في أصل تكوين الخلقة كما قال الامام دليل على ما أثبته العلم من أن الشهب مقذيان لبعض أجرام الكواكب ما نظمه لها من التفاتق فما نقب وخرق من جرم عوض بالشهاب، وذلك أمر آخر غير ما جاء في الكتاب العزيز فما جاء في الكتاب بمعنى آخر (3) وأمسكها عن أن تمور أي تضطرب في الهواء بأيده أي بقوته، وأمرها أن تقف أي تلزم مراكزها لا تفارق مداراتها، لا بمعنى أن تسكن (4) مبصرة أي جعل شمس هذه الاجرام السماوية مضيئة يبصر بضوئها مدة النهار كله دائما (5) ممحوة يمحى ضؤها في بعض اطراف الليل في أوقات من الشهر، وفي جميع الليل أياما منه. ومناقل مجراهما الاوضاع التي ينقلان فيها من مداريهما العبارة فيها تحريف في الاصل، والمعنى أن كلام الامام دليل على ما أثبته العلم الحديث من أن الشهب جعلت لتسد ما يحصل في بعض أجرام الكواكب من خروق، كما يدل عليه آخر العبارة

[ 168 ]

جوها فلكها (1). وناط بها زينتها من خفيات دراريها ومصابيح كواكبها (2) ورمى مسترقي السمع بثواقب شهبها وأجراها على إذلال تسخيرها من ثبات ثابتها ومسير سائرها وهبوطها وصعودها. ونحوسها وسعودها (3) (منها في صفة الملائكة عليهم السلام) ثم خلق سبحانه لاسكان سماواته. وعمارة الصفيح الاعلى (4) من ملكوته خلقا بديعا من ملائكته ملا بهم فروج فجاجها. وحشى بهم فتوق أجوائها (5). وبين فجوات تلك الفروج زجل المسبحين منهم في حظائر القدس وسترات الحجب وسرادقات المجد (6). ووراء ذلك الرجيج الذي تستك منه الاسماع سبحات نور تردع الابصار عن بلوغها (7). فتقف خاسئة على حدودها (8). أنشأهم على صور مختلفات وأقدار متفاوتات. أولي أجنحة تسبح جلال


(1) فلكها هو الجسم الذي ارتكزت فيه وأحاط بها وفيه مدارها. وناط بها أي علق بها وأحاطها. ودراريها كواكبها وأقمارها. والاذلال جمع ذل بالكسر وهو محجة الطريق أي على الطرق التي سخرها فيها (2) نجومها الصغار (3) نحوسها وسعودها من أقفار بعضها في علله وريع بعضها على كونه (4) الصفيح السماء (5) الاجواء جمع جو (6) الزجل رفع الصوت. والحظائر جمع حظيرة موضع يحاط عليه لتأوى إليه الغنم والابل توقيا من البرد والريح، وهو مجاز هنا عن المقامات المقدسة للارواح الطاهرة. والسترات جمع سترة ما يستتر به. والسرادقات جمع سرادق وهو ما يمد على صحن البيت فيغطيه (7) الرجيج الزلزلة والاضطراب. وتستك منه أي تصم منه الآذان لشدته. وسبحات نور أي طبقات نور وأصل السبحات الانوار نفسها (8) خاسئة مدفوعة مطرودة عن الترامي إليها هذه العبارة طبق الاصل، وهي غير واضحة. وفي شرح ابن أبي الحديد ما يفيد أن النجوم تدل بنحسها وسعدها على أمور عامة مما لا تخص أحدا بعينه كأن تدل على قحط عام أو مرض عام أو نحو ذلك

[ 169 ]

عزته لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعته. ولا يدعون أنهم يخلقون شيئا مما انفرد به. بل عباد مكرمون " لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون " جعلهم فيما هنالك أهل الامانة على وحيه. وحملهم إلى المرسلين ودائع أمره ونهيه. وعصمهم من ريب الشبهات فما منهم زائغ عن سبيل مرضاته. وأمدهم بفوائد المعونة. وأشعر قلوبهم تواضع إخبات السكينة (1) وفتح لهم أبوابا ذللا (2) إلى تماجيده. ونصب لهم منارا واضحة على أعلام توحيده (3). لم تثقلهم موصرات الآثام (4). ولم ترتحلهم عقب الليالي والايام (5). ولم ترم الشكوك بنوازعها عزيمة إيمانهم (6). ولم تعترك الظنون على معاقد يقينهم (7) ولا قدحت قادحة الاحن فيما بينهم (8). ولا سلبتهم


(1) الاخبات الخضوع والخشوع (2) جمع ذلول خلاف الصعب (3) قال بعض أهل اللغة إن منارة تجمع على منار وإن لم يذكره صاحب القاموس. وأرى أن منارا ههنا جمع منارة بمعنى المسرجة وهي ما يوضع فيه المصباح. والاعلام ما يقام للاهتداء على أفواه الطرق ومرتفعات الارض والكلام تمثيل لما أنار به مداركهم حتى انكشف لهم سر توحيده (4) مثقلاتها (5) ارتحله وضع عليه الرحل ليركبه. والعقب جمع عقبة هي النوبة. والليل والنهار [ عقيبان ] لتعاقبهما، أي لم يتسلط عليهم تعاقب الليل والنهار فيفنيهم أو يغيرهم (6) النوازع جمع نازعة وهي النجم أو القوس، وعلى الاول المراد منها الشهب وعلى الثاني تكون الباء في بنوازعها بمعنى من (7) جمع معقد محل العقد بمعنى الاعتقاد (8) الاحن جمع إحنة حي الحقد والضغينة

[ 170 ]

الحيرة ما لاق من معرفته بضمائرهم (1). وما سكن من عظمته وهيبة جلالته في أثناء صدورهم. ولم تطمع فيهم الوساوس فتقترع برينها على فكرهم (2) منهم من هو في خلق الغمام الدلح (3) وفي عظم الجبال الشمخ وفي فترة الظلام الابهم (4) ومنهم من خرقت أقدامهم تخوم الارض السفلى. فهي كرايات بيض قد نفذت في مخارق الهواء (5). وتحتها ريح هفافة تحبسها على حيث انتهت من الحدود المتناهية. قد استفرغتهم أشغال عبادته (6) ووصلت حقائق الايمان بينهم وبين معرفته. وقطعهم الايقان به إلى الوله إليه (7) ولم تجاوز رغباتهم ما عنده إلى ما عند غيره. قد ذاقوا حلاوة معرفته وشربوا بالكأس الروية من محبته (8) وتمكنت من سويداء قلوبهم (9) وشيجة خيفته (10) فحنوا بطول الطاعة اعتدال ظهورهم.


(1) لاق لصق (2) تقترع من الاقتراع بمعنى ضرب القرعة. والرين بفتح الراء الدنس وما يطبع على القلب من حجب الجهالة (3) جمع دالح وهو الثقيل بالماء من السحاب (4) القترة هنا الخفاء والبطون. ومنها قالوا أخذه على فترة أي من حيث لا يدري. والابهم بباء موحدة بعد الهمزة أصله من لا يعقل ولا يفهم، وصف به الليل وصفا للشئ بما ينشأ عنه، فإن الظلام الحالك يوقع في الحيرة ويأخذ بالفهم عن رشاده (5) مواضع ما خرقت أقدامهم (6) جعلتهم فارغين من الاشتغال بغيرها (7) شدة الشوق إليه (8) الروية التي تروى وتطفئ العطش (9) محل الروح الحيواني من مضغة القلب (10) الوشيجة أصلها عروق الشجرة أراد منها =

[ 171 ]

ولم ينفد طول الرغبة إليه مادة تضرعهم (1) ولا أطلق عنهم عظيم الزلفة ربق خشوعهم (2) ولم يتولهم الاعجاب فيستكثروا ما سلف منهم. ولا تركت لهم استكانة الاجلال (3) نصيبا في تعظيم حسناتهم. ولم تجر الفترات فيهم على طول دؤوبهم ولم تغض رغباتهم (4) فيخالفوا عن رجاء ربهم ولم تجف لطول المناجاة أسلات ألسنتهم (5) ولا ملكتهم الاشغال فتنقطع بهمس الجؤار إليه أصواتهم (6) ولم تختلف في مقاوم الطاعة مناكبهم (7). ولم يثنوا إلى راحة التقصير في أمره رقابهم. ولا تعدو (8) على عزيمة جدهم بلادة الغفلات ولا تنتضل في هممهم خدائع الشهوات (9). قد اتخذوا ذا العرش ذخيرة ليوم فاقتهم (10). ويمموه عند انقطاع الخلق إلى المخلوقين برغبتهم (11)


= هنا بواعث الخوف من الله (1) أي أن شدة رجائهم لم تفن مادة خوفهم وتذللهم (2) جمع ربقة بالكسر والفتح وهي العروة من عرى الربق بكسر الراء وهو حبل فيه عدة عرى تربط فيه البهم (3) الاستكانة ميل للسكون من شدة الخوف ثم استعملت في الخضوع (4) دأب في العمل بالغ في مداومته حتى أجهده (5) لم تنقص. وأسلة اللسان طرفه أي لم تيبس أطراف ألسنتهم فتقف عن ذكره (6) الهمس الخفي من الصوت. والجؤار رفع الصوت بالتضرع أي لم يكن لهم عن الله شاغل يضطرهم للهمس والاخفاء وخفض جؤارهم بالدعاء إليه (7) المقاوم جمع مقام، والمراد الصفوف (8) لا تسطو (9) انتتضلت الابل رمت بأيديها في السير بسرعة. وخذائع الشهوات للنفس [ بما تزينه لها. ] أي لم تسلك خدائع الشهوات طريقا في هممهم (10) حاجتهم (11) يمموه قصدوه بالرغبة والرجاء عند ما =

[ 172 ]

لا يقطعون أمد غاية عبادته. ولا يرجع بهم الاستهتار بلزوم طاعته (1) إلا إلى مواد من قلوبهم غير منقطعة من رجائه ومخافته (2). لم تنقطع أسباب الشفقة منهم (3) فينوا في جدهم (4) ولم تأسرهم الاطماع فيؤثروا وشيك السعي على اجتهادهم (5). ولم يستعظموا ما مضى من أعمالهم. ولو استعظموا ذلك لنسخ الرجاء منهم شفقات وجلهم (6). ولم يختلفوا في ربهم باستحواذ الشيطان عليهم. ولم يفرقهم سوء التقاطع. ولا تولاهم غل التحاسد. ولا شعبتهم مصارف الريب (7) ولا اقتسمتهم أخياف الهمم (8). فهم أسراء إيمان. لم يفكهم من ربقته زيغ ولا عدول ولا ونى ولا فتور (9). وليس في أطباق السماوات


= انقطعت الخلق سواهم إلى المخلوقين (1) الاستهتار التولع (2) مواد جمع مادة: أصلها من مد البحر إذا زاد، وكل ما أعنت به غيرك فهو مادة، ويريد بها البواعث المعينة على الاعمال، أي كلما تولعوا بطاعته زادت بهم البواعث عليها من الرغبة والرهبة (3) الشفقة الخوف (4) ونى ينى تأنى (5) وشيك السعي مقاربه وهينه، أي أنه لا طمع لهم في غيره فيختاروا هين السعي على الاجتهاد الكامل (6) الشفقات تارات الخوف وأطواره، وهو فاعل نسخ والرجاء مفعول. والوجل الخوف أيضا (7) شعبتهم فرقتهم صروف الريب جمع ريبة وهي ما لا تكون النفس على ثقة من موافقته للحق (8) جمع خيف بالفتح هو في الاصل ما انحدر عن سفح الجبل، والمراد هنا سواقط الهمم، فإن التفرق والاختلاف كثيرا ما يكون من انحطاط الهمة بل أعظم ما يكون منه ينشأ عن ذلك. وقد يكون الخيف بمعنى الناحة أي متطرفات الهمم (9) ونى مصدر ونى =

[ 173 ]

موضع إهاب (1) إلا وعليه ملك ساجد. أو ساع حافد (2). يزدادون على طول الطاعة بربهم علما. وتزداد عزة ربهم في قلوبهم عظما. (ومنها) في صفة الارض ودحوها على الماء (3). كبس الارض (4) على مور أمواج مستفحلة. ولجج بحار زاخرة (5). تلتطم أواذي أمواجها (6) وتصطفق متقاذفات أثباجها (7) وترغو زبدا كالفحول عند هياجها. فخضع جماح الماء المتلاطم لثقل حملها. وسكن هيج ارتمائه إذ وطئته بكلكلها (8). وذل مستخذيا (9) إذ تمعكت عليه بكواهلها (10) فأصبح بعد اصطخاب أمواجه (11) ساجيا مقهورا (12). وفي حكمة الذل منقادا أسيرا (13). وسكنت الارض مدحوة في لجة تياره. وردت من نخوة بأوه واعتلائه (14) وشموخ أنفه وسمو


= كتعب أي تأنى (1) جلد حيوان (2) خفيف سريع (3) دحوها بسطها (4) كبس النهر والبئر أي طمهما بالتراب وعلى هذا كان حق التعبير كبس بها مور أمواج لكنه أقام الآلة مقام المفعول لانها المقصود بالعمل. والمور التحرك الشديد. والمستفحلة الهائجة يصعب التغلب عليها (5) ممتلئة (6) جمع آذى أعلى الموج (7) اصطفقت الاشجار اهتزت بالريح. والاثباج جمع ثبج بالتحريك هو في الاصل ما بين الكاهل والظهر أو صدر القطاة استعاره لاعالي الموج والمتقاذفات التي يقذف بعضها بعضا (8) هو في الاصل الصدر استعاره لما لاقى الماء من الارض (9) منكسرا مسترخيا (10) من تمعكت الدابة أي تمرغت في التراب (11) اصطخاب افتعال من الصخب بمعنى ارتفاع الصوت (12) ساجيا ساكنا (13) الحكمة محركة ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه وفيها العذاران (14) البأ والكبر والزهو

[ 174 ]

غلوائه (1) وكعمته (2) على كظة جريته (3) فهمد بعد نزقانه (4). ولبد بعد زيفان وثباته (5). فلما سكن هياج الماء من تحت أكنافها (6) وحمل شواهق الجبال الشمخ البذخ على أكتافها (7) فجر ينابيع العيون من عرانين أنوفها (8). وفرقها في سهوب بيدها وأخاديدها (9) وعدل حركاتها بالراسيات من جلاميدها (10) وذوات الشناخيب الشم (11). من صياخيدها (12). فسكنت من الميدان (13) لرسوب الجبال في قطع أديمها (14)، وتغلغلها متسربة في جوبات خياشيمها (15)، وركوبها أعناق


(1) بضم الغين وفتح اللام النشاط وتجاوز الحد (2) كعم البعير كمنع شد فاه لئلا يعض أو يأكل، وما يشد به كعام ككتاب (3) الكظة بالكسر ما يعرض من امتلاء البطن بالطعام، ويراد بها هنا ما يشاهد في جري الماء من ثقل الاندفاع (4) النزق والنزقان الطيش (5) الزيفان التبختر في المشية. ولبد كفرح ونصر. أي قام وثبت (6) نواحيها (7) البذخ بمعنى الشمخ جمع شامخ وباذخ أي عال ورفيع. غير أني أجد من لفظ الباذخ معنى أخص وهو الضخامة مع الارتفاع. وحمل عطف على أكناف (8) عرانين جمع عرنين بالكسر ما صلب من عظم الانف والمراد أعالي الجبال، غير أن الاستعارة من ألطف أنواعها في هذا المقام (9) السهوب جمع سهب بالفتح أي الفلاة. والبيد جمع بيداء. والاخاديد جمع أخدود الحفر المستطيلة في الارض. والمراد منها مجاري الانهار (10) الضمير للارض كما يظهر من بقية الكلام. والجلاميد جمع جلمود الحجر القاسي (11) الشناخيب جمع شنخوب وهو رأس الجبل. والشم الرفيعة (12) جمع صيخود وهو الصخرة الشديدة (13) بالتحريك الاضطراب (14) سطحها (15) التغلغل المبالغة في الدخول ومتسربة أي داخلة. والجوبات جمع جوبة بمعنى الحفرة. والخياشيم جمع خيشوم هو منفذ الانف إلى الرأس أو مارق من العضاريف الكائنة =

[ 175 ]

سهول الارضين وجراثيمها (1) وفسح بين الجو وبينها. وأعد الهواء متنسما لساكنها. وأخرج إليها أهلها على تمام مرافقها (2) ثم لم يدع جرز الارض (3) التي تقصر مياه العيون عن روابيها (4) ولا تجد جداول الانهار ذريعة إلى بلوغها (5) حتى أنشأ لها ناشئة سحاب تحيي مواتها (6) وتستخرج نباتها. ألف غمامها بعد افتراق لمعه (7) وتباين قزعه (8)، حتى إذا تمخضت لجة المزن فيه (9). والتمع برقه في كففه (10) ولم ينم وميضه في كنهور ربابه (11) ومتراكم سحابه أرسله سحا


= فوق قصبة الانف متصلة بالرأس، وضمير تغلغلها للجبال. وخياشيمها للارض والمجاز ظاهر (1) ركوب الجبال أعناق السهول استعلاؤها عليها. وأعناقها سطوحها وجراثيمها ما سفل عن السطوح من الطبقات الترابية، واستعلاء الجبال عليها ظاهر (2) مرافق البيت ما يستعان به فيه وما يحتاج إليه في النعيش خصوصا ما يكون من الاماكن، أو هو ما يتم به الانتفاع بالسكنى كمصاب المياه والطرق الموصلة إليه والاماكن التي لا بد منها للساكنين فيه لقضاء حاجاتهم وما يشبه ذلك (3) الارض الجرز بضمتين التي تمر عليها مياه العيون فتنبت (4) مرتفعاتها (5) ذريعة وسيلة (6) الموات من الارض ما لا يزرع (7) جمع لمعة بضم اللام: في الاصل القطعة من النبات مالت لليبس استعارها لقطع السحاب، والمشابهة في لونها وذهابها إلى الاضمحلال لو لا تأليف الله إياها مع غيرها (8) جمع قزعة محركة وهي القطعة من الغيم (9) تمخضت تحركت تحركا شديدا كما يتحرك اللبن في السقاء بالمخض. والضمير في فيه راجع إلى المزن أي تحركت اللجة التي يحملها المزن فيه. ويصح أن يرجع للغمام في أول العبارة (10) جمع كفة بضم الكاف وهي الحاشية والطرف لكل شئ أي جوانبه (11) نامت النار همدت. والوميض اللمعان. والكنهور كسفرجل القطع العظيمة من السحاب =

[ 176 ]

متداركا. قد أسف هيدبه، تمريه الجنوب درر أهاضيبه (2) ودفع شآبيبه (3) فلما ألقت السحاب برك بوانيها (4)، وبعاع ما استقلت به (5) من العبء المحمول عليها (6) أخرج به من هوامد الارض النبات (7) ومن زعر الجبال الاعشاب (8)، فهي تبهج بزينة رياضها (9) وتزدهي (10) بما ألبسته من ريط (11) أزاهيرها (12) وحلية ما سمطت به (13) من ناضر


= أو المتراكم منه. والرباب كسحاب الابيض المتلاحق منه، أي لم يمهد لمعان البرق في ركام هذا الغمام (1) صبا متلاحقا متواصلا (2) أسف الطائر دنا من الارض، والهيدب كجعفر السحاب المتدلى أو ذيله، وقوله تمريه من مرى الناقة أي مسح على ضرعها ليحلب لبنها. والدرر كغلل جمع درة بالكسر اللبن. والاهاضيب جمع هضاب وهو جمع هضبة كضربة وهي المطرة، أي دنا السحاب من الارض لثقله بالماء وريح الجنوب تستدره الماء كما يستدر الحالب لبن الناقة، فإن الريح تحركه فيصب ما فيه (3) جمع شؤبوب ما ينزل من المطر بشدة (4) البرك بالفتح في الاصل ما يلي الارض من جلد صدر البعير كالبركة. والبواني هي أضلاع الزور. وشبه السحاب بالناقة إذا بركت وضربت بعنقها على الارض ولاطمتها بأضلاع زورها. واشتبه ابن أبي الحديد في معنى المبرك والبواني فأخرج الكلام عن بلاغته (5) بعاع عطف على برك. والبعاع بالفتح ثقل السحاب من الماء. وألقى السحاب بعاعه أمطر كل ما فيه (6) العب ء الحمل (7) الهوامد من الارض ما لم يكن بها نبات (8) زعر جمع زاعر وهو من المواضع القليل النبات (9) بهج كمنع سر وأفرح (10) تعجب (11) جمع ريطة بالفتح وهي كل ثوب رقيق لين (12) جمع زهار الذي هو جمع زهرة بمعنى النبات (13) سمط من سمط الشئ علق عليه السموط وهي الخيوط تنظم فيها القلادة

[ 177 ]

أنوارها (1) وجعل ذلك بلاغا للانام (2) ورزقا للانعام. وخرق الفجاج في آفاقها وأقام المنار للسالكين على جواد طرقها. فلما مهد أرضه وأنفذ أمره اختار آدم عليه السلام خيرة من خلقه. وجعله أول جبلته (3) وأسكنه جنته وأرغد فيها أكله، وأوعز إليه فيما نهاه عنه. وأعلمه أن في الاقدام عليه التعرض لمعصيته والمخاطرة بمنزلته. فأقدم على ما نهاه عنه موافاة لسابق علمه، فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجة به على عباده. ولم يخلهم بعد أن قبضه مما يؤكد عليهم حجة ربوبيته، ويصل بينهم وبين معرفته، بل تعاهدهم بالحجج على ألسن الخيرة من أنبيائه، ومتحملي ودائع رسالاته، قرنا فقرنا حتى تمت بنبينا محمد صلى الله عليه وآله حجته، وبلغ المقطع عذره ونذره (4). وقدر الارزاق فكثرها وقللها. وقسمها على الضيق والسعة فعدل فيها ليبتلي من أراد بميسورها ومعسورها. وليختبر بذلك الشكر والصبر من غنيها وفقيرها. ثم قرن بسعتها


(1) الانوار جمع نور بفتح النون وهو الزهر بالمعنى المعروف أي حلية القلائد التي علقت عليها من أزهار نباتها. وفي رواية شمطت بالشين وتخفيف الميم من شمطه إذا خلط لونه بلون آخر. والشميط من النبات ما كان فيه لون الخضرة مختلطا بلون الزهر (2) البلاغ ما يتبلغ به من القوت (3) خلقته (4) المقطع النهاية التي ليس وراءها =

[ 178 ]

عقابيل فاقتها (1)، وبسلامتها طوارق آفاتها، وبفرج أفراحها (2) غصص أتراحها (3)، وخلق الآجال فأطالها وقصرها. وقدمها وأخرها. ووصل بالموت أسبابها (4). وجعله خالجا لاشطانها (5) وقاطعا لمرائر أقرانها (6). عالم السر من ضمائر المضمرين. ونجوى المتخافتين (7). وخواطر رجم الظنون (8)، وعقد عزيمات اليقين (9). ومسارق إيماض الجفون (10). وما ضمنته أكنان القلوب وغيابات الغيوب (11)، وما أصغت لاستراقه مصائخ الاسماع (12)، ومصائف الذر (13) ومشاتي الهوام (14) ورجع الحنين


= غاية (1) العقابيل الشدائد جمع عقبولة بضم العين. والفاقة الفقر (2) الفرج جمع فرجة وهي التفصى من الهم (3) جمع ترح بالتحريك الغم والهلاك (4) حبالها (5) خالجا جاذبا لاشطانها جمع شطن كسبب: الحبل الطويل، شبه به الاعمار الطويلة (6) المرائر جمع مريرة الحبل يفتل على أكثر من طاق أو الشديد الفتل. والاقران جمع قرن بالتحريك وهو الحبل يجمع به بعيران، وذكره لقوته أيضا. وإضافة المرائر للاقران بعد استعمالها في الشديدة بلا قيد أن تكون حبالا (7) التخافت المكالمة سرا (8) رجم الظنون ما يخطر على القلب أنه وقع أو يصح أن يقع بلا برهان (9) العقد جمع عقدة ما يرتبط القلب بتصديقه لا يصدق نقيضه ولا يتوهمه. والعزيمات جمع عزيمة ما يوجب البرهان الشرعي أو العقلي تصديقه والعمل به (10) جمع مسرق مكان مسارقة النظر أو زمانها أو البواعث عليها أو فلان يسارق فلانا النظر أي ينتظر منه غفلة فينظر إليه. والايماض اللمعان وهو أحق أن ينسب إلى العيون لا إلى الجفون، ونسبته إلى الجفون لانه ينبعث من بينها (11) ضمنته حوته. والاكنان جمع كن كل ما يستتر فيه. وغيابات الغيوب أعماقها (12) استراق الكلام استماعه خفية. والمصائخ جمع مصاخ مكان الاصاخة وهو ثقبة الاذن (13) صغار النمل، ومصائفها محل إقامتها في الصيف، وهو وما بعده عطف على ضمائر المضمرين (14) مشاتيها محل إقامتها في الشتاء

[ 179 ]

من المولهات (1) وهمس الاقدام (2). ومنفسح الثمرة من ولائج غلف الاكمام (3)، ومنقمع الوحوش من غيران الجبال وأوديتها (4). ومختبإ البعوض بين سوق الاشجار وألحيتها (5)، ومغرز الاوراق من الافنان (6)، ومحط الامشاج من مسارب الاصلاب (7)، وناشئة الغيوم ومتلاحمها. ودرور قطر السحاب في متراكمها. وما تسفي الاعاصير بذيولها (8) وتعفو الامطار بسيولها (9). وعوم نبات الارض في كثبان الرمال (10)، ومستقر ذوات الاجنحة بذرى شناخيب الجبال (11)، وتغريد ذوات المنطق في دياجير الاوكار (12)، وما أو عبته الاصداف (13)، وحضنت عليه أمواج البحار (14)


(1) الحزينات، ورجع الحنين ترديده (2) الهمس أخفى ما يكون من صوت القدم على الارض (3) منفسخ الثمرة مكان نموها من الولائج جمع وليجة بمعنى البطانة الداخلية. والغلف جمع غلاف. والاكمام جمع كم بالكسر وهو غطاء النوار ووعاء الطلع (4) منقمع الوحوش موضع انقماعها أي اختفائها. والغيران جمع غار (5) سوق جمع ساق أسفل الشجرة تقوم عليه فروعها. والالحية جمع لحاء قشرة الشجرة (6) الغصون (7) الامشاج النطف. سميت أمشاجا - جمع مشيج - من مشج إذا خلط، لانها مختلطة من جراثيم مختلفة كل منها يصلح لتكوين عضو من أعضاء البدن. ومسارب الاصلاب ما يتسرب المني فيها عند نزوله أو عند تكونه (8) سفت الريح التراب ذرته أو حملته. والاعاصير جمع أعصار ريح تثير السحاب أو تقوم على الارض كالعمود (9) تعفو تمحو (10) الكثبان جمع كثيب: التل (11) الذرى جمع ذروة أعلى الشئ. والشناخيب رؤوس الجبال (12) تغريد الطائر رفع صوته بالغناء وهو نطقه. والدياجير المظلمة (13) أو عبته جمعته (14) حضنت عليه ربته فتولد في حضنها كالعنبر =

[ 180 ]

وما غشيته سدفة ليل (1) أو ذر عليه شارق نهار (2). وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير (3) وسبحات النور. وأثر كل خطوة. وحس كل حركة ورجع كل كلمة. وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل (ذرة)، وهماهم كل نفس هامة (4). وما عليها من ثمر شجرة (5)، أو ساقط ورقة أو قرارة نطفة (6) أو نقاعة دم ومضغة (7). أو ناشئة خلق وسلالة. لم تلحقه في ذلك كلفة. ولا اعترضته في حفظ ما ابتدعه من خلقه عارضة (8). ولا اعتورته في تنفيذ الامور وتدابير المخلوقين ملالة ولا فترة (9). بل نفذ فيهم علمه، وأحصاهم عده، ووسعهم عدله، وغمرهم فضله مع تقصيرهم عن كنه ما هو أهله. اللهم أنت أهل الوصف الجميل والتعداد الكثير (10). إن تؤمل فخير مؤمل: وإن ترج فأكرم مرجو. اللهم وقد بسطت لي فيما لا أمدح به غيرك، ولا أثني به على أحد سواك، ولا أوجهه إلى معادن


= ونحوه (1) سدفة ظلمة (2) ذر طلع (3) اعتقبت تعاقبت: وتوالت. والاطباق الاغطية. والدياجير الظلمات. وسبحات النور درجاته وأطواره (4) هماهم: هموم مجاز من الهمهمة ترديد الصوت في الصدر من الهم (5) عليها أي على الارض (6) قرارتها مقرها (7) نقاعة عطف على نطفة. ونقاعة الدم ما ينقع منه في أجزاء البدن. والمضغة عطف على نقاعة أي يعلم مقر جميع ذلك (8) هي ما يعترض العامل فيمنعه عن عمله (9) اعتورته تداولته وتناولته (10) المبالغة في عد كمالاتك إلى ما لا ينتهى

[ 181 ]

الخيبة ومواضع الريبة (1). وعدلت بلساني عن مدائح الآدميين. والثناء على المربوبين المخلوقين. اللهم ولكل مثن على من أثنى عليه مثوبة (2) من جزاء أو عارفة من عطاء، وقد رجوتك دليلا على ذخائر الرحمة وكنوز المغفرة. اللهم وهذا مقام من أفردك بالتوحيد الذي هو لك ولم ير مستحقا لهذه المحامد والممادح غيرك. وبي فاقة إليك لا يجبر مسكنتها إلا فضلك ولا ينعش من خلتها إلا منك وجودك (3)، فهب لنا في هذا المقام رضاك، وأغننا عن مد الايدي إلى سواك إنك على كل شي ء قدير. 92 - ومن خطبة له عليه السلام لما أريد على البيعة بعد قتل عثمان رضي الله عنه دعوني والتمسوا غيري فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان. لا تقوم له القلوب ولا تثبت عليه العقول (4). وإن الآفاق قد أغامت والمحجة (5) قد تنكرت. واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم


(1) هم المخلوفون (2) ثواب وجزاء (3) الخلة بالفتح الفقر. والمن الاحسان (4) لا تصبر له ولا تطيق احتماله (5) غطيت بالغيم. والمحجة الطريق المستقيمة. تنكرت أي تغيرت علائمها فصارت مجهولة، وذلك أن الاطماع كانت قد تنبهت في كثير من الناس على عهد =

[ 182 ]

ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب. وإن تركتموني فأنا كأحدكم و لعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم. وأنا لكم وزيرا خير لكم مني أمير 9 3 - ومن خطبة له عليه السلام أما بعد أيها الناس. فأنا فقأت عين الفتنة (1)، ولم تكن ليجرأ عليها أحد غيري بعد أن ماج غيهبها (2) واشتد كلبها (3). فاسألوني قبل أن تفقدوني. فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة، ولا عن فئة تهدي مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها (4) وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا،


= عثمان رضي الله عنه بما نالوا من تفضيلهم بالعطاء فلا يسهل عليهم فيما بعد أن يكونوا في مساواة مع غيرهم، فلو تناولهم العدل انفلتوا منه وطلبوا طائشة الفتنة طمعا في نيل رغباتهم، وأولئك هم أغلب الرؤساء في القوم، فان أقرهم الامام على ما كانوا عليه من الامتياز فقد أتى ظلما وخالف شرعا، والناقمون على عثمان قائمون على المطالبة بالنصفة ان لم ينالوها تحرشوا للفتنة، فأين اتحجه للوصول إلى الحق على أمن من الفتن. وقد كان بعد بيعته ما تفرس به قبلها (1) شققتها وقلعتها تمثيل لتغلبه عليها، وذلك كان بعد انقضاء أمر النهروان وتغلبه على الخوارج (2) الغيهب الظلمة. وموجها شمولها وامتدادها (3) الكلب محركة: داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عضته أصيب به فجن ومات، شبه به اشتداد الفتنة حتى لا تصيب أحدا إلا اهلكته (4) الداعي =

[ 183 ]

ويموت منهم موتا. ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الامور (1) وحوازب الخطوب (2) لاطرق كثير من السائلين وفشل كثير من المسئولين. وذلك إذا قلصت حربكم (3) وشمرت عن ساق، وضاقت الدنيا عليكم ضيقا تستطيلون معه أيام البلاء عليكم حتى يفتح الله لبقية الابرار منكم. إن الفتن إذا أقبلت شبهت (4) وإذا أدبرت نبهت (5). ينكرن مقبلات ويعرفن مدبرات. يحمن حول الرياح يصبن بلدا ويخطئن بلدا. ألا إن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية، فإنها فتنة عمياء مظلمة عمت خطتها (6) وخصت بليتها، وأصاب البلاء من أبصر فيها (7)، وأخطأ البلاء من عمي عنها. وايم الله لتجدن بنى أمية لكم أرباب سوء بعدي. كالناب الضروس (8) تعذم بفيها وتخبط بيدها، وتزبن برجلها، وتمنع درها. لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم أو غير ضائر بهم. ولا يزال بلاؤهم حتى


= إليها، من نعق بغنمه صاح بها لتجتمع (1) الكرائه جمع كريهة (2) الحوازب جمع حازب وهو الامر الشديد، حزبه الامر إذا اشتد عليه (3) قلصت بتشديد اللام تمادت واستمرت. وبتخفيفها وثبت (4) اشتبه فيها الحق بالباطل (5) لانها تعرف بعد انقضائها وتنكشف حقيقتها فتكون عبرة (6) الخطة بالضم الامر أي شمل أمرها لانها رئاسة عامة. وخصت بليتها آل البيت لانها اغتصاب لحقهم (7) من عرف الحق فيها نزل به بلاء الانتقام من بنى أمية (8) الناب الناقة المسنة. والضروس السيئة =

[ 184 ]

لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه. والصاحب من مستصحبه (1). ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية (2) وقطعا جاهلية. ليس فيها منار هدى، ولا علم يرى (3) نحن أهل البيت منها بمنجاة (4) ولسنا فيها بدعاة. ثم يفرجها الله عنكم كتفريج الاديم (5) بمن يسومهم خسفا (6) ويسوقهم عنفا، ويسقيهم بكأس مصبرة (7) لا يعطيهم إلا السيف. ولا يحلسهم إلا الخوف (8). فعند ذلك تود قريش بالدنيا وما فيها لو يرونني مقاما واحدا ولو قدر جزر جزور (9) لاقبل منهم ما أطلب اليوم بعضه فلا يعطونني 94 - ومن خطبة له عليه السلام فتبارك الله الذي لا يبلغه بعد الهمم. ولا يناله حسن الفطن. الاول الذى لا غاية له فينتهي. ولا آخر له فينقضي (منها في وصف


= الخلق تعض حالبا. وتعذم من عذم الفرس إذا أكل بجفاء أوعض. وتزبن أي تضرب. ودرها لبنها. والمراد خيرها (1) التابع من متبوعه، أي انتصار الاذلاء وما هو بانتصار (2) شوهاء قبيحة المنظر. ومخشية مخوفة مرعبة (3) دليل يهتدى به (4) بمكان النجاة من إثمها (5) كما يسلخ الجلد عن اللحم (6) يلزمهم ذلا. وقوله بمن متعلق بيفرجها (7) مملوءة إلى أصبارها جمع صبر بالضم والكسر بمعنى الحرف أي إلى رأسها (8) من أحلس البعير إذا ألبسه الحلس بكسر الحاء وهو كساء يوضع على ظهره تحت البرذعة، أي لا يكسوهم إلا خوفا (9) الجزور الناقة المجزورة، أو هو البعير =

[ 185 ]

الانبياء) فاستودعهم في أفضل مستودع، وأقرهم في خير مستقر. تناسختهم كرائم الاصلاب (1) إلى مطهرات الارحام. كلما مضى منهم سلف قام منهم بدين الله خلف. حتى أفضت كرامة الله سبحانه إلى محمد صلى الله عليه وآله، فأخرجه من أفضل المعادن منبتا (2) وأعز الارومات مغرسا (3). من الشجرة التي صدع منها أنبياءه (4) وانتخب منها أمناءه (5). عترته خير العتر (6)، وأسرته خير الاسر، وشجرته خير الشجر. نبتت في حرم وبسقت في كرم (7)، لها فروع طوال وثمرة لا تنال. فهو إمام من اتقى وبصيرة من اهتدى. سراج لمع ضوءه. وشهاب سطع نوره، وزند برق لمعه. سيرته القصد (8) وسنته الرشد. وكلامه الفصل. وحكمه العدل. أرسله على حين فترة من الرسل (9)، وهفوة عن العمل (10)، وغباوة من الامم. اعملوا رحمكم


= مطلقا، أو الشاة المذبوحة، أي ولو مدة ذبح البعير أو الشاة (1) تناسختهم تناقلتهم (2) كمجلس موضع النبات ينبت فيه (3) الارومات جمع أرومة الاصل. والمغرس موضع الغرس (4) صدع فلانا قصده لكرمه، أي اختصهم بالنبوة من بين فروعها وهي شجرة إبراهيم عليه السلام (5) انتخب اختار (6) عترته آل بيته. وأسرة الرجل رهطه الادنون (7) بسقت ارتفعت (8) الاستقامة (9) الفترة الزمان بين الرسولين (10) هفوة زلة وانحراف من الناس عن العمل بما أمر الله على ألسنة الانبياء السابقين

[ 186 ]

الله على أعلام بينة. فالطريق نهج (1) يدعو إلى دار السلام. وأنتم في دار مستعتب على مهل وفراغ (2). والصحف منشورة. والاقلام جارية. والابدان صحيحة. والالسن مطلقة. والتوبة مسموعة. والاعمال مقبولة 95 - ومن خطبة له عليه السلام بعثه والناس ضلال في حيرة. وخابطون في فتنة. قد استهوتهم الاهواء، واستزلتهم الكبرياء (3)، واستخفتهم الجاهلية الجهلاء (4). حيارى في زلزال من الامر، وبلاء من الجهل. فبالغ صلى الله عليه وآله في النصيحة، ومضى على الطريقة، ودعا إلى الحكمة والموعظة الحسنة 96 - ومن خطبة أخرى الحمد لله الاول فلا شئ قبله. والآخر فلا شئ بعده. والظاهر فلا شئ فوقه. والباطن فلا شئ دونه (منها في ذكر الرسول صلى الله


(1) واضح قويم. ويدعو إلى دار السلام يوصل إليها (2) مستعتب بفتح التاءين طلب العتبى. أي الرضا من الله بالاعمال النافعة (3) استزلتهم أدت بهم للزلل والسقوط في المضار، وتأنيث الفعل على تأويل أن الكبرياء صفة. وفي رواية واستزلهم الكبراء أي أضلهم كبراؤهم وسادتهم (4) استخفتهم طيشتهم. والجاهلية حالة العرب قبل نور =

[ 187 ]

عليه وآله) مستقره خير مستقر. ومنبته أشرف منبت. في معادن الكرامة، ومماهد السلامة (1). قد صرفت نحوه أفئدة الابرار، وثنيت إليه أزمة الابصار (2). دفن به الضغائن (3). وأطفا به الثوائر (4). ألف به إخوانا، وفرق به أقرانا (5). أعز به الذلة (6)، وأذل به العزة. كلامه بيان وصمته لسان 97 - ومن خطبة له عليه السلام ولئن أمهل الظالم فلن يفوت أخذه (7). وهو له بالمرصاد على مجاز طريقه. وبموضع الشجى من مساغ ريقه (8). أما والذي نفسي بيده ليظهرن هؤلاء القوم عليكم، ليس لانهم أولى بالحق منكم، ولكن لاسراعهم إلى باطل صاحبهم وإبطائكم عن حقي. ولقد أصبحت


= العلم الاسلامي. والجهلاء وصف لها للمبالغة (1) المماهد جمع ممهد كمقعد ما يمهد أي يبسط فيه الفراش ونحوه، أي أنه ولد في أسلم موضع وأنقاه من دنس السفاح (2) الازمة كائمة جمع زمام. وانثناء الازمة إليه عبارة عن تحولها نحوه (3) الاحقاد، فهو رسول الالفة، وأهل دينة المتآلفون المتعاونون على الخير. ومن لم يكن في عروة الالفة منهم فهو - والله أعلم - خارج عنهم (4) جمع ثائرة وهي العداوة الواثبة بصاحبها على أخيه ليضره ان لم يقتله (5) وفرق به أقران الالفة على الشرك (6) ذلة الضعفاء من أهل الفضل المستترين بحجب الخمول، وأذل به عزة الشرك والظلم والعدوان (7) لا يذهب عنه أن يأخذه (8) الشجى ما يعترض في الحلق من عظم وغيره. ومساغ الريق ممره =

[ 188 ]

الامم تخاف ظلم رعاتها. وأصبحت أخاف ظلم رعيتي. استنفرتكم للجهاد فلم تنفروا. وأسمعتكم فلم تسمعوا، ودعوتكم سرا وجهرا فلم تستجيبوا، ونصحت لكم فلم تقبلوا. أشهود كغياب (1) وعبيد كأرباب؟ أتلو عليكم الحكم فتنفرون منها. وأعظكم بالموعظة البالغة فتتفرقون عنها. وأحثكم على جهاد أهل البغي فما آتي على آخر القول حتى أراكم متفرقين أيادي سبا (2) ترجعون إلى مجالسكم وتتخادعون عن مواعظكم. أقومكم غدوة وترجعون إلي عشية كظهر الحية (3)، عجز المقوم وأعضل المقوم (4) أيها الشاهدة ابدانهم. الغائبة عقولهم. المختلفة أهواؤهم. المبتلى بهم أمراؤهم. صاحبكم يطيع الله وأنتم تعصونه. وصاحب أهل الشام يعصي الله وهم يطيعونه. لوددت والله أن معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم. يا أهل الكوفة منيت بكم بثلاث واثنتين: صم ذوو أسماع،


= من الحلق. والكلام تمثيل لقرب السطوة الالهية من الظالمين (1) شهود جمع شاهد بمعنى الحاضر. وغياب جمع غائب (2) قالوا إن سبأ هو أبو عرب اليمن كان له عشرة أولاد جعل منهم ستة يمينا له وأربعة شمالا تشبيها لهم باليدين، ثم تفرق أولئك الاولاد أشد التفرق (3) القوس (4) أعضل استعصى واستصعب

[ 189 ]

وبكم ذوو كلام، وعمى ذوو أبصار. لا أحرار صدق عند اللقاء (1) ولا إخوان ثقة عند البلاء. تربت أيديكم. يا أشباه الابل غاب عنها رعاتها كلما جمعت من جانب تفرقت من جانب آخر. والله لكأني بكم فيما إخال (2) أن لو حمس الوغى وحمي الضراب وقد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قبلها (3). وإني لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي. وإني لعلى الطريق الواضح ألقطه لقطا (4). انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سمتهم (5) واتبعوا أثرهم فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى. فإن لبدوا فالبدوا (6) وإن نهضوا فانهضوا. ولا تسبقوهم فتضلوا، ولا تتأخروا عنهم فتهلكوا. لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وآله فما أرى أحدا يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا (7) وقد باتوا سجدا وقياما يراوحون بين


(1) هاته وما بعدها هما الثنتان، وما قبلها هي الثلاثة (2) إخال أظن. وحمس كفرح اشتد. والوغى الحرب (3) انفراج المرأة عن قبلها عند الولادة أو عند ما يشرع عليها سلاح. والمشابهة في العجز والدناءة في العمل (4) اللقط أخذ الش ئ من الارض. وإنما سمي اتباعه لمنهاج الحق لقطا لان الحق واحد والباطل ألوان مختلفة، فهو يلتقط الحق من بين ضروب الباطل (5) السمت بالفتح طريقهم أو حالهم أو قصدهم (6) لبد كنصر أقام، أي أن أقاموا فأقيموا (7) شعثا جمع أشعث هو المغبر الرأس، والغبر جمع أغبر، والمراد أنهم = في بعض النسخ " فما أرى أحدا منهم يشبهه "

[ 190 ]

جباههم وخدودهم (1) ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم. كأن بين أعينهم ركب المعزى (2) من طول سجودهم. إذا ذكر الله هملت أعينهم حتى تبل جيوبهم. ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا (3) من العقاب ورجاء الثواب 98 - ومن كلام له عليه السلام والله لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرما إلا استحلوه (4) ولا عقدا إلا حلوه. وحتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله ظلمهم (5) ونبا به سوء رعيهم (6) وحتى يقوم الباكيان يبكيان باك يبكي لدينه وباك يبكي لدنياه. وحتى تكون نصرة أحدكم


= كانوا متقشفين (1) المراوحة بين العملين أن يعمل هذا مرة، وهذا مرة. وبين الرجلين أن يقوم بالعمل كل منهما مرة، وبين جباهم وخدودهم أن يضعوا الخدود مرة والجباه أخرى على الارض خضوعا لله وسجودا (2) ركب جمع ركبة موصل الساق من الرجل بالفخذ. وإنما خص ركب المعزى ليبوستها واضطرابها من كثرة الحركة، أي أنهم لطول سجودهم يطول سهودهم، وكأن بين أعينهم جسم خشن يدور فيها فيمنعهم عن النوم والاستراحة (3) مادوا اضطربوا وارتعدوا (4) الكلام في بني أمية. والمحرم ما حرمه الله. واستحلاله استباحته (5) بيوت المدر المبنية من طوب وحجر ونحوها، وبيوت الوبر الخيام (6) أصله من نبابه المنزل إذا لم يوافقه فارتحل عنه، وأن البيوت تستو بل سوء الحكومة فتأخذ عنه منجاة فيخسر العمران، ولا تتبوأ الحكومة الظالمة =

[ 191 ]

من أحدهم كنصرة العبد من سيده. إذا شهد أطاعه، وإذا غاب اغتابه. وحتى يكون أعظمكم فيها غناء أحسنكم بالله ظنا. فإن أتاكم الله بعافية فأقبلوا. وإن ابتليتم فاصبروا. فإن العاقبة للمتقين 99 - ومن خطبة له عليه السلام نحمده على ما كان ونستعينه من أمرنا على ما يكون. ونسأله المعافاة في الاديان كما نسأله المعافاة في الابدان عباد الله أوصيكم بالرفض لهذه الدنيا التاركة لكم وإن لم تحبوا تركها. والمبلية لاجسامكم وإن كنتم تحبون تجديدها. فإنما مثلكم ومثلها كسفر سلكوا سبيلا فكأنهم قد قطعوه (1) وأموا علما (2) فكأنهم قد بلغوه. وكم عسى المجرى إلى الغاية أن يجري إليها (3) حتى يبلغها. وما عسى أن يكون بقاء من له يوم لا يعدوه وطالب حثيث يحدوه في الدنيا حتى يفارقها (4) فلا تنافسوا


= إلا خرابا تنعق فيه فلا يجيبها إلا صدى نعيقها (1) السفر بفتح فسكون جماعة المسافرين، أي انكم في مسافة العمر كالمسافرين في مسافة الطريق فلا يلبثون أن ياتوا على نهايتها لانها محدودة (2) أموا قصدوا (3) الذي يجرى فرسه إلى غاية معلومة أي مقدار من الجري يلزمه حتى يصل لغايته (4) يحدوه يتبعه ويسوقه

[ 192 ]

في عز الدنيا وفخرها. ولا تعجبوا بزينتها ونعيمها. ولا تجزعوا من ضرائها وبؤسها. فإن عزها وفخرها إلى انقطاع. وإن زينتها ونعيمها إلى زوال، وضراءها وبؤسها إلى نفاد (1). وكل مدة فيها إلى انتهاء. وكل حي فيها إلى فناء. أو ليس لكم في آثار الاولين مزدجر (2) وفي آبائكم الماضين تبصرة ومعتبر إن كنتم تعقلون. أو لم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون. وإلى الخلف الباقين لا يبقون. أو لستم ترون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتى، فميت يبكى وآخر يعزى، وصريع مبتلى. وعائد يعود وآخر بنفسه يجود (3). وطالب للدنيا والموت يطلبه. وغافل وليس بمغفول عنه. وعلى أثر الماضي ما يمضي الباقي ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغص الشهوات، وقاطع الامنيات. عند المساورة للاعمال القبيحة (4). واستعينوا الله على أداء


(1) فناء (2) مكان للانزجار والارتداع (3) من جاد بنفسه إذا قارب أن يقضى نحبه كأنه يسخو بها ويسلمها إلى خالقها (4) عند متعلق باذكروا. والمساورة المواثبة كأن العمل القبيح لبعده عن ملاءمة الطبع الانساني بالفطرة الالهية ينفر من مقترفه كما ينفر الوحش فلا يصل إليه المغبون إلا بالوثبة عليه وهو في غائلته على مجترمه كالضاريات من الوحوش فهو يثب على مواثبه ليهلكه فما ألطف التعبير بالمساورة في هذا الموضع

[ 193 ]

واجب حقه. وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه 100 - ومن خطبة له أخرى الحمد لله الناشر في الخلق فضله. والباسط فيهم بالجود يده. نحمده في جميع أموره. ونستعينه على رعاية حقوقه. ونشهد أن لا إله غيره وأن محمدا عبده ورسوله. أرسله بأمره صادعا (1)، وبذكره ناطقا. فأدى أمينا ومضى رشيدا. وخلف فينا راية الحق من تقدمها مرق (2)، ومن تخلف عنها زهق (3). ومن لزمها لحق دليلها مكيث الكلام (4). بطئ القيام، سريع إذا قام. فإذ أنتم ألنتم له رقابكم وأشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموت فذهب به، فلبثتم بعده ما شاء الله، حتى يطلع الله لكم من يجمعكم ويضم نشركم (5). فلا تطمعوا في غير مقبل (6)، ولا تيأسوا من مدبر. فإن المدبر


(1) فالقا به جدران الباطل فهادمها (2) خرج عن الدين. والذي يتقدم راية الحق هو من يزيد على ما شرع الله أعمالا وعقائد يظنها مزينة للدين ومتممة له ويسميها بدعة حسنة (3) اضمحل وهلك (4) رزين في قوله لا يبادر به عن غير روية، بطئ القيام لا ينبعث للعمل بالطيش وإنما يأخذ له عدة إتمامه، فإذا أبصر منه وجه الفوز قام فمضى إليه مسرعا، وكأنه يصف بذلك حال نفسه كرم الله وجهه (5) يصل متفرقكم (6) الاقبال والادبار في الجملتين لا يتواردان على جهة واحدة، فالمقبل بمعنى المتوجه إلى الامر الطالب له الساعي إليه، والمدبر بمعنى من أدبرت حاله واعترضته الخيبة =

[ 194 ]

عسى أن تزل إحدى قائمتيه (1)، وتثبت الاخرى وترجعا حتى تثبتا جميعا. ألا إن مثل آل محمد صلى الله عليه وآله كمثل نجوم السماء إذا خوى نجم طلع نجم (2)، فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع، وأراكم ما كنتم تأملون 101 - ومن خطبة له أخرى الاول قبل كل أول. والآخر بعد كل آخر. بأوليته وجب أن لا أول له. وباخريته وجب أن لا آخر له. وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة يوافق فيها السر الاعلان والقلب اللسان أيها الناس لا يجرمنكم شقاقي (3)، ولا يستهوينكم عصياني، ولا تتراموا بالابصار عندما تسمعونه مني (4). فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة إن الذي أنبئكم به عن النبي الامي صلى الله عليه وآله. ما كذب المبلغ ولا جهل السامع. ولكأني أنظر إلى ضليل (5) قد


= في عمله وإن كان لم يزل طالبا (1) رجليه (2) خوى غاب (3) لا يكسبنكم، والمفعول محذوف أي خسرانا، أي لا تشاقوني فيكسبكم الشقاق خسرانا، ولا تعصوني فيتيه بكم عصياني في ضلال وحيرة (4) لا ينظر بعضكم إلى بعض تغامزا بالانكار لما أقول (5) ضليل كشرير: شديد الضلال مبالغ في الضلال

[ 195 ]

نعق بالشام، وفحص براياته (1) في ضواحي كوفان (2). فإذا فغرت فاغرته (3)، واشتدت شكيمته (4)، وثقلت في الارض وطأته عضت الفتنة أبناءها بأنيابها، وماجت الحرب بأمواجها. وبدا من الايام كلوحها (5)، ومن الليالي كدوحها (6). فإذا أينع زرعه (7)، وقام على ينعه (8). وهدرت شقاشقه، وبرقت بوارقه، عقدت رايات الفتن المعضلة، وأقبلن كالليل المظلم، والبحر الملتطم. هذا وكم يخرق الكوفة من قاصف (9)، ويمر عليها من عاصف. وعن قليل تلتف القرون بالقرون (10)، ويحصد القائم ويحطم المحصود


(1) من فحص القطا التراب إذا اتخذ فيه أفحوصا بالضم وهو مجثمه، أي المكان الذي يقيم فيه عند ما يكون على الارض، يريد أنه نصب له رايات بحثت لها في الارض مراكز (2) هي الكوفة، أي أنه كاد يصل الكوفة حيث أن راياته انتشرت على بعض بلدان من حدودها وهو ما أشار إليه بالضواحي (3) فغر الفم كمنع انفتح، وفغرته، فهو لازم ومتعد، أي إذا انفتحت فاغرته وهي فمه (4) الشكيمة الحديدة المعترضة في اللجام في فم الدابة ويعبر بقوتها عن شدة البأس وصعوبة الانقياد (5) عبوسها (6) جمع كدح بالفتح وهو الخدش وأثر الجراحات (7) نضج وحان قطافه (8) حالة نضجه (9) هو ما اشتد صوته من الرعد والريح وغيرهما. والعاصف ما اشتد من الريح، والمراد مزعجات الفتن (10) يكون الاشتباك بين قواد الفتنة وبين أهل الحق كما تشتبك الكباش بقرونها عند النطاح. وما بقي من الصلاح قائما يحصد، وما كان قد حصد يحطم ويهشم، فلا يبقى إلا شر عام وبلاء تام ان لم يقم للحق أنصار

[ 196 ]

102 - ومن كلام له يجري مجرى الخطبة وذلك يوم يجمع الله فيه الاولين والآخرين لنقاش الحساب (1) وجزاء الاعمال، خضوعا قياما قد ألجمهم العرق، ورجفت بهم الارض. فأحسنهم حالا من وجد لقدميه موضعا ولنفسه متسعا (منه) فتن كقطع الليل المظلم. لا تقوم لها قائمة (2)، ولا ترد لها راية، تأتيكم مزمومة مرحولة، يحفزها قائدها ويجهدها راكبها. أهلها قوم شديد كلبهم، قليل سلبهم (3). يجاهدهم في سبيل الله قوم أذلة عند المتكبرين. في الارض مجهولون، وفي السماء معروفون. فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم الله لا رهج له ولا حس (4).


(1) نقاش الحساب الاستقصاء فيه (2) لا تثب لمعارضتها قائمة خيل، وقوائم الفرس رجلاه أو أنه لا يتمكن أحد من القيام لها وصدها. وقوله مزمومة مرحولة قادها وزمها وركبها برحلها أقوام زحفوا بها عليكم، يحفزونها أي يحثونها ليقروا بها في دياركم وفيكم يحطون الرحال (3) السلب محركة ما يأخذه القاتل من ثياب المقتول وسلاحه في الحرب، أي ليسوا من أهل الثروة (4) الرهج بسكون الهاء، ويحرك: الغبار، والحس بفتح الحاء الجلبة والاصوات المختلطة. قالوا يشير إلى فتنة صاحب الزنج وهو علي بن محمد ابن عبد الرحيم من بني عبد القيس ادعى أنه علوي من أبناء محمد بن أحمد بن عيسى ابن زيد بن علي بن الحسين، وجمع الزنوج الذين كانوا يسكنون السباخ في نواحي البصرة وخرج بهم على المهتدي العباسي في سنة خمس وخمسين ومائتين، واستفحل أمره وانتشرت أصحابه في أطراف البلاد للسلب والنهب، وملك إبلة عنوة وفتك بأهلها، = = واستولى على عبادان والاهواز، ثم كانت بينه وبين الموفق في زمن المعتمد حروب انجلى فيها عن الاهواز وسلم عاصمة ملكه، وكان سماها المختارة - بعد محاصرة شديدة - وقتله الموفق أخو الخليفة المعتمد سنة سبعين ومائتين، وفرح الناس بقتله لانكشاف رزئه عنهم

[ 197 ]

وسيبتلى أهلك بالموت الاحمر والجوع الاغبر 103 - ومن خطبة له عليه السلام انظروا إلى الدنيا نظر الزاهدين فيها، الصادفين عنها (1). فإنها والله عما قليل تزيل الثاوي الساكن (2)، وتفجع المترف الآمن (3). لا يرجع ما تولى منها فأدبر، ولا يدرى ما هو آت منها فينتظر. سرورها مشوب بالحزن. وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن. فلا يغرنكم كثرة ما يعجبكم فيها، لقلة ما يصحبكم منها رحم الله امرأ تفكر فاعتبر. واعتبر فأبصر. فكأن ما هو كائن من الدنيا عن قليل لم يكن (4)، وكأن ما هو كائن من الآخرة عما قليل لم يزل. وكل معدود منقض، وكل متوقع آت، وكل آت قريب دان (منها) العالم من عرف قدره. وكفى بالمرء جهلا


(1) الصادفين المعرضين (2) الثاوي المقيم (3) المترف بفتح الراء المتروك يصنع ما يشاء لا يمنع (4) فإن الذي هو موجود في الدنيا بعد قليل كأنه لم يكن، وإن الذي هو كائن في الآخرة بعد قليل كأنه كان لم يزل، فكأنه وهو في الدنيا من سكان الآخرة

[ 198 ]

ألا يعرف قدره. وإن من أبغض الرجال إلى الله لعبدا وكله الله إلى نفسه. جائرا عن قصد السبيل، سائرا بغير دليل. إن دعي إلى حرث الدنيا عمل، وإن دعي إلى حرث الآخرة كسل، كأن ما عمل له واجب عليه (1)، وكأن ما ونى فيه ساقط عنه (2) (منها) وذلك زمان لا ينجو فيه إلا كل مؤمن نومة (3) إن شهد لم يعرف وإن غاب لم يفتقد. أولئك مصابيح الهدى، وأعلام السرى (4). ليسوا بالمساييح ولا المذاييع البذر أولئك يفتح الله لهم أبواب رحمته. ويكشف عنهم ضراء نقمته أيها الناس سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الاسلام كما يكفأ الاناء بما فيه. أيها الناس إن الله قد أعاذكم من أن يجور عليكم، ولم يعذكم من أن يبتليكم (5) وقد قال جل من قائل " إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين ". أما قوله عليه السلام (كل مؤمن نومة) فإنما أراد به الخامل الذكر القليل الشر. والمساييح جمع مسياح وهو الذي يسيح


(1) ما عمل له هو حرث الدنيا (2) ونى فيه: تراخى فيه، وهو حرث الآخرة (3) نومة بضم ففتح كثير النوم، يريد به البعيد عن مشاركة الاشرار في شرورهم، فإذا رأوه لا يعرفونه منهم وإذا غاب لا يفتقدونه (4) السرى كالهدى السير في ليالي المشاكل. وبقية الالفاظ يأتي شرحها بعد أسطر لصاحب الكتاب (5) ليتبين الصادق من =

[ 199 ]

بين الناس بالفساد والنمائم. والمذاييع جمع مذياع: وهو الذي إذا سمع لغيره بفاحشة أذاعها ونوه بها. والبذر جمع بذور: وهو الذي يكثر سفهه ويلغو منطقه (1) 104 - ومن خطبة له عليه السلام وقد تقدم مختارها بخلاف هذه الرواية أما بعد فإن الله سبحانه بعث محمدا صلى الله عليه وآله وليس أحد من العرب يقرأ كتابا، ولا يدعي نبوة ولا وحيا. فقاتل بمن أطاعه من عصاه. يسوقهم إلى منجاتهم، ويبادر بهم الساعة أن تنزل بهم. يحسر الحسير (2) ويقف الكسير فيقيم عليه حتى يلحقه غايته إلا هالكا لا خير فيه. حتى أراهم منجاتهم، وبوأهم محلتهم فاستدارت رحاهم (3)، واستقامت قناتهم. وايم الله لقد كنت من


= الكاذب والمخلص من المريب، فتكون لله الحجة على خلقه (1) الذي في القاموس أن البذور بالفتح كالبذير هو النمام (2) من حسر البعير كضرب إذا أعيا وكل، والكسير المكسور، أي أن من ضعف اعتقاده أو كلت عزيمته فتراخى في السير على سبيل المؤمنين، أو طرقته الوساوس فهشمت قوائم همته بزلزال في عقيدته فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيم على ملاحظته وعلاجه حتى ينصل من مرضه هذا ويلحق بالمخلصين إلا من كان ناقص الاستعداد خبيث العنصر فلا ينجع فيه الدواء فيهلك (3) كناية عن وفرة أرزاقهم، فإن الرحا إنما تدور على ما تطحنه من الحب. أو كناية عن قوة =

[ 200 ]

ساقتها حتى تولت بحذافيرها، واستوسقت في قيادها، ما ضعفت ولا جبنت، ولا خنت ولا وهنت. وايم الله لابقرن الباطل (1) حتى أخرج الحق من خاصرته 105 - ومن خطبة له عليه السلام حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله شهيدا وبشيرا ونذيرا: خير البرية طفلا، وأنجبها كهلا. أطهر المطهرين شيمة، وأجود المستمطرين ديمة (2). فما احلولت لكم الدنيا، في لذتها ولا تمكنتم من رضاع أخلافها (3)، إلا من بعد ما صادفتموها جائلا خطامها (4)، قلقا وضينها. قد صار حرامها عند أقوام بمنزلة السدر المخضود (5)،


= سلطانهم على غيرهم. والرحا رحا الحرب يطحنون بها. والقناة الرمح. واستقامتها كناية عن صحة الاحوال وصلاحها 1) البقر بالفتح الشق أي لشقن جوف الباطل بقهر أهله فانتزع الحق من أيدى المبطلين. والتمثيل في غاية من اللطف (2) الديمة بالكسر المطر يدوم في سكون. والمستمطر بفتح الطاء من يطلب منه المطر. والمراد هنا النجدة والمعونة. فالنبي صلى الله عليه وسلم أغزر الناس فيضا للخير على طلابه (3) جمع خلف بالكسر حلمة ضرع الناقة (4) الخطام ككتاب ما يوضع في أنف البعير ليقاد به. والوضين بطان عريض منسوج من سيور أو شعر يكون للرحل كالحزام للسرج. وجولان الخطام وقلق الوضين إما كناية عن الهزال، وإما كناية عن صعوبة القياد. فإن الخطام الجائل لا يشتد على البعير فيجذبه، وعن قلق الراكب وعدم اطمئنانه لاضطراب الرحل بقلق الوضين (5) السدر بالكسر شجر النبق والمخضود المقطوع الشوك أو =

[ 201 ]

وحلالها بعيدا غير موجود. وصادفتموها والله ظلا ممدودا إلى أجل معدود. فالارض لكم شاغرة (1)، وأيديكم فيها مبسوطة، وأيدي القادة عنكم مكفوفة، و سيوفكم عليهم مسلطة، وسيوفهم عنكم مقبوضة. ألا إن لكل دم ثائرا (2)، ولكل حق طالبا. وإن الثائر في دمائنا كالحاكم في حق نفسه (3). وهو الله الذي لا يعجزه من طلب، ولا يفوته من هرب. فأقسم بالله يا بني أمية عما قليل لتعرفنها في أيدي غيركم وفي دار عدوكم. ألا وإن أبصر الابصار ما نفذ في الخير طرفه. ألا إن أسمع الاسماع ما وعى التذكير وقبله أيها الناس استصبحوا من شعلة مصباح واعظ متعظ. وامتاحوا من صفو عين قد روقت من الكدر (4) عباد الله لا تركنوا إلى جهالتكم، ولا تنقادوا لاهوائكم، فإن النازل بهذا المنزل (5) نازل بشفا جرف هار، ينقل الردى على


= منثنى الاغصان من ثقل الحمل. والتشبيه في اللذة (1) أي بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم شغرت لكم الارض، أي لم يبق فيها من يحميها دونكم ويمنعكم عن خيرها (2) ثأره طلب بدمه وقتل قاتله (3) الطالب بدمائنا ينال ثأره حتما كأنه هو القاضي بنفسه لنفسه ليس هناك من يحكم عليه فيمانعه عن حقه (4) امتاحوا: استقوا وانزعوا الماء لري عطشكم من عين صافية صفت من الكدر وهي عين علومه عليه السلام (5) منزل الركون إلى الجهالة والانقياد للهوى. وشفا الشئ حرفه. والجرف بضمتين ما جرفته السيول =

[ 202 ]

ظهره من موضع إلى موضع (1) لرأي يحد ثه بعد رأي، يريد أن يلصق ما لا يلتصق ويقرب ما لا يتقارب. فالله ألله أن تشكوا إلى من لا يشكي شجوكم (2)، ولا ينقض برأيه ما قد أبرم لكم. إنه ليس على الامام إلا ما حمل من أمر ربه. الابلاغ في الموعظة، والاجتهاد في النصيحة، والاحياء للسنة، وإقامة الحدود على مستحقيها، وإصدار السهمان على أهلها (3). فبادروا العلم من قبل تصويح نبته (4)، ومن قبل أن تشغلوا بأنفسكم عن مستثار العلم من عند أهله (5). وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه، فإنما أمرتم بالنهي بعد التناهي


= وأكلته من الارض. والهاري كالهائر: المنهدم أو المشرف على الانهدام، أي انه بمكان التهور في الهلكة (1) اي أنه إذا نقل حمل المهلكات فإنما ينقله من موضع من ظهره إلى موضع آخر منه، فهو حامل لها دائما، وإنما يتعب في نقلها من أعلاه لوسطه أو أسفله بآرائه وبدعه، فهو في كل رأى يتنقل من ضلالة إلى ضلالة حيث أن مبنى الكل على الجهالة والهوى (2) يقال أشكاه إذا أزال مشتكاه، والشجو الحاجة. يقول إن ما تسوله لكم الجهالات والاهواء من الحاجات يلزمكم أن تنصرفوا عن خيالها ولا تشكوها إلي، فإني لا أتبع أهواءكم ولا أقضي هذه الرغبات الفاسدة ولا استطيع أن أنقض برأيي ما أبرم لكم في الشريعة الغراء (3) السهمان بالضم جمع سهم بمعنى الحظ والنصيب، وإصدار السهمان إعادتها إلى أهلها المستحقين لها لا ينقصهم منها شيئا. وسماه إصدارا لانها كانت منعتها أربابها بالظلم في بعض الازمان ثم ردت إليهم، كالصدور وهو رجوع الشاربة من الماء إلى أعطانها (4) التصويح التجفيف، أي سابقوا إلى العلم وهو في غضارته قبل أن يجف فلا تستطيعون إحياءه بعد يبسه (5) مستثار اسم مفعول =

[ 203 ]

106 - (ومن خطبة له عليه السلام) الحمد لله الذي شرع الاسلام فسهل شرائعه لمن ورده، وأعز أركانه على من غالبه فجعله أمنا لمن علقه (1)، وسلما لمن دخله (2)، وبرهانا لمن تكلم به، وشاهدا لمن خاصم به، ونورا لمن استضاء به، وفهما لمن عقل، ولبا لمن تدبر، وآية لمن توسم، وتبصرة لمن عزم، وعبرة لمن اتعظ، ونجاة لمن صدق، وثقة لمن توكل، وراحة لمن فوض، وجنة لمن صبر (3). فهو أبلج المناهج (4) واضح الولائج (5)، مشرف المنار (6)، مشرق الجواد (7)، مضئ المصابيح كريم المضمار (8)، رفيع الغاية، جامع الحلبة (9)، متنافس السبقة (10) شريف الفرسان. التصديق منهاجه، والصالحات مناره، والموت


= بمعنى المصدر. والاستتارة طلب الثور وهو السطوع والظهور (1) علقه كعلمه: تعلق به (2) من دخله لا يحارب (3) جنة بالضم أي وقاية وصونا (4) أشد الطرق وضوحا وأنورها (5) الولائج جمع وليجة هي الدخيلة وهي المذهب (6) مشرف بفتح الراء هو المكان ترتفع عليه فتطلع من فوقه على شئ. ومنار الدين هي دلائله من العمل الصالح يطلع منها البصير على حقائق العقائد ومكارم الاخلاق (7) جمع جادة: الطريق الواضح (8) كريم المضمار أي إذا سوبق سبق (9) الحلبة خيل تجمع من كل صوب للنصرة. والاسلام جامعها يأتي إليه الكرائم والعتاق (10) السبقة بالضم جزاء السابقين

[ 204 ]

غايته (1). والدنيا مضماره (2)، والقيامة حلبته، والجنة سبقته (3) (منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله) حتى أورى قبسا لقابس (4)، وأنار علما لحابس (5)، فهو أمينك المأمون، وشهيدك يوم الدين وبعيثك نعمة (6). ورسولك بالحق رحمة. اللهم اقسم له مقسما من عدلك (7)، واجزه مضاعفات الخير من فضلك. اللهم أعل على بناء البانين بناءه، وأكرم لديك نزله (8)، وشرف لديك منزلته. وآته الوسيلة وأعطه السناء والفضيلة (9)، واحشرنا في زمرته غير خزايا (10) ولا نادمين ولا ناكبين (11)، ولا ناكثين (12)، ولا ضالين، ولا مضلين، ولا مفتونين (وقد مضى هذا الكلام فيما تقدم إلا أننا


(1) يريد الموت عن الشهوات البهيمية والحياة بالسعادة الابدية كما يعلم من قوله رفيع الغاية، وإلا فالموت المعروف غاية كل حي (2) لانها مزرعة الآخرة من سبق فيها سبق في الاخرى (3) سبقته: جزاء السابقين به (4) أورى أوقد. والقبس بالتحريك الشعلة من النار تقتبس من معظم النار. والقابس آخذ النار من النار. والمراد ان النبي أفاد طلاب الحق ما به يستضيئون لاكتشافه (5) الحابس من حبس ناقته وعقلها حيرة منه لا يدري كيف يهتدي فيقف عن السير. وأنار له علما أي وضع له نارا في رأس جبل ليستنقذه من حيرته (6) بعيثك مبعوثك (7) المقسم كمقعد ومنبر: النصيب والحظ (8) النزل بضمتين ما هئ للضيف لان ينزل عليه (9) السناء كسحاب الرفعة (10) خزايا جمع خزيان من خزى إذا خجل من قبيح ارتكبه (11) عادلين عن طريق الحق (12) ناكثين ناقضين للعهد

[ 205 ]

كررناه ههنا لما في الروايتين من الاختلاف) (منها في خطاب أصحابه) وقد بلغتم من كرامة الله لكم منزلة تكرم بها إماؤكم، وتوصل بها جيرانكم، ويعظمكم من لا فضل لكم عليه، ولا يد لكم عنده، ويهابكم من لا يخاف لكم سطوة، ولا لكم عليه إمرة. وقد ترون عهود الله منفوضة فلا تغضبون، وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون. وكانت أمور الله عليكم ترد وعنكم تصدر وإليكم ترجع. فمكنتم الظلمة من منزلتكم، وألقيتم إليهم أزمتكم وأسلمتم أمور الله في أيديهم. يعملون في الشبهات، ويسيرون في الشهوات. وايم الله لو فرقوكم تحت كل كوكب لجمعكم الله لشر يوم لهم (1) 107 - ومن خطبة له عليه السلام في بعض أيام صفين وقد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطغام (2)، وأعراب أهل الشام، وأنتم لهاميم العرب (3) ويآفيخ


(1) أي أنكم ستجتمعون لقهر الظالمين ولن يكون في طاقتهم أن يفرقوكم، حتى لو شتتوكم تشتيت الكواكب في السماء لاجتمعتم لقتالهم. وقيل إنه يريد أن البلاء سيعم حتى لو فرقكم بنو أمية تحت كل كوكب طلبا لخلاصكم من البلاء لجمعكم الله لشر يوم لهم حتى يأخذكم البلاء كما يأخذهم (2) الطغام كجراد: أوغاد الناس (3) لهاميم جمع لهميم بالكسر وهو السابق الجواد من الخيل والناس

[ 206 ]

الشرف (1) والانف المقدم، والسنام الاعظم. ولقد شفى وحاوح صدري (2) أن رأيتكم بأخرة (3) تحوزونهم كما حازوكم، وتزيلونهم عن مواقفهم كما أزالوكم. حسا بالنضال (4)، وشجرا بالرماح (5). تركب أولاهم أخراهم، كالابل الهيم المطرودة (6) ترمى عن حياضها. وتذاد عن مواردها. 108 - ومن خطبة له عليه السلام وهي من خطب الملاحم الحمد لله المتجلى لخلقه بخلقه، والظاهر لقلوبهم بحجته. خلق الخلق من غير روية، إذ كانت الرويات لا تليق إلا بذوي الضمائر وليس بذي ضمير في نفسه. خرق علمه باطن غيب السترات (7)، وأحاط بغموض عقائد السريرات (منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله) اختاره من شجرة الانبياء ومشكاة الضياء (8)، وذؤابة


اليآفيخ جمع يأفوخ: هو من الرأس حيث يلتقي عظم مقدمه مع مؤخره (2) الوحاوح جمع وحوحة صوت معه بحح يصدر عن المتألم. والمراد حرقة الغيظ (3) الاخرة محركة: آخر الامر. وجملة أن رأيتكم فاعل شفى (4) الحس بالفتح القتل. والنضال المباراة في الرمي. وفي رواية النصال بالصاد (5) الشجر كالضرب: الطعن (6) الهيم بالكسر العطاش. وتذاد: تمنع (7) جمع سترة ما يستر به أيا كان (8) المشكاة كل كوة =

[ 207 ]

العلياء (1) وسرة البطحاء (2). ومصابيح الظلمة، وينابيع الحكمة (منها) طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه (3). يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، وآذان صم، وألسنة بكم. متبع بدوائه مواضع الغفلة ومواطن الحيرة. لم يستضيئوا بأضواء الحكمة (4)، ولم يقدحوا بزناد العلوم الثاقبة. فهم في ذلك كالانعام السائمة، والصخور القاسية. قد انجابت السرائر لاهل البصائر (5). ووضحت محجة الحق لخابطها (6)، وأسفرت الساعة عن وجهها، وظهرت العلامة لمتوسمها. مالي أراكم أشباحا بلا أرواح، وأرواحا بلا أشباح، ونساكا بلا صلاح، وتجارا بلا أرباح. وأيقاظا نوما، وشهودا غيبا، وناظرة عميا، وسامعة صما، وناطقة بكما. رأيت ضلالة قد قامت على قطبها (7)،


= غير نافذة ومن العادة أن يوضع فيها المصباح (1) الذؤابة الناصية أو منبتها من الرأس (2) ما بين أخشبي مكة كانت تسكنه قبائل من قريش، ويقال لهم قريش البطاح (3) مواسمه جمع ميسم بالكسر وهو المكواة، يجمع على مواسم ومياسم (4) قوله لم يستضيئوا، يحكي حال من لم ينجع فيهم الدواء ممن صار الفساد من مقومات أمزجتهم (5) انجابت من قولهم انجابت الناقة إذا مدت عنقها للحلب، أي أن السرائر خضعت لنور البصائر فهو يكشفها ويملكها. وأهل البصائر يصرفون السرائر إلى ما يريدون (6) خابطها: السائر عليها (7) قامت على قطبها تمثيل لانتظام أمرها =

[ 208 ]

وتفرقت بشعبها (1)، تكيلكم بصاعها (2)، وتخبطكم بباعها (3). قائدها خارج من الملة، قائم على الضلة. فلا يبقى يومئذ منكم إلا ثفالة كثفالة القدر (4)، أو نفاضة كنفاضة العكم (5). تعرككم عرك الاديم (6)، وتدوسكم دوس الحصيد (7)، وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبة البطينة (8) من بين هزيل الحب. أين تذهب بكم المذاهب، وتتيه بكم الغياهب، وتخدعكم الكواذب. ومن أين تؤتون وأنى تؤفكون. فلكل أجل كتاب، ولكل غيبة، إياب. فاستمعوا من ربانيكم (9)، وأحضروا قلوبكم، واستيقظوا إن هتف بكم (10). وليصدق رائد أهله (11)، وليجمع شمله، وليحضر ذهنه.


= واستحكام قوتها (1) جمع شعبة، أي انتشرت بفروعها (2) تكيلكم أي تأخذكم للهلاك جملة كما يأخذ الكيال ما يكيله من الحب (3) تخبطكم، من خبط الشجرة ضربها بالعصى ليتناثر ورقها، أو من خبط البعير بيده الارض أي ضربها. وعبر بالباع ليفيد استطالتها عليهم وتناولها لقريبهم وبعيدهم (4) الثفالة بالضم كالثفل. والثافل ما استقر تحت الشئ‌ئ من كدرة. وثفالة القدر ما يبقى في قعره من عكارة. والمراد الارذال والسفلة (5) النفاضة ما يسقط بالنفض. والعكم بالكسر العدل بالكسر أيضا، ونمط تجعل فيه المرأة ذخيرتها. والمراد ما يبقى بعد تفريغه في خلال نسيجه فينفض لينظف (6) العرك كالنصر: شديد الدلك. وعركه حكه حتى عفاه. والاديم الجلد (7) المحصود (8) البطينة السمينة (9) الرباني بتشديد الباء المتأله العارف بالله عزوجل (10) صاح بكم (11) الرائد من يتقدم القوم ليكشف لهم مواضع الكلا ويتعرف سهولة الوصول إليها من صعوبته. وفي المثل " لا يكذب الرائد أهله ". يأمر الهداة =

[ 209 ]

فلقد فلق لكم الامر فلق الخرزة، وقرفه قرف الصمغة (1). فعند ذلك أخذ الباطل مآخذه، وركب الجهل مراكبه، وعظمت الطاغية، وقلت الداعية. وصال الدهر صيال السبع العقور. وهدر فنيق الباطل بعد كظوم (2). وتواخي الناس على الفجور. وتهاجروا على الدين. وتحابوا على الكذب. وتباغضوا على الصدق. فإذا كان ذلك كان الولد غيظا (3)، والمطر قيظا، وتفيض اللئام فيضا، وتغيض الكرام غيضا (4). وكان أهل ذلك الزمان ذئابا، وسلاطينه سباعا، وأوساطه أكالا، وفقراؤه أمواتا. وغار الصدق، وفاض الكذب: واستعملت المودة باللسان. وتشاجر الناس بالقلوب. وصار الفسوق نسبا، والعفاف عجبا. ولبس الاسلام لبس الفرو مقلوبا 109 - ومن خطبة له عليه السلام كل شئ خاشع له. وكل شئ قائم به. غني كل فقير. وعز كل


= والدعاة الذين يتلقون عنه ويوصيهم بالصدق في النصيحة (1) قرف الصمغة قشرها، وخص هذا بالذكر لان الصمغة إذا قشرت لا يبقى لها أثر كذا قالوا (2) الفنيق الفحل من الابل. وبعد كظوم أي إمساك وسكون (3) يغيظ والده لشبوبه على العقوق، ويكون المطر قيظا لعدم فائدته فإن الناس منصرفون عن فوائدهم والانتقاع بما يفيض الله عليهم من خير إلى إضرار بعضهم ببعض، ما أشبه هذه الحال بحال هذا الزمان (4) تغيض: من غاض الماء إذا غار في الارض وجفت =

[ 210 ]

ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف. من تكلم سمع نطقه، ومن سكت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه. ومن مات فإليه منقلبه. لم ترك العيون فتخبر عنك. بل كنت قبل الواصفين من خلقك لم تخلق الخلق لوحشة، ولا استعملتهم لمنفعة. ولا يسبقك من طلبت، ولا يفلتك من أخذت (1). ولا ينقص سلطانك من عصاك، ولا يزيد في ملكك من أطاعك، ولا يرد أمرك من سخط قضاءك، ولا يستغني عنك من تولى عن أمرك. كل سر عندك علانية، وكل غيب عندك شهادة. أنت الابد لا أمد لك، وأنت المنتهى لا محيص عنك، وأنت الموعد لا منجا منك إلا إليك. بيدك ناصية كل دابة، وإليك مصير كل نسمة. سبحانك ما أعظم ما نرى من خلقك وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك، وما أهول ما نرى من ملكوتك، وما أحقر ذلك فيما غاب عنا من سلطانك، وما أسبغ نعمك في الدنيا. وما أصغرها في نعم الآخرة. (منها) من ملائكة أسكنتهم سمواتك ورفعتهم عن أرضك،


= ينابيعه (1) لا يفلتك: لا ينفلت منك

[ 211 ]

هم أعلم خلقك بك، وأخوفهم لك، وأقربهم منك. لم يسكنوا الاصلاب، ولم يضمنوا الارحام، ولم يخلقوا من ماء مهين (1)، ولم يشعبهم ريب المنون (2). وإنهم على مكانهم منك، ومنزلتهم عندك، واستجماع أهوائهم فيك، وكثرة طاعتهم لك، وقلة غفلتهم عن أمرك، لو عاينوا كنه ما خفي عليهم منك لحقروا أعمالهم، ولزروا على أنفسهم (3). ولعرفوا أنهم لم يعبدوك حق عبادتك، ولم يطيعوك حق طاعتك. سبحانك خالقا ومعبودا بحسن بلائك عند خلقك (4). خلقت دارا وجعلت فيها مأدبة (5): مشربا ومطعما وأزواجا وخدما وقصورا وأنهارا وزروعا وثمارا. ثم أرسلت داعيا يدعو إليها. فلا الداعي أجابوا، ولا فيما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا. أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها، واصطلحوا على حبها، ومن عشق شيئا أعشى بصره (6)، وأمرض قلبه. فهو ينظر بعين غير صحيحة،


(1) المهين: الحقير، يريد النطفة (2) المنون الدهر. والريب صرفه. أي لم تفرقهم صروف الزمان (3) زرى عليه كرمى: عابه (4) البلاء يكون نعمة ويكون نقمة، ويتعين الاول بإضافة الحسن إليه، أي ما عبدوك إلا شكرا لنعمك عليهم (5) المأدبة بفتح الدال وضمها ما يصنع من الطعام للمدعوين في عرس ونحوه، والمراد منها نعيم الجنة (6) أعشاه أعماه

[ 212 ]

ويسمع بأذن غير سميعة. قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه، وولهت عليها نفسه. فهو عبد لها، ولمن في يده شئ منها. حيثما زالت زال إليها وحيثما أقبلت أقبل عليها. ولا يزدجر من الله بزاجر، ولا يتعظ منه بواعظ. وهو يرى المأخوذين على الغرة (1) - حيث لا إقالة ولا رجعة كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون. فغير موصوف ما نزل بهم، اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت. ففترت لها أطرافهم، وتغيرت لها ألوانهم. ثم ازداد الموت فيهم ولوجا (2). فحيل بين أحدهم وبين منطقه، وإنه لبين أهله ينظر ببصره ويسمع بأذنه، على صحة من عقله، وبقاء من لبه. يفكر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره. ويتذكر أموالا جمعها أغمض في مطالبها (3)، وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها. قد لزمته تبعات جمعها (4)، وأشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتعون بها. فيكون المهنأ لغيره (5)،


(1) على الغرة بالكسر: بغتة وعلى غفلة (2) ولوجا: دخولا (3) أغمض لم يفرق بين حلال وحرام، كأنه أغمض عينيه فلا يميز. أو أغمض أي طلبها من أدق الوجوه وأخفاها فضلا عن أظهرها وأجلاها (4) تبعاتها بفتح فكسر ما يطالبه به الناس من حقوقهم فيها، وما يحاسبه به الله من منع حقه منها وتخطي حدود شرعه في جمعها (5) المهنأ ما أتاك من خير بلا مشقة

[ 213 ]

والعبء على ظهره (1). والمرء قد غلقت رهونه بها (2). فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره (3)، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره. ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه. فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه. (4). فصار بين أهله لا ينطق بلسانه، ولا يسمع بسمعه، يردد طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم ولا يسمع رجع كلامهم. ثم ازداد الموت التياطا به (5). فقبض بصره كما قبض سمعه. وخرجت الروح من جسده، فصار جيفة بين أهله قد أوحشوا من جانبه، وتباعدوا من قربه. لا يسعد باكيا، ولا يجيب داعيا. ثم حملوه إلى مخط في الارض، وأسلموه فيه إلى عمله، وانقطعوا عن زورته (6). حتى إذا بلغ الكتاب أجله، والامر مقاديره وألحق آخر الخلق بأوله، وجاء من أمر الله ما يريده من تجديد خلقه، أماد السماء وفطرها (7) وأرج الارض وأرجفها، وقلع جبالها ونسفها. ودك بعضها بعضا من


(1) العبء: الحمل والثقل (2) غلقت رهونه: استحقها مرتهنها، وأعوزته القدرة على تخليصها كناية عن تعذر الخلاص (3) أصحر له: من أصحر إذا برز في الصحراء، أي على ما ظهر له وانكشف من أمره (4) خالط لسانه سمعه: شارك السمع اللسان في العجز عن أداء وظيفته (5) التياطا أي التصاقا به (6) زيارته (7) أماد: جواب إذا بلغ الكتاب الخ. =

[ 214 ]

هيبة جلالته ومخوف سطوته. وأخرج من فيها. فجددهم بعد أخلاقهم (1) وجمعهم بعد تفرقهم ثم ميزهم لما يريد من مسألتهم عن خفايا الاعمال وخبايا الافعال. وجعلهم فريقين أنعم على هؤلاء وانتقم من هؤلاء. فأما أهل طاعته فأثابهم بجواره، وخلدهم في داره، حيث لا يظعن النزال، ولا تتغير بهم الحال. ولا تنوبهم الافزاع (2)، ولا تنالهم الاسقام، ولا تعرض لهم الاخطار، ولا تشخصهم الاسفار (3). وأما أهل المعصية فأنزلهم شر دار، وغل الايدي إلى الاعناق، وقرن النواصي بالاقدام، وألبسهم سرابيل القطران (4)، ومقطعات النيران (5). في عذاب قد اشتد حره، وباب قد أطبق على أهله في نار لها كلب ولجب (6)، ولهب ساطع وقصيف هائل (7)، لا يظعن مقيمها، ولا يفادى أسيرها ولا تفصم كبولها (8). لا مدة للدار فتفنى، ولا أجل للقوم فيقضى، (منها في ذكر النبي صلى الله عليه وآله) قد حقر الدنيا وصغرها


= وأمادها حركها على غير انتظام. وفطرها صدعها (1) أخلاقهم بالفتح: من قولهم ثوب أخلاق إذا كانت الخلوقة شاملة له كله. والخلوقة البلى (2) لا تنوبهم الافزاع: جمع فزع بمعنى الخوف (3) أشخصه: أزعجه (4) السربال: القميص. والقطران معروف (5) المقطعات كل ثوب يقطع كالقميص والجبة ونحوها، بخلاف ما لا يقطع كالازار والرداء. والمقطعات أشمل للبدن وأشد استحكاما في احتوائه (6) عبر بالكلب محركا عن هيجانها. واللجب الصوت المرتفع (7) القصيف أشد الصوت (8) جمع كبل =

[ 215 ]

وأهون بها وهونها. وعلم أن الله زواها عنه اختيارا (1)، وبسطها لغيره احتقارا. فأعرض عنها بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه، وأحب أن تغيب زينتها عن عينه لكيلا يتخذ منها رياشا (2)، أو يرجو فيها مقاما. بلغ عن ربه معذرا (3)، ونصح لامته منذرا، ودعا إلى الجنة مبشرا نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة (4)، ومعادن العلم، وينابيع الحكم. ناصرنا ومحبنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة 110 - ومن خطبة له عليه السلام إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه الايمان به وبرسوله والجهاد في سبيله، فإنه ذروة الاسلام، وكلمة الاخلاص فإنها الفطرة. وإقام الصلاة فإنها الملة. وإيتاء الزكاة فإنها فريضة واجبة. وصوم شهر رمضان فإنه جنة من العقاب. وحج البيت واعتماره فإنهما ينفيان الفقر ويرحضان الذنب (5). وصلة الرحم،


= بفتح فسكون: القيد. وتفصم تنقطع (1) زواها: قبضها (2) الرياش: اللباس الفاخر (3) معذرا: مبنيا لله حجة تقوم مقام العذر في عقابهم إن خالفوا أمره (4) مختلف الملائكة بفتح اللام محل اختلافهم أي ورود واحد منهم بعد آخر، فيكون الثاني كأنه خلف للاول وهكذا (5) رحضه - كمنعه - غسله

[ 216 ]

فإنها مثراة في المال، ومنسأة في الاجل (1). وصدقة السر فإنها تكفر الخطيئة. وصدقة العلانية فإنها تدفع ميتة السوء. وصنائع المعروف فإنها تقي مصارع الهوان أفيضوا في ذكر الله فإنه أحسن الذكر. وارغبوا فيما وعد المتقين فإن وعده أصدق الوعد. واقتدوا بهدى نبيكم فإنه أفضل الهدى. واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن. وتعلموا القرآن فإنه أحسن الحديث، وتفقهوا فيه فإنه ربيع القلوب، واستشفوا بنوره فإنه شفاء الصدور. وأحسنوا تلاوته فإنه أحسن القصص، فإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم (2) 111 - ومن خطبة له عليه السلام أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة حفت بالشهوات وتحببت بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت


(1) منسأة: مطال فيه ومزيد (2) ألوم: أشد لوما لنفسه بين أيدي الله لانه لا يجد منها عذرا يقبل أو يرد

[ 217 ]

بالغرور. لا تدوم حبرتها (1)، ولا تؤمن فجعتها. غرارة ضرارة. حائلة زائلة (2) نافدة بائدة (3)، أكالة غوالة (4). لا تعدو - إذا تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضاء بها (5) - أن تكون كما قال الله تعالى سبحانه " كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الارض فأصبح هشيما تذروه الرياح (6) وكان الله على كل شئ مقتدرا " لم يكن امرؤ منها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة (7)، ولم يلق في سرائها بطنا (8) إلا منحته من ضرائها ظهرا. ولم تطله فيها ديمة رخاء (9) إلا هتنت عليه مزنة بلاء. وحرى إذا أصبحت له منتصرة أن تمسي له متنكرة وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر منها جانب فأوبى (10). لا ينال امرؤ من غضارتها رغبا (11) إلا أرهقته من نوائبها تعبا (12).


(1) الحبرة بالفتح السرور والنعمة (2) حائلة: متغيرة (3) نافدة: فانية. بائدة أي هالكة (4) غوالة: مهلكة (5) أي أنها إذا وصلت بأهل الرغبة فيها إلى أمانيهم فلا تتجاوز الوصف الذي ذكره الله في قوله كماء الخ. فقوله أن تكون مفعول لتعدو (6) الهشيم: النبت اليابس المكسر (7) بالفتح: الدمعة قبل أن تفيض، أو تردد البكاء في الصدر، أو الحزن بلا بكاء (8) كنى بالبطن والظهر عن الاقبال والادبار (9) الطل: المطر الضعيف. وطلت السماء أمطرته. والديمة مطر يدوم في سكون لا رعد ولا برق معه. والرخاء السعة. وهتنت المزن: انصبت (10) أوبى صار كثير الوباء. والوباء: هو المعروف بالريح الاصفر (11) الغضارة النعمة والسعة. والرغب - بالتحريك - الرغبة والمرغوب (12) أرهقته التعب: الحقته به

[ 218 ]

ولا يمسي منها في جناح أمن إلا أصبح على قوادم خوف (1). غرارة غرور ما فيها، فانية فان من عليها. لا خير في شئ من أزوادها إلا التقوى. من أقل منها استكثر مما يؤمنه. ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه (2)، وزال عما قليل عنه. كم من واثق بها فجعته (3)، وذي طمأنينة إليها قد صرعته. وذي أبهة قد جعلته حقيرا (4) وذي نخوة قد ردته ذليلا (5). سلطانها دول (6)، وعيشها رنق (7)، وعذبها أجاج (8) وحلوها صبر (9)، وغذاؤها سمام (10)، وأسبابها رمام (11). حيها بعرض موت. وصحيحها بعرض سقم. ملكها مسلوب، وعزيزها مغلوب وموفورها منكوب (12). وجارها محروب (13). ألستم في مساكن من كان قبلكم أطول أعمارا، وأبقى آثارا وأبعد آمالا، وأعد عديدا، وأكثف جنودا. تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار.


(1) القوادم - جمع قادمة - الواحدة من أربع أو عشر ريشات في مقدم جناح الطائر، وهي القوادم (2) يهلكه (3) أوجعته بفقد ما يعز عليه (4) أبهة بضم فتشديد: عظمة (5) النخوة بالفتح: الافتخار (6) جمع دولة: هي انقلاب الزمان (7) رنق - بفتح فكسر - كدر (8) مالح شديد الملوحة (9) الصبر - ككتف - عصارة شجر مر (10) جمع رسم مثلث السين، وهو من المواد ما إذا حالط المزاج أفسده فقتل صاحبه (11) جمع رمة بالضم وهي القطعة البالية من الحبل، أي ما يتمسك به منها فهو بال منقطع (12) موفورها ما كثر منها مصاب بالنكبة، وهي المصيبة، أي في معرض لذلك (13) من حربه حربا = في نسخه: بضم العين وسكون الراء

[ 219 ]

ثم ظعنوا عنها بغير زاد مبلغ ولا ظهر قاطع (1) فهل بلغكم أن الدنيا سخت لهم نفسا بفدية (2)، أو أعانتهم بمعونة أو أحسنت لهم صحبة. بل أرهقتهم بالقوادح (3)، وأوهنتهم بالقوارع، وضعضعتهم بالنوائب (4) وعفرتهم للمناخر (5)، ووطئتهم بالمناسم (6)، وأعانت عليهم ريب المنون. فقد رأيتم تنكرها لمن دان لها (7)، وآثرها وأخلد لها (8)، حتى ظعنوا عنها لفراق الابد (9). وهل زودتهم إلا السغب (10)، أو أحلتهم إلا الضنك (11)، أو نورت لهم إلا الظلمة (12)، أو أعقبتهم إلا الندامة. أفهذه تؤثرون أم إليها تطمئنون؟ أم عليها تحرصون؟. فبئست الدار لمن لم يتهمها ولم يكن فيها على وجل منها فاعلموا - وأنتم تعلمون - بأنكم تاركوها وظاعنون عنها. واتعظوا فيها بالذين قالوا " من أشد منا قوة ". حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا (13)،


= بالتحريك إذا سلب ماله (1) ظهر قاطع: راحلة تركب لقطع الطريق (2) أي سخت نفسها لهم بفداء (3) أرهقتهم: غشيتهم بالقوادح بالقاف جمع قادح وهو أكال يقع في الشجر والاسنان، أي بما ينهكهم ويمزق أجسادهم. وفي نسخة الفوادح بالفاء من فدحه الامر إذا أثقله (4) ضعضعتهم: ذللتهم (5) كبتهم على مناخرهم في العفر وهو التراب (6) جمع منسم وهو مقدم خف البعير أو الخف نفسه (7) دان لها: خضع (8) ركن إليها (9) أي فراق مدته لا نهاية لها (10) السغب - محركة - الجوع (11) الضنك الضيق (12) أو نورت لهم الخ لم يكن لهم مما ظنوه نورا لها إلا الظلام (13) لا يقال لهم =

[ 220 ]

وأنزلوا الاجداث (1). فلا يدعون ضيفانا. وجعل لهم من الصفيح أجنان (2)، ومن التراب أكفان (3)، ومن الرفات جيران (4)، فهم جيرة لا يجيبون داعيا، ولا يمنعون ضيما، ولا يبالون مندبة. إن جيدوا لم يفرحوا (5)، وإن قحطوا لم يقنطوا. جميع وهم آحاد، وجيرة وهم أبعاد. متدانون لا يتزاورون (6)، وقريبون لا يتقاربون. حلماء قد ذهبت أضغانهم، وجهلاء قد ماتت أحقادهم. لا يخشى فجعهم (7)، ولا يرجى دفعهم استبدلوا بظهر الارض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالاهل غربة، وبالنور ظلمة. فجاءوها كما فارقوها (8)، حفاة عراة. قد ظعنوا عنها بأعمالهم إلى الحياة الدائمة والدار الباقية، كما قال سبحانه " كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين "


= ركبان جمع راكب لان الراكب من يكون مختارا وله التصرف في مركوبه (1) القبور (2) الصفيح: وجه كل شئ عريض، والمراد وجه الارض. والاجنان جمع جنن محركة وهو القبر (3) لان أكفانهم تبلى ولا يغشى أبدانهم سوى التراب (4) الرفات العظام المندقة المحطومة (5) جيدوا: مطروا (6) متقاربون لا يزور بعضهم بعضا (7) لا تخاف منهم أن يفجعوك بضرر (8) جاءوا إلى الارض واتصلوا بها بعد ما فارقوها وانفصلوا عنها في بدء خلقتهم، فانهم خلقوا منها كما قال تعالى " منها خلقناكم وفيها نعيدكم " وقوله قد ظعنوا عنها يشير إلى أنهم بعد الموت يذهبون بأرواحهم إما إلى نعيم وإما إلى شقاء، أو الظعن عنها هو البعث منها يوم القيامة ومفارقتها إما إلى الجنة وإما إلى النار كما يرشد إليه الاستشهاد بالآية

[ 221 ]

112 - ومن خطبة له عليه السلام ذكر فيها ملك الموت وتوفية النفس هل تحس به إذا دخل منزلا؟، أم هل تراه إذا توفى أحدا؟، بل كيف يتوفى الجنين في بطن أمه. أيلج عليه من بعض جوارحها (1)؟، أم الروح أجابته بإذن ربها؟ أم هو ساكن معه في أحشائها؟. كيف يصف إلهه من يعجز عن صفة مخلوق مثله 113 - ومن خطبة له عليه السلام وأحذركم الدنيا فإنها منزل قلعة (2)، وليست بدار نجعة (3). قد تزينت بغرورها، وغرت بزينتها. دار هانت على ربها، فخلط حلالها بحرامها وخيرها بشرها، وحياتها بموتها، وحلوها بمرها. لم يصفها الله تعالى لاوليائه، ولم يضن بها على أعدائه. خيرها زهيد، وشرها عتيد (4). وجمعها ينفد، وملكها يسلب، وعامرها يخرب. فما خير دار تنقض


(1) يلج: يدخل (2) القلعة كهمزة وطرفة ودجنة: من لا يثبت على السرج، أو من يزل قدمه عند الصراع، أي هي منزل من لا يستقر (3) النجعة بالضم طلب الكلا في موضعه، أي ليست محط الرحال ولا مبلغ الآمال (4) حاضر

[ 222 ]

نقض البناء، وعمر يفنى فناء الزاد، ومدة تنقطع انقطاع السير. اجعلوا ما افترض الله عليكم من طلبكم (1)، واسألوه من أداء حقه ما سألكم. وأسمعوا دعوة الموت آذانكم قبل أن يدعى بكم. إن الزاهدين في الدنيا تبكي قلوبهم وإن ضحكوا، ويشتد حزنهم وإن فرحوا، ويكثر مقتهم أنفسهم وإن اغتبطوا بما رزقوا (2). قد غاب عن قلوبكم ذكر الآجال، وحضرتكم كواذب الآمال. فصارت الدنيا أملك بكم من الآخرة، والعاجلة أذهب بكم من الآجلة، وإنما أنتم إخوان على دين الله ما فرق بينكم إلا خبث السرائر، وسوء الضمائر. فلا توازرون ولا تناصحون، ولا تباذلون ولا توادون. ما بالكم تفرحون باليسير من الدنيا تدركونه ولا يحزنكم الكثير من الآخرة تحرمونه. ويقلقكم اليسير من الدنيا يفوتكم حتى يتبين ذلك في وجوهكم وقلة صبركم عما زوي منها عنكم (3) كأنها دار مقامكم. وكأن متاعها باق عليكم. وما يمنع أحدكم


(1) مطلوبكم، أي اجعلوا الفرائض من مطالبكم التي تسعون لنيلها، واسألوا الله أن يمنحكم ما سألكم من أداء حقه، أي أن يمن عليكم بالتوفيق لاداء حقه (2) اغتبطوا: غبطهم غيرهم بما آتاهم الله من الرزق (3) قلة صبركم عطف على وجوهكم. وزوي من زواه إذا نحاه

[ 223 ]

أن يستقبل أخاه بما يخاف من عيبه إلا مخافة أن يستقبله بمثله. قد تصافيتم على رفض الآجل وحب العاجل، وصار دين أحدكم لعقة على لسانه (1). صنيع من قد فرغ من عمله وأحرز رضا سيده 114 - ومن خطبة له عليه السلام الحمد لله الواصل الحمد بالنعم والنعم بالشكر. نحمده على آلائه كما نحمده على بلائه. ونستعينه على هذه النفوس البطاء عما أمرت به (2)، السراع إلى ما نهيت عنه. ونستغفره مما أحاط به علمه وأحصاه كتابه: علم غير قاصر وكتاب غير مغادر (3). ونؤمن به إيمان من عاين الغيوب ووقف على الموعود، إيمانا نفى إخلاصه الشرك ويقينه الشك. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وآله شهادتين تصعدان القول وترفعان العمل. لا يخف ميزان توضعان فيه، ولا يثقل ميزان ترفعان عنه أوصيكم عباد الله بتقوى الله التي هي الزاد وبها المعاد: زاد


(1) عبر باللعقة عن الاقرار باللسان مع ركون القلب إلى مخالفته (2) البطاء بالكسر جمع بطيئة. والسراع جمع سريعة (3) غير تارك شيئا إلا أحاط به

[ 224 ]

مبلغ ومعاد منجح. دعا إليها أسمع داع واع (1). فأسمع داعيها وفاز واعيها عباد الله إن تقوى الله حمت أولياء الله محارمه (2). وألزمت قلوبهم مخافته، حتى أسهرت لياليهم، وأظمأت هواجرهم (3). فأخذوا الراحة بالنصب (4)، والري بالظمإ. واستقربوا الاجل فبادروا العمل، وكذبوا الامل فلاحظوا الاجل. ثم إن الدنيا دار فناء وعناء وغير وعبر فمن الفناء أن الدهر موتر قوسه (5)، لا تخطئ سهامه، ولا توسى جراحه (6). يرمي الحي بالموت، والصحيح بالسقم، والناجي بالعطب. آكل لا يشبع، وشارب لا ينقع (7). ومن العناء أن المرء يجمع ما لا يأكل ويبني ما لا يسكن. ثم يخرج إلى الله لا مالا حمل، ولا بناء نقل. ومن غيرها (8) أنك ترى المرحوم مغبوطا والمغبوط مرحوما ليس ذلك إلا نعيما زل (9)، وبؤسا نزل. ومن عبرها أن المرء يشرف على


(1) وعاها فهمها وحفظها (2) حمى الشئ منعه أي منعتهم ارتكاب محرماته (3) أظمأتها بالصيام (4) التعب (5) فمن أسباب الفناء كون الدهر قد أوتر قوسه ليرمي بها أبناءه (6) توسى تداوى من أسوت الجرح داويته (7) لا ينقع - كينفع - لا يشتفى من العطش بالشرب (8) غيرها بكسر ففتح تقلبها. والمرحوم الذي ترق له وترحمه لسوء حاله يصبح مغبوطا على ما تجدد له من نعمة (9) من زل فلان زليلا وزلولا إذا مر سريعا. والمراد انتقل. أو هو الفعل اللازم من أزل إليه نعمة أسداها

[ 225 ]

أمله فيقطعه حضور أجله. فلا أمل يدرك ولا مؤمل يترك، فسبحان الله ما أغر سرورها وأظمأ ريها وأضحى فيئها (1). لاجاء يرد (2)، ولا ماض يرتد. فسبحان الله ما أقرب الحي من الميت للحاقه به، وأبعد الميت من الحي لانقطاعه عنه إنه ليس شئ بشر من الشر إلا عقابه، وليس شئ بخير من الخير إلا ثوابه. وكل شئ من الدنيا سماعه أعظم من عيانه. وكل شئ من الآخرة عيانه أعظم من سماعه. فليكفكم من العيان السماع، ومن الغيب الخبر. واعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا. فكم من منقوص رابح ومزيد خاسر. إن الذي أمرتم به أوسع من الذي نهيتم عنه. وما أحل لكم أكثر مما حرم عليكم. فذروا ما قل لما كثر، وما ضاق لما اتسع. قد تكفل لكم بالرزق وأمرتم بالعمل، فلا يكونن المضمون لكم طلبه أولى (3) بكم من المفروض عليكم عمله، مع أنه والله لقد اعترض الشك ودخل اليقين (4)،


(1) أضحى كضحى كدعى: برز للشمس. والفئ الظل بعد الزوال أو مطلقا (2) الجائي يريد به الموت (3) طلبه مبتدأ خبره أولى وجملتهما خبر يكون (4) دخل - =

[ 226 ]

حتى كأن الذي ضمن لكم قد فرض عليكم، وكأن الذي قد فرض عليكم قد وضع عنكم. فبادروا العمل وخافوا بغتة الاجل، فإنه لا يرجى من رجعة العمر ما يرجى من رجعة الرزق (1). ما فات من الرزق رجي غدا زيادته. وما فات أمس من العمر لم يرج اليوم رجعته. الرجاء مع الجائي، واليأس مع الماضي. فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون 115 - (ومن خطبة له عليه السلام) في الاستسقاء اللهم قد انصاحت جبالنا (2)، واغبرت أرضنا، وهامت دوابنا. وتحيرت في مرابضها، وعجت عجيج الثكالى على أولادها، وملت التردد في مراتعها، والحنين إلى مواردها. اللهم فارحم أنين الآنة، وحنين الحانة. اللهم فارحم حيرتها في مذاهبها، وأنينها في موالجها (3).


= كفرح - خالطه فساد الاوهام (1) الذي يفوت من العمر لا يرجى رجوعه بخلاف الذي يفوت من الرزق فإنه يمكن تعويضه (2) انصاحت جفت أعالي بقولها ويبست من الجدب. وليس من المناسب تفسير انصاحت بانشقت إلا أن يراد المبالغة في الحرارة التي اشتدت لتأخر المطر حتى اتقد باطن الارض نارا وتنفست في الجبال فانشقت. وتفسير بقية الالفاظ يأتي في آخر الدعاء لصاحب الكتاب (3) مداخلها في =

[ 227 ]

اللهم خرجنا إليك حين اعتكرت علينا حدابير السنين، وأخلفتنا مخائل الجود (1). فكنت الرجاء للمبتئس (2)، والبلاغ للملتمس. ندعوك حين قنط الانام، ومنع الغمام، وهلك السوام (3)، أن لا تؤاخذنا بأعمالنا، ولا تأخذنا بذنوبنا. وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق (4)، والربيع المغدق (5)، والنبات المونق (6). سحا وابلا (7) تحيي به ما قد مات، وترد به ما قد فات. اللهم سقيا منك محيية مروية، تامة عامة، طيبة مباركة، هنيئة مريعة (8). زاكيا نبتها (9)، ثامرا فرعها، ناظرا ورقها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيي بها الميت من بلادك. اللهم سقيا منك تعشب بها نجادنا (10)، وتجري بها وهادنا، ويخصب بها جنابنا (11)، وتقبل بها ثمارنا، وتعيش بها مواشينا، وتندى بها أقاصينا (12)،


= المرابض (1) مخايل جمع مخيلة - كمصيبة - هي السحابة تظهر كأنها ماطرة ثم لا تمطر. والجود بالفتح: المطر (2) الذي مسته البأساء والضراء. والبلاغ الكفاية (3) جمع سائمة البهيمة الراعية من الابل ونحوها (4) انبعق المزن انفرج عن المطر كأنما هو حي انشقت بطنه فنزل ما فيها (5) أغدق المطر كثر ماؤه (6) من آنقني إذا أعجبني. أو من آنقه إذا سره وأفرحه (7) سحا: صبا. والوابل الشديد من المطر الضخم القطر (8) المريعة بفتح الميم: الخصيئة (9) زاكيا ناميا. وثامرا مثمرا آتيا بالثمر (10) جمع نجد ما ارتفع من الارض. والوهاد جمع وهدة ما انخفض منها (11) الجناب الناحية (12) القاصية الناحية أيضا، أو هي بمعنى البعيدة عنا من أطراف بلادنا في =

[ 228 ]

وتستعين بها ضواحينا (1). من بركاتك الواسعة، وعطاياك الجزيلة على بريتك المرملة (2)، ووحشك المهملة. وأنزل علينا سماء مخضلة (3) مدرارا هاطلة. يدافع الودق منها الودق (4)، ويحفز القطر منها القطر (5) غير خلب برقها (6)، ولا جهام عارضها (7)، ولا قزع ربابها (8)، ولا شفان ذهابها (9)، حتى يخصب لامراعها المجدبون، ويحيى ببركتها المسنتون (10)، فإنك تنزل الغيث من بعد ما قنطوا، وتنشر رحمتك وأنت الولي الحميد تفسير ما في هذه الخطبة من الغريب قوله عليه السلام: (انصاحت جبالنا) أي تشققت من المحول، يقال: انصاح الثوب إذا انشق. ويقال أيضا: انصاح النبت وصاح وصوح إذ جف ويبس. وقوله: (وهامت دوابنا) أي عطشت، والهيام العطش. وقوله: (حدابير السنين) - جمع حدبار - وهي


= مقابلة جنابنا (1) ضاحية المال التي تشرب ضحى. والضواحي جمعها (2) بصيغة الفاعل: الفقيرة (3) مخضلة من أخضله إذا بله (4) الودق المطر (5) يحفز: يدفع (6) البرق الخلب ما يطمعك في المطر ولا مطر معه (7) الجهام بالفتح السحاب الذي لا مطر فيه. والعارض ما يعرض في الافق من السحاب (8) الرباب السحاب الابيض (9) جمع ذهبة بكسر الذال المطرة القليلة وهو المراد باللينة في تفسير صاحب الكتاب (10) المقحطون

[ 229 ]

الناقة التي أنضاها السير، فشبه بها السنة التي فشا فيها الجدب، قال ذو الرمة: - حدابيرما تنفك إلا مناخة * على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا وقوله: (ولا قزع ربابها) القزع القطع الصغار المتفرقة من السحاب. وقوله: (ولا شفان ذهابها) فإن تقديره ولا ذات شفان ذهابها. والشفان الريح الباردة، والذهاب الامطار اللينة. فحذف ذات لعلم السامع به 116 - ومن خطبة له عليه السلام أرسله داعيا إلى الحق وشاهدا على الخلق. فبلغ رسالات ربه غير وان ولا مقصر (1)، وجاهد في الله أعداءه غير واهن ولا معذر (2). إمام من اتقى، وبصر من اهتدى (منها) لو تعلمون ما أعلم مما طوي عنكم غيبه، إذا لخرجتم إلى الصعدات (3) تبكون على أعمالكم، وتلتدمون على أنفسكم (4). ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا


(1) وان: متباطئ متثاقل (2) واهن ضعيف. والمعذر من يعتذر ولا يثبت له عذر (3) الصعدات بضمتين جمع صعيد بمعنى الطريق، أي لتركتم منازلكم وهمتم في الطرق من شدة الخوف (4) الالتدام ضرب النساء صدورهن أو وجوههن =

[ 230 ]

خالف عليها (1)، ولهمت كل أمرئ نفسه (2) لا يلتفت إلى غيرها. ولكنكم نسيتم ما ذكرتم، وأمنتم ما حذرتم، فتاه عنكم رأيكم، وتشتت عليكم أمركم. ولوددت أن الله فرق بيني وبينكم وألحقني بمن هو أحق بي منكم. قوم والله ميامين الرأي (3)، مراجيح الحلم، مقاويل بالحق، متاريك للبغي. مضوا قدما (4)، على الطريقة وأوجفوا على المحجة (5)، فظهروا بالعقبى الدائمة والكرامة الباردة (6). أما والله ليسلطن عليكم غلام ثقيف الذيال الميال (7). يأكل خضرتكم ويذيب شحمتكم إيه أبا وذحة. (أقول: الوذحة الخنفساء. وهذا القول يومئ به إلى الحجاج، وله مع الوذحة حديث (8) ليس هذا موضع ذكره)


= للنياحة (1) الخالف من تتركه في أهلك ومالك إذا خرجت لسفر أو حرب (2) همته: حزنته وشغلته (3) ميامين - جمع ميمون - المبارك. ومراجيح أي حلماء، من رجح إذا ثقل ومال بغيره. والمراد الرزانة أي رزناء الحلم بكسر الحاء وهو العقل. ومقاويل - جمع مقوال - من يحسن القول. ومتاريك - جمع متراك - المبالغ في الترك (4) القدم بضمتين المضي أمام، أي سابقين (5) الوجيف ضرب من سير الخيل والابل. وأوجف خيله سيرها بهذا النوع، أي اسرعوا على الطريق المستقيمة (6) من قولهم عيش بارد أي هني ء (7) الذيال الطويل القد الطويل الذيل المتبختر في مشيته (8) قالوا ان الحجاج رأى خنفساءا تدب إلى مصلاه فطردها فعادت ثم طردها فعادت فأخذها بيده فلسعته فورمت يده وأخذته حمى من اللسعة فأهلكته، قتله الله بأضعف مخلوقانه وأهونها

[ 231 ]

117 - (ومن كلام له عليه السلام) فلا أموال بذلتموها للذي رزقها، ولا أنفس خاطرتم بها للذي خلقها. تكرمون بالله على عباده (1)، ولا تكرمون الله في عباده. فاعتبروا بنزولكم منازل من كان قبلكم، وانقطاعكم عن أوصل إخوانكم 118 - ومن كلام له عليه السلام أنتم الانصار على الحق، والاخوان في الدين، والجنن يوم البأس (2)، والبطانة دون الناس (3). بكم أضرب المدبر، وأرجو طاعة المقبل. فأعينوني بمناصحة خلية من الغش سليمة من الريب. فوالله إني لاولى الناس بالناس 119 - ومن كلام له عليه السلام وقد جمع الناس وحضهم على الجهاد فسكتوا مليا (4) فقال عليه السلام: ما بالكم أمخرسون أنتم؟ (فقال قوم منهم: يا أمير


(1) كرم الشئ - كحسن يحسن - أي عز ونفس، أي أنكم تصيرون اعزاء بنسبتكم للايمان بالله ثم لا تبجلون الله ولا تعظمونه بالاحسان إلى عباده (2) الجنن - بضم ففتح - جمع جنة بالضم وهي الوقاية. والبأس الشدة (3) بطانة الرجل خواصه وأصحاب سره (4) قال بعضهم إن أمير المؤمنين قال هذا الكلام عند ما كان يغير أهل الشام على =

[ 232 ]

المؤمنين إن سرت سرنا معك، فقال عليه السلام: ما بالكم: لا سددتم لرشد (1)، ولا هديتم لقصد، أفي مثل هذا ينبغي لي أن أخرج؟ إنما يخرج في مثل هذا رجل ممن أرضاه من شجعانكم وذوي بأسكم، ولا ينبغي لي أن أدع الجند والمصر وبيت المال وجباية الارض والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين، ثم أخرج في كتيبة أتبع أخرى أتقلقل تقلقل القدح في الجفير الفارغ (2)، وإنما أنا قطب الرحى تدور علي وأنا بمكاني، فإذا فارقته استحار (3) مدارها واضطرب ثفالها (4) هذا لعمر الله الرأي السوء. والله لولا رجائي الشهادة عند لقائي العدو - لو قد حم لي لقاؤه - (5) لقربت ركابي (6)، ثم شخصت عنكم فلا أطلبكم ما اختلف جنوب وشمال. إنه لا غناء في كثرة عددكم (7) مع قلة اجتماع قلوبكم. لقد حملتكم على الطريق الواضح التي لا


= أطراف أعماله بعد واقعة صفين (1) سدده: وفقه للسداد (2) القدح بالكسر السهم قبل أن يراش وينصل. والجفير الكنانة توضع فيها السهام. وإنما خص القدح لانه يكون أشد قلقلة من السهم المراش حيث أن حد الريش قد يمنعه من القلقلة أو يخففها (3) استحار: تردد واضطرب (4) الثفال كغراب وكتاب: الحجر الاسفل من الرحى وككتاب ما وقيت به الرحى من الارض (5) حم: قدر (6) حزمت إبلي وأحضرتها للركوب. وشخصت أي بعدت عنكم وتخليت عن أمر الخلافة (7) الغناء - بالفتح والمد - النفع

[ 233 ]

يهلك عليها إلا هالك (1)، من استقام فإلى الجنة ومن زل فإلى النار 120 - (ومن كلام له عليه السلام) تالله لقد علمت تبليغ الرسالات، وإتمام العدات (2)، وتمام الكلمات. وعندنا أهل البيت أبواب الحكم وضياء الامر. ألا وإن شرائع الدين واحدة، وسبله قاصدة (3). من أخذ بها لحق وغنم، ومن وقف عنها ضل وندم. اعملوا ليوم تذخر له الذخائر، وتبلى فيه السرائر. ومن لا ينفعه حاضر لبه فعازبه عنه أعجز (4)، وغائبه أعوز (5). واتقوا نارا حرها شديد، وقعرها بعيد، وحليتها حديد، وشرابها صديد (6). ألا وإن اللسان الصالح يجعله الله للمرء في الناس خير له من المال يورثه من لا يحمده (7) 121 - (ومن كلام له عليه السلام) وقد قام إليه رجل من أصحابه فقال: نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا


(1) الذي حتم هلاكه لتمكن الفساد من طبعه وجبلته (2) جمع عدة بمعنى الوعد (3) مستقيمة (4) عازبه: غائبه، أي من لم ينتفع بعقله الموهب له الحاضر في نفسه فأولى به أن لا ينتفع بعقل غيره الذي هو غائب عن نفسه. أي ليس من صفاتها بل من صفات الغير (5) عوز الشئ كفرح: أي لم يوجد (6) الصديد ماء الجرح الرقيق والحميم (7) اللسان الصالح: الذكر الحسن

[ 234 ]

بها فما ندري أي الامرين أرشد؟ فصفق عليه السلام إحدى يديه على الاخرى ثم قال: هذا جزاء من ترك العقدة (1). أما والله لو أني حين أمرتكم بما أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيرا، فإن استقمتم هديتكم، وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقى، ولكن بمن وإلى من؟. أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي، كناقش الشوكة بالشوكة وهو يعلم أن ضلعها معها (2). اللهم قد ملت أطباء هذا الداء الدوي (3)، وكلت النزعة بأشطان الركي (4). أين القوم الذين دعوا إلى الاسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فأحكموه. وهيجوا إلى القتال فولهوا وله اللقاح إلى أولادها (5)، وسلبوا السيوف أغمادها. وأخذوا بأطراف الارض زحفا زحفا وصفا صفا. بعض هلك وبعض نجا. لا يبشرون بالاحياء (6)، ولا


(1) ما حصل عليه التعاقد من حرب الخارجين عن البيعة حتى يكون الظفر أو الهزيمة (2) الضلع بتسكين اللام الميل. وأصل المثل " لا تنقش الشوكة بالشوكة فإن ضلعها معها " يضرب للرجل يخاصم آخر ويستعين عليه بمن هو من قرابته أو أهل مشربه. ونقش الشوكة إخراجها من العضو تدخل فيه (3) الدوي بفتح فكسر: المؤلم (4) كلت: ضعفت. والنزعة جمع نازع. والاشطان جمع شطن وهو الحبل. والركي جمع ركية وهي البئر، أي ضعفت قوة النازعين لمياه المعونة من آبار هذه الهمم الغائضة الغائرة (5) اللقاح جمع لقوح وهي الناقة. وولهها إلى أولادها فزعها إليها إذا فارقتها. (6) إذا قيل لهم نجا فلان فبقي حيا لا يفرحون لان أفضل الحياة عندهم الموت في سبيل الحق. ولا يحزنون إذا قيل لهم مات فلان فإن الموت عندهم حياة السعادة الابدية.

[ 235 ]

يعزون عن الموتى. مره العيون من البكاء (1). خمص البطون (2) من الصيام. ذبل الشفاه من الدعاء (3). صفر الالوان من السهر. على وجوههم غبرة الخاشعين. أولئك إخواني الذاهبون. فحق لنا أن نظمأ إليهم ونعض الايدي على فراقهم. إن الشيطان يسني لكم طرقه (4)، ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة، ويعطيكم بالجماعة الفرقة (5). فاصدفوا عن نزغاته ونفثاته (6). واقبلوا النصيحة ممن أهداها إليكم، واعقلوها على أنفسكم (7). 122 - ومن كلام له عليه السلام قاله للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم وهم مقيمون على إنكار الحكومة، فقال عليه السلام: أكلكم شهد معنا صفين؟ فقالوا: منا من شهد ومنا من لم يشهد. قال: فامتازوا فرقتين، فليكن من شهد صفين فرقة، ومن لم يشهدها فرقة حتى أكلم كلا بكلامه. ونادى الناس فقال: أمسكوا عن الكلام وانصتوا لقولي، وأقبلوا بأفئدتكم إلي، فمن نشدناه شهادة فليقل بعلمه فيها. ثم كلمهم عليه السلام بكلام طويل (منه):


(1) مره بضم فسكون جمع أمره من مرهت عينه إذا فسدت أو أبيضت حماليقها (2) خمص البطون ضوامرها (3) ذبلت شفته جفت ويبست لذهاب الريق (4) يسني يسهل (5) يعطيكم الفرقة بدل الجماعة كأنه يبيعهم الثانية بالاولى (6) فاصدفوا، أي فاعرضوا عن وساوسه (7) اعقلوها: احبسوها على أنفسهم لا تتركوها فتضيع منكم فتخسرون.

[ 236 ]

ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة، ومكرا وخديعة: إخواننا وأهل دعوتنا، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم. فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان، وأوله رحمة وآخره ندامة. فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم، وعضوا على الجهاد بنواجذكم. ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق: إن أجيب أضل، وإن ترك ذل. وقد كانت هذه الفعلة، وقد رأيتكم أعطيتموها (1)، والله لئن أبيتها ما وجبت علي فريضتها،


(1) مره بضم فسكون جمع أمره من مرهت عينه إذا فسدت أو أبيضت حماليقها (2) خمص البطون ضوامرها (3) ذبلت شفته جفت ويبست لذهاب الريق (4) يسني يسهل (5) يعطيكم الفرقة بدل الجماعة كأنه يبيعهم الثانية بالاولى (6) فاصدفوا، أي فاعرضوا عن وساوسه (7) اعقلوها: احبسوها على أنفسهم لا تتركوها فتضيع منكم فتخسرون.

[ 236 ]

ألم تقولوا عند رفعهم المصاحف حيلة وغيلة، ومكرا وخديعة: إخواننا وأهل دعوتنا، استقالونا واستراحوا إلى كتاب الله سبحانه، فالرأي القبول منهم والتنفيس عنهم. فقلت لكم: هذا أمر ظاهره إيمان وباطنه عدوان، وأوله رحمة وآخره ندامة. فأقيموا على شأنكم، والزموا طريقتكم، وعضوا على الجهاد بنواجذكم. ولا تلتفتوا إلى ناعق نعق: إن أجيب أضل، وإن ترك ذل. وقد كانت هذه الفعلة، وقد رأيتكم أعطيتموها (1)، والله لئن أبيتها ما وجبت علي فريضتها، ولا حملني الله ذنبها. ووالله إن جئتها إني للمحق الذي يتبع. وإن الكتاب لمعي. ما فارقته مذ صحبته. فلقد كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وإن القتل ليدور على الآباء والابناء والاخوان والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيمانا، ومضيا على الحق، وتسليما للامر، وصبرا على مضض الجراح. ولكنا إنما أصبحنا نقاتل إخواننا في الاسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل. فإذا طمعنا في خصلة (2) يلم الله بها شعثنا ونتدانى بها إلى البقية فيما بيننا رغبنا فيها وأمسكنا عما سواها.


(1) أنتم الذين اعطيتم لها صورتها هذه التي صارت عليها برأيكم (2) المراد من الخصلة بالفتح هنا الوسيلة. ولم شعثه: جمع أمره. ونتدانى: نتقارب إلى ما بقي بيننا من علائق الارتباط.

مكتبة يعسوب الدين عليه السلام الإلكترونية